الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى اللَّه على محمد وآله وسلم تسليمًا
(كِتَابُ الصِّيَامِ
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّوْم الْمَفْرُوضِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَنْوَاعُ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ])
قصده بكتاب الصِّيام؛ أي: الكتاب الذي تُذْكر فيه أحكام الصيام، فهنا أُضيف الكتاب إلى الصيام؛ أي: هذا كتاب تُذْكر فيه أحكام الصيام.
* قوله: (وَهَذَا الكِتَابُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي الصَّوْمِ الوَاجِبِ، وَالآخَرُ: فِي المَنْدُوبِ إِلَيْهِ).
هَذِهِ كلها مقدماتٌ نطرقها إلى أن نَصِلَ إلى بيت القصيد الذي نبدأ منه.
* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي الصَّوْمِ الوَاجِبِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي الصَّوْمِ، وَالآخَرُ فِي الفِطْرِ).
وَسَيأتِي المُؤلِّف إليه بعد ذلك تفصيلًا.
* قوله: (أَمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ وَهُوَ الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى جُمْلَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: مَعْرِفَةُ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ الوَاجِبِ، وَالأُخْرَى: مَعْرِفَةُ أَرْكَانِهِ، وَأَمَّا القِسْمُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ النَّظَرَ فِي الفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَعْرِفَةِ المُفْطِرَاتِ، وإلَى مَعْرِفَةِ المُفْطِرِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، فَلْنَبْدَأْ بِالقِسْمِ الأَوَّلِ مِنْ هَذَا الكِتَابِ).
فَهُنَاك مُفْطراتٌ مُجْمَعٌ عَليها؛ كالأَكْل، والشُّرب، وكذلك مَا يَحْصل من جِمَاعٍ، وهذا في النهار؛ لأنَّ الصيامَ يبدأ من طلوع الفجر الصَّادق إلى مغيب الشمس، يعني: إلى غُرُوبها، وهناك مُفْطراتٌ مُختلفٌ فيها، كالحُقَن التي وجدت، وهذه الحُقَن أيضًا سبق أن تكلَّم عنها العلماء؛ لأنها معروفةٌ منذ زَمَنٍ طويلٍ، كَذَلك القطرة التي يَضعُهَا الإنسان في عينيه، أو ربما ما وضع في إحليله، وغير ذلك، هذه كلُّها سنتعرَّض لها؛ لأن الحاجة تَسْتدعي ذلك.
* قوله: (وَبِالجُمْلَةِ الأُولَى مِنْهُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، فَنَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ. وَالوَاجِبُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهُ مَا يجِبُ لِلزَّمَان نَفْسِهِ، وَهوَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ).
صَوْم رمضَان -كَمَا هو مَعْلومٌ- إنما يَجب من شهر رمضان، فلو قُدر أن إنسانًا نذر أن يصوم الشهر الذي يَقدم فيه ابنه، أو الذي يشفي فيه اللَّه والدته أو والده، فيُصَادف شهر رمضان، فإنه يَصُوم فيه الصيام الواجب الذي هو ركنٌ، أمَّا النذر فإما أن يؤجله، أو يسقط عنه، المسألة فيها كلامٌ؛ لأنَّ رمضان ظرفٌ ضيق غير موسعٍ، ليس مثل الصلاة، أوقاتها موسعة، فأنت تؤدي فيها الفرض، قَدْ تؤديه في أول الوقت أو وسطه أو في آخره، ولا تكون آثمًا في شيءٍ من
ذلك، لكن الخلاف: ما هو الأفضل؟ أهو أول وقت الصلاة أو آخره
(1)
؟
لا شك أن الأفضل هو أداء الصلاة على وقتها كما جاء في الحديث: سُئِلَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة في أول وقتها"
(2)
، عدا وقت اشتداد الحر، فإن العلماء نبهوا على أنه ينبغي تأخيرها إلى وقت الإبرادح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أَبْردوا للصَّلاة، فإنَّ شدَّة الحرِّ من فَيْح جهنَّم"
(3)
، وكذلك الحال بالنِّسبة لصلاة العشاء، فَمن العُلَماء من يستحبُّ تأخيرها، وقد حَصَل ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(4)
، وقد مَضى الكلام في ذلك تفصيلًا.
إذًا، شهر رمضان ظرفٌ ضيق، أما أوقات الصلاة فهي موسعة؛ ولذلك رمضان يؤدَّى في وقته، فلا يُصام معه غيره، وهذا أمرٌ متعذرٌ.
* قوله: (وَمِنْهُ مَا يَجِبُ لِعِلَّةٍ، وَهُوَ صِيَامُ الكَفَّارَاتِ).
(1)
الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 367) حيث قال: "إن أداء الصلاة في أول الوقت أفضل إلا إذا تضمَّن التأخير فضيلةٍ لا تحصل بدونه كتكثير الجماعة".
والمالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (2/ 38) حيث قال: "جمهور العلماء في الصلوات كلها أن المبادر لأدائها أفضل من المتأني لقوله سبحانه: {سَابِقُوا}، {وَسَارِعُوا}، ولحديث: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها". وانظر: "البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (1/ 399).
والشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(1/ 305) حيث قال: "والأفضل أن يصليها أول وقتها كما قال: (ويسن تعجيل الصلاة لأول الوقت) إذا تيقنه ولو عشاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في جواب: أي الأعمال أفضل: "الصلاة في أول وقتها".
والحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهي" للبهوتي (1/ 261) حيث قال: "وفضيلة أول الوقت أفضل من انتظار كثرة الجمع، وتقدم الجماعة مطلقًا على أول الوقت".
(2)
أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3259) من حديث أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (569)، ومسلم (638) من حديث عائشة رضي الله عنها.
"مَا يَجب لعِلَّةٍ"، كما لو ظَاهَر إنسانٌ، أو جَامعَ في نهار رمضان، فَهَذا شيءٌ وَجَبَ على الإنسان لعِلَّةٍ.
* قوله: (وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِإِيجَابِ الإِنْسَان ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ صِيَامُ النَّذْرِ).
وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن النذر قال: "مَنْ نذرَ أن يُطيعَ اللَّهَ فليُطِعْهُ، ومَنْ نَذرَ أن يَعْصي اللَّه فلَا يَعْصه"
(1)
، فلو أنَّ إنسانًا نذرَ للَّه أنه إن شفَى اللَّه مريضه، فإنه سيصوم شهرًا أو أسبوعًا، أو يُصلي عددًا من الصلوات، أو يذهب لحج التطوع، أو يُصلِّي في بيت اللَّه الحرام، هذا أمرٌ مطلوبٌ، وينبغي للإنسان أن يُوفِّي فيه، فقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7].
إذًا، الوفاء بالنذر مطلوب، لكن لو أن إنسانًا نذر أن يعصي اللَّه، نذر أن يسافر ليسرقَ، أو يحدد وقتًا ليسرق فيه، فلا يجوز أن ينفذ ذلك، ولا كفارة عليه أيضًا في ذلك؛ لأنه "من نذر أن يُطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه"؛ لأن النذرَ في طاعة اللَّه قربةٌ، والنذر في معصية اللَّه معصيةٌ للَّه سبحانه وتعالى، وشتان بين الأمرين.
* قوله: (وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ هَذَا الكِتَابُ).
لا يقصد "البداية"، وإنما يقصد كتاب الصيام.
* قوله: (القَوْلَ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الوَاجِبَاتِ هُوَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَطْ).
أَفْرَدَ المؤلفُ في هذا الكتاب صوم رمضان فقط؛ لأن النذرَ له بابٌ
(1)
أخرجه البخاري (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها.
يخصُّه في الفقه، فهناك أبواب أو أحكام النذور، وكذلك بالنسبة للكفارة أيضًا لها كتابٌ يخصُّها، وسيأتي الكلام عنها -إِنْ شَاءَ اللَّه- مُفردًا.
* قوله: (وَأَمَّا صَوْمُ الكَفَّارَاتِ، فَيُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ المَوَاضِعِ الَّتِي تَجِبُ مِنْهَا الكَفَّارَةُ، وَكذَلِكَ صَوْمُ النَّذْرِ، وَيُذْكَرُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ)؛ لأنَّ بعضَ العلماء يُفْرده بِبَابٍ مستقلٍّ، وبعضهم يدخله مع الأيمان، فيقولون: كتاب الأيمان والنذور، وهذا كله -إن شاء اللَّه- سيأتي.
* قوله: (فَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ).
هُناك كلامٌ لبعض العلماء حول: هل يقال: "جاء رمضان" أو "جاء شهر رمضان"؟
بَعْضهم يَكْره أن يُقَال: جاء رمضان، وإنما يُقَال: جاء شهر رمضان، وقَدْ جاء في ذلك حديثٌ فيه كلامٌ، لا تقولوا: جاء رمضان؛ لأن رمضان اسمٌ من أسماء اللَّه سبحانه وتعالى
(1)
، لكن بعد التحقيق تبيَّن أن ذلك غير ممنوعٍ؛ لأنه جاء في الحايث المتفق عليه:"إذا جاء رمضان، فُتحت أبوابَ الجنة"
(2)
، لكن ابتعادًا عن الشُّبَه يُقال: جاء شهر رمضان.
* قوله: (فَهُوَ وَاجِبٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ).
إذن، الآن أول ما نبدأ به الكلام عن حُكْم صيام رمضان، لا شكَّ أن الأمرَ في ذلك واضحٌ وجليٌّ، لكن جَرَت العادة أنه يُبيَّن مثل ذلك في المُصنَّفات.
(1)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 370) حيث قال: "ما رَوَاه محمد عن مجاهد ولم يحك خلافه أنه كره أن يُقَال: جاء رمضان وذهب رمضان؛ لأنه اسم من أسمائه تعالى، وعامة المشايخ أنه لا يُكْره لمجيئه في الأحاديث".
(2)
أخرجه البخاري (1898)، ومسلم (1079) من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه.
فَكَما ذَكرَ المؤلف أنَّ صيام رمضان واجبٌ بالكتاب والسُّنة والإجماع، وهذه الأدلة الثلاثة التي نُقلت نقلًا تُسمَّى بالأدلة المنقولة، إذًا صيام شهر رمضان وَاجبٌ بالكتَاب وَالسُّنة والإجمَاع، بل هو ركنٌ من أَرْكَان الإسلام.
أما الكتاب، فقَوْل اللَّه سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
والكَتْب إنما هو الإيجاب، وهذا قد تكرر في آياتٍ كثيرةٍ من كتاب اللَّه، كقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]. إلى آخر الآية التي في سورة المائدة.
والأمثلَةُ على ذلك كثيرةٌ جدًّا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178].
إذًا، هُنَا الآيَة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
ثم جاء بعد ذلك مباشرةً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
إِذَنْ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، فقَدْ دل الكتاب على أن صيام رمضان واجبٌ.
كذلك دلَّت سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كَثيرَةٍ على وجوب الصيام؛ أي: صيام رمضان، ومنه ذَلكَ الحَديث المُتَّفق عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"بُنِيَ الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان"
(1)
، إذًا الصِّيام ركن من هذه الأركان الخمسة، لا يَتمُّ الإسلام بدُونِهَا.
كَذَلكَ جَاءَ في قصَّة الأعرابيِّ الذي جَاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أخبرني ماذا فرض اللَّه عليَّ من الصيام؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "شهر رمضان". قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلا أن تَطَّوَّع"، وسأله عن أشياء أُخرى كما مرَّ.
* قوله: ("ماذا فَرضَ اللَّه عَليَّ من الصيام؟ قال: "شهر رمضان")
(2)
. والأَحَاديثُ في ذلك كثيرةٌ جدًّا سنمرُّ بها -إن شاء اللَّه- أثناء دراستنا للمسائل.
وأَجْمَعَ العلماء دون أيِّ خلافٍ على أن صيام شهر رمضان ركنٌ من أركان الإسلام
(3)
. . هذا فيما يتعلَّق بوجوبه، إذًا شهر رمضان واجبٌ وركنٌ من أركان الإسلام.
* قوله: (أَمَّا الكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
(1)
أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) من حديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 226) حيث قال: "ولا خِلَافَ بين العلماء في أن صيام شهر رمضان واجب"، وانظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 104)، و"المجموع" للنووي (6/ 252).
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ"، وَذَكَرَ فِيهَا الصَّوْمَ. وَقَوْلِهِ لِلأَعْرَابِيِّ:"وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَكَان فَرْضُ الصَّوْمِ لِشَهْرِ رَمضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ).
وهذا الأعرابيُّ مرَّ بنا ذكره في أحكام الصلاة، وفي الزكاة؛ لأنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَاذا فَرَض اللَّه عليَّ من الصيام؟ قال له صلى الله عليه وسلم: "شهر رمضان"، قال الأعرابيُّ: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلا أن تَطَّوَّع"، فلما انصرف الرجل عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أفلحَ إِنْ صَدَق"
(1)
، يعني: إن التزم الرجل بما أنه لا يزيد، ولا ينقص، فإنه وَفَّى، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان لا يتقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى بالسُّنن والنوافل، بل هذا أمرٌ مرغبٌ فيه.
* قوله: (وَأَمَّا الإِجْمَاعُ
(2)
: فَاِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا خِلَافٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ).
والمُؤلِّف تكلَّم عن الصيام، لكنه لم يُعرِّفه، وينبغي علينا أن نعرف ما معنى الصيام في اللُّغة والشرع؟
الصِّيام في اللُّغة: هُوَ الإمساكُ، ومعناه اللُّغوي له اتصالٌ بالمعنى الشرعي، فالصيام في اللُّغة إنما هو الإمساك، هذا هو معناه العام؛ ولذلك يَقُولُ اللَّه سبحانه وتعالى حكايةً عن مريم عليها السلام:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]؛ أي: نذرت للرحمن صمتًا عن الكلام، فُسِّر بقوله:{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تقدَّم ذكره.
ومن ذلك قول النابغة الذبياني أيضًا
(1)
:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ
…
تحت العجاج وأُخرى تعلك اللُّجُما
"خَيل صيامٌ": يعني خيلٌ ممسكةٌ عن الصهيل، و"خيلٌ غير صائمةٍ"، أي: أصواتها مرتفعة؛ لأنَّ أصوات الخيل إنما يُعْرف بالصهيل.
ثمَّ قَالَ: "تحت العجاج"، يَعْني: أنَّ هَذِهِ الخيلَ من أَجل الأُمور التي كانت تُسْتخدَم في الحُرُوب، وإذا قامت الحرب صار "العجاج" أي: الغبار، تحت العجاج "وأُخرى"؛ أي: أُخرى من هذه الخيل، "تعلك"، يعني: تمضغ (اللُّجُما)؛ أي: اللجام الذي يُوضَع في فمها أي: تُلجَم به.
إذن، نَتبيَّن من هذا أن الصِّيامَ في اللُّغة إنما هو الإمساك، هَذَا هو معناه، يُقَال: فلانٌ صائمٌ عن الكلام، يعني: ممسكٌ عنه.
وَأمَّا في المصطلح الشرعي: فهو إمساكٌ مخصوصٌ في وقتٍ مخصوصٍ عن شيءٍ مخصوصٍ، فالإنسان يُمْسك في شهر رمضان من طلوع الفجر الصادق إلى غُرُوب الشمس، ويُمْسك عن أشياء مخصوصة، إذًا هذا هو معنى الصيام
(2)
، هذه الأشياء المخصوصة هي التي ستتبين لنا أثناء الحديث عن مسائل هذا الكتاب.
* قوله: (وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ وُجُوبًا غَيْرَ مُخَيِّرٍ، فَهُوَ البَالِغُ العَاقِلُ الحَاضِرُ الصَّحِيحُ)
(3)
.
"وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ وُجُوبًا غَيْرَ مُخَيِّرٍ"، يعني: وجوبًا لازمًا.
(1)
البيت من البسيط للنابغة الذبياني، وهو في "ديوانه"(ص 115).
(2)
يُنظر: "التنبيهات المستنبطة" للقاضي عياض (1/ 300) حيث قال: "إمساك مخصوص عن أفعال مخصوصة في أوقات مخصوصة".
(3)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 39) حيث قال: "اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ".
"وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ وُجُوبًا غَيْرَ مُخَيِّرٍ: فَهُوَ البَالِغُ العَاقِلُ الحَاضِرُ الصَّحِيحُ": "البَالِغُ العَاقِلُ الحَاضِرُ الصَّحِيحُ"، وأيضًا قَبْله الإسلَام؛ لأنَّ الصيامَ تكليفٌ، والكافرُ غير مُكلَّفٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعالَى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]، فأعمالُهُم مردودةٌ.
إذًا، الصيام يجب على كل مسلم، وأن يكون هذا المسلم بالغًا عاقلًا؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"رُفِعَ القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"
(1)
، فهؤلاء (المجنون والصغير) غير مُكلَّفين
(2)
، فلو قلنا بإيجاب الصيام عليهما، لقلنا بوضع القلم عليهما، وهذا خلاف ما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن القلم قد رُفِعَ عن هؤلاء، فلو قيل بأن الصيام يجب عليهما، لكان ذلك وضعًا للقلم عليهما، وتكليفًا لهما بما لم تُكَلفهما به هذه الشريعة، لكن يحسُن أن يُعَوَّد الغُلَام الذي لم يبلغ على الصيام، وأن يُشَدد عليه في ذلك متى ما استطاع؛ لتُروَّض نفسه، ويَكُون لَدَيه الاستعداد عندما يُصْبح الصيامُ واجبًا في حقَه.
إذن، يجب الصيام على كل مسلمِ بالغ عاقلِ حاضرٍ، وقيده بالحاضر؛ لأن المسافرَ لا يجب عليه الصياَم، لكن لا يَسقط عنه، وإنما يقضيه كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
(1)
أخرجه البخاري (7/ 45) من حديث علي رضي الله عنه معلقًا، وهو موصول عند أبي داود (4399)، والترمذي (1423)، وابن ماجه (2042)، وأخرجه أبو داود (4389)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصحح الأَلْبَانيُّ كلا الحديثين في "إرواء الغليل"(279).
(2)
ما يُسمِّيه الأُصوليون بعوارض التكليف، يُنظر:"مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" لابن النجار الحنبلي (1/ 308) حيث قال: "ولا يوصف فعل غير مُكلَّف من صغيرٍ ومجنونٍ بحسنٍ ولا قبحٍ؛ لأنه ليس بواجب، ولا محظور".
ثمَّ بيَّن اللَّهُ سبحانه وتعالى الحكمةَ في ذلك، وهو التيسير على عباده، والتخفيف عنهم، وهذا عادةً أسلوب القرآن في كَثِيرٍ من الأحكام، أنه عندما يذكر الحكمَ، يذكر علَّته {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وفي آيةٍ ثانيةٍ:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وفي آيةٍ ثالثةٍ في حُكمٍ آخَرَ:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وفي آيةٍ رَابعَةٍ:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
إذَنْ، خَفَّف اللَّهُ تَعالَى عن المؤمنين، والمسافر تلحقه مشقةٌ، وهذه المشقة وإنْ لم تكن متيقنةً، فإنها مشقةٌ مظنونةٌ، وَمَعَ كونها مَظْنونةً، استدعت أن يُخفَّف عن المسافر، فأُسْقِطَ عنه شطر الصلاة كما مرَّ بنا، كذلك أيضًا الفطرُ له أفضل؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس من البِرِّ الصيام في السفر"
(1)
، وأنكر على الرجل الذي ظُلِّل عليه وهو مسافرٌ أيضًا.
يقول المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
"الصَّحيح"؛ لأنَّ المريضَ أنواعٌ: هناك مريضٌ يسقط عنه الصيام مؤقتًا، بمعنى يجوز له الفطر، لَكن يَلْزمه قَضَاؤه، لكن لَوْ كان إنسانًا عنده مرضٌ مزمنٌ لا يستطيع أن يَصُوم، فهذا يَتَعذَّر عليه الصيام، لَكنه يُطْعم عن كل يومٍ مسكينًا.
والمرأة الحامل والمُرضع إذا خافتا على ولديهما، أفطرتا وأطعمتا عن كل يومٍ مسكينًا.
أمَّا الحائضُ والنُّفساء، فإنه لا يجوز لهما الصيام، ولا يسقط عنهما، إذًا هناك فرقٌ بين الصلاة والصيام، فكما في حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه:"كانت إحدانا تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة"
(2)
؛ لأن الصلاة
(1)
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاريُّ (321)، ومسلم (335)، وفيه: "أنَّ امرأةً سألت عائشة، فَقَالت: =
تتكرَّر في كل يومٍ خمس مرات، أما الصيام فإنه يأتي مرةً في العام، والحيضة في الشهر تأتيها مرة واحدة، فلَيْست علَيها مَشقة فيه، فمن هنا لا تصوم، لكنها يلزمها القضاء، ولا إثم عليها في ذلك، وهذا تخفيفٌ من اللَّه سبحانه وتعالى على عباده.
* قوله: (إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ الصِّفَةُ المَانِعَةُ مِنَ الصَّوْمِ، وَهِيَ: الحَيْضُ لِلنِّسَاءِ، هَذَا لَا خِلَافَ فيه).
المُؤلِّف هنا لم يذكر النُّفساء؛ لأن عادة بعض الفقهاء أن يُلْحق أحكامها بأحكام الحائض، إذًا النفساء كذلك
(1)
.
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]).
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهذا فعل مضارع اقترن بلام الأمر، فهو أيضًا يدل على الأمر.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الأَرْكَانِ
وَالأَرْكَانُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا: الزَّمَانُ، وَالإِمْسَاكُ عَنِ المُفْطِرَاتِ)
(2)
.
= أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ قَدْ كانت إحدانا تحيض على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم لا تؤمر بقضاءٍ".
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 40) حيث قال: "وأجمعوا أن الحائض تقضي ما أفطرت في حيضها، وأجمعوا وأجمع مَنْ يقول على أن الحائض لا تصوم أن النفساء لا تصوم".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 90)؛ حيث قال: "وأما ركنه: =
[الركن الأول في الصيام هو الزمان]
فهذان الركنان لا خلاف فيهما، والزمان إنما يبدأ من طلوع الفجر الصادق؛ لأن هناك فجرين:
الفجر الأول: يُسمَّى الفجر الكاذب، وهو الذي يبدو فيه الضوء ثم يختفي.
أما الفجر الصادق: الذي هو طلوع الفجر الثاني؛ فهو الذي يجب الإمساك بطلوعه إلى أن تغيب الشمس.
* قوله: (وَالثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ).
ليس هناك خلافٌ بين الفقهاء في أنَّ النية شرط في صحة الصيام
(1)
،
= فالإمساك عن الأكل والشرب والجماع؛ لأن اللَّه تعالى أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ؛ أي: حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة الليل من الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله عز وجل:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فدل أن ركن الصوم ما قلنا فلا يوجد الصوم بدونه".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 509)؛ حيث قال: " (قوله فله ركنان)؛ أي: الإمساك والنية وإنما كانا ركنين لدخولهما في ماهيته ومفهومه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 146)؛ "حيث قال:" (فصل) في أركان الصوم، وأركانه ثلاثة كما مر: نية، وإمساك عن المفطرات، وصائم. وانظر: "حاشية الجمل على شرح المنهج" (2/ 310).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 299)، حيث قال:"و (شرعًا: إمساك عن أشياء مخصوصة) هي مفسداته الآتية في الباب بعده (بنية في زمن معين)، وهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 105).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 227)؛ حيث قال:"وصح الإجماع على أن من صام رمضان ونواه من الليل، فقد أدى ما عليه".
لكنَّ الخلاف في وقتها: هل يُشترط أن تكون من الليل بالنسبة للصيام الواجب، أو أنه لا يُشترط
(1)
؟ ولو نواها من النهار أو نواها في أول الشهر -كما هو رأي البعض- هل تصح أم لا؟
(2)
.
(1)
تبييت النية شرط في صوم الفرض عند المالكية والشافعية والحنابلة، والحنفية لم يشترطوا التبييت في رمضان.
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 313 - 314) وصح صوم رمضان وهو فرض). . . بنية صوم ذلك اليوم بأن يعين صوم ذلك اليوم أو بنية مطلق الصوم أو بنية النفل، وكذا يجوز أيضًا صوم رمضان بنية واجب آخر والكلام فيه من وجهين؛ أحدهما: في وقت النية، والثاني: في كيفيتها، أما الأول فالمذكور هنا مذهبنا".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 520)؛ حيث قال: " (قوله: أي: شرط صحة الصوم. . .) إلخ ما ذكره المصنف هنا من جعل النية شرطًا أظهر مما ذكره في الصلاة من جعلها ركنًا؛ لأن النية القصد إلى الشيء. . . (قوله: من الغروب. . .) إلخ؛ بيان لليل فلا تكفي قبل الغروب عند الكافة ولا بعد الفجر؛ لأن النية هي القصد وقصد صوم الجزء الماضي من اليوم محال".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 148 - 149)، حيث قال:" (ويشترط لفرضه)؛ أي: الصوم من رمضان أو غيره كقضاء أو نذر (التبييت) وهو إيقاع النية ليلًا لقوله صلى الله عليه وسلم "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه الدارقطني وغيره وصححوه. وهو محمول على الفرض بقرينة خبر عائشة الآتي. ولا بدَّ من التبييت لكل يوم لظاهر الخبر، ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة لتخلل اليومين بما يناقض الصوم كالصلاة يتخللها السلام".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 314 - 315)؛ حيث قال:"ولا يصح صوم) إلا بنية" ذكره الشارح إجماعًا كالصلاة والحج لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" ولا صوم (واجب إلا بنية من الليل) لما روى ابن عمر عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"".
(2)
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا بدَّ من تعيين النية في صوم رمضان، وصوم الفرض والواجب، ولا يكفي تعيين مطلق الصوم، ولا تعيين صوم معين غير رمضان.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي (2/ 379)؛ حيث قال:" (ويحتاج صوم كل يوم من رمضان إلى نية) ولو صحيحًا مقيمًا تمييزًا للعبادة عن العادة. وقال زفر ومالك: تكفي نية واحدة كالصلاة".
وفي "حاشية ابن عابدين"(2/ 379): " (قوله: عن العادة)؛ أي: عادة الإمساك حمية أو لعذر ط (قوله: وقال زفر ومالك: تكفي نية واحدة)؛ أي: عن الشهر كله وروي =
إذن؛ الخلاف في كيفية النية. أما النية؛ فهي مشروطةٌ في كلِّ العبادات؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المتفق عليه، الذي افتتح به البخاري "صحيحه":"إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"
(1)
، وهو من أعظم الأحاديث التي وردت، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي تدور عليها أحكام الشريعة، والعلماء يختلفون في تنويعها، وهذا الحديث يظل ثابتًا ضمن تلك الأحاديث الأربعة أو الثلاثة التي تدور عليها أحكام هذه الشريعة الغرَّاء.
= عن زفر أن المقيم لا يحتاج إلى النية ولو مسافرًا لم يجز حتى ينوي من الليل وعند علمائنا الثلاثة لا يجوز إلا بنية جديدة لكل يوم من الليل أو قبل الزوال مقيمًا أو مسافرًا سراج".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 521)؛ حيث قال:" (وكفت نية) واحدة (لما)؛ أي: لصوم (يجب تتابعه) كرمضان وكفارة قتل أو ظهار وكالنذر المتتابع كمن نذر صوم شهر معين بناءً على أنه واجب التتابع كالعبادة الواحدة من حيث ارتباط بعضها ببعض وعدم جواز التفريق فكفت النية الواحدة، وإن كانت لا تبطل ببطلان بعضها كالصلاة".
وفي "حاشية الدسوقي"(1/ 521): "والأصل تساوي الفرض والنفل في النية كالصلاة (قوله: يجب تتابعه) صفة أو صلة لما وخرج بذلك ما يجوز تفريقه من الصوم كقضاء أيام من رمضان أفطر فيها لعذر وصيام رمضان في السفر وكفارة اليمين وفدية الأذى والقران والتمتع فلا تكفي فيه النية الواحدة بل لا بدَّ من التبييت كل ليلة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 411)؛ حيث قال:"ويجب" في الصوم (نية جازمة معينة). . . (لكل يوم) لظاهر الخبر ولأن صوم كل يوم عبادة لتخلل اليومين ما يناقض الصوم كالصلاتين يتخللهما السلام وخرج بمعينة ما لو نوى الصوم عن فرضه أو عن فرض وقته فلا يكفي كما في الصلاة، وسيأتي في الفرع الآتي ما خرج بجازمة (وإلا كمل) في نية صوم رمضان (أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة للَّه تعالى).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 315)؛ حيث قال:" (لكل يوم) من رمضان (نية مفردة؛ لأنها)؛ أي: أيام رمضان (عبادات) فكل يوم عبادة مفردة فيحتاج إلى نية، (و) الدليل على أن كل يوم عبادة مفردة: أنه (لا يفسد) صوم (يوم بفساد) صوم يوم (آخر كالقضاء)؛ أي: قضاء رمضان، وعنه يجزئ في أول رمضان نية واحدة لكله".
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
وممَّا شُرعت له النية: أنه يُميَّز بها بين الصيام الواجب وبين غيره من أنواع الصيام؛ فالصيام الواجب كصيام رمضان، وكصيام النذر، وكصيام الكفارات الواجبة.
والصيام غير الواجب كصيام التطوع، بل وهناك صيامٌ غير واجب وغير صيام التطوع كأن يتخذه الإنسان عادة، فبعض الناس ربما يُمسك عن الطعام وعن الشراب حميةً
(1)
.
وهذه النيَّة تُسمَّى بالفارقة؛ لأنها تُفرِّق بين الواجب والمندوب، وبين العبادات والعادات.
إذن؛ النية في الصيام واجبة؛ لأن الصيام عبادة، والعبادة لا تجوز بغير النية، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5].
ويقول أيضًا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
* قوله: (فَأَمَّا الرُّكْنُ الأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: زَمَانُ الوُجُوبِ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ).
إذن؛ شهر رمضان زمان وجوب، ولا يجوز أن يُصام فيه غيره؛ لأن الشهر ظرفٌ لهذه العبادة، وهو ظرف مضيَّق؛ أي: محدد له بداية وله نهاية بحيث لا يسع إلا المظروف، وأحيانًا يكون موسعًا كأوقات الصلوات، وكذلك وقت الحج بالنسبة لمن يرى أنه ليس على الفور
(2)
، أما الذين يرون: أنه على الفور فلا يكون وقته موسعًا.
(1)
حميت المريض حمية: منعته أكل ما يضره. انظر: "العين"، للخليل (3/ 313).
(2)
الحج واجب على الفور عند الحنفية. يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 132)؛ حيث قال:"ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له: الحج في كل عام أم مرة واحدة؟ فقال: "لا؛ بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع. . . " ثم واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه". =
* قوله: (وَالآخَرُ: زَمَانُ الإِمْسَاكِ عَنِ المُفْطِرَاتِ، وَهُوَ أَيَّامُ هَذَا الشَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي).
ولا شكَّ أن الصيام إنَّما يكون في النهار، أما الليالي فلا يصام فيها.
لكن ينبغي للمسلم أن يصون نفسه وأن يحفظ لسانه، وأن يتجنب كل الأُمور التي تكون سببًا في إثمه، وستأتي أحاديث تبين مثل ذلك.
* قوله: (وَيتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ مَسَائِلُ قَوَاعِدُ اخْتَلَفُوا فِيهَا).
إذن المؤلف يؤسس كتابه على مسائل كُبرى، وبعض العلماء عدَّ هذا الكتاب من كتُب القواعد الفقهيَّة
(1)
؛ لأنَّ القاعدةَ الفقهيَّةَ حكمٌ كليٌّ ينطبق
= وعند المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 2)؛ حيث قال:" (وفي فوريته)؛ أي: في وجوب الإتيان به أول عام القدرة عليه فيعصي بالتأخير عنه ولو ظن السلامة وهو المعتمد (وتراخيه لخوف الفوات)؛ أي: إلى وقت يخاف فيه فواته بالتأخير إليه". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 282).
وعند الشافعية على التراخي. يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 456)؛ حيث قال:" (وجوب الحج والعمرة) ومن حيث الأداء (على التراخي) فلمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يؤخره بعد سنة الإمكان؛ لأنه فرض سنة خمس كما جزم به الرافعي هنا، أو سنة ست كما صححه في "السير" وتبعه عليه في "الروضة" ونقله في المجموع عن الأصحاب".
وعند الحنابلة على الفور. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 377)؛ حيث قال:" (ويجبان في العمر مرة واحدة) لما روى أبو هريرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم". . . (على الفور) فيأثم إن أخَّر بلا عذر بناءً على أن الأمر المطلق للفور ويؤيده خبر ابن عباس مرفوعًا قال:"تَعَجَّلُوا إلَى الحَجِّ يَعْنِي الفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". رواه أحمد.
(1)
كالإمام العيني. انظر: "البناية شرح الهداية"(1/ 521).
على جزئياته، أو معظمها لتُعْرَفَ أحكامُهَا منه، وكثيرٌ من القواعد لها استثناءات، والمسائل الشاذة لا تعتبر.
والمؤلف إنما يذكر المسائل الكبرى ويعرض عن الفروع، لكنْ لو أخذتَ هذه المسائل وفرَّعت عليها لوجدت أن كل مسألة يندرج تحتها عددٌ من المسائل.
*
فائدةٌ:
بعض العلماء يجعل القاعدة
(1)
مرادفة للمسألة والضابط
(2)
، وهذا عند المتقدمين
(3)
قبل أن يتطور علم القواعد ويتسع ويبلغ غاية مجده، ويصل إلى الذروة في الازدهار وفي الكمال، وقبل أن يغوصَ العلماء في أعماقه، ثم استطاعوا أن يتوصلوا -بعد دراسة وتمحيص وتدقيق- إلى وجود فارق بين القواعد، فمن القواعد ما تجد أن أحكامها منتثرة في جميع الأبواب، وبعضها تجد أحكامها في باب واحد، ففرَّقوا بينهما، وقالوا: القاعدة: هي التي تنتثر أحكامها في أبواب متعددة، والضابط هو: الذي تأتي مسائله في باب واحد.
إذن؛ هذا الكتاب الذي معنا من مِيزته أنه يعطيك خلاصةً للفقه الإسلامي، يعطيك أسسًا لو ضبطتها وتمرَّسْت فيها
(4)
لَسَهُل عليك أن تخرج عليه بقية المسائل بعد ذلك.
* قوله: (فَلْنَبْدَأْ بِمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ ذَلِكَ بِزَمَانِ الوُجُوبِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 11)؛ حيث قال:"فالقاعدة: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها، ومنها ما لا يختص بباب".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 11)؛ حيث قال:"والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن تُسمَّى ضابطًا".
(3)
كالفيومي في "المصباح المنير"(2/ 510)؛ حيث قال: "والقاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته".
(4)
وتمرس به وامترس به؛ أي: احتك به. انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 978).
فِي تَحْدِيدِ طَرَفَيْ هَذَا الزَّمَانِ. وَثَانِيًا: فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ العَلَامَةِ المُحَدَّدَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ شَخْصٍ، وَأُفُقٍ أُفُقٍ، فَأَمَّا طَرَفَا هَذَا الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ العُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ العَرَبِيَّ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ)
(1)
.
إجماع العلماء على أن الشهر العربي يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين هذا جاء منصوصًا عليه في أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له"
(2)
، وفي بعض الروايات:"فإن غبي عليكم"
(3)
، و"غبي"؛ يعني: أخفي أو اختفى
(4)
، وفي بعضها: "فإن غم
(5)
عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"
(6)
، وفي بعض الروايات:"ثلاثين يومًا"
(7)
.
وسيأتي خلاف الفقهاء في كلمة "فاقدروا له"، هل المعنى: قدروا شعبان ثلاثين يومًا، أو القصد: ضيِّقوا شعبان فاجعلوه تسعة وعشرين يومًا؟ كلُّ هذا سيمر عليه المؤلف
(8)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 227)؛ حيث قال:"والشهر يكون ثلاثين يومًا، ويكون تسعة وعشرين يومًا بإجماع".
(2)
أخرجه البخاري (1907)، ومسلم (1080/ 6) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". واللفظ الذي ذكره الشارح أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 286)(2).
(3)
أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081) عن أبي هريرة: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
(4)
قوله: "غبي عليكم"؛ أي: خفي. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (3/ 342).
(5)
قوله: "غم عليكم": بضم الغين وشد الميم؛ أي: ستره الغمام وحال دون رؤية الهلال. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (3/ 388). "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (2/ 135).
(6)
أخرجه البخاري (1907).
(7)
أخرجه مسلم (1081/ 17).
(8)
سيأتي الكلام عليه كما ذكر الشارح.
إذن، الشهر تسع وعشرون، وقد يتمُّ الشهرُ فيكون ثلاثين يومًا، لكنَّ غالب الأشهر تسعة وعشرون يومًا.
لكنْ أحيانًا يغمى آخر يوم في شهر شعبان، بمعنى: أنه يكون في السماء قتر أو سحابٌ، وهو الذي يعرف بصيام يوم الشك، وهذا سيأتي الكلام فيه، وسنجد أن العلماء انقسموا فيه إلى ثلاثة أقسام: الجمهور
(1)
لهم رأي، والحنابلة معهم في رواية
(2)
، ولهم روايتان
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 381)، حيث قال:" (قوله: ولا يصام يوم الشك) هو استواء طرفي الإدراك من النفي والإثبات بحر (قوله: هو يوم الثلاثين من شعبان) الأولى قول "نور الإيضاح" هو ما يلي التاسع والعشرين من شعبان؛ أي: لأنه لا يعلم كونه يوم الثلاثين لاحتمال كونه أول شهر رمضان ويمكن أن يكون المراد أنه يوم الثلاثين من ابتداء شعبان فمن ابتدائية لا تبعيضية تأمل".
مذهب المالكية، يُنظر:"كفاية الطالب الرباني"، للشاذلي (1/ 444)؛ حيث قال:"ولا يصام يوم الشك ليحتاط به من رمضان، وهذا النهي للكراهة على ظاهر المدونة. وقال ابن عبد السلام: الظاهر أنه للتحريم لما رواه الترمذي -وقال: "حسن صحيح"-: أن عمار بن ياسر قال: "من صام أليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" ويوم الشك المنهي عن صيامه عندنا أن تكون السماء مغيمة ليلة ثلاثين ولم تثبت الرؤية فصبيحة تلك الليلة هو يوم الشك".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 163)؛ حيث قال:" (ولا يحل)؛ أي: يحرم ولا يصح (التطوع) بالصوم (يوم الشك) لقول عمار بن ياسر -رضي اللَّه تعالى عنه-: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، والمعنى فيه القوة على صوم رمضان، وضعفه السبكي بعدم كراهة صوم شعبان وهو ممنوع؛ لأن النفس إذا ألفت شيئًا هان عليها؛ ولهذا كان صوم يوم وفطر يوم أفضل من استمرار الصوم كما سيأتي. وقال الإسنوي: المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون الكراهة لا التحريم، والمعتمد ما في المتن، هذا إذا صامه (بلا سبب) يقتضي صومه (فلو صامه) تطوعًا بلا سبب (لم يصح) صومه (في الأصح) كيوم العيد بجامع التحريم".
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 108)؛ حيث قال:"وعن أحمد رواية ثالثة: لا يجب صومه، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم؛ منهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ومن تبعهم".
أخريتان
(1)
خالفوا فيها الجمهور، ووافقهم بعض العلماء في كل رواية من هذه الروايات
(2)
.
* قوله: (وَعَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي تَحْدِيدِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ).
ولا يزال المسلمون يعنون بهذا الأمر ويستعدون لدخول شهر رمضان وكذلك ذي الحجة وغيرها من الأشهر حتى يتأكدوا، وهذا أمر بيِّن بحمد اللَّه.
إذن رؤية الهلال مطلوبة، فإذا ما قرب الشهر يستعد لذلك، فإذا رئي انتهى الأمر، لكن قد يراه فرد واحد ولا يراه الناس، فهل يدخل الشهر بهذا أم لا؟ فيه خلاف:
بعض العلماء: يكتفي برؤية شخصٍ واحد.
(1)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 108)، حيث قال:(وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة، فروي عنه مثل ما نقل الخرقي، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا، وهو مذهب عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وبه قال بكر بن عبد اللَّه، وأبو عثمان النهدي، وابن أبي مريم، ومطرف، وميمون بن مهران، وطاوس، ومجاهد. وروي عنه: أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وهذا قول الحسن، وابن سيرين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون". وانظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، للمرداوي (3/ 348).
(2)
وينظر في مشهور مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 301)، حيث قال:"والمذهب: يجب صومه؛ أي: صوم يوم الثلاثين من شعبان إن حال دون مطلعه غيم أو قتر ونحوهما (بنية رمضان حكمًا ظنيًّا بوجوبه احتياطًا لا يقينًا)، اختاره الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا ونصوص أحمد عليه، وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وقاله جمع من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعًا قال: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له"".
وبعضهم يقول: إذا لم يثقِ الناسُ برؤية هذا الشخص فهل يجب عليه أن يصوم، أو أنَّ الأمر متعلق بإمام المسلمين كما جاء في الحديث:"الصوم حين يصوم الناس والفطر حين يفطر الناس"، وفي رواية:"صوموا كما يصوم الناس وأفطروا كما يفطر الناس وضحوا كما يضحي الناس"
(1)
من العلماء من أوجب عليه الصيام، وسيأتي الكلام عنه -إن شاء اللَّه-.
لا شك أن الافتئات
(2)
على الإمام والخروج عليه أمرٌ منكرٌ ومحذَّر عنه حتى في العبادات
(3)
؛ ولذلك ينصُّ العلماءُ على أنَّ الإنسان في هذه الحالة فيما لو رأى الهلال يصوم ولا يعلن ذلك حتى لا يدور الخلاف بالأمة وهي مجتمعة، وحتى لا يوجد ثَلْمٌ
(4)
ولو يسير في صف الأمة الإسلامية.
* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ"
(5)
.
وهذا أمر من الرسول يقتضي من المؤمنين تحرِّي رؤية شهر رمضان، وكذلك تحرِّي خروج شهر رمضان.
لكن قد يسأل سائل فيقول: لماذا أجمع العلماء على أنَّ شهر رمضان
(1)
أخرجه الترمذي (802) عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4287).
(2)
الافتيات: افتعال من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 260).
(3)
يُنظر: "الأحكام السلطانية"، للماوردي (ص 39)؛ حيث قال:"فعلى كافة الأمة تفويض الأُمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا معارضة له؛ ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال".
(4)
الثلمة: الخلل في الحائط وغيره. انظر: "الصحاح"، للجوهري (5/ 1881).
(5)
تقدَّم تخريجه.
لا يخرج إلا بشهادة اثنين عدلين
(1)
، واختلفوا في دخوله، فبعضهم يرى الاكتفاء بواحد
(2)
؟
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 390 - 391)؛ حيث قال:
" (وبعد صوم ثلاثين بقول عدلين حل الفطر) الباء متعلقة بصوم وبعد متعلقة بحل لوجود - نصاب الشهادة".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 382)؛ حيث قال:"فلا يثبت شوال وذو الحجة وغيرهما من الشهور إلا برؤية عدلين وهذا هو المعروف".
مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية البجيرمي على الخطيب"(2/ 372)؛ حيث قال: "وإذا صمنا برؤية عدل ثلاثين يومًا أفطرنا وإن لم نر الهلال بعدها ولم يكن غيم ولا يرد لزوم الإفطار بواحد لثبوت ذلك ضمنًا. وقوله: "ولا يرد"؛ أي: لأن شوال لا يثبت إلا باثنين".
وينظر: "روضة الطالبين"، للنووي (2/ 348)؛ حيث قال:"لا يثبت هلال شوال إلا بعدلين".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 305)؛ حيث قال:"و (لا) يفطروا (إن صاموا) الثلاثين يومًا (بشهادة واحد)؛ لأنه فطر فلا يجوز أن يستند إلى واحد كما لو شهد بهلال شوال".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 389)؛ حيث قال: "قوله: ويثبت دخول الشهر ضمنًا؛ لأنه من ضروريات صحة الحكم بقبض الدين؛ فقد ثبت في ضمن إثبات حق العبد لا قصدًا، ولهذا قال في البحر عن "الخلاصة" بعدما ذكره الشارح هنا؛ لأن إثبات مجيء رمضان لا يدخل تحت الحكم، حتى لو أخبر رجل عدل القاضي بمجيء رمضان يقبل ولأمر الناس بالصوم يعني في يوم الغيم ولا يشترط لفظ الشهادة وشرائط القضاء".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 381)؛ حيث قال:" (أو برؤية عدلين) ش: هذا هو الأمر الثاني الذي يثبت به رمضان وهو الرفلة وهي على وجهين: مستفيضة، وسيأتي الكلام عليها، وغير مستفيضة، ولا بد فيها من شهادة عدلين وهذا في حق مَن لم ير الهلال بنفسه، وأما من رآه فإنه يلزمه الصوم كما سيأتي، وعلى هذا فينبغي أن يقال كما قال اللخمي: الصوم والإفطار يصح بثلاثة أشياء: الرؤية، فإن لم تكن فالشهادة، فإن لم تكن شهادة فبكمال العدة ثلاثين".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 141 - 142)؛ حيث قال: " (وثبوت رؤيته) يحصل (بعدل) سواء كانت السماء مصحية أم لا؛ لأن ابن عمر -رضي اللَّه تعالى عنهما- رآه فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك فصام وأمر الناس بصيامه.=
هناك فرق بينهما: لأن دخول شهر رمضان عبادة كل نفس تهفو إليه، وهكذا كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا انتهى رمضان سألوا اللَّه سبحانه وتعالى أن يوفقهم فيدركوا رمضان المستقبَل، وإذا كانوا فيه سألوا اللَّه تعالى أن يتمَّه عليهم
(1)
.
إذن؛ لا شكَّ أن الدخول في عبادة الصيام تشتاق نفس كل مسلم إليها، لكنَّ الخروج من الصيام يقطعهم عن هذه اللذة؛ ولذا ينبغي أن يكون فيه تحرٍّ ودقَّةٍ؛ لأنهم لو صاموا قبل ذلك بيوم لما ضرَّ، لكن أن يُتَساهل في الشهر فيُصَام تسعًا وعشرين ثم يتبين خلاف ذلك فلا يجوز، لكن إن كان ذلك عن اجتهاد وتحرٍّ بمعنى أنه لم يُرَ الهلال فلم يَصُم المسلمون إلا في اليوم الثاني، ثم خرج الشهر أيضًا ليلة تسع وعشرين، هنا يحتاج المسلمون إلى أن يقضوا يومًا واحدًا.
* قوله: (وَعَنَى بِالرُّؤْيَةِ: أَوَّلَ ظُهُورِ القَمَرِ بَعْدَ الزَّوَالِ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي الحُكْمِ إِذَا غُمَّ الشَّهْرُ، وَلَمْ تُمْكِنِ الرُّؤْيَةُ).
يعني: إذا كان في السماء سحاب أو قتر ولا يستطيع الناس أن يروا القمر، في هذه الحالة هل يصام يوم الثلاثين أو لا يصام؟
= رواه أبو داود وصححه ابن حبان. . . (وفي قول) يشترط في ثبوت رؤيته (عدلان) كغيره من الشهور".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 304)؛ حيث قال:" (ويقبل فيه)؛ أي: في هلال رمضان (قول عدل واحد) نص عليه، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صوم الناس بقول ابن عمر. رواه أبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولقبوله صلى الله عليه وسلم خبر الأعرابي به. رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس؛ ولأنه خبر ديني وهو أحوط".
(1)
أخرج أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(2/ 354) عن معلى بن الفضل قال: "كانوا يدعون اللَّه عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ويدعون اللَّه ستة أشهر أن يتقبل منهم".
(2)
زوال الشمس: ميلها عن كبد السماء. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص 27).
* قوله: (وَفِي وَقْتِ الرُّؤْيَةِ المُعْتَبَرِ).
يبدو أن العبارة غير صحيحة، وأنَّها:(في أيِّ وقت).
* قوله: (فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا غُمَّ الهِلَالُ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ يَرَوْنَ أَنَّ الحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنْ تُكْمَلَ العِدَّةُ ثَلَاثِينَ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي غُمَّ هِلَالُ أَوَّلِ الشَّهْرِ عَنِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، كَانَ أَوَّلُ رَمَضَانَ الحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غُمَّ هِلَالَ آخِرِ الشَّهْرِ، صَامَ النَّاسُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ المُغَمَّى عَلَيْهِ هِلَالَ أَوَّلِ الشَّهْرِ، صِيمَ اليَوْمُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِيَوْمِ الشَّكِّ).
* العلماء -كما أشرتُ- انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
القول الأول: أنَّ صيام هذا اليوم الذي يعرف بيوم الثلاثين، هذا الذي حجب فيه القمر فلم ير الناس الهلال، يجب صيامه، وهذه رواية للحنابلة، ونقل ذلك عن بعض الصحابة كعبد اللَّه بن عمر.
لكنَّهم قالوا: فإن كان صيامه من رمضان صح صيامه، وإن لم يكن من رمضان فلا شيء في ذلك.
القول الثاني: وهو رواية أُخرى للحنابلة تقول: الناس تبع للإمام، فإن صام الإمام هذا اليوم صام الناس معه، وإن لم يصم الإمام فلا ينبغي للناس أن يصوموا.
القول الثالث: -وهو الرأي المشهور وهو الذي ذكره المؤلف، وهو رأي الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، وهو رواية للإمام أحمد-: أن
يوم الشكِّ لا يُصَام
(1)
.
(1)
تقدَّم قولهم بالتفصيل.
وقد ورد في هذه المسألة عدَّةُ أدلة، ومن ذلك:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم الشك، وهذا الحديث متفق عليه
(1)
.
- وجاء في حديث آخر صحيح ليس في "الصحيحين" أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من صام اليوم الذي يُشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم"
(2)
.
إذن؛ هذا فيه نهي عن صيام يوم الشك.
وأصل الخلاف: يدور حول ما جاء في الحديث: "فإن غم عليكم فاقدروا له"
(3)
.
اختلف العلماء في تفسير هذه العبارة؛ فالحنابلة في روايتهم الأُخرى التي قالوا فيها: إنه يصام يوم الشك ويعتبر الأول من رمضان، وجهتهم في ذلك: أن عبد اللَّه بن عمر: -وهو راوي الحديث- كان يرى هذا الرأي، وفسروا:"فاقدروا له"
(4)
؛ أي: ضيِّقوا له العدد؛ أي: اجعلوا شعبان تسعة وعشرين يومًا، فإذا ضيق العدد وأصبح شعبان تسعة وعشرين يومًا، صام الناس هذا اليوم الذي فيه غيم أو قطر.
(1)
أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه".
(2)
أخرجه البخاري (1905).
(3)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري"، لابن بطال (4/ 27)؛ حيث قال:"وحكى محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله عليه السلام: "فاقدروا له" إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مطرف بن الشخير".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 301)؛ حيث قال:"ومعنى "فاقدروا له"؛ أي: ضيقوا لقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]؛ أي: ضيق وهو أن يجعل شعبان تسعًا وعشرين يومًا، ويجوز أن يكون معناه: اقدروا زمانًا يطلع في مثله الهلال، وهذا الزمان يصح وجوده فيه أو يكون معناه: فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم كقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57]؛ أي: علمناها".
جمهور العلماء
(1)
قالوا: إن معنى "فاقدروا له": أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا.
قالوا: وهذا مجمل، جاء تفسيره في الروايات الأُخرى -وهي في "الصحيحين"-:"فإن غم عليكم فأكلملوا شعبان ثلاثين"، وفي رواية ليست في "الصحيحين":"فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا".
* قوله: (وَرَوَى بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا أُغْمِيَ الهِلَالُ رَجَعَ إِلَى الحِسَابِ بِمَسِيرِ القَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ)
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"منحة السلوك"، للعيني (ص 255)؛ حيث قال:"قوله: (ويستحب طلب الهلال ليلة ثلاثين من شعبان ورمضان) لقوله عليه السلام: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". رواه البخاري. ومعنى "فاقدروا له"؛ أي: قدروا عدده باستيفاء عدد الثلاثين". مذهب المالكية، يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 509)؛ حيث قال: "لأن الشارع أناط الحكم بالرؤية أو بإكمال الثلاثين فقال عليه الصلاة والسلام: "الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم فاقدروا له"، وفي رواية:"فأكملوا عدة شعبان"، وهي مفسرة لما قبلها؛ قال مالك: إذا توالى الغيم شهورًا يكملون عدة الجميع حتى يظهر خلافه اتباعًا للحديث ويقضون إن تبين لهم ما هم عليه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (6/ 270)؛ حيث قال:"وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف: معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 301)؛ حيث قال:"فإن غم عليكم فاقدروا له". متفق عليه، ومعنى "فاقدروا له" أي: ضيقوا لقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]؛ أي: ضيق وهو أن يجعل شعبان تسعًا وعشرين يومًا، ويجوز أن يكون معناه: اقدروا زمانًا يطلع في مثله الهلال، وهذا الزمان يصح وجوده فيه أو يكون معناه: فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم كقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} ؛ أي: علمناها".
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد الجد (1/ 250)؛ حيث قال:"فروي عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير أنه كان يقول: يعتبر الهلال إذا غم بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب".
والقمر إنما هو خلق من مخلوقات اللَّه، فاللَّه سبحانه وتعالى خلق النجوم وجعلها زينةً للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يستدل بها، وكل ذلك ذكر في كتاب اللَّه عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى خلق القمر وجعل له منازل، وفي ذلك حكمة بالغة: لنعلم عدد السنين والحساب كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5].
* قوله: (وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ القَمَرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الهِلَالَ مَرْئِيٌّ وَقَدْ غُمَّ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الصَّوْمَ وَيُجْزِيَهُ
(1)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: الإِجْمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ"
(2)
).
ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى أنَّ الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين يومًا؛ ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"إنَّا أُمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتبُ ولا نحسبُ"
(3)
، وفي رواية: "لا نحسبُ
(4)
ولا نكتبُ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، ثم أشار بيده ثلاث مرات، وفي الثالثة خنس الإبهام
(5)
؛ أي: تسعة وعشرين، ثم قال:"وهكذا وهكذا وهكذا"، فذكرها ثلاث مرات كاملة.
(1)
يُنظر: "بحر المذهب"، للروياني (3/ 252)؛ حيث قال:"كذلك لو كان يعرف منازل القمر وتقدير سيره فعلم أن الهلال قد أهل هل يجوز له أن يصوم به؟ قال ابن سريج: يجوز".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1913)، ومسلم (1080).
(4)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (4/ 127)؛ حيث قال:"والمراد بالحساب هنا: حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير؛ فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير".
(5)
أخرجه مسلم (1080/ 15).
فدلَّ ذلك على أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين، وربما يكون ثلاثين.
وغالب الآثار التي جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم ذكروا فيها أنهم كانوا يصومون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأن أكثر الأشهر التي صاموها تسعةً وعشرين يومًا، وهذا هو الذي نراه الآن؛ يعني: غالب الأشهر إنما هي تكون تسعة وعشرين يومًا فلا تكمل ثلاثين يومًا، لكن من الأشهر ما يصل ثلاثين.
وهذا الحديث: "إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ" يشهد له قول اللَّه سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ: أَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ).
هذا هو مذهب جماهير العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، وقد سبق ذلك
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 117)؛ حيث قال:"وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان فإن رأوه صاموا وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا ثم صاموا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا"؛ ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 316) وما بعدها".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 509)؛ حيث قال:" (يثبت رمضان)؛ أي: يتحقق في الخارج وليس المراد خصوص الثبوت عند الحاكم بأحد أُمور ثلاثة: إما (بكمال شعبان) ثلاثين يومًا وكذا ما قبله إن غم ولو شهورًا لا بحساب نجم وسير قمر على المشهور؛ لأن الشارع أناط الحكم بالرؤية أو بإكمال الثلاثين فقال عليه الصلاة والسلام: "الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له". وفي رواية: "فأكملوا عدة شعبان"، وهي مفسرة لما قبلها، قال مالك: إذا توالى الغيم شهورًا يكملون عدة الجميع حتى يظهر خلافه اتباعًا للحديث، ويقضون إن تبين لهم ما هم عليه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 141)؛ حيث قال:"وإنما يجب (بإكمال شعبان ثلاثين) يومًا (أو رؤية الهلال) ليلة الثلاثين منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"".
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ لَهُ هُوَ عَدُّهُ بِالحِسَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُصْبِحَ المَرْءُ صَائِمًا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ
(1)
-كَمَا ذَكَرْنَا- وَفِيهِ بُعْدٌ فِي اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ إِلَى التَّأْوِيلِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتِ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ").
الذي جعل بعض العلماء يستبعد هذا التفسير: "فاقدروا له"؛ أي: ضيقوا له العدد، واجعلوه تسعة وعشرين؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث ما يفسر ذلك:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، وفي أحاديث:"ثلاثين يومًا". قالوا: هذا فسر الإجمال الذي ورد في رواية: "فاقدروا له".
يعني: إذا حال بينكم وبين رؤيته سحابٌ أو قترٌ، فماذا يفعل المسلم في هذه الحالة؟
من العلماء من قال: يتم شعبان ثلاثين يومًا كما هو رأي الأكثر.
ومنهم من قال: إنه يأخذ بالأحوط فيجعل شهر شعبان تسعة وعشرين يومًا ويصوم اليوم الذي يليه، وهذا الذي يصام ينظر فيه؛ فإن كان من رمضان فنعمَّا هو، وإلَّا فلا شيء في ذلك.
ومنهم من قال: إنْ صامه الناس صامه الإنسان وإلا فلا؛ لحديث: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"
(2)
،
(1)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 301 - 302)؛ حيث قال:"مع أن بعض المحققين قالوا: الشهر أصله تسع وعشرون؛ يؤيده: ما رواه أحمد عن إسماعيل عن أيوب عن نافع قال: "كان عبد اللَّه بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يومًا بعث مَن ينظر له فإن رآه فذاك وإن لم يره ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا"، ولا شك أنه راوي الخبر وأعلم بمعناه فتعين المصير إليه".
(2)
تقدَّم تخريجه.
ويقصد بهذا الحديث: أن يكون المسلم مع الجماعة، فيد اللَّه مع الجماعة
(1)
. حتى إنَّ العلماء الذين يقولون: لو أن إنسانًا رأى شهر رمضان وحده ولم يصم الناس بصيامه فإنه يصومه ولا يُظهِر ذلك
(2)
، حتى لا يُظهِرَ مخالفةً للإمام؛ لأنَّ في ذلك افتئاتًا على الإمام ومخالفةً له، وهذا أمر منهيٌّ عنه.
ولا ينبغي أن تكون مثل هذه القضايا موضع خلاف ونقاش وتفرِقةٍ لكلمة المسلمين، ولا سيما في بعض البلاد التي لا تدين بالإسلام ويوجد بين أفرادها عدد من المسلمين؛ فلذا لا ينبغي أن تثار مثل هذه القضايا
(1)
أخرجه الترمذي (2166) عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(8065).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (4/ 24)؛ حيث قال:" (ومن رأى هلال رمضان وحده) ش: أي حال كونه وحده م: (صام وإن لم يقبل الإمام شهادته لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته" ش: [و] هذا قطعة من حديث أخرجه البخاري رحمه الله ومسلم عن أبي هريرة وقد مر م: (وقد رأى ظاهرًا) ش: لأنه يفيد العلم في حقه".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 387)؛ حيث قال:"من رأى هلال رمضان وحده وسواء كان عدلًا أو مرجوًّا أو نحوهما؛ فإنه يجب عليه الصوم فإن أفطر متعمدًا أو منتهكًا لحرمة الشهر فعليه القضاء والكفارة وإن أفطر متأولًا فظن أنه لا يلزمه الصوم برؤيته منفردًا؛ ففي وجوب الكفارة تأويلان والقول بوجوب الكفارة هو المشهور؛ ولذلك جزم به المصنف بعد ذلك لما ذكر التأويل البعيد، واللَّه أعلم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 143)؛ حيث قال:"فمن رأى هلال رمضان وجب عليه الصوم وإن كان فاسقًا، وقالت طائفة منهم البغوي: يجب الصوم على من أخبره موثوق به بالرؤية إذا اعتقد صدقه، وإن لم يذكره عند القاضي ولم يفرعوه على شيء، ومثله في "المجموع" بزوجته وجاريته وصديقه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 306)، حيث قال:" (ومن رأى هلال شهر رمضان وحده وردت شهادته) لفسق أو غيره (لزمه الصوم وجميع أحكام الشهر من طلاق وعتق وغيرهما معلقين به) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" وكعلم فاسق بنجاسة ماء أو دين على موروثه؛ ولأنه يتيقن أنه من رمضان فلزمه صومه وأحكامه، بخلاف غيره من الناس".
حتى لا تستغل ويقال: إن المسلمين مختلفون، وإن فقههم إنما هو أجزاءٌ متشتتةٌ، وإنه لا توجد أصول وقواعد تمسك بها، كما هو تعليل من يقول: بأن الشريعة الإسلامية خلت من النظريات، وإنما هي جزئيات متشتتة منتثرة، لا تستطيع أن تمسك لها بطرف، لكن هذا كله غير صحيح؛ فإن العلماء قد وضعوا لها قواعد تمسك بأطرافها، وكلها تنظمها في سلك واحد، وهذا معروف في القواعد الفقهية، بل إن الفقه الإسلامي مليء بالنظريات والقواعد الفقهية.
* قوله: (وَذَلِكَ مُجْمَلٌ، وَهَذَا مُفَسَّرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ المُجْمَلُ عَلَى المُفَسَّرِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الأُصُولِييِّنَ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ المُجْمَلِ وَالمُفَسَّرِ تَعَارُضٌ أَصْلًا، فَمَذْهَبُ الجُمْهُورِ فِي هَذَا لَائِحٌ
(1)
، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الرُّؤْيَةِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا رُئِيَ مِنَ العَشِيِّ
(2)
أَنَّ الشَّهْرَ مِنَ اليَوْمِ الثَّانِي)
(3)
.
وهذا حقيقة ليس خاصًّا في رمضان، بل في عامة الأشهر.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا رُئِيَ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، أَعْنِي: أَوَّلَ مَا رُئِيَ).
فقد يُرى عندما يكون الجو صافيًا جدًّا، ويهب اللَّه سبحانه وتعالى بعض الناس قوة في الإبصار، وقد وُجد من الناس مَن يرى النجوم في النهار، وهذا أمر قد عرف في زماننا وقبله، فيستطيع أن يرى أيضًا ذلك في النهار.
(1)
لاح: برز وظهر. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (2/ 586).
(2)
العشي: يقع على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، كل ذلك عشي؛ فإذا غابت الشمس فهو العشاء. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (3/ 38).
(3)
يُنظر: "مراتب الإجماع"، لابن حزم (ص 40)؛ حيث قال:"واتفقوا أن الهلال إذا ظهر بعد زوال الشمس ولم يعلم أنه ظهر بالأمس فإنه لليلة مقبلة".
وفي "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 228) قال:"وإذا رئي الهلال بعد الزوال لم يجب الصوم إلا من الغد بالإجماع".
إذن؛ لو حصل هذا في النهار ورأى القمر على أنه أهلَّ
(1)
، هل يعتبر ذلك لليوم السابق أو للَّاحق؟ وهل هناك فرق بين أن يُرَى قبل الزوال أو أن يرى بعده؟ هذا ما سيذكره المؤلف.
جمهور العلماء: يرون أنه لو رئي في النهار فإنه يكون لليوم اللاحق لا للسابق
(2)
.
وذهب فريق آخر: إلى أنه إن رئي قبل الزوال كان لليوم السابق، فإن لم يكونوا صاموا أمسكوا ثم يقضون ذلك اليوم الذي فاتهم بعضه، وإن كان بعد الزوال فهو لليوم الآتي -أي: اللاحق-، وسيذكر المؤلف أصحاب هذا القول وأصحاب هذا القول.
* قوله: (فَمَذْهَبُ الجُمْهُورِ أَنَّ القَمَرَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ رُئِيَ مِنَ النَّهَارِ
(1)
أهل واستهل، إذا أبصر، وأهللته، إذا أبصرته. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (5/ 271).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 82)؛ حيث قال:"ولو رأوا يوم الشك الهلال بعد الزوال أو قبله فهو للَّيلة المستقبلة في قول أبي حنيفة ومحمد، ولا يكون ذلك اليوم من رمضان".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 392)؛ حيث قال:" (ورؤيته نهارًا للقابلة) ش: يعني: أنه إذا رئي الهلال نهارًا فإنه إنما يحكم به للَّيلة القابلة، فيستمر الناس على ما هم عليه من فطر إن وقع ذلك في آخر شعبان، أو صوم إن وقع في آخر رمضان، وسواء رئي بعد الزوال أو قبله على المشهور، وقيل: إن رئي قبل الزوال فهو للَّيلة الماضية، فيمسكون إن وقع ذلك في شعبان، ويفطرون إن وقع في رمضان، ويصلون العيد. رواه ابن حبيب عن مالك، وقال به هو وغيره. قال: وإذا رئي بعد الزوال فهو للآتية، سواء صليت الظهر أم لم تصل".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 143)؛ حيث قال:"ورؤية الهلال نهارًا للَّيلة المستقبلة لا الماضية فلا نفطر إن كان في ثلاثي رمضان ولا نمسك إن كان في ثلاثي شعبان".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 302 - 303)؛ حيث قال:" (وإن رأى الهلال نهارًا فهو للَّيلة المقبلة قبل الزوال) كانت رؤيته (أو بعده أول الشهر أو آخره، فلا يجب به صوم) إن كان في أول الشهر، (ولا يباح به فطر) إن كان في آخره".
أَنَّهُ لِلْيَوْمِ المُسْتَقْبَلِ، كَحُكْمِ رُؤْيَتِهِ بِالعَشِيِّ، وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِمْ).
وليست: (في أول)، وإنما:(في أي)، ويبدو أن هذه الكلمة فيها تحريف.
يعني: الجمهور ومعهم أحمد أيضًا يرون: أن اليوم الذي مضى قد مضى، فإن رئي في هذا اليوم فهو لما سيأتي.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا رُئِيَ الهِلَالُ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ المَاضِيَةِ، وَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَهُوَ لِلْآتِيَةِ).
رأي الجمهور عرفناه، وفيه الأئمة الأربعة، لكن أبا يوسف قد خالف إمامه في هذه المسألة، ومعه الإمام الثوري وهو من الفقهاء المشهورين، ومعهم ابن أبي ليلى
(3)
، وهو من التابعين، ومعهم أيضًا ابن حبيب من المالكية.
إذن المؤلف ذكر الذين قالوا بذلك ولم يسقط إلا ابن أبي ليلى.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرْكُ اعْتِبَارِ التَّجْرِبَةِ فِيمَا سَبِيلُهُ التَّجْرِبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ).
يعني: هل يعتد بالتجربة في هذه الأُمور، أو أننا نقف عند النصوص؟
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 82)؛ حيث قال:"وقال أبو يوسف: إن كان بعد الزوال فكذلك، وإن كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 279)؛ حيث قال:"وقال: إذا رأيتم الهلال نهارًا قبل زوال الشمس فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا، وبهذا قال سفيان الثوري وأبو يوسف".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 411)؛ حيث قال:"وقال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال فهو للَّيلة السالفة، وإن رئي بعد الزوال فهو للمستقبلة".
لا شكَّ أنَّ ما ورد فيه نص فلا نرجع فيه إلى التجربة، لكن التجربة أو العادة نرجع إليها في أمورٍ تتعلق بأحكام الحيض وأحكام النفاس، هذه هي التي العادة لها تأثير.
ولذلك وضع العلماء القاعدة الفقهية المعروفة وهي إحدى القواعد الخمسة: "العادة محكَّمة"
(1)
.
واستدلوا لها بأثر عبد اللَّه بن مسعود: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند اللَّه سيئ"
(2)
.
كذلك أيضًا العادة تحكَّم فيما يتعلَّق ببعض المعاملات فيما لم يرد فيه نص أو فيما لم يتعارض معه نص، وبخاصة في الصناعات؛ فهناك كثير من الصناعات إنما تضبط بالعادة، فهناك مَن يخيط الثياب، وهناك الغسال، وهناك الحداد وهناك النجار، وهناك صاحب المصنع، وهناك مواصفات معروفة، كذلك أيضًا في بعض التعاملات تعتبر العادة، لكن الأحكام الشرعية لا تدخل فيها العادة.
* قوله: (وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَثَرَانِ).
ولكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"
(3)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر"
(4)
. فهذا عمر رضي الله عنه الفاروق له أثران في هذه المسألة.
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 89 وما بعدها)؛ حيث قال:"القاعدة السادسة: العادة محكمة. قال القاضي: أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن"".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(3600)، وحسن إسناده الأرناؤوط.
(3)
أخرجه أبو داود (4607) وغيره، وصححه الألباني في "المشكاة"(165).
(4)
أخرجه الترمذي (3662)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1233).
إذن؛ نحن نأخذ بما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما صح، وقد ورد عنه أثران؛ الأول: صحيح، والثاني: فيه انقطاع؛ فما روي عن الصحابة في ذلك يوقف عنده.
* قوله: (أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالآخَرُ مُفَسِّرٌ).
إذن الأثران اللذان وردا عن عمر رضي الله عنه كما يقول المؤلف: (أحدهما: عام) يعني: مطلق، (والآخر: مفسِّر)؛ أي: مقيد للأول. فبأيهما نأخذ؟ هل نأخذ بالعام أو نأخذ بالمفسر؟
* قوله: (فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى العَامِّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى المُفَسِّرِ، فَأَمَّا العَامُّ فَمَا رَوَاهُ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: "أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ أَنَّ الأَهِلَّةَ بَعْضَهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الهِلَالَ نَهَارًا، فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالأَمْسِ").
وهذا الأثر رواه البيهقي في "السنن الكبرى"
(1)
وغيره
(2)
، وهو أثر صحيح.
(خانقين): بلدة من بلاد العراق قريبة من بغداد
(3)
.
في نفس الرواية التي جاء بها المؤلف جاءت رواية أُخرى في البيهقي بزيادة: "فإذا رأيتموه أول النهار"
(4)
، بدل "نهارًا"، فقيدت بأول النهار.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 358).
(2)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 123).
(3)
يُنظر: "معجم البلدان"، للحموي (2/ 340)؛ حيث قال:"خانِقِين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد، بينها وبين قصر شيرين ستَّة فراسخ لمن يريد الجبال، ومن قصر شيرين إلى حلوان ستة فراسخ".
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 359) وفيه: ". . . فإذا رأيتم الهلال من أول النهار فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس".
* قوله: (وَأَمَّا الخَاصُّ: فَمَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْهُ: "أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا رَأَوُا الهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَفْطَرُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَلُومُهُمْ وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلَالَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَفْطِرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا تُفْطِرُوا")
(1)
.
لكن الأول -كما قلنا- صحيح وهو حجة للجمهور، والثاني ضعيف.
ولا شكَّ أن الراجح في ذلك هو مذهب جماهير العلماء، وأنه لا يختلف في أول النهار وآخره، وإنما يكون لليوم الذي يليه.
* قوله: (قَالَ القَاضِي).
ويقصد به المؤلف نفسه، فهو يلقب نفسه بـ (القاضي).
* قوله: (الَّذِي يَقْتَضِي القِيَاسُ وَالتَّجْرِبَةُ أَنَّ القَمَرَ لَا يُرَى وَالشَّمْسُ بَعْدُ لَمْ تَغِبْ إِلَّا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ قَوْسِ الرُّؤْيَةِ).
المؤلف من العلماء السابقين الذين لهم دراسة في هذا المجال، ومن علماء الشريعة من عُنِي بهذا الأمر، فمنهم مَن درس إلى جانب العلوم الإسلامية علم الطب، ومنهم مَن درس علم الفلك، ومنهم مَن درس علم الحساب، وغير ذلك من العلوم، ويظهر ذلك جليًّا في كتب ابن القيم رحمه الله.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 359) عن الثوري، عن مغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، قال:"كتب عمر إلى عتبة بن فرقد: إذا رأيتم الهلال نهارًا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذأ رأيتموه بعدما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تصوموا". قال البيهقي: "هكذا رواه إبراهيم النخعي منقطعًا، وحديث أبي وائل أصح من ذلك".
* قوله: (وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي الكِبَرِ وَالصِّغَرِ، فَبَعِيدٌ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الكِبَرِ أَنْ يُرَى وَالشَّمْسُ بَعْدُ لَمْ تَغِبْ، وَلَكِنَّ المُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ كَمَا قُلْنَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا المُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَغِيبُ الشَّمْسِ أَوْ لَا مَغِيبُهَا).
اللَّه سبحانه وتعالى قد يسَّر على هذه الأمة، وقال سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛ فلو قدر أن المسلمين فاتهم اليوم الأول من رمضان فلم يصوموا إلا ثماني وعشرين؛ فإنهم يقضون ذلك اليوم ولا إثم عليهم في ذلك، كالحال بالنسبة للحائض والنفساء، فإنهما تفطران وتقضيان ولا شيء عليهما في ذلك
(1)
، وكذلك الحامل والمرضع إذا خافتَا على أنفسهما فإنهما تفطران وتقضيان ولا شيء عليهما
(2)
، وإذا خافتا على
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 103)؛ حيث قال:"أجمعوا على أن عليها قضاء ما تركت من الصوم في أيام حيضتها".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 336)؛ حيث قال:" (وللحامل والمرضع إن خافتا على الولد أو النفس)؛ أي: لهما الفطر، وهو معطوف على قوله في أول الفصل: "لمن خاف زيادة المرض الفطر" لما روي عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه عن وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم". ولأنهما يلحقهما الحرج بالصوم فيشرع الإفطار في حقهما كالمسافر والمريض". وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 422).
مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 340)؛ حيث قال:"والحامل كالمريض تفطر وتقضي، ولو أطعمت مع ذلك كان أحسن؛ وذلك إذا خشيت على نفسها أو على من ما في بطنها ولم تطق الصوم، أو المرضع إذا خافت على ولدها فإنها تفطر وتقضي الأيام التي أفطرتها وتطعم عن كل يوم مدًّا لمسكين مع القضاء وهو أعدل الأقاويل في ذلك إن شاء اللَّه". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 261).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 174)؛ حيث قال: " (وأما الحامل والمرضع) فيجوز لهما الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا فتعبيره بالولد أولى من تعبير التنبيه بولديهما، وسواء أكانت مستأجرة أم لا، ويجب الإفطار إن خافت هلاك الولد، وكذا يجب على =
ولديهما ففيه خلاف بين العلماء: فمنهم من يرى أنهما يقضيان وعليهما الكفارة، ومنهم من يرى الاقتصار على القضاء
(1)
.
= المستأجرة كما صححه في "الروضة" لتمام العقد، وإن لم تخف هلاك الولد، وأما القضاء والفدية (فإن أفطرتا خوفًا) من حصول ضرر بالصوم كالضرر الحاصل للمريض (على نفسهما)، والأولى أنفسهما ولو مع الولد (وجب القضاء بلا فدية) كالمريض".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 312 - 313)؛ حيث قال:" (والحامل والمرضع إذا خافتا الضرر على أنفسهما) أبيح لهما الفطر كالمريض (أو) خافتا الضرر على (ولديهما أبيح لهما الفطر)؛ لأن خوفهما خوف على آدمي، أشبه خوفهما على أنفسهما. (وكره صومهما) كالمريض، (ويجزئ) صومهما (إن فعلتا)؛ أي: صامتا كالمريض والمسافر، (وإن أفطرتا قضتا) ما أفطرتاه كالمريض (ولا إطعام) على أحد (إن خافتا على أنفسهما كمريض) يضره الصوم فإنه يقضي من غير إطعام".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 355)؛ حيث قال:"وقوله: (فيما إذا خافت على الولد. . . إلخ؛ يعني: إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها لا تجب الفدية بالاتفاق، وإذا خافت على ولدها فأفطرت وجب القضاء والفدية على أصح أقواله عندهم (هو يعتبره بالشيخ الفاني) فإن الفطر حصل بسبب نفس عاجزة عن الصوم خلقة لا علة فتجب الفدية كفطر الشيخ الفاني، ولأن فيه منفعة نفسها وولدها، فبالنظر إلى نفسها يجب القضاء وبالنظر إلى منفعة ولدها تجب الفدية".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 536)؛ حيث قال:" (خافتا) بالصوم (على ولديهما) فيجوز فطرهما إن خافتا عليه المرض أو زيادته، ويجب إن خافتا هلاكًا أو شديدَ أذًى، وأما خوفهما على أنفسهما فهو داخل عموم قوله: "وبمرض. . . " إلخ؛ لأن الحمل مرض والرضاع في حكمه؛ ولذا كانت الحامل لا إطعام عليها بخلاف المرضع".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 174)؛ حيث قال:"فإن قيل: إذا خافتا على أنفسهما مع ولديهما فهو فطر ارتفق به شخصان، فكان ينبغي الفدية قياسًا على ما سيأتي. أجيب بأن الآية وردت في عدم الفدية فيما إذا أفطرتا خوفًا على أنفسهما، فلا فرق بين أن يكون الخوف مع غيرهما أو لا، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} إلى آخرها (أو) خافتا (على الولد) وحده بأن تخاف الحامل من إسقاطه أو المرضع بأن يقل اللبن فيهلك الولد (لزمتهما) من مالهما مع القضاء (الفدية في الأظهر) وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين". =
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي حُصُولِ العِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ: فَإِنَّ لَهُ طَرِيقَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: الحِسُّ. وَالآخَرُ: الخَبَرُ. فَأَمَّا طَرِيقُ الحِسِّ فَإِنَّ العُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَبْصَرَ هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، إِلَّا عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَصُومُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ
(1)
).
المؤلف يريد أن يبين لنا ما هي الطريقة التي نعرف بها الرؤية؛ فذكر أنَّ لها طريقين:
الطريق الأول: هو الحِسُّ، يعني: أن تعرف بأحد الحواس، واللَّه سبحانه وتعالى قد ركَّب في جسم الإنسان خمسَ حواس: حاسة النظر التي تكون بالعين، والسمع التي تكون بالأذن، والشم التي تكون بالأنف، واللمس التي تكون باليد، والذوق التي تكون باللسان؛ هذه حواس خمسة منها الحاسة التي تدرك بها الرؤية وهي العين.
إذن؛ الحس أن يرى الهلال، فهل القصد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته": أنه لا بدَّ أن يراه كل إنسان فيصوم؟ لا؛ لأن هذا غير ممكن.
أما قول المؤلف في دعوى الإجماع: فهذه المقولة غير سليمة؛ لأنَّ هذا الذي حكاه إجماعًا ليس إجماعًا في الواقع؛ لأنَّه لم يخالف في هذا عطاء وحده كما ذكر المؤلف، وإنما خالف فيه مع عطاء إسحاق بن
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 313)؛ حيث قال: " (إن خافتا على ولديهما) فقط (أطعمتا مع القضاء)؛ لأنه كالتكملة له (عن كل يوم مسكينًا ما يجزئ في الكفارة).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 227)؛ حيث قال:"ولا أعلم خلافًا في شهر رمضان إن رأى هلاله يلزمه الصوم إلا عطاء بن أبي رباح؛ فإنه قال: لا يصوم وحده ولا يفطر وحده وإن رآه".
راهويه
(1)
من العلماء وممن عاصر الإمام أحمد ومن أقرانه، وخالف في ذلك أيضًا من التابعين ابن سيرين، وخالف فيه أيضًا أبو ثور، وهي رواية عن الإمام أحمد
(2)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ بُفْطِرُ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ).
(1)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (3/ 1203)؛ حيث قال:"من رأى هلال رمضان وحده (يصوم) ومن رأى هلال شوال وحده (يفطر) قال: يصوم ولا يفطر. قال إسحاق: لا يصوم ولا يفطر؛ لأن الصوم مع الجماعة".
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 163)؛ حيث قال:"وقد روى حنبل عن أحمد: لا يصوم إلا في جماعة الناس. وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين؛ لأنه يوم محكوم به من شعبان، فأشبه التاسع والعشرين".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 512)؛ حيث قال:" (ولا يفطر) ظاهرًا بأكل أو شرب أو جماع (منفرد بشوال)؛ أي: برؤيته أي يحرم فطره (ولو أمن الظهور)؛ أي: الاطلاع عليه خوفًا من التهمة بالفسق، وأما فطره بالنية فواجب؛ لأنه يوم عيد فإن أفطر ظاهرًا وعظ وشدد عليه في الوعظ إن كان ظاهر الصلاح وإلا عزر (إلا بمبيح) للفطر ظاهرًا كسفر وحيض؛ لأن له أن يعتذر بأنه إنما أفطر لذلك".
(4)
يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (4/ 31)؛ حيث قال:" (ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطًا) ش: لاحتمال كون ذلك اليوم من رمضان وتفرده بالنظر لا يخلو عن علة م: (وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب) ش: أي: الاحتياط في إيجاب الصوم عليه، وفي "خزانه الأكمل": وفي هلال شوال وحده لا يأكل ولا يروى أيضًا. وفي "المرغيناني" رأى هلال شوال وحده لا يفطر لمكان الاشتباه، وقيل: الكل سواء كما قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أفطر لا خلاف أن لا كفارة عليه".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 474)؛ حيث قال:" (ومن رآه)؛ أي: الهلال (وحده لشوال لم يفطر) لحديث: "الفطر يوم يفطرون والأضحى يوم يضحون". رواه أبو داود وابن ماجه، وللترمذي معناه عن عائشة وقال: حسن صحيح غريب، وهو وإن اعتقده من شوال يقينًا فلا يثبت به اليقين في نفس الأمر، لجواز أنه خيِّل إليه، فينبغي أن يتهم في رؤيته احتياطًا للصوم وموافقة للجماعة، والمنفرد بمفازة يبني على يقين رؤيته؛ لأنه لا يتيقن مخالفة الجماعة، ذكره المجد".
جماهير العلماء: ذهبوا إلى أنَّ الإنسان إذا رأى الهلال وحده، وفصَّلوا القول في ذلك، فلا فرق بين أن يعلم بذلك القاضي أو الوالي أو لم يعلمه، سواء شهد عندهما أو لم يشهد، أخذ بقوله أو لم يؤخذ، فإنه في هذه الحالة يلزمه الصيام.
ولا ينبغي أن يظهر ذلك للناس ما داموا لم يصوموا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون"
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْطِرُ
(2)
. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ).
الخلاف كله يدور حول قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا".
فإذا رآه الإنسان هل له أن يفطر أو ليس له ذلك، إنما هو مرتبط بالجماعة؟ هذا هو سر الخلاف هنا.
"إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا"، هل مجرد رؤية واحدة إذا رأى الإنسان ولم يؤخذ برأيه أو حتى لم يبلغ، يفطر أو لا؟
جملة: (وهذا لا معنى له) هل هي تعود إلى كلام الجمهور، أو تعود إلى كلام الشافعي؟
(1)
أخرجه الترمذي (697) وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(905).
(2)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (1/ 330)؛ حيث قال:"ويفطر لرؤية هلال شوال سرًّا؛ لأنه إذا أظهر الفطر عرَّض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان".
وينظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 426)؛ حيث قال:" (ومتى رأى شوالًا)؛ أي: هلاله (وحده) لزمه الفطر عملًا بمقتضى رؤيته وللخبر المذكور، (فإن شهد) برؤيته (ثم أفطر لم يعزر) وإن ردت شهادته لعدم التهمة حال الشهادة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 280)؛ حيث قال:"قال الشافعي يفطر الذي رأى هلال شوال وحده. . . وهو قول أبي ثور".
الفقيهُ عندما يدقق النظر في كلام ابن رشد ويغوص في أعماقه يجد أنها من واقع كلامه وأنها ترجع إلى أبعد مذكور، وهذا خلاف المعهود؛ لأنه دائمًا الإشارة تكون إلى أقرب مذكور
(1)
؛ ولذا تجد في ثنايا كلام ابن رشد أنه يميل إلى مذهب الشافعي.
ثم أيضًا قوله: (وبه قال الشافعي)، مفهومه أن الشافعي انفرد بهذا القول، والشافعية لا يوافقون على هذا؛ لأنَّ هذا القول قال به غيرهم، وإن خالفهم الأئمة الثلاثة.
بل تجد أن بعضهم يقول: وبه قال أكثر العلماء، وممن نص على ذلك النووي. لكن هل هذا مسلم؟
نحن دائمًا نعتبر الكفة التي فيها الأئمة الثلاثة هي الأكثر، والتي فيها إمام هي الأقل، وعند التساوي ننظر أيضًا إلى مَن مع هؤلاء ومَن مع هؤلاء.
فلا شكَّ أنَّ الأفضل هم الجمهور في هذه المسألة، لكن لم ينفرد الشافعي في هذه المسألة، وإنما وافقه جماعة من العلماء.
فالذي يظهر لي أن المؤلف يميل إلى مذهب الشافعي لا إلى رأي الجمهور.
* قوله: (فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَدْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ لِلرُّؤْيَةِ، فَالرُّؤْيَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالحِسِّ، وَلَوْلَا الإِجْمَاعُ عَلَى الصِّيَامِ بِالخَبَرِ عَنِ الرُّؤيَةِ لَبَعُدَ وُجُوبُ الصِّيَامِ بِالخَبَرِ لِظَاهِرِ هَذَا الحَدِيثِ).
فهل القصد العموم، أو القصد أنَّ الإنسان إذا رأى دخول الشهر يصوم وحده ولو لم يصم الناس، وإذا رأى خروجه أفطر وإن لم يفطر الناس؟
(1)
يُنظر: "جامع الدروس العربية"، للغلاييني (1/ 125)؛ حيث قال:"والضمير يعود إلى أقرب مذكور في الكلام، ما لم يكن الأقرب مضافًا إليه، فيعود إلى المضاف. وقد يعود إلى المضاف إليه، إن كان هناكَ ما يعيِّنه كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ".
* قوله: (وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالفِطْرِ لِمَكَانِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ أَلَّا يَدَّعِيَ الفُسَّاقُ أَنَّهُمْ رَأَوُا الهِلَالَ فَيُفْطِرُونَ وَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَرَوْهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَافَ التُّهْمَةَ، أَمْسَكَ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاعْتَقَدَ الفِطْرَ).
ومن المسائل التي عُني بها علماء الشريعة ما يعرف بسد الذرائع
(1)
؛ وهو باب واسع وعظيم في الفقه الإسلامي وفي أصوله، وكثيرًا ما يحتاج إليه الفقهاء.
أيضًا دائمًا درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
(2)
؛ فالإنسان مطالب بأن يؤدي المصالح، لكن قد يترتب عليها مفاسد فيدعها.
فسد الذرائع مطلوب في الشريعة الإسلامية لما يترتب عليه من أحكام، وقد يأتي الإنسان فيتخذ هذا الأمر وسيلة للوصول إلى تحقيق غاية، فيقول العلماء: الوسائل لها أحكام الغايات
(3)
.
(1)
سد الذرائع معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور. انظر: "الفروق"، للقرافي (2/ 32).
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 105)؛ حيث قال:"درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ويستثنى مسائل: يرجع حاصل مجموعها إلى أن المصلحة إذا عظم وقوعها وكان وقع المفسدة. كانت المصلحة أولى بالاعتبار".
وينظر: "التقرير والتحبير"، لابن أمير حاج (3/ 21)؛ حيث قال:"اعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح؛ بدليل أنه يجب دفع كل مفسدة ولا يجب جلب كل مصلحة، والكراهة وإن كانت لدفع مفسدة إلا أن في العمل بها تجويزًا للفعل، وفيه إبطال المحرم بخلاف العكس فكان التحريم أولى".
(3)
يُنظر: "الفوائد في اختصار المقاصد"، للعز بن عبد السلام (ص 43)؛ حيث قال:"وللوسائل أحكام المقاصد من الندب والإيجاب والتحريم والكراهة والإباحة، ورب وسيلة أفضل من مقصودها كالمعارف والأحوال وبعض الطاعات فإنها أفضل من ثوابها والإعانة على المباح أفضل من المباح لأن الإعانة عليه موجبة لثواب الآخرة وهو خير وأبقى من منافع المباح".
فهنا نهي الإنسان عن أن يفطر تجنبًا للتهمة؛ لأن الإنسان ربما لو رأى الهلال فأفطر يُتَّهم من الناس، يقولون عنه: إن هذا رجل متلاعب بأحكام اللَّه عز وجل، هذا إنسان متساهل لا يصوم، ولا يعطي الإسلام حقه، والرسول صلى الله عليه وسلم حضَّ على تجنب الشبهات، وقال:"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام"
(1)
.
وفي قصته مع صفية عندما مرَّ اثنان من الصحابة فأسرعا، فقال:"على رسلكما إنها صفية"، فاستغربا من ذلك كيف تقول ذلك يا رسول اللَّه؟ قال:"خشيت أن يوقع الشيطان في نفوسكما"
(2)
؛ فأراد صلى الله عليه وسلم إغلاق هذا الباب، حتى لا يعطي فرصة للشيطان، والشيطان حريص دائمًا على أن يفسد على الإنسان كل شيء، قال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83].
* قوله: (وَشَذَّ مَالِكٌ فَقَالَ: مَنْ أَفْطَرَ وَقَدْ رَأَى الهِلَالَ وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ القَضَاءُ وَالكَفَّارَةُ)
(3)
.
هناك قضيتان: قضية القضاء وقضية الكفارة، فهنا القضاء لأنه يرى أنه ترك يومًا حتى وإن رأى، وعليه الكفارة لأنه خالف غيره.
(1)
أخرجه مسلم (1599/ 107) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (2175/ 24) عن صفية بنت حيي، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"على رسلكما، إنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان اللَّه يا رسول اللَّه! قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا -أو قال: شيئًا-".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 387)؛ حيث قال:"من رأى هلال رمضان وحده وسواء كان عدلًا أو مرجوًّا أو نحوهما؛ فإنه يجب عليه الصوم فإن أفطر متعمدًا أو منتهكًا لحرمة الشهر فعليه القضاء والكفارة، وإن أفطر متأولًا فظن أنه لا يلزمه الصوم برؤيته منفردًا ففي وجوب الكفارة تأويلان، والقول بوجوب الكفارة هو المشهور؛ ولذلك جزم به المصنف بعد ذلك لما ذكر التأويل البعيد".
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ القَضَاءُ فَقَطْ)
(1)
.
لأنَّ هناك طريقين لمعرفة دخول رمضان؛ إما الحس ويحصل بالرؤية: "صوموا لرؤيته"، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كما في الآية. والطريق الآخر: طريق الإخبار. لكن هل نكتفي بواحد أو لا بدَّ من اثنين؟
* قوله: (وَأَمَّا طَرِيقُ الخَبَرِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ المُخْبِرِينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِمْ عَنِ الرُّؤْيَةِ فِي صِفَتِهِمْ).
يعني: هل أيُّ إنسان يخبر أو لا بدَّ أن يكون عدلًا؛ لأن هذه شهادة والشهادة تشترط فيها العدالة؟
نعم، لا بدَّ من العدالة؛ لأن الفاسق لا ينظر إليه؛ لأنه متهم في دينه فكيف يقبل بأمر من الأُمور التي تترتب عليها العبادات.
* قوله: (فَأَمَّا مَالِكٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ وَلَا يُفْطَرَ بِأَقَلَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ)
(2)
.
هذا هو مذهب مالك: (بشهادة رجلين عدلين).
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 118)؛ حيث قال:"ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقد رأى ظاهرًا؛ وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 234 - 235)؛ حيث قال:"أو برؤية عدلين (ش) من إضافة المصدر لفاعله وحذف مفعوله؛ أي: أو برؤية عدلين هلاله، وهما الذاكران المكلفان الحران المسلمان، فلا يصام برؤية عدل، ولا عدل وامرأة، ولا عدل وامرأتين خلافًا لزاعميها، ولا فرق بين رمضان وغيره من المواسم، وعرفة وعاشوراء، ونصف شعبان وكل ما يتعلَّق برؤيته حكم شرعي: كحلول دين أو إكمال عدة". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 382).
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ المُزَنِيِّ: إِنَّهُ يُصَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَلَا يُفْطَرُ بِأَقَلَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ)
(1)
.
وهذا هو مذهب أحمد
(2)
؛ إذن الشافعي وأحمد متفقان في هذا.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً
(3)
قُبِلَ وَاحِدٌ)
(4)
.
فإن كان في السماء غيم والمسألة غير واضحة؛ ففي هذه الحالة يقبل واحد؛ لأننا في حاجة إلى أن نعرف، لكن إن لم يكن غيم فالناس يتساوون؛ بمعنى: لو وجد في السماء قتر فلا يمكن أن يراه إلا مَن عنده قوة في الإبصار، لكن إذا كانت السماء مصحية، فلا بدَّ من الاستفاضة في
(1)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 154)؛ حيث قال: "ولا أقبل على رؤية الفطر إلا عدلين (قال المزني): هذا بعض لأحد قوليه ألا يقبل في الصوم إلا عدلين (قال): حدثنا إبراهيم قال: حدثنا الربيع قال الشافعي: لا يجوز أن يصام بشهادة رجل واحد ولا يجوز أن يصام إلا بشاهدين؛ ولأنه الاحتياط قال: وإن صحَّا قبل الزوال أفطر وصلى بهم الإمام صلاة العيد، وإن كان بعد الزوال فلا صلاة في يومه وأحب إليَّ أن يصلي العيد من الغد لما ذكر فيه وإن لم يكن ثابتًا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 304)؛ حيث قال:" (ويقبل فيه)؛ أي: في هلال رمضان (قول عدل واحد) نص عليه، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صوم الناس بقول ابن عمر. رواه أبو داود والحاكم وقال على شرط مسلم. . . ولأنه خبر ديني وهو أحوط، ولا تهمة فيه بخلاف آخر الشهر، ولاختلاف حال الرائي والمرئي؛ ولهذا لو حكم حاكم بشهادة واحد عمل بها وجوبًا. . . (ولا يقبل في بقية الشهور) كشوال وغيره (إلا رجلان عدلان) بلفظ الشهادة؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبًا وليس بمال، ولا يقصد به المال أشبه القصاص، وإنما ترك ذلك في رمضان احتياطًا للعبادة".
(3)
السماء مغيمة بكسر الغين ويروى بفتحها وفتح الياء وبكسر الياء أيضًا: إذا كان بها غمام. انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (2/ 142).
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 80)؛ حيث قال:"وروى الحسن عن أبي حنيفة -رحمهما اللَّه تعالى-: أنه يقبل فيه شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى-، وقال في قول آخر: تقبل فيه شهادة اثنين".
الشهادة؛ لأن السماء مفتحة ليست مغلقة، فالناس كلهم ينظرون، وغالب الناس أبصارهم سليمة.
* قوله: (وَإِنْ كَانَتْ صَاحِيَةً
(1)
بِمِصْرٍ كَبِيرٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا شَهَادَةُ الجَمِّ الغَفِيرِ
(2)
. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِينَ إِلَّا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً)
(3)
.
فهناك من العلماء من يقول: بقبول شهادة الواحد العدل في دخول رمضان.
ومنهم من يقول: لا بد من شهادة اثنين.
ومنهم: من يشترط الاستفاضة؛ أي: العدد الغفير، إذا كانت السماء مصحيةً وتساوى الناس في النظر إليها.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الفِطْرِ إِلَّا اثْنَانِ، إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالفِطْرِ)
(4)
.
أبو ثور رحمه الله لا يفرق بين رؤية الهلال دخولًا وخروجًا؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، لكن جاءت أحاديث فيها التفريق بين الدخول وبين الخروج.
(1)
الصحو: ذهاب الغيم. وأصحت السماء؛ أي: انقشع عنها الغيم، فهي مصحية. انظر:"الصحاح"، للجوهري (6/ 2399).
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 80)؛ حيث قال:"فإن كانت السماء مصحية ورأى الناس الهلال صاموا وإن شهد واحد برؤية الهلال لا تقبل شهادته ما لم تشهد جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم، في ظاهر الرواية ولم يقدر في ذلك تقديرًا".
(3)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(1/ 334)؛ حيث قال: "فإن كانت السماء مغيمة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنه يقبل في رؤية الهلال رجلان عدلان في مصر جامع كان ذلك أو غير مصر".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 228)؛ حيث قال:"واتفقوا أنه لا يقبل في الصوم والفطر شهادة واحد، إلا أبا ثور".
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ، وَتَرَدُّدُ الخَبَرِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ العَمَلِ بِالأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا العَدَدُ).
وهذا الذي أشرت إليه: هل هو من باب الشهادة أو من باب الرواية؟ فإن عددناه راويًا فالأقرب أن نقتصر على واحد، وإن قلنا: هو شاهد فالأولى أنه لا بدَّ من اثنين قياسًا على الحقوق قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].
وقضية شهادة النساء في هذا المقام: أكثر العلماء يردونها ولا يعتبرونها؛ لأنهم يرون أن هذا من اختصاص الرجال.
* قوله: (أَمَّا الآثَارُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي اليَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
* قوله: (ما أخرجه أبو داود) غير صحيح؛ لأن الذي رواه أبو داود في قصة أمير مكة
(1)
. لكن هذا رواه الإمام أحمد
(2)
، والنسائي
(3)
، والذي سيأتي به المؤلف إنما هو نص النسائي في "سننه".
(1)
أخرجه أبو داود (2338) عن جديلة قيس: "أن أمير مكة خطب، ثم قال: عهد إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، فسألت الحسين بن الحارث من أمير مكة؟ قال: لا أدري، ثم لقيني بعد فقال: هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب، ثم قال الأمير: إن فيكم مَن هو أعلم باللَّه ورسوله مني وشهد هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد اللَّه بن عمر، وصدق كان أعلم باللَّه منه، فقال: بذلك أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(18895)، وقال الأرناؤوط:"صحيح لغيره".
(3)
أخرجه النسائي (2116)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(909).
وما أحسن هذه المجالسة! وهذه فضيلة لعبد الرحمن بن زيد أن يكون ممن جالس أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَسَأَلْتُهُمْ).
وهذا هو شأن الإنسان المستقيم الذي يريد الحق أن يسأل، ولا سيما إن يسأل أهل العلم، فهؤلاء هم أعلم الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَكُلُّهُمْ حَدَّثُونِي).
أي: كل الذين سألهم حدثوه؛ إذن التقت كلمة الذين جالسهم وسألهم، وكلهم حدثوه بما يأتي.
* قوله: (إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَتِمُّوا ثَلَاثِينَ).
وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
* قوله: (فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ، فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا").
وهو أثر صحيح أخرجه أحمد، والنسائي.
وأيضًا رواية أبي داود قريبة من ذلك، فنجد فيها:"عهد إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضًا ذكر الشاهدين العدلين؛ فهي ملتقية مع"، هذا؛ لكن كلامنا أن هذه ليست رواية أبي داود؛ لأن أبا داود رحمه الله لم يصرح بذكر عبد الرحمن بن زيد.
وهذه الزيادة هي التي نريدها في هذا المقام. وجاء في بعض الروايات: "فإن شهد شاهدان ذوا عدل"، فوصَفَ الشاهدين بالعدالة، ولا شكَّ أنَّها مطلوبة في هذا الباب.
* قوله: (وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبْصَرْتُ الهِلَالَ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ، فَلْيَصُومُوا غَدًا"، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ).
أيضًا هناك أثر عبد اللَّه بن عمر، ويبدو أن المؤلف لم يعرض له؛ فقد روى أبو داود بإسناد صحيح أنه قال:"تراءى الناس الهلال زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو تراءى الناس الهلال ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيننا، فقلت: يا رسول اللَّه، إني رأيت الهلال. فصام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يصوموا".
إذن؛ هذا فيه حد على أنه إذا كان في نهاية الشهر فعلى المؤمنين أن يحتسبوا وأن يتحروا وأن يسعوا في معرفة الهلال، فهذا عبد اللَّه بن عمر أحد الذين تراؤوا الهلال، أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنه رآه. وهو رضي الله عنه صحابي جليل، والصحابة كلهم عدول وكلهم ثقات
(1)
، فقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم روايته وحده، قال: فصام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصام الناس.
وفي حديث ابن عباس الذي رواه أصحاب السنن
(2)
وغيرهم
(3)
: أن أعرابيًّا جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إني شهدت الليلة الهلالَ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني عبد اللَّه ورسوله؟ " قال: نعم، قال:"يا بلال، فأذن فليصم الناس غدًا".
إذن؛ جاء أعرابي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والرسول لا يعرفه. وكثير ما يقول رسول اللَّه: "وأني عبد اللَّه ورسوله"، وهذه مكانة عظيمة شرفه اللَّه بها:
(1)
يُنظر: "اختصار علوم الحديث"، لابن كثير (ص 181)؛ حيث قال:"والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى اللَّه عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند اللَّه من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل". وانظر: "تدريب الراوي"، للسيوطي (2/ 675).
(2)
أخرجه أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي (2113)، وابن ماجه (1652)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(907).
(3)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4/ 407)، وابن خزيمة (3/ 208).
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
وهذا ردٌّ لأولئك الذين يغلون في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويتجاوزون به قدره صلى الله عليه وسلم ويرفعونه إلى مكانة غير مكانته، فله المكانة العظمى، وهي مسألةٌ ليست محل خلاف، لكن أيضًا لا ينبغي أن يتجاوز برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا بغيره من الأنبياء مكانة المخلوقين؛ فهم عبيد للَّه وخلق من خلق اللَّه فضلهم اللَّه سبحانه وتعالى على الناس وخصَّهم برسالته وأمَّنهم على هذه الرسالة، فكان لهم الفضل العظيم على خلق اللَّه جميعًا؛ لأنهم كانوا سببًا -بعد اللَّه- في هداية من اهتدى من هذه الأمم، فصلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
إذن؛ رسول اللَّه يتلقى أولئك الأعراب، بل إنَّ الصحابةَ لما شقت عليهم الأسئلة ونهوا عن ذلك، لما جاء الحديث الذي يتعلَّق بكثرة السؤال والنهي عنه وإن اللَّه سكت عن أشياء فلا تسألوا عنها
(1)
، كانوا يتحرجون، فكان الصحابة يُسَرُّونَ إذا جاء أحد الأعراب ليسأل
(2)
، وربما يعطونه شيئًا ليسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث عند أصحاب السنن والدارقطني
(3)
والبيهقي وغير هؤلاء، وهو حديث صحيح
(4)
، وهو نصٌّ في صيام رمضان برؤية رجل واحد.
(1)
معنى حديث أخرجه الدارقطني (5/ 325) عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح"(197).
(2)
معنى حديث أخرجه مسلم (12) عن أنس بن مالك، قال:"نهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن اللَّه أرسلك. . . " الحديث.
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 102).
(4)
صححه ابن حبان في "صحيحه"(8/ 229)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 437) =
* قوله: (قَالَ: وَفِي إِسْنَادِهِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مُرْسَلًا).
لكنه روي متصلًا أيضًا، والرواية إذا كانت من الثقة فإنها تقبل، والذين رووه متصلًا هم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة
(1)
.
إذن هو حديث صحيحِ صالح للاحتجاج به. فقوله روي مرسلًا وروي من طريق آخر صحيح متصلًا لا يقدح فيه، ويؤيده حديث عبد اللَّه بن عمر.
* قوله: (وَمِنْهَا حَدِيثُ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ: خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَامَ أَعْرَابِيَّانِ، فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَأَهَلَّ الهِلَالُ أَمْسِ عَشِيَّةً، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا، وَأَنْ يَعُودُوا إِلَى المُصَلَّى"
(2)
).
وفي بعض الروايات: "فقدم أعرابيان".
وهذا أيضًا من أدلة الذين يقولون بأنه لا يخرج إلا بشهادة عدلين.
= وقال: "صحيح الإسناد متداول بين الفقهاء، ولم يخرجاه".
والراجح ضعفه. قال الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 435): "ورواه النسائي مرسلًا ومسندًا، وذكر أن المرسل أولى بالصواب، وأن سماكًا إذا تفرد بشيء لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن". وضعفه الألباني في "ضعيف سنن النسائي".
(1)
يُنظر: "اختصار علوم الحديث"، لابن كثير (ص 61)؛ حيث قال:"إذا تفرَّد الراوي بزيادة في الحديث عن بقية الرواة عن شيخ لهم، وهذا الذي يعبر عنه بزيادة الثقة، فهل هي مقبولة أم لا؟ فيه خلافٌ مشهور: فحكى الخطيب عن أكثر الفقهاء قبولها، وردها أكثر المحدثين. ومن الناس مَن قال: إن اتحد مجلس السماع لم تقبل، وإن تعدد قُبلت. ومنهم من قال: تُقبل الزيادة إذا كانت من غير الراوي، بخلاف ما إذا نشط فرواها تارةً وأسقطها أُخرى. ومنهم من قال: إن كانت مخالفة في الحكم لما رواه الباقون لم تُقبل، وإلا قبلت، كما لو تفرد بالحديث كله، فإنه يقبل تفرده به إذا كان ثقة ضابطًا أو حافظًا. وقد حكى الخطيب على ذلك الإجماع".
(2)
أخرجه أبو داود (2339)، وقال الألباني:"إسناده صحيح". انظر: "صحيح أبي داود - الأم"(2027).
* قوله: (فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الآثَارِ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَمَذْهَبَ الجَمْعِ، فَالشَّافِعِيُّ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَلَى ظَاهِرِهِمَا؛ فَأَوْجَبَ الصَّوْمَ بشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَالفِطْرَ بِاثْنَيْنِ)
(1)
.
وعلماء الحديث لهم طرقٌ يسلكونها، ففيما يتعلَّق مثلًا بالنسخ فإنه لا يثبت النسخ إلا أن يعرف المتقدم من المتأخر، وأسْلمُ طريقة يسلكها الفقيه المحقِّقُ المدقِّقُ الذي يُعنَى بتحرير المسائل هو أن يحاول أن يجمع بين الأدلة، والجمع غير متعذر، فإذا أمكن الجمع فلا يرجع إلى غيره، والجمع يكون عندما تصبح الأدلة كلها صحيحة، ونقصد بذلك السنة، أما أدلة القرآن فهي مسلمة.
إذن؛ إذا صحت الأحاديث حينئذ ينظر إلى الجمع، فإذا تعذر الجمع ينتقل إلى الترجيح، والترجيح له عدة أسباب، ومن بين المرجحات: أن تكون دلالة الحديث هنا ظاهرة وهناك غير ظاهرة، أو أن يكون هذا في "الصحيحين" وهذا في غيرهما، أن تكون دلالة هذا الحديث صحيحة وذاك مختلف فيه. . . وهكذا.
إذن؛ قال الشافعي في هذه المسألة والإمام أحمد معه، فكأنه يتحدث عن الاثنين معًا.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 142)؛ حيث قال:" (عدلان) كغيره من الشهور. قال الإسنوي: وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ فإن المجتهد إذا كان له قولان وعلم المتأخر منهما كان مذهبه المتأخر ففي "الأم": قال الشافعي بعد: لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان. ونقل البلقيني مع هذا النص نصًّا آخر صيغته رجع الشافعي بعد، فقال: لا يصام إلا بشاهدين. ونقل الزركشي عن الصيمري أنه قال: إن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده أو شهادة ابن عمر قبل الواحد وإلا فلا يقبل أقل من اثنين. وقد صح كل منهما، وعندي أن مذهب الشافعي قبول الواحد، وإنما رجع إلى اثنين بالقياس لما لم يثبت عنده في المسألة سنة فإنه تمسك للواحد بأثر عن علي؛ ولهذا قال في "المختصر": ولو شهد برؤيته عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه".
* قوله: (جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) في قصة الأعرابي الذي رأى الهلال وحده، لما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مؤمن فأجاب كما في نص الحديث، فصام وأمر الناس بالصيام.
إذن؛ هذا نص في دخول شهر رمضان بشهادة رجل واحد، وهذا الدليل الأول.
(وحديث ربعي) في قصة الأعرابيين، وذاك جاء في خروج الشهر.
إذن الشافعية والحنابلة يقولون: هذا نص في المدعى، فهنا ثبت الدخول بشهادة عدل، وهنا ثبت الخروج بشهادة عدلين، وحملوا حديث عبد الرحمن بن زيد على الخروج لا الدخول.
* قوله: (وَمَالِكٌ رَجَّحَ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ لِمَكَانِ القِيَاسِ، أَعْنِي: تَشْبِيهَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ فِي الحُقُوقِ).
لأن القياس يعضده، والقياس على سائر الشهادات في الحقوق، فمعلوم أن الشهادات في الحقوق لا تثبت إلا بشهادة عدلين، فلا يكفي فيها واحد.
فالإمام مالك رحمه الله قد رجَّح حديث عبد الرحمن بن زيد لسببين:
أولًا: لأنه قال في آخره: "فإن شهد شاهدان عدلان"، وفي رواية:"شاهدان ذوا عدل فأفطروا وصوموا"، أو "فصوموا وأفطروا"، فجمع بين الإفطار والصوم ولم يفرق بينهما، وعلَّق ذلك بشاهدة اثنين، فدلَّ على أنه لا يصام ولا يفطر إلا بثبوت شهادة شاهدين عدلين
(1)
.
(1)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 427)؛ حيث قال:"ولا يقبل شهادة واحد على هلال رمضان؛ خلافًا للشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا"، ولأنها شهادة على رؤية هلال أصله هلال شوال، ولأن =
ثانيًا: القياس على سائر الحقوق، فإن المعروف في إثبات الحقوق وجود شاهدين.
لكن هذا فيما يتعلَّق بالحقوق المعروفة المشهورة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو ثَوْرٍ لَمْ يَرَ تَعَارُضًا بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ).
فأبو ثور لا يفرق عكس المالكية، والمالكية لا يفرقون بين الدخول والخروج، لكنْ لا بدَّ من شهادة اثنين، وأبو ثور
(1)
يكتفي بشهادة واحد في الدخول والخروج، ورأيه يعتبر منفردًا، لكنَّ ابن المنذر ذكر أن بعض أهل الحديث أيدوه ولم يذكر هؤلاء، وربما يكون معه غيره، لكنهم قلةٌ.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ).
إذن؛ الذي في حديث ربعي القضاء بشهادة رجلين في الإخبار بالخروج من رمضان؛ أي: في الفطر من رمضان.
* قوله: (وَفي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ).
وفي حديث الأعرابي الذي جاء عن طريق ابن عباس: أن الرسول أقامها بشهادة واحد، لكن حديث ابن عباس هذا نص في دخول الشهر،
= شهادة الواحد غير مقبولة بانفرادها اعتبارًا بسائر الأُصول، ولأن ذلك يؤدي إلى أن يفطر بشهادة واحد، ونفرض الكلام في أن طريقه الشهادة دون الإخبار، خلافًا للشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن شهد ذوا عدل فصوموا"؛ فثبت أنها شهادة؛ ولأنه حكم شرعي متعلق برؤية الهلال، فوجب أن يكون حكم الأخبار به حكم الشهادات، أصله هلال شوال وذي الحجة". وانظر:"الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (3/ 1093) وما بعدها".
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 113)؛ حيث قال:"وقال أبو ثور: وطائفة من أهل الحديث: تقبل شهادة الواحد في الصوم والفطر".
وذاك نص في خروجه، ومن هنا فرَّقَ الشافعية والحنابلة بينهما.
* قوله: (وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا).
فأبو ثور يرى أنه ما دام أن الرسول رأى ثبوت الشهر ودخوله بشهادة عدل، وأنه يخرج منه بشهادة اثنين، فهذا لا يدل على لزوم ذلك الأمر، بمعنى: أنه لا بدَّ من إثبات الخروج بشهادة اثنين والاقتصار في الدخول على واحد.
* قوله: (لَا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ، وَلَا أَنَّ القَضَاءَ الأَوَّلَ مُخْتَصٌّ بِالصَّوْمِ، وَالثَّانِيَ بِالفِطْرِ).
لكنَّ الواقع يخالف ذلك؛ فالأول نص في الصيام وفي دخول الشهر، ويظهر هذا جليًّا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"قم يا بلال فنادي فليصم الناس غدًا"، فهذا الكلام أثبت المقصود؛ لأن الحديث في أوَّله لم ينص على رؤية الهلال في الدخول أو الخروج.
* قوله: (فَإِنَّ القَوْلَ بِهَذَا إِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى تَوَهُّمِ التَّعَارُضِ، وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَلَّا يَكُونَ تَعَارُضٌ بَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا بِدَلِيلِ الخِطَابِ).
والمؤلف إنما عبَّر بقوله: (يُشْبه)؛ أي: يُحْتمل، ولم يقل:(لا تعارض)؛ لأنه لا تعارض بينهما عند التحقيق والنظر.
ودليل الخطاب يُعرفُ عندنا بمفهوم المُخالفة
(1)
؛ فحديث عبد اللَّه بن عباس نص على الاكتفاء بشهادة عدل في دخول رمضان، وحديث عبد الرحمن بن زيد أطلق:"فإن شهد شاهدان عدلان فصوموا وأفطروا"،
(1)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام"، للآمدي (3/ 69)؛ حيث قال:"مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويُسمَّى دليل الخطاب أيضًا". وانظر: "المستصفى"، للغزالي (ص 265).
فجمع بينهما؛ أي: في الدخول والخروج من رمضان، ونصَّ على الاثنين؛ فحديث عبد الرحمن بن زيد يدل بمنطوقه
(1)
على اشتراط اثنين، ويدل بمفهومه
(2)
على أنها لا تجوز الشهادة بغير اثنين.
* قوله: (وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذَا عَارَضَهُ النَّصُّ، فَقَدْ نَرَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ عَلَى شُذُوذِهِ هُوَ أَبْيَنُ).
قد سماه شاذًّا لأنه انفرد به، لكن المؤلف مع ذلك يقول: ومع أننا نرى أنه شاذ لأنه فارق الجماعة، لكننا نراه أبْيَنَ من حيث الاستدلال.
* قوله: (مَعَ أَنَّ تَشْبِيهَ الرَّائِي بِالرَّاوِي هُوَ أَمْثَلُ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالشَّاهِدِ).
يريد أن يقول: هل الأقرب شبهًا أن نشبه رائي الهلال بالشاهد الذي يشهد على أمر من الأُمور، أو نشبهه بالراوي الذي يروي الحديث؟
من المعلوم أن الرواية تثبت بشهادة عدل، وهذا أمر ثابت، لكنَّ الشهادة يشترط فيها اثنان في الحقوق، فالرائي هل هو أقرب شبهًا بالشاهد أو أقرب شبهًا بالراوي؟
فمن شبهه بالشاهد -وهم الجمهور وعندهم أدلة لا يحتاجون إلى ذلك- قالوا: هو أقرب لأنها شهادة؛ لأنه يرى الهلال ثم يأتي فيشهد ويثبت شهادته أمام القاضي.
الآخرون يقولون: هي ليست شهادة؛ لأن الشهادة دائمًا يكون لها مقابل، فأنت لكي تشهد على شيء لا بدَّ أن يكون هذا الأمر المقابل فيه مخالفة فتشهد على إثبات هذا الأمر، وهنا لا مخالفة، فلا يوجد أحد
(1)
يُنظر: "بيان المختصر"، لأبي القاسم الأصبهاني (2/ 430)؛ حيث قال:"المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق".
(2)
يُنظر: "بيان المختصر"، لأبي القاسم الأصبهاني (2/ 430)؛ حيث قال:"المفهوم: ما دل اللفظ عليه لا في محل النطق".
ينازعه؛ لأنه يقول: رأيت الهلال ولا يوجد منازعٌ له؛ إذن هي من قبيل الرواية. هذا هو كلام المؤلف.
* قوله: (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ العَدَدِ فِيهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ).
قضية الشهادة إمَّا أن ننظر إليها نظرة تعبدية فنقول: ما ورد في الشهادة إنما هو أمر تعبدي توقيفي لا يجوز الاجتهاد فيه فهذه شهادة، أو ليس أمرًا تعبديًّا، فمن الممكن أن نجعلها رواية وليست شهادة.
* قوله: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا).
(غير معللة)؛ أي: غير معقولة المعنى
(1)
، فلا ندرك كنهها، كما مرَّ بنا.
مثلًا: لماذا اشترط العلماء النية في الوضوء؟
لأدلة، منها حديث:"إنما الأعمال بالنيات"
(2)
. وبعضهم يقول: هي عبادة غير معقولة المعنى. وآخرون كالحنفية والثوري يقولون: عبادة معقولة المعنى؛ لأن النظافة مقصودة فيها، والجمهور يقولون: ليس المقصود بها النظافة فقط وإنما هي أمر تعبدي، بدليل أنَّ الإنسان إذا فقد الماء انتقل إلى التراب، والتراب لا ينظف الأعضاء وإنما يلوثها، وسمَّاه اللَّه تعالى طهورًا:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]
(3)
.
* قوله: (وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ العَدَدِ فِيهَا لِمَوْضِعِ التَّنَازُعِ
(1)
يُنظر: "قواعد الأحكام"، للعز بن عبد السلام (1/ 22)؛ حيث قال:"المشروعات؛ ضربان: أحدهما ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم الكلام عليها بالتفصيل في باب الوضوء.
الَّذِي فِي الحُقُوقِ وَالشُّبْهَةِ الَّتِي تَعْرِضُ مِنْ قِبَلِ قَوْلِ أَحَدِ الخَصْمَيْنِ، فَاشْتَرَطَ فِيهَا العَدَدَ).
كأن سائلًا يسأل: لماذا اشْتُرِطَ في إثبات الحقوق وجودُ شاهدَين؟
فيجيب المؤلف: اشترط ذلك محافظة على الحقوق؛ لأنه إذا شهد شاهدان غلب على ظنِّ القاضي الذي يحكم بالقضية بأن الحقَّ مع أحد الخصمين الذي جاء بالشهود، وإلا فلا يستطيع أن يقطعَ.
ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إليَّ ولعلَّ أحدكم يكونُ ألحنَ
(1)
بحجته من الآخر فأقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من نار فلا يأخذها أو فليدعها"
(2)
؛ أي: إن كان يخشى اللَّه فإن قُضِيَ له بحق أخيه فليدعه خوفًا وخشية من اللَّه، أما إذا كان لا يخشى اللَّه فهو حينئذ يتساهل.
ولذلك فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عدَّ شهادة الزور من الكبائر، وكان متكئًا ثم جلس وأخذ يكرِّرُها:"ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور"، حتى قال الصحابة: يا ليته سكت
(3)
؛ لأن فيها غمطًا للحق، وفيها ظلمٌ وتعدٍّ على الناس، تتسبب في أن تعطي للإنسان غير المستحق حقَّ الإنسان المستحق، فتنقل المال لغير صاحبه بغير حق، واللَّه تعالى يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
ولذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى عندما وصف عباده المتقين في سورة
(1)
ألحن: أي: أفطن لها. انظر: "الصحاح"، للجوهري (6/ 2194).
(2)
أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) عن أم سلمة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها".
(3)
أخرجه البخاري (2654)، ومسلم (87) عن أبيه رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين" وجلس وكان متكئًا فقال: "ألا وقول الزور"، قال: فما زال يكرِّرها حتى قلنا: ليته سكت.
الفرقان، قال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ذكر كثيرًا من صفاتهم، ثم قال:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]. فمن صفات عباد الرحمن المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلانية أنهم لا يقولون ولا ينطقون بشهادة الزور؛ لأن شهادة زور واحدة قد تذهب فيها الرقاب، وقد تذهب فيها الأموال، وقد يقام فيها حد القذف.
* قوله: (فاشترط فيها العدد) ولذلك اشتُرط في الشهادات شاهدان عدلان؛ محافظة على حقوق الناس، لكن -كما قلنا- ليس ذلك دليلًا قطعيًّا؛ فقد يحصل الإنسان على اثنين يشهدان شهادة زور، فكم من أناس لا يخافون اللَّه سبحانه وتعالى، وكم من أناس أكلوا أموال اليتامى، وكم من الناس أكلوا الرشاوى واستغلوا أماكنهم وتسلطوا على الضعفاء.
ولذلك نجد أنَّ رسولَ صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن اللُّتْبِيَّةِ لمَّا أرسله في الصدقات، فجاء إلى رسول اللَّه فقال: هذا لكم وهذا لي. قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غاضبًا فخطب الناس وقال: "ما بال أحدكم يأتي فيقول: هذا لكم وهذا لي، هلَّا جلس في بيت أبيه وأمه حتى ينظر أيعطى؟ "
(1)
.
ولذلك فإنَّ العلماءَ يدقِّقون في العلاقة بين سائر الناس وبين القاضي، فالقاضي لا يأخذ الهدية إلا من شخص كان يهاديه قبل ذلك
(2)
،
(1)
أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (1832) عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا على صدقات بني سليم يُدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا. . . " الحديث.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (4/ 178)؛ حيث قال:" (ويرد هدية إلا من قريبه أو ممن جرت عادته بذلك)؛ لأن الأولى: صلة الرحم وردها قطيعة وهي حرام، والمراد بالقريب هو ذو الرحم المحرم، والثانية: ليست لأجل القضاء وإنما هي جري على العادة، فلا يتوهم فيهما الرشوة حتى لو كان لهما خصومة أو زاد على العادة يرده؛ لأنه لأجل القضاء فيكون من الغلول كغيرهما من الهدايا؛ لأنها تشبه الرشوة فيتجنب عنها". =
والنفوس تختلف، فهناك نفوس مريضة وهناك نفوس ضعيفة إذا رأت المال ضعفت، وربما يستهويها الشيطان، فما المانع أن ترتكب المحرم وأن تأخذ المحرم، وأمامك سنوات طويلة وعمر طويل، وبإمكانك أن تتوب إلى اللَّه سبحانه وتعالى واللَّه يقول:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82]، لكن ينسى مثل هذا المسكين أن جسمه قد نبت على حرام.
وأيضًا في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يرفع يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!
(1)
.
إذن؛ هنا وضعت الحقوق لأن الناس ليسوا كلهم على خير، ليس كل الناس يخافون اللَّه، وإذا كانت المعاصي وُجدت في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي القرون المفضلة، أفلا توجد بعد ذلك قبل عصرنا وفي عصرنا؟! فهناك أناس يحتالون على الناس، وهناك أناس يأكلون أموال الناس، وهناك أناس يشهدون شهادات باطلة، وهناك مَن يتعدى على
= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (4/ 192)؛ حيث قال:" (و) حرم عليه (قبول هدية): من أحد من الناس، إلا أن يكون ممن يهاديه قبل توليته القضاء لقرابة أو صحبة أو صلة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 300)؛ حيث قال:" (ويحرم) عليه ولو في غير محل ولايته (هدية من له خصومة في الحال) عنده، ولو عهدت منه قبل القضاء لخبر "هدايا العمال غلول". رواه البيهقي بإسناد حسن وروي: "هدايا العمال سحت". وروي: "هدايا السلطان سحت"، ولأنها تدعو إلى الميل إليه وينكسر بها قلب خصمه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 317)؛ حيث قال:" (وظاهره) أنه يحرم على القاضي قبوله الهدية (ولو كان) القاضي (في غير عمله) لعموم الخبر، (إلا ممن وإن يهدي إليه قبل ولايته إن لم يكن له)؛ أي: المهدي (حكومة)؛ لأن التهمة منتفية لأن المنع إنما يكون من أجل الاستمالة أو من أجل الحكومة وكلاهما منتفٍ (أو) كانت الهدية (من ذوي رحم محرم منه)؛ أي: من الحاكم (لأنه لا يصح أن يحكم له) ".
(1)
أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
حقوق الآخرين، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوَّقه اللَّه إياه يوم القيامة من سبع أرضين"
(1)
.
وهذه مسائل كثيرة جدًّا، فالشريعة الإسلامية وضعت ضوابط يسير عليها المسلمون في أحكامهم وفي معاملاتهم لتضبط لهم حقوقهم وتحافظ على هذه الحقوق.
فوضع شاهدين، لكن لم يزد في الشهادة على اثنين؛ لأن تحقيق ذلك أمر صعب؛ لأنه لكي تطلب شهودًا ثلاثة أو أربعة قد لا يستطيع الإنسان أن يثبت ذلك، وربما يضيع حقه، لكن لما كانت بعض الأحكام تتطلب صيانة نفوس المؤمنين والمحافظة على أعراضهم كما في الزنا، طلب في ذلك شهودًا أربعة؛ ولذلك تكلم العلماء على الضروريات الخمس
(2)
وما شرع لها
(3)
.
إذن فالتعليل الذي ذكره المؤلف تعليل وجيه.
(1)
أخرجه مسلم (1610).
(2)
الضرورات: هي المصالح التي تتضمن حفظ مقصودٍ من المقاصد الخمسة: الدَّين، النفس، العقل، النسب، المال. انظر:"المحصول"، للرازي (5/ 159 - 160).
وعرفها الشاطبي بأنها: "ما لا بدَّ منها في قيام مصالح الدَّين والدنيا بحيث إذا فُقِدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامةٍ، بل على فسادٍ وتهارج وفوت حياةٍ، وفي الأخرى: فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين". انظر: "الموافقات"(2/ 17 - 18).
(3)
يُنظر: "المحصول"، للرازي (5/ 160)؛ حيث قال:
"أما النفس: فهي محفوظة بشرع القصاص، وقد نبَّه اللَّه تعالى عليه بقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .
وأما المال: فهو محفوظ بشرع الضمانات والحدود.
وأما النسب: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا؛ لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد، وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب، وهو مجلبة الفساد والتقاتل.
وأما الدين: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة والمقاتلة مع أهل الحرب، وقد نبَّه اللَّه تعالى عليه بقوله:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
وأما العقل: فهو محفوظ بتحريم المسكر".
* قوله: (وَلِيَكُونَ الظَّنُّ أَغْلَبَ، وَالمَيْلُ إِلَى حُجَّةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ أَقْوَى).
ويكون (الظن أغلب)؛ لأنه قد يأتي الإنسان بمائة شاهد وكلهم كَذَبة، فلا يفيدون شيئًا يفيد، لكنَّ الغالب والأصل في المسلم هو السلامة، فإذا جاء بشاهدين وظاهرهما العدالة وغير مقدوح فيهما، فيغلب على ظن الحاكم أنهما شاهدان عدلان فيحكم بذلك.
* قوله: (وَلَمْ يَتَعَدَّ بِذَلِكَ الِاثْنَيْنِ؛ لِئَلَّا يَعْسُرَ قِيَامُ الشَّهَادَةِ فَتَبْطُلَ الحُقُوقُ).
لأنه لو زيد في طلب الشهود على اثنين، لكان ذلك صعبًا وشديدًا والحصول عليه غير ميسور، فيترتب على ذلك أن كثيرًا من الناس يعجزون عن إثبات هذا العدد من الشهود فتضيع حقوقهم، فتكون هذه فرصة لأهل الأهواء والذين يأكلون حقوق الناس بغير حق أن يعتدوا عليهم.
* قوله: (وَلَيْسَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ شُبْهَةٌ مِنْ مُخَالِفٍ تُوجِبُ الِاسْتِظْهَارَ بِالعَدَدِ).
ولذلك ترون في الحديث: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"
(1)
، فالذي يدَّعي لا بدَّ من إثبات، فإذا عجز حينئذ يرجع إلى المدعى عليه فيطلب منه اليمين، والقسَمُ شأنُهُ عظيمٌ؛ لأنه إذا أقسم باللَّه لجأ إلى قوي، ومن الذين لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل باع سلعة بعد العصر فأقسم باللَّه وهو كاذب
(2)
،
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 114) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على مَن ادعى، واليمين على من أنكر إلا في القسامة". وضعفه الحافظ في "التلخيص الحبير"(4/ 107).
(2)
أخرجه البخاري (7212)، ومسلم (108) واللفظ له، عن أبي هريرة، وهذا حديث أبي بكر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من =
فالكذب من أضر الأُمور؛ ولذلك فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"
(1)
. فالصدق لا شك أنه فضيلة، واللَّه أثنى في كتابه على الصادقين وامتدحهم، وكذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن ما له من مزايا وما له من الفضل والمكانة في هذه الدنيا وفي الآخرة.
* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ
(2)
إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ هِلَالِ الفِطْرِ وَهِلَالِ الصَّوْمِ لِلتُّهْمَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي هِلَالِ الفِطْرِ، وَلَا تَعْرِضُ فِي هِلَالِ الصَّوْمِ).
التهمة لا تثبت في دخول الشهر وتثبت في خروجه؛ لأن الشهر سيدخل سواء في هذه الليلة أو بعدها، لكنْ في خروج الشهر ربما يخرج الفساقُ الذين لا يعنون بالصيام وربما يتساهلون به، فيقول أحدُهم: الشهر خرج، حتى يفطر الناس، وهو لا يهمه ما يترتب عليه من الإثم. وهذا تحليل يذكره بعض الفقهاء.
* قوله: (وَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ المُنْذِرِ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْسَبُهُ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ)
(3)
.
وهذا وَهْمٌ من المؤلف رحمه الله؛ لأن هذا ليس مذهب ابن المنذر، ولكن ابن المنذر له عدة كتب: منها كتابه "الإجماع"، ومنها "الإشراف"،
= ابن السبيل، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر فحلف له باللَّه لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى، وإن لم بعطه منها لم يفِ".
(1)
أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
(2)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 104)؛ حيث قال:"إذا رأى الرجل هلال رمضان وحده يصوم لا يسعه غير ذلك، وإن رأى هلال شوال فيفطر إلا أن يدخله شك أو يخاف أن يتهم على الاستخفاف بالصوم".
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (4/ 378)؛ حيث قال:"وقد روينا أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل هذا؛ وبه يقول أبو ثور".
وكتابه "الأوسط"، وهي كتب من أجل الكتب، وهي مرجع لأكابر العلماء، وصاحب المغني يرجع إليها كثيرًا، وكذلك النووي وغير هؤلاء، وهذه الكتب في الحقيقة لا تقتصر على أقوال الفقهاء، وإنما تُعْتبر إلى جانب ذلك كُتُبَ حديثٍ وأثر، وبخاصة كتابه:"الإشراف على مذاهب العلماء"، وكذلك كتابه "الأوسط".
ابن المنذر حكى الأقوال في هذه المسألة، وحكى قول أبي ثور، فلا يلزم من كونه حكى رأيًا لأبي ثورٍ أن يكون هذا هو رأيه، وأنه يُرجِّحُ هذا الرأي، وإنَّما يكون هذا رأيه عندما يُرجحه ويقول: آخذ به.
فابن المنذر حكى رأي الجمهور، ورأي مالك، وحكى رأي أبي ثور، لكنه لم يقل بقوله، ولذلك فإن الإمام النووي -كما هو معلوم- أوثق من صاحب هذا الكتاب وأعلم بابن المنذر؛ لأنه يعتبر من علماء الشافعية وهو من المحققين في هذا المجال ومن المحدثين، ولم يذكر أنَّ مذهب ابن المنذر هو مذهب أبي ثور.
* قوله: (وأحسبه هو مذهب أهل الظاهر) وهذه حقيقة.
* قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو بَكْرِ ابْنُ المُنْذِرِ لِهَذَا الحَدِيثِ بِانْعِقَادِ الإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الفِطْرِ وَالإِمْسَاكِ عَنِ الأَكْلِ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فِي دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ).
وهنا إلحاق شيء بشيء، فابن المنذر
(1)
يقول: لو جاءك شخص فأخبرك بأن الفجر قد طلع، فحينئذ تمسك عن الأكل والشرب والجماع؛ لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، ولو جاءك شخص وأخبرك بأنَّ الشمس قد غربت، فأفطر يا فلان، تصدقه؛ لأن الأصل في
(1)
لم أقف عليه.
المسلم السلامة، فهو يكتفي بشهادة واحد في الإمساك عن الصيام وفي الإفطار كذلك.
ونحن نقول: فرقٌ بين الأمرين؛ لأن هذا إثبات لأمر شامل يتعلَّق به حكمٌ كليٌّ، ألا وهو دخول هذا الشهر، ويتعلق به أيضًا حكم كلي شامل لعموم المسلمين، ألا وهو خروج الشهر، أما هذا فهو متعلق بجزئية من جزئيات هذا الشهر، فلا ينبغي أن يسري هذا على الدخول والخروج؛ وعلى هذا فلا يعتبر هذا دليلًا من سنة، وإنما هو مقايسة.
* قوله: (إِذْ كلَاهُمَا عَلَامَةٌ تَفْصِلُ زَمَانَ الفِطْرِ مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ).
نعم هي فاصلةٌ، لكن فرق بينهما.
* قوله: (وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرُّؤْيَةَ تَثْبُتُ بِالخَبَرِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ، فَهَلْ يَتَعَدَّى).
وهذه مسألة دقيقة جدًّا، إذا رأى الهلال أهلُ بلد، هل يسري ذلك على البلاد الأُخرى؟ والقول باتحاد المطالع؛ فيجب على المسلمين أن يصوموا إذا رئي في بلد من بلاد الإسلام، أو أنه يختلف بذلك لكل بلد رؤيتهم، أو أن المسألة فيها تفصيل: التفريق بين البعد والقرب؟ فإذا رئي في بلد وهناك بلاد قريبة من هذا البلد فتلحق بها، وإن وجد تباعد فالمسألة مختلفة؟
لا شكَّ أن المَطالع ينظر إليها في هذا المقام نظرة دقيقة.
* قوله: (ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؟ أَعْنِي: هَلْ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ مَا إِذَا لَمْ يَرَوْهُ أَنْ يَأْخُذُوا فِي ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ بَلَدٍ آخَرَ أَمْ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ).
واللَّه سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا".
وقال عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا الهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ تَصُومُوا، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوا الهِلَالَ أَوْ تُتِمُّوا أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ"؛ يعني: حتى تروا الهلال أو تكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، أو تروا الهلال -أي: حتى تروا هلال شوال- أو تكملوا رمضان ثلاثين يومًا.
قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتموه"، (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان تتضمن مع الشرط، ولذلك قرن الجواب بالفاء:"إذا رأيتموه فصوموا"، وهي تتضمن معنى السببية.
إذن السبب في الصيام هو الرؤية؛ فهل المراد به الذين يشاهدونه في البلد؛ لأن الإجماع قائم كما ذكر المؤلف؛ لأنه ليس المقصود أن يشاهده كل إنسان بنفسه أو أن يراه كل إنسان بنفسه، وإنما يراه عدل أو عدول فإذا ثبتت شهاداتهم اكتفى أهل البلد بذلك.
لكن هل هذا الحكم ينتقل إلى غيرهم؟ هذا هو محل الخلاف.
بعض العلماء يقول: إذا رئي في بلد وجب على أهل البلاد الأُخرى أن يصوموا
(1)
؛ عملًا بالآية وبالأحاديث التي ذكرت لكم طرفًا منها.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 321)؛ حيث قال:" (ولا عبرة باختلاف المطالع) وقيل: يعتبر، ومعناه: أنه إذا رأى الهلال أهل بلد ولم يره أهل بلدة أُخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قول من قال: لا عبرة باختلاف المطالع وعلى قول مَن اعتبره ينظر فإن كان بينهما تقارب بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث تختلف لا يجب، وأكثر المشايخ على أنه لا يعتبر حتى إذا صام أهل بلدة ثلاثين يومًا، وأهل بلدة أُخرى تسعة وعشرين يومًا يجب عليهم قضاء يوم، والأشبه أن يعتبر؛ لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب". =
ومنهم من يقول: إن لكل بلد رؤية، والمطالع في ذلك تختلف، ويستدلون بالحديث الذي أورده مسلمٌ في "صحيحه"
(1)
في قصة كُرَيبٍ عندما ذهب إلى الشام في أمر من الأُمور، ورد في بعضها: أنَّ أُمَّ الفضل أرسلته إلى الخليفة معاوية رضي الله عنه، إمام المسلمين في ذلك الوقت، وأنه دخل عليه الشهر وأدركه الصيام وهو في الشام، وأنَّ أهل الشام صاموا لمَّا رأوا الهلال ليلةَ الجمعة فصاموا يوم الجمعة، وأنه مكثَ في الشام فترةً، ثم عاد إلى المدينة في آخر الشهر فوجد الناس لا يزالون صيامًا، فالتقى بمولاه عبد اللَّه بن عباس؛ لأن كريبًا كان مولًى لعبد اللَّه بن عباس؛ فسأله هل رأيت الهلال؟ قال: نعم رأيته، وأخبره أنه رآه ليلة الجمعة، وسأله:
= مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 79)؛ حيث قال:"إذا رآه أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان، وفاقًا للشافعي خلافًا لابن الماجشون، ولا يلزم في البلاد البعيدة جدًّا كالأندلس والحجاز إجماعًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 410)؛ حيث قال:"لو (رأى) الهلال (في بلد لزم) حكمه (من في غيره) من سائر الأماكن (ما لم تختلف المطالع) كبغداد والكوفة والري وقزوين؛ لأنه قريب من بلد الرؤية فهو بمنزلة مَن هو ببلدها كما في حاضري المسجد الحرام؛ فإن اختلفت كالحجاز والعراق وخراسان لم يجب الصوم على من اختلف مطلعه لبعده".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 303)؛ حيث قال:"وإذا ثبتت رؤية الهلال بمكان قريبًا كان أو بعيدًا لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة؛ ولأن الشهر في الحقيقة ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في جميع الأحكام فكذا الصوم، ولو فرض الخطاب في الخبر للذين رأوه، فالفرض حاصل".
(1)
أخرجه مسلم (1087/ 28) عن كريب: "أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
هل رآه غيرك؟ قال: نعم، رآه معاوية والناس. ثم قال له: لكننا لم نره إلا ليلة السبت ولا نزال نصوم حتى نراه؛ يعني: سنصوم حتى نرى هلال شوال، أو نكمل العدة، يعني ثلاثين يومًا. فقال له كريب: أولَا تكتفي بشهادة معاوية أو الناس؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"؛ أي: ثلاثين يومًا.
وعلى هذا فيُفهم من حديث ابن عباس: أن لكل أهل بلد رؤية
(1)
، وهذا القول أخذ به إسحاق بن راهويه، وسالم بن عبد اللَّه، والقاسم بن محمد وغير هؤلاء من العلماء.
ومن العلماء من قال: إن الرؤية متحدة، وهذا هو رأي أكثر العلماء: كالمالكية والشافعية والحنابلة، وإن اختلفت بعض المذاهب في تفصيل هذه المسألة.
وهناك مَن توسط في هذا المقام فقال: نحن ننظر، إن كانت البلاد قريبًا بعضها من بعض، وضربوا مثلًا فيما ما مضى ببغداد والبصرة، ونحن نقول الآن مثلًا: ما بين المدينة وجدة، أو بين المدينة وبدر، أو بين المدينة ومكة، هذه المسافات ليست بعيدة، ففي مثل هذه الحالة تتحد الرؤية.
أما إن كانت البلاد بعيدة كما بين المدينة والشام، أو المدينة ومصر، أو مصر والأندلس، أو المغرب وأمريكا وهكذا، هنا المسافات متباعدة، فهل تختلف المطالع؟ قالوا: المطالع معتبرة، فإذا كانت متباعدة سواء كانت عَرْضًا؛ يعني على خط العرض الذي نسميه الآن، أو طولًا على خط الطول الذي اصطلحوا عليه.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 112)؛ حيث قال:"اختلف أهل العلم في الهلال يراه أهل بلدة ولا يراه غيرهم؛ فروينا عن عكرمة أنه قال: لكل قوم رؤيتهم، وبه قال إسحاق، وهو مذهب القاسم وسالم".
إذن؛ القول الأول له أدلة، والثاني له أدلة، وهذا الوسط بينهما إنما هو اجتهاد بين هؤلاء، واعتبروه وسطًا، فربطوه بالمطالع.
ولذلك نحن نقول: هذه مسائل ينظر إليها في وقتها، فإن كانت المسافات متقاربة فلا ينبغي أن يفرق بينها، وإن كانت متباعدة لكنَّ المطالعَ متحدةٌ فينبغي أيضًا أن يؤخذ بها، لكن إن تردَّد الناس في ذلك أو لم يتبين لغيرهم فليأخذوا بما أخذت به البلاد الإسلامية، وهذا هو رأي أكثر العلماء.
* قوله: (فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّ ابْنَ القَاسِمِ وَالمِصْرِيِّينَ رَوَوْا عَنْهُ).
وابن القاسم من أصحاب الإمام مالك، وأصحاب مالك كانوا متفرقين، فبعضهم كان في مصر، وبعضهم كان في المغرب، وكذلك الشافعي وغيره من الأئمة.
* قوله: (أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ رَأَوْا الهِلَالَ أَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي أَفْطَرُوهُ، وَصَامَهُ غَيْرُهُمْ
(1)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَحْمَدُ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (2/ 11)؛ حيث قال:"روى ابن القاسم، وابن وهب، عن مالك: أنه قال: وإذا صام أهل بلد ثم جاءهم أن أهل بلد غيرهم صاموا قبلهم، فإن استوقن ذلك فليقضوا".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 144 - 145)؛ حيث قال:" (إذا رئي ببلد لزم حكمه البلد القريب) منه قطعًا كبغداد والكوفة؛ لأنهما كبلد واحدة كما في حاضري المسجد الحرام (دون البعيد في الأصح) كالحجاز والعراق. والثاني: يلزم في البعيد أيضًا (والبعيد مسافة القصر) وصححه المصنف في "شرح مسلم"؛ لأن الشرع علق بها كثيرًا من الأحكام (وقيل: باختلاف المطالع. قلت: هذا أصح، واللَّه أعلم)؛ لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 471)؛ حيث قال:" (وإذا ثبتت رؤيته)؛ أي: هلال رمضان (ببلد لزم الصوم جميع الناس) لحديث: "صوموا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة؛ ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام كحلول دين ووقوع طلاق، وعتق معلقين به ونحوه، فكذا حكم الصوم".
بمعنى أنه يرى اتحاد المطالع وأن الرؤية متحدة. هذا معنى قول الإمام مالك وهو قول للأئمة الآخرين.
* قوله: (وَرَوَى المَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَلْزَمُ بِالخَبَرِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ البَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ المَاجِشُون وَالمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(1)
.
وابن الماجشون أيضًا من أصحاب مالك
(2)
.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِي البُلْدَان النَّائِيَةِ كَالأَنْدَلُسِ وَالحِجَازِ)
(3)
.
علَّق على ذلك أحد المحققين فقال: هذا خطأ من المؤلف وليس إجماعًا، وهو إنما ينقل إجماع المالكية، وهذا لم ينقله وحده، وإنما نقله القرطبي
(4)
، وابن عبد البر في "الاستذكار"
(5)
، وكثيرًا ما ينقل المؤلف عن "الاستذكار" ونبَّهت على ذلك مِرَارًا.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (2/ 11)؛ حيث قال:"قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: إذا رأى هلال رمضان عامة بلد وغمهم علمه بالرؤية رؤية ظاهرة من غير طلب الشهادة، لزم غيهم من أهل البلدان قضاؤه ممن لم يعلم، وإن كان إنما صاموه بطلب شهادة وتيقن وتعديل، لم يلزم غيرهم من أهل البلدان بذلك قضاء إلا بما ثبت، عند من عليهم من الحكام، ولكن يلزم أهل البلد الذي ثبت ذلك عند قاضيهم بالشهادة، هم ومَن تقرب منهم من حاضرتهم، وليقض من أفطر منهم ولم يعلم، إلا أن يكتب أمير المؤمنين إلى بلد بما عنده من شهادة أو رؤية إلى من لم يره، فيلزمهم قضاؤه، فالخليفة في المسلمين كأمير المصر في قراياها، والعمل على كتاب أهل مصر يلزم أعراضها".
(2)
ينظر ترجمته: في "سير أعلام النبلاء"، للذهبي (7/ 309).
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 228)؛ حيث قال:"وأجمعوا أنه لا تراعي الرؤية فيما (بعد) من البلدان كالأندلس من خراسان، فكل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير، وما تقارب من أقطاره من بلدان المسلمين".
(4)
يُنظر: "المفهم"، لأبي العباس القرطبي (9/ 108).
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 283)؛ حيث قال:"أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أخَّر من البلدان كالأندلس من خراسان".
وهذا الإجماع إنما نقله ابن عبد البرِّ، ونقله عنه ابن حجرٍ في "فتح الباري"
(1)
.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الخِلَافِ: تَعَارُضُ الأَثَرِ وَالنَّظَرِ).
فقصده بـ (الأثر) الحديث، و (النظر) يعني: إمعان
(2)
النظر؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر وأن نسير في الأرض، كل هذه أُمور أمرنا اللَّه بها سبحانه وتعالى؛ فهذا فيه مجال للنظر، لكن ليس القصد بالنظر هنا أن تطرح الأدلة جانبًا وتمعن نظرك؛ إذ لا اجتهاد مع النص
(3)
، لكنَّ القصد هنا الاحتمالات التي في الأدلة، فأنت تمعن النظر، والمشاهدة لها أثر، وأنتم ترون أن بلاد اللَّه متباعدة، فالشمس تغرب أولًا في الشرق، والشام تتجه إلى الشمال وربما أقرب إلى الغرب، ونرى أن الصيام في المدينة متأخر عن بلاد الشام.
هذا يدلنا على أن أُمور العبادة لا يتعدى فيها النصوص فيما ترد فيه النصوص.
* قوله: (أَمَّا النَّظَرُ، فَهُوَ أَنَّ البِلَادَ إِذَا لَمْ تَخْتَلِفْ مَطَالِعُهَا كُلَّ الِاخْتِلَافِ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ).
فالأحاديث لا تتناقض، والذين يقولون: باتحاد الرؤية يرون شمول
(1)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (4/ 123).
(2)
أَمْعَنَ النظرَ في الشيءِ وأنْعَمَه، أطالَ الفِكْرةَ فيه. انظر:"تاج العروس"، للزبيدي (33/ 512).
(3)
هذه القاعدة تفيد تحريم الاجتهاد في حكم مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السُّنة أو الإجماع؛ لأنه إنما يحتاج للاجتهاد عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النص ودلالته".
قال ابن قدامة في "روضة الناظر"(1/ 506): "النص قد يرد في مقابلة الأدلة العقلية التي تندرج تحت اسم الاجتهاد، ولذلك يقال: لا اجتهاد مع النص. وهذا يشمل جميع النصوص الشرعية من الكتاب أو السُّنة، سواء أكانت قطعية أم ظنية. وقد يرد في مقابلة الظاهر والمجمل".
ذلك، وأنَّ هذا عام للمسلمين أينما كانوا متى ما رئي في بلد مسلمٍ، عملًا بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتموه فصوموا".
وغيرهم يرى أنَّ المقصود بالآية والحديث هم الذين حضروا المشاهدة والرؤية وإن لم يروه، وهذا تعليل لشيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله؛ لأنه يأخذ بالرأي الآخر ويرى: أن الأمور ليست على إطلاقها، وأن اختلاف المطالع ينبغي أن ينظر إليه، فهو بذلك مخالفٌ لرأْيِ الجمهور.
* قوله: (لِأَنَّهَا فِي قِيَاسِ الأُفُقِ الوَاحِدِ، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ).
أي: إذا كانت المسافات ليست ببعيدة، كما بين البصرة وبغداد، وليست قريبة جدًّا لكنها ليست أيضًا بعيدة، فيقولون: هذه لا تؤثر، لكن إذا كانت بعيدة كما بين الحجاز والأندلس، أو بلاد الحجاز والشام ونحو ذلك، فلا.
* قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ، فَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الفَضْلِ بِنْتَ الحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، فَقَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ).
أي: هلَّ هلالُ رمضان وهو لا يزال بالشام، فأدرك طرفًا منه في بلاد الشام.
* قوله: (فَرَأَيْتُ الهِلَالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ).
إذن كريب رآه، ورآه أيضًا غيره.
(1)
ينظر قوله في: "مجموع الفتاوى"، لابن تيمية (25/ 103 - 105).
* قوله: (ثُمَّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ).
أي: عندما عاد إلى المدينة وأدرك آخر الشهر فيها، والتقى بعبد اللَّه بن عباس الذي هو مولاه.
* قوله: (ثُمَّ ذَكَرَ الهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الهِلَالَ؟).
فأورد عليه ابن عباس قضية الهلال، والعلماء فيما مضى كانوا يتدارسون، فإذا جاء أحدهم من سفر فإنهم يعنون أول ما يعنون بالأُمور المتعلقة بالعلم وما يتعلَّق بمثل ذلك، لكنهم لا يغفلون أن يسألوا الإنسان عن صحته وعما جرى له، وعن أحوال المسلمين.
* قوله: (فَقُلْتُ: رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ).
وقوله: (رأيته)، أسند كريب الرؤية إلى نفسه.
* قوله: (فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ).
فيتأكد منه ابن عباس بسؤاله ثانيًا.
* قوله: (وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ).
وفي الأول؛ قال: (رأيتُه)، فقال ابن عباس:(رأيتَه)، فأدرك أن ابن عباس يريد أن يتثبت، فقال:(رأيته ورآه الناس)، وهذه ترد على الذين يقولون: بأن عبد اللَّه بن عباس لم يأخذ بشهادة كريب لكونه واحدًا؛ لأن كريبًا لم يقصر الرؤية على نفسه، ولكنه أسندها إلى معاوية، ومعاوية صحابي جليل، والصحابة كلهم عدول وكلهم ثقات، وكذلك في زمن معاوية رضي الله عنه كان هناك عدد من الصحابة، فإلى جانب رؤية كريب رؤية عدد من المسلمين؛ إذن رآه الناس فتأكد عندهم وثبت، فصام الناس وصام الخليفة معاوية.
* قوله: (قَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ).
وابن عباس قد رفع ما يدور في ذهن كريب؛ لأن كريبًا يقول: ما دام قد رأى الناسُ الهلالَ ومعاوية وقد رأيتُه أنا، أفلا ينبغي أن تأخذ بهذه الرؤية؟ كأنه يقول ذلك، ولذلك أجابه عبد اللَّه بن عباس بما يدل على أنه فهم منه ذلك.
إذن ما دمنا لم نره إلا ليلة السبت، فينبغي أن نبقى على صيامنا حتى نرى هلال شوال، فإن لم نر هلال شوال فينبغي أن نتم عدة رمضان ثلاثين يومًا، وبيَّن سبب ذلك فقال: كما أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
ولا بد أن نلتفت هنا إلى أدب الخطاب! فكريب عندما قال له: "ألا تكتفي برؤية معاوية والناس معه"، فيردُّ عليه عبد اللَّه بن عباس الذي دعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم فقهه في الدِّين وعلِّمه التأويل"
(1)
، ووصفه بأنه حَبْر هذه الأمة، ويقول: هكذا أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. إذن نحن ننزل عند أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا دخوله بعدكم فننتظر حتى نرى أو نكمل العدة.
* قوله: (فَظَاهِرُ هَذَا الأَثَرِ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ).
(1)
أخرجه البخاري (143)، ومسلم (2477) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءًا قال:"من وضع هذا؟ " فأخبر؛ فقال: "اللهم فقهه في الدِّين".
واللفظ الذي ذكره الشارح أخرجه أحمد في "مسنده"(2397)، وقال الأرناؤوط:"إسناده قوي على شرط مسلم".
ولذلك قلت لكم: بعضهم يعلل، الذين يخالفون يقولون: لعل ابن عباس لم يأخذ برواية كريب لأنها رواية فرد، والكلام هنا بالنسبة للطلوع لا الدخول؟ والجواب: لا؛ لأن كريبًا أخبره بأنه رأى ورأى غيرُه، وقد تثبت ابن عباس من ذلك.
ولا شكَّ أن ظاهر هذا الأثر -وهو في "صحيح مسلم"- أن لكل بلد رؤيته؛ لأنَّ ابنَ عباس لم يأخذ بذلك، وبيَّن أن سبب عدم الأخذ به أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم علَّق ذلك بالرؤية، وإن تعذرت الرؤية أكملت العدة ثلاثين يومًا.
* قوله: (وَالنَّظَرُ يُعْطِي الفَرْقَ بَيْنَ البِلَادِ النَّائِيَةِ وَالقَرِيبَةٍ، وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ نَأْيُهُ فِي الطُّولِ وَالعَرْضِ كثِيرًا، وَإِذَا بَلَغَ الخَبَرُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى شَهَادَةٍ، فَهَذِهِ هِيَ المَسَائِلُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِزَمَانِ الوُجُوبِ).
فالمؤلف قد انتهى من الحديث عن زمان الوجوب وهذه هي المسألة الأولى المتعلِّقة بالركن الأوَّل من أركان الصيام، وسينتقل إلى المسألة الثانية، وهي زمان الإمساك.
* قوله: (وَأَمَّا الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِزَمَانِ الإِمْسَاكِ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَهُ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ
(1)
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]).
والمؤلف عكس القضية فبدل أن يبدأ بوقت الإمساك بدأ بوقت الانتهاء.
وتلا الآية التي نجدها في مطلع قول اللَّه سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 230)؛ حيث قال:"وأجمعوا أنه إذا حلَّت صلاة المغرب حلَّ الفطر". ويُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 288).
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. هذا هو الشاهد: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
وقد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم"
(1)
، وفي رواية التي فيها زيادة:"إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس أفطر الصائم"
(2)
.
إذن؛ فالواجب على المسلم الإمساك عما يمنع عنه من أكل وشرب وجماع وما يلحق بذلك مما سيأتي الكلام عنه حتى تغرب الشمس، وحينئذ يفطر، وأمَّا ما يتعلَّق ببداية الصيام فسيذكره المؤلف بعد ذلك، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلهِ).
متى يبدأ وقت الصيام؟
قد بيَّنَّا سابقًا أنَّ هناك فجرين: فجرٌ صادقٌ وفجرٌ كاذبٌ، وقد تحدثنا عنهما تفصيلًا عند حديثنا عن أوقاتِ الصلوات، وبخاصة عند الكلام عن وقت صلاة الصبح.
* قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ
(3)
: هُوَ طُلُوعُ الفَجْرِ الثَّانِي المُسْتَطِيرِ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(192)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(2)
أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100/ 51).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 120)؛ حيث قال:"قال: (ووقت الصوم من حين طلوعِ الفجر الثاني إلى غروب الشمس) لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} إلى أن قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والخيطان بياض النهار وسواد الليل". =
الأَبْيَضِ
(1)
).
ويقصد بالفجر الثاني ما يُعرَفُ بالفجر الصادق، فهناك فجران؛ الفجر الأول: يعرف بالفجر الكاذب، وهذا الفجر هو الذي يخرج في السماء دقيقًا ولا ينتشر؛ يعني: يخرج على شكل خط يظل فترة ثم يختفي، وهذا وإن كان فيه بياض إلا أن فيه اختلاطًا بسواد.
ويشبهونه بذنب السِّرحان؛ أي: الذئب، وهذا يعرف بالفجر الكاذب؛ لأن الإنسان إذا رأى هذا الضوء ظنَّ أن الفجر قد ظهر وأن الوقت قد
= مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لابن رشد الجد (1/ 249)؛ حيث قال:"والفجر فجران؛ فالأول: هو الذي يسمَّى الكاذب، وهو البياض المرتفع في الأفق ويشبه بذنب السرحان؛ لارتفاع ضوئه، لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام. والفجر الثاني: الصادق، هو المعترض في الأفق آخذًا من القبلة إلى دبر القبلة من شعاع الشمس وضوئها، وهو الذي يعتبر به في تحريم الطعام وتحليل الصلاة". وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 440).
مذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه"، لابن الرفعة (6/ 332)؛ حيث قال:"واعلم أن الفجر الذي يتعلَّق به ما ذكرنا هو الفجر المستطير لا المستطيل، روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا"، وحكاه حماد بيديه، قال: يعني: معترضًا، وقد كان الرجل حين نزل قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 469)؛ حيث قال:" (إمساك بنية عن أشياء مخصوصة) وهي مفسداته وتأتي (في زمن مُعيَّن) وهو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس (من شخص مخصوص) هو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء". وانظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (1/ 438).
(1)
الفجر: حُمرة الشمس في سواد الليل، وهما فجران؛ أحدهما: المستطيل وهو الذي يسمَّى ذنب السرحان، والآخر: المستطير وهو المنتشر في الأفق الذي يحرم على الصائم الأكل فيه. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 463)، و"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 10).
بدأ، ثم يتبين لنا سرعان ما يغيب هذا الضوء ويختفي، ثم بعد فترة يأتي الفجر الثاني الذي يعرف بالفجر الصادق.
والفجر الكاذب: يعرف بالفجر المستطيل
(1)
، أو بالضوء المستطيل -باللام وذاك بالمستطير- بالراء
(2)
؛ لأنه ينتشر في الأفق، أما الفجر الكاذب: فيأتي دقيقًا في السماء، هذا هو الفرق بينهما.
وأمَّا الفرق بينهما من حيث الحكم: أن الثاني هو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية، فهو الذي بظهوره تدخل وقت صلاة الفجر، والذي بخروجه يمسك المفطر عن الأكل والشرب والجماع وعن كل ما نهي عنه؛ أي: به يبدأ وقت الإمساك.
* قوله: (لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْنِي: حَدَّهُ بِالمُسْتَطِيرِ، وَلظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} الآيَةَ [البقرة: 187]).
قال: لثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر دليل الثبوت، وهذا جاء في حديث سمرة بن جندب، وقد جاء بروايات متعددة، وممن روى هذا الحديث مسلم في "صحيحه"، وحديث سمرة فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما جاء في أحد الروايات - قال:"لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، والفجر المستطيل، لكن الفجر المستطير في الأفق"
(3)
.
لكن هنا استدراك: أما أذان بلال كما جاء في الحديث المتفق عليه:
(1)
الفجر المستطيل -باللام-: فهو المستدق الذي يشبه بذنب السرحان، وهو الخيط الأسود، ولا يحرم على الصائم شيئا، وهو الصبح الكاذب عند العرب. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (14/ 12).
(2)
المستطير: المعترض في الأفق. انظر: "العين"، للخليل (7/ 448).
(3)
أخرجه مسلم (1094) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا".
"إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"
(1)
، وفي رواية:"حتى ينادي ابن أم مكتوم"
(2)
، وله روايات متعددة سيعرض المؤلف لبعضها.
والفجر الصادق هو الذي ينطبق عليه قول اللَّه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} ، والمراد بالخيط الأبيض من الخيط الأسود: هو سواد الليل مع بياض النهار
(3)
.
ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه وهو حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحهما"
(4)
وغيرهما، أنه لما نزلت هذه الآية:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، قلتُ والقائل هو عدي بن حاتم-: يا رسول اللَّه، إني أجعل عقالين تحت وسادتي -التي ينام عليها-، فإذا رأيت بياضًا؛ يعني: إذا تبين لي بياض أمسكت عن الصيام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن وسادك لعريض"
(5)
؛ أي: إن نومك لكثير، أو: إن ليلك لطويل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يضع خيطًا أبيض وأسود، وينتظر حتى يتبينهما هذا يحتاج أن يسفر الضوء لكي يراهما وبذلك يكون ليله طويلًا، فكأن في هذا نوعًا من النقد.
(1)
أخرجه البخاري (622)، ومسلم (1092/ 38).
(2)
أخرجه البخاري (617).
(3)
الخيط الأبيض من الخيط الأسود: يريد بياض النهار وسواد الليل. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (2/ 92).
(4)
أخرجه البخاري (4509)، ومسلم (1090/ 33) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} من الفجر قال له عدي بن حاتم: يا رسول اللَّه، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار".
(5)
قوله: "إن وسادك إذن لعريض" معناه: أن نومك إذن لطويل كنى بالوساد عن النوم؛ لأن النائم يتوسده. انظر: "غريب الحديث"، للخطابي (1/ 231).
وجاء في بعض الروايات: "إن قفاك لعريض"
(1)
، وقد وصفه بعض العلماء بأنه: عدم الفطنة
(2)
، وبعضهم قال: لا يمكن أن يوصف بذلك لأن عديًّا أبعد مَن أن يوصف بمثل ذلك، لكن المراد هنا: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن له في آخر الحديث فقال: "إنما هو سواد الليل وبياض النهار"
(3)
.
إذن؛ عدي كان فهم من الآية: أن يجعل عقالين؛ أي: خيطين؛ أحدهما: أبيض، والآخر: أسود، ويجعلهما تحت وسادته، ويظل ينظر فيهما فإذا عرفهما بالرؤية، حينئذ يمسك إذا تبين له أن هذا أبيض وهذا أسود أمسك.
فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالخيط الأسود سواد الليل، وبالأبيض بياض النهار.
وأيضًا جاء في حديث سهل بن سعد وهو متفق عليه أنه قال: "نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا أن يصوموا، ربط أحدهم في رجله خيطين أسود وأبيض، فلا يزال يأكل حتى يتمكن من رؤيتهما"؛
(1)
أخرجه البخاري (4510) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول اللَّه: ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: "إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين"، ثم قال:"لا، بل هو سواد الليل، وبياض النهار".
(2)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (4/ 133)؛ حيث قال:"وجزم الزمخشري بالتأويل الثاني فقال: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم قفا عدي؛ لأنه غفل عن البيان، وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة".
(3)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (4/ 133)؛ حيث قال:"وقد أنكر ذلك كثير منهم القرطبي فقال: حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم، وكأنهم فهموا أنه نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه وعضدوا ذلك بقوله: "إنك عريض القفا"، وليس الأمر على ما قالوه؛ لأن من حمل اللفظ على حقيقته اللسانية التي هي الأصل إن لم يتبين له دليل التجوز لم يستحق ذمًّا ولا ينسب إلى جهل، وإنما عنى واللَّه أعلم: أن وسادك إن كان يغطي الخيطين اللذين أراد اللَّه فهو إذن عريض واسع؛ ولهذا قال في أثر ذلك: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".
يعني: من التفريق بينهما، فنزلت:{مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا: أن ذلك هو سواد الليل وبياض النهار"
(1)
.
وجاء في الحديث المتفق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وقد جاء في بعض الروايات: أن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت
(2)
.
وفي رواية أُخرى: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل، ليوتر نائمكم"
(3)
، وفي رواية:"ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم"
(4)
. القصد من ذلك التمثيل.
وقد عرضت لجملة من الأحاديث لأن المؤلف لم يذكر شيئًا منها في هذا المقام.
فمعنى قوله تعالى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} : أنه للإنسان أن يأكل وأن يشرب وأن يظل إلى أن يتبيَّن له بياض الصبح، فإذا ما تبين له أمسك وامتنع عن ذلك ولا يجوز له، فإن أكل بعد ذلك؛ أي: بعد بدوِّ الفجر فإنه حينئذ يكون مفطرًا ويلزمه قضاء ذلك اليوم. هذا على الرأي الصحيح.
* قوله: (وَشَذَّتْ فِرْقَةٌ، فَقَالُوا: هُوَ الفَجْرُ الأَحْمَرُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الأَبْيَضِ).
وهذا فيه غرابة من المؤلف؛ لأنه على ترتيب المؤلف سيكون الفجر أنواعًا ثلاثة، مع أن المعروف أن هناك فجرين وهناك شفقين، فهناك الشفق
(1)
أخرجه البخاري (1917)، ومسلم (1091).
(2)
أخرجه البخاري (617).
(3)
لم أقف على هذه الرواية بهذا اللفظ.
(4)
أخرجه البخاري (621)، ومسلم (1093/ 39)، واللفظ له.
الأحمر الذي في المغرب، والشفق الأبيض الذي يبدأ بوقت العشاء أو يبدأ بنهاية الأحمر، وانتهى الأحمر بدأ الأبيض.
هنا المقصود بالشفق الأحمر
(1)
فيما يظهر لي الأبيض؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود"
(2)
، قالوا: والمراد بالأحمر هنا الأبيض، ويقولون: إن العرب في تعبيرها تقول: هذه امرأة حمراء؛ أي: بيضاء؛ يطلق هذا على هذا؛ إذن المراد هنا بالحمرة التي سماها المؤلف فجرًا هي في الحقيقة ليست فجرًا، لكنه إذا بدأ الفجر، أخذ الضوء يتبيَّن شيئًا فشيئًا، حتى يبدأ في الصبح، ثم في البيان أكثر، ثم يخالطه شيء من الحمرة، وهذا هو المقصود، والذي سيشير إليه حديث من الأحاديث التي ربما يذكره المؤلف أيضًا في هذا المبحث.
* قوله: (وَهُوَ نَظِيرُ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ)
(3)
.
وهذا منقولٌ عن علي رضي الله عنه أيضًا. وابن المنذر ممن يحكي الإجماع، وهو أيضًا ينقل آثارًا عن الصحابة في كتبه فنقل أن عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه حين صلى الفجر قال:"الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود"
(4)
. لكنه لم يرتب عليه حكمًا.
(1)
الشفق الأحمر: من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، ثم يغيب ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (1/ 318).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(14264) وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 118)؛ حيث قال:"وروي عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر، ثم صلى، وروي معنى ذلك عن ابن مسعود".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 118)؛ حيث قال:"وروينا عن علي أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود".
وقد يكون المقصود من ذلك أنه اتَّضح أكثر، وما المانع أن يكون علي رضي الله عنه بادر بصلاة الصبح من أول ما دخل وقتها، فلما خرج منها كان تبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود بشكل جليٍّ.
أما ما يتعلَّق بحذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقد نقل عنه ابن المنذر أيضًا أنه لما خرج الفجر تسحر ثم صلى.
وسيأتي في حديث زرٍّ ما يُشير إلى ذلك.
ونقل أيضًا قريبٌ من ذلك عند عبد اللَّه بن مسعود، ونقل عن مسروق
(1)
أنه قال: "لم يكن الفجر المعروف عندهم إنما هو فجركم؛ يعني: فجركم الذي يبدأ بمجرد بزوغ الفجر إنما هو الفجر الذي كان يملأ البيوت والطرق بالضوء"؛ أي: بالإضاءة، لكن ذلك قبل طلوع الشمس.
* قوله: (وَسَبَبُ هَذَا الخِلَافِ هُوَ اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَاشْتِرَاكُ اسْمِ الفَجْرِ -أَعْنِي: أَنْ يُقَالَ: عَلَى الأَبْيَضِ وَالأَحْمَرِ-).
أما الفجر، فلا يقال: على الأحمر، وإنما يقال: على الصادق والكاذب.
* قوله: (وَأَمَّا الآثَارُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ زرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:"تَسَحَّرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ: هُوَ النَّهَارُ إِلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ"
(2)
).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 118)؛ حيث قال:"وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وكان إسحاق يميل إلى القول، ثم قال: من غير أن يظن على الذين تأولوا الرخصة في الوقت الذي بينَّا قال: ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي بينَّا من الرخصة، ولا كفارة".
(2)
سيأتي تخريجه.
ومعنى هذا: أن الضوء قد ظهر إلا أن الشمس بعدُ لم تطلع، ومع ذلك يقول:"تسحرت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وفي بعض روايات هذا الحديث: أنه تسحر، ثم مرَّ على حذيفة فطلب حليبًا، ثم دعا بقدر فأمر بإحمائه ثم قدَّمه للأكل فقال: كل، فتوقف زِرٌّ، فقال: إني أريد الصيام فقال: وأيضًا أنا أريد الصيام، فأكل حذيفة، فأكلنا وشربنا ثم ذهبنا فأقيمت الصلاة وصلينا"
(1)
. فهذا يدل على التأخير.
لكن هذا الحديث تكلم عنه العلماء:
فمن العلماء من قال: يحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الآية، وهي قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . وهذا هو قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة؛ لأنهم يرون أن الصيام يلزم بطلوع الفجر الصادق فمتى ما بدا توقف الصائم عن الأكل حتى إذا كان في يده شيء وضعه، إلا إذا كان المؤذن يحتاط فيؤذن قبل ذلك هذا أمر يحتاج أن يتأكد منه.
يتبيَّن من هذا: أنَّ الحديث كما قال الطحاوي: "يحتمل أنه قبل نزول الآية"
(2)
.
وقال الحازمي أيضًا في كتاب "الاعتبار المعروف في الناسخ والمنسوخ": "أجمع العلماء على ترك هذا الحديث"
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 230) عن شقيق بن سلمة قال: "انطلقت أنا وزر بن حبيش، إلى حذيفة، وهو في دار الحارث بن أبي ربيعة، فاستأذنا عليه، فخرج إلينا، فأتي بلبن، فقال: اشربا، فقلنا: إنا نريد الصيام قال: وأنا أريد الصيام، فشرب، ثم ناول زرًّا فشرب، ثم ناولني فشربت، والمؤذن يؤذن في المسجد قال: فلما دخلنا المسجد أقيمت الصلاة وهم يغلسون".
(2)
يُنظر: "شرح معاني الآثار"، للطحاوي (2/ 53)؛ حيث قال: "وقد يحتمل حديث حذيفة عندنا، -واللَّه أعلم- أن يكون كان قبل نزول قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
(3)
يُنظر: "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار"، لأبي بكر الحازمي (ص 144)؛ حيث قال:"أجمع أهل العلم على ترك العمل بظاهر هذا الخبر".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد
(1)
، والنسائي
(2)
.
فالجمهور أخذوا بنص الآية وبالأحاديث كحديث: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، وكان ابن أم مكتوم يؤذن إذا طلع الفجر، فهذان النَّصَّان يثبتان أن هذا هو وقت الإمساك.
* قوله: (وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلَا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ المُصْعِدُ
(3)
، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ")
(4)
.
فبمجرد أن يخرج الفجر انتظروا حتى يختلط الأبيض بالحمرة.
* قوله: (قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ اليَمَامَةِ، وَهَذَا شُذُوذٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] نَصٌّ فِي ذَلِكَ أَوْ كَالنَّصِّ، وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ الفَجْرُ الأَبْيَضُ المُسْتَطِيرُ هُمُ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(23361) عن زر بن حبيش قال: "تسحَّرت ثم انطلقت إلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة بن اليمان فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت، وبقدر فسخنت، ثم قال: ادن فكل، فقلت: إني أريد الصوم، فقال: وأنا أريد الصوم، فأكلنا وشربنا، ثم أتينا المسجد، فأقيمت الصلاة، ثم قال حذيفة: هكذا فعل بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: أبعد الصبح؟ قال: نعم، هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس، قال: وبين بيت حذيفة وبين المسجد كما بين مسجد ثابت وبستان حوط"، وقد قال حماد أيضًا، وقال حذيفة:"هكذا صنعت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصنع بي النبي صلى الله عليه وسلم". قال الأرناؤوط: رجاله ثقات غير عاصم بن بهدلة، فهو صدوق حسن الحديث.
(2)
أخرجه النسائي (2153) عن زر بن حبيش قال: "تسحَّرت مع حذيفة، ثم خرجنا إلى الصلاة، فلما أتينا المسجد صلينا ركعتين، وأقيمت الصلاة وليس بينهما إلا هنيهة". وصححه الألباني.
(3)
قوله: "الساطع المصعد"؛ يعني: الصبح الأول المستطيل. يقال: سطع الصبح يسطع فهو ساطع، أول ما ينشق مستطيلًا. وهذا دليل على أن الصبح الساطع هو المستطيل. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (2/ 365)، و"تهذيب اللغة"، للأزهري (2/ 41).
(4)
أخرجه أبو داود (2348)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2031).
الجُمْهُورُ وَالمُعْتَمَدُ، اخْتَلَفُوا فِي الحَدِّ المُحَرِّمِ لِلْأَكْلِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طُلُوعُ الفَجْرِ نَفْسُهُ).
أي: هل يربط الحكم بطلوع الفجر أو لا بدَّ أن يتبينه الإنسان؟ هذا هو الذي يريد أن يقوله المؤلف، واللَّه تعالى يقول:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد} .
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ تَبَيُّنُهُ عِنْدَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ).
وهذه المواضع وقع فيها خلاف بين العلماء، والأمران متقاربان، فينبغي للمسلم أن يأخذ بالأحوط عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(1)
.
* قوله: (وَمَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْهُ، فَالأَكْلُ مُبَاحٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَعَ)
(2)
.
ينبغي ألا ننسى أن هذه الشريعة الإسلامية إنما بنيت على اليسر، واللَّه تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛ فهذه الشريعة بنيت على السماحة واليسر والتخفيف، وليس معنى ذلك أن يقول
(1)
جُزء من حديث أخرجه الترمذي (2518)، وصححه الألباني في "المشكاة"(2773).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"أحكام القرآن"، لابن العربي (1/ 131)؛ حيث قال:"ومن العلماء من جوَّز الأكل مع الشك في الفجر حتى يتبين؛ منهم ابن عباس والشافعي، لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وكان ابن أم مكتوم رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت". وتأوله علماؤنا: قاربت الصباح، وقاربت تبين الخيط، وهو الأشبه بوضع الشريعة وحرمة العبادة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"يوشك من يرعى حول الحمى أن يقع فيه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (3/ 253)؛ حيث قال:"وقت الصوم هو ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس، كما أن وقت تركه ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني، وليس للفجر الأول تعلق بعبادة بحال؛ فما لم يطلع الفجر الثاني فله الأكل فإن كان شك في طلوعه فالمستحب أن لا يأكل؛ فإن أكل ولم يتبين له طلوع الفجر وبقي على الشك فلا شيء عليه وصومه صحيح".
الإنسان: ما دامت الشريعة بنيت على التخفيف فأتساهل حتى أرى الصباح قد بدا والضياء قد امتد، لا يجوز هذا، بل لا بدَّ أن ألتزم بالنصوص الصريحة في مثل هذا المقام.
* قوله: (وَفَائِدَةُ الفَرْقِ: أَنَّهُ إِذَا انْكَشَفَ أَنَّ مَا ظُنَّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ كَانَ قَدْ طَلَعَ، فَمَنْ كَانَ الحَدُّ عِنْدَهُ هُوَ الطُّلُوعُ نَفْسُهُ، أَوْجَبَ عَلَيْهِ القَضَاءَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ العِلْمُ الحَاصِلُ بِهِ، لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ القَضَاءَ).
المراد هو الطلوع ذاته، فلو قُدِّر أن إنسانًا لم يتبين له، ثم تبين بعد ذلك أنه قد طلع قبل أن يمسك فهل عليه القضاء؟
من يقول بأنه الطلوع نفسه يلزمه القضاء، ومن لا فلا.
لكن اللَّه سبحانه وتعالى لم يضيق علينا في مثل هذه الأُمور، فما دام قد تبين لنا بياض النهار من سواد الليل قد انتهى.
* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، هَلْ عَلَى الإِمْسَاكِ بِالتَّبَيُّنِ نَفْسِهِ أَوْ بِالشَّيْءِ المُتَبَيَّنِ؟ لِأَنَّ العَرَبَ تَتَجَوَّزُ، فَتَسْتَعْمِلُ لَاحِقَ الشَّيْءِ بَدَلَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}؛ لِأَنَّهُ إِذَا تبَيَّنَ فِي نَفْسِهِ، تَبَيَّنَ لَنَا، فَإِذَنْ إِضَافَةُ التَّبَيُّنِ لَنَا هِىَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الخِلَافَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَبَيَّنُ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَمَيَّزُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ لَنَا).
بمعنى أنه طالما لم يرَ هذا البياض فاللَّه سبحانه وتعالى لا يكلفنا بما لا نستطع القيام به، إنما اللَّه تعالى قال:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
* قوله: (وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الإِمْسَاكِ. بِالعِلْمِ، وَالقِيَاسُ يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِالطُّلُوعِ نَفْسِهِ، أَعْنِي: قِيَاسًا عَلَى الغُرُوبِ، وَعَلَى سَائِرِ حُدُودِ الأَوْقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالزَّوَالِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِهَا فِي الشَّرْعِ هُوَ بِالأَمْرِ نَفْسِهِ، لَا بِالعِلْمِ المُتَعَلِّقِ بِهِ، وَالمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ
(1)
وَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ: أَنَّ الأَكْلَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِالطُّلُوعِ
(2)
،
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 259)؛ حيث قال:"ونزع مأكول، أو مشروب، أو فرج طلوع الفجر (ش) يعني: أن من أكل فتبين أنه فعل ما ذكر عند طلوع الفجر فإنه يمسك عن الأكل والشرب، ولا شيء عليه على المشهور، ولو لم يتمضمض كما هو ظاهر كلام غيره وهو كذلك، وكذلك لا شيء على من طلع عليه الفجر وهو يجامع فنزع فرجه من فرج موطوءته على المشهور، وبعبارة أُخرى قوله: طلوع الفجر؛ أي: مع طلوع الفجر؛ أي: في الجزء الملاقي للفجر سواء قلنا: النزع وطء أم لا؛ لأنه واقع في الليل ولا يتأتى قول تت وهو مبني على أن النزع ليس بوطء إلا إذا كان المراد بقوله: طلوع الفجر في طلوع الفجر مع أنه لا يصح؛ لأنه إذا نزع في طلوع الفجر كان نازعًا في النهار فلا يتأتى البناء المذكور".
(2)
أقرب ما وقفت عليه في مذهب الحنفية: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 77)؛ حيث قال:"فلا يجوز الصوم في الليل؛ لأن اللَّه تعالى أباح الجماع والأكل والشرب في الليالي إلى طلوع الفجر، ثم أمر بالصوم إلى الليل بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي: حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل".
ويُنظر أيضًا: "بدائع الصنائع"(2/ 86)؛ حيث قال: "أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر.
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (6/ 251)؛ حيث قال:"قال أصحابنا وغيرهم: كان أول الإسلام يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع من حين ينام أو يصلي العشاء الآخرة فأيهما وجد أو لا حصل به التحريم، ثم نسخ ذلك وأبيح الجميع إلى طلوع الفجر سواء نام أم لا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح العمدة"، لابن تيمية (1/ 532)؛ حيث قال:"وأما حديث: "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وقوله: "إذا سمع أحدكم النداء والإِناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته"؛ فقد قال أحمد في الرجل يتسحر =
وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ الإِمْسَاكُ قَبْلَ الطُّلُوعِ)
(1)
.
فإذا تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فإن المسلم يمسك عن ذلك ولا ينبغي له أن يتجاوز الحد حتى لو كان في يده إناء أو غير ذلك، أما حديث:"إن كان في يده إناء فلا يضعه"
(2)
، فهذا فيه كلام.
* قوله: (وَالحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الأَوَّلِ مَا فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ أَظُنُّهُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ).
أما قوله: في كتاب البخاري فهذا صحيح، وهو عند مسلم أيضًا، وقوله: أظنه، فالظن هنا معناه اليقين، وهو يريد بذلك حديث:"إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
والمؤلف فيما ينقله من أقوال ومن أحاديث إنما يعتمد على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر.
* قوله: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنَادِي حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ").
هذا نص صريح في هذا المقام، وقد رفع كلَّ إشكالٍ، فلنا أن نأكل وأن نشرب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ
= فيسمع الأذان؛ قال: يأكل حتى يطلع الفجر؛ فهو دليل على أنه لا يستحب إمساك جزء من الليل، وأن الغاية في قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} : داخلة في المغيَّا؛ بخلافها في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ؛ ولهذا جاءت هذه بحروف (حتى)، ولا ريب أن الغاية المحدودة بـ (حتى) تدخل فيما قبلها؛ بخلاف الغاية المحدودة بـ (إلى) ".
(1)
يُنظر: "أحكام القرآن"، لابن العربي (1/ 131)؛ حيث قال:"والسُّنة تعجيل الفطر مخالفة لأهل الكتاب، كذلك السُّنة تقديم الإمساك إذا قرب الفجر عن محظورات الصيام".
(2)
أخرجه أبو داود (2350) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". وقال الألباني: "إسناد صحيح على شرط مسلم. . . ". انظر: "السلسلة الصحيحة"(1394).
مَكْتُومٍ"، "لا يمنعنَّ أحدًا منكم أذان بلال" ثم بيَّن العلة: "فإنه يؤذِّنُ بليل"؛ حتى يتهيأ الناس للصلاة.
* قوله: (وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الخِلَافِ أَوْ كَالنَّصِّ، وَالمُوَافِقُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآيَةَ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الإِمْسَاكُ قَبْلَ الفَجْرِ، فَجَرْيًا عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَوْرَعُ القَوْلَيْنِ، وَالأوَّلُ أَقْيَسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
فهؤلاء الذين يقولون بالإمساك قبل الفجر أخذوا بالأحوط حتى لا يقع الإنسان في المحذور؛ فمن يفعل هذا فإنه يفعله ورعًا، لكن الموافق للقياس هو الذي في نصِّ الآية.
* قوله:
(الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ الإِمْسَاكُ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الإِمْسَاكُ زَمَانَ الصَّوْمِ عَنِ المَطْعُومِ وَالمَشْرُوبِ وَالجِمَاعِ)
(1)
.
وهذه المسألة قد ورد النص فيها في كتاب اللَّه، فقال اللَّه تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، ثم قال:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .
وجاء أيضًا في أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث المتفق عليه في قصة الأعرابي الذي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللَّه: هلكت، قال:"ما أهلكك؟ " قال: وقعتُ على أهلي في نهار رمضان. . .
(1)
تقدَّم الكلام عليه.
إلى آخر الحديث، والذي بيَّن فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن عليه أن يعتق رقبة، فقال: لا أجد، فأمره أن يصوم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، فأمره أيضًا أن يطعم ستين مسكينًا، فقال: لا أجد، ثم جيء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكتلٍ فيه تمر فأراد الرسول أن يتصدَّق به إلى أن قال: واللَّه ما بين لابتي -يعني: بين الحرتين- في المدينة رجلًا أفقر مني، فدفعه الرسول إليه
(1)
.
ومعنى هذا: أن الإنسان إذا عجز تسقط عنه الكفارة
(2)
، لكن هذه الكفارة على الترتيب وليست على التخيير
(3)
، وسيأتي الكلام عنها إن شاء اللَّه.
(1)
أخرجه مسلم (1111) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت، يا رسول اللَّه، قال:"وما أهلكك؟ "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال:"هل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال:"فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، قال: ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال:"تصدَّق بهذا" قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:"اذهب فأطعمه أهلك".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص 334)؛ حيث قال:"ما ثبت في الذمة بالإعسار، وما لا يثبت قال في "شرح المهذب": الحقوق المالية الواجبة للَّه تعالى ثلاثة أضرب: ضرب يجب لا بسبب مباشرة من العبد: كزكاة الفطر، فإذا عجز عنه وقت الوجوب لم يثبت في ذمته، فلو أيسر بعد ذلك لم يجب".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 327)، حيث قال:" (قوله في المتن: ومن جامع أو جومع إلى آخره) وفي "جوامع الفقه": امرأتان تساحقتا فإن أنزلتا فعليهما القضاء دون الكفارة، وإن لم تنزلا فلا قضاء عليهما. انتهى "غاية". ولا غسل عليهما كذا في "الفتاوى الظهيرية". انتهى "دراية". (قوله: أو أكل وشرب عمدًا)؛ يعني: في صوم رمضان. اهـ. "غاية". وفي "القنية" عن المرغيناني: من أكل في نهار رمضان متعمدًا على وجه الشهرة يؤمر بقتله. انتهى "كاكي". (قوله: قضى وكفر)؛ أي: إذا كان عمدًا وقد نوى من الليل. اهـ. "غاية". (قوله: ككفارة الظهار) والكاف في ككفارة الظهار في محل النصب؛ لأنه صفة مصدر محذوف تقديره وكفر تكفيرًا ككفارة الظهار في الترتيب".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 254)؛ حيث قال: "ولما كانت أنواع الكفارة ثلاثة والمعروف أنها على التخيير قال (ص): بإطعام ستين =
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}).
وقد جاء في بعض الآثار: أنهم كانوا في أول الأمر يختانون أنفسهم، فيواقعون النساء في الليل، فأنزل اللَّه هذه الآية
(1)
، وهي نص في
= مسكينًا لكل مد وهو الأفضل، أو صيام شهرين، أو عتق رقبة (ش) فقوله: بإطعام متعلق بكفر والمراد بالإطعام التمليك، ولو عبر به لكان أولى والمعنى: أن كفارة الفطر في رمضان على التخيير فإن شاء ملك ستين مسكينًا، والمراد به ما يشمل الفقير لكل واحد مد بمده عليه الصلاة والسلام. وانظر:"مناهج التحصيل"، للرجراجي (2/ 146).
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 204)؛ حيث قال:" (ويجب) على الواطئ (معها)؛ أي: الكفارة (قضاء يوم الإفساد على الصحيح)؛ لأنه إذا وجب على المعذور فعلى غيره أولى، ولما رواه أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أمر به الأعرابي. والثاني: لا يجب لجبر الخلل بالكفارة (وهي) -يعني: كفارة الوقاع في رمضان- ككفارة الظهار، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر"، وكفارة الظهار مرتبة بالإجماعِ، ولأن فيها صومًا متتابعًا فكانت مرتبة كالقتل، ولأنها كفارة ذكر فيها الأغلظ أولا وهو العتق؛ فكانت مرتبة بخلاف كفارة اليمين، وقد أشار إلى ترتيبها بقوله: (عتق رقبة) مؤمنة (فإن لم يجد) ها (فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع) صومهما (فإطعام ستين مسكينًا) أو فقيرًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 327)؛ حيث قال:"والكفارة على الترتيب فيجب عتق رقبة) إن وجدها بشرطه، ويأتي مفصلًا في الظهار، (فإن لم يجد) الرقبة ولا ثمنها (فصيام شهرين متتابعين فلو قدر على الرقبة في الصوم لم يلزمه الانتقال) عن الصوم إلى العتق، نص عليه. . . و (لا) يجزئه الصوم (إن قدر) على العتق (قبله)؛ أي: قبل الشروع في الصوم. . . (فإن لم يستطع) الصوم (فإطعام ستين مسكينًا)، لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من غيره، وهذا كله لخبر أبي هريرة السابق. وهو ظاهر في الترتيب ولم يأمره بالانتقال إلا عند العجز ككفارة الظهار".
(1)
أخرج أبو داود (2313) عن ابن عباس: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، فكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذأ صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته، وقد صلى العشاء، ولم يفطر، فأراد اللَّه عز وجل أن يجعل =
المسألة: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ؛ فاللَّه سبحانه وتعالى رخَّصَ للمسلم أن يجامع أهله في ليل رمضان، أما النهار فلا يجوز، بل هو من الأُمور المغلظة؛ لأن الجماع أخطر وأغلظ ممن يأكل أو يشرب متعمدًا.
إذن هذه الآية ذكرت أمورًا ثلاثة: الأكل والشرب والجماع، فهذه نص في هذه المسألة، والأحاديث الكثيرة أيضًا تؤيد ذلك.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَمِنْهَا مَنْطُوقٌ بِهَا).
وهذه المسائل التى سيذكرها المؤلف ذات علاقة بالأكل والشرب والجماع، وهذه المسائل على نوعين: مسكوت عنها ومنطوق بها، ومعنى مسكوت عنها؛ أي: أنه لم ينطق بها النص، ومنطوق بها؛ أي: نطق بها النص، كما في قوله:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} فنطق النص بذلك.
إذن هناك مسائل منطوق بها، وهناك مسائل مسكوت عنها لكنها ملحقة بالمنطوق بها، وبعضها محل خلاف: هل يلحق أو لا يلحق؛ لأنَّ من العلماء من يقول: كلُّ ما وصل إلى الجوف فإنه يفطر الصائم، من أيِّ منفذ كان، وبعضهم: يخُصُّ ذلك بما وصل عن الطريق المعتاد وهو الفم، وبعضهم يرى: أنَّ الكحل لو وصل الحلق يفطر
(1)
، وأنَّ الحقن المعروفة
= ذلك يسرًا لمن بقي ورخصة ومنفعة، فقال سبحانه:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، وكان هذا مما نفع اللَّه به الناس ورخص لهم ويسر". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم" (2003).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"، لابن القاسم (1/ 269)؛ حيث قال: "قلت لابن القاسم: فهل كان مالك يكره السعوط للصائم؟ قال: نعم. قلت: فهل كان مالك يكره الكحل للصائم؟ فقال: قال مالك: هو أعلم بنفسه، منهم من يدخل ذلك حلقه ومنهم من لا يدخل ذلك حلقه، فإن كان ممن يدخل ذلك حلقه فلا يفعل. قلت: فإن فعل أترى عليه القضاء والكفارة؟ فقال: قال مالك: إذا دخل حلقه وعلم أنه قد وصل الكحل إلى حلقه فعليه القضاء. قلت: أفيكون عليه الكفارة؟ قال: لا كفارة عليه عند =
تفطر على أيِّ نوع كانت
(1)
، وكذلك لو قطر في أنفه فوصل إلى حلقه
(2)
؛
= مالك ". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 524).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 318)؛ حيث قال:" (أو اكتحل بكحل أو صبر أو قطور أو ذرور أو إثمد ولو غير مطيب يتحقق معه وصوله إلى حلقه) نص عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم". رواه أبو داود. . . (وإلا)؛ أي: وإن لم يتحقق وصوله إلى حلقه (فلا) فطر لعدم تحقق ما ينافي الصوم (أو استقاء)؛ أي: استدعى القيء".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (2/ 341)؛ حيث قال: " (ومن احتقن أو استعط أو أقطر في أذنه أفطر) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر مما دخل". ولوجود معنى الفطر، وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف (ولا كفارة عليه) لانعدامه صورة. وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" (2/ 402).
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 524)؛ حيث قال:" (بحقنة بمائع)؛ أي: ترك إيصال ما ذكر لمعدة بسبب حقنة من مائع في دبر أو قبل امرأة لا إحليل، واحترز بالمائع عن الحقنة بالجامد فلا قضاء ولا فتائل عليها دهن، وقوله: (أو حلق) معطوف على معدة؛ أي: ترك وصول المتحلل أو غيره لحلق، ولما قيد الحقنة بالمائع علم أنه راجع للمتحلل، ولما أطلق في الحلق علم أنه راجع لمتحلل أو غيره، لكن بشرط ألا يرد غير المتحلل؛ فإن رده بعد وصوله الحلق فلا شيء فيه؛ فعلم أن وصول شيء للمعدة من الحلق مطلقًا، أو من منفذ أسفل بشرط، أن يكون مائعًا أو للحلق كذلك مفطر هذا إذا كان الواصل للحلق من المائع من الفم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (6/ 313)؛ حيث قال:"وأما الحقنة فتفطر على المذهب، وبه قطع المصنف والجمهور، وفيه وجه. قاله القاضي حسين: لا تفطر وهو شاذ، وإن كان منقاسًا فعلى المذهب. قال أصحابنا: سواء كانت الحقنة قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى المعدة أم لا فهي مفطرة بكل حال عندنا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 318)؛ حيث قال:" (أو احتقن) في دبره فسد صومه؛ لأنه يصل إلى الجوف، ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، ولأنه أبلغ وأولى من الاستعاط (أو داوى الجائفة أو جرحًا بما يصل إلى جوفه)؛ لأنه أوصل إلى جوفه شيئًا باختياره أشبه ما لو أكل".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 402)؛ حيث قال: " (قوله: أو احتقن أو استعط) كلاهما بالبناء للفاعل من حقن المريض دواءه بالحقنة، واحتقن -بالضم- غير جائز، وإنما الصواب: "حقن" أو "عولج بالحقنة" والسعوط: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الدواء الذي صب في الأنف وأسعطه إياه، ولا يقال: استعط مبنيًّا للمفعول. "معراج"، وعدم وجوب الكفارة في ذلك هو الأصح؛ لأنها موجب الإفطار صورة، ومعنى: والصورة الابتلاع، كما في "الكاف"، وهي منعدمة والنفع المجرد عنها يوجب القضاء فقط إمداد (قوله: أو أقطر) في المغرب قطر الماء صبه تقطيرًا، وقطره مثله قطرًا وأقطره لغة. اهـ. وعلى هذه اللغة يتخرج كلامهم هنا، وحينئذ فيصح بناؤه للفاعل، وهو الأولى لتتفق الأفعال وتنتظم الضمائر في سلك واحد، ويصح بناؤه للمفعول ونائب الفاعل. قوله:"في أذنه". "نهر". ويتعين الأول في عبارة المصنف على الأفصح لذكره المفعول الصريح وهو قوله دهنًا منصوبًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 524)؛ حيث قال:" (وإن) وصل له (من أنف وأذن وعين) كالكحل نهارًا؛ فإن تحقق عدم وصوله للحلق من هذه المنافذ فلا شيء عليه، كأن اكتحل ليلًا وهبط للحلق نهارًا، أو وضع دواء أو دهنًا في أنفه أو أذنه ليلًا فهبط نهارًا، وأشعر كلامه بأن ما يصل نهارًا للحلق من غير هذه المنافذ لا شيء فيه؛ فمن دهن رأسه نهارًا ووجد طعمه في حلقه أو وضع حناء في رأسه نهارًا فاستطعمها في حلقه فلا قضاء عليه، ولكن المعروف من المذهب وجوب القضاء".
مذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه"، لابن الرفعة (6/ 356)؛ حيث قال:" (أو) استعط؛ أي: وهو (أخذ) الدواء وغيره من أنفه، حتى يصل دماغه. . . عالمًا بالتحريم - بطل صومه".
ويُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 158)؛ حيث قال:" (ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق) المشروع (إلى جوفه) من باطن أو دماغ؛ (فالمذهب أنه إن بالغ) في ذلك (أفطر)؛ لأن الصائم منهي عن المبالغة كما سبق في الوضوء، (وإلا)؛ أي: وإن لم يبالغ (فلا) يفطر؛ لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره، وقيل: يفطر مطلقًا؛ لأنه وصل بفعله، وقيل: لا يفطر مطلقًا لعدم الاختيار. أما سبق ماء غير المشروع: كأن جعل الماء في فمه أو أنفه لا لغرض أو سبق ماء غسل التبرد أو المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق فإنه يفطر؛ لأنه غير مأمور بذلك، بل منهي عنه في الرابعة، ولا يفطره ولا يمنعه من إنشاء صوم نفل سبق ماء تطهير الفم من نجاسة وإن بالغ فيه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 318)؛ حيث قال:" (أو استعط) في أنفه (بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه). وفي "الكافي": أو خياشيمه فسد صومه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم الصائم عن المبالغة في الاستنشاق، ولأن الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطر كجوف البدن".
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"
(1)
.
وقد جدَّت أُمور: فقد يؤخذ من الإنسان دم ويضاف إليه دم وهو صائم، وهناك المصابون بمرض السكر ربما يتناولون بعض الإبر، هُناك إبر في الوريد وإبر تُضرب في العضل وغير ذلك مسائل كثيرة بعضها كانت معروفة وبعضها كانت غير معروفة.
هناك دواء يصعد إلى الدماغ ولا يذهب إلى الجوف، وهناك بعض الأدوية لا تذهب إلى المعدة لكنها نذهب إلى الرئتين كالبخَّاخ الذي يستعمله بعض الناس المصابون بمرض الربو، وهكذا.
هذه مسائل جدَّت، وسنتكلم عنها، ولعلَّ المؤلف سيذكر بعض الشيء في هذا المقام.
* قوله: (أَمَّا المَسْكُوتُ عَنْهَا إِحْدَاهَا: فِيمَا يَرِدُ الجَوْفَ مِمَّا لَيْسَ بِمُغَذٍّ).
وهذه قضية مهمة، هل هُناك فرق بين المغذي وبين غير المُغذِّي؟
الإبر بعضها مُغذِّي، وبعض الناس المرضى يضرب شيئًا من الإبر أو يوضع له مُغذِّي فيغذِّيه كأنه يأكل طعامًا أو شرابًا، وبعض الإبر لا يُغذِّي ولكنه قد يسكن الآلام، فهل لهذه أثر أو لا؟
دون أن ندخل في تفصيل مذاهبهم فكلامهم كثير جدًّا.
جمهور العلماء من حيث الجملة يرون: أنَّ كل ما وصل إلى الجوف فإنه يفطر سواء كان مُغذِّيًا أو غير مُغذٍّ حتى ما وصل إلى الدماغ، فلو أنَّ إنسانًا وضع دواءً في أذنه فصعد إلى دماغه، أو قطر في أنفه فنزل في حلقه، أو اكتحل فنزل الكحل إلى حلقه فأصبح يحس ذلك في حلقه،
(1)
أخرجه النسائي (87) عن لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول اللَّه، أخبرني عن الوضوء؟ قال:"أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا". وصححه الألباني.
يرون أنَّ ذلك كلَّه يفطر، وكذلك لو تناول حقنةً من الحقن سواء كانت مُغذِّية أو غير مُغذِّية، فهي تفطر أيضًا، ومن بين هؤلاء من حيث الجُملة الأئمة الأربعة، وإن كان مذهب المالكية قد يكون أكثر المذاهب من حيث الجُملة تخفيفًا في هذه المسألة.
ومن العلماء: من فرَّق بين الحقن المُغذِّية وغير المُغذِّية
(1)
، وهذه تكلم عنها العلماء قديمًا، وكانت معروفة والطب كان معروفًا، بل من العلماء من عرف بالطب، فابن القيِّم كان يتكلَّم عن الطب كثيرًا في كتابه "الطب النبوي" الذي هو جزء من "زاد المعاد"، وعرض لذلك غيره كالسيوطي، وغير هذين من العلماء، لكن الطب عندما تطور ووصل إلى نتائج قيمة بسبب وجود أجهزة تقدم إلى غير ذلك.
* قوله: (وَفِيمَا يَرِدُ الجَوْفَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلَ الحُقْنَةِ).
ومنفذ الطعام والشراب إنما هو الحلق، لكنْ هناك منافذ أُخرى لكنها ليست منافذ للطعام، فالأنف مثلًا: لو استنشقت ماء ودخل فإنه يصل إلى حلقك، لو قطرت في عينك تصل إلى حلقك، والأذن أيضًا.
إذن؛ هذه منافذ، لكنها ليست منافذ للطعام، فمن يقول بالتفريق بين المنافذ يقول: كل ما يصل إلى الحلق أو إلى الجوف من غير هذا المنفذ
(1)
يُنظر: "مجموع الفتاوى"، لابن تيمية (25/ 233 - 334)؛ حيث قال:"وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة؛ فهذا مما تنازع فيه أهل العلم؛ فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم مَن فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام فلو كانت هذه الأُمور مما حرمها اللَّه ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه؛ فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا - علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك".
المعروف فلا تأثير له، ومن لا يفرق يقول: لا نرى فرقًا بينهما.
* قوله: (وَفِيمَا يَرِدُ الجَوْفَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ).
كالحقنة فإنها قد تضرب في الوريد وفي العضل؛ هذه الحقنة قد تكون مغذية يستفيد منها الإنسان، وقد تكون غير مُغذِّية وإنما هي علاج.
* قوله: (وَفِيمَا يَرِدُ بَاطِنَ سَائِرِ الأَعْضَاءِ، وَلَا يَرِدُ الجَوْفَ مِثْلُ: أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ، وَلَا يَرِدَ المَعِدَةَ).
كما لو أن هذا الشيء يتبخر فيصعد إلى الدماغ هل يفطر؟
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ قِيَاسُ المُغَذِّي عَلَى غَيْرِ المُغَذِّي).
أنه قد يفتح للإنسان فتحة فيأتيه الطعام من طريق غير الحلق، فهذا وصل إلى الجوف.
وباختصار فيما يتعلَّق بالإبر أو التقطير في العين أو في الأذن أو في الأنف أو وصول ماء إلى الحلق غير مقصود: إذا نظرنا إلى علوم أدلة الشريعة وما بنيت عليه من أُسس ومن بينها هذه الأُصول التي قامت عليها نجد أنها مبنيَّةٌ على التيسير عملًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، فإذا أخذنا بظاهر هذه الآية؛ فنقول: إن مثل هذه الأشياء لا تأثير لها على الرأي الصحيح؛ لأنَّ أكثر العلماء يرون تأثيرها، لكنَّ هذه الحقنة إن كانت مغذية فالمعنى الموجود فيها موجود في الأكل والشرب؛ لأن الشراب مغذيك عن الجوع، والشراب إنما يمنع عنك العطش، فالصائم يعطش ويجوع، حتى وإن كان في مكان بارد لا بدَّ أن يحس بالعطش؛ لأنه سيخرج ويذهب هنا وهنا، وقد يكون في الشتاء فلا يحس بالعطش لكنه يحس بالجوع، فالشتاء ربما يحتاج الإنسان إلى الأكل فيه أكثر.
إذن الإنسان الذي يريد أن يحتاط لدينه ويتجنَّب هذه المواضع، ما
لم تكن هناك حاجة أو ضرورة، فعليه ألا يضرب الإبر أو يقطر في أنفه أو في أذنه أو في حلقه أو يكتحل إلا في الليل، وبذلك يكون مستقرَّ النَّفس مطمئنَّ الفؤاد عاملًا بحديث:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
وعندما تنظر إلى مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة ومذهب المالكية ليس ببعيد عنهم تفصيلًا تجد أنهم يمنعون هذه الأشياء. وترى أن هؤلاء علماء ولهم مكانتهم ويعتمد عليهم، وتجد أنك واقعٌ في الحيرة؛ إذن لماذا تذهب فتقطر في عينك؟ نعم، إن كانت هناك حاجة ضرورة فالظاهر أن القطرة لا تأثير لها؛ لأنها ليست مغذِّية، ولو أن إنسانًا استنشق الماء متعمدًا عن طريق الأنف ليصل إلى حلقه ليبتلعه؛ هذا متعمد، لكن إنسان يتوضأ وهو صائم فتجاوز الماء فدخل إلى الحلق؛ هذا لا شيء عليه
(1)
؛ لأنه ما قصد ذلك، وقد يأكل وقد يشرب وقد يأكل حتى يتضلع شبعًا وربما يشرب حتى تمتلئ معدته من الماء وهو صائم ثم يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما أطعمه اللَّه وسقاه"
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (3/ 66)؛ حيث قال:"وإذا تمضمض الصائم فسبقه الماء فدخل حلقه؛ فإن لم يكن ذاكرًا لصومه فصومه تام كما لو شرب، وإن كان ذاكرًا لصومه فعليه القضاء عندنا خلافًا للشافعي".
مذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة"، للقرافي (2/ 508)؛ حيث قال:"إذا سبقه الماء من المضمضة يقضي في الواجب دون التطوع قال: سند لا تكره المضمضة للحر والعطش ولا لغير ذلك، وإنما تكره المبالغة والفرق بينها وبين مداواة الحفر: أن الماء لا يعلق بخلاف الدواء".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 158)؛ حيث قال:" (ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق) المشروع (إلى جوفه) من باطن أو دماغ (فالمذهب أنه إن بالغ) في ذلك (أفطر)؛ لأن الصائم منهي عن المبالغة كما سبق في الوضوء (وإلا)؛ أي: وإن لم يبالغ (فلا) يفطر؛ لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره، وقيل: يفطر مطلقًا؛ لأنه وصل بفعله، وقيل: لا يفطر مطلقًا لعدم الاختيار".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 483)؛ حيث قال:" (أو تمضمض) أو استنشق فدخل الماء حلقه بلا قصد، أو بلع ما بقي من أجزاء الماء بعد المضمضة لم يفسد". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 123).
(2)
جُزء من حديث أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) عن أبي هريرة، عن =
ولو رأيت مسلمًا يشرب في نهار رمضان، فلا أقول: هذا نسي وأتركه؛ لأنني لو تركته فقد تركته على منكر، نعم هو معذور ولا مسؤولية عليه أمام اللَّه، لكنك أنت المشاهد له المطلع على ما يعمل فينبغي أن تنكر عليه هذا العمل، أولًا: لأنه شرب أو أكل في رمضان وهذا لا يجوز.
الأمر الآخر: أن هذا في ظاهره منكر؛ لأن الأكل والشرب في رمضان حتى من غير المسلمين لا يجوز وليس لهم أن يجاهروا وأن يظهروا أمام المسلمين الأكل والشرب لما يترتب على ذلك من الاستخفاف بالإسلام وبأهله
(1)
.
وقد ذكرنا أن الإنسان لو قدر أنه رأى الهلال إما للإمساك أو للإفطار ولم يؤخذ برأيه فأفطر فإنه لا يظهر ذلك للناس، لما في ذلك من مخالفة الإمام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس"
(2)
.
فالمخالفة ممنوعة، والشذوذ مردود ولا ينبغى له أن يخالف الجماعة، ولا يقول: إن اللَّه تعالى يقول: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]؛ لأنك تخالف هؤلاء إذا كانوا على ضلال وأنت على حق، أما أن تختلف معهم في مسألة والجماعة في جانب وأنت تشذ وترى أنك على الحق، لا، حتى وإن اعتقدت ذلك وأردت أن تحتاط لنفسك، لكن لا تجاهر في هذا الأمر.
إذن؛ في هذه القضية الأحوط للمسلم ألا يفعل ذلك، لكن لو أصيب إنسان بداء السكري، وبلغ الحد، هل يجوز للإنسان في هذا المقام أن يترك أخذ الإبرة؟ إن فعلها ولم يترتب عليه ضرر يفعل ذلك، لكنه قد
= النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نسي فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه اللَّه وسقاه".
(1)
وقال الذهبي في "الكبائر"(ص 64): "وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا غرض (أي: بلا عذر يبيح ذلك) أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكُّون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال".
(2)
تقدَّم تخريجه.
يترتب عليه ضرر وهذا مصاب مطلقًا في كل حياته، والمريض إذا لحقته مضرة يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، وكذلك الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أفطرتا ولا شيء ثم قضتا ولا كفارة، لكن إن خافت على الجنين أو الطفل الذي ترضعه فإنها شي هذه الحالة على قول من أقوال العلماء تفطران وتقضيان وتطعمان عن كل يوم مسكينًا
(1)
.
إذن شريعة اللَّه بنيت على التيسير على الناس، لكن ليس معنى هذا أن يأتي إنسان فيقول: هذه شريعة سمحة، هذه شريعة ميسرة، لماذا نتشدد واللَّه سبحانه وتعالى نهى عن التشدد في ذلك، فيتخذ ذلك وسيلة للتساهل في أموره. لا، إنما أنت في أُمور تضطر إليها فتفعلها، أُمور تجد فيها خلافًا فما تجد نفسك تطمئن إليه، إن كنت من أهل العلم وأهل الذكر فافعل.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ: قِيَاسُ المُغَذِّي عَلَى غَيْرِ المُغَذِّي).
وربما بعض الناس يحاول أن يستفتي أحدًا ويحاول أن يقحم هذا المستفتى، فتجده يزين ويخفف الأمر. فإذا عرضت فتواك على شيخ من المشايخ أو أحد المفتين فتشدد له الأمر وتبين له ضرورتك وأنت غير مضطر، فيفتيك على ضوء ما قلت، لكن الآثم في الواقع هو أنت؛ لأنه أفتاك على نحو مما سمع، فينبغي لك أن تقول ذلك، ولذلك جاء في الحديث:"استفت نفسك وإن أفتوك وإن أفتوك"
(2)
.
(1)
تقدَّم الكلام بالتفصيل على هذه المسألة.
(2)
أخرجه أحمد (18001) عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا أريد ألا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه؛ فقال: "يا وابصة، أخبرك ما جئت تسألني عنه، أو تسألني؟ "، فقلت: يا رسول اللَّه فأخبرني، قال:"جئت تسألني عن البر والإثم؟ " قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري، ويقول:"يا وابصة، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوْك". وضعف إسناده الأرناؤوط.
ولما اختلف العلماء في الدم الفاحش وغير الفاحش
(1)
، قال بعضهم في تفسيره: هو ما تراه في نفسك فاحشًا؛ إذن فالإنسان أعلم الناس بنفسه.
فهل هو بحاجة إلى هذه الحقنة أو لا؟ والأحوط لك أيها المسلم ألا تقدم على ذلك، فإن كانت هناك حاجة فافعل، وإلا فلا.
وهناك ضرورات، وهناك حاجات، وهناك كماليات؛ فالإنسان إذا اضطر إلى أمر من الأُمور، كأن تلحقه مشقة يجب عليه أن يفعل هذا الشيء.
ولذلك جاء في الحديث: "لا ضرر ولا ضرار"
(2)
، "من ضار ضره اللَّه، لا ضرر ولا ضرار"
(3)
؛ يعني: لا تضر أحدًا ولا ينبغي أن يضرك أحد ولا ينبغي أن تشارك في مضرة أحد
(4)
.
ووضع العلماء القاعدة: "الضرر يزال"
(5)
، لكنَّ هذا الضرر أحيانًا قد يكون فيه ضرر مماثل لغيرك فلا يكون ذلك مبررًا لأن ترتكب الضرر،
(1)
تقدَّم الكلام عليه في باب الوضوء.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2341) عن ابن عباس، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(250).
(3)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 51) عن أبي سعيد الخدري رفعه: "لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره اللَّه، ومن شاق شق اللَّه عليه". وانظر: "إرواء الغليل"، للألباني (3/ 410).
(4)
يُنظر: "جامع العلوم والحكم"، لابن رجب (3/ 911)؛ حيث قال:"واختلفوا: هل بين اللفظتين -أعني: الضَّرر والضرار- فرقٌ أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد. . . وقيل: الضَّرر: أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضررًا بما ينتفع هو به، والضِّرار: أن يُدخل على غيره ضررًا بما لا منفعةَ له به، كمن منع ما لا يضرُّه ويتضرَّرُ به الممنوع، ورجَّح هذا القول طائفةٌ، منهم ابنُ عبد البرِّ، وابنُ الصلاح. وقيل: الضَّرر: أنْ يضرَّ بمن لا يضره، والضِّرار: أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على وجهٍ غيرِ جائزٍ".
(5)
يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 41)؛ حيث قال:"القاعدة الثانية: الضرر يزال، ومن ثم الرد بالعيب والحجر والشفعة والقصاص والحدود والكفارات، وضمان المتلف والقسمة ونصب الأئمة، والقضاة ودفع الصائل وقتال المشرك".
والضرر لا يزال بالضرر، لكن قد تأكل ميتة والميتة محرمة:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، لكنك مع ذلك إذا اضطررت تأكل الميتة؛ هذا تخفيف من اللَّه:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178].
وقلت: إننا نجد أحيانًا أن اللَّه سبحانه وتعالى عندما يعرض لنا بعض الأحكام، يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]؛ فاللَّه تعالى عندما فرض هذه الأحكام لم يرد سبحانه وتعالى أن يشق علينا، ولم يرد أن يكلفنا ما لا نطيق، وإنما فرض علينا هذه العبادات، وأمرنا بأمور وألزمنا أن نفعلها، وأمرنا بأمور وخيرنا بأن نفعلها وألا نفعلها، ونهانا عن أُمور وحذرنا من أن نرتكب هذه المنهيات.
إذن هناك زواجر وهناك أوامر، فأمرنا بأمور وألزمنا بها، فيجب أن نقف عندها ولا نتركها ولا نتجاوزها، وحدَّ حدودًا وأمرنا بألا نرتكب هذه الحدود.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمُغَذِّي، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّوْمِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ لَمْ يُلْحَقِ الْمُغَذِّيَ بِغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِمْسَاكُ فَقَطْ عَمَّا يَرِدُ الْجَوْفَ سَوَّى بَيْنَ الْمُغَذِّي وَغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ أَيِّ الْمَنَافِذِ وَصَلَ، مُغَذِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُغَذٍّ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 252) حيث قال: وضبط الدخول، كل عينٍ يمكن الاحتراز منه غلابًا، وصل من الظاهر إلى المعدة والحلق من منفذٍ واسعٍ كالفم =
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمُغَذِّي): المنطوق به هو الأكل والشرب، فالأكل يُغذِّي البدن، والشرب يرفع الظمأ.
* قوله: (فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول. . .): كثيرًا ما يكرِّر المؤلف هذه العبارة (معقول المعنى وغير معقول المعنى)
(1)
، ذكرها في مسألة النية في باب الطهارة، وكذا ذكرها في الصلاة والصيام والحج، والمعنى: هل هي عبادة معقولة المعنى -أي: معلَّلة تعرف علتها-، أو أنها أمرٌ توقيفيٌّ لا نعرف علته.
* قوله: (وَأَمَّا مَا عَدَا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ قَبَّلَ فَأَمْنَى فَقَدْ أَفْطَرَ، وَإِنْ أَمْذَى فَلَمْ يُفْطِرْ إِلَّا مَالِكٌ)
(2)
.
بعدما فرغ المؤلِّف من ذكر ما هو مسكوتٌ عنه وهو غير المُغذِّي -إذ لم يُنص عليه- انتقل إلى ذكر ما جاء به النص منطوقًا كالقبلة والحجامة والقيء، أما القبلة فقد اتَّفق الفقهاءُ على أنَّ من قبَّل فترتَّب على قبلته إمناءٌ فإنه يبطلُ صومه، فهذا قدر متفق عليه بين أهل العلم
(3)
، وذهب
= والأنف والأذن، وفي إلحاق الحقنة بالمائعات بذلك خلافٌ. وكذلك في إلحاق غير المغذي من ذلك به، أو القصر عليه. وانظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 80).
(1)
يُنظر: "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (1/ 548) حيث قال: "التعبد من اللَّه تعالى لعباده على معنيين؛ أحدهما: التعجد في الشيء بعينه لا لعلةٍ معقولةٍ، فما كان من هذا النوع لم يجز أنْ يُقاس عليه، والمعنى الثاني: التعبد لعللٍ مقرونةٍ به، وهي الأُصول التي جعلها اللَّه تعالى أعلامًا للفقهاء، فردوا إليها ما حدث من أمر دينهم، مما ليس فيه نصٌّ بالتشبيه والتمثيل عند تساوي العلل من الفروع بالأصول، وليس يجب أنْ يشارك الفرع الأصل في جميع المعاني، ولو كان ذلك واجبًا لكان الأصل هو الفرع، ولما كان يتهيأ قياس شيءٍ على غيره، وإنما القياس تشبيه الشيء بأقرب الأُصول به شبهًا".
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 127) حيث قال: إذا قبَّل فأمنى أو أمذى، ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوالٍ:
…
. الحال الثاني: أن يمني فيفطر بغير خلافٍ نعلمه؛ لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه إنزالٌ بمباشرةٍ، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج.
مالكٌ رحمه الله إلى أنَّ الصوم يَفسد بخروج المذي
(1)
أيضًا، ويظهر من عبارة المؤلف أنَّ هذا من مفردات مذهب مالكٍ، والصحيحُ أنه مذهب أحمد
(2)
أيضًا، ففي المشهور عنه أنَّ من قبَّل فأمنى أو باشر أو كرَّر النظر فترتَّب عليه المني أو المذي فإنَّه يفسد صومه، وفي روايةٍ عنه: التوقف
(3)
، ولكنَّ الأول أشهر.
* قوله: (وَإِنْ أَمْذَى فَلَمْ يُفْطرْ إِلَّا مَالكٌ): الفاء في هذه العبارة تحتاج إلى حذف؛ لأنه وإن كانت (إنْ) الشرطية بعدها النفي فلا حاجة لها.
وقد لاحظت في بعض النسخ تخطئة المؤلِّف في هذا الموضع وأنه كان يجب عليه أن يقول: (إلا مالكًا).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 523) حيث قال: (و) ترك إخراج (مذيٍ) كذلك لا بلذةٍ أو غير معتادةٍ أو مجرد إنعاظٍ.
قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: (قوله لا بلا لذةٍ)؛ أي: لا إن خرج بلا لذةٍ أصلًا، أو خرج بلذةٍ غير معتادة فلا يفسد صومه.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 319) حيث قال: (فأمْنى أو أمذى)؛ لأنه إذا فسد بالقبلة المقترنة بالإنزال فلأن يفسد به بطريقٍ أولى فإن لم ينزل فقد أتى محرَّمًا ولم يفسد صومه، وإن أنزل لغير شهوةٍ فلا كالبول (أو قبل أو لمس أو باشر دون الفرج فأمنى أو أمذى) لما روى أبو داود عن عمر أنه قال: هششت فقبَّلت وأنا صائمٌ فقلت: يا رسول اللَّه، إني فعلت أمرًا عظيمًا قبَّلت وأنا صائم، قال:"أرأيت لو تمضمضت من إناءٍ وأنت صائمٌ" قلت: لا بأس به. قال: "فمه" فشبه القُبلة بالمضمضة من حيث إنها من مُقدِّمات الفطر، فإنَّ القبلة إذا كان معها نزول أفطر وإلا فلا. ذكره في المغني والشرح وفيه نظر؛ لأن غايته: أنها قد تكون وسيلةً وذريعةً إلى الجماع، وعلم منه أنه لا فطر بدون الإنزال.
(3)
قلت: لعله يقصد بالتوقف هاهنا عدم فساد الصوم، وهي روايةٌ في المذهب استظهرها المرداوي، حيث قال في "الإنصاف" (3/ 301) في قوله (أو أمذى): "وقيل: لا يفطر، اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين. نقله عنه في الاختيارات.
قال في الفروع: وهو أظهر. قلت: وهو الصواب، واختار في الفائق: أن المذي عن لمسٍ لا يفسد الصوم، وجزم به في نهاية ابن رزين ونظمها".
والصَّواب أنَّ المؤلِّف رحمه الله لم يخطئ في ذلك، وأن ذلك جائزٌ، فله أن يقول:(إلا مالكٌ)، أو (إلا مالكًا)؛ لأنَّ هناك أمرين، يعني كل الفقهاء متفقون على أنَّ من قبل فأمنى فسد صومه؛ هذه واحدة.
فالرفع على استثناء مالكٍ من قوله: (كلهم)، والنصب على استثناء مالك من الثاني، كأن المؤلف يريد أن يقول: كل الفقهاء متفقون على أنَّ من قبل فأمنى يفسد صومه، أما منْ قبَّل فأمذى فلا يفسد صومه، أو لم يفسد -جاء بالنفي أيضًا- إلا مالكٌ، ويجوز: إلا مالكًا في هذه الحالة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا
(1)
، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهَا لِلشَّابِّ
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ
(3)
، فَمَنْ رَخَّصَ فِيهَا فَلِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ"
(4)
وَمَنْ كَرِهَهَا فَلِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: الْقُبْلَةُ تُفْطِرُ
(5)
، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ:"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ: "أَفْطَرَا جَمِيعًا" خَرَّجَ هَذَا الْأَثَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ
(6)
)
(7)
.
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
سيأتي.
(4)
أخرجه أحمد (26533) عن أبي قيسٍ، قال: أرسلني عبد اللَّه بن عمرو إلى أمِّ سلمة أسألها هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّل وهو صائمٌ؟ فإن قالت: لا، فقل لها: إن عائشة تخبر الناس "أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّل وهو صائمٌ؟ " قال: فسألها أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّل وهو صائمٌ؟ قالت: لا، قلت: إنَّ عائشة تخبر الناس "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّل وهو صائمٌ؟ " قالت: لعله إياها كان لا يتمالك عنها حبًّا، أما إيَّاي، فلا). وضعَّف إسناده الأرناؤوط. وانظر:"التمهيد"، لابن عبد البر (5/ 124).
(5)
سيأتي.
(6)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 88).
(7)
قال الطحاويُّ: وحديث ميمونة بنت سعد، رواه عنها أبو يزيد الضبي وهو رجلٌ =
اختلف أهل العلم في القبلة للصائمِ على أقوالٍ:
1 -
فمنهم من أجازها مطلقًا وهم الجمهور
(1)
: وهو قول عمر بن الخطاب وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وعائشة، وحفصة، وغيرهم
(2)
رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين، وهو المنصوص عليه من مذهب أحمد
(3)
، وبه قال إسحاق بن راهويه
(4)
، وهو مذهب أبي حنيفة
(5)
من حيث الجملة.
وحجتهم حديث عائشة: (أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّل وهو صائمٌ، وإنه
= لا يعرف فلا ينبغي أن يعارض حديث من ذكرنا بحديث مثله. "شرح معاني الآثار"(2/ 89).
(1)
الذي جاء عن الجمهور هو القول بكراهتها لا الجواز كما ذكر الشارح رحمه الله، كما سيأتي.
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 136) حيث قال: واختلفوا في القبلة للصائم، فرخَّص فيها كثيرٌ من أهل العلم، وروينا الرخصة فيها عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وابن عباسٍ، وعائشة، وبه قال عطاء، والشعبي.
(3)
الذي جاء عن الحنابلة هو القول بالكراهة لا الجواز. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 487 - 488) حيث قال: (و) كره له (قبلة ودواعي وطءٍ) كمعانقةٍ ولمسٍ وتكرار نظر (لمن تحرك شهوته) لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن القبلة شابًّا، ورخص لشيخٍ" حديث حسنٌ رواه أبو داود من حديث أبي هريرة ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء وكذا عن ابن عباس بإسناد صحيحٍ فإن لم تتحرك شهوته لم تكره. . ولأنه صلى الله عليه وسلم "كان يُقبِّل وهو صائم" لما كان مالكًا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه.
(4)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (3/ 1241) حيث قال: قال إسحاق: كما قال، إلا أنهما مباحان جميعًا.
(5)
وكذا الأحناف على الكراهة. يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 417) حيث قال: (وكره قُبلة إلخ) جزم في السراج بأنَّ القُبلة الفاحشة بأن يمضغ شفتيها تكره على الإطلاق أي: سواء أمن أو. . . . (قوله: إن لم يأمن المفسد)؛ أي: الإنزال أو الجماع إمداد (قوله: وإن أمن لا بأس) ظاهره أنَّ الأولى عدمها لكن قال في الفتح وفي الصحيحين: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يُقبِّل ويُباشر وهو صائمٌ"، وروى أبو داود بإسنادٍ جيدٍ عن أبي هريرة "أنه عليه الصلاة والسلام سأله رجل عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فنهاه" فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب.
لأملككم لإرْبه)
(1)
، وقرئت (لإرَبه): يعني: أملككم لحاجته
(2)
.
ولقصة الرجل الذي سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو سئل عن رسول اللَّه، فأخبر بأنه يُقبِّل، فأعظم ذلك وقال: وأينا يملك إربه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأخشاكم وأتقاكم للَّه"
(3)
.
2 -
ومنهم من أجازها مع الكراهة: وبه قال الشافعي
(4)
في حقِّ من يخشى على نفسه.
وعلة ذلك أنَّ الإنسان ضعيفٌ فلربما دفعه الشيطان إلى ما وراء ذلك.
3 -
ومنهم من منع منها: وهو مرويٌّ عن ابن عمر
(5)
رضي الله عنهما، ونقل عن سعيد بن المسيب
(6)
أنه قال: "إن قبَّل فإنه يقضى يومه"، وحُكى قريبٌ منه عن عبد اللَّه بن مسعود
(7)
رضي الله عنه.
(1)
أخرجه مسلم (1106).
(2)
لإربه بكسر الهمزة وتسكين الراء أي: لعضوه ولحاجته. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 24).
(3)
أخرجه مسلم (1108) عن عمر بن أبي سلمة، أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيقبِّل الصائم؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سل هذه" لأم سلمة فأخبرته، أنَّ رسول صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول اللَّه، قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما واللَّه، إني لأتقاكم للَّه، وأخشاكم له".
(4)
قول الشافعية كقول الأحناف والحنابلة من القول بالكراهة كما سبق. يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 159) حيث قال: (وتكره القُبلة) في الفم أو غيره (لمن حركت شهوته) رجلًا كان أو امرأة كما هو المتجه في المهمات بحيث يخاف معه الجماع أو الإنزال، والمعانقة واللمس ونحوهما بلا حائل كالقبلة فيما ذكر (والأولى لغيره)؛ أي: لمن لم تحرك شهوته ولو شابًّا (تركها) حسمًا للباب، إذ قد يظنها غير محركة وهي محركة؛ ولأنَّ الصائم يسن له ترك الشهوات مطلقًا (قلت: هي كراهة تحريمٍ في الأصح) المنصوص.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 186)، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان ينهى عن القُبلة للصائم". وانظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 136).
(6)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 355) حيث قال: وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيب أنَّ من قبَّل في رمضان قضى يومًا مكانه.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 186)، عن ابن مسعود في الرجل يُقبِّل، وهو =
ولا شكَّ أنَّ هذا القول على خلاف ما مرَّ في الأحاديث الصحيحة، منْ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل وهو صائمٌ، وأنه سئل عنها فأجازها.
وقوله هنا: "أفطرا جميعًا"، يعني المُقبِّل والمُقبَّل، لكنه أثرٌ ضعيفٌ
(1)
، خرجه الطحاوي وغيره
(2)
، فلا يقوَى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها في هذا المقام.
4 -
ومنهم من قال: إنها جائزةٌ للشيخ مكروهةٌ للشاب: وهو المحكي عن عبد اللَّه بن عباس
(3)
رضي الله عنهما.
وعلَّة هذا القول: أنَّ شهوة الشاب تتوقد فيخشى ألا يملك إرَبه فيقع في المحذور، أما الشيخ فقد مرت به السنون وضعفت شهوته فلا يُخشى عليه في هذا غالبًا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن القبلة للشيخ فأجازها، ثم أتاه آخر فسأله فرخَّص له، ثم أتاه آخر فسأله فنهاه
(4)
.
قال: فوجدوا أنَّ الذي أذن له شيخٌ، وأنَّ الذي نهاه إنما هو شابٌّ، ولكن في سنده مقالٌ.
= صائمٌ؟ قال: "يقضي يومًا مكانه" قال سفيان: "ولا يؤخذ بهذا". وانظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 136).
(1)
قال الدارقطني في سننه (3/ 152): لا يثبت، وأبو يزيد الضبي ليس بمعروفٍ.
وقال البخاري فيما نقله عنه الترمذي في "العلل الكبير"(ص: 116): هذا حديث منكرٌ، لا أحدِّث به.
(2)
أخرجه الدارقطني في السنن (3/ 152).
(3)
أخرجه البيهقيُّ في "السنن الكبرى"(4/ 391)، عن عطاء بن يسار، أنَّ ابن عباسٍ سئل عن القُبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب.
(4)
أخرجه أبو داود (2387) عن أبي هريرة، أنَّ رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، "فرخص له"، وأتاه آخر، فسأله،، "فنهاه"، فإذا الذي رخص له شيخٌ، والذي نهاه شابٌّ. وقال الألباني في صحيح أبي داود حسن صحيح.
5 -
ومنهم من قال: إنها سنةٌ: وبه قال أهل الظاهر
(1)
، واحتجُّوا على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما
(2)
.
ويلحق بهذه المسألة مسألتي المباشرة
(3)
، وتكرار النظر
(4)
.
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 338) حيث قال: وأما القُبلة والمباشرة للرجل مع امرأته وأمته المباحة له فهما سنة حسنة، نستحبها للصائم، شابًّا كان أو كهلًا أو شيخًا، ولا نبالي أكان معها إنزال مقصود إليه أو لم يكن.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 417) حيث قال: وكذا المباشرة الفاحشة في ظاهر الرواية، وعن محمد كراهتها مطلقًا وهو رواية الحسن قيل: وهو الصحيح. اهـ. واختار الكراهة في الفتح وجزم بها في الولوالجية بلا ذكر خلافٍ وهي: أن يعانقها وهما متجردان ويمس فرجه فرجها، بل قال في الذخيرة: إن هذا مكروهٌ بلا خلافٍ؛ لأنه يفضي إلى الجماع غالبًا. اهـ.
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 459) حيث قال: (ولا يقرب)(الصائم) فاعله (النساء) مفعوله (بوطءٍ لا مباشرة ولا قُبلة للذة) أما الوطء فحرامٌ إجماعًا، وأما ما بعده فقيل: مكروه، وقيل: حرام وهو الذي يؤخذ من كلامه؛ لعطفه على المحرم إجماعًا؛ ولقوله بعد ولا يحرم ذلك عليه في ليلةٍ، فإنْ فعل شيئًا من ذلك وسلم فلا شيء عليه، وإن أنزل فعليه القضاء والكفارة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذَّب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 335) حيث قال: ويحرم عليه المباشرة في الفرج لقوله عز وجل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإنْ باشرها في الفرج بطل صومه؛ لأنه أحد ما ينافي الصوم فهو كالأكل، وإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل، أو قبَّل فأنزل بطل صومه، وإن لم يُنزِل لم يبطل صومه.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 481 - 482) حيث قال: (أو باشر دون فرجٍ فأمنى أو أمذى) فسد. أما الإمناء: فلمشابهته الإمناء بجماع؛ لأنه إنزال مباشرة، وأما الإمذاء: فتحلل الشهوة له وخروجه بالمباشرة، فيشبه المني، وبهذا فارق البول.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 323) حيث قال: وأما إذا أنزل بنظرٍ فلعدم المباشرة، وقال مالك: إن أنزل بالنظرة الأُولى لا يفسد صومه، وإن أنزل بالثانية يفسد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي:"لا تتبع النظرة النظرة فإنما الأولى لك والأُخرى عليك"؛ ولأنَّ النظرة الأولى تقع بغتةً فلا يستطاع الامتناع عنها بخلاف الثانية، ولنا أنَّ النظر مقصورٌ عليه غير متصلٍ بها فصار كالإنزال بالتفكر، والمراد بما روي في حق الإثم؛ ولأن ما يكون مفطرًا لا يشترط التكرار فيه، وما لا =
وبهذا يظهر أنَّ قول المؤلف: (فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ. . .)، يقصد به عامَّة العلماء، لا أنه إجماعٌ، فتنبَّه.
* قوله: (وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ هَذِهِ مِنْ قِبَلِ الْغَلَبَةِ وَمِنْ قِبَلِ النِّسْيَانِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي الْمُفْطِرَاتِ وَأَحْكَامِهَا)
(1)
.
قد يحصل من الإنسان تقبيلٌ، أو أمورٌ أُخرى، كأن ينزل ناسيًا، وكأنْ يأكل أو يشرب ناسيًا، أو أنْ يدخل إلى جوفه شيءٌ فهذا كله معفوٌّ عنه لعموم قول اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(2)
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه اللَّه وسقاه"
(3)
، لكن لو تذكَّر فعليه أن يقطع ذلك.
= يكون مفطرًا لا يفطر بالتكرار كالمس والاستمناء بالكف على ما قاله بعضهم، وعامتهم على أنه يفسد.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 707 - 708) حيث قال: (وإن بإدامة فكرٍ أو نظرٍ) إنْ كان عادته الإنزال من استدامتهما ولو في بعض الأحيان (إلا أنْ) يكون عادته عدم الإنزال من استدامتهما و (يخالف عادته) فينزل بعد استدامتهما فلا كفارة على ما اختاره ابن عبد السلام، وقيل: عليه الكفارة مطلقًا. ومفهوم "إدامة" أنه لو أمنى بمجرد فكرٍ أو نظرٍ فيه فلا كفارة عليه، وهو كذلك.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 159) حيث قال: (لا فكر) وهو: إعمال الخاطر في الشيء (ونظر بشهوة) إذا أمنى بهما أو بضم امرأةٍ بحائلٍ بشهوةٍ وإن تكررت الثلاثة بها، إذ لا مباشرة، فأشبه الاحتلام مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل، وقيل: إن اعتاد الإنزال بالنظر أفطر، وقيل: إن كرَّر النظر فأنزل أفطر.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 481) حيث قال: (أو كرَّر النظر فأمنى) لا إن أمذى، فسد صومه؛ لأنه أنزل بفعلٍ يتلذذ به يمكن التحرز عنه، أشبه الإنزال بالمس.
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2045)، وصحَّحه الألبانيُّ في إرواء الغليل (82).
(3)
أخرجه البخاري (1933) ومسلم (1155) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا نسي فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه اللَّه وسقاه".
* قوله: (وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا هُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ: فَالْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ).
قوله: (وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به)، المنطوق: هو الذي نطق به النص
(1)
؛ أي: الذي جاءت به الآية أو الحديث نصًّا لا مفهومًا، وأمَّا المفهوم: فهو الذي يُفهم
(2)
من هذا النصِّ، وهذا المفهوم قد يكون موافقًا وقد يكون مخالفًا، وهذا الموافق قد يكون موافقًا مساويًا وقد يكون موافقًا أدنى، وقد يكون مفهوم مخالفة.
ومفهوم الموافقة
(3)
حجةٌ عند الفقهاء والأصوليين
(4)
، وأما مفهوم المخالفة
(5)
فهو حجة عند الجمهور
(6)
، إلا عند أبي حنيفة وبعض المتكلمين
(7)
، ويفرِّقون بين أجزائه، فليست كلُّ أجزاء مفهوم المخالفة حجة.
(1)
يُنظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 430) حيث قال: والمنطوق: ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق.
(2)
يُنظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 430) حيث قال: المفهوم: ما دلَّ اللفظ عليه لا في محل النطق.
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 66) حيث قال: مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محل النطق، ويُسمَّى أيضًا فحوى الخطاب، ولحن الخطاب.
(4)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 67) حيث قال: وهذا مما اتَّفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال: إنه ليس بحجةٍ.
(5)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 69) حيث قال: مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويُسمَّى دليل الخطاب أيضًا. وانظر:"المستصفى" للغزالي (ص: 265).
(6)
يُنظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 39) حيث قال: وَجَمِيعُ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلَّا مَفْهُومَ اللَّقَبِ".
(7)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 725) حيث قال: "وهو"؛ أي: مفهوم المخالفة، "حجةٌ إلا عند أبي حنيفة، وبعض المتكلمين" قال الآمدي: أثبته =
* قوله: (أَمَّا الْحِجَامَةُ فَإِنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا تُفْطِرُ وَأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْهَا وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(1)
، وَدَاوُدُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
(3)
، وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لِلصَّائِمِ وَلَيْسَتْ تُفْطِرُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ
(6)
، وَقَوْمٌ قَالُوا:
= الشافعي، ومالك، وأحمد، والأشعري، وجماعةٌ من الفقهاء والمتكلمين، وأبو عبيدة، وجماعة من أهل العربية، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه، والقاضي أبو بكر، وابن سريج، والقفَّال، والشاشي، وجمهور المعتزلة.
(1)
يُنظر: "كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 319) حيث قال: (أو حجم أو احتجم) في القفا أو الساق نص عليه. (وظهر دم) نص عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم". رواه أحمد والترمذي من حديث رافع بن خديج ورواه أحمد أيضًا من حديث ثوبان وشداد بن أوس وعائشة وأسامة بن زيد وأبي هريرة ومعقل بن سنان وهو لأبي داود من حديث ثوبان، ولابن ماجه من حديث شداد وأبي هريرة وهذا يزيد على رتبة المستفيض.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 326) حيث قال: لا يجوز لأحدٍ أن يحتجم صائمًا فإن فعل فعليه القضاء، وبه قال داود والأوزاعي وعطاء.
(3)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (3/ 1267) حيث قال: قال إسحاق: والحاجمُ والمحجوم إذا تعمَّدا ذلك أفطرا عليهما قضاء يوم مكان يوم، ولا كفارة عليهما.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 518) حيث قال: (و) كرهت (حجامة مريضٍ) إن شك في السلامة فإن علمها جازت، وإن علم عدمها حرمت (فقط)؛ أي: لا صحيح فلا تكره حجامته إن شكَّ في سلامته وأولى أن علمها فإن علم عدمها حرمت فالفرق بين المريض والصحيح حالة الشك.
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 160) حيث قال: (ولا يفطر بالفصد والحجامة) أما الفصد فلا خلاف فيه. وأما الحجامة؛ فلأنه صلى الله عليه وسلم "احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم" رواه البخاري. وروى النسائي "احتجم وهو صائم محرم". وهو ناسخ لحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم"؛ لأنه كما قال الإمام الشافعي متأخر عنه بسنتين، وزيادة وعن أنس قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر بن أبي طالب وهو يحتجم وهو صائم، فقال: أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم".
(6)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 130) حيث قال: وكان مالكٌ، والثوري، والشافعي، وأبو ثورٍ يقولون: لا شيء.
إِنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَلَا مُفْطِرَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ
(2)
، وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
(3)
أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ"، وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ هَذَا كَانَ يُصَحِّحُهُ أَحْمَدُ
(4)
، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ)
(5)
.
الحجامة: هي أخذ شيءٍ من الدم
(6)
، وهي من الطب المعروف عند العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله، ولا تزال إلى يوم النَّاس هذا.
فما حكم خروج الدم من الصائم أثناء صومه، وهل يفرق ببن ما يفعله الإنسان عمدًا وبين ما يخرج من غير قصد، وهل هناك فرقٌ بين القليل والكثير؟
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 62) حيث قال: فإنْ أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسيًا لم يفطر وإن نام فاحتلم أو نظر إلى امرأةٍ فأنزل أو ادَّهن أو احتجم أو اكتحل أو اكتحل أو قبَّل لم يفطره.
(2)
أخرجه أبو داود (2367) وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(931).
(3)
أخرجه الترمذي (774) وقال: حديث رافع بن خديج حديث حسنٌ صحيحٌ. وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(931).
(4)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني"(ص: 425) حيث قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيُّ شيء أصح في "أفطر الحاجم والمحجوم؟ " قال: حديث ثوبان، قلت: حديث أبي أسماء أو معدان؟ قال: مكحول، عن شيخ من الحي، عن ثوبان، ثم قال: كل شيء يروى عن ثوبان فهو صحيحٌ، يعني: حديث مكحول هذا.
(5)
أخرجه البخاري (1938) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم".
(6)
الحجامة: إخراج الدم من القفا بواسطة المصِّ بعد الشرط بالحجم. انظر: "شرح الزرقاني على الموطأ"(2/ 187)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 244).
والجواب: لو خرج من الإنسان دمٌ من غير قصدٍ كأنْ يكون رعافًا
(1)
، أو عن طريق جرحٍ فإنه لا يفسد صومه.
كذلك لو أخذ منه دمٌ قليلٌ كالذي يؤخذ منه للتحليل، فإنه لا تأثير له، لكن إن أخذت منه كميةٌ كبيرةٌ لتُنقل إلى غيره، فهذه لا شكَّ أنها تفسد الصيام؛ لأنه قام به عمدًا.
القاعدة العامَّة: ما قلَّ فلا أثر له، وما كثر فلا يخلو: إما أن يفعله الإنسان متعمدًا، فهذا يؤثر على صيامه، وإما أن يكون بغير عمدٍ فهذا لا أثر له.
مذاهب العلماء في الحجامة:
القول الأول: إنها تفطر، وبه قال أحمد
(2)
، والأوزاعي
(3)
، وإسحاق
(4)
، ونقل كذلك عن بعض السلف، واحتجوا على ذلك بما يلي:
أولًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"
(5)
.
ثانيًا: ما نقل عن بعض السلف أنه كان يترك الاحتجام إلى الليل، ومن أولئك عبد اللَّه بن عمر
(6)
رضي الله عنهما، وأجاب أصحاب القول الثاني عن ذلك بأنه نقل عن بعض السلف أنه كان يحتجم، وأما فعل ابن عمر وغيره فهذا من باب الاحتياط والتورُّع.
القول الثاني: أنها مكروهةٌ، وبه قال الجمهور؛ مالك
(7)
،
(1)
الرُّعاف: الدمُ يخرج من الأنف. انظر: "الصِّحاح" للجوهري (4/ 1365).
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 447)، عن نافعٍ، قال: كان ابن عمر يحتجم وهو صائمٌ ثم تركه بعد فكان يحتجم بالليل فلا أدري عن شيءٍ ذكره أو شيءٍ سمعه. وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 120).
(7)
تقدَّم.
والشافعي
(1)
، والثوري
(2)
، واحتجوا بما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه:(احتجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو صائمٌ)
(3)
، وفي رواية:(وهو محرمٌ)
(4)
ووجه الدلالة من هذه الرواية أنه كان صائمًا محرمًا، لكنَّ الظاهرَ أنه لم يكن صائمًا فلا حجة في هذه الرواية.
القول الثالث: أنها غير مكروهةٍ ولا مفطرة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
(5)
.
هكذا ذكر المؤلِّف ثلاثة أقوال، والحقيقة أنَّ الأقوال في هذه المسألة ترجع إلى قولين:
الأول: إنَّ الحجامة لا تفسد الصيام، والثاني: إنها تفسده.
* قوله: (فَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَذْهَبُ التَّرْجِيحِ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ الْجَمْعِ.
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ
(6)
إِذَا لَمْ يَعْلَمِ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَمَنْ ذَهَبَ مَذهَبَ التَّرْجِيحِ قَالَ بِحَدِيثِ ثَوْبَانَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُوجِبٌ حُكْمًا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَافِعُهُ وَالْمُوجِبُ مُرَجَّحٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الرَّافِعِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجها.
(5)
تقدَّم.
(6)
البراءة الأصليَّة: هي استصحاب حكم العقل عدم الأحكام خلافًا للمعتزلة والأَبْهَري وأبي الفَرَج. انظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 447).
بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِرَفْعِهِ، وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ قَدْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ).
الترجيحُ هنا من حيث الدلالة لا من حيث السند والصحة، إذ لو كان الترجيح من حيث السَّند والصحة لقدمنا حديث ابن عباس، لكنَّ الترجيح هنا من حيث الدلالة، لأنَّ حديث ثوبان ناقلٌ عن البراءة الأصلية، بخلاف حديث ابن عباسٍ فإنه باقٍ على الأصل.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُوجِبٌ حُكْمًا): أي: أقرَّ حكمًا من الأحكام، ألا وهو إفطار المحتجم، فنقل عن الأصل، وجاء بحكم جديدٍ نقل إليه، والنقل فيه إثبات حكمٍ، إذًا الحجامة تُبطل الصيام.
قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَافِعُهُ): أي: رافعٌ لهذا الحكم، فيكون المحتجمُ كغيره.
أولًا: الموجب مرجحٌ عند كثيرٍ من العلماء على الرافع؛ لأنه جاء بزيادة حكمٍ، فوجب العمل بحديث ثوبان ما دام أنه قد صح ونقل إلى حكم جديد.
ثانيًا: أنَّ حديث ثوبان من قبيل القول، وحديث ابن عباسٍ من قبيل العمل، والقول في الجملة أقوى من العمل.
ثالثًا: أنَّ العمل بحديث ثوبان أبرأُ للمسلم وأحوطُ له، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(1)
.
رابعًا: أنَّ العمل بحديث ثوبان هو المأثورُ عن بعض السَّلف.
* قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَذَلِكَ شَكٌّ، وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ عَمَلًا وَلَا يَرْفَعُ الْعِلْمَ الْمُوجِبَ لِلْعَمَلِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ لَا يَرَى الشَّكَّ مُؤَثِّرًا فِي الْعِلْمِ، وَمَنْ
(1)
جزءٌ من حديثٍ أخرجه الترمذي (2518) وصحَّحه الألبانيُّ في إرواء الغليل (2074).
رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا حَمَلَ حَدِيثَ النَّهْي عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَحَدِيثَ الِاحْتِجَامِ عَلَى رَفْعِ الْحَظْرِ، وَمَنْ أَسْقَطَهُمَا لِلتَّعَارُضِ قَالَ بِإِبَاحَةِ الِاحْتِجَامِ لِلصَّائِمِ).
اعلم أنه لا يمكن أن يجيز النَّبي صلى الله عليه وسلم الحجامة ويمنعها من جانب آخر، كما أنه لا يمكن أن يُقال: إنَّ هذا أمرٌ خاصٌّ بالنبَّي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى دليلٍ.
كذلك أيضًا القول بالنَّسخ، وكون أحد الحديثين: ناسخًا، والآخر: منسوخًا، فهذا يحتاج إلى معرفة المتقدم من المتأخر، وهذا لا يُعرف إلا بالتاريخ، وكل ذلك غير واردٍ.
كذلك يبعد حمل النهي في هذه المسألة على الكراهية؛ لدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"
(1)
، على فساد الصوم، فليست القضية قضيةَ كراهة، بل هما قولان متقابلان، يفطر المحتجم، لا يفطر.
وأما قضية الإسقاط، فلا يمكنُ أن تَسقُط أحاديثُ صحيحةٌ ثابتةٌ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمجرد أنَّه قد بدا التعارض بينها.
* قوله: (وَأَمَّا الْقَيْءُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ
(2)
عَلَى أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ
(3)
الْقَيْءُ فَلَيْسَ بِمُفْطِرٍ، إِلَّا رَبِيعَةَ
(4)
فَإِنَّهُ قَالَ: مُفْطِرٌ، وَجُمْهُورُهُمْ
(5)
أَيْضًا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
هذا إجماعٌ. يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 237) حيث قال: وأجمعوا أنه لا شيءَ على الصائم إذا ذرعه القيءُ إلا الحسن البصري فإنه قال: عليه. ووافق في أُخرى.
(3)
ذرعه القيء؛ أي: غلبه وسبقه فخرج من فيه. انظر: "العين" للخليل (2/ 97) و"جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 691).
(4)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدوَّنة" لابن يونس (3/ 1117) حيث قال: وقال ربيعة: يقضي فيهما. ودليله أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم "قاء فأفطر". قال: "ومن استقاء عامدًا فعليه القضاء".
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 295) حيث قال: (قوله أو قاء وعاد لم يفطر) لحديث السنن "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه القضاء، وإن =
عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ فَإِنَّهُ مُفْطِرٌ إِلَّا طَاوُسًا)
(1)
.
القيء: هو هذا الذي يخرج من المعدة، وله حالتان:
الحالة الأولى: أنْ يغلب الإنسان فيخرج منه من غير إرادته.
الحالة الثانية: أنْ يتعمَّد إخراجه، كأن يحسَّ رعشةً في نفسه أو اضطرابًا ونحو ذلك فيتعمد القيء، وقد لا يجد شيئًا من ذلك فيدخل إصبعه في حلقه ليقيء. وفرقٌ بين الحالتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء"
(2)
، ومعنى: ذرعه
(3)
= استقاء فليقض" وإنما ذكر العود ليفيد أنَّ مجرد القيء بلا عودٍ لا يفطر بالأولى وأطلقه فشمل ما إذا ملأ الفم أو لا، وفيما إذا عاد وملأ الفم خلاف أبي يوسف، والصحيح قول محمد؛ لعدم وجود الصنع؛ ولعدم وجود صورة الفطر، وهو الابتلاع، وكذا معناه؛ لأنه لا يتغذى به بل النفس تعافه.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدَّردير، وحاشية الدسوقي (1/ 523) حيث قال:(و) بترك إخراج (قيءٍ) فإنْ استدعاه فالقضاء دون الكفارة ما لم يرجع منه شيءٌ ولو غلبةً، وإن خرج منه قهرًا فلا قضاء إلا أن يرجع منه شيءٌ فالقضاء فقط ما لم يختر في إرجاعه فالكفارة أيضًا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 415) حيث قال: (و) يُفطر (باستدعاء القيء) وإن لم يعد شيءٌ منه إلى جوفه فإنه مفطر لعينه لا لعود شيءٍ منه (لا إنْ ذرعه) القيءُ بالذال المعجمة؛ أي: غلبه فلا يفطر به لخبر: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض" رواه ابن حبان وغيره وصححوه.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 318) حيث قال: (أو استقاء)، أي: استدعى القيء (فقاء طعامًا أو مرارًا أو بلغمًا أو دمًا أو غيره ولو قلَّ) لحديث أبي هريرة المرفوع: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن غريبٌ ورواه الدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات.
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدوَّنة" لابن يونس (3/ 1117) حيث قال: وقال طاوس: لا قضاء عليه فيهما. ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثٌ لا يفطِّرن الصائم" فذكر القيء.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1676) وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (923).
(3)
تقدَّم.
القيء أي: غلبه فلم يستطع رده، ومعنى استقاء
(1)
أي: تعمَّد أن يخرجَ القيءَ من داخل بدنه إلى خارج فمه.
كذلك لو ذرعه القيءُ ثم ردَّه إلى معدته، فإنه يفسد صومه؛ لأنه تعمَّد رده.
وجمهور الفقهاء على أنَّ من ذرعه القيء فليس بمفطرٍ، إلا ربيعة شيخ مالك فإنه قال بفطره، ونُقل ذلك أيضًا عن قلةٍ من أهل العلم.
وأما من استقاء فجمهور الفقهاء على أنه مفطرٌ بذلك إلا ما جاء عن طاوس رحمه الله.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي تَصْحِيحِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَانِ؛ أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفطَرَ، قَالَ مَعْدَانُ: فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ، قَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ". وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ هَذَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(2)
، وَالْآخَرُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
(3)
، وَأَبُو دَاوُدَ
(4)
أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ"
(5)
، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(6)
فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه الترمذي (87)، وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (111).
(3)
أخرجه الترمذي (720) حديث أبي هريرة حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه من حديث هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا من حديث عيسى بن يونس"، وقال البخاري: "لا أراه محفوظًا".
(4)
أخرجه أبو داود (2380) وقال أبو داود: رواه أيضًا حفص بن غياثٍ، عن هشامٍ مثله. وصحَّحه الألباني مرفوعًا في إرواء الغليل (930).
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
أخرجه مالكٌ في الموطأ (1/ 304)(47)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" =
الْأَثَرَانِ كِلَاهُمَا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ فِطْرٌ أَصْلًا، وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَرَجَّحَهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْجَبَ الْفِطْرَ مِنَ الْقَيْءِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِيءَ أَوْ لَا يَسْتَقِيءَ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَقَالَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ مُجْمَلٌ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُفَسَّرٌ، وَالْوَاجِبُ حَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُفَسَّرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِقَاءِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ).
أما حديث ثوبان -الذي رواه الترمذي وغيره
(1)
- ففيه أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، وهذا فيه شيءٌ من الإجمال فهل تعمد القيء أو خرج منه القيء دون تعمد؟ إذًا؛ هذا الحديث فيه شيءٌ من الإجمال.
وأما حديث أبي هريرة -الذي رواه أحمد
(2)
وأبو داود
(3)
والترمذي
(4)
، وغيرهم
(5)
- فقد جاء برواياتٍ متعددةٍ، لكن أشهرها:"من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء"
(6)
، واختلف العلماء فيه صحةً وضعفًا
(7)
.
ولا شكَّ أنه حديث يجمع بين الحكمين، قوله:(ذرعه) يعني: غلبه، ولا يفطر بذلك؛ لِأَنَّ هذا شيءٌ خارج عن إرادته، فهو أشبه بالناسي، وأما (من استقاء)؛ أي: تعمد ذلك، فإنه يفطر.
وهذا هو القول الذي تلتقي عنده الأدلة، وهو قول جماهير العلماء -كما ذكر المؤلِّف- وهو القول الصحيحُ، ولا يُلتفت إلى غيره.
= (2/ 98) عن ابن عمر موقوفًا أنه قال: "من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء".
(1)
أخرجه أبو داود (2381)، والنَّسائي في الكبرى (3/ 314).
(2)
أخرجه أحمد (10463)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيحٌ على شرط مسلم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
أخرجه ابن ماجه (1676) وصحَّحه الألباني.
(6)
تقدَّم.
(7)
تقدَّم.
* قوله: (وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ)
(1)
، يعني: روي مرفوعًا وموقوفًا.
* قوله:
(الرُّكنُ الثَّالِثُ وَهُوَ النِّيَّةُ
وَالنَّظَرُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؟ وَإِنْ كانَتْ شَرْطًا فَمَا الَّذِي يُجْزِئُ مِنْ تَعْيِينِهَا؟ وَهَلْ يَجبُ تَجْدِيدُهَا في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَمْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ النِّيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؟ وَإِذَا أَوْقَعَهَا الْمُكَلَّفُ فَأَيُّ وَقْتٍ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ صَحَّ الصَّوْمُ؟ وَإِذَا لَمْ تَقَعْ فِيهِ بَطَلَ الصَّوْمُ؟ وَهَلْ رَفْضُ النِّيَّةِ يُوجِبُ الْفِطْرَ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ؟ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَطَالِبِ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا).
اعلم أنَّ النية شرطٌ في صحة العبادة؛ لأن اللَّه عز وجل أمر بالإخلاص فيها، والإخلاصُ محله القلب؛ لأنَّ الإخلاص عمل القلب وعمل القلب هو النية.
وقد ساق المؤلِّف المطالبَ والمسائلَ التي تتعلَّق بالنية مجملةً قبل أنْ يشرع في التَّفصيل.
* قوله: (هل هي شرطٌ في صحة هذه العبادة أم ليست بشرطٍ؟. . .): يعني: إذا كانت شرطًا فهل لها وقتٌ محددٌ أو لا؟ وهل لو نوى الصوم عند دخول شهر رمضان يكفيه ذلك أو لا بدَّ من تجديدها؟ وهل يشترط أنْ يبيِّتها من الليل أو أنه يكفي أن تصحب طلوع الفجر كالشأن في الصلاة مثلًا إذ تصحب النية العبادة؟ وهل لا بدَّ في النية أنْ تسبق وقت الإمساك؟
(2)
(1)
تقدَّم.
(2)
سيأتي الحديث عن كل هذه المسائل بالتفصيل.
وهل هناك فرق في النيَّة بين صيام الفرض وبين صيام النفل
(1)
؟ وهل هناك فرقٌ في النية بين صيام رمضان وبين غيره من الواجبات كالنذر مثلًا؟
(2)
.
(1)
ذهب جمهور الفقهاء -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا يشترط تبييتُ النية في صوم التطوع، وذهب المالكية إلى أنه يشترط في نية صوم التطوع التبييت كالفرض.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 85) حيث قال: فالأفضل في الصيامات كلها أن ينويَ وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل؛ لأنَّ النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة، ومن الليل تقارنه تقديرًا، وإن نوى بعد طلوع الفجر فإن كان الصوم دينًا لا يجوز بالإجماع، وإن كان عينًا وهو صوم رمضان وصوم التطوع خارج رمضان، والمنذور المعين يجوز.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/ 520) حيث قال:(وصحته)؛ أي: شرط صحة الصوم (مطلقًا) فرضًا أو نفلًا (بنية)؛ أي: نية الصوم ولو لم يلاحظ التقرب للَّه (مبيتة) بأن تقع في جزءٍ من الليل من الغروب إلى الفجر ولا يضر ما حدث من أكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ أو نومٍ بخلاف الإغماء والجنون فيبطلانها إن استمر للفجر وإلا فلا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 149) حيث قال: ويصح النفل بنيةٍ قبل الزوال)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يومًا: هل عندكم من غداءٍ؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم، قالت: وقال لي يومًا آخر أعندكم شيءٌ؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم". رواه الدارقطني وصحَّح إسناده، واختص بما قبل الزوال للخبر، إذ الغداء بفتح الغين: اسمٌ لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء: اسمٌ لما يؤكل بعده؛ ولأنه مضبوطٌ بين ولإدراك معظم النهار به كما في ركعة المسبوق، وهذا جري على الغالب ممن يريد صوم النفل، وإلا فلو نوى قبل الزوال وقد مضى معظم النهار صحَّ صومه (وكذا) يصح بنيةٍ (بعده في قول) قياسًا على ما قبله تسوية بين آخر النهار كما في النية ليلًا (والصحيح) المنصوص (اشتراط حصول شرط الصوم) في النية قبل الزوال أو بعده (من أول النهار) بأن لا يسبقها منافٍ للصوم ككفرٍ، وجماعٍ. مذهب الحنابلة، يُنظر: "كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 317) حيث قال: (ويصح صوم نفلٍ بنيةٍ من النهار قبل الزوال وبعده) نصَّ عليه لحديث عائشة قالت: "دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ فقال: "هل عندكم شيءٌ؟ " فقلنا: لا، قال:"فإني إذن صائمٌ" رواه مسلمٌ، ويدل عليه حديث عاشوراء؛ ولأنَّ الصلاة خفف نفلها عن فرضها، فكذا الصوم ولما فيه من تكثيره لكونه يعن له فعفي عنه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 377) حيث قال:(فيصح) أداء (صوم رمضان، والنذر المعين، والنفل بنيةٍ من الليل) فلا =
وهل رفض النية -أي: تغييرها والعدول عنها أثناء الصوم- يؤثر في الصوم، أم لا بدَّ في النية من استمرارها؟ نعم قد يغفل الإنسان لكن مجرد الغفلة لا تؤثِّر، كما بينَّا ذلك في مباحث الصلاة.
* قوله: (أَمَّا كَوْنُ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصِّيَامِ: فَإِنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
(1)
، وَشَذَّ زُفَرُ
(2)
، فَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ رَمَضَانُ إِلَى نِّيَّةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُدْرِكُهُ صِيَامُ رَمَضَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَيُرِيدُ الصَّوْمَ).
= تصح قبل الغروب ولا عنده (إلى الضحوة الكبرى لا) بعدها ولا (عندها) اعتبارًا لأكثر اليوم (وبمطلق النية)؛ أي: نية الصوم.
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 246) حيث قال: (ص) وصحته مطلقًا بنية مبيتةٍ (ش) يعني: أنَّ شرط صحة الصوم فرضًا كان أو غيره النية المبيَّتة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 150) حيث قال: (ويجب) في النية (التعيين في الفرض) بأن ينوي كل ليلةٍ أنه صائم غدًا عن رمضان، أو عن نذرٍ، أو عن كفارةٍ؛ لأنه عبادة مضافة إلى وقتٍ فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (1/ 308) حيث قال: ولا يصح صومٌ واجبٌ إلا بنيةٍ من الليل، لكل يوم نيةٌ مفردةٌ لأنها عبادات ولا يفسد يومٌ بفساد آخر وكالقضاء.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 303) حيث قال: وقوله (والنية من شرطه)؛ أي: من شروط الصوم بأنواعه.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/ 520) حيث قال:(وصحته)؛ أي: شرط صحة الصوم (مطلقًا) فرضًا أو نفلًا (بنيةٍ)؛ أي: نية الصوم ولو لم يلاحظ التقرب للَّه.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 146) حيث قال: (النية شرطٌ للصوم) لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" ومحلها القلب، ولا تكفي باللسان قطعًا، ولا يشترط التلفظ بها قطعًا كما قاله في الروضة.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 314) حيث قال: (ولا يصح صومٌ) إلا بنيةٍ ذكره الشارح إجماعًا كالصلاة والحج لحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 83) حيث قال: وقال زفر: صوم رمضان في =
ذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الأربعة-: إلى أنَّ النية شرطٌ في صحة الصيام، وإن كان حصل خلافٌ من بعضهم فيما يتعلَّق ببعض التفاصيل، لكنهم متفقون من حيث الجملة على أنَّ النية شرطٌ في صحة الصيام.
وشذَّ زفر -من الحنفية- فقال: لا يحتاج رمضان إلى نيةٍ، وهو قولُ عطاء ومجاهد
(1)
من التابعين، وعلَّلوا ذلك بأنَّ شهر رمضان ظرفٌ لهذه العبادة فلا يمكن أن يشركه غيره فيه، لكن لو كان قضاءً فلا بدَّ من تعيينه، وكذلك إذا كان الإنسان مسافرًا أو مريضًا فلا بدَّ من تعيين نيَّة الصيام؛ لأنَّ المسافر والمريض يباح لهما الفطر وإن كان عليهما القضاء لقول اللَّه تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: الِاحْتِمَالُ الْمُتَطَرِّقُ إِلَى الصَّوْمِ؛ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى
(2)
؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى أَوْجَبَ النِّيَّةَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى قَالَ: قَدْ حَصَلَ الْمَعْنَى إِذَا صَامَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَ زُفَرَ رَمَضانَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ ضَعْفٌ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ أَيَّامَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْفِطْرُ، رَأَى أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يَقَعُ فِيهَا يَنْقَلِبُ صَوْمًا شَرْعِيًّا، وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَيَامَ).
= حقِّ المقيم جائزٌ بدون النية، واحتج بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أمر بصوم الشهر مطلقًا عن شرط النية، والصوم هو الإمساك.
(1)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 300) حيث قال: لا يصح صومٌ إلا بنيةٍ سواء الصوم الواجب من رمضان وغيره والتطوع وبه قال العلماء كافة إلا عطاء ومجاهد وزفر فإنهم قالوا: إن كان الصوم متعينًا بأن يكون صحيحًا مقيمًا في شهر رمضان فلا يفتقر إلى نيةٍ.
(2)
تقدَّم.
لا شكَّ أن الصيام عبادةٌ، ولكن اختلف العلماء في كونها عبادة معقولة المعنى قصد بها الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وما يلحق بذلك من المفطرات، أو هي عبادةٌ غير معقولة المعنى -أي: غير معللةٍ- ينبغي أن نسلم لها في هذا المقام ولا نبحث عن كنهها وحقيقتها.
فمن رأى أنها عبادةٌ غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها عبادة معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينوِ.
قوله: (لَكِنَّ تَخْصِيصَ زُفَرَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ ضَعْفٌ) اعتراضٌ من المؤلِّف رحمه الله على ما ذهب إليه زفر.
والصومُ من حيث الجُملة ينقسم إلى واجبٍ وإلى غير واجبٍ، والواجب منه ما هو فرض -أي: ركن- وهو صيام شهر رمضان، ومنه ما يكون قضاءً لرمضان فتستمرُّ ركنيتُه، والفرق بين القسمين أنَّ الصوم في رمضان صيامٌ في ظرفٍ محددٍ وهو شهر رمضان، والقضاء فهو لما فات منه لعذرٍ فيجب أنْ يُقضى.
واختلف العلماء في مسألة اشتراط التَّتابع في صيامه
(1)
، والصحيح
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 76) حيث قال: وأما غير المتتابع: فصوم قضاء رمضان، وصوم المتعة، وصوم كفارة الحلق، وصوم جزاء الصيد، وصوم النذر المطلق، وصوم اليمين؛ لأنَّ الصوم في هذه المواضع ذكر مطلقًا عن صفة التتابع، قال اللَّه تعالى في قضاء رمضان:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ؛ أي: فأفطر فليصم عدةً من أيامٍ أُخر. . . ذكر اللَّه تعالى الصيام في هذه الأبواب مطلقًا عن شرط التتابع.
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للموَّاق (3/ 328) حيث قال: (وتعجيل القضاء ومتابعته) اللخمي: يستحب أن يقضي رمضان متتابعًا عقب صحته أو قدومه؛ لأنَّ المبادرة إلى امتثال الطاعات أولى من التراخي عنها، وإبراء الذمة من الفرائض أولى، وليخرج عن الخلاف لقول من يقول: القضاء على الفور، ولقول من يقول: القضاء متتابعًا (ككل صوم لم يلزم تتابعه) من المدونة قال مالك: ما ذكر اللَّه من صيام الشهور فمتتابعٌ وأما الأيام فمثل قضاء رمضان وكفارة اليمين وصيام الجزاء والمتعة وصيام ثلاثة أيام في الحج، فالأحب إليَّ أن يتابع ذلك كله فإنْ فرقه أجزأه.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 187) حيث قال: ولا يجب =
أنه لا يشترط التتابع
(1)
، وإنما على المسلم أيضًا أن يبادر إلى ذلك فلربما أدركته المنية
(2)
فمات وذمته مشغولةٌ بهذا الواجب.
كذلك أيضًا قد يكون الواجبُ صيامَ نذرٍ، وهذا يحتاج أيضًا إلى تعيين النية. وهذا ما أراد أنْ يُشير إليه المؤلِّف.
* قوله: (وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ أَيَّامَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْفِطْرُ، رَأَى أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يَقَعُ فِيهَا يَنْقَلِبُ صَوْمًا شَرْعِيًّا): هذا إذا كان لغير سبب، أما إنْ وجد سببٌ يُبيح الفطر فإنه يفطر ويقضي، وكذلك إذا كان الإنسانُ عاجزًا عجزًا مطلقًا كأن يكون مريضًا مرضًا مزمنًا فإنه يفطر وتلزمه الكفارة.
قوله: (. . . وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَيَّامَ)، يعني: أنَّ أيَّ صومٍ يقع في رمضان فإنه ينقلب صومًا شرعيًّا، وهذه فرعٌ عن مسألةٍ مهمَّةٍ سيتعرض لها المؤلف قريبًا إن شاء اللَّه.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ الْمُجْزِيَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَالِكًا
(3)
= التتابع في قضاء رمضان لكنه يستحب كغيره تعجيلًا لبراءة الذمة.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 332 - 333) حيث قال: (ويستحب التتابع فورًا في قضائه)؛ أي: رمضان؛ لأنَّ القضاء يحكي الأداء وفيه خروجٌ من الخلاف، وأنجى لبراءة الذمة، وظاهره: لا فرق بين أن يكون أفطر بسبب محرمٍ أو لا، (ولا يجبان)؛ أي: التتابع والفور في قضاء رمضان، قال البخاري قال ابن عباسٍ: له أن يفرق؛ لقول اللَّه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وعن ابن عمر مرفوعًا:"قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع" رواه الدارقطني ولم يسنده غير سفيان بن بشر، قال المجد: لا نعلم أحدًا طعن فيه والزيادة من الثقة مقبولةٌ؛ ولأنه لا يتعلَّق بزمانٍ معينٍ فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق.
(1)
وهو مذهب الجمهور، فإنه ندب التتابع أو استحبابه للمسارعة إلى إسقاط الفرض.
(2)
المنيَّة: الموت. وجمعها: المنايا. انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 368).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/ 520) حيث قال:(وصحته)؛ أي: شرط صحة الصوم (مطلقًا) فرضًا أو نفلًا (بنية)؛ أي: نية الصوم ولو لم يلاحظ التقرب للَّه (مبيتةٍ) بأن تقع في جُزءٍ من الليل من الغروب إلى الفجر، =
قَالَ: لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَا يَكْفِيهِ اعْتِقَادُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، وَلَا اعْتِقَادُ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ).
وبه قال الشافعي
(1)
، وأحمد
(2)
أيضًا.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنِ اعْتَقَدَ مُطْلَقَ الصَّوْمِ أَجْزَأَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ نَوَى فِيهِ صِيَامَ غَيْرِ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ، وَانْقَلَبَ إِلَى صِيَامِ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ صِيَامَ غَيْرِ رَمَضَانَ كَانَ مَا نَوَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ وُجُوبًا مُعَيَّنًا، وَلَمْ
= ولا يضر ما حدث من أكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ أو نومٍ بخلاف الإغماء والجنون فيبطلانها إنْ استمرَّ للفجر.
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 350) حيث قال: لا يصحُّ الصوم إلا بالنية، ومحلها القلب، ولا يشترط النطق بلا خلاف، وتجب النية لكل يومٍ، فلو نوى صوم الشهر كله، فهل يصح صوم اليوم الأول بهذه النية؟ المذهب: أنه يصح، وبه قطع ابن عبدان، وتردَّد فيه الشيخ أبو محمد. ويجب تعيين النِّية في صوم الفرض، سواءٌ فيه صوم رمضان، والنذر، والكفارة، وغيرها. . . وكمال النية في رمضان: أن ينوي صوم غدٍ عن أداء فرض رمضان هذه السنة للَّه تعالى، فأما الصوم وكونه عن رمضان، فلا بدَّ منهما بلا خلافٍ، إلا وجه الحليمي، وأما الأداء والفرضية والإضافة إلى اللَّه تعالى، ففيها الخلاف المذكور في الصلاة.
(2)
يُنظر: "كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 315) حيث قال: (لكل يومٍ) من رمضان (نية مفردة؛ لأنها)؛ أي: أيام رمضان (عباداتٌ) فكل يوم عبادة مفردةٌ فيحتاج إلى نيةٍ، (و) الدليل على أنَّ كل يوم عبادةٌ مفردةٌ: أنه (لا يفسد) صوم (يوم بفساد) صوم يومٍ (آخر كالقضاء)؛ أي: قضاء رمضان، وعنه يجزئ في أول رمضان نية واحدة لكله.
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 83 - 84) حيث قال: أما الثاني في كيفية النية: فإن كان الصوم عينًا وهو صوم رمضان، وصوم النفل خارج رمضان، والمنذور به في وقت بعينه يجوز بنية مطلقةٍ عندنا. . . . ولنا قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد الشهر وصامه فيخرج عن العهدة، ولأنَّ النية لو شرطت إنما تشترط إما ليصير الإمساك للَّه تعالى، وإما للتمييز بين نوعٍ ونوعٍ، ولا وجه للأول لأنَّ مطلق النية كان لصيرورة الإمساك للَّه تعالى؛ لأنه يكفي لقطع التردد.
يُفَرِّقْ صَاحِبَاهُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ وَقَالَا: كُلُّ صَوْمٍ نُوِيَ فِي رَمَضَانَ انْقَلَبَ إِلَى رَمَضَانَ).
* قوله: (إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه. . .)؛ لأنه سينصرف إلى هذا الشهر، إذ لا يجوز أن يؤدَّى فيه صومٌ غيرَ صوم رمضان.
وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ المسافر له أنْ يُفطر، وإن كان الصيام في حقِّه أفضل
(1)
، لكنه غير متعينٍ في حقِّه فله أنْ يصوم غير أيام رمضان، هذا معنى قول المؤلف:(فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ صِيَامَ غَيْرِ رَمَضَانَ كَانَ مَا نَوَى).
* قوله: (وجوبًا معيَّنًا) هذا قيدٌ لا بدَّ منه؛ لأنَّ الصوم واجبٌ عليه، لكنه غير معيَّنٍ في هذا الوقت الذي هو فيه مسافرٌ، لكن لو كان حاضرًا لكان واجبًا معيَّنًا عليه.
* قوله: (وَلَمْ يُفَرِّقْ صَاحِبَاهُ)، إذا أطلق الصاحبان فالمراد بهما أبو يوسف ومحمد
(2)
رحمهما اللَّه، وقد خالفا أبا حنيفة في هذه المسألة ووافقا جماهير العلماء في أنَّ كل صومٍ نُوي في رمضان انقلب إلى رمضان، كذلك لو أنَّ إنسانًا أحرَم تطوعًا انقلب إلى الفرض. إذا؟ لم يكن قد حجَّ حجَّ الفريضة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْكَافِي فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ تَعْيِينُ جِنْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَعْيِينُ شَخْصِهَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 84) حيث قال: وأما قوله: إنَّ الصوم غير واجبٍ على المسافر في رمضان فممنوعٌ بل هو واجبٌ إلا أنه يترخص فيه، فإذا لم يترخص ولم ينو واجبًا آخر بقي صوم رمضان واجبًا عليه فيقع صومه عنه.
(2)
"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 84) حيث قال: فأما المسافر: فإنْ صام رمضان بمطلق النية فكذلك يقع صومه عن رمضان بلا خلافٍ بين أصحابنا، وإن صام بنية واجبٍ آخر يقع عما نوى في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد يقع عن رمضان وإن صام بنية التطوع فعندهما يقع عن رمضان.
مَوْجُودٌ فِي الشَّرْعِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ يَكْفِي مِنْهَا اعْتِقَادُ رَفْعِ الْحَدَثِ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي الْوُضُوءُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا وَلَيْسَ يَخْتَصُّ عِبَادَةً عِبَادَةً بِوُضُوءٍ وُضُوءٍ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ شَخْص الْعِبَادَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الصَّلَاةِ إِنْ عَصْرًا فَعَصْرًا، وَإِنْ ظُهْرًا فَظُهْرًا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ)
(1)
.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْكَافِي فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ تَعْيِينُ جِنْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَعْيِينُ شَخْصِهَا؟)، الجنس والشخص بمعنى متقارب، لكنَّ المؤلف أتى بالعبارتين ليفرِّق بينهما كما لو قال الجنسُ والنَّوعُ للتَّفريق بينهما، فجعل الجنس عامًّا يشمل أنواعًا، وجعل الشَّخصَ المقصود به شيئًا واحدًا هنا.
مثال: الصلاة: فهي أجناسٌ، تتنوَّع إلى صلاةٍ واجبةٍ وصلاة غير واجبةٍ، وتلك الواجبات تتنوع أيضًا إلى صلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء، وصلاة الفجر، فهل لا بدَّ من تعيين النِّية لكل صلاةٍ أو تكفي نيةُ لمجردِّ الصلاة
(2)
؟ وكذلك الشأنُ في
(1)
ستأتي.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 417) حيث قال: (وكفى مطلق نية الصلاة) وإن لم يقل: للَّه (لنفلٍ وسنةٍ) راتبةٍ (وتراويح) على المعتمد، إذ تعيينها بوقوعها وقت الشروع، والتعيين أحوط (ولا بدَّ من التعيين عند النية) فلو جهل الفرضية لم يجز؛ ولو علم ولم يميز الفرض من غيره، إن نوى الفرض في الكل جاز، وكذا لو أمَّ غيره فيما لا سنة قبلها (لفرضٍ) أنه ظهر أو عصر قرنه باليوم أو الوقت أو لا.
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطَّاب (1/ 518) حيث قال: فلو أحرم المأموم بما أحرم به الإمام من غير أن يعلم صلاة الإمام ولا يعنيها قال أشهب في المجموعة: إذا نوى صلاة إمامه أجزأه ما صادف وفيه نظر فإنَّ المكتوبة تفتقر إلى تعيين النية فإذا لم يدر ما صلى الإمام لم يدر بما أحرم، وجهله بما أحرم مضادٌّ لتعيين النية، وإن أخذ ذلك مما جاء عن علي في الحجِّ فذلك لا حُجة فيه إذ يحتمل أن يكون إحرامه نفلًا، وإن كان حجه فرضًا فالحج لا يفتقر إلى تعيين النية =
الصَّيام
(1)
والحجِّ
(2)
.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرْعِ)؛ أي: في أحكامه، ومن ذلك (أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ يَكْفِي مِنْهَا اعْتِقَادُ رَفْعِ الْحَدَثِ. . .) هذا هو الجنس الذي أشار إليه المؤلِّف، فلو أنَّ إنسانًا ذهب ليتوضأ أو يغتسل، فهل تكفي نية رفع الحدث، بمعنى أنه يتطهر، أو لا بدَّ أنْ ينوي جنس العبادة فيتوضأ للصلاة أو للطَّواف أو لمسِ المصحف، وهكذا، والصَّحيح الأول، وهذا من يُسر هذه الشريعة.
قوله: (وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ شَخْص الْعِبَادَةَ. . .) ذلك أنَّ الصلاة تشمل أنواعًا عدَّة في أوقاتٍ مختلفةٍ فكان لا بدَّ من تعيين شخص العبادة -أي: نوعها- هذا مراد المؤلِّف.
قوله: (وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ)، إشارة إلى أنَّ في المسألة خلافًا.
= وتخصيصها بل إذا أطلق نية الحجِّ انصرف إلى الحجة المفروضة إجماعًا، والصلاة إذا أحرم بأنه يصلي لم يجزه عن الفرض إجماعًا حتى يعين أيَّ صلاةٍ يصلي فإذا افترقا في تعيين صفة العبادة جاز أنْ يفترقا في تعيين أصلها.
مذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"(1/ 45)، حيث قال:"لفعلها"؛ أي: الصلاة ولو نفلًا لتتميز عن بقية الأفعال فلا يكفي إحضارها في الذهن مع الغفلة عن فعلها لأنه المطلوب وهي هنا ما عدا النية لأنها لا تنوى "مع تعيين ذاتِ وقتٍ أو سببٍ" كصبح وسنته لتتميز عن غيرها فلا تكفي نية صلاة الوقت" ومع نية فرضٍ فيه، "أي: في الفرض ولو كفاية أو نذرًا ليتميز عن النفل، ولبيان حقيقته في الأصل، وشمل ذلك المعادة نظرًا لأصلها.
مذهب الحنابلة يشترط، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 176)، حيث قال:(وشُرط) بالبناء للمفعول (مع نية الصلاة تعيين معينةٍ) فرضًا كانت أو نفلًا فينوي كون المكتوبة ظهرًا أو عصرًا.
(1)
تعيين الجنس هنا يكون باعتبار أنه تجزئ نيةٌ واحدةٌ لكل الشهر، وتعيين الشخص باعتبار أنه لا بدَّ من تجديد النية لكل يومٍ، وقد سبق ذكر هذا.
(2)
يعني: هل أفعال الحج يفتقر كل فعلٍ منها إلى نيةٍ أم تكفي نية واحدةٌ تجزئه عن الفرض. وستأتي في كتاب الحج.
* قوله: (فَتَرَدَّدَ الصَّوْمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِنْسِ الْوَاحِدِ قَالَ: يَكْفِي فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ الصَّوْمِ فَقَطْ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِنْسِ الثَّانِي اشْتَرَطَ تَعْيِينَ الصَّوْمِ).
مرادُ المؤلِّف بالجنسين؛ الجنس الأوَّل: هو ما مثَّل له بالطهارة، والثاني: وهو ما مثَّل له بالصلاة، وعبَّر عنه بـ (الشخص)، فالمؤلف إنَّما ذكر جنسًا وشخصًا ليميِّز بينهما، وإلا لو قلنا: هذا جنسٌ تدخل تحته أجناسٌ، وهذا جنسٌ واحدٌ أو متعيِّنٌ، أو قلنا: هذا جنسٌ وهذا نوعٌ، لصحَّت العبارةُ واستقامَ الكلام أيضًا.
* قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي إِذَا نَوَى فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ صَوْمًا آخَرَ هَلْ يَنْقَلِبُ أَوْ لا يَنْقَلِبُ؟ سَبَبُهُ أَيْضًا: أَنَّ مِنَ الْعِبَادَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ يَنْقَلِبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تُوقَعُ فِيهِ مُخْتَصٌّ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي تَنْقَلِبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ يَنْقَلِبُ، أَمَّا الَّتِي لَا تَنْقَلِبُ فَأَكْثَرُهَا، وَأَمَّا الَّتِي تَنْقَلِبُ بِاتِّفَاقٍ فَالْحَجُّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا ابْتَدَأَ الْحَجَّ تَطَوُّعًا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ انْقَلَبَ التَّطَوُّعُ إِلَى الفَرْضِ، وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَمَنْ شَبَّهَ الصَّوْمَ بِالْحَجِّ قَالَ: يَنْقَلِبُ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ قَالَ: لَا يَنْقَلِبُ).
انتقل المؤلِّف إلى مسألةٍ أُخرى وهو إذا نوى إنسانٌ أن يصوم في رمضان صيام نذرٍ أو تطوعٍ، فهل يصحُّ هذا الصوم الذي أدخله في رمضان أو لا يصحُّ؟ وإذا قلنا: لا يصحُّ، فهل ينقلب إلى رمضان أو أنه يفسد أيضًا عليه صيام ذلك اليوم الذي نواه من غير رمضان؟
وجماهير العلماء على أنه ينقلب إلى صوم رمضان
(1)
، كالشأن في
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 379) حيث قال: (والنذر المعين) ولا يصح بنيةِ واجبٍ آخر بل (يقع عن واجب نواه) =
الحج فلو أنَّ إنسانًا لم يؤدِّ فريضة الحجِّ فأحرم تطوعًا، فإنه ينقلب على الصحيح؛ لأنَّ تغيير النية في الحجِّ جائزٌ مطلقًا، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ ومنَّا من أهل بحجةٍ وعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بالحجِّ، وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج
(1)
.
وفي بعض الروايات: أنَّ رسول اللَّه أهلَّ بالحجِّ، فلما وصلوا إلى مكة أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أحرم بالحجِّ أو بالحجِّ والعمرة دون أن يسوق
= مطلقًا فرقًا بين تعيين الشارع والعبد (ولو صام مقيمٌ عن غير رمضان) ولو الجهله به)؛ أي: برمضان (فهو عنه) لا عما نوى لحديث: "إذا جاء رمضان فلا صوم إلا عن رمضان".
مذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 518) حيث قال: قوله: "فإن عين غيره لم يجزه عن رمضان ولا عما نواه" وهو كما ذكره، أما عدم إجزائه عن رمضان فلأنه لم ينوه، وأما إن نواه عن غير رمضان فلأنَّ الزمان متعينٌ لرمضان. مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (2/ 355) حيث قال: إذا نوى الانتقال من صوم إلى صومٍ، لم ينتقل إليه، وهل يبطل صومه، أم يبقى نفلًا؟ وجهان. وكذا لوً رفض نية الفرض عن الصوم الذي هو فيه. قلتُ: الأصحُّ: بقاؤه على ما كان. واعلم أنَّ انقلابه نفلًا على أحد الوجهين، إنما يصح في غير رمضان، وإلا فرمضان لا يقبل النفل عندنا ممن هو من أهل الفرض بحالٍ. واللَّه أعلم.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 316) حيث قال: (ولو نوى خارج رمضان قضاء ونفلًا أو نوى الإفطار من القضاء ثم نوى نفلًا أو قلب نية القضاء إلى النفل بطل القضاء) لتردده في نيته أو قطعها (ولم يصحَّ النفل لعدم صحة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء). وفي الفروع والتنقيح والمنتهى: يصح نفلًا وقد ذكرت كلام المصنف في حاشية التنقيح في ذلك في الحاشية وما يمكن أن يجاب به عنه. (وإن نوى) خارج رمضان (قضاء وكفارة ظهار ونحوه) ككفارة قتلٍ (لم يصحَّا)؛ أي: لا الصوم الواجب لعدم جزمه بالنية له، ولا النفل (لما تقدَّم) من عدم صحة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء.
(1)
أخرجه البخاري (1562) ومسلم (1211) عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهلَّ بعمرةٍ، ومنا من أهلَّ بحجةٍ وعمرةٍ، ومنا من أهل بالحج " وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ"، فأما من أهلَّ بالحج، أو جمع الحجَّ والعمرة، لم يحلُّوا حتى كان يوم النحر).
الهدي أن يتحلَّلوا وأن يجعلوها عمرةً
(1)
. فهذا دليلٌ على انقلابه.
مثالٌ آخر: حجَّ الصبيُّ، فالصبي الذي لم يبلغ لا يجب عليه الحجُّ، وهو في حقه سنة وفضيلةٌ، لكنْ إذا أحرم بالحجِّ تطوعًا، ثم بلغ في عرفات مثلًا فإنه ينتقل من التطوع إلى الواجب، وهذا جائزٌ
(2)
.
كذلك الحال بالنسبة للمجنون إذا صحبه وليُّه إلى الحجِّ ثم زال جنونُه، أو كان مغمًى عليه فزال إغماؤه أيضًا.
وهناك من العبادات ما لا ينقلب أصلًا كالصَّلاة، فمن دخل في
(1)
أخرجه البخاري (1085) ومسلم (1240) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 466) حيث قال: (فلو أحرم صبيٌّ عاقلٌ أو أحرم عنه أبوه صار محرمًا) وينبغي أن يجرده قبله وللبسه إزارًا ورداء مبسوطين وظاهر أنَّ إحرامه عنه مع عقله صحيحٌ فمع عدمه أولى (فبلغ أو عبد فعتق) قبل الوقوف (فمضى) كل على إحرامه (لم يسقط فرضهما) لانعقاده نفلًا فلو جدَّد الصبي الإحرام قبل وقوفه بعرفة ونوى حجة الإسلام أجزأه.
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطَّاب (2/ 488) حيث قال: فلو أحرم العبد في حال رقه ثم عتق أو أحرم الصبي قبل بلوغه أو الجارية قبل بلوغها ثم بلغا فلا ينقلب ذلك الإحرام فرضًا، ولا يجزئ عن الفرض ولو رفضوه ونووا الإحرام بحج بالفرض لم يرتفض، وهم باقون على إحرامهم ولو حصل العتق والبلوغ قبل الوقوف بعرفة هذا هو المعروف في المذهب.
مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (4/ 3) حيث قال: فإن بلغ الصبي، وأعتق العبد نظر، فإن كان بعد الوقوف لم يجز لهما عن حجة الإسلام، وكذلك إن كان بعد الفراغ من الحجِّ، وإن كان قبل فوات وقت الوقوف قبل الوقوف وقفًا بعرفة بعد الكمال أجزأهما عن حجة الإسلام.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 335) حيث قال: ويصحُّ منهم ولا يجزئ حجة الإسلام إلا أن يسلم أو يفيق أو يبلغ أو يعتق في الحج قبل الخروج من عرفة أو بعده قبل فوت وقته إن عاد فوقف وللزمه العود إن أمكنه وفي العمرة قبل طوافها فيجزئهم، قال الموفق وغيره في إحرام العبد والصبي: إنما يعتد بإحرام ووقوف موجودين إذن وما قبله تطوعٌ لم ينقلب فرضًا، وقال المجد وجمع: ينعقد إحرامه موقوفًا فإذا تغيَّر حاله تبيَّن فرضيته.
صلاةٍ تطوعًا فليس له أن يقلبها إلى فرضٍ، وكذلك العكسُ.
* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَ الصَّوْمَ بِالْحَجِّ قَالَ: يَنْقَلِبُ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ قَالَ: لَا يَنْقَلِبُ)، الصيام يختلف عن الحج؛ لأنَّ الصيام عبادةٌ بدنيةٌ، أمَّا الحج فقد جمع بين العبادة البدنيَّة والعبادة المالية.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ: فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
رَأَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الصِّيَامُ إِلَّا بِنْيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي النَّافِلَةِ وَلَا تُجْزِئُ فِي الْفُرُوضِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي الصِّيَامِ الْمُتَعَلِّقِ وُجُوبُهُ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/ 520 - 521) حيث قال: نية الصوم ولو لم يلاحظ التقرب للَّه (مبيتة) بأن تقع في جزءٍ من الليل من الغروب إلى الفجر ولا يضر ما حدث من أكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ أو نوم بخلاف الإغماء والجنون فيبطلانها إن استمر للفجر وإلا فلا كما سيأتي، ولما كان اشتراط التبييت مشعرًا بعدم الصحة إذا قارنت الفجر كما قيل به دفعه بقوله:(أو مع الفجر) إن أمكن فلا تكفي قبل الغروب ولا بعد الفجر.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 148) حيث قال: (ويشترط لفرضه)؛ أي: الصوم من رمضان أو غيره كقضاء أو نذر (التبييت) وهو إيقاع النية ليلًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له". . . (والصحيح أنه لا يشترط) في التبييت (النصف الآخر من الليل) بل يكفي ولو من أوله لإطلاق التبييت في الحديث من الليل، ولما فيه من المشقة. والثاني: يشترط لقربه من العبادة؛ لأنَّ الأصل وجوب اقتران النية بأول العبادة، وهو طلوع الفجر. . . ويصح النفل بنية قبل الزوال).
(3)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 116) حيث قال: والنية لتعيينه للَّه تعالى فتترجح بالكثرة جنبة الوجود بخلاف الصلاة والحج لأنَّ لهما أركانا فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما وبخلاف القضاء؛ لأنه يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل وبخلاف ما بعد الزوال؛ لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر فترجحت جنبة الفوات، ثم قال في المختصر: ما بينه وبين الزوال، وفي الجامع الصغير: قبل نصف النهار، وهو الأصح؛ لأنه لا بدَّ من وجود النية في أكثر النهار ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى لا إلى وقت الزوال فتشترط النية قبلها لتتحقَّق في الأكثر.
بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِثْلِ رَمَضَانَ وَنَذْرِ أَيَّامٍ مَحْدُودَةٍ وَكَذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ).
اختلف أهلُ العلم في مسألة وقت النيَّة على ثلاثةِ أقوالٍ:
القول الأول: أنه لا يجزئ الصيام إلا بنيةٍ قبل الفجر وذلك في جميع أنواع الصوم، وبه قال مالكٌ
(1)
رحمه الله.
القول الثاني: أنه يجب تبييت النية قبل الفجر في صوم الفريضة خلافًا لصوم النفل، وبه قال الشافعيُّ، وأحمدُ
(2)
.
القول الثالث: أنه يجب تبييتُ النيَّة في الصوم الواجب في الذمة، دون ما تعلَّق وجوبه بوقتٍ معينٍ مثل رمضان والنافلة ونذر أيامٍ محدَّدةٍ، وبه قال أبو حنيفة.
ومراده رحمه الله بالواجب في الذمة: صوم الكفارات، أو قضاء الفطر من أيام رمضان.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ أَمَّا الْآثَارُ الْمُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ؛ فَأَحَدُهَا: مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
عَنْ حَفْصَةَ
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 314) حيث قال: ولا صوم. (واجب إلا بنيةٍ من الليل) لما روى ابن عمر عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة، قال الترمذي والخطابي: رفعه عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم. . . وفي لفظٍ للزهري: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" لا يقال: في صيام عاشوراء قد ورد بنيةٍ من النهار وقد كان واجبًا؛ لأنَّ وجوبه كان نهارًا كمن صام تطوعًا ثم نذره على أن جماعة ذكروا أنه ليس بواجبٍ؛ ولأنَّ النية عند ابتداء العبادة كالصلاة وفي أي وقتٍ من الليل نوى أجزأه؛ لإطلاق الخبر.
(3)
أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط"(1/ 132) عن حفصة رضي الله عنها قالت: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر". قال البخاري غير المرفوع أصح.
أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ". وَرَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا
(1)
، قال أبو عمر: حديث حفصة في إسناده اضطراب).
يعبِّر المؤلِّف رحمه الله عن الأحاديث بالآثار، وهذا مصطلحٌ جائزٌ؛ لأنَّ (الأثر)
(2)
يطلق على الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، ويطلق على ما كان موقوفًا على الصحابيِّ، لكنْ اصطلح العلماءُ على أنَّ المرفوع يُسمَّى حديثًا، والموقوف يُسمَّى أثرًا
(3)
. فتنبَّه.
* قوله: (والسبب في اختلافهم. . .) هذا شروعٌ من المؤلِّف رحمه الله في بيان سبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، وهو تعارضُ الآثار الواردة في ذلك.
وأولها: حديثُ حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يبيِّت الصيام من الَّليل فلا صيام له"
(4)
.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 288)(5) وقال البخاري - فيما نقله الترمذي في "العلل الكبير" للترمذي (ص: 118) عن سالم عن أبيه، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وهو حديث فيه اضطرابٌ، والصحيح عن ابن عمر موقوف، ويحيى بن أيوب صدوق.
(2)
يُنظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 203) حيث قال: قال أبو القاسم الفوراني منهم: الفقهاء يقولون: الخبر ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم والأثر ما يروى عن الصحابة.
وفي نخبة شيخ الإسلام: ويقال للموقوف والمقطوع: الأثر. قال المصنف زيادة على ابن الصلاح (وعند المحدثين كل هذا يُسمَّى أثرًا) لأنه مأخوذٌ من أثرت الحديث، أي: رويته.
(3)
بل هذا مصطلح المحدثين من أنهم يطلقون الآثار على المرفوع والموقوف والمقطوع. يُنظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح"، لابن حجر (1/ 83)، حيث قال:" (وموجودٌ في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر". قال الحافظ: "هذا قد وجد في عبارة الشافعي في مواضع، والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية". ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معًا".
(4)
تقدَّم تخريجه.
وعزاه المؤلف رحمه الله إلى البخاريِّ، فيتبادر إلى الذهن من صنيع المؤلف أنه خرَّجه في كتابه "الصحيح"، وليس كذلك وإنما خرَّجه البخاري في "التاريخ الأوسط" الذي طبع خطأَ باسم "التاريخ الصغير"، ومعلومٌ أنَّ المؤلِّف رحمه الله إنما ينقل عن كتاب "الاستذكار"، وكتاب "التمهيد" لابن عبد البرِّ وقد نصَّ ابن عبد البر على هذا التخريج، فإما أنَّ المؤلف لم ينتبه لذلك أو أنه حصل سقطٌ في الكتاب، فلا ينبغي أنْ يُقطعَ بأنَّ هذا خطأ من المؤلِّف، فقد يحصل في الكتب تحريفٌ أو تصحيفٌ أو سقطٌ، وهذا ويتبين ذلك كثيرًا بالرجوع إلى المخطوطات.
وللحديث متابعاتٌ وشواهدُ يتقوَّى بها، فهو حديثٌ صحيحٌ صالحٌ للاحتجاج به، وأنها تلك الرواية التي أشار إليها المؤلِّف.
قوله: (من لم يبيِّت
(1)
): أي: لا بدَّ من النية، وجاء في روايةٍ أُخرى: "من لم يجمِّع
(2)
"
(3)
؛ أي: من لم يجمِّع "الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
* قوله: (وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْء؟ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ")
(4)
.
(1)
يبيِّت الصيام؛ أي: ينويه من الليل. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 170).
(2)
الإجماع: إحكام النية والعزيمة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 296).
(3)
أخرجه الترمذي (730) وقال: "حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه"، وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصحُّ، "وهكذا أيضًا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفًا ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى بن أيوب.
(4)
أخرجه مسلم (1154) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ذات يوم: "يا عائشة، هل عندكم شيءٌ؟ "، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، ما عندنا شيءٌ: قال: "فإني صائمٌ"، قالت: فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية -أو جاءنا زور- قالت: فلما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول اللَّه، أهديت لنا هدية -أو =
وفي روايةٍ أُخرى في غير الصَّحيحِ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأل يومًا آخر: "هل عندكم من شيءٍ؟ "، فقالت: حيس
(1)
.
والحيس
(2)
: طعامٌ يخلط من تمرٍ وسمنٍ وأقطٍ، أو من تمرٍ وسمنٍ ودقيقٍ، وكان من أحسن أطعمة ذاك الزمان.
أدبيَّاتٌ:
وفي هذا الحديث بيانُ المنهج الذي كان يسلكه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته، فما كان يرفع صوته وإنما يسأل بلطف ورقةٍ:"هل عندكم من شيءٍ؟ "، ومعلوم كيف كانت الحال التي يعيشها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم من القلِّة، لكن ذلك لم يكن ليصرفهم ولم يقلِّل من طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، بل كانوا متفرِّغين لطاعة اللَّه، يؤدُّون ما ينبغي عليهم من أُمور هذه الحياة، عملًا بقول اللَّه تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
وفيه أيضًا: زهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل عندكم من شيءٍ؟ "؛ أي: يؤكل، ولو كانت حباتٍ من رطبٍ أو قطعةٍ من خبزٍ أو أي نوعٍ من أنواع الطعام، فلما لم يجد شيئًا، قال:"إني صائمٌ".
فالواجب التأسي بالنَّبي صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الأحوال، فإنَّ من النَّاس من إذا دخل بيته فلم يجد الطعام قد هيئ، أو تأخر عنه لحظاتٍ ربما رفع صوته أو تجاوز الحدَّ مع أهل بيته، فيحسن بنا أن نتتبَّع سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في معاملته مع الناس عامةً ومع أهل بيته خاصةً.
* قوله: (وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْيَوْمُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ
= جاءنا زور- وقد خبأت لك شيئًا، قال:"ما هو؟ "، قلت: حيس، قال:"هاتيه"، فجئت به فأكل، ثم قال:"قد كنت أصبحت صائمًا".
(1)
تقدَّمت وهي في صحيح مسلم.
(2)
الحيس: خلط الأقط بالتمر، يعجن كالخميرة. انظر:"العين" للخليل (3/ 273).
وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ"
(1)
).
(معاوية)، هو ابن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وليَ الخلافة وعُرف عامٌ مبايعته بعام الجماعة
(2)
؛ لأنَّ المسلمين أجمعوا عليه في ذلك الوقت.
قوله: (كتب عليكم صيامه)؛ أي: فرضه، فالكتب يأتي بمعنى الفرض والإيجاب، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، في الحديث المتفق عليه
(3)
أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللَّه على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنَّ كان له عهدٌ عند اللَّه أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهنَّ لم يكن له عهدٌ عند اللَّه أنْ يدخله الجنة؛ إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2003) واللفظ له، ومسلم (1129) عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يوم عاشوراء عام حج على المنبر يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"هذا يوم عاشوراء ولم يكتب اللَّه عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر".
(2)
يُنظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي (4/ 5) حيث قال: ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ويسمَّى عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفةٍ واحدٍ، وهو معاوية.
قال خليفة: اجتمع الحسن بن علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان بمسكن وهي من أرض السواد، من ناحية الأنبار، فاصطلحا، وسلَّم الحسن الأمر إلى معاوية، وذلك في ربيع الآخر أو جمادى الأُولى، واجتمع الناس على معاوية فدخل الكوفة.
(3)
ليس في الصحيحين كما ذكر الشارح بل هو في السنن وسيأتي تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (1420) عن عبادة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلواتٍ كتبهنَّ اللَّه على العباد، فمن جاء بهنَّ لم يضيع منهن شيئًا استخفافا بحقهنَّ، كان له عند اللَّه عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهنَّ فليس له عند اللَّه عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة" وصححه الألباني في صحيح أبي داود - الأم (1276).
وحديث معاوية رضي الله عنه إنما يتعلَّق بصيام يوم عاشوراء، ولكن المؤلِّف رحمه الله أورده هنا ليجعله في مقابل القول الأوَّلِ.
* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَخَذَ بِحَدِيثِ حَفْصَةَ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ -أَعْنِي: حَمَلَ حَدِيثَ حَفْصَةَ عَلَى الْفَرْضِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ عَلَى النَّفْلِ-).
حديث حفصة: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له"
(1)
.
قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ)، وهذا أمثلُ الأقوال وأرجحها في نظري للجمع بين الأدلَّة، فحملوا حديث حفصة على الفرض، وحملوا بقيَّة الأحاديث على النفل، وبذلك تلتقي الأدلَّة، وهو قولٌ بإذن اللَّه صائبٌ، وهو أيضًا قول راجحٌ في نظرنا.
* قوله: (وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ وَالْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَيَّنَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي التَّعْيِينِ، وَالَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، فَأَوْجَبَ إِذَن التَّعْيِينَ بِالنِّيَّةَ).
(الواجب المعين) كشهر رمضان، أو كنذر أيامٍ محدَّدةٍ معروفةٍ، (وغير المعين) كأن يكون على الإنسان كفارة صيام، والكفارة يشترط فيها التَّتابع، أو نذرٌ مطلقٌ، (والواجب الذي في الذمَّة)، كأن يكون على الإنسان جُزءٌ من رمضان، فهذا في ذمة الإنسان يجب عليه أنْ يصومه قضاءً، لكن ليس له وقتٌ محددٌ. يعني: لو أنَّ إنسانًا أفطر عشرة أيامٍ من رمضان، فإنه لا يلزمه وجوبًا على القول الصَّحيح أنْ يقضيها في شوال، ولا أنْ يقضيها
(1)
تقدَّم تخريجه.
متتابعًا، إذًا هنا شيءٌ في الذَّمة لكنه ليس وقته محددًا معيَّنًا كشهر رمضان.
* قوله: (وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(1)
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَتِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْجَنَابَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ"
(2)
، وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا الْإِجْمَاعُ
(3)
عَلَى أَنَّ الاحْتِلَامَ بِالنَّهَارِ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 92) حيث قال: ولو أصبح جنبًا في رمضان فصومه تامٌّ عند عامة الصحابة مثل عليٍّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي ذرٍّ وابن عباس وابن عمر ومعاذ بن جبل -رضي اللَّه تعالى عنهم-.
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 375) وإصباح بجنابة) الرسالة: لا يحرم على الصائم الوطء في ليله ولا بأس أن يُصبح جنبًا من الوطء.
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 422) حيث قال: (و) ينبغي له (تقديم غسل الجنابة والحيض) والنفاس على طلوع الفجر ليؤدي العبادة على الطهارة وليخرج من خلاف أبي هريرة القائل بوجوبه لظاهر خبر البخاري الآتي، وخشية من وصول الماء إلى باطن الأذن أو الدبر أو غيرهما، وينبغي أن يغسل هذه المواضع إن لم يتهيأ له الغسل الكامل، قال الإسنوي: وقياس المعنى الأول استحباب المبادرة إلى الاغتسال عقب الاحتلام نهارًا (فإن طهرت)؛ أي: انقطع حيضها أو نفاسها (وصامت) أو صام الجنب (بلا غسل صحَّ).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 322) حيث قال: لكن يستحب لمن لزمه الغسل ليلًا من جنبٍ وحائضٍ ونحوهما) كنفساء انقطع دمها وكافرٍ أسلم (أن يغتسل قبل طلوع الفجر الثاني) خروجًا من الخلاف واحتياطًا للصوم (فلو أخَّره)؛ أي: الغسل (واغتسل بعده)؛ أي: بعد طلوع الفجر الثاني (صحَّ صومه) لما تقدَّم من حديث عائشة وأم سلمة وكان أبو هريرة يقول: "لا صوم له" ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع عنه، قال سعيد بن المسيب: رجع أبو هريرة عن فُتياه.
(2)
أخرجه البخاري (1931)، ومسلمٌ (1109).
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 237) حيث قال جماعة الفقهاء على حديث عائشة وأم سلمة: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم"، والآثار متفقةٌ عنها وعن غيرهما، ولا أعلم فيه خلافًا إلا ما ذكر عن أبي هريرة فأحال على غيره.
الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَفْسَدَ صَوْمَهُ)
(1)
.
انتقل المؤلِّف إلى مسألةٍ جديدةٍ دون أن يُعنون لها، وهي ما لو جامع فأدركه الفجر وهو على جنابةٍ، فهل يصحُّ صومه أو لا؟
قد اختلف العلماء في هذه المسألة: والصحيح أنَّ صومه صحيحٌ؛ لأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كما في حديثي عائشة وحفصة المتفق عليهما.
* قوله: (ومن الحُجة. . .)؛ أي: للقائلين بأنَّ من أصبح جنبًا فصيامه صحيحٌ -وهم الجمهور- أنَّ الإنسان يحتلمُ في نهار رمضان، ومع ذلك يصحُّ صيامُه.
وذهب إبراهيم وعروة وطاوس إلى من جامع بليلٍ وأمكنه أن يغتسل، لكنه تكاسل وأخَّر ذلك حتى أدركه الفجر، فإنه يفسد صومه، وهو قول شاذٌّ كما سيشير إليه المؤلِّف، والصَّواب ما ذهب إليه الجمهور، وإن كان أولى بالمرء أنْ يغتسل ويتهيَّأ، ولكن لا يحكم بفساد صومه، وقد فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غير خاصٍّ به.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ أَفْطَرَ"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا قُلْتُهُ، مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتِ الْغُسْلَ أَنَّ يَوْمَهَا يَوْمُ فِطْرٍ
(2)
، وَأَقَاوِيلُ هَؤُلَاءِ شَاذَّةٌ وَمَرْدُودَةٌ بِالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 136) حيث قال: وفي قول ثالث: روى ذلك عن أبي هريرة أنه قال: إذا علم بجنابته، ثم نام حتى يُصبح فهو مفطرٌ، وإن لم يعلم حتى يُصبح فهو صائمٌ، وروى ذلك عن طاوس، وعروة بن الزبير. وقد روينا عن النخعي قولًا رابعًا: وهو أنَّ ذلك يجزيه في التطوع ويقضي يومًا في الفرض.
(2)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 77) حيث قال: وإن أخرت الغسل إلى =
أمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهو متفقٌ عليه، دون الزيادة التي فيها:"مَا أَنَا قُلْتُهُ، مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَرَبِّ الكَعْبَةِ" فهي عند أحمد
(1)
وابن ماجه
(2)
.
وللحديث قصةٌ خرَّجها البخاريُّ
(3)
، ومسلمٌ
(4)
، ومالكٌ في الموطَّأ
(5)
وغيرهم
(6)
، عن أبي بكر ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَ مَرْوَانَ، أَنَّ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ "يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ"، وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ، يَوْمَئِذٍ عَلَى المَدِينَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلَا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ؛ فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالفِطْرِ "وَالأَوَّلُ أَسْنَدُ".
إذًا؛ أبو هريرة روى هذا عن الفضل بن عباسٍ ابن عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب العلماءُ عن حديث أبي هريرة بأجوبةٍ، منها:
= الفجر أجزأها في المشهور، وقال ابن مسلمة: تقضي، وقال ابن الماجشون: تقضي إنْ كان الوقت ضيِّقًا لا يتسع إلى الغسل، وإن طهرت نهارًا أكلت بقية يومها وقضت، وإن طهرت ولم تدرِ أكان طهرها قبل الفجر أم بعده صامت وقضت.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (7388) وصحَّحه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمرو القاري، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: لا ورب الكعبة ما أنا قلت: "من أصبح وهو جنب فليفطر، محمد صلى الله عليه وسلم" قاله، وقال الألباني: وهذا إسنادٌ صحيحٌ رجاله ثقاتٌ. انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(3/ 11).
(3)
أخرجه البخاري (1926).
(4)
أخرجه مسلمٌ (1109).
(5)
أخرجه مالكٌ في الموطأ (351) رواية محمد بن الحسن.
(6)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (3/ 282).
أولًا: أنَّ حديث أبي هريرة منسوخٌ؛ إذ كان في أولِّ الأمر لا يجوز أن ينام الإنسان ثم يقوم فيجامع إلى الفجر، ثم نسخ ذلك، كما في مسألة الطعام والشراب
(1)
.
ثانيًا: حمل حديث أبي هريرة على من أدركه الفجر وهو يجامع فلم ينزل، فإنَّ واجبه أن ينزع، كما لو كان يأكل اللقمة أو يشرب الشربة فإنه يلزمه التوقُّف، لكن هذا واصلَ فأدركه الفجر وهو على حاله، فيحمل حديث أبي هريرة عليه
(2)
.
لكن لا شكَّ أنَّ حجة الجمهور أوضحُ، وأنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان يفتي بالفطر ثم عدل عن ذلك لمَّا بلغه حديثا عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
وهذا هو القولُ الصحيحُ؛ فإنَّ تلك الشريعة بُنيت على اليسر والتخفيف وعلى مراعاة مصالح الناس، وهذا القول هو الذي يلتقي مع روحها ولبِّها.
(1)
وهو ما ذهب إليه الخطابي كما نقل عنه ذلك الحازمي في: "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار"(ص: 136) قال: فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا: أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أنَّ الجماع كان في أول الإسلام محرَّمًا على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح اللَّه الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أنْ يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر المتقدم، فيكون تأويل قوله: من أصبح فلا يصوم؛ أي: من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزيه صوم غده؛ لأنه لا يصبح جنبًا إلا وله أنْ يطأ قبل الفجر بطرفة عين، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمر الأول ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه.
(2)
يُنظر: "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار"(ص: 137) حيث قال: وأمَّا الشافعي رحمه الله فقد سلك في هذا الباب مسلك الترجيح، وقال: فأخذنا بحديث عائشة، وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم دون ما رواه أبو هريرة، عن رجلٍ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمعان: منها: أنهما زوجتاه، وزوجتاه أعلم بهذا من رجلٍ؛ إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا. ومنها أنَّ عائشة مقدمةٌ في الحفظ، وأم سلمة حافظةٌ، ورواية اثنين أكثر من رواية واحد، ومنها: أن الذي روتاه عن النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في المعقول والأشبه بالسُّنن.
ثم ذكر المؤلِّف قول ابن الماجشون في الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخَّرت الغسل أنَّ يومها يوم فطر، ثم حكَم على كل هذه الأقاويل بأنها شاذةٌ ضعيفةٌ، وما ذهب إليه المؤلف هو الصَّحيح في نظري.
يقصد به أقاويل الذين قالوا: يُصبح مفطرًا أيضًا، يعني: لا يصح صومه، وقد صدق المؤلِّف في نظري في هذا، فهي أقوالٌ شاذَّةٌ وضعيفةٌ.
[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الصَّوْم الْمَفْرُوضِ وَهوَ الْكَلَامُ فِي الْفِطْرِ وَأَحْكَامِهِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (وَالْمُفْطِرُونَ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: صِنْفٌ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ وَالصَّوْمُ بِإِجْمَاعٍ، وَصِنْفٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَصِنْفٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ: أَمَّا الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْأَمْرَانِ: فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْمُسَافِرُ بِاخْتِلَافٍ وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ).
أما الذي يجوز له الفطر والصوم إجماعًا فهو المريض، لقول اللَّه تعالى:({فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184]، وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ})[البقرة: 185].
وأما الذي لا يجوز له الفطر فهو الإنسان الصَّحيح المقيمُ.
وأما الذي فيه خلافٌ فهو المسافر -كما سيأتي- فمن أهل العلم من يرى أنه لا يجوز للمسافر أنْ يفطر
(1)
، وإن كان قولًا ضعيفًا، كما سيشير إليه المؤلِّف.
كذلك الحامل والمرضع، إذا لحقهما ضررٌ، فالمرضع قد تخشى على
(1)
سيأتي.
نفسها
(1)
، أو على ولدها
(2)
كأنْ يجفَّ ضرعها أو يقلَّ لبنها فيتأثَّر الطفل بصومها، فيجوز لها في هذه الحالة أن تفطر.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 336) حيث قال: (وللحامل والمرضع إن خافتا على الولد أو النفس)؛ أي: لهما الفطر وهو معطوف على قوله في أول الفصل لمن خاف زيادة المرض الفطر لما روي عن أنس بن مالك أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّه عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم" ولأنهما يلحقهما الحرج بالصوم فيشرع الإفطار في حقهما كالمسافر والمريض. وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 422).
مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 340) حيث قال: والحامل كالمريض تفطر وتقضي ولو أطعمت مع ذلك كان أحسن وذلك إذا خشيت على نفسها أو على من ما في بطنها ولم تطق الصوم، أو المرضع إذا خافت على ولدها فإنها تفطر وتقضي الأيام التي أفطرتها وتطعم عن كل يوم مدًّا لمسكينٍ مع القضاء وهو أعدل الأقاويل في ذلك إن شاء اللَّه. وانظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 261).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 174) حيث قال: (وأما الحامل والمرضع) فيجوز لهما الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا فتعبيره بالولد أولى من تعبير التنبيه بولديهما، وسواء أكانت مستأجرةً أم لا، ويجب الإفطار إنْ خافت هلاك الولد، وكذا يجب على المستأجرة كما صحَّحه في الروضة لتمام العقد وإن لم تخف هلاك الولد. وأما القضاء والفدية (فإن أفطرتا خوفًا) من حصول ضررٍ بالصوم كالضرر الحاصل للمريض (على نفسهما) والأولى أنفسهما ولو مع الولد (وجب القضاء بلا فدية) كالمريض.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 312 - 313) حيث قال: والحامل والمرضع إذا خافتا الضرر على أنفسهما) أبيح لهما الفطر كالمريض (أو) خافتا الضرر على (ولديهما أبيح لهما الفطر)؛ لأنَّ خوفهما خوف على آدمي، أشبه خوفهما على أنفسهما. (وكره صومهما) كالمريض، (ويجزئ) صومهما (إن فعلتا)؛ أي: صامتا كالمريض والمسافر، (وإن أفطرتا قضتا) ما أفطرتاه كالمريض (ولا إطعام) على أحدٍ (إن خافتا على أنفسهما كمريضٍ) يضره الصوم فإنه يقضي من غير إطعامٍ.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 355) حيث قال: وقوله: (فيما إذا خافت على الولد. . . إلخ) يعني: إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها لا تجب الفدية بالاتفاق، وإذا خافت على ولدها فأفطرت وجب القضاء =
وهذا التقسيم الذي ذكره المؤلف مجمعٌ عليه، لكن ليس كل ما ذُكر هنا من الأحكام مجمعٌ عليه.
* قوله: (فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: هَلْ إِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ أَمْ لَيْسَ يُجْزِيهِ؟).
= والفدية على أصحِّ أقواله عندهم (هو يعتبره بالشيخ الفاني) فإنَّ الفطر حصل بسبب نفسٍ عاجزةٍ عن الصوم خلقةً لا علة فتجب الفدية كفطر الشيخ الفاني، ولأنَّ فيه منفعة نفسها وولدها، فبالنظر إلى نفسها يجب القضاء، وبالنظر إلى منفعة ولدها تجب الفدية.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدَّردير، وحاشية الدسوقي (1/ 536) حيث قال:(خافتا) بالصوم (على ولديهما) فيجوز فطرهما إن خافتا عليه المرض أو زيادته ويجب إن خافتا هلاكًا أو شديد أذى، وأما خوفهما على أنفسهما فهو داخل عموم قوله وبمرضٍ. . . إلخ؛ لأن الحمل مرضٌ والرضاع في حكمه ولذا كانت الحامل لا إطعام عليها بخلاف المرضع.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 174) حيث قال: فإنْ قيل: إذا خافتا على أنفسهما مع ولديهما فهو فطرٌ ارتفق به شخصان، فكان ينبغي الفدية قياسًا على ما سيأتي. أجيب بأنَّ الآية وردت في عدم الفدية فيما إذا أفطرتا خوفًا على أنفسهما، فلا فرق بين أن يكون الخوف مع غيرهما أو لا، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} . . إلى آخرها (أو) خافتا (على الولد) وحده بأن تخاف الحامل من إسقاطه أو المرضع بأن يقلَّ اللبن فيهلك الولد (لزمتهما) من مالهما مع القضاء (الفدية في الأظهر)، وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين؛ لما روى أبو داود والبيهقي بإسناد حسنٍ عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184]. أنه نسخ حكمه إلا في حقهما حينئذٍ، والناسخ له قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . . والقول بنسخه قول أكثر العلماء.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 313) حيث قال: (إن خافتا على ولديهما) فقط (أطعمتا مع القضاء)؛ لأنه كالتكملة له (عن كل يوم مسكينًا ما يجزئ في الكفارة) لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، قال ابن عباس:"كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يومٍ مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" رواه أبو داود وروى ذلك عن ابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة؛ ولأنه فطرٌ بسبب نفسٍ عاجزةٍ من طريق الخلقة فوجب به الكفارة كالشيخ الهرم.
شرع المؤلِّف في بيان أحكام صوم المسافر، وقد رخص للمسافر في أحكامٍ كثيرةٍ -في الطهارة والصَّلاة والصَّوم وغيرها- وذلك أنَّ السفر مظنَّةُ المشقة، فقد تلحقه تلك المشقَّة في بدنه أو في نفسه، فخفَّف عنه لأجل ذلك.
* قوله: (هل إنْ صام أجزأه صومه أم ليس يجزئه؟): الصَّحيح في هذه المسألة أنه يجزئه، ومن أهل العلم من يرى أنَّ الصيام في السفر أفضل
(1)
، وهناك من يخير بين الأمرين
(2)
، وهناك من يرى أنَّ الفطر
(1)
وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو وجهٌ عند الحنابلة، أنَّ الصوم أفضل، إذا لم يجهده الصوم ولم يضعفه.
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 351) حيث قال: وإن كان مسافرًا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل، وإن أفطر جاز) لأنَّ السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذرًا، بخلاف المرض فإنه قد يخفف بالصوم فشرط كونه مفضيًا إلى الحرج.
وقال الشافعي رحمه الله: الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 453) حيث قال: (والصوم) في السفر (أحب إلينا)؛ أي: إلى المالكية لمن قوي عليه على المشهور. لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 265) حيث قال: (فرع) في مذاهبهم فيمن أطاق الصوم في السفر بلا ضررٍ هل الأفضل صومه في رمضان أم فطره، قد ذكرنا مذهبنا أن صومه أفضل، وبه قال حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعثمان بن العاص رضي الله عنهم.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشَّاف القناع" للبهوتي (2/ 311) حيث قال: (والمسافر سفر قصرٍ يسن له الفطر إذا فارق بيوت قريته) العامرة (كما تقدم في القصر) موضحًا لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (ويكره صومه ولو لم يجد مشقةً) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصوم في السفر" متفقٌ عليه، من حديث جابرٍ ورواه النسائي وزاد:"عليكم برخصة اللَّه التي رخَّص لكم فاقبلوها"، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما "أفطر في السفر وبلغه أن قوما صاموا قال:"أولئك العصاة". . . قال المجد: وعندي لا يكره لمن قوي واختاره الآجري (ويجزئه)؛ أي: يجزئ المسافر الصوم برمضان نقله الجماعة، ونقل حنبلٌ: لا يعجبني.
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (3/ 143) حيث قال: ولأبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حرفان؛ أحدهما: أنَّ أداء صوم رمضان غير مستحق على المسافر في هذا الوقت ولكنه مخيرٌ بين الصوم والفطر مع قدرته على الصوم.
أفضل
(1)
، وهناك من يرى أنَّ من صام في السفر فعليه القضاء، وقد نقل عن عبد الرحمن بن عوفٍ الصحابي الجليل أحد المبشرين بالجنة أنه قال:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"
(2)
، فسوَّى بينهما، ونقل عن عمر بن الخطاب
(3)
، وعن عبد اللَّه بن عمر، وعن أبي هريرة، وعن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهم أنَّ من صام في السفر يقضيه في الحضر
(4)
.
لكن هذا على خلاف ما جاء في الأحاديث الصَّحيحة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنقف عند ما صحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نقدِّم عليه كلام غيره ولو كان قول صحابيٍّ، وأما ما جاء من خلاف الصحابة للحديث الصحيح فإنه محمولٌ على أنَّ الصحابيَّ ربما لم يبلغه الخبر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أو أنَّ هذا هو ما فهمه من النَّص، إلى غير ذلك من التأويلات التي ذكرها أهل العلم.
* قوله: (وَهَلْ إِنْ كَانَ يُجْزِي الْمُسَافِرَ صَوْمُهُ الْأَفْضَلُ لَهُ الصَّوْمُ أَمِ
(1)
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (7/ 371) حيث قال: والمسافر يستحبُّ له الفطر. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، ونص عليه، وهو من المفردات، وسواءٌ وجد مشقةً أم لا.
وقال الحدادي الحنفي في: "الجوهرة النيِّرة على مختصر القدوري"(1/ 142) وإن كان مسافرًا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل) هذا إذا لم تكن رفقته أو عامتهم مفطرين أما إذا كانوا مفطرين أو كانت النفقة مشتركة بينهم فالإفطار أفضل لموافقته الجماعة.
(2)
أخرجه النسائي (2285) وضعَّفه الألباني وقال: منكر. انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(498).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 567)، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، أنَّ عمر بن الخطاب أمر رجلًا صام شهر رمضان في السفر أن يقضيه. انظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 157).
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 142) حيث قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يجزئه. انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 123).
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 567)، عن ابن عمر قال: كان يقول: "من صحبنا فلا يصم" قال: وكان لا يصوم في السفر".
الْفِطْرُ أَوْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا؟ وَهَلِ الْفِطْرُ الْجَائِزُ لَهُ هُوَ فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ أَمْ فِي كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ؟ وَمَتَّى يُفْطِرُ؟ وَمَتَى يُمْسِكُ؟ وَهَلْ إِذَا مَرَّ بَعْضُ الشَّهْرِ لَهُ أَنْ يُنْشِئَ السَّفَرَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ إِذَا أَفْطَرَ مَا حُكْمُهُ؟).
اختلف العلماء في حد السفر الذي يجوز فيه الفطر: فذهب الجمهور إلى أنه لا بدَّ من قطع مسافة القصر التي مرَّ ذكرها في الصلاة وهي أربعة بردٍ
(1)
، وذهب الحنفية إلى أنها ثلاثة أيامٍ
(2)
، وذهب الظاهرية إلى أنه يجوز له الفطر إذا تجاوز بيوت بلدته ولو كان ميلًا واحدًا
(3)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (1/ 313) حيث قال: (ومن سافر أقل من) مسافة (أربعة برد فظن أنَّ الفطر مباحٌ له فأفطر فلا كفارة عليه) لعدم انتهاكه بل هو من أصحاب التأويل القريب وهو ما استند صاحبه لسببٍ موجودٍ (و) إنما (عليه القضاء فقط) من غير خلافٍ. وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 453).
مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذَّب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 327) حيث قال: فأما المسافر إن كان سفره دون أربعة برد لم يجز له أن يفطر؛ لأنه إسقاط فرض للسفر فلا يجوز فيما دون أربعة برد كالقصر. وانظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (3/ 468).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 569) حيث قال: ومن شرط الفطر أن يكون أسفره، تقصر في مثله الصلاة، وهو ستة عشر فرسخًا فأزيد، إذ ما دون ذلك في حكم المقيم لما تقدَّم في قصر الصلاة، وأن يترك البيوت وراء ظهره؛ أي: يتجاوزها [لأنه ما لم يتجاوزها] فهو حاضرٌ غير مسافرٍ، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وفي "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 505) حيث قال: (وكذا) للمسافر السفر المتقدم (الفطر) برمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس من البر الصوم في السفر"(ولو قطعها)؛ أي: المسافة (في ساعةٍ واحدةٍ)؛ لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (2/ 868) حيث قال: قال أصحابنا: أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام.
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 384) حيث قال: ومن سافر في رمضان -سفر طاعةٍ أو سفر معصيةٍ، أو لا طاعة ولا معصية- ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلًا، أو =
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ
(1)
لم يعرض لها المؤلِّف تتعلَّق بأنواع المسافرين؛ لأنَّ المسافر قد يكون سفره قربةً وطاعةً للَّه سبحانه وتعالى كالمسافر المجاهد في سبيل اللَّه، أو كالذي يسافر للحجِّ، وكذلك من يسافرُ لنشر الدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى على بيِّنةٍ وبصيرةٍ، ومن يسافر ليصل رحمًا، أو لنجدةِ إخوانه المسلمين، أو من يسافر في طلب العلم النافع، ونحو ذلك.
وقد يكون السفر مباحًا كمن يسافر للتَّجارة، والضرب في الأرض طلبًا للرزق، أو من يسافر لأجل النزهة، أو لأجل الصيد.
وقد يكون السفر لمعصيةٍ، كمن يسافر ليسرق أو ليعتدي أو ليقطع طريق، إلى غير ذلك.
فهذه أنواعٌ ثلاثةٌ ولكل منها حكمٌ كما مرَّ بنا في صلاة المسافر.
= بلغه، أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذٍ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر، وله أن يصومه تطوعًا، أو عن واجب لزمه، أو قضاء عن رمضان خال لزمه.
(1)
مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) أن يكون السفر قربةً أو مباحًا. وأجاز الحنفية الفطر بسفر المعصية.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 421) حيث قال: (قوله لمسافر) خبر عن قوله الآتي الفطر وأشار باللام إلى أنه مخيرٌ ولكن الصوم أفضل إن لم يضره كما سيأتي (قوله سفرًا شرعيًّا)؛ أي: مقدرًا في الشرع لقصر الصلاة ونحوه وهو ثلاثة أيام ولياليها، وليس المراد كون السفر مشروعًا بأصله ووصفه بقرينة ما بعده (قوله ولو بمعصية) لأنَّ القبح المجاور لا يعدم المشروعية كما قدمه الشارح في صلاة المسافر. وانظر:"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/ 216).
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 59) حيث قال: أن يكون السفر مباحًا فلا يقصر العاصي بسفره كقاطع الطريق والعبد الأبق خلافًا لأبي حنيفة، ولا يشترط كون السفر قربةً خلافًا لابن حنبل.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 169) حيث قال: (و) يباح تركه (للمسافر سفرًا طويلًا مباحًا).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 505) حيث قال: (ولا يترخص في سفر معصيةٍ بقصرٍ ولا فطر، ولا أكل ميتة نصًّا)؛ لأنها رخصٌ والرخص لا تناط بالمعاصي.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَالنَّظَرُ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ الْمَرَضِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْفِطْرُ وَفِي حُكْمِ الْفِطْرِ.
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ إِنْ صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هَلْ يُجْزِيهِ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ
(1)
إِلَى أَنَّهُ إِنْ صَامَ وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَأَنَّ فَرْضَهُ هُوَ أَيَّامٌ أُخَرُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَفْطَرَهُ فَعِدَّة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهَذَا الْحَذْفُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ بِلَحْنِ الْخِطَابِ).
سبق أنَّ اللَّه عز وجل رخَّص للمريض وللمسافر في الفطر، فهل إذا صام المريض في مرضه والمسافرُ في سفره يجزئه صومه أو لا؟
ذهب الجمهور
(3)
-ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم- إلى أنه إن صام فإنه يجزئه، وذهب أهل الظاهر
(4)
إلى أنه لا يجزئه وأنَّ فرضه هو أيام أُخر. ويستدلون لمذهبهم: أولًا: بما نُقل عن عمر، وأبي هريرة،
(1)
تقدَّم بالتفصيل.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 384) حيث قال: ومن سافر في رمضان -سفر طاعةٍ أو سفر معصيةٍ، أو لا طاعة ولا معصية- ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلًا، أو بلغه، أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذٍ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيامٍ أخر، وله أن يصومه تطوعًا، أو عن واجبٍ لزمه، أو قضاء عن رمضان خال لزمه، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره.
(3)
تقدَّم بالتفصيل.
(4)
سبق الكلام عليه.
وعبد اللَّه بن عمر، وابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف
(1)
بأنَّ من صام في السفر قضاه في الحضر، وسبق أنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شبه الصائم في السفر بالمفطر في الحضر
(2)
. -أي: إذا كان بدون عذر-. هذا أولًا.
وثانيًا: أخذًا بظاهر قول اللَّه تعالى: ({فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]) والمعنى أن المسافر لا يصوم وعليه القضاء. وقد عبَّر المؤلف عن ذلك بقوله: (أو يحمل على المجاز).
وقد اختلف العلماء في مسألة المجاز إلى ثلاثة أقوال:
1 -
القول بجوازه مطلقًا
(3)
.
2 -
أن لا يجوز مطلقًا
(4)
.
3 -
أنه يجوز في اللُّغة دون القرآن
(5)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ المجاز واقع في القرآن الكريم وممن قال بهذا: أبو يعلى الحنبلي، والشيرازي والبزدوي والغزالي وابن قدامة والقرافي وابن الحاجب وغيرهم من الأصوليين، وبه قال عامة علماء العربية والتفسير كابن قتيبة وابن رشيق والزركشي والسيوطي. انظر:"المحصول" للرازي (1/ 321)، "العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى (2/ 695)، و"اللمع في أصل الفقه" للشيرازي (ص: 7)، و"المستصفى" للغزالي (ص: 84)، و"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 206).
ونقل عن الإمام أحمد ما يؤيد القول بوقوع المجاز في القرآن حيث يقول: "أما قوله"(أنا معكم) فهذا في مجاز اللغة يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا. انظر "الرد على الجهمية والزنادقة" للإمام أحمد (ص: 92).
(4)
وممن نُقل عنه القول بهذا أبو بكر ابن داود الظاهري، وابن القاص من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة. انظر:"الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية" لحسام الدين عفانة (124). وهي أطروحة الماجستير له.
(5)
يُنظر: "منع جواز المجاز" للشنقيطي (ص: 26 - 27) حيث قال: فإن قيل: ما تقول =
وما في هذه الآية وأمثالها إنما يطلق عليه إيجاز ولا يُسمَّى مجازًا، وهذا أُسلوب موجودٌ في لغة العرب، والقرآن إنما نزل بلغة العرب.
وأجاب الجمهور: بأنَّ في الآية محذوفًا مُقدَّرًا، والمعنى:(فأفطر فعدةٌ من أيامٍ أُخر).
ولا شكَّ أنَّ الأَولى أنْ يُقالَ: إن ذلك إيجازٌ بالحذف، وهذا أُسلوب معروفٌ في القرآن وفي لغة العرب، ومنه قوله تعالى:({وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82])، والمراد: سؤال أهل القرية.
وهذا أفضل من أن يُقال إنَّ في الآية مجازًا، والمجاز خلاف الحقيقة والقرآن كل ألفاظه حقيقة، ولذا تورَّع كثيرٌ من العلماء عن القول بأنَّ في القرآن مجازًا، وأنه لا يجوز ذلك، والذي ينبغي للمسلم أن يتجنب مثل ذلك، وأن يسلك المسالك التي تباعد بينه وبين أن يقع في مثل هذه الأُمور.
ثم إنَّ السُّنة إنما جاءت بيانًا لكتاب اللَّه عز وجل، وتوضيحًا لمجمله، ورفعًا لما قد يرد فيه من إبهام، قد يتبادر إلى أذهان البعض، كما قال تعالى:({وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ})[النحل: 44].
= أيها النافي للمجاز في القرآن في قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} . وقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . . . فالجواب: أن قوله: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} لا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة؛ لأنَّ اللَّه يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وأمثال هذا كثيرة جدًّا، فلا مانع من أن يعلم اللَّه من ذلك الجدار إرادة الانقضاض. ويجاب عن هذه الآية -أيضًا- بما قدمنا من أنه لا مانع من كون العرب تستعمل الإرادة عند الإطلاق في معناها المشهور، وتستعملها في الميل عند دلالة القرينة على ذلك. . . والجواب عن قوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} من وجهين أيضًا؛ الأول: أن إطلاق القرية وإرادة أهلها من أساليب اللغة العربية أيضًا كما قدمنا. الثاني: أن المضاف المحذوف كأنه مذكور لأنه مدلولٌ عليه بالاقتضاء،. . مع أنَّ كثيرًا من علماء الأُصول يسمون الدلالة على المحذوف في نحو قوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} دلالة الاقتضاء. واختلفوا هل هي من المنطوق غير الصريح، أو من المفهوم. . .
* قوله: (وَهَذَا الْحَذْفُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ بِلَحْنِ الْخِطَابِ).
مباحث أصولية:
أولًا: ينقسم الأصوليون في طرائقهم إلى قسمين:
الأوَّل: ما يُعرف بطريقة الفقهاء، وهم الحنفية
(1)
، حيث خلطوا بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، وأدخلوا فيها جملةً من أُصول الفقه.
والثاني: ما يعرف بطريقة المتكلمين وهم الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
ثانيًا: دلالاتُ الألفاظ، ومنها ما يعرف بدلالة النص عند الحنفية وبعبر عنه الجمهور بالمفهوم، وينقسم المفهوم إلى قسمين: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفةٍ.
أما هو مفهوم الموافقة: فهو ما يعرف عند الحنفية بدلالة النصِّ
(3)
، وهو الذي عبَّر عنه المؤلِّف بـ "فحوى الخطاب".
(1)
يُنظر: "روضة الناظر وجنة المناظر" لابن قدامة (1/ 19) حيث قال: وبجانب طريقة المتكلمين ظهرت طريقةٌ أُخرى تُسمَّى طريقة الفقهاء أو الحنفية، تميزت بربط القواعد الأُصولية بالفروع الفقهية، بمعنى: أنهم جعلوا الأُصول تابعة للفروع، بحيث تتقرر القواعد على مقتضى الفروع الفقهية، باعتبار أنَّ هذه القواعد إنما هي لخدمة الفروع.
(2)
يُنظر: "الوجيز في أصول الفقه الإسلامي" للزحيلي (1/ 64) حيث قال: تمتاز طريقة علماء الكلام أو طريقة الشافعية بأنها تحقق قواعد هذا العلم تحقيقًا منطقيًّا نظريًّا، وتقرر القواعد الأصولية وتنقحها، وتثبت ما أيده البرهان العقلي والنقلي، وتنظر إلى الحقائق المجردة، ولم تلتفت هذه الطريقة إلى التوفيق بين القواعد وبين الفروع التي استنبطها الأئمة في الفقه، ولا تعنى بالأحكام الفقهية؛ لأن الأُصول علم مستقلٌّ عن الفقه، فكانت هذه الطريقة تهتم بتحرير القواعد وتنفيحها.
(3)
يُنظر: "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" لعلاء الدِّين البخاري (1/ 73) حيث =
وينقسم مفهوم الموافقة إلى قسمين:
مفهوم أولى، ويطلق عليه فحوى الخطاب، ومفهوم مساوٍ وهو الذي يعرف بلحن الخطاب.
وبيانُ ذلك: أنَّ مفهوم الموافقة: هو أن يعطى حكم المسكوت عنه حكم المنطوق، يعني: أن ينقل حكم ما نطق به النصُّ إلى المسكوت عنه.
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مفهوم موافقةٍ أولى، ويعرف أيضًا بفحوى الخطاب وتنبيهِ الخطاب
(1)
، فقوله تعالى فيما يتعلَّق بطاعة الوالدين:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فيه نهى الأبناء أن يتأفَّف أحدهم أمام والديه، أو أن ينهرهما، وهناك أشياء أُخرى سكت عنها وهي أولى مثل أنْ يرفع الصوت عليهما أو يضربهما أو أن يشتمهما أو أنْ يحبسهما أو أن يمنعَ عنهما الطعام، فهذا كلُّه لا يجوز من باب أولى.
القسم الثاني: مفهوم موافقةٍ مساوٍ: وهو أن يكون حكم المسكوت عنه موافقًا ومساويًا لحكم المنطوق به، وهو ما يسمَّى بلحن الخطاب،
= قال: وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادًا ولا استنباطًا مثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، هذا قول معلوم بظاهره معلوم بمعناه، وهو الأذى.
(1)
يُنظر: "التحبير شرح التحرير" للمرداوي (6/ 2881) حيث قال: والصحيح أنَّ مفهوم الموافقة قسمان: قسمٌ يكون أولى بالحكم، وهو الأكثر، وقسم يكون مساويًا، وقد تقدم مثالهما.
وهذا عليه الأكثر، منهم: الغزالي، والرازي، وأتباعه، وهو ظاهر استدلالات الأئمة. وقيل: لا يكون مفهوم الموافقة مساويًا للمنطوق، وهو مقتضى نقل إمام الحرمين عن الشافعي، وعزاه الهندي للأكثر، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي وغيره من الشافعية وإن كان مثل الأولى في الاحتجاج به قالوا: والخلاف في التسمية فقط، وأما الاحتجاج فيحتج بالمساوي كاحتجاجهم بالأولى، ولذلك قلنا: وهو لفظي؛ أي: الخلاف في اللفظ لا في المعنى.
وهو الذي أشار إليه المؤلف، ومنه قوله تعالى في تحريم أكل أموال اليتامى:({إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}) [النساء: 10].
فهذه الآية نصٌّ في تحريم أكل مال اليتيم ظلمًا، ومثله: لو جاء إنسان فأخذ مال اليتيم فأحرقه أو أغرقه، أو بدَّده ووزَّعه، فكل ذلك إتلافٌ لمال اليتيم، فالعلة الموجودة في المسكوت عنه هي نفسها أيضًا القائمة في المنطوق به، فاللَّه تعالى حرَّم أكل مال اليتيم، إذًا الآية تتضمن النهي عن إتلاف مال اليتيم بكل حالٍ، لكنها نطقت بالأكل وسكتت عن الأُمور الأُخرى فتلحق بها.
إذًا لحن الخطاب الذي يقصده المؤلف هنا هو مفهوم الموافقة المساوي. وهو ما يُشير إليه النصُّ لا تصريحًا، وإنما يرد ضمنًا في النصِّ من آيةٍ أو حديثٍ دون أن يصرح به، قال تعالى عن المنافقين:({وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]).
وأما مفهوم المخالفة
(1)
، فهو ما يُعرف أيضًا بدليل الخطاب، والمؤلف يعبر عنه كثيرًا بدليل الخطاب؛ أي: ما دل عليه الخطاب أو أرشد إليه.
* قوله: (فَمَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى الْمَجَازِ قَالَ: إِنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر، لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وَمَنْ قَدَّرَ (فَأَفْطَرَ) قَالَ: إِنَّمَا فَرْضُهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إِذَا أَفْطَرَ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُرَجِّحُ تَأْوِيلَهُ بِالْآثَارِ الشَّاهِدَةِ لِكِلَا الْمَفْهُومَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ الشَّيْءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ).
مراد المؤلف رحمه الله: إنَّ العلماء تجاذبوا هذه الآية فكلٌّ يتخذها دليلًا
(1)
تقدَّم تعريفه.
على مذهبه، فأهل الظاهر يأخذون بظاهرها، والجمهور يقدرون محذوفًا، أي: أنَّ في الآية إيجازًا بالحذف، وهو أولى من قول المؤلف إنَّ بالآية مجازًا.
ثم احتجَّ كِلَا الفريقين على قوله بأدلةٍ من السنن، على ما سيبيِّنه المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
* قوله: (أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ"
(1)
، وَبِمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَافِرُونَ فَيَصُومُ بَعْضُهُمْ وَيُفْطِرُ بَعْضُهُمْ)
(2)
.
أما أنس بن مالكٍ رضي الله عنه فهو خادمُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأحد أصحابه رضي الله عنه، وهو من الصحابة الذين عُمِّروا وكان من المكثرين من رواية الأحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا اللفظ الذي أورده المصنف أوله لفظ مسلمٍ وهو عند البخاري بلفظ: "كنا نسافر"
(3)
، وأما بقية الحديث فهو متفق عليه بين البخاري ومسلم.
وهذا الحديث واضح الدلالة على ما ذهب إليه الجمهور حيث إنهم كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان منهم الصائمون ومنهم المفطرون، وسيأتي نحوه أيضًا في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
كما دلَّ أيضًا على أنَّ الإفطار في السفر رخصةٌ، والصيام عزيمةٌ،
(1)
أخرجه البخاري (1947) ومسلم (1118/ 98).
(2)
أخرجه مسلمٌ (1118/ 99).
(3)
تقدَّم.
واللَّه يحب أنْ تؤتى رخصُه كما يكره أن تؤتى معاصيه
(1)
.
وأخرج مسلم
(2)
وغيره
(3)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لست عشرة بقيت من رمضان، ومنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".
فهذا الحديث يحكي فعلًا للصحابة رضي الله عنهم أقرَّهم عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك غاية في الحجة على هذا المذهب.
* قوله: (وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(4)
يَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَافَرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ"
(5)
. وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الصَّوْمِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ
(7)
: وَالْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا صَامَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ).
(1)
معنى حديث أخرجه أحمد (5866) عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" وصححه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه مسلم (1116).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (11705)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيحٌ على شرط مسلمٍ.
(4)
تقدَّم قولهم.
(5)
أخرجه البخاري (1944)، ومسلم (1113).
(6)
أخرجه مسلم (1113/ 88).
(7)
يُنظر: الاستذكار (3/ 305)، وفيه قال:"فأما من احتجَّ بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وزعم أنَّ ذلك عزمة فلا دليل على ذلك لأنَّ ظاهر الكلام وسياقه يدل على الرخصة والتخيير، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ودليلٌ آخر أنَّ المريض الحامل على نفسه إذا صام فإنَّ ذلك يجزئ عنه فدل ذلك أنه رخصة له والمسافر في المعنى مثله".
الكَديد بفتح الكاف من أعمال عُسفان
(1)
، بل جاء في روايةٍ عند البخاري التنصيص على عُسفان؛ لأنَّ الكَديد إنما هو تابعٌ له، وعنون له بقوله:(باب من أفطر في السفر ليراه الناس).
* قوله: (وكانوا يأخذون بالأَحْدَث فالأحدث. . .)، هذا من كلام الزهري
(2)
رحمه الله، وقوله:(الأحدث) يعني: الأمر الحادث.
* قوله: (قالوا: وهذا يدل على نسخ الصوم)، هذا تعليلٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا في الفطر في السفر وهذا لا يخالف فيه الجمهور، لكنَّ أدلة الجمهور نصٌّ في المدة، فالصحابة كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم المفطر ومنهم الصائم فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء.
أما الحديث الآخر: ففيه دلالةٌ على أنَّ الإنسان إذا خرج من البلد صائمًا فله أنْ يفطر في سفره، لا على أنَّ الصيام في السفر لا يجوز.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَتَى يُفْطِرُ الْمُسَافِرُ وَمَتَى يُمْسِكُ؟ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُفْطِرُ يَوْمَهُ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مُسَافِرًا، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ،
(1)
الكَديد على ثلاثة أميالٍ من المدينة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (3/ 221).
الكديد: وهو موضع بالحجاز. انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (4/ 442).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 299) حيث قال: يقولون إنه من كلامِ ابن شهابٍ.
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 144) حيث قال: واختلفوا في الوقت الذي يفطر فيه الخارج إلى السفر، فقالت طائفة: يفطر من يومه إذا خرج مسافرًا، هذا قول عمرو بن شرحبيل، والشعبي. . . . وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج.
(4)
في المذهب روايتان وهذه هي الأصح في المذهب. ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 312) حيث قال: (والأفضل له)؛ أي: لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه (الصوم)؛ أي: إتمام صوم ذلك اليوم خروجًا من خلاف من لم يبح له الفطر، وهو قول أكثر العلماء تغليبًا لحكم الحضر كالصلاة. وانظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 117).
وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ
(1)
، وَاسْتَحَبَّتْ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ صَائِمًا وَبَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ تَشْدِيدًا مِنْ بَعْضٍ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا عَلَى مَنْ دَخَلَ مُفْطِرًا كَفَّارَةً).
انتقل المؤلف إلى مسألةٍ أُخرى مما يتعلَّق بأحكام المسافر، وهي متى يبدأ المسافر صومه ومتى يفطر؟ وهذه المسألة لها أحوالٌ:
الحالة الأولى: أنْ يكون المسافر في سفره وقد حلَّ الشهر المبارك، ففي هذه الحالة لا خلاف بين العلماء في فطره.
الحالة الثَّانية: أنْ يسافر في رمضان ليلًا، فهذا على الرأي الصحيح يفطر اليوم الذي يلي تلك الليلةَ وما بعدها.
الحالة الثالثة: أنْ يخرجَ وهو صائمٌ فهل يفطر أو لا؟ وفيه خلافٌ أشار إليه المؤلِّف.
فذهب أحمد إلى أنه يفطر ذلك اليوم، وبه قال الشعبيُّ والحسنُ
(2)
.
وذهب أبو حنيفةَ
(3)
، ومالكٌ
(4)
، والشافعيُّ
(5)
، ورواية عن
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 144) حيث قال: وقالت طائفةٌ: لا يفطر يومه ذلك، كذلك قال الزهري، ومكحول، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 431) حيث قال: (ولو نوى مسافر الفطر) أو لم ينو (فأقام ونوى الصوم في وقتها) قبل الزوال (صحَّ) مطلقًا (ويجب عليه) الصوم (لو) كان (في رمضان) لزوال المرخص (كما يجب على مقيم إتمام) صوم (يوم منه)، أي: رمضان (سافر فيه)؛ أي: في ذلك اليوم (و) لكن (لا كفارة عليه لو أفطر فيهما) للشبهة في أوله وآخره إلا إذا دخل مصره لشيءٍ نسيه فأفطر.
(4)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 82) حيث قال: والمسافر لا يخلو أن يسافر قبل الفجر وينوي الفطر فيجوز له إجماعًا أو يسافر بعد الفجر فلا يجوز له الفطر عند الثلاثة؛ لأن طروء السفر نهارًا بخلاف طروء المرض وأجازه ابن حنبلٍ، فإن أفطر قبل الخروج ففي وجوب الكفارة عليه ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين أن يسافر فتسقط ولا يسافر فتجب وإن أفطر بعد الخروج فلا كفارة عليه في المشهور خلافًا لابن كنانة.
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 169) حيث قال: (وإن سافر فلا) يفطر في =
أحمدَ
(1)
إلى أنه لا يفطر يومه ذلك.
واستحبَّت جماعةٌ من أهل العلم
(2)
لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائمًا، وهذا هو الذي ينبغي فعله -أنْ يدخل صائمًا- حتى لا يقع في الشُّبهة، ولئلا يظن أنه متساهلٌ بأحكام هذه العبادة، وبخاصةٍ من لا يعرف ذلك من أحواله.
ومن العلماء
(3)
من يرى جواز الأمرين، ومنهم من يرى التأكيد على الصيام لكنهم لا يرون وجوب ذلك.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ دَخَلَ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّهَارِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
إِلَى أَنَّهُ يَتَمَادَى عَلَى فِطْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(6)
: يَكُفُّ عَنِ الْأَكْلِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عِنْدَمَا تَطْهُرُ تَكُفُّ عَنِ الْأَكْلِ).
= الأصح؛ لأنها عبادةٌ اجتمع فيها الحضر والسفر فغلب جانب الحضر؛ لأنه الأصل. وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 261).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 117) والرواية الثانية، لا يباح له الفطر ذلك اليوم، وهو قول مكحول، والزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ لأنَّ الصوم عبادةٌ تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر، كالصلاة، والأول أصح.
(2)
لم أقف عليهم.
(3)
لم أقف عليهم.
(4)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 445) حيث قال: (وإذا قدم المسافر) من سفره نهارًا حالة كونه (مفطرًا أو طهرت الحائض نهارًا فـ) يباح (لهما الأكل في بقية يومهما) ولا يستحب لهما الإمساك، وكذلك الصبي يبلغ والمجنون يفيق والمريض يصبح مفطرًا لعذر المرض ثم يصح، والفرق بين هؤلاء وبين من تبين له أن ذلك اليوم من رمضان مذكور في الأصل.
(5)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 262) حيث قال: قدم المسافر أو برأ المريض وهما مفطران يستحب إمساك بقية يومه ولا يجب عندنا وأوجبه أبي حنيفة.
(6)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 126) حيث قال: "وإذا قدم المسافر أو طهرت الحائض في بعض النهار أمسكا بقية يومهما"، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب الإمساك. وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلًا للزوم ولم يكن =
انتقل المؤلِّف إلى مسألةٍ أُخرى: وهي لو أنَّ شخصًا دخل بلده وكان مفطرًا هل يبقى على فطره أو يمسك بقيَّة يومه؟
1 -
ذهب مالكٌ والشافعيُّ وأحمد
(1)
وأكثر أهل العلم: إلى أنه يبقى على فطره.
2 -
وذهب أبو حنيفةَ وأصحابه: إلى أنه يلزمه الإمساك تجنبًا للتهمة.
كذلك أيضًا الحائض عند أبي حنيفة إذا طهرت وسط النهار فإنه يلزمها الإمساك.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ الْمُسَافِرُ هُوَ مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ لِلنَّظَرِ، أَمَّا الْأَثَرُ: فَإِنَّهُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ"
(2)
، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ وَأَمَّا النَّاسُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا بَعْدَ تَبْيِيتِهِمُ الصَّوْمَ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ"
(3)
، وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ
(4)
عَنْ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ
= كذلك في أول اليوم هو يقول التشبه خلف فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدًا أو مخطئًا. ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت لا خلفًا لأنه وقت معظَّم بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق المانع عن التشبه حسب تحققه عن الصوم.
(1)
في المذهب روايتان، المشهور ينظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 472) حيث قال: (أو قدم مسافر أو بريء مريض مفطرين) في يومٍ من رمضان لزمهما الإمساك لزوال المبيح للفطر أو القضاء. وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 145).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (1114/ 90).
(4)
أخرجه أبو داود (2412) عن جعفر بن جبرٍ قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري =
لَمَّا تَجَاوَزَ الْبُيُوتَ دَعَا بِالسُّفْرَةِ قَالَ جَعْفَرٌ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَؤُمُّ الْبُيُوتَ؟ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ جَعْفَرٌ: فَأَكَلَ. وَأَمَّا النَّظَرُ: فَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ لَا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُبَيِّتَ الصَّوْمَ لَيْلَةَ سَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ صَوْمَهُ، وَقَدْ بَيَّتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]).
هذا شروعٌ من المؤلف لبيان سبب الخلاف في الوقت الذي يفطر فيه المسافر قال: (هو معارضة الأثر للنظر) ثم ذكر عدة آثار:
الأول: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما وقد مرَّ ذكره- أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صام حتى بلغ الكَديد ثم أفطر وأفطر النَّاس معه، وكان ذلك في رمضان، وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله:(باب من أفطر في السفر ليراه الناس)، وقد جاء في بعض الروايات ذكر الكديد، وفي بعضها (عسفان)، والكَديد من أعمال عسفان، وهي تبعد عن مكة اثنين وأربعين ميلًا
(1)
.
واختلف أهل العلم هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد نوى الصيام أو لا؟ لكن الظَّاهر -كما ذكر المؤلف- أنَّ الذين معه كانوا قد نووا الصيام بدليل أنهم أفطروا، ومن توقَّف منهم عن الفطر قد أنكر عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: حديث جابرٍ رضي الله عنه وقد سبق ذكره أيضًا - وإنما كرَّره المؤلف هنا لتشابه المسائل بعضها ببعضٍ في فتح مكة وفيه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سار حتى بلغ كُرَاع الغَمِيم وصام الناس، ثم دعا بقدحٍ من ماء فرفعه حتى نظر إليه الناس ثم شرب"، فهو إنما رفعه ليراه الناس فيقتدون به، ولذا أنكر
= صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينةٍ من الفسطاط في رمضان، فرفع ثم قرب غداه، قال جعفر في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال: اقترب قلت: ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة:"أترغب عن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" قال جعفر في حديثه: فأكل. وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(928).
(1)
تقدَّم معناه.
النبي صلى الله عليه وسلم على من صام، وفي الحديث: "ليس من البرِّ الصيام في السفر
(1)
"، ولذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الفطر متعينٌ في السفر
(2)
، لكن الصَّحيح أنه رخصةٌ، واللَّه تعالى يحب أن تُؤتى رخصه، وقد خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم من سأله بين الصوم والفطر.
الثالث: حديث أبي بصرةَ رضي الله عنه عند أبي داود، وفي قول المؤلف:(قال جعفر راوي الحديث. . .) خلطٌ من المؤلِّف، ولعل المؤلِّفَ رحمه الله اختلط عليه الأمر؛ لأنَّ أبا داود ذكر جعفرًا مرتين في السند، فلربما التبس عليه أنَّه هو الراوي وليس هو الراوي، وإنَّما الراوي هو عبيد بن جبرٍ أو جبيرٍ، يروى مكبرًا ومصغرًا والتصغير أشهر.
وقصته أنه قال: ركبت مع أبي بصرة من الفُسطاط -وهي مصر القديمة المعروفة الآن في مصر- إلى الإسكندرية، فدفع -أي: تقدَّم- ثم وضع السفرة، وطلب ممن رافقه في هذه الرحلة أن يأكل، فقال: لا نزال بين البيوت، فقال: أترغب عن سنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فأكل معه.
وكذلك ورد عن أنسٍ رضي الله عنه أيضًا أنه لما تهيَّأ لسفرٍ وجهزت راحلته أكل
(3)
، وتأوله بعض العلماء بأنه أكل خارج البيوت، أو أنها بيوتٌ أُخرى.
ولا شكَّ أنَّ الأحوط في مثل هذا المقام أنْ يخرج الإنسان من الخلاف، وأن يتجنب مواضع الشك والريب عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(4)
، ولذلك قال بعض العلماء: إنَّ الإنسان إذا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 415) عن محمد بن كعب، قال: أتيت أنس بن مالكٍ في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس، فدعا لطعام فأكل منه، ثم ركب، فقلت له: سنة؟ قال: "نعم". وصححه الألباني في "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفرة بعد الفجر"(ص: 29).
(4)
تقدَّم تخريجه.
أراد السفر فإنما يفطر إذا تجاوز بيوت البلد؛ أي: إذا تركها وراء ظهره، ولا يفطر وهو في داخلها
(1)
.
أما قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، ففيه دليلٌ من حيث الجملة على أنَّ الإنسان إذا تلبَّس بعبادةٍ فليس له أن يُبطلها أو أن يقطعها، لكنَّ القضية هنا قضيةٌ خاصةٌ لأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج متجهًا إلى مكة، ثم أفطر في الطريق، وأنكر على من لم يفطر وسمَّاهم بالعصاة؛ لأنهم خالفوا ما وجَّه به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمر به.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" للشرنبلالي (ص: 253) حيث قال: فإن رجع إلى وطنه لحاجة نسيها فأكل في منزله عمدًا أو قبل انفصاله عن العمران لزمته الكفارة.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 534) حيث قال: (و) جاز له بمعنى كره (فطر) بأن يبيِّت الفطر أو يتعاطى مفطرًا ولجوازه أربعة شروط أشار لأولها بقوله: (بسفر قصر) لا أقلَّ فلا يجوز، ولثانيها بقوله:(شرع فيه) بالفعل بأن وصل لمحل بدء القصر المتقدم في صلاة السفر لا إن لم يشرع فلا يجوز.
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 261) حيث قال: إذا سافر المقيم فهل له الفطر في ذلك اليوم له أربعة أحوال: (أن) يبدأ السفر بالليل ويفارق عمران البلد قبل الفجر فله الفطر بلا خلافٍ (الثاني) أن لا يفارق العمران إلا بعد الفجر فمذهب الشافعي المعروف من نصوصه.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 312) حيث قال: (وإن نوى الحاضر صوم يومٍ ثم سافر في أثنائه) سفرًا يبلغ المسافة (طوعًا أو كرهًا فله الفطر بعد خروجه) ومفارقته بيوت قريته العامرة، لظاهر الآية والأخبار الصريحة منها: ما روى عبيد بن جبر قال: "ركبت مع أبي بصرة الغفاري من الفسطاط في شهر رمضان، ثم قرب غداءه فقال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأكل رواه أبو داود، ولأنَّ السفر مبيحٌ للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض الطارئ، ولو بفعله، والصلاة لا يشقُّ إتمامها وهي آكد؛ لأنه متى وجب إتمامها لم تقصر بحالٍ و (لا) يجوز له الفطر (قبله)؛ أي: قبل خروجه؛ لأنه مقيمٌ (والأفضل له)؛ أي: لمن سافر في أثناء يومٍ نوى صومه (الصوم)؛ أي: إتمام صوم ذلك اليوم خروجًا من خلاف من لم يبح له الفطر، وهو قول أكثر العلماء تغليبًا لحكم الحضر كالصلاة.
فلا تعارض إذن بين الآية والحديث، بل يُعدُّ الحديثُ مخصِّصًا للآية، وليس في الفطر في هذه الحال إبطالٌ للأعمال، وإنما فيه اقتداءٌ بالرسول صلى الله عليه وسلم، وامتثالٌ لأمره فهو أسوةُ المؤمنين، وقد أمر اللَّه بالاقتداء به، فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
وبهذا نتبين أنَّ هذا هو الأولى وهو الذي أخذ به عامة العلماء، وهو أنَّ الإنسان إذا خرج في سفرٍ فله أن يفطر، فذلك أمرٌ فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمن فعله كان مقتديًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِمْسَاكِ الدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ عَنِ الْأَكْلِ أَوْ لَا إِمْسَاكِهِ، فَالسَّبَبُ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَشْبِيهِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ شَكٍّ أَفْطَرَ فِيهِ الثُّبُوتُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِهِ قَالَ: يُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهُ بِهِ قَالَ: لَا يُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَكْلُ مَوْضِعِ الْجَهْلِ، وَهَذَا أَكْلٌ لِسَبَبٍ مُبِيحٍ أَوْ مُوجِبٍ لِلْأَكْلِ، وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: كِلَاهُمَا سَبَبَان مُوَجِبَانِ لِلْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ).
يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم
(1)
فاقدروا له"
(2)
، وفي روايةٍ:"فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا"
(3)
، وقد مرَّ ذكر الخلاف فيه
(1)
"غمَّ عليكم": بضم الغين وشد الميم أي: ستره الغمام وحال دون رؤية الهلال. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 388). "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 135).
(2)
أخرجه البخاري (1907) ومسلم (1080/ 6) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
(3)
أخرجه البخاري (1909) ومسلم (1081) عن أبي هريرة قال: قال: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
وأنَّ من العلماء من منع صيامه
(1)
، ومنهم من أجازه
(2)
، فإنْ كان من رمضان فنعمَّا هي، وإن لم يكنْ فلا بأسَ بصيامه، فهذا به شبهٌ بهذه المسألة.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 381) حيث قال: (قوله: ولا يصام يوم الشكِّ) هو استواء طرفي الإدراك من النفي والإثبات بحر (قوله: هو يوم الثلاثين من شعبان) الأولى قول نور الإيضاح هو ما يلي التاسع والعشرين من شعبان أي؛ لأنه لا يعلم كونه يوم الثلاثين لاحتمال كونه أول شهر رمضان، ويمكن أن يكون المراد أنه يوم الثلاثين من ابتداء شعبان فمن ابتدائية لا تبعيضية تأمَّل.
مذهب المالكية، يُنظر:"كفاية الطالب الرباني" للشاذلي (1/ 444) حيث قال: ولا يصام يوم الشك ليحتاط به من رمضان) وهذا النهي للكراهة على ظاهر المدونة. وقال ابن عبد السلام: الظاهر أنه للتحريم؛ لما رواه الترمذي وقال: حسن صحيحٌ أنَّ عمار بن ياسر قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، ويوم الشك المنهي عن صيامه عندنا أن تكون السماء مغيمةً ليلة ثلاثين ولم تثبت الرؤية فصبيحةً تلك الليلة هو يوم الشك.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 163) حيث قال: (ولا يحل)، أي: يحرم ولا يصح (التطوع) بالصوم (يوم الشك) لقول عمار بن ياسر -رضي اللَّه تعالى عنه-: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". . . والمعنى فيه القوة على صوم رمضان، وضعَّفه السبكي بعدم كراهة صوم شعبان وهو ممنوعٌ؛ لأنَّ النفس إذا ألفت شيئًا وإن عليها، ولهذا كان صوم يومٍ وفطر يومٍ أفضل من استمرار الصوم كما سيأتي.
وقال الإسنوي: المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون الكراهة لا التحريم، والمعتمد ما في المتن، هذا إذا صامه (بلا سببٍ) يقتضي صومه (فلو صامه) تطوعًا بلا سببٍ (لم يصح) صومه (في الأصح) كيوم العيد بجامع التحريم.
(2)
كالحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 301) حيث قال: (والمذهب: يجب صومه)؛ أي: صوم يوم الثلاثين من شعبان إن حال دون مطلعه غيمٌ أو قترٌ ونحوهما (بنية رمضان حكما ظنيًّا بوجوبه احتياطًا لا يقينًا)، اختاره الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا ونصوص أحمد عليه، وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وقاله جمعٌ من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعًا قال:"إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له". وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 108).
* قوله: (وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: كِلَاهُمَا سَبَبَانِ مُوَجِبَانِ لِلْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ)، يعني: أنَّ يوم الشك سببٌ في الإمساك، وكذلك أيضًا هنا فيمن دخل.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُنْشِئَ سَفَرًا ثُمَّ لَا يَصُومُ فِيهِ؟ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ عَبِيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَابْنُ مِجْلَزٍ: أَنَّهُ إِنْ سَافَرَ فِيهِ صَامَ، وَلَمْ يُجِيزُوا لَهُ الْفِطْرَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]).
هذه المسألة شبيهة بالمسألة التي قد مرَّت سابقًا؛ ولها حالات:
الحالة الأولى: أن يدرك المسافرَ الصومُ وهو في السفر؛ فهذا يفطر بلا خلافٍ.
الحالة الثانية: أن يُسافر في رمضان ليلًا؛ فهذا يفطر اليوم الذي يلي هذه الليلة وما بعده، وهذه الحالة هي التي فيها الخلاف.
يعني: من أنشأ سفرًا في رمضان؛ فهل له أن يفطر أو لا؟
جماهير العلماء؛ ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
: يرون أنَّه يفطر.
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (2/ 304) حيث قال: " (قوله: وللمسافر وصومه أحب إن لم يضره)؛ أي: جاز للمسافر الفطر؛ لأنَّ السفر لا يعرى عن المشقة. . . وأشار إلى أنَّ إنشاء السفر في شهر رمضان جائز لإطلاق النص".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 443) حيث قال: " ص (وفطر بسفر قصر) ش؛ أي: وجاز فطر بسفر قصر أي في السفر الذي تقصر فيه الصلاة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (3/ 430) حيث قال: "و (للمسافر =
وعبيدة السلماني، وسويد بن غفلة، وأبو مجلز، قالوا
(1)
: لا يفطر.
والخلاف يدور حول مدلول قول اللَّه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. هل المقصود به من شهد جميع الشَّهر حضرًا؟ أم من شهد بعضه؟
يقول الجمهور
(2)
: إنَّ غير المسافر إذا شهد الشهر صامه، وإن شهد بعضه صام البعض الذي شهده، فإذا سافر؛ أفطر في تلك الأيام، وله أن يصوم أيضًا.
وعلى قول الذين خالفوا الجمهور: يلزمه الصيام وإن سافر؛ حيث قالوا: لا نرى فرقًا في الآية؛ فمن شهد بعضه كمن شهده كله.
= سفرًا طويلًا مباحا) للكتاب والسُّنة والإجماع ويأتي هنا جميع ما مر في القصر فحيث جاز جاز الفطر وحيث لا فلا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 311) حيث قال: " (والمسافر سفر قصر يسن له الفطر إذا فارق بيوت قريته) العامرة (كما تقدم في القصر) موضحًا لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ".
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 145) حيث قال: "واختلفوا فيمن أدركه شهر الصوم وهو مقيم، ثم سافر، فقال عبيدة السلماني: ليس له أن يفطر باقي الشهر، محتجًّا بقوله جل ذكره: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية، وبه قال سويد بن غفلة. وقال أبو مجلز: إذا حضر شهر رمضان فلا يسافرن أحد فإن كان لا بدَّ فليصم إذا سافر". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 300).
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 333) حيث قال: "وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} عام في حق الكل وإنما أجيز له التأخير رخصة فإذا أخذ بالعزيمة كان أفضل والدليل عليه حديث أنس رضي الله عنه قال: "كنا نسافر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" رواه البخاري ومسلم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 477) حيث قال: " (وإن نوى حاضر صوم يوم) برمضان (وسافر في أثنائه)؛ أي: اليوم طوعًا أو كرهًا (فله الفطر) لظاهر الآية والأخبار".
* قوله (وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ كُلَّهُ).
هذا الكلام في السَّفر وليس في الحضر؛ لأنَّ الحاضر يلزمه الصيام، ولا يجوز له أن يُفطر إلَّا لعذر؛ كمنْ كان مريضًا لا يستطيع الصيام، أو شيخًا كبيرًا، أو امرأةً حائضًا أو نفساء، أو غير ذلك من الأعذار التي قد تطرأ للمسلم فتلحقه مشقة ظاهرة: فإنَّه يفطر، ثم يقضي.
* قوله: (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ، أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي شَهِدَهُ).
هذا رأي الجمهور
(1)
، يعني من شهد بعض الشهر؛ يلزمه صيامه حضرًا، لا سفرًا.
وليس معنى أنَّ من شهد بعض الشهر في الحضر أنَّه يلزمه الصيام في السفر، فهذا فهمٌ بعيدٌ، إنَّما قول الجمهور هو الفهم القريب من النصِّ.
قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]: أما من شهد بعضه، فيصوم ذلك البعض، ثم يفطر في سفره، وله أن يصوم في ذلك السَّفر.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ بِاتِّفَاقٍ أَنَّ مَنْ شَهِدَهُ كُلَّهُ فَهُوَ يَصُومُهُ كُلَّهُ، كَانَ مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ فَهُوَ يَصُومُ بَعْضَهُ).
لا شكَّ أنَّ من شهد الشهر كاملًا؛ يلزمه أنْ يصوم، ومن شهد بعضه؛ يلزمه أن يصوم ذلك البعض.
(1)
سبق بيانه والتنبيه عليه في الحاشية السابقة.
* قوله: (وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ).
"يؤيد تأويل الجمهور"؛ أي: تفسير - أو مفهوم الجمهور للآية، ما حصل من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي مرت بنا؛ والتي أنشأ فيها سفرًا في رمضان، فإنَّه عليه الصلاة والسلام سافر عام الفتح في رمضان، وورد ما جاء في تلك الأحاديث؛ وفيها:
أنَّه سافر وسافر معه المسلمون، وكان ذلك في رمضان، وأنَّه أفطر وأفطر معه المسلمون
(1)
، وفي حديث آخر:"أنَّه رفع الإناء حتى يراه الناس، ثم شرب وشرب الناس، وأنَّه أنكر على الذين توقفوا في ذلك وامتنعوا"
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسَافِرِ إِذَا أَفْطَرَ فَهُوَ الْقَضَاءُ بِاتّفَاقٍ).
هذه مسألة أُخرى: إذا أفطر المسافر؟ هل يلزمه القضاء؟
الجواب
(3)
: نعم؛ لأنَّ الآية نصٌّ في ذلك، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ
(1)
هو حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد، وهو ماء بين عسفان، وقديد أفطر وأفطروا"، قال الزهري:"وإنما يؤخذ من أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر". أخرجه البخاري (4276)، ومسلم (1113).
(2)
هو حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة". أخرجه مسلم (1114).
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 95) حيث قال في هذه الآية: "أمر المسافر بالصوم في أيام أخَّر مطلقًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 448) حيث قال: "والمعنى أنه يجب قضاء رمضان إذا أفطر فيه وسواء كان الفطر لعذر أو لغير عذر ولا خلاف في وجوب قضائه. . . لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ".
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 184]، وقال تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 185].
* قوله: (وَكَذَلِكَ المَرِيضُ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]).
المقصود أول الآية -فهي محل الشاهد-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر} فالحكم هو؛ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، أي
(1)
: فليصم تلك الأيام التي أفطرها في أيام أُخر؛ لأنَّ المسافر والمريض قد ورد التنصيص عليهما في الآية، وفي الحديث يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّه وضعَ عن المسافر الصوم، وشطرَ الصلاة"
(2)
.
* قوله: (مَا عَدَا الْمَرِيضَ بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ؛ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ).
هذه من المسائل الجزئية التي لم يضع لها المؤلف عنوانًا، وإنَّما أدخلها ضمن المسائل، والمؤلِّف قد وضع مصطلحًا عامًّا في كتابه: أنَّه يتكلم عن أمهات المسائل؛ الأمهات التي نطق بها النص، أو ما هو قريب من النص، أمَّا الفروع فلا يستطرد فيها، ولذلك نبَّه في كتاب القذف أنَّه
= مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (3/ 432) حيث قال: " (وإذا أفطر المسافر والمريض قضيا) للآية".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 283) حيث قال: "قوله: (وإن طهرت حائض أو نفساء، أو قدم المسافر مفطرًا فعليهم القضاء). إجماعًا".
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(3/ 418) حيث قال: "يعني بقوله جل ثناؤه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} من كان منكم مريضًا، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره، {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، يعني: من أيام أُخر غير أيام مرضه أو سفره".
(2)
أخرجه أبو داود (2408)، وغيره. وحسنه الألباني في "صحيح الجامع الصغير وزيادته"(1/ 375).
إن أنسأ
(1)
اللَّه في عمره -يعني أطال- فسيكتب كتابًا في فروع مذهب مالك، ولم نقف له على ذلك، وربما أنَّه كتب أو لم يكتب.
لكنَّ الشاهد هنا أنَّ المؤلف ذكر في هذه المسائل: المغمى، والمجنون، وكان ينبغي عليه أن يذكر حكم النائم كذلك، ولكنه لم يذكره؛ لأنَّه لا يترتب عليه حكمٌ يختلف عن غيره، ولذلك ذكر المجنون، والمغمى عليه، وهو في هذا يُشير إلى حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرويِّ عن عليٍّ، وغيره:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النَّائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصَّغير حتى يبلغ"
(2)
.
فهؤلاء الثلاثة قد رفع عنهم القلم، يعني: أنَّهم لا يُكلَّفون في هذه الأحوال، فلا تكليف على نائم:"من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلِّها متى ذكرها، فإنَّه لا كفارة لها إلَّا ذلك"
(3)
، وكذلك المجنون لا تكليفَ عليه؛ لأنَّه مسلوب العقل، والمغمى عليه لا يدرك ما يحيط به، لكنه يختلف عن المجنون؛ لأنَّ المجنون غالبًا جنونه يطول، أمَّا المغمى عليه فلا يطول، ويتضح ذلك في كتاب الولاية:(أنَّ المُغمى عليه لا تسلب الولاية عنه، وأمَّا المجنون فإنَّه توضع عليه الولاية)، بمعنى: أن يكون هُناك ولي يرعاه كاليتيم.
وأمَّا بالنسبة للنائم، فلو قُدِّرَ أنَّه صام -يعني: نوى من الليل، ثم تسحَّر وصام- ثم نام حتى غربت الشمس؛ فهل صيامه صحيح؟
الجواب: نعم، بلا خلافٍ بين العلماء
(4)
؛ لأنَّ هذا نائمٌ.
(1)
يقال: نسأ اللَّه في أجله وأنسأ اللَّه أجلك؛ أي: أَخَّره وأبقاه. "تاج العروس"(1/ 455).
(2)
أخرجه أبو داود (4402)، وغيره. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2/ 4).
(3)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) واللفظ له.
(4)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار" لابن عابدين (2/ 377) "حيث قال: (قوله: فلا تصح قبل الغروب) فلو نوى قبل أن تغيب الشمس أن يكون صائمًا غدًا ثم نام أو أغمي عليه أو غفل حتى زالت الشمس من الغد لم يجز، وإن نوى بعد غروب =
أما الإنسان الذي يتعمد النوم، كما يفعله بعض من يصومون في شهر رمضان، ومن يتساهلون في هذا الأمر، فإذا قربت صلاة الفجر نام عنها، وربَّما أتبعها بصلاة الظهر والعصر، فهنا ارتكب ذنبًا آخر، وهذا النوم وإن لم يحصل استيقاظ، بل شمل جميع النهار أو بعضه، فيحتبر صيامه صحيحًا بلا خلاف.
والمغمى عليه لا يخلو من حالين:
الأُولى: إمَّا أن يمتد به إغماؤه طيلة النهار؛ يعني اليوم كاملًا.
والأُخرى: أن يفيق في بعض أجزائه.
فإنْ أفاق في جُزءٍ من النهار؛ فالصحيح أنَّ صيامه صحيح، وهذا هو قول جمهور العلماء.
وإن لم يفق في جزء منه؛ فقد صحح أبو حنيفة صيامه
(1)
، وخالفه الجمهور
(2)
.
- الشمس جاز خانية. . . (قوله: إلى الضحوة الكُبرى) المراد بها نصف النهار الشرعي، والنهار الشرعي من استطارة الضوء في أفق المشرق إلى غروب الشمس".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 342) حيث قال: "قال ابن القاسم: من أغمي عليه قبل الفجر فلم يفق إلا بعده لم يجزه صومه، بخلاف النائم لو نام قبل الفجر فانتبه قبل الغروب أجزأه صومه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 314) حيث قال: "قال: (ولا يضر النوم المستغرق علي الصحيح)؛ لبقاء أهلية الخطاب، فهو أقرب إلى رتبة الغفلة. والثاني: يضر كالإغماء إذا استغرق، وبه قال ابن سريج وأبو الطيب ابن سلمة والإصطخري".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 314) حيث قال: " (وإن نام) من نوى الصوم (جميع النهار صح صومه)؛ لأنه معتاد ولا يزيل الإحساس بالكلية".
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 340): " (ويقضي بإغماء سوى يوم حدث في ليلته)؛ أي: يقضي إذا فاته الصوم بسبب الإغماء لأنه نوع مرض لا يزيل الحجا ويضعف القوى، فلا ينافي في الوجوب ولا الأداء ولا يقضي يومًا حدث في ليلته الإغماء لوجود الصوم فيه، إذ الظاهر أنه ينوي من الليل".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 342) حيث قال: "قال ابن =
وقد اختلف أبو حنيفة مع الجمهور؛ لأنَّ أبا حنيفة يقول
(1)
: إنَّ الصيام يُبنى على النية من الليل، وهذا قد بيَّت النية، إذًا صيامه صحيح، فهو قد أغمي عليه ولم يفطر، فصيامه صحيح.
ويقول الجمهور: لا، فالنية يلازمها الإمساك، وهذا في غير وعيه ولم يُفق، فصيامه غير صحيح، وقد نصَّ على ذلك الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
لكن ماذا يترتب عليه بعد ذلك؟ هل يقضي صومه عند من يقول بأنَّ المُغمى عليه لا يصح صيامه في حالة عدم صحوته؟ لا شكَّ أنَّه يلزمه القضاء.
وأمَّا المجنون: فلو نوى إنسانٌ الصيام ثم جُنَّ، فما حكم صيامه؟
= القاسم في المدونة: من أغمي عليه ليلًا في رمضان وقد نوى صوم ذلك اليوم فلم يفق إلا عند المساء وبعدما أضحى لم يجزه صوء ذلك اليوم ويقضيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 514) حيث قال: "ولهذا لا يجزئه الصوم إذا أغمي عليه جميع النهار".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 292) حيث قال: "قوله: (ومن نوى الصوم قبل الفجر. ثم جن، أو أغمي عليه جميع النهار: لم يصح صومه). هذا المذهب، وعليه الأصحاب".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 83) حيث قال: "وكذا العقل، والإفاقة ليسا من شرائط صحة الأداء حتى لو نوى الصوم من الليل ثم جن في النهار أو أغمي عليه يصح صومه في ذلك اليوم ولا يصح صومه في اليوم الثاني، لا لعدم أهلية الأداء بل لعدم النية لأن النية من المجنون، والمغمى عليه لا تتصور".
(2)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 267) حيث قال: "وقال أبو حنيفة والمزني يصح صومه كما لو نام في كل النهار، وهذا غلط لأن النية قد انفردت عن الإمساك فلم يجز كما لو انفرد الإمساك". [لم أجده في المعتمد].
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 479) حيث قال: " (ولا يصح) صوم (ممن جن) جميع النهار (أو أغمي عليه جميع النهار) لأن الصوم: الإمساك، مع النية لحديث "يقول اللَّه تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي" فأضف الترك إليه، وهو لا يضاف إلى المجنون والمغمى عليه".
معلوم أنَّ المجنون لا تكليفَ عليه، وأنَّه قد رفع عنه القلم؛ فلو قدر أنَّ هذا المجنون صحا بعد ذلك، فهل يقضي ذلك اليوم أم لا؟ وهل هناك فرق بين أن يرتفع جنونه في هذا اليوم ثم يعود أو لا؟
لا شكَّ أنَّ الرَّأي الصحيح أنَّه لا يلزمه القضاء
(1)
؛ لأنَّ المجنون غير مكلفٍ، ولأنَّ جنونه يطول في الغالب، بخلاف المغمى عليه: فإنَّ الإغماء وإن امتدَّ فإنَّ فترته مؤقتةٌ.
أمَّا الإغماء الذي يعرف الآن بموت الدماغ؛ فتختلف حالته إذا امتد بالإنسان، لكنَّ كلامنا عن الإغماء المعروف الذي قد يعتري بعض الناس، ثم يزول في فترة، فهذا الذي أغمي عليه إن صحا في نهاره، فصيامه صحيح، وهذا يعدُّ شبه اتفاق بين الفقهاء، وإن لم يستيقظ -بمعنى لم يفق في جزءٍ من نهاره- فالجمهور على أنَّ صيامه لم يصح.
والمجنون لا يصح صيامه، وإذا زال جنونه بعد ذلك فلا يطالب بالقضاء على الرأي الصحيح، وعند المالكية
(2)
في رواية: يطالب، وقد أشار المؤلف إلى ذلك.
(1)
اختلف العلماء في قضاء المجنون. أما الأحناف والمالكية فقالوا بوجوب القضاء:
مذهب الأحناف، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 339) حيث قال: "بخلاف المجنون إذا أفاق في بعض النهار حيث يجب عليه أن يصوم ذلك اليوم ويجب عليه قضاؤه إن لم يصم".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 342) حيث قال: "وإن جن ولو سنين كثيرة أو أغمي يومًا أو جلّه أو أقلّه ولم يسلم أوله فالقضاء".
وقالت الشافعية والحنابلة: لا يلزمه القضاء.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 170) حيث قال: " (و) دون (الصبا والجنون) فلا يجب قضاء ما فات بهما لارتفاع القلم عمن تلبس بهما".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 293) حيث قال: "والصحيح من المذهب: أن المجنون لا يلزمه القضاء. سواء فات الشهر كله بالجنون أو بعضه، وعليه الأصحاب".
(2)
سبق بيان المسألة.
وعمدة هذه الأقوال حديث: "رفع القلم عن ثلاثة"، وقد مرَّ ذكرهم.
* قوله: (وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَجْنُون، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ).
وجوبه في المُغْمى عليه ما لم يُفق، أمَّا إن أفاق فالجمهور يرون صِحَّة صيامه.
والمؤلِّف قد أجمل هنا، أمَّا إذا لم يُفق فإنَّ الحنفية يصحِّحون صيامه؛ لأنَّهم يأخذون بأحد شطري الصيام، الذي هو النية
(1)
، والجمهور يقولون: الصيام نية وإمساك
(2)
، ويستدلون بحديث:"كلُّ عمل ابن آدم له إلَّا الصوم، فإنَّه لي، وأنا أجزي به"
(3)
، ثم جاء:"أنَّه ترك طعامه وشرابه من أجلي"
(4)
.
وأمَّا عن مذهب مالك في وجوب القضاء فإنَّ ابن عبد البر ناقش هذا القول وضعَّفه، والتمس له تأويلًا
(5)
، ولا شكَّ أنَّ مذهب الجمهور أولى؛ لأنَّ المجنون كيف يطالَب بالقضاء وهو لا يعي؟ وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ القلم قد رفع عنه، ورفع القلم ممتد، فكيف يطالب بالقضاء بعد مدَّة؟ الصحيح أنه ليس مطالبًا.
* قوله: (وَفِيهِ ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ")
(6)
.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 366) حيث قال: " (ومن أُغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء) لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية إذ الظاهر وجودها منه".
(2)
سبق بيان هذه المسألة.
(3)
أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
(4)
أخرجه مسلم (1151).
(5)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 291).
(6)
أخرجه أبو داود (4400)، وغيره. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2/ 4).
لقد أحسن المؤلف بقوله: (وفيه ضعف) فلا شكَّ أنَّ هذه الرواية في المذهب ضعيفة
(1)
.
* قوله: (رفع القلم عن ثلاثة)، يعني: لا يسجل عليهم الإثم، لكنهم يختلفون، فثمَّ فرق بين إنسان نام عن العبادة متعمدًا وبين إنسان غلبه النوم، فالذي تعمد يأثم، والذي لم يتعمد لا يأثم، لكن لو نام عن صلاة لم يجز له أن يتركها حتى يفرغ.
جاء في الحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فإنه لا كفارة لها إلا ذلك"
(2)
، وجاء في الحديث الآخر:"ليس التفريط في النوم، إنما التفريط أن تؤخِّر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"
(3)
، أو "حتى يخرج وقتها"
(4)
، يعني: ليس التفريط في النوم، لأنَّ له سلطانًا، لا تستطيع دفعه، لكن التفريط أن تتساهل في الصلاة في وقتها الواسع شيئًا فشيئًا - كما يحصل من بعض المسلمين هداهم اللَّه، ثم يدخل وقت الأُخرى، والوقت من شروط صحة الصلاة، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أي: مفروضًا في الأوقات.
* قوله: (وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْإِغْمَاءِ
(1)
الثابت عن مالك رحمه الله القضاء، وفي رواية أُخرى في المذهب ليس عليه قضاء.
وينظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 422) حيث قال: "من جن في رمضان فعليه قضاؤه، سواء طرأ عليه الجنون بعد البلوغ، أو بلغ مجنونًا. وسواء كانت السنون كثيرة، أو قليلة. وهذا مذهب المدونة. وقيل: إن قَلَّت السنون فعليه القضاء، وذلك كالخمسة الأعوام، وإن كثرت فلا قضاء. ذكره اللخمي عن ابن حبيب عن مالك". وانظر: "المدونة" لمالك (1/ 277).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (681).
(4)
لم نجد هذا اللفظ فيما بين أيدينا من مصادر.
وَالْجُنُونِ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهُ مُفْسِدٌ
(1)
. وَقَوْمٌ قَالُوا: لَيْسَ بِمُفْسِدٍ)
(2)
.
ما كان ينبغي للمؤلف أن يشرِّك بين الإغماء والجنون؛ لأنَّ بينهما اختلافًا، فالمغمى عليه يوافق المجنون في الحالة التي لا يلزمه القضاء، وذلك إذا صحا
(3)
، أما إذا لم يصحُ فإنه يطالب بالقضاء
(4)
.
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 366) حيث قال: " (قوله: ومن جن رمضان كله). . . لأن الصوم لا يصح فيه كالليل. . . (قوله: فيكون عذرًا في التأخير لا في الإسقاط). . . فإن الجنون مزيل له ولا يسقط به من حيث هو مزيل له بل من حيث هو ملزم للحرج".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 342) حيث قال: "قال ابن القاسم في المدونة: من أغمي عليه ليلًا في رمضان وقد نوى صوم ذلك اليوم فلم يفق إلا عند المساء وبعدما أضحى لم يجزه صوم ذلك اليوم ويقضيه، وأما مسألة من أغمي عليه جل اليوم ففي المدونة قال مالك: من أغمي عليه قبل طلوع الشمس فأفاق عند الغروب لم يجزه صومه لأنه أغمي عليه أكثر النهار".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 94) حيث قال: "بخلاف ما إذا جن إنسان بعد طلوع الفجر، أو أغمي عليه. وقد كان نوى من الليل إن صومه ذلك اليوم جائز لما ذكرنا أن الجنون، والإغماء لا ينافيان أهلية الأداء وإنما ينافيان النية بخلاف الحيض، والنفاس واللَّه أعلم".
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 342) حيث قال: "من المدونة: من أغمي عليه بعد أن أصبح ونيته الصوم فأفاق نصف النهار وأغمي عليه وقد مضى أكثر النهار أجزأه صوم ذلك اليوم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 476) حيث قال: " (قوله كما في الصوم)؛ أي: إذا أغمي عليه بعض النهار نهاية ومغني أي أو جن فيه حيث يبطل الصوم في الثاني دون الأول".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 293) حيث قال: "قوله: (وإن أفاق جزءًا منه: صح صومه). إذا أفاق المغمى عليه جزءًا من النهار: صح صومه بلا نزاع".
(4)
مذهب الأحناف، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 366) حيث قال: " (ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه) لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجا فيصير عذرًا في التأخير لا في الإسقاط". =
مسألة:
إنسان أغمي عليه هل يُلزم بقضاء الصلاة أو لا
(1)
؟ بعض العلماء ألزمه مطلقًا، وبعضهم فرق بين أن يطول أو لا يطول، وبعضهم أسقط عنه ذلك. ووردت قصة عن عمَّار أنه أغمي عليه ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك سأل، فأُخبِر أنه لم يصلِّ، فدعا بوَضوء فتوضأ وصلَّى
(2)
.
* قوله: (وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَ الْفَجْرِ)
(3)
.
= مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 130) حيث قال: " (أو أغمي) عليه (يوما) من فجره لغروبه (أو جله). . . أي: أكثر اليوم ولو سلم أوله (أو أقله)؛ أي: نصف اليوم فأقل منه (و) الحال أنه (لم يسلم) بفتح فسكون من الإغماء (أوله)؛ أي: مع طلوع فجر اليوم بأن كان حينئذ مغمى عليه (فالقضاء) واجب عليه".
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 9) حيث قال: " (ومن أغمي عليه خمس صلوات أو دونها قضى، وإن كان أكثر من ذلك لم يقض) وهذا استحسان والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الإغماء وقت صلاة كاملا لتحقق العجز فأشبه الجنون".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (1/ 469) حيث قال: " (الثالث) العقل فلا تجب على مجنون ولا مغمى عليه. إلا إن أفاق فى بقية من الوقت وإن خرج الوقت قبل إفاقتهما فلا قضاء عليهما".
(2)
لم أجده بهذا اللفظ، والذي أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 571) من طريق سفيان "أن عمار بن ياسر أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق نصف الليل فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء". وضعفه ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(1/ 210).
(3)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 295) حيث قال: "مسألة: قال: "ولو نوى صومَ يومٍ فأغميَ عليهِ فيهِ ثم أفاقَ قبلَ الليلِ أوْ بعدهُ، ولمْ يطعمْ؛ أجزأهُ إذا دخلَ فيه بعدَ الفجرِ وهوَ يعقلُ". هذه المسألة نصت في كتاب الصوم والصحيح أن المسألة على قول واحد أنه متى كان في بعض منامه مفيقًا حتى ينظم فعل الصوم إلى النية جاز صومه، وإن لم يكن مفيقًا في جُزء من النهار لا يجوز. واعلم أن الشافعي قيد الإفاقة المشروطة بأول النهار". [لم أجده في المعتمد].
هذا التعليل مذهب الشافعي، ومنهجنا: أننا لا نتتبع الفروع والجزئيات في المذاهب.
* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَضَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(1)
، وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ ضَعْفٌ).
هذا مما يذكر في التشتيت في مثل هذه العبادات، وإلا فدين اللَّه يسر، وقد أحسن المؤلف في قوله:(وهذا فيه ضعف).
* قوله: (فَإِنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ يَرْتَفِعُ بِهَا التَّكْلِيفُ وَبِخَاصَّةٍ الْجُنُونَ).
الإغماء يرتفع به التكليف مؤقتًا، أما الجنون فإنه يستمر ارتفاع التكليف عنه، ولذلك لا يطالب بقضاء العبادات التي مضت في وقت جنونه؛ لأنه ينبغي أن يستقر في أذهاننا أنَّ هذه الشريعة -وكثيرًا ما قررنا ذلك- بُنيت على أُصول؛ منها التيسير، ولذلك الحائض تدرك كل شيء، لكنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، للتيسير.
وأسباب التخفيف في الشريعة حصرها العلماء في أُمور، منها
(2)
: الجهل، وعموم البلوى، والنقص، كالحال في المرأة؛ لأنَّ المرأة تنقص عن الرجل في بعض الأحكام، فلا تطالب بكل ما يطالب به الرجل، فلا تجب
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 342) حيث قال: "وأما مسألة من أغمي عليه أقل اليوم ولم يسلم أوله فقد تقدم نص المدونة: من نوى صوم ذلك اليوم فلم يفق إلا بعدما أضحى لم يجزه صوم ذلك اليوم".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص: 64) حيث قال: "واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة، الأول: السفر، وهو نوعان: منه ما يختص بالطويل، وهو ثلاثة أيام ولياليها. . . والثاني: ما لا يختص به، والمراد به، مطلق الخروج عن المصر. . . الثاني: المرض؛ ورخصه كثيرة. . . الثالث: الإكراه. الرابع: النسيان. الخامس: الجهل. . . السادس: العسر وعموم البلوى. . . السبب السابع: النقص؛ فإنه نوع من المشقة فناسب التخفيف".
عليها صلاة الجماعة، ولا الجهاد، وغير ذلك، وكالمملوك في بعض الأحكام.
وانظروا إلى دقة المؤلف في قوله: (وبخاصة)، فخاصة لا بدَّ أن تسبقها بالباء؛ لأنك تريد أن تبيِّن أمرًا، فهذا من الدقة في الكتب السابقة، فتحسن قراءتها.
وتجد الآن من العبارات التي سادت بين طلاب العلم (وخاصة).
* قوله: (وَإِذَا ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ لَمْ يُوصَفْ بِمُفْطِرٍ وَلَا صَائِمٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الصِّفَةِ الَّتِي تَرْفَعُ التَّكْلِيفَ إِنَّهَا مُبْطِلَة لِلصَّوْمِ إِلَّا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَيِّتِ أَوْ فِيمَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَمَلُ إِنَّهُ قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ وَعَمَلُهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضرِ مَسَائِلُ: مِنْهَا هَلْ يَقْضِيَانِ مَا عَلَيْهِمَا مُتَتَابعًا أَمْ لَا؟).
يعني: لو أفطر الإنسان في سفره في شهر رمضان أيامًا متوالية، فهل يلزمه أن يقضيها متتابعة أو لا؟
جمهور العلماء
(1)
على أنه لا يجب أن يقضيها متتابعة، فله أن يقضيها متتابعة، وهذا أولى، وله أن يفرقها، وهذا جائز.
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 354) حيث قال: " (وقضاء رمضان إن شاء فرقه وإن شاء تابعه) لإطلاق النص، لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 328) حيث قال: "قال مالك: ما ذكر اللَّه من صيام الشهور فمتتابع وأما الأيام فمثل قضاء رمضان وكفارة اليمين وصيام الجزاء والمتعة وصيام ثلاثة أيام في الحج، فالأحب إليَّ أن يتابع ذلك كله فإن فرقه أجزأه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 352) حيث قال: "من فاته شيء من رمضان. . فالمستحب: أن يقضيه متتابعًا، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم، قاله الجرجاني".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 490) حيث قال: "فصل: سن فورًا لمن فاته شيء من رمضان (تتابع قضاء رمضان) نصًّا وفاقًا مسارعة لبراءة ذمته ولا بأس أن يفرق قاله البخاري عن ابن عباس".
وروى الدارقطني -وصحَّح سنده-، والبيهقي وغيرهما عن عائشة أنها قالت: نزلت: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات} [البقرة: 184]، فسقطت (متتابعات)
(1)
، وسيذكره المؤلف وسنبين معنى (سقطت)؛ لأنَّ الآية إذا نزلت لا يمكن أن يزول حكمها إلا بأمر من اللَّه سبحانه وتعالى لأنه قد ينسخ الحكم
(2)
، وتبقى التلاوة كما في العدة، فالعدة كانت في وضع، ثم أصبحت أربعة أشهر وعشرًا. وقد تنسخ التلاوة ويبقى الحكم كما في مسألة الزانيين الثيبين: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
(1)
أخرجه الدارقطني (3/ 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 430). قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح.
(2)
يُنظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 426) حيث قال: "الناسخ والمنسوخ يشتمل على ستة أقسام:
أحدها: ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ أية الوصية في الوالدين والأقربين بآية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . . .
والقسم الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة. . .
والقسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} لأنه نسخ بقوله تعالى: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه} وقال عمر رضي الله عنه: كنا نقرؤها على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولولا أن يُقال: زاد عمر في كتاب اللَّه لأثبتها فيه، والمنسوخ باقي التلاوة مرفوع الحكم والناسخ مرفوع التلاوة ثابت الحكم.
والقسم الرابع: ما نسخ حكمه ورسمة ونسخ رسم الناسخ وبقى حكمه كالمروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل اللَّه عز وجل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس رضعات معلومات فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ما يتلى في القرآن يعني أنه يتلى حكمه دون لفظه وكان المنسوخ مرفوع التلاوة والحكم والناسخ مرفوع التلاوة باقي الحكم. . .
والقسم الخامس: ما نسخ رسمه أو حكمه ولا يعلم الذي نسخه كالمروي. . . كما رواه أنس في أصحاب ببئر معونة وهم القراء الذين قتلوا بئر معونة، قال أنس: كنا نقرأ بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضى علينا. وأرضانا. . .
والقسم السادس: ناسخ صار منسوخًا وليس منهما لفظ متلو كالتوارث بالحلف والنصرة نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة ثم نسخ التوارث بالهجرة وهذا داخل في أقسام النسخ أيضًا من وجه.
ألبتة)
(1)
، وقد ينسخ الحكم والتلاوة، فهل {متتابعات} المنقول عن عائشة من هذا النوع الأخير؟
وقد يرد سؤال: لماذا يقضي ما أفطر من رمضان متتابعًا، وغير رمضان غير متتابع؟
الجواب: لأنَّ شهر رمضان محددٌ مضيق لا يتسع لغيره، تصوم فيه أيامه، ولا يمكن أن تصوم فيه غير رمضان إلا -كما مرَّ- عند أبي حنيفة
(2)
؛ حيث يرى أنَّ المسافر يباح له الفطر، فله أن يصوم في سفره نذرًا أو أيامًا سابقة في هذا الشهر؛ لأنَّ الصيام في هذه الحالة غير واجب في حقه، ففرق بينهما.
•
مسألة:
إن مرَّ به خلال فترة القضاء يوم من الأيام التي رغب في صيامها كيوم عرفة ويوم عاشوراء ويوم الإثنين ويوم الخميس وأيام البيض، فهذه مسألة أُخرى يقدَّم فيها الفرض بلا شك
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (8630)، ومسلم (1691).
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 310) حيث قال: "والحاصل أن إخراج أبي حنيفة المسافر إذا نوى واجبًا آخر بلا اختلاف في الرواية. وله فيه طريقان؛ أحدهما: أن نفس الوجوب وإن كان ثابتًا في حق المسافر لوجود سببه إلا أن الشارع أثبت له الترخيص بترك الصوم تخفيفًا عليه للمشقة، ومعنى الترخيص أن يدع مشروع الوقت بالميل إلى الأخف، فإذا اشتغل بواجب آخر كان مترخصًا لأن إسقاطه من ذمته أهم من إسقاط فرض الوقت".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 108) حيث قال: "ولا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة وهو مذهب عمر وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئًا حكي عن علي أنه قال: يكره فيها لما روي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في العشر". الصحيح قول العامة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مطلقًا من غير فصل ولأنها وقت يستحب فيها الصوم فكان القضاء فيها أولى من القضاء في غيرها".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 417) حيث قال: " (وتطوع قبل نذر أو قضاء) ش: يعني أنه يكره التطوع بالصوم لمن عليه نذر من =
تنبيه: اعلم أنَّ من جامع في نهار رمضان، ومن عليه كفارة قتل، أو ظهار؛ يجب على كل منهم متابعة أيام صيامه في الكفارة
(1)
.
* قوله: (ومنها ماذا عليهما إذا أخَّرا القضاء بغير عذرٍ إلى أن يدخل رمضان آخر).
لا شكَّ أنه لا ينبغي لمسلم يخاف اللَّه سبحانه وتعالى ويتقيه أن يؤخر صيامًا فاته من رمضان إلى أن يدخل عليه رمضان آخر إلا أن يكون معذورًا، بأن يكون مريضًا ونحوه، فهذا معذور، وحالته تختلف.
لكن المسؤول عنه هو من يؤخر القضاء تقصيرًا منه حتى يلحقه رمضان آخر، وربما يموت في هذه الفترة.
* قوله: (ومنها إذا ماتا ولم يقضيا، هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟)
(2)
.
= الصيام، أو عليه قضاء رمضان، وهذا في النذر المضمون".
مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 352) حيث قال: "ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم، قاله الجرجاني".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 351) حيث قال: "فائدة: لو اجتمع ما فرض شرعا ونذر: بدئ بالمفروض شرعًا".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 111) حيث قال: " (ومنها) التتابع في غير موضع الضرورة في صوم كفارة الظهار والإفطار والقتل بلا خلاف؛ لأن التتابع منصوص عليه في هذه الكفارات الثلاثة قال اللَّه تبارك وتعالى في كفارتي القتل والإفطار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، "وقال النبي عليه الصلاة والسلام للأعرابي: صم شهرين متتابعين".
وينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 351) حيث قال: "ولا يوجبون التتابع إلا في الشهرين اللذين يصامان كفارة لقتل الخطأ أو الظهار أو الوطء عامدًا في رمضان".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 357) حيث قال: " (ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينا نصف صاع من بر أو صاعًا من تمر أو شعير) لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 434) حيث قال: =
•
مسألة:
هل العبادة يحملها أحد عن أحد
(1)
؟
عبادة الحج تدخلها النيابة، لكن الصلاة هل تدخلها النيابة؟
جاء في الحديث المتفق عليه: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(2)
، هذا نص صريح، وجاء في الحديث في قصة المرأة التي جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت وعليها صيام نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أرأيتِ لو كان على أمَّكِ دين اكنت قاضيته؟ "، قالت: نعم، قال:"فدين اللَّه أحق بالقضاء"
(3)
، وفي رواية:"فدين اللَّه أحق أن يُقضى"
(4)
.
وفي لفظ آخر: أن رجلًا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّ أمه ماتت وعليها
= " (من فاته شيء من رمضان فمات قبل إمكان القضاء) بأن مات في رمضان. . . (فلا تدارك له)؛ أي: لفائت بفدية ولا قضاء لعدم تقصيره (ولا إثم). . . هذا إن فات بعذر وإلا أثم وتدارك عنه وليه بفدية أو صوم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 334) حيث قال: "قوله (وإن أَخَّره لعذر، فلا شيء عليه، وإن مات). هذا المذهب بلا ريب، نص عليه، وعليه الأصحاب، وذكر في التلخيص رواية: يطعم عنه كالشيخ الكبير، وقال أبو الخطاب في الانتصار: يحتمل أن يجب الصوم عنه، أو التكفير.
تنبيه: ظاهر قوله: (وإن أخَّر لغير عذر فمات قبل رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين) أنه لا يصام عنه، وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب".
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 4) حيث قال: "ولئن كانت عبادة فهي عبادة مالية تجرى فيها النيابة حتى تتأدى بأداء الوكيل،. . . بخلاف العبادات البدنية؛ لأنها لا تجري فيها النيابة".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 493) حيث قال: "ونصه: الأصل أن العبادة البدنية لا يجوز فيها النيابة لكمن لما كان الحج متركبًا من عمل بدني وعمل مالي ورد النص في الحديث الشريف بقبول النيابة فيه".
(2)
أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (11407).
(3)
أخرجه البخاري (7315)، ومسلم (1148) واللفظ له.
(4)
أخرجه أبو داود (3310). وأصله في الصحيحين.
صيام شهر، وسأل رسول اللَّه: أيصوم عنها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو أنَّ على أمك دينًا أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال:"فدين اللَّه أحق بالقضاء"
(1)
. لكنَّ الرواية الأُولى هي لفظ الشيخين.
ومن أجل هذه الأحاديث تنوعت الاراء، فمن العلماء من قال: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، ومنهم من فرق بين صيام النذر وغيره، ومنهم من يأخذ بحديث:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(2)
، فيقول: يصوم الولي عن الميت.
هذه مقدمات، وسيعود المؤلف إلى ما يتعلَّق بالأيام المتتابعات؛ لأنه جاء في أَثَرٍ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيِع قضاء رمضان، هل يصومها متوالية؟ فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للسائل مثلًا:"أرأيت لو أنَّ عليك دينًا فقضيته الدرهم والدرهمين ألا يكون ذلك قضاء؟ فاللَّه أحق أن يعفو ويغفر"
(3)
.
[قَضَاءُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ]
* قوله: (أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ مُتَتَابِعًا عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ
(4)
، وَبَعْضَهُمْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ
(5)
، وَهَؤُلَاءِ
(1)
أخرجه مسلم (1148).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 292). قال الدارقطني في "السنن"(3/ 174): "إسناد حسن إلا أنه مرسل. وقد وصله غير أبي بكر، عن يحيى بن سليم، إلا أنه جعله عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر. ولا يثبت متصلًا".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 158) حيث قال: "حكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي، والشعبي وقال داود: يجب، ولا يشترط". وانظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 146).
(5)
مذهب الأحناف، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 335) حيث قال: "قال رحمه الله (وقضيا ما قدرًا بلا شرط ولاء)؛ أي: قضى المسافر والمريض بقدر ما أدركا من =
مِنْهُمْ مَنْ خَيَّرَ
(1)
، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ التَّتَابُعَ
(2)
، وَالْجَمَاعَةُ عَلَى تَرْكِ إِيجَابِ التَّتَابُعِ).
أما الذين لم يوجبوا ذلك فهم جمهور العلماء.
قوله: (الجماعة) هذا مصطلح يقصد به المؤلف هنا الجمهور، يعني هذا هو رأي الجمهور، وهو أنَّ التتابع في قضاء رمضان مستحب، لا يلزم.
= العدة من غير وجوب الترتيب أما القضاء فقد قدمناه، وأما عدم وجوب الترتيب فلقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} من غير شرط الترتيب".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 328) حيث قال: " (ككل صوم لم يلزم تتابعه) من المدونة قال مالك: ما ذكر اللَّه من صيام الشهور فمتتابع وأما الأيام فمثل قضاء رمضان وكفارة اليمين وصيام الجزاء والمتعة وصيام ثلاثة أيام في الحج، فالأحب إليَّ أن يتابع ذلك كله فإن فرقه أجزأه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 187) حيث قال: "ولا يجب التتابع في قضاء رمضان لكنه يستحب كغيره تعجيلًا لبراءة الذمة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 332) حيث قال: " (ويستحب التتابع فورًا في قضائه)؛ أي: رمضان؛ لأن القضاء يحكي الأداء وفيه خروج من الخلاف وأنجى لبراءة الذمة وظاهره: لا فرق بين أن يكون أفطر بسبب محرم أو لا، (ولا يجبان)؛ أي: التتابع والفور في قضاء رمضان".
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 76) حيث قال: "وأما صوم الدِّين: فما ليس له وقت معين، كصوم قضاء رمضان،. . . بل صاحبها فيه بالخيار إن شاء تابع، وإن شاء فرق".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (3/ 328) حيث قال: " (وتعجيل القضاء ومتابعته) اللخمي: يستحب أن يقضي رمضان متتابعًا عقب صحته أو قدومه لأن المبادرة إلى امتثال الطاعات أولى من التراخي عنها، وإبراء الذمة من الفرائض أولى، وليخرج عن الخلاف لقول من يقول القضاء على الفور ولقول من يقول القضاء متتابعًا".
مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 432) حيث قال: "ويسن تتابع قضاء رمضان ولا يجب فور في قضائه إلا إن ضاق الوقت أو تعدَّى بالفطر".
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى صِفَةِ الْقَضَاءِ، أَصْلُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ).
يعني قياسًا على الحج والصلاة، لكن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؛ لأنه في شهر رمضان لا يمكن إلا أن تؤديه إلّا متتابعًا؛ لأنه ظرف ضيق تؤدى فيه هذه العبادة، أما بعد أن يخرج رمضان فإن الوقت يتسع أمامك. فهذا هو سبب تفريق الجمهور بين هذا وذاك.
* قوله: (أَمَّا ظَاهِرُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِيجَابَ الْعَدَدِ فَقَطْ، لَا إِيجَابَ التَّتَابُعِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ)، فَسَقَطَتْ: مُتَتَابِعَاتٌ
(1)
).
يعني الآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بدون (متتابعات)، لكن عائشة رضي الله عنهما ذكرت أن الآية كانت في الأصل:(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ)، ولو بقيت الآية هكذا لكانت نصًّا في المسألة، ولا اجتهاد مع النص. قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
قوله: "فسقطت (متتابعات) " قد بيَّن البيهقي
(2)
رحمه الله أن المراد بـ (سقطت) يعني: نسخت، وقال ابن حزم
(3)
: يعني سقط حكمها؛ لأن الآية لا يتغير حكمها إلا بما ينزل عن اللَّه سبحانه وتعالى، فهنا بعض الآية قد زال، فزال حكمه.
(1)
أخرجه الدارقطني في السنن (3/ 170). وقال: هذا إسناد صحيح.
(2)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 143) حيث قال: "قولها: سقطت. تريد نسخت، لا يصح له تأويل غير ذلك".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 409) حيث قال: "سقوطها مسقط لحكمها؛ لأنه لا يسقط القرآن بعد نزوله إلا بإسقاط اللَّه تعالى إياه".
إذًا؛ يبقى مذهب جمهور الفقهاء هو الراجح.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانٌ آخَرُ).
الذي يفعل ذلك يمكن أن نقسمه إلى قسمين: مفرط وغير مفرط؛ لأن الإنسان عرضة لأن يصاب بالمرض ونحوه، فإذا حصل للإنسان عذر شرعي فإنه لا يعتبر مفرِّطًا، لكنَّ المتساهل الذي ترك أيامًا من رمضان بعذر أو بغير عذر، ثم يتكاسل في قضائها، ويقول في نفسه: أنتظر حتى يبرد الجو. . . وتمر الأيام والليالي فيفاجأ وقد جاء رمضان آخر.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون اللَّه تعالى أن يمكنهم من إدراك رمضان، فإذا جاء يسألون اللَّه تعالى أن يتقبل منهم أعمالهم، وهذا ما ينبغي لكل مسلم، فكيف يفرط الإنسان في صوم رمضان، أو قضائه؟ فلا شك أنَّ الحكم يختلف بين المفرط وغيره.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ صِيَامِ رَمَضَانَ الدَّاخِلِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 387) حيث قال: "من المدونة قال مالك: من أفطر في رمضان لمرض أو سفر ثم صح أو قدم قبل دخول رمضان الثاني بأيام أقل من شهر فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان المقبل، فعليه عدد هذه الأيام التي فرط فيها أمداد يفرقها إذا أخذ في القضاء أو بعده، وإن تمادى به المرض أو السفر إلى رمضان الثاني فليصم هذا الداخل ثم يقضي الأول ولا إطعام عليه لأنه لم يفرط".
(2)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (3/ 341) حيث قال: " (ومن أخَّر قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر. . لزمه مع القضاء لكل يوم مد)؛ لأن ستة من الصحابة أفتوا بذلك ولا مخالف لهم، وبه قال الإمام الأعظم مالك بن أنس وأحمد".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 333) حيث قال: "قوله (ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر)، نص عليه، وهذا بلا نزاع، فإن فعل فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم".
وَقَالَ قَوْمٌ
(1)
: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ
(2)
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ).
المراد: لو أن إنسانًا أخَّر صوم رمضان مثلًا لهذا العام، وتساهل فيه، فأدركه رمضان آخر، فإنه يصوم رمضان الداخل، ثم يقضي بعد ذلك رمضان الذي فاته وقصر في قضائه.
فإن قيل: نجد أن الإنسان عندما تفوته صلاة الظهر مثلًا، ثم تأتي صلاة العصر يلزمه أن يقدم صلاة الظهر، هذا على الرأي الصحيح عند من يرى وجوب الترتيب بين الفوائت
(3)
، فلماذا لا يكون كذلك في الصيام،
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 354) حيث قال: " (وإن أَخَّره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني) لأنه في وقته (وقضى الأول بعده) لأنه وقت القضاء (ولا فدية عليه) ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 367) حيث قال: "وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصوم رمضان الثاني ثم يقضي الأول ولا فدية عليه سواء قوي على الصيام أم لا. وهو قول الحسن وإبراهيم النخعي".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 186) حيث قال: "قال رحمه الله: (الترتيب بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت مستحق)، وهذا مذهب مالك وأحمد وجماعة من التابعين".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 301) حيث قال: " (ص) ومع ذكر ترتيب حاضرتين شرطا (ش)؛ أي: ووجب مع الذكر ابتداء وفي الأثناء على المعروف ترتيب الحاضرتين كالظهر والعصر أو المغرب والعشاء فيقدم الظهر على العصر والمغرب على العشاء. . . (ص) والفوائت في أنفسها (ش) عطف على حاضرتين فقيد الذكر مسلط عليه أي ووجب مع الذكر ترتيب الفوائت كثرت أو قلت متماثلة أو مختلفة في أنفسها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 381) حيث قال: " (ويسن) (ترتيبه)؛ أي: الفائت فيقضي الصبح قبل الظهر وهكذا للخروج من خلاف من أوجبه، وأطلق الأصحاب ترتيب الفوائت فاقتضى أنه لا فرق بين أن تفوت كلها بعذر أو عمدًا وهو المعتمد".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 146) حيث قال: " (ويجب) على مكلف لا مانع به (قضاء فائتة فأكثر) من الخمس (مرتبًا) نصًّا. . . =
فيصوم في هذا الشهر رمضان الذي مضى، ثم يقضي رمضان الداخل؟
فالجواب: أن الصوم يختلف عن الصلاة، فالصلوات متقاربة، والصيام متباعدة، فهذا تركه فمضى أحد عشر شهرًا، هنا يصوم ذلك الشهر الذي لزمه؛ لأنه عندما يصوم رمضان في هذا العام يكون صومه أداءً، ورمضان الذي فات يعتبر قضاء، فلا يوضع القضاء في مكان الأداء، بل يقدم الأداء، ثم يُقضى ما فات.
لكن هل يلزم أن يضيف إلى ذلك جبر هذا النقص، فيطعم عن كل يوم مسكينًا كفارة لذلك؟ أو يكتفي بالصيام؟
(1)
من العلماء من قال: يكفر مع القضاء، فيطعم عن كل يوم مسكينًا مدًّا من طعام، وبعضهم قال: نصف صاع. وبعض العلماء لا يفرق بين المفرط وغيره، فيقول: يقضيه ولا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والحسن وإبراهيم النخعي.
لكن الجمهور على أن المفرط يقضي مع الكفارة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ تُقَاسُ الْكَفَّارَاتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَمْ لَا؟ فَمَنْ لَمْ يُجِزِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ
(2)
قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ. وَمَنْ أَجَازَ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ
(3)
قَالَ: عَلَيْهِ الكَفَّارَةُ قِيَاسًا
= (ولو كثرت) الفوائت كما لو قَلَّت، فإن ترك ترتيبها بلا عذر لم تصح؛ لأنه شرط كترتيب الركوع والسجود (إلا إذا خشي) إن رتب (فوات) صلاة (حاضرة) بخروج وقتها، فيقدمها؛ لأنها آكد".
(1)
سبق التنبيه عليه.
(2)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (7/ 54) حيث قال: "وقال أبو حنيفة: الخبر المرسل والضعيف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولى من القياس. . . قال: ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات ولا في الحدود ولا في المقدرات".
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (7/ 54) حيث قال: "وقال الشافعي: لا يجوز القياس مع نص قرآن أو خبر صحيح مسند فقط وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم". وانظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (2/ 107).
عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُسْتَهِينٌ بِحُرْمَةِ الصَّوْمِ، أَمَّا هَذَا فَبِتَرْكِ الْقَضَاءِ زَمَانَ الْقَضَاءِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَبِالْأَكْلِ فِي يَوْمٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَكْلُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْقِيَاسُ مُسْتَنِدًا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْقَضَاءِ زَمَانًا مَحْدُودًا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارعِ؛ لِأَنَّ أَزْمِنَةَ الْأَدَاءِ هِيَ مَحْدُودَةُ فِي الشَّرْعِ).
ورد في ذلك أثر
(1)
؛ أنه يجب على من فرَّط في ذلك القضاءُ والإطعامُ، لكن العلماء اختلفوا فيه تصحيحًا وتضعيفًا
(2)
.
واختلفوا أيضًا: هل يطعم مدًّا
(3)
أو نصف صاع
(4)
-نصف الصاع: مدَّان-؟ الأشهر المعروف أنه يطعم مدًّا، يعني: يخرج مدًّا.
(1)
هو أثر أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 180)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 423):"عن عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول في المريض يمرض ولا يصوم رمضان ثم يبرأ ولا يصوم حتى يدركه رمضان آخر: يصوم الذي حضره، ويصوم الآخر، ويطعم لكل ليلة مسكينًا". وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (4/ 422، 424) عن ابن عباس وابن عمر مثله. وانظر: "البدر المنير" لابن الملقن (5/ 733).
(2)
صحح الدارقطني في "السنن"(3/ 180) أثر أبي هريرة، وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 423):"روى هذا الحديث إبراهيم بن نافع الجلاب عن عمر بن موسى بن وجيه عن الحكم عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعًا، وليس بشيء، إبراهيم وعمر متروكان".
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 450) حيث قال: "ص (وإطعام مده عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله عن كل يوم لمسكين) ش: قال في الشامل: فلو فرط في قضاء رمضان لمثله أو حتى دخل عليه رمضان ثالث أو أكثر أطعم مدا مع القضاء أو بعده".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 175) حيث قال: "ومن أخَّر قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد"".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 334) حيث قال: " (فإن أخَّره)، أي: قضاء رمضان (إلى رمضان آخر أو) أَخَّره إلى (رمضانات فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة) ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 366) حيث قال: "الفقهاء في الإطعام في هذا =
* قوله: (وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِذَا اتَّصَلَ مَرَضُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَان آخَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ)
(1)
.
فلو أن إنسانًا فاته رمضان أو بعضه لعذر، وظل العذر متصلًا حتى لحق به رمضان آخر، فعلى هذا القول الذي عبَّر عنه المؤلف بالشذوذ لا قضاء عليه.
وهذا القول نُقل
(2)
عن عبد اللَّه بن عمر وابن عباس وقتادة رضي الله عنهم، ولا شك أن هذا هُجِر، وأصبح الإجماع بعد ذلك على خلافه.
* قوله: (وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ).
والنص الذي يُشير إليه المؤلف هو قول اللَّه سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فإن اللَّه تعالى رتب ذلك على المريض إذا أفطر لعذر المرض فإنه يقضي ذلك متى زال عذر المرض، وكذا المسافر متى عاد من سفره.
= الباب وفي سائر أبواب الصيام وسائر الكفارات على أُصولهم كل على أصله، والإطعام عند الحجازيين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وعند العراقيين نصف صاع".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخفيب الشربيني (2/ 175) حيث قال: "ومن أخر قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد"".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 334) حيث قال: " (فإن أخَّره)، أي: قضاء رمضان (إلى رمضان آخر أو) أخَّره إلى (رمضانات فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة) ".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 334) حيث قال: " (وإن أخَّره)؛ أي: قضاء رمضان حتى أدركه آخر أو أكثر (لعذر) نحو مرض أو سفر (فلا كفارة) لعدم الدليل على وجوبها إذن".
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 148) حيث قال: "واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح بين الشهر الذي أفطر، وشهد الصوم من العام المقبل، فقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة: يصوم الشهر الذي أدركه، ويطعم عما مضى، ولا قضاء عليه". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 367).
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ. . .).
هذه مسألة شبيهة بالسابقة، لكن الأُولى كانت في الحي وهذه في الميت.
وفيه تفصيل: فإن كان هذا الذي مات وعليه صيام فرض، فإن كان معذورًا فلا شيء عليه، فلا يصوم عنه وليه ولا يطعم عنه. أما إن كان مفرطًا فهو الذي فيه الخلاف.
فهناك من يرى أن وليه يصوم عنه مطلقًا، سواء كان صيامَ رمضانَ أو صيامَ نذر، وهذا قول طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة من التابعين
(1)
، وقال به أبو ثور
(2)
من الشافعية -وإن كان صاحب رأي مستقل-، وداود الظاهري
(3)
.
* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ
(4)
، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَصُومُ عَنْهُ وَلَيُّهُ
(5)
، وَالَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ قَالُوا: يُطْعِمُ عَنْهُ وَلَيُّهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 343)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 26).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 341).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 343).
(4)
مذهب الأحناف، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 335) حيث قال: "ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي. . . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد ولكن يطعم عنه".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (2/ 543) حيث قال: "وصرح المازري في شرح التلقين في أول كتاب الوكالة لما أن تكلم على الأشياء التي لا تجوز فيها الوكالة أن الصوم لا يقبل النيابة لا عن الحي ولا عن الميت ولم يذكر خلافًا ونصه: وأما الصوم فلأنه لا تصح النيابة فيه مع الحياة وأما مع الموت فعندنا أنه لا يصوم أحد عن أحد حيًّا كان أو ميتًا".
(5)
سبق التنبيه عليه.
(6)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (3/ 335) حيث قال: "وإن مات بعد التمكن. . لم يصم عنه وليه في الجديد، بل يخرج من تركته لكل يوم مد طعام".
وهذا في مذهب الشافعية وغيرهم، يفرقون أيضًا بين أن يكون فاته الصيام وأدركه الموت معذورًا، وبين أن يكون غيرَ معذور. فإن كان معذورًا فلا كفارة عليه
(1)
. أما إن كان مفرطًا فعليه الكفارة عند هؤلاء
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِيَامَ وَلَا إِطْعَامَ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ)
(3)
.
قول مالك: ليس عليه صيام ولا إطعام، يعني وليه؛ لأنه مات ولا يستطيع أن يصوم، فلا يصوم عنه وليه، ولا يطعم عنه، وهذا القول الذي ذكره المؤلف فيمن كان معذورًا حتى مات.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصُومُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ).
مذهب الحنفية فيه تفصيل كثير
(4)
، لكن ملخصه ما ذكره المؤلف.
* قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ النَّذْرِ وَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، فَقَالُوا: يَصُومُ عَنْهُ وَلَيُّهُ فِي النَّذْرِ، وَلَا يَصُومُ عَنْهُ فِي الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ).
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 143) حيث قال: "من فاته صوم واجب فمات قبل تمكنه من قضائه فلا تدارك ولا إثم إن فات بعذر".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 316) حيث قال: "وإن أَخَّره لعذر فلا كفارة ولا قضاء إن مات".
(2)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (3/ 335) حيث قال: "وإن مات بعد التمكن. . لم يصم عنه وليه في الجديد، بل يخرج من تركته لكل يوم مد طعام".
(3)
يُنظر: "المدونة" لمالك (1/ 280) حيث قال سحنون: "قلت: أرأيت إن فرط رجل في قضاء رمضان ثم مات ولم يوصِ به؟ فقال: قال مالك: ذلك إلى أهله إن شاؤوا أطعموا عنه وإن شاؤوا تركوا، ولا يجبرون على ذلك ولا يقضى به عليهم". [لم أجده في المعتمد].
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (ص: 149) حيث قال: " (وإن صام أو صلى عنه) الولي (لا) لحديث النسائي: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه وليه". [لم أجد قول أبي حنيفة].
هذا قول ابن عباس
(1)
رضي الله عنهما وهو مذهب الإمام أحمد
(2)
وإسحاق بن راهويه
(3)
.
فالمذاهب أربعة:
الأول: من يرى أنه لا يصوم عنه وليه ولا يطعم عنه.
الثاني: من يرى أنه يطعم عنه.
الثالث: من يرى أنه يصام عنه مطلقًا.
الرابع: من يفرق بين صيام النذر وبين غيره، فقالوا: إن كان عليه صيام نذر صام عنه وليه، وإن كان صيام رمضان، فإنه لا يصام عنه ولكن يطعم عنه.
فإن قيل: لماذا هذا التفريق عند أصحاب هذا المذهب؟
فالجواب: أن النيابة تتفاوت بحسب خفتها، فإذا كانت العبادة خفيفة فإنها تدخلها النيابة، أما إذا كانت غير مشددة فلا تدخلها. فيقولون: إن النذر عبادة مخففة؛ لأنه لم يثبت بأصل الشرع، وإنما الذي أوجبه الإنسان على نفسه، وهو من الشرع بلا شك
(4)
؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه"
(5)
، وأنه أيضًا:"يستخرج به من البخيل"
(6)
.
(1)
يُنظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 311).
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 336) حيث قال: "قوله (وإن مات وعليه صوم، أو حج، أو اعتكاف منذور: فعله عنه وليه) إذا مات وعليه صوم منذور فعله عنه وليه على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 341).
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 335) حيث قال: "ولأن النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها وهو أخف حكمًا من الواجب بأصل الشرع لإيجابه من نفسه".
(5)
أخرجه البخاري (6700).
(6)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639).
لكن صيام رمضان عبادة مثقلة غير مخففة.
وقد لجئوا إلى هذا التعليل للحديثين الذين سيذكرهما المؤلف، وهما متفق عليهما:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(1)
، وهذا نص في موضع الخلاف، و (من) من صيغ العموم؛ سواء قلنا بأنها موصولة أو شرطية، فيعم كل صيام، ولم يخص صيام النذر.
الثاني: الحديث الذي جاء في قصة المرأة التي ذكرت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت وعليها صيام نذر، وسألته: هل تصوم عنها؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أمك دين اكنت قاضيته؟ "، قالت: بلى، قال:"فدين اللَّه أحق بالقضاء"
(2)
، وفي رواية:(فدين اللَّه أحق أن يُقضى)
(3)
.
فجعلوا هذا الحديث مخصصًا لذلك، فقصروا قضاء الولي عن وليه على النذر، ثم أوردوا الفارق بين ما وجب بأصل الشرع وما أوجبه الإنسان على نفسه، ورأوا أن الفارق بينهما الخفة في الثاني والشدة في الأول.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ).
الأصل: أنَّ القياس الصحيح لا يعارض النص الصريح الصحيح، وقد حقق العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
هذا وأثبتوه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
يُنظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 161) حيث قال: "وأقوام يعارضون بين =
فلا نقول بالتعارض هنا، ولكن وردت أحاديث اختلف العلماء في تأويلها وفي حملها، فمنهم من أخذ بعموم حديث:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(1)
، كما ذكرنا عن الذين قالوا بذلك.
ومنهم من قصر ذلك على النذر، ومنهم من قال: إن الصيام من العبادات التي لا تدخلها النيابة كالصلاة، فكما أنه لا يصلي أحد عن أحد، كذلك لا يصوم أحد عن أحد. وقد صح عن عبد اللَّه بن عباس -كما أخرج ذلك النسائي في السنن الكبرى
(2)
- أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد). وهناك من رفعه
(3)
-والمرفوع ضعيف-، وهناك من أوقفه -والموقوف هو الصحيح-.
فالحقيقة أن أولئك لم يستدلوا بالقياس الذي حاول المؤلف أن يجعله حجة لهم، ولكن حجتهم هو هذا الأثر، عن ابن عباس، وورد ذلك عن عبد اللَّه بن عمر
(4)
.
إذًا؛ كلٌّ يحتج بدليل مأثور في هذا المقام.
* قوله: (أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَهُ عَنْهُ وَلَيُّهُ"
(5)
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
هذا حديث متفق عليه في الحقيقة، وليس في مسلم وحده.
= النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون، ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة".
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(3/ 257). وصححه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 1464).
(3)
قال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(1/ 283): "لم أجده مرفوعا".
(4)
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 303).
(5)
سبق تخريجه.
وبعض العلماء
(1)
يحاول أن يضعف الاستدلال بالحديثين، ويقول: إنه قد نقل عن كل من عائشة وابن عباس رضي الله عنهما ما يخالف روايتهما، لكن الذي ورد عنهما مخالف في هذه الحالة، فإن ما هنا رواية ضعيفة، وحتى لو صحت فلا يمكن أن تقدم أو أن تعارض فتوى راوي الحديث حديثًا يرويه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكيف إذا كان هذا الحديث في الصحيحين أو في أحدهما. إذًا؛ لا يلتفت إلى ذلك.
* قوله: (وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسْولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَتَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ")
(2)
.
المؤلف جاء بهذه الرواية التي فيها: (جاء رجل)، لكن الرواية المشهورة في الصحيحين فيها:(جاءت امرأة).
والحديث يعني أن الإنسان إذا كان يهتم بأمور الدنيا ويقضي الديون التي عليه، فالأولى له أيضًا أن يقضي ديون اللَّه سبحانه وتعالى، وربما يظن البعض أن ما يتعلَّق بحقوق الإنسان أمرها سهل، وليس الأمر كذلك، بل مِن أشد الأُمور التي يخلفها الإنسان بعد مماته أن تبقى عليه ديون؛ ولذلك
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 359) حيث قال: "وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، قلنا: الاتفاق على صرف الأول عن ظاهره فإنه لا يصح في الصلاة الدين، وقد أخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو راوي الحديث الأول في سننه الكُبرى أنه قال: "لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد"، وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ، ونسخ الحكم يدل على إخراج المناط عن الاعتبار، ولذا صرحوا بأن من شرط القياس أن لا يكون حكم الأصل منسوخًا لأن التعدية بالجامع، ونسخ الحكم يستلزم إبطال اعتباره، إذ لو كان معتبرًا لاستمر ترتيب الحكم على وفقه".
(2)
أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) واللفظ له.
ورد أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدَّين
(1)
، إلا شهيد البحر
(2)
، فإن اللَّه سبحانه وتعالى يعطي غريمه حتى يرضى
(3)
. إذًا، الدَّين أمره خطير، وشأنه كبير، فلا ينبغي أن يتساهل به، ولا ينبغي للإنسان أن يماطل بمن أحسن إليه وقدم له قرضًا في وقت هو في عسرة، فيكافئه بالمماطلة ويمضي الأيام وربما يقطع صلته عنه ويجافيه ويبتعد عنه حتى لا يطالبه بحقه، فهذا لا ينبغي.
لكنَّ حقوق اللَّه -بلا شك- تقدم على حقوق المخلوقين، وهي تُغفر بالتوبة، فإذا تاب الإنسان وأناب ورجع إلى اللَّه سبحانه وتعالى فإن اللَّه سبحانه وتعالى يعْفر للتائبين، لكن حقوق الإنسان منها ما لا يغفر إلا بأن تطلب الإباحة من صاحبها، فلو أنَّ إنسانًا تكلم في عرض أخيه المسلم فترتب على ذلك ضرر، أو أكل حقًّا من حقوقه؛ فيتطلب هذا أن يذهب إلى أخيه فيطلب منه العفو والصفح والمسامحة.
*قول: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْأُصُولَ تُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَتَوَضَّأُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، كَذَلِكَ لَا يَصُومُ أَحَدٌ؛ قَالَ: لَا صِيَامَ عَلَى الْوَلِيِّ).
كان الأولى أن يورد المؤلف في هذا المقام الأثر السابق آنفًا، بدل أن يجعل الدليل قياسًا، وهو أثر في سنن النسائي الكبرى بأسانيد صحيحة
(1)
أخرجه مسلم (1886).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2778). ولفظه: "شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة اللَّه، وإن اللَّه عز وجل وكَّل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم وبغفر لشهيد البر الذنوب كلها، إلا الدين ولشهيد البحر الذنوب والدين" وهو ضعيف جدًّا ضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1195).
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 240) من حديث أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من داين بدين، وفي نفسه وفاؤه، فمات تجاوز اللَّه عنه، وأرضى كريمه بما شاء، ومن داين بدين، وليس في نفسه وفاؤه فمات، اقتص اللَّه لغريمه منه يوم القيامة". وفيه بشر بن نمير وهو متروك. ينظر: "مختصر تلخيص الذهبي" لابن الملقن (1/ 522).
عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد"
(1)
. وقد جاء مرفوعًا لكنه لم يصح، وصح أيضًا عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
إذًا؛ الأمر ليس أمر قياس كما ذكر المؤلف، فلا يمكن أن نعارض النصوص الصحيحة الصريحة بقياس، لكن ثبتت آثار عن بعض الصحابة فأخذ بها بعض العلماء، وبيَّنا سابقًا أنَّ ما جاء في قول عبد اللَّه بن عباس يختلف عما في روايته.
* قوله: (وَمَنْ أَخَذَ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ قَالَ: بِإِيجَابِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ قَصَرَ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ).
•
مسألة: لماذا يصوم الولي؟
الجواب: أنَّ على الولي حقوقًا، فإن الميت إذا مات هناك حقوق على المسلمين تجاهه، وبخاصة أقرباؤه، وقد تكلمنا عن ذلك تفصيلًا، وبينا الطريق عندما تحدثنا عن أحكام الجنائز، كذلك للميت حقوق على أبنائه، وإن كان ابنًا فله حقوق على أهله وذويه.
إذًا الحقوق قائمة منتشرة بين المسلمين، فناسب أن يصوم عن وليِّه للحق الذي له عليه.
قوله: (ومن لم يأخذ)، أصحاب هذا القول لم يجمعوا بين النصين، وإنما أخذوا بالنص الآخر المتفق عليه، ورأوا أنه مخصصٌ للأول.
قوله: (وَمَنْ قَاسَ رَمَضَانَ عَلَيْهِ قَالَ: يَصُومُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ، وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ فَمَصِيرًا إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الآيَةَ).
(1)
سبق تخريجه.
في هذه الآية أربع قراءات: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} بالياء والتخفيف
(1)
، و {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} بالواو المشددة وفتح الطاء
(2)
، و {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] بالواو المشددة والطاء المشددة
(3)
، وفيه قراءة رابعة
(4)
. والقراءات الثلاثة هي التي تتعلق بموضوعنا: {يُطِيقُونَهُ} ، هذا {ويَطَّوَّقُونَهُ} . نبين العلل الصرفية والإبدال، ثم بعد ذلك نبيِّن الأحكام المتعلقة بها.
القراءة الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، الأصل فيها: يُطْوِقُونَهُ، والعلة هنا صرفية وليست نحوية، فقد قال العلماء: إن أصل {يُطِيقُونَهُ} يُطْوِقُونَهُ، فالواو وقعت مكسورة في الأصل، ثم نقلت الكسرة إلى الطاء قبلها، وحل محلها السكون. والقاعدة الصرفية:(إذا وقعت الواو بعد كسر -وبعضهم يقول: ساكنة بعد كسر- قلبت ياء)
(5)
.
الأحكام المتعلقة بهذه القراءة: معنى قول اللَّه سبحانه وتعالى في القراءة الصحيحة المشهورة: {يُطِيقُونَهُ} على أقوال:
الأول: {يُطِيقُونَهُ} : أي: يقدرون عليه.
وقد ذكر علماء التفسير وأسباب النزول
(6)
: لما نزل صيام رمضان
(1)
هي قراءة أبي جعفر ونافع وابن عامر. يُنظر: "المبسوط في القراءات العشر" لابن مهران (ص: 142).
(2)
هي قراءة ابن عباس، وعائشة -رحمهما اللَّه-، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومجاهد بخلاف، وعكرمة، وأيوب السختياني، وعطاء. يُنظر:"المحتسب" لابن جني (1/ 118).
(3)
هي قراءة عن مجاهد، ورويت عن ابن عباس، وعكرمة على معنى: يتطوقونه. ينظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 118).
(4)
القراءة الرابعة هي: {يُطِيقُونَهُ} قرأ ابن عباس بخلاف، وكذلك مجاهد وعكرمة. وقرأ {يُطِيقُونَهُ} ابن عباس بخلاف. يُنظر:"المحتسب" لابن جني (1/ 118).
(5)
يُنظر: "الخصائص" لابن جني (1/ 178) حيث قال: "انقلبت الواو ياء -إن شئت- لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة".
(6)
يُنظر: "تفسير الطبري"(3/ 419) حيث قال: "عن عمرو بن مرة، قال: حَدثنا =
شقَّ على الناس، فكان أحدهم يفطر فيطعم عن كل يوم مسكينًا، فكانت تلك رخصة لهم لأنهم لحقهم شيء من المشقة، حتى نزل قول اللَّه تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، قالوا: فنسخت بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. هذا قول
(1)
.
الثاني: قال عبد اللَّه بن عباس
(2)
رضي الله عنهما قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]: نزلت في الشيخ الكبير والمرأة العجوز وأمثال هؤلاء، الذين يطيقون الصوم لكنهما يفطران مع قدرتهما على ذلك، قال: فنُسخ ذلك بقول اللَّه سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185]، فكان الصوم واجبًا.
= أصحابنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان. قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام".
(1)
هذا القول رجحه الطبري في "تفسيره"(3/ 434) حيث قال: "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، منسوخٌ بقول اللَّه تعالى ذكره:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
لأن "الهاء" التي في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، من ذكر "الصيام" ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ".
هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا -بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه.
(2)
أخرجه الطبري "في تفسيره"(3/ 425) حيث قال: "عن ابن عباس قال: كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة".
القراءة الثانية: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}
(1)
، أي: يُكَلَّفونه
(2)
. فهذه القراءة فيها قُدرَو على الصيام، لكن يلحق الصائم مشقَّة.
الأحكام المتعلقة بهذه القراءة:
معنى {يُطَوَّقُونَهُ} في هذه القراءة: أي: يكلَّفونه، فهم يطيقون الصيام ولكن تلحقهم مشقة ظاهرة وبيِّنة، كالحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو على ولديهما.
القراءة الثالثة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ} والأصل في قوله تعالى: {يَطَّوَّقُونَهُ} : يتطوقون، فيها إبدال، أسكنت التاء ثم أبدلت طاء، وأدغمت إحدى الطاءين في الأُخرى فصارت:{يَطَّوَّقُونَهُ} ، وهذه القراءة قال العلماء فيها: إنها قراءو غير ثابتة؛ أي: لا يترتب عليها حكم، لكنها قراءة جاءت تفسيرًا، وردها العلماء ولم يعتبروها قراءة، وخَطَّؤوا من عدها قراءة
(3)
.
هذا توجيه القراءات.
(1)
أخرج البخاري في "صحيحه"(4505)"عن عطاء، سمع ابن عباس، يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يطوقونه فلا يطيقونه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: "ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا".
(2)
يُنظر: "تفسير الطبري"(3/ 429) حيث قال: "وقرأ ذلك آخرون: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة". وانظر: "تفسير القرطبي"(2/ 286).
(3)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(2/ 287) حيث قال: "وعن ابن عباس أيضًا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار {يطوقونه} بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافًا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير".
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ فَمَصِيرًا إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الْآيَةَ)
قد بيَّنا الآية غاية بيان وما يتعلَّق بها من أحكام.
* قوله: (وَمَنْ خَيَّرَ فِي ذَلِكَ فَجَمْعًا بَيْنَ الآيَةِ وَالْأَثَرِ، فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْفِطْرُ وَالصَّوْمُ).
صحَّ عن ابن عباس أيضًا بأسانيد صحيحة أنَّ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] غير منسوخة
(1)
، فتأول العلماء ذلك فقالوا
(2)
: يُحتمل أن المراد بالنسخ الذي ذكره بعض العلماء هو: التخصيص؛ أي: أنَّ الآية خُصِّصَتْ، وقد كان علماؤنا السابقون يطلقون النسخ ويعنون به: التخصيص.
[أَحْكَامُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ في الصيام]
* قوله: (وَأَمَّا بَاقِي هَذَا الصِّنْفِ وَهُوَ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ).
بقي مما يتعلَّق بهذا الصنف؛ ثلاثة أنواع:
1 -
الحامل: وهي تختلف عن غيرها من ناحيتين:
المشقة: لأنها تعاني من الحمل، وهذه من الأُمور والحقوق التي ينبغي أن يحفظها الأبناء لأمهاتهم.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(2/ 288) حيث قال: "فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضًا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرًا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، واللَّه أعلم".
والجنين الذي في بطنها: فهي تسعى إلى المحافظة على هذا الجنين. وللجنين عند أمه مكانة عظيمة.
2 -
المُرْضِع: قد تحتاج إلى الفطر، بسبب الرضيع؛ لأنها لو استمرت في الرضاع قد يجف ثديها، فيقع ضرر على الصبي، وهذه الشريعة قد بُنيت على رفع الضرر؛ للقاعدة المشهورة:(لا ضرر ولا ضرار)
(1)
، و (الضرر يُزال)
(2)
.
3 -
والشيخُ الكبير: ويُلحَق به المرأة الكبيرة.
والشريعة كثيرًا ما تُعبِّر بالرجل، وتدخل المرأة أيضًا في الحكم.
* قوله: (فَإِنَّ فِيهِ مَسْأَلَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا مَاذَا عَلَيْهِمَا؟).
المسألة ذات شقَّين؛ لأنَّ الحامل والمرضع إما أن تفطرا:
- خوفًا على أنفسهما فقط، أو خوفًا على أنفسهما وولدهما؛ لأنَّ هذه مرضع، وهذه حامل، هذه تُرضع وهذه في بطنها جنين.
- وإما خوفًا على ولدهما.
والشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
يفرقون بين الأمرين.
* قوله: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ، أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُطْعِمَان وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا).
(1)
أخرجه ابن ماجه (2340) من حديث عبادة بن الصامت، و (2341) من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(3/ 408).
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص: 72) حيث قال: "القاعدة الخامسة: الضرر يزال. أصلها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار". وانظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 41).
(3)
سيأتي الكلام عليه.
(4)
سيأتي الكلام عليه.
القول الأول
(1)
: (يطعمان ولا قضاء عليهما) يقول: يفطران؛ يعني: يجوز لهما الفطر، ويطعمان؛ ولا يجب عليهما القضاء.
* قوله: (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(2)
، وَابْنِ عَبَّاسٍ)
(3)
.
ومروي أيضًا عن سعيد بن جبير
(4)
.
* قوله: (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ فَقَطْ وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(5)
، وَأَبُو ثَوْرٍ)
(6)
.
القول الثاني: يُفطران ويلزمهما القضاء، ولا إطعام عليهما.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 365) حيث قال: "قال إسحاق بن راهويه: والذي أذهب إليه في الحامل والمرضع أن يفطرا ويطعما ولا قضاء عليهما اتباعًا لابن عباس وابن عمر".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 364) حيث قال: "وأما حديث مالك في هذا الباب أنه بلغه أن عبد اللَّه بن عمر: سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال: "تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًّا من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 365) حيث قال: "رواه عن ابن عباس سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة بأسانيد حسان: أنهما تفطران وتطعمان ولا قضاء عليهما. وقال ابن عباس: خمسة لهم الفطر في شهر رمضان: المريض، والمسافر، والحامل، والمرضع، والكبير، فثلاثة عليهم الفدية ولا قضاء عليهم: الحامل والمرضع والكبير".
(4)
يُنظر الهامش السابق.
(5)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (3/ 1505) حيث قال: "قال أصحابنا: إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفًا على أنفسهما أو على أولادهما فعليهما القضاء ولا فدية عليهما".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 365) حيث قال: "روي ذلك -أي: القضاء ولا إطعام عليهما- عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعطاء، والزهري، والضحاك، والأوزاعي، وربيعة، والثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، والليث، والطبري، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد، وهو قول مالك في المرضع، وأحد قولي الشافعي في الحامل".
* قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيُطْعِمَانِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ).
القول الثالث: قال به الشافعي وأحمد، لكنَّ مذهب الإمامين فيه تفصيل وهو على النحو التالي:
الشافعية والحنابلة يفصّلان القول في هذه المسألة؛ فيقسمانها إلى قسمين:
- القسم الأول
(1)
: بالنسبة للحامل والمرضع: أن يُفطرا خوفًا على أنفسهما فقط، أو على أنفسهما وولدهما؛ ففي هذه الحالة ليس عليهما إلا القضاء؛ لأنَّ المسألة متعلقة بأنفسهما، أو بالنفس مع الولد.
- القسم الثاني
(2)
: أن يخافا على ولديهما الضرر، ألا يأخذ القدر الكافي لغذائه؛ ففي هذه الحالة تفطران وتقضيان ويلزمهما الإطعام.
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 174) حيث قال: " (وأما الحامل والمرضع) فيجوز لهما الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا. . .، وسواء أكانت مستأجرة أم لا، ويجب الإفطار إن خافت هلاك الولد، وكذا يجب على المستأجرة. . . . وأما القضاء والفدية (فإن أفطرتا خوفًا) من حصول ضرر بالصوم كالضرر الحاصل للمريض (على نفسهما) والأولى أنفسهما ولو مع الولد (وجب القضاء بلا فدية) كالمريض.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 290) حيث قال: "قوله: (والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا، وقضتا). يعني من غير إطعام، وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به أكثرهم، وذكر بعضهم رواية بالإطعام. قال الزركشي: هو نص أحمد في رواية. الميموني وصالح، وذكره وتأوله القاضي على خوفها على ولدها، وهو بعيد. انتهى".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 174) حيث قال: " (أو) خافتا (على الولد) وحده بأن تخاف الحامل من إسقاطه أو المرضع بأن يقل اللبن فيهلك الولد (لزمتهما) من مالهما مع القضاء (الفدية في الأظهر) وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 290) حيث قال: "قوله: (وإن خافتا على ولديهما، أفطرتا، وقضتا، وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا). إذا خافتا على ولديهما أفطرتا. على الصحيح من المذهب".
* قوله: (وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَامِلَ تَقْضِي وَلَا تُطْعِمُ، وَالْمُرْضِعُ تَقْضِي وَتُطْعِمُ)
(1)
.
هذا تفصيلٌ في مذهب مالكٍ.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ شَبَهِهِمَا).
القياس عند الأصوليين نوعان: قياس عِلّة وقياس شبه:
وقياس الحلة مُسلَّم عدا أهل الظاهر فلا يُعتدُّ بخلافهم؛ لأنَّ قياس العلة
(2)
: (هو إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمِ لعلة تجمع بينهما)؛ فالعلة الموجودة في الأصل متوفر أيضًا في الفرع، وقد تكون أقوى في الفرع.
وقياس الشبه
(3)
: (هو أن تُلحق شبيهًا بشبيهٍ مماثل له)، وهنا الإلحاق
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 261) حيث قال: " (ص) كحامل ومرضع لم يمكنها استئجار، أو غيره خافتا على ولديهما (ش) تشبيه في الجواز والوجوب والمعنى: أن الحامل إذا خافت على ولدها هلاكًا، أو شديد أذى وجب عليها الفطر وإن خافت حدوث علة، أو مرض جاز لها الفطر على المعتمد، وقيل: يجب عليها الفطر حيث خشيت حدوث علة، وكذلك المرضع إن خافت على ولدها هلاكًا، أو شديد أذى وجب عليها الفطر وإن خشيت عليه مرضًا، أو حدوث علة جاز لها الفطر، وهذا بشرط أن لا يقبل الولد غيرها، أو يقبل ولكن لا تجد من تستأجره، أو تجد ولكن لا مال هناك ولا تجد من يرضعه مجانًا، وإلا لوجب عليها الصوم. . . والمشهور أن الحامل لا إطعام عليها بخلاف المرضع".
(2)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (7/ 48) حيث قال: "النوع الأول: قياس العلة وهو: أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علق الحكم عليها في الشرع، ويُسمَّى "قياس المعنى". وينقسم إلى جلي وخفي. فأما الجلي: فما علم من غير معاناة وفكر. والخفي: ما لا يتبين إلا بإعمال فكر".
(3)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (7/ 53) حيث قال: "النوع الثاني قياس الشبه قالا -أي:. الماوردي والروياني-: وهو ما أخذ حكم فرعه من شبه- أصله، وقالا في موضع آخر: هو ما تجاذبه الأُصول فأخذ من كل أصل شبهًا، وسماه الشيخ أبو إسحاق وغيره "قياس الدلالة"، وفسره بأن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه =
ضعيف، وقياس الشبه جاء في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:"يا رسول اللَّه ولد لي غلام أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق"
(1)
فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقنع الرجل عن طريق ضرب المثل بأن ألحق الشبيه بالشبيه.
فقياس الشَّبه حجة عند بعض العلماء، لكنَّ حجيته لا ترقى إلى حُجيّة قياس العلة
(2)
، وقياس العلة -كما هو معلوم- مشارٌ إليه في قول اللَّه سبحانه وتعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2]، والاعتبار إنما هو من العبرة، بأن تُلحق شيئًا بشيء.
إذًا؛ أصل القياس موجودٌ في كتاب اللَّه عز وجل.
= على العلة التي علق الحكم عليها في الشرع. . . وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يستدل بثبوت حكم من أحكام الفروع على ثبوت الفرع، ثم رد إلى أصل. . . والثاني: أن يستدل بحكم يشاكل حكم الفرع ويجري مجراه على حكم الفرع، ثم يقاس على أصل. . . والثالث: أن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه".
(1)
أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500).
(2)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (7/ 298) حيث قال: "لا يصار إليه مع إمكان قياس العلة بالإجماع، كما ذكره القاضي وغيره. وإنما الكلام فيه إذا تعذرت. وقد اختلفوا فيه على مذاهب:
أحدها: أنه حجة، وحكاه القرطبي عن أصحابنا وأصحابهم. وقال شارح العنوان: إنه قول أكثر الفقهاء. وقال في القواطع: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه. . .
المذهب الثاني: أنه ليس بحجة. قال ابن السمعاني: وبه قال أكثر الحنفية، وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم، وصار إليه أبو زيد ومن تبعه، وذهب إليه أيضًا أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي انتهى. وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي والشيرازي والقاضي أبو الطيب، كما نقل في البحر، وأبو بكر الصيرفي والقاضي ابن الباقلاني، لكن هو عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق صالح لأن يرجح به.
* قوله: (بَيْنَ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ، فَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالْمَرِيضِ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَقَطْ)
(1)
.
لأنَّ المريض يقضي.
* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ فَقَطْ
(2)
بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} [البقرة: 184] الآيَةَ).
أي: إنسانٌ كبيرٌ تلحقه مشقة في الصوم فإنه يُطعم.
بدليل قراءة: {يُطِيقُونَهُ} فهذه فيها التقدير الذي ذكرناه، يعني: يقدرون عليه.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 383) حيث قال: " (كحامل) اللخمي: صوم الحامل إن لم يشق واجب، وإن خيف منه حدوث علة عليها، أو على ولدها منع،. . . والذي رجع إليه في المدونة أنها إن أفطرت لشيء من هذه الوجوه التي يكون لها أن تفطر لأجلها كان عليها القضاء دون إطعام لأنها مريضة انتهى. . . (ومرضع لم يمكنها استئجار ولا غيره) اللخمي: المرضع إذا كان الرضاع غير مضر بها ولا بولدها،. . . وإن كان مضرًا بها تخاف على نفسها أو على ولدها والولد لا يقبل غيرها أو يقبل غيرها ولا يوجد من يستأجر أو يوجد وليس هناك مال يستأجر منه لزمها الإفطار. . . قال في المختصر: لا إطعام عليها وهو أحسن قياسًا على المريض والمسافر والحامل والمرضع كلاهما أعذر من المسافر".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" للقرطبي (2/ 320) حيث قال: "ومن أهل العلم من يرى عليها الإطعام دون القضاء. قال بذلك من رأى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. . . الآية - محكمة في المرضع، والحامل، والشيخ. ولها على المشهور من مذهب مالك في الفطر ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيها الفطر والإطعام، وهي إذا قدرت على الصيام ولم يجهدها الإرضاع. وحال يجوز لها فيها الفطر والإطعام، وهي إذا أجهدها الإرضاع ولم تخف على ولدها. . . وحال يجب عليها الفطر والإطعام، وهي إذا خافت على ولدها، إما بأنه لا يقبل غيرها، وإما بأنها لا تقدر على أن تسترضع له بحال".
وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(1/ 448 - 449).
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ جَمَعَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَيْنِ
(1)
فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَبَهًا فَقَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الْمَرِيضِ، وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الَّذِينَ يُجْهِدُهُمُ الصِّيَامُ، وَشَبَهِ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَهُمَا بِالْمُفْطِرِ الصَّحِيحِ لَكِنْ يَضْعُفُ هَذَا، فَإِن الصَّحِيحَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ).
يقصد بالفدية هنا: الإطعام، فبعض العلماء يُسمِّي الإطعام فدية، وبعضهم يطلق على الفدية إطعامًا وهذا معروف، لكنها في الحج تُسمَّى فدية.
* قوله: (وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَلْحَقَ الْحَامِلَ بِالْمَرِيضِ، وَأَبْقَى حُكْمَ الْمُرْضِعِ مَجْمُوعًا مِنْ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، أَوْ شَبَّهَهَا بِالصَّحِيحِ)
(2)
.
ألحق الحامل بالمريض لأنَّ الحامل تحمل في بطنها طفلًا، ويلحقها آلام بسبب الحمل، وتمرُّ بها فترات صعبة قبل أن يأتي وقت المخاض.
* قوله: (وَمَنْ أَفْرَدَ لَهُمَا أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِمَّنْ جَمَعَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْقَضَاءِ أَوْلَى مِمَّنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ).
القراءة غير المتواترة: هي {يطوقونه}
(3)
: أصلها: يتطوقون؛ وقد أنكرها العلماء وقالوا: هذه ليست قراءة، وإنما هي تفسير أوردها ابن
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 383) حيث قال: "قال في المدونة: ومتى أفطرت لشيء من هذه الوجوه التي ذكرناها قضت وأطعمت".
(2)
يُنظر: "المدونة" لمالك (1/ 278) حيث قال لما سئل: ما الفرق بين الحامل والمرضع؟ "فقال: لأن الحامل هي مريضة، المرضع ليست بمريضة".
(3)
سبق التنبيه عليه.
عباس، وهناك من يرى أنها قراءة لكنَّ هذا القول شاذٌّ عند العلماء.
* قوله: (وَأَما الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ اللَّذَان لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الصِّيَامِ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَفْطَرَا؛ فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِطْعَامٌ. وَبِالْأَوَّلِ
(2)
قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ
(5)
إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحَبَّهُ.
وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَى الْإِطْعَامَ عَلَيْهِمَا يَقُولُ: مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنْ حَفَنَ حَفَنَاتٍ كَمَا كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ أَجْزَأَهُ)
(6)
.
(1)
يُنظرة "مراتب الإجماع"، لابن حزم (ص: 40)؛ حيث قال: "وأجمعوا أنَّ من كان شيخًا كبيرًا لا يُطيق الصومَ أثه يُفطر في رمضان ولا إثم عليه".
(2)
وهو مذهب أحمد، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع"، للبهوتي (2/ 309)؛ حيث قال:" (ومن عجز عن الصوم لكِبَر)، وهو الهَرم والهرمة، (أو مرض لا يرجَى برؤه أفطر)؛ أي: له ذلك إجماعًا؛ (لعدم وجوبه)؛ أي: الصوم (عليه)؛ لأنه عاجز عنه فلا يكلَّف به؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. (وأطعم عن كل يوم مسكينًا ما يجزئ في كفارة) مدًّا من بُرٍّ أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أَقِط؛ لقول ابن عباس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] ".
(3)
ينظر: "الأم"، للشافعي (2/ 113)؛ حيث قال:"والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ويقدر على الكفارة يتصدق عن كل يوم بمد حنطة خَبرًا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقياسًا على من لم يُطِقِ الحج أن يحج عنه غيره، وليس عمل غيره عنه عمله نفسه، كما ليس الكفارة كعمله".
(4)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (3/ 100)؛ حيث قال:"وأما الشيخ الكبير والذي لا يطيق الصوم فإنه يفطر ويطعم لكل يوم نصف صاع من حنطة".
(5)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس"، لابن الجلَّاب (1/ 184)؛ حيث قال:"ويستحب للشيخ الكبير العاجز عن الصوم الإطعام".
(6)
قال البخاريُّ تعليقًا في "صحيحه"(6/ 25): "وَأَمَّا الشَّيْخُ الكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَمَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، كُلَّ يَوْم مِسْكِينًا، خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأَفْطَرَ".
الشيخ الكبير، والعجوز، إذا كان يجهدهما الصومُ، ويشق عليهما مشقة شديدة، فلهما أن يُفطرا ويُطعما لكل يوم مسكينًا. وهذا قول أبي حنيفة.
وقال مالك: لا يجب عليه شيء؛ لأنه ترك الصوم لعجزه، فلم تجب فدية، كما لو تركه لمرض اتصل به الموت. وللشافعي قولان كالمذهبين.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِم اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكرْنَا -أَعْنِي: قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]- فَمَنْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَةِ التِي لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَرَدَتْ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ الْعُدُولِ، قَالَ: الشَّيْخُ مِنْهُمْ. وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ بِهَا عَمَلًا جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْمَرِيضِ الَّذِي يَتَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ حَتَّى يَمُوْتَ).
اختلفت أنظارهم بحسب اختلاف حكم العمل بهذه القراءة.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْفِطْرُ -أَعْنِي: أَحْكَامَهُم الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَكْثَرُهَا مَنْطُوقٌ بِهِ، أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الصِّنْفِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ-).
انتهى المؤلف من ذكر الأشخاص الذين يجوز لهم الفطر في الصيام الواجب.
[أَحْكَامُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الصِّنْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ: فَإِنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يُفْطِرُ بجِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ -أَعْنِي: بِشُبْهَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ-
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ السَّهْوِ، أَوْ طَرِيقِ الْعَمْدِ، أَوْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ).
هذا تقسيم منطقيٌّ بديع لأنواع المسائل الفقهية التي سيعرضُها المؤلف في هذا الباب.
* قوله: (أَمَّا مَنْ أَفْطَرَ بجِمَاعٍ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ
(1)
عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"وَمَا أَهْلَكَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: "هَلْ تجِدُ مَا تُعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟ "، قَالَ: لَا. قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ الشَّهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "فَهَلْ تجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لَا. ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: "تَصَدَّقْ بِهَذَا". فَقَالَ: أَعْلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟ فَمَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا! قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ")
(2)
.
ليس بين أهل العلم خلاف في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم يُنزِل، أو دون الفرج فأنزل، أنه يفسد صومه إذا كان عامدًا، وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: هَلِ الإِفْطَارُ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 235)؛ حيث قال:"وأجمع الجميع أن من جامع بعد الفجر في رمضان أنه عاصٍ إذا كان عالمًا بالنهي عن ذلك، وعليه القضاء والكفارة، إلا أن يكون قدم من سفر فوافق زوجته قد طهرت من حيضتها، فاختلفوا فيما يجب عليه".
(2)
أخرجه مسلم (1111).
مُتَعَمَّدًا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا جَامَعَ سَاهِيًا مَاذَا عَلَيْهِ؟
وَمِنْهَا: مَاذَا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُكْرَهَةً؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ مُتَرَتِّبَةٌ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟
وَمِنْهَا: كَمِ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ إِذَا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ مُتَكَرِّرَةٌ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ وَكَانَ مُعْسِرًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ إِذَا أَثْرَى أَمْ لَا؟)
هذا إجمال لما سيذكره المؤلف بعد ذلك تفصيلًا.
* قوله: (وَشَذَّ قَوْمٌ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمُفْطِرِ عَمْدًا بِالْجِمَاعِ إِلَّا الْقَضَاءَ فَقَطْ
(1)
؛ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَزْمَةً فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ
(1)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري"، لابن بطال (4/ 68)؛ حيث قال:"اختلف العلماء فيما يجب على الواطئ عامدًا في نهار من شهر رمضان، فذكر البخاري عن جماعة من التابعين: أن على من أفطر القضاء فقط بغير كفارة. قال المؤلف: فنظرت أقوال التابعين الذين ذكرهم البخاري في صدر هذا الباب في المصنفات، فلم أر قولهم بسقوط الكفارة إلا في المفطر بالأكل لا في المجامع، فيحتمل أن يكون عندهم الآكل والمجامع سواء في سقوط الكفارة، إذ كل ما أفسد الصيام من أكل وشرب أو جماع فاسم فطر يقع عليه، وفاعله مفطر بذلك من صيامه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في ثواب الصائم: "قال اللَّه تعالى: يدع طعامه وشرابه، وشهوته من أجلى". فدخلت في ذلك أعظم الشهوات، وهي شهوة الجماع".
الْإِعْتَاقَ أَوِ الْإِطْعَامَ أَنْ يَصُومَ، وَلَا بُدَّ إِذَا كَانَ صَحِيحًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّهُ يجِبُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ أَنْ لَوْ كَانَ مَرِيضًا).
قال جماعة من التابعين: على مَن أفطر القضاءُ فقط بغير كفارة، لكن الصواب أنهم قالوا ذلك في المفطر بالأكل لا في المُجامِع، وقال صلى الله عليه وسلم في ثواب الصائم:"قال اللَّه تعالى: يدع طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي". فدخلت في ذلك شهوة الجماع.
* قوله: (وَكَذَلِكَ شَذَّ قَوْمٌ أَيْضًا فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْكَفَّارَةُ فَقَطْ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ الْوَاجِبُ بِالْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ يَجُوز لَهُ الْفِطْرُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، فَيَلْحَقُ فِي قَضَاءِ الْمُتَعَمِّدِ الْخِلَافُ الَّذِي لَحِقَ فِي قَضَاءِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا حَتَّى خُرُوجِ وَقْتِهَا، إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ شَاذٌّ، وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فَهُوَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا قَبْلُ).
هذا من إتقان المؤلف في تحرير محلِّ النزاع بين الفقهاء رحمهم الله، وهو وإن كان اعتمد كتاب "الاستذكار"، لابن عبد البر مصدرًا إلا إنَّه أجاد في عرض المسائل بطريقة أكثرَ سهولة.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى وَهِيَ: هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مُتَعَمَّدًا؟ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ
(1)
، وَأَبَا حَنِيفَةَ
(1)
يُنظر: "الرسالة"، للقيرواني (ص: 61)؛ حيث قال: "وإنما الكفارة على من أفطر متعمدًا بأكل أو شرب أو جماع مع القضاء".
وَأَصْحَابَهُ
(1)
، وَالثَّوْرِيَّ وَجَمَاعَةً
(2)
ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ الشَّافَعِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(5)
إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْإِفْطَارِ مِنَ الْجِمَاعِ فَقَطْ).
متى أفطر بشيء من ذلك فعليه القضاء، ليس في ذلك خلاف؛ لأن الصوم كان ثابتًا في الذمة، فلا تبرأ منه إلا بأدائه، ولم يؤده، فبقي على ما كان عليه.
وأمَّا الكفارة: فلا كفارة عند الشافعي، وأحمد. وقال مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هتكًا للصوم، إلا الردة؛ لأنه إفطار في رمضان، أشبه الجماع.
(1)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (3/ 73)، حيث قال:"وكذلك إن أكل أو شرب متعمدًا فعليه القضاء والكفارة عندنا".
(2)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري"، لابن بطال (4/ 70)؛ حيث قال:"واختلفوا فيمن أكل عامدًا في رمضان، فقال مالك وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور، وإسحاق: عليه ما على المجامع من الكفارة مع القضاء، وهو قول عطاء، والحسن، والزهري. . . ".
(3)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 110)؛ حيث قال:"وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي فِطْرٍ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، وَلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: تَجِبُ إنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ كَمَا تَجِبُ بِالْجِمَاعِ".
(4)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 404)، حيث فيه:"من أكل أو شرب أو استعطى أو وصل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان متعمدًا. قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: مَنْ أكلَ أو شربَ في رمضان؟ قال: ليس عليه كفارةٌ. قُلْتُ: كيف لا تجعله مثلَ مَنْ أصابَ أهلَهُ؟ قال: أنا أجعله؟! ليسَ فيهِ حديثٌ، كيف أُوجِبُ عليه بالأكلِ والشُّرب كفارةً، وإنما أوجبَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعِ؟ وإنْ كَانت هذِه كلها معصية فَلَا تشَبه الأكلَ والشُّربَ بالجماعِ. في الجماع يُرجَم ويوجبُ عليه الغسل، ومَا يشبهه شيءٌ من الأكلِ والشُّربِ".
(5)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 313)؛ حيث قال:"وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ فِطْرًا فِي رَمَضَانَ بِمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ، إلَّا مَنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الْمُبَاحِ لَهُ وَطْؤُهُمَا".
وقال أبو حنيفة: إن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع، إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به، فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فُستقَة بقشرها، فلا كفارة عليه.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْجِمَاعِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ شَبَهَهُمَا فِيهِ وَاحِدٌ وَهوَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ جَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ عِقَابًا لِانْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فَإِنَّهَا أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْجِمَاعِ مِنْهَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِقَابَ الْمَقْصُودَ بِهِ الرَّدْعُ، وَالْعِقَابُ الْأَكْبَرُ قَدْ يُوضَعُ لِمَا إِلَيْهِ النَّفْسُ أَمْيَلُ، وَهُوَ لَهَا أَغْلَبُ مِنَ الْحِنَايَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُتَقَارِبَةً؛ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْتِزَامَ النَّاسِ الشَّرَائِعَ، وَأَنْ يَكُونُوا أَخْيَارًا عُدُولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
قَالَ: هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الْمُغَلَّظَةُ خَاصَّةٌ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا إِذَا كانَ مِمَّنْ يَرَى الْقِيَاسَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ أَنَّهُ لَيْسَ يُعَدَّى حُكْمُ الْجِمَاعِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَأَمَّا مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْكَفَّارَةِ
(1)
الْمَذْكُورَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأنَّ قَوْلَ الرَّاوِي فَأَفْطَرَ هُوَ مُجْمَلٌ، وَالْمُجْمَلُ لَيْسَ لَهُ عُمُومٌ فَيُؤْخَذُ بِهِ، لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ كَانَتْ لِمَوْضِعِ الْإِفْطَارِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمَا عَبَّرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَذَكَرَ النَّوْعَ مِنَ الْفِطْرِ الَّذِي أَفْطَرَ بِهِ
(2)
).
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 296).
(2)
يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"، للقاضي عياض (4/ 58)؛ حيث قال: "وقوله في رواية مالك في هذا الحديث: أن رجلًا أفطر في رمضان. به يحتج مالك وأصحابه؛ =
احتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه، فوجبت عليه الكفارة كالمُجامِع. ولنا أنه أفطر بغير جماع، فلم توجب الكفارة، كبَلْعِ الحصاة أو التراب، أو كالردة عند مالك؛ ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الجماع؛ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمسُّ، والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان مُحرمًا، ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته، ووجوب البدنة، ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين، بخلاف غيره.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
(1)
، وَأَبَا حَنِيفَة يَقُولَانِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ
(3)
، وَأَهْلُ الظَّاهِرُ
(4)
: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ).
لو جامع ناسيًا، فمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: أنه كالعامد؛ لأنه معنى حرمه الصوم، فإذا وجد منه مكرهًا أو ناسيًا، لم يفسده؛ كالأكل.
= لعموم قوله: "أفطر" أن المفطر بأكلٍ أو جماعٍ أو شربٍ هذا حكمه، وهو قول جماعة العلماء. قال الإمام: يتعلَّق به من يساوي بين الأكل والجماع [في الكفارة]، ودعوى العموم في مثل هذا ضعيف عند أهل الأصول".
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 109)، حيث قال:"وَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَمْ يُكَفِّرْ".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 277)، حيث فيها:"فيمن أكل في رمضان ناسيًا قلت: أرأيت من أكل أو شرب أو جامع امرأته في رمضان ناسيًا، أعليه القضاء في قول مالك؟ قال: نعم. ولا كفارة عليه".
(3)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 416)، حيث فيه:"قال أبو داود: سمعت أحمد قال: الصائم إذا جامع في رمضان عليه القضاء والكفارة. "مسائل أبي داود" (637) ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 319)، حيث قال:"وَقَالَ قَوْمٌ من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيًا أو عامدًا عليه القضاء والكفارة".
ومالك يوجب القضاء دون الكفارة؛ لأن الكفارة لرفع الإثم، وهو محطوط عن الناسي.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَضَاءِ النَّاسِي مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ. أَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ تَشْبِيهُ نَاسِي الصَّوْمِ بِنَاسِي الصَّلَاةِ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِنَاسِي الصَّلَاةِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ كَوُجُوبِهِ بِالنَّصِّ عَلَى نَاسِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُعَارِضُ بِظَاهِرِهِ لِهَذَا الْقِيَاسِ: فَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"
(1)
. وَهَذَا الْأَثَرُ يَشْهَدُ لَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(2)
).
النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي قال: "وقعت على امرأتي" بالكفارة، ولم يسأله عن العمد، ولو افترق الحال لسأل واستفصل. ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم، ولأن السؤال كالمعاد في الجواب، فكأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من وقع على أهله في رمضان فليعتقْ رقبة".
* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ ظَهَرَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ ذَلِكَ، هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُخْطِئٌ، وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، فَكَيْفَمَا قُلْنَا فَتَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بَيِّنٌ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَذَلِكَ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَلَّا يَلْزَمَ النَّاسِيَ قَضَاءٌ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي الصَّوْمِ، إِذْ لَا دَلِيلَ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ
(1)
أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155).
(2)
أخرج ابن ماجه (2045)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
بِخِلَافِ الْأَمْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ إِيجَابُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى رَفْعِهِ عَنِ النَّاسِي، فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى رَفْعِهِ عَنِ النَّاسِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِل: إِنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَثْنَى نَاسِيَ الصَّوْمِ مِنْ نَاسِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي رُفِعَ عَنْ تَارِكِهَا الْحَرَجُ بِالنَّصِّ هُوَ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ، لَكِنَّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ بِالْقِيَاسِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَاجِبٌ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ).
إن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تَغِب، فعليه القضاء عند أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم. وحُكي عن بعضهم: لا قضاء عليهم.
والصواب: أنه أكل مختارًا ذاكرًا للصوم، فأفطر، كما لو أكل يوم الشك؛ ولأنه جهل بوقت الصيام، فلم يُعذر به، كالجهل بأول رمضان؛ ولأنه يمكن التحرز منه، فأشبه أكل العامد، وفارَق الناسي، فإنه لا يمكن التحرز منه.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُجَامِعِ نَاسِيًا فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ النِّسْيَان فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ بَيِّنٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَإِنَّمَا أَصَارَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَخْذُهُمْ بِمُجْمَلِ الصِّفَةِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْحَدِيثِ -أَعْنِي: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا وَلَا نِسْيَانًا- لَكِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ نِسْيَانًا لَمْ يَحْفَظْ أَصلَهُ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْمُتَعَمِّدِ، وَقَدْ كَانَ يجِبُ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يَأْخُذُوا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَامِدِ إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِيجَابِهَا عَلَى النَّاسِي، أَوْ يَأْخُذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"
(1)
. حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ
(1)
سبق تخريجه.
عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَكِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَصْلَهُ، وَلَيْسَ فِي مُجْمَلِ مَا نُقِلَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حُجَّةٌ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ تَرْكَ التَّفْصِيلِ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنَ الشَّارعِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّارعَ لَمْ يَحْكُمْ قَطُّ إِلَّا عَلَى مُفَصَّلٍ، وَإِنَّمَا الْإِجْمَالُ فِي حَقِّنَا).
لا يفطر الصائم بفعله ناسيًا، فلا شيء مثلًا على من أكل ناسيًا. وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة.
وقال مالك: يفطر؛ لأن ما لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدًا لا يجوز مع سهوه، كالجماع، وترك النية.
والصواب: ما روى أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل أحدُكم أو شربَ ناسيًا، فليتمَّ صومَه، فإنما أطعمه اللَّهُ وسقاه".
ولأنها عبادة ذاتُ تحليل وتحريم، فكان في محظوراتها ما يختلف عمدُه وسهوُه، كالصلاة والحج. وأما النية فليس تركها فعلًا؛ ولأنها شرط، والشروط لا تسقط بالسهو، بخلاف المبطِلات. والجماع حكمُه أغلظُ ويمكن التحرُّزُ عنه.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ -وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا طَاوَعَتْهُ عَلَى الْجِمَاعِ-: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ
(1)
،
(1)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود (1/ 131)؛ حيث قال:"وأما المرأة فيجب عليها إذا كانت مطاوعة؛ لعموم الحديث الثاني. ولأن هذا الفعل يقوم بهما، فيجب عليها ما يجب عليه كالغسل والحد، وإن كانت مكرهة لا كفارة عليها كما في النسيان؛ لاستوائهما في الحكم بالحديث، ولو أكرهت زوجها فجامعها يجب عليهما".
وَمَالِكًا وَأَصْحَابَهُ
(1)
، أَوْجَبُوا عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَدَاوُدُ
(3)
: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا).
يَفسد صومُ المرأة بالجماع؛ لأنه نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرجل والمرأة، كالأكل، وهل يلزمها الكفارة؟ على قولين:
إحداهما: يلزمها. وهو قول مالك، وأبي حنيفة؛ لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجبت عليها الكفارة كالرجل.
والثاني: لا كفارة عليها. قال أبو داود: سئل أحمد عمَّن أتى أهله في رمضان، أعليها كفارة؟ قال: ما سمعنا أن على امرأة كفارة.
وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها، ولأنه حق مال يتعلَّق بالوطء مِن بين جنسه، فكان على الرجل، كالمَهْر.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَثَرِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ
(1)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس"، لابن الجلاب (1/ 178)؛ حيث قال:"وإذا جامع امرأته في رمضان متعمدًا وهي طاوعته له على كل واحد منهما كفارة كاملة، ولا تجزيهما كفارة واحدة".
(2)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(6/ 336)، حيث قال:"إذا أكرهها على الوطء وهما صائمان في الحضر فلهما حالان: (أحدهما): أن يقهرها بربطها أو بغيره ويطأ فلا تفطر هي، ويجب عليه كفارة عنه قطعًا. (والثاني): أن يكرهها حتى تمكنه ففي فطرها قولان سبقا؛ (أصحهما): لا تفطر فيكون كالحال الأول. (والثاني): تفطر وعليهما الكفارة وتكون الكفارة عليه وحده قطعًا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 318)، حيث قال:"وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الصِّيَامُ وَالْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ سَوَاءٌ لِيسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا كَفَارَةٌ وَاحِدَةٌ وَسَوَاءٌ طَاوَعَتْهُ أَوْ أَكْرَهَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَجَابَ السَّائِلَ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ: طَاوَعَتْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ أَكْرَهَهَا. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَلِفًا لَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبْيِينَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ".
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرِ الْمَرْأَةَ فِي الْحَدِيثِ بِكَفَّارَةٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا مِثْلُ الرَّجُلِ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا مُكَلَّفًا).
فظاهر الأثر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُطالب المرأة بالكفارة، والقياسُ يقتضي أن على المرأة كفارة كالرجُل بجامع التكليف.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ: هَلْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟ وَأَعْنِي بِالتَّرْتِيبِ: أَنْ لَا يَنْتَقِلَ الْمُكَلَّفُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُخَيَّرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِالتَّخْيِيرِ: أَنْ يَفْعَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ
(3)
: هِيَ مُرَتَّبَةٌ، فَالْعِتْقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصِّيَامُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَالْإِطْعَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِطْعَامُ أَكْثَرُ مِنَ الْعِتْقِ وَمِنَ الصِّيَامِ).
الكفارة عتق رقبة، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
أي: إنَّ كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظِّهار في الترتيب، يلزمه
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 432)، حيث قال:"كفارة الوطء في رمضان مرتبة بلا تخيير فيبدأ بالعتق، فإن قدر عليه لم يصم، وإن عجز عنه صام شهرين متتابعين، فإن عجز عنه أطعم ستين مسكينًا. وبه قال أكثر الفقهاء".
(2)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (3/ 71)، حيث قال:"ثُمَّ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 312)، حيث قال:"وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ لِلْجِمَاعِ عَامِدًا كَكَفَّارَةِ الْمُظَاهِرِ مَرْتبَةً".
(4)
يُنظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 216)، حيث قال:"وكفارة الفطر في رمضان عند مالك على التخيير".
العتق إن أمكنه، فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام، فإن عجز انتقل إلى إطعام ستين مسكينًا. وهذا قول جمهور العلماء: الأحناف، والشافعي، وأحمد.
وعن مالك: أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام، وبأيِّها كفَّر أجزأه؛ لما روى مالك وابن جريج، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا أفطر في رمضان فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يكفِّرَ بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. رواه مسلم. و (أو) حرف تخيير. ولأنها تجب بالمخالفة، فكانت على التخيير، ككفارة اليمين.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ وَالْأَقْيِسَة، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمُتَقَدِّمِ يُوجِبُ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ إِذْ سَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهَا مُرَتَّبًا. وَظَاهِرُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ، أَوْ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
(1)
). أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، إِذْ (أَوْ) إِنَّمَا يَقْتَضِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ التَّخْيِيرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي الصَّاحِبِ، إِذْ كَانُوا أَقْعَدَ بِمَفْهُومِ الْأَحْوَالِ وَدَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا الْأَقْيِسَةُ الْمُعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ: فَتَشْبيهُهَا تَارَةً بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَارَةً بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، لَكِنَّهَا أَشْبَهُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنْهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَخْذُ التَّرْتِيبِ مِنْ حِكَايَةِ لَفْظِ الرَّاوِي).
وعن مالك رواية أُخرى، أنه قال: الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في نهار رمضان إطعام ستين مسكينًا، أو صيام ذلك اليوم، وليس
(1)
سبق تخريجه.
التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء. وهذا القول ليس بشيء؛ لمخالفته الحديثَ الصحيح، مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه، ولا شيء يستند إليه، وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحق أن تُتَّبَع.
وأما الدليل على وجوب الترتيب فالحديث الصحيح، رواه معمر، ويونس، والأوزاعي، والليث، وموسى بن عقبة، وعبيد اللَّه بن عمر، وعراك بن مالك، وإسماعيل بن أُميَّةَ، ومحمد بن أبي عتيق، وغيرهم، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للواقع على أهله:"هل تجد رقبة تعتقها؟ "، قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ "، قال: لا. وذكر سائر الحديث، وهذا لفظ الترتيب، والأخذ بهذا أولى من رواية مالك؛ لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا، سوى مالك وابن جريج، فيما علمنا، واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه.
ولأن الترتيب زيادة، والأخذ بالزيادة متعين؛ ولأن حديثنا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحديثَهم لفظ الراوي، ويحتمل أنه رواه بـ (أو)؛ لاعتقاده أن معنى اللفظَين سواء؛ ولأنها كفارة فيها صومُ شهرين متتابعين، فكانت على الترتيب، ككفارة الظِّهَار والقتل.
* قوله: (وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ مَالِكٍ الِابْتِدَاءَ بِالْإِطْعَامِ
(1)
فَمُخَالِفٌ لِظَوَاهِرِ الْآثَارِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى الصِّيَامَ قَدْ وَقَعَ بَدَلَهُ الْإِطْعَامُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ مَاتَ
(1)
يُنظر: "تفسير الموطأ"، للقنازعي (1/ 291)، حيث قال:"والذي يَسْتَحِبُّ مَالِكٌ الإطْعَامَ؛ لأن به وَاقع تَكْفِيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الوَاطِئ في رَمَضَانَ".
وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أَنْ يُكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْهُ، وَهَذَا كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ عَلَى الأَثَرِ الَّذِي لَا تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ)
(1)
.
عن مالك رواية، أنه قال: الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في نهار رمضان، إطعام ستين مسكينًا، أو صيام ذلك اليوم، وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء. وهذا مخالف للحديث الصحيح، وليس له أصل يعتمد عليه، وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ -وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِقْدَارِ الْإِطْعَامِ-: فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
، وَالشَّافِعِيَّ
(3)
، وَأَصْحَابَهُمَا قَالُوا: يُطْعِمُ لِكُلِّ
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (2/ 54)، حيث قال:" (فرع) إذا قلنا: إن الكفارة على التخيير فقد روى ابن الماجشون عن مالك أنه قال: الإطعام أفضل وجرى عليه العراقيون. ووجه ذلك: أن الإطعام أعم نفعًا؛ لأنه يحيا به جماعة لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات، وأما العتق فإن فيه إسقاط نفقة وتكليف المعتق نفقته ومؤنته، والمتأخرون من أصحابنا يراعون في ذلك الأوقات والبلاد فإن كانت أوقات شدة ومجاعة فالإطعام عندهم أفضل، وإن كان وقت خصب ورخاء فالعتق أفضل، والذي احتج به ابن الماجشون في تفضيل الإطعام أنه الأمر المعمول به في الحديث. وقد أفتى الفقيه أبو إبراهيم من استفتاه في ذلك من أهل الغنى الواسع بالصيام لما علم من حاله أنه أشق عليه من العتق والإطعام وأنه أردع له عن أنتهاك حرمة الصوم، واللَّه أعلم وأحكم".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 284)، حيث فيها:"قلت: ما حد ما يفطر الصائم من المخالطة في الجماع في قول مالك؟ فقال: مغيب الحشفة يفطره ويفسد حجه ويوجب الغسل ويوجب حده. قلت: وكيف الكفارة في قول مالك؟ فقال: الطعام لا يعرف غير الطعام ولا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام. قلت: وكيف الطعام عند مالك؟ فقال: مدًّا مدًّا لكل مسكين. قلت: فهل يجزئه في قول مالك أن يطعم مدَّين مدَّين لكل مسكين فيطعم ثلاثين مسكينًا؟ فقال: لا يجزئه ولكن يطعم ستين مسكينًا مدًّا مدًّا لكل مسكين".
(3)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 108)، حيث قال:"وأُحب أن يكفِّر متى قدر وأن يصوم مع الكفارة (قال الشافعي): وفي الحديث ما يبين أن الكفارة مدُّ لا مدَّين. (قال الشافعي): وقال بعض الناس: مدين. وهذا خلاف الحديث. واللَّه أعلم".
مِسْكِينٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ صَاعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ. أَمَّا الْقِيَاسُ: فَتَشْبِيهُ هَذِهِ الْفِدْيَةِ بِفِدْيَةِ الْأَذَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْأَثَرُ: فَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْكَفَّارَةِ: أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، لَكِنْ لَيْسَ يَدُلُّ كَوْنُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِلَّا دَلَالَةً ضَعِيفَةً، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ).
إن لم يستطع سيقوم بإطعام ستين مسكينًا:
لكل مسكين مدٌّ من بُرِّ، أو نصف صاع من تمر أو شعير، ليس في ذلك خلاف بين أهل العلم، والواجب فيه إطعام ستين مسكينًا، في قول عامتهم، ولأنه إطعام في كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكان إطعام ستين مسكينًا ككفارة الظِّهَار.
ولكنهم اختلفوا في قدر ما يطعم كل مسكين:
فذهب أحمد: إلى أن لكل مسكين مُدَّ بُرٍّ، وذلك خمسةَ عشرَ صاعًا أو نصف صاع من تمر، أو شعير، فيكون الجميع ثلاثين صاعًا.
وقال أبو حنيفة: من البر لكل مسكين نصف صاع، ومن غيره صاع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن صخر:"فأطعِمْ وَسْقًا من تَمر".
والمُدُّ من البُرِّ يقوم مقام نصف صاع من غيره، بدليل حديثنا، ولأن الإجزاء بمُدِّ منه قول ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وزيد رضي الله عنهم ولا مخالف لهم في الصحابة.
وأما حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه، فقد اختُلف فيه، وحديث أصحاب
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 422)، حيث قال:"قال أبو جعفر: (ويطعم كل مسكين نصف صاع من بُرّ، أو صاعًا من تمر) ".
الشافعي يجوز أن يكون الذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم قاصرًا عن الواجب، فاجتُزِئ به؛ لعجز المكفِّر عما سواه.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ -وَهِيَ تَكَرُّرُ الْكَفَّارَةِ بِتَكَرُّرِ الْإِفْطَارِ-: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ ثُمَّ كَفَّرَ ثمَّ وَطِئَ فِي يَوْمٍ آخَرَ أَنَّ عَلَيْهِ كفَّارَةً أُخْرَى
(1)
. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى وَطِئَ فِي يَوْمٍ ثَانٍ، فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
: عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كفَّارَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(6)
: عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ).
إن جامع، فلم يكفر حتى جامَعَ ثانية، فكفارة واحدة.
وبيانه: أنه إذا جامع ثانيًا قبل التكفير عن الأول، لم يَخْلُ من أن يكون في يوم واحد، أو في يومين؛ فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه،
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 236)، حيث قال:"وأجمعوا أنه إذا أفطر يومًا من رمضان ثم عاد للفطر في يوم ثانٍ أن عليه كفارة أُخرى، واختلفوا فيه إذا عاد للفطر في اليوم الثاني قبل أن يكفر اليوم الأول".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 236)، حيث قال:"وأجمعوا أن من أفطر في يوم عامدًا إنما عليه كفارة واحدة، وإن كرر ذلك الفعل في اليوم الواحد مرارًا".
(3)
يُنظر: "المدونة"(1/ 285)، حيث فيها:"قلت: فما قول مالك فيمن جامع امرأته أيامًا في رمضان؟ فقال: عليه لكل يوم كفارة وعليها مثل ذلك إن كانت طاوعته، وإن كان أكرهها فعليه أن يكفر عنها وعن نفسه وعليها قضاء عدد الأيام التي أفطرتها".
(4)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 108)، حيث قال:"وإن جامع يومًا فكفر، ثم جامع يومًا فكفر، وكذلك إن لم يكفر فلكل يوم كفارة؛ لأن فرض كل يوم غير فرض الماضي".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 318)، حيث قال:"فقال مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد: عليه لكل يوم كفارة، كفر أو لم يكفر".
(6)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 424)، حيث قال:" (ومن أفطر يومًا من شهر رمضان، فلم يكفر حتى أفطر يومًا آخر منه: لم يلزمه إلا كفارة واحدة) ".
بغير خلاف بين أهل العلم، وإن كان في يومين من رمضان، ففيه قولان:
أحدهما: تجزئه كفارة واحدة. وهو مذهب الأحناف؛ لأنها جزاء عن جناية تَكرَّر سببُها قبل استيفائها، فيجب أن تتداخل، كالحد.
والثاني: لا تجزئ واحدة، ويلزمه كفارتان. وهو قول مالك، والشافعي؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل، كرمضانين، وكالحجتين.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الْكَفَّارَاتِ بِالْحُدُودِ، فَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْحُدُودِ قَالَ: كفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا يَلْزَمُ الزَّانِيَ جَلْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ زَنَى أَلْفَ مَرَّةٍ إِذَا لَمْ يُحَدَّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا. وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِالْحُدُودِ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَيَّامِ حُكْمًا مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فِي هَتْكِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْجَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةً. قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْقُرْبَةِ، وَالْحُدُودُ زَجْرٌ مَحْضٌ).
شبَّهوا هذه الكفارات بالحدود فقالوا: كما لا يَلزم الزانيَ بعد تعدُّدِ الزنى إلا جلدٌ واحد فكذلك في الكفارات.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ، وَهِيَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ إِذَا أَيْسَرَ وَكَانَ مُعْسِرًا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ؟ فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالدُّيُونِ، فَيَعُودُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الإِثْرَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ أَحْكَامُ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ مِمَّا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ).
كان مُعسرًا في وقت الوجوب فلا يجب عليه، فإذا أيسر بعد ذلك: هل يجبُ عليه الكفارة؟
* قوله:
[فصل]
(وَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مِمَّا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ أَوْجَبَ فِيهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقَضَاءَ فَقَطْ، مِثْلُ مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَمِنَ الِاسْتِقَاءِ، وَمَنْ بَلَعَ الْحَصَاةَ، وَمِثْلُ الْمُسَافِرِ يُفْطِرُ أَوَّلَ يَوْمٍ يَخْرُجُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
أَوْجَبَ الْقَضاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ سَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ)
(2)
.
هذه هي مسألة: من أفطر في أول يومٍ سافر فيه، أوجب مالكٌ في حقِّه القضاء والكفارة، هذا على كلام المؤلف.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَلَى مَنِ اسْتَقَاءَ: فَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسَائِرُ مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِقَاءَ مُفْطِرٌ لَا يُوجِبُونَ إِلَّا الْقَضَاءَ فَقَط. وَالَّذِي أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الاحْتِجَامِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفَطِّرُ هُوَ عَطَاءٌ وَحْدَهُ).
مَن استقاء فعليه القضاء، ومن ذَرعه القيءُ فلا شيء عليه.
معنى "استقاء": تقيأ مستدعيًا للقيء. و"ذرَعَه": خروج من غير اختيار منه، فمن استقاء فعليه القضاء؛ لأن صومه يفسد به. ومن ذرعه فلا
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 272)، حيث فيها:"قال مالك: الصيام في رمضان في السفر أحب إليَّ لمن قوي عليه".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 234)، حيث قال:"واتفقوا أن من أفطر في سفر أو مرض فعليه قضاء أيام عدد ما أفطر ما لم يأت عليه رمضان آخر".
شيء عليه، وهذا قول عامة أهل العلم. وحُكي عن ابن مسعود، وابنِ عباس رضي الله عنهما: أن القيء لا يفطر. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ لا يُفطرْن الصائمَ: الحجامةُ والقيءُ والاحتلامُ". ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج. ولنا ما روى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ذرعه القيءُ فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء عامدًا فليَقْضِ".
* قوله: (وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ الْمُفْطِرَ بِشَيْءٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ غَيْرِ الْمُفْطِرِ وَمِنَ الْمُفْطِرِ، فَمَنْ غَلَّبَ أَحَدَ الشَّبَهَيْنِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَهَذَانِ الشَّبَهَانِ الْمَوْجُودَانِ فِيهِ هُمَا اللَّذَانِ أَوْجَبَا فِيهِ الْخِلَافَ - أَعْنِي: هَلْ هُوَ مُفْطِرٌ أَوْ غَيْرُ مُفْطِرٍ؟ وَلِكَوْنِ الْإِفْطَارِ شُبْهَةً لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَقَطْ، نَزَعَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا الْفِطْرَ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبَبٌ مُبِيحٌ لِفِطْرٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَالْمَرْأَةِ تُفْطِرُ عَمْدًا ثُمَّ تَحِيضُ بَاقِيَ النَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ يُفْطِرُ عَمْدًا ثُمَّ يَمْرَضُ، وَالحَاضِرُ يُفْطِرُ ثُمَّ يُسَافِرُ.
فَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ -أَعْنِي: أَنَّهُ مُفْطِرٌ فِي يَوْمٍ جَازَ لَهُ الْإِفْطَارُ فِيهِ- لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِم كَفَّارَةً؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ كَشَفَ الْغَيْبُ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمِ جَازَ لَهُ الْإِفْطَارُ فِيهِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ الِاسْتِهَانَةَ بِالشَّرْعِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ حِينَ أَفْطَرَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إِيجَابُ مَالِكٍ الْقَضَاءَ فَقَطْ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي الْفَجْرِ، وَإِيجَابُهُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي الْغُرُوبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِطْرِ عَمْدًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ
(1)
،
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 234): حيث قال: "وأجمعوا أن من جامع في قضاء رمضان أنه لا كفارة عليه، وأنه يقضي يومًا مكانه".
لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ زَمَانِ الْأَدَاءِ -أَعْنِي: رَمَضَانَ- إِلَّا قَتَادَةَ
(1)
فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَة. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ: أَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ الْفَاسِدِ)
(2)
.
ليس في الفطر عمدًا قضاءٌ ولا كفارة؛ لأنَّ إثمَه عظيم شديد.
[سُنَنُ الصَّوْمِ]
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّوْمِ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَتَعْجِيلَ الْفِطَرِ
(3)
؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السَّحُورَ"
(4)
. وَقَالَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"
(5)
. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ")
(6)
.
تعجيل الفطر واستحبابه هو قول أكثر أهل العلم، لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تزال أمتي بخيرٍ ما عجَّلوا الفطْرَ".
ويستحب أن يفطر على رُطَبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 321)، حيث قال:"جمهور العلماء أن المجامع في قضاء رمضان لا كفارة عليه حاشا قتادة وحده وعليه الكفارة، وكذلك جمهور العلماء يقولون: إن المفطر في قضاء رمضان لا يقضيه، وإنما عليه ذلك اليوم الذي كان عليه من رمضان لا غير، إلا ابن وهب ورواية عن بن القاسم فإنهما جعلا عليه يومين قياسًا على الحج".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 321)، حيث قال:"وكذلك جمهور العلماء يقولون: إن المفطر في قضاء رمضان لا يقضيه وإنما عليه ذلك اليوم الذي كان عليه من رمضان لا غير، إلا ابن وهب ورواية عن بن القاسم فإنهما جعلا عليه يومين قياسًا على الحج".
(3)
لم أرَ أحدًا من أهل العلم نَقَلَ في ذلك إجماعًا.
(4)
أخرجه أحمد (22828)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(5)
أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
(6)
أخرجه مسلم (1096).
فعلى الماء؛ لما روى أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفطر على رُطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن تمرات حسَا حسواتٍ من ماء.
* قوله: (وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّوْمِ وَمُرَغِّبَاتِهِ كَفَّ اللِّسَان عَنِ الرَّفَثِ وَالْخَنَا
(1)
؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِن امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ"
(2)
. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(3)
إِلَى أَنَّ الرَّفَثَ يُفَطِّرُ، وَهُوَ شَاذٌّ).
قوله: "الصيام جُنَّة" يحتمل أن يكون أراد به جُنَّة من النار، ووقاية للصائم دونها.
ويحتمل أن يكون أراد أنه جُنَّة من المعاصي؛ لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جُنة وستر دونها.
"ولا يرفث": بفتح الفاء وكسرها وضمها؛ أي: لا يفحش في الكلام. "ولا يجهل"؛ أي: لا يعمل شيئًا مثل فعل الجهلاء، كالصِّيَاح والسخرية، أو لا يسفه إذ الجهل جاء أيضًا بمعنى السفاهة.
* قوله: (فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَيَبْقَى الْقَوْلُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ).
هذا من جميل تقسيم المؤلف، وحسن ترتيبه.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 372)، حيث قال:"الصيام في الشريعة: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع. هذا فرضه عند جميع الأئمة. وسننه: اجتناب قول الزور واللغو والرفث".
(2)
أخرجه أحمد (8059)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 304)، حيث قال:"ويُبطل الصومَ أيضًا تعمُّد كل معصية -أي معصية كانت، لا نحاشي شيئًا- إذا فعلها عامدًا ذاكرًا لصومه، كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتَين له من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب، أو غيبة، أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله".
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
[وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا]
(كِتَابُ الصِّيَام الثَّانِي وَهُوَ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ
وَالنَّظَرُ فِي الصِّيَامِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ هُوَ فِي تِلْكَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي حُكْمِ الْإِفْطَارِ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَيَّامُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الصَّوْمُ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ وَهوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَيَّامٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَأَيَّامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَيَّامٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا. وَمِنْ هَذِهِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُرَغَّبُ فِيهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: فَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَصِيَامُ يَوْمِ محَرَفَةَ وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَالْغُرَرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَهِيَ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ).
هذا عرض إجماليٌّ لما سيقوم المؤلف ببيانه مُفصَّلًا.
والفرق بين التطوع والفرض من وجهين:
أحدهما: أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار، بشرط عدم المفطِّرات في أوله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عاشوراء: "فليصُمْ بقيةَ
يومِه". فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائمًا بقية النهار دون أوله، والفرض يكون واجبًا في جميع النهار، ولا يكون صائمًا بغير النية.
والثاني: أن التطوع سُومِح في نيته من الليل تكثيرًا له، فإنه قد يبدو له الصوم في النهار، فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك، فسامح الشرع فيها، كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرًا له، بخلاف الفرض. إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه، وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع، أم لم يفعل. واشترط بعض أصحاب الشافعي ألَّا يأتي بعد النية بمنافٍ للصوم.
* قوله: (أَمَّا صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَقَالَ فِيهِ:"مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ"
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ هُوَ التَّاسِعُ أَوِ الْعَاشِرُ؟ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْآثَارِ: خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا". قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ: نعَمْ
(2)
. وَرُوِيَ: أَنَّهُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ". قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
).
أما صوم عاشوراء، فلم يثبت وجوبه، فإن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت
(1)
أخرجه أحمد بنحوه (16507)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
أخرجه أحمد (2135)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(10785).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يومُ عاشوراء، ولم يكتبِ اللَّهُ عليكم صيامَه، وأنا صائم، فمن شاء فليصُمْ، ومن شاء فليُفطِر".
فلو كان واجبًا لم يُبَحْ فطره، فإنما سمي الإمساك صيامًا تجوزًا، بدليل قوله:"ومن كان أصبح مفطرًا، فليصُم بقيةَ يومه".
ولم يُفرِّق بين المفطِر بالأكل وغيره. وقد روى البخاري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا: "أنْ أذِّنْ في الناس أنَّ مَن كان أكل فليَصُم بقية يومه".
وقد اختلف في صوم عاشوراء، هل كان واجبًا؟
فذهب بعضهم: إلى أنه لم يكن واجبًا. واستدلوا بشيئين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يأكل بالصوم، والنية في الليل شرط في الواجب.
والثاني: أنه لم يأمر من أكل بالقضاء، ويشهد لهذا ما روى معاوية قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا يومُ عاشوراء، لم يكتب اللَّهُ عليكم صيامَه، فمن شاءَ فليصُمْ، ومن شاء فليُفْطِر". وهو حديث صحيح.
وقال بعضهم: كان مفروضًا؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، فلما افتُرِض رمضان كان هو الفريضة، وترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وهو حديث صحيح. وحديث معاوية محمول على أنه أراد: ليس هو مكتوبًا عليكم الآن.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقَالَ فِيهِ:"صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ"
(1)
. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ
(2)
الْفِطْرَ فِيهِ لِلْحَاجِّ،
(1)
أخرجه أحمد (22530)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
(2)
يُنظر: "اللباب في الفقه الشافعي"، للمحاملي (ص: 190)، حيث قال:"وأما المكروه من الصوم فعشرة: صوم المريض، والمسافر، والحامل. . . وصوم يوم عرفة للحاج".
وَصِيَامَهُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ جَمْعًا بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ)
(1)
.
وصيام يوم عرفة كفارة سنتين وهو مستحب؛ لما روى أبو قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"صيام عرفةَ إني أحتسبُ على اللَّه أن يكفِّرَ السَّنةَ التي قبله والسَّنةَ التي بعده".
ويوم عرفة: هو اليوم التاسع من ذي الحجة، سُمِّي بذلك؛ لأن الوقوف بعرفة فيهء وقيل: سمي يوم عرفة؛ لأن إبراهيم عليه السلام أُري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه، فأصبح يومه يتروَّى: هل هذا من اللَّه أو حُلْم؟ فسمي يوم التروية، فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضًا فأصبح يوم عرفة، فعرَف أنه من اللَّه عز وجل، فسمي يوم عرفة. وهو يوم شريف عظيم، وعيد كريم، وفضله كبير. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صيامه يكفر سنتين.
* قوله: (وَأَمَّا السِّتُّ مِنْ شَوَّالٍ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"
(2)
، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا
(3)
كرِهَ ذَلِكَ؛ إِمَّا مَخَافَةَ أَنْ يُلْحِقَ النَّاسُ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ فِي رَمَضَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ).
صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم. وبه قال الشافعي، وأحمد.
(1)
أخرجه أبو داود (2440)، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
(2)
أخرجه مسلم (1164).
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل"، للمواق (3/ 329)، حيث قال:"مطرف: إنما كره مالك صيام ستة أيام من شوال لذي الجهل لا من رغب في صيامها لما جاء فيها من الفضل. المازري عن بعض الشيوخ: لعل الحديث لم يبلغ مالكًا. ومال اللخمي لاستحباب صومها".
وكرهه مالك وقال: ما رأيت أحدًا من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه.
ولنا ما روى أبو أيوب رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضانَ، وأتبعه ستًّا من شوال، فكأنما صام الدهر".
فإن قيل: فلا دليل في هذا الحديث على فضيلتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه صيامها بصيام الدهر، وهو مكروه. قلنا: إنما كره صوم الدهر؛ لما فيه من الضعف والتشبيه بالتَّبَتُّل، لولا ذلك لكان ذلك فضلًا عظيمًا؛ لاستغراقه الزمانَ بالعبادة والطاعة، والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به، على وجه عري عن المشقة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من صام ثلاثةَ أيام من كل شهر، كان كمن صام الدهر". ذكر ذلك حثًّا على صيامها، وبيان فضلها، ولا خلاف في استحبابها.
* قوله: (وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ
(1)
تَحَرِّيَ صِيَامِ الْغُرَرِ مَعَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الأَثَرِ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ بِهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما لَمَّا أَكْثَرَ الصِّيَامَ:"أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؟ " قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"خَمْسًا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"تِسْعًا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَحَدَ
(1)
يُنظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل"، لعليش (2/ 121)، حيث قال:" (وكُرِه) بضم فكسر (كونها)؛ أي: الأيام الثلاثة أيام الليالي (البيض)؛ أي: المستنيرة بالقمر من غروبها لفجرها وهي: الثالثة عشرة وتاليتاها إذا قصد صومها بعينها فرارًا من التحديد فيما لم يحدده الشارع ومن خوف اعتقاد وجوبها، فإن اتفق صومها بلا قصدها فلا كراهة هذا هو المشهور، وما روى من صومها مالك رضي الله عنه عنه وحضه هارون الرشيد عليه لم يأخذ به أصحابه".
عَشَرَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صِيَامِ دَاوُدَ، شَطْرُ الدَّهْرِ: صِيَامُ يَوْمٍ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ"
(1)
. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ
(2)
. وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِمْ قَطُّ شَهْرًا بِالصِّيَامِ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ صِيَامِهِ كَانَ فِي شَعْبَانَ
(3)
).
أيام الغُرَر: هي أيام البيض التي حض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صيامها هي الثالثَ عشر والرابعَ عشر والخامسَ عشر.
وبيان ذلك: أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، لا خلاف فيه.
وقد روى أبو هريرة، قال:"أوصاني خَليلي بثلاث: صيامِ ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتَي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام".
ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض؛ لما روى أبو ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إذا صمتَ من الشهر فصُمْ ثلاثَ عشرة، وأربعَ عشرة، وخمسَ عشرة".
وسميت أيام البيض؛ لابيضاضِ ليلها كلِّه بالقمر، والتقدير: أيام الليالي البيض. وقيل: إن اللَّه تاب على آدم فيها، وبيَّض صحيفته.
[الْأَيَّامُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا]
* قوله: (وَأَمَّا الْأَيَّامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا: فَمِنْهَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا. أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: فَيَوْمُ الْفِطْرِ، وَيَوْمُ الْأَضْحَى؛ لِثُبُوتِ
(1)
أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3351).
(2)
أخرجه أبو داود (2436)، وقال الأرناؤوط: المرفوع منه صحيح.
(3)
أخرج أبو داود (2336) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلَّا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
النَّهْيِ عَنْ صِيَامِهِمَا. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ
(1)
لَمْ يُجِيزُوا الصَّوْمَ فِيهَا
(2)
. وَقَوْمٌ أَجَازُوا ذَلِكَ فِيهَا
(3)
. وَقَوْمٌ كَرِهُوهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(4)
، إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَ صِيَامَهَا لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي الْحَجِّ -وَهُوَ الْمُتَمَتِّعُ- وَهَذِهِ الْأَيَّامُ هِيَ: الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّهَا: "أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ"
(5)
. بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ: الصَّوْمُ يَحْرُمُ، وَمِنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ قَالَ: الصَّوْمُ مَكْرُوهٌ
(6)
. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ إِنَّمَا صَارَ إِلَى ذَلِكَ،
(1)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 451)، حيث قال:"ولا يجوز صيام أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى، لا في قضاء رمضان، ولا في نذر، ولا في كفارة، ولا لمتمتع بالحج لا يقدر على الهدي، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي".
(2)
وهو مذهب الأحناف، يُنظر:"مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر"، لشيخي زاده (1/ 232)، حيث قال:" (وصوم العيدين وأيام التشريق حرام)؛ لورود النهي عن الصيام في هذه الأيام".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 185)، حيث قال:"فإن صام العيدين وأيام التشريق أو شيئًا منها حرم، وعليه حمل خبر الصحيحين: لا صام من صام الأبد".
(3)
يُنظر: "مختصر الخرقي"(ص: 51)، حيث قال:"ولا يصام يومَا العيدين ولا أيام التشريق لا عن فرض ولا عن تطوع، فإن قصد صيامها كان عاصيًا ولم يجزئه عن الفرض، وفي أيام التشريق عن أبي عبد اللَّه رحمه الله رواية أُخرى: أنه يصومها عن الفرض".
(4)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 466)، حيث قال:"فصل: صيام أيام التشريق تطوعًا: ويكره التطوع بصيامها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها أيام أكل وشرب وبعال"، فأجراها مجرى يوم العيد".
(5)
أخرجه مسلم (1141).
(6)
يُنظر: "معالم السنن"، للخطابي (2/ 128)، حيث قال:"قلت: وهذا أيضًا كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى فلا يجوز صيامها ابتداء تطوعًا ولا نذرًا ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر".
وَغَلَّبَهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الثَّابِتُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَوْمِ النَّحْرِ"
(1)
. فَدَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَدَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ يَصِحُّ الصِّيَامُ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُهُمَا عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ
(2)
).
أيام التشريق منهي عن صيامها؛ لما روى نبيشة الهذلي رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيامُ أكلٍ وشرب، وذِكْر للَّه عز وجل".
وروي عن عبد اللَّه بن حذافة رضي الله عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيام مِنى أنادي: أيها الناس، إنها أيام أكل وشرب وبعال. إلا أنه من رواية الواقدي، وهو ضعيف.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: هذه الأيام التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر بإفطارها، وينهى عن صيامها. قال مالك: وهي أيام التشريق.
ولا يحل صيامها تطوعًا، في قول أكثر أهل العلم، وعن بعضهم صيامها، والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صيامها، ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره.
وأما صومها للفرض، ففيه قولان:
(1)
أخرج مسلم (827) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيثًا فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَأَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ".
(2)
يُنظر: "التحبير لإيضاح معاني التيسير"، للصنعاني (6/ 269)، حيث قال:"قوله: "لا يصلح الصيام في يومين" وإذا لم يصلح فلا يحل؛ لأن الصالح شرعًا هو المأذون فيه لا المنهي عنه، وعدم الصلاحية تستلزم النهي وبينهما".
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه منهي عن صومها، فأشبهت يومي العيد.
والثاني: يصح صومها للفرض.
* قوله: (وَأَمَّا يَوْمُ الْجُمُعَةِ: فَإِنَّ قَوْمًا لَمْ يَكْرَهُوا صِيَامَهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَوْمٌ كَرِهُوا صِيَامَهُ إِلَّا أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ:
فَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَ: وَمَا رَأَيْتُهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
(1)
. وَمِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ جَابِرًا: أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُفْرَدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
. وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ". خَرَّجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ
(3)
. فَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَجَازَ صِيَامَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا، وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ كَرِهَهُ مُطْلَقًا، وَمَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَعْنِي: حَدِيثَ جَابِرٍ وَحَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما
(4)
).
يُكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يوافق ذلك صومًا كان
(1)
أخرج أحمد (3860) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ هِلَالٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(2)
أخرجه مسلم (1143).
(3)
أخرجه مسلم (1144).
(4)
يُنظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة"، للتوربشتي (2/ 475)، حيث قال:"فالوجه فيه أن نقول: لا يلزم من قوله هذا أنه كان يختص يوم الجمعة بالصوم حتى يخالف حديث أبي هريرة وحديث غيره في النهى؛ بل كان يصوم منضمًّا إلى ما قبله أو إلى ما بعده ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن نقول: يجوز أن يراد بالإفطار بعد الإمساك في بعض النهار؛ فإن الصوم قد يطلق ويراد به الإمساك في بعض النهار، ويؤيد هذا التأويل قول سهل بن سعد الساعدي: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة".
يصومه، مثل من يصوم يومًا ويفطر يومًا فيوافق صومه يوم الجمعة، ومَن عادته صوم أول يوم من الشهر، أو آخره، أو يوم نصفه، ونحو ذلك.
وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يكره إفراد الجمعة؛ لأنه يوم، فأشبه سائر الأيام. ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصومَنَّ أحدُكم يوم الجمعة، إلا يومًا قبله أو بعده". وقال محمد بن عباد: سألت جابرًا: أنهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. متفق عليهما.
وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال:"أصمتِ أمس؟ " قالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غدًا؟ " قالت: لا. قال: "فأفطري". رواه البخاري. وفيه أحاديث سوى هذه، وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع.
وهذا الحديث يدل على أن المكروه إفراده؛ لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدًا.
* قوله: (وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ
(1)
عَلَى النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُوجِبُ مَفْهُومُهَا تَعَلُّقَ الصَّوْمِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِإِكْمَالِ الْعَدِّ إِلَّا مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحَرِّي صِيَامِهِ تَطَوُّعًا، فَمِنْهُمْ مَنْ كرِهَهُ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ عَمَّارٍ رضي الله عنه:"مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ"
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 369)، حيث قال:"قال أبو عمر: هذا أعدل المذاهب في هذه المسألة -إن شاء اللَّه- وعليه جمهور العلماء، وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وحذيفة وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وأبو وائل، والشعبي، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، والحسن وابن سيرين، وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي".
(2)
أخرجه أبو داود (2334)، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي.
وَمَنْ أَجَازَهُ فَلأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ
(1)
، وَلِمَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ فَلْيَصُمْهُ"
(2)
. وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
(3)
يَقُولُ: إِنَّهُ إِنْ صَامَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ جَاءَهُ الثَّبْتُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَقَعُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي التَّحَوُّلِ مِنْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ إِلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ).
كره أهل العلم صوم يوم الشك، واستقبال رمضان باليوم واليومين؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. واتِّباع قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولى.
فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه، فإن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه غير مكروه؛ لتخصيصه النهيَ باليوم واليومين. وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان النصفُ من شعبان، فأمسِكوا عن الصيام، حتى يكون رمضان".
* قوله: (وَأَمَّا يَوْمُ السَّبْتِ: فَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، اخْتِلَافهُمْ فِي تَصْحِيحِ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ" خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(4)
، قَالُوا: وَالْحَدِيثُ نَسَخَهُ حَدِيثُ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (10451)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 369)؛ حيث قال:"وقال الليث بن سعد: من أصبح صائمًا في آخر يوم من شعبان متطوعًا أو احتياطًا، كالدخول لدخول رمضان إذا أصبح ممطرًا إلا أنه لم يطعم ثم جاءهم الخبر أنه من رمضان فإنهم يتمون صيامهم ولا قضاء عليهم. قال الليث: وإن لم يأتهم الخبر إلا بعد ذلك اليوم أو بعدما أمسوا. كان عليهم قضاء ذلك اليوم".
(4)
أخرجه أبو داود (2421)، وقال الأرناؤوط: رجاله ثقات إلا أن غيرَ واحد من الأئمة الذين يُرجَعُ إليهم في النقد أعلُّوه بالاضطراب والمعارضة.
جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: "صُمْتِ أَمْسِ؟ " فَقَالَتْ: لَا. فَقَالَ: "تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ " قَالَتْ: لَا. قَالَ: "فَأَفْطِرِي")
(1)
.
يكره إفراد يوم السبت بالصوم؛ لما روى عبد اللَّه بن بسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افتُرِض عليكم". وإن وافق صومًا لإنسان، لم يكره.
* قوله: (وَأَمَّا صِيَامُ الدَّهْرِ: فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ
(2)
. لَكِنَّ مَالِكًا
(3)
لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَعَسَى رَأَى النَّهْيَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ خَوْفِ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ).
روى أبو قتادة، قال: قيل: يا رسول اللَّه، فكيف بمن صام الدهر؟ قال:"لا صام ولا أفطر -أو- لم يصم ولم يفطر". وعن أبي موسى، عن
(1)
أخرجه البخاري (1986).
(2)
أخرج مسلم (1159): عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، يَقُولُ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ:"أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي اللَّيْلَ؟ فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلنَفْسِكَ حَظًّا، وَلأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ". قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ:"فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام". قَالَ: وَكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ؟ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ:"كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى"، قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ -قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ".
(3)
يُنظر: "موطأ مالك"(1/ 300)، حيث فيه: عن مالك أنه سمع أهل العلم يقولون: "لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صيامها، وهي أيام منى، ويوم الأضحى ويوم الفطر فيما بلغنا"، قال:"وذلك أحب ما سمعت إليَّ في ذلك".
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضُيِّقَت عليه جهنم".
وهو قول مالك، والشافعي؛ لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم.
والذي يقوى عندي، أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها قد فعل محرمًا. وإنما كُره صوم الدهر لما فيه من المشقة، والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللَّه بن عمرو:"إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ " فقلت: نعم. قال: "إنك إذا فعلت ذلك هجَمت له عينُك، ونفِهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله". قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك. قال: "فصُم صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى".
* قوله: (وَأَمَّا صِيَامُ النِّصْفِ الْآخِرِ مِنْ شَعْبَانَ: فَإِنَّ قَوْمًا كَرِهُوهُ
(1)
، وَقَوْمًا أَجَازُوهُ
(2)
. فَمَنْ كَرِهُوهُ فَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا صَوْمَ بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَتَّى رَمَضَانَ"
(3)
. وَمَنْ أَجَازَهُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ
(1)
وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"اللباب في الفقه الشافعي"، للمحاملي (ص: 190)، حيث قال: وأما المكروه من الصوم فعشرة: صوم المريض، والمسافر، والحامل. . . والنصف الأخير من شعبان إلا لمن صام الشهر كله أو كانت له عادة".
(2)
هو مذهب الأحناف، يُنظر:"اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، للمنبجي (1/ 407)، حيث قال:"لَا يكره الصَّوْم بعد النِّصْف من شعْبَان".
ومذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل شرح مختصر خليل"، لعليش (2/ 117)، حيث قال:"جواز الصوم في النصف الثاني من شعبان على انفراده".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف"، للمرداوي (7/ 533)، حيث قال:"الصحيح من المذهب، أنه لا يكره، ونص عليه، وإنما يكره تقدم رمضان بيوم أو يومين. وقيل: يكره بعد النصف".
(3)
أخرجه ابن ماجه (1651)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ
(1)
. وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرِنُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ
(2)
. وَهَذِهِ الْآثَارُ خَرَّجَهَا الطَّحَاوِيُّ
(3)
).
استقبال الشهر بأكثر من يومين غير مكروه، فإن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه غير مكروه؛ لتخصيصه النهي باليوم واليومين. وقد روى العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان النصفُ من شعبان، فأمسِكوا عن الصيام، حتى يكون رمضان". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. إلا أن أحمد قال: ليس هو بمحفوظ. قال: وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي، فلم يصححه، ولم يحدثني به، وكان يتوقَّاه. قال أحمد: والعلاء ثقة لا يُنكَر من حديثه إلا هذا؛ لأنه خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل شعبان برمضان. ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر، وحديث عائشة رضي الله عنها في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله، فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر، فلا تعارض بين الخبرين إذًا، وهذا أولى من حملهما على التعارض، ورد أحدهما بصاحبه، واللَّه أعلم.
* قوله: (وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ النِّيَّةُ: فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا لَمْ يَشْتَرِطِ النِّيَّةَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ النِّيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ -وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ- فَهُوَ بِعَيْنِهِ الإِمْسَاكُ الْوَاجِبُ فِي الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ، وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي هُنَالِكَ لَاحِقٌ هُنَا. وَأَمَّا حُكْمُ الْإِفْطَارِ فِي التَّطَوُّعِ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي
(1)
أخرجه أحمد (26562)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3320).
(3)
يُنظر: "شرح معاني الآثار"، للطحاوي (2/ 82).
صِيَامِ تَطَوُّعٍ فَقَطَعَهُ لِعُذْرٍ قَضَاءٌ
(1)
).
ليس على من قطع صيام التطوع قضاء إذا قطعه لعذر، ولكنهم اختلفوا فيما لو قطعه لغير عذر.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَطَعَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ عَامِدًا، فَأَوْجَبَ مَالِكٌ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
: لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى: أَنَّ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ"
(6)
. وَعَارَضَ هَذَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ، جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ، قَالَتْ: فَجَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَنَاوَلَتْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَ أُمَّ هَانِئٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 238)، حيث قال:"وأجمعوا أنه لا شيء على من دخل في صيام أو صلاة تطوع فقطعه عليه عذر ولم يكن له فيه سبب،. . .، وأجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضي".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 272)، حيث فيها:"قال ابن القاسم: فقلت لمالك: لو أن رجلًا أصبح صائمًا متطوعًا ثم سافر فأفطر أعليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: نعم".
(3)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (3/ 1554)، حيث قال:"قال أصحابنا: إذا دخل في صوم التطوع وجب عليه بالدخول، وإن أفسده لزمه القضاء".
(4)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 112) حيث قال:"وإن أفطر المتطوع من غير عذر كرهته له ولا قضاء عليه".
(5)
وهو مذهب أحمد، يُنظر:"قال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل عن رجل أصبح صائمًا متطوعًا ثم بدا له فأفطر، أيقضيه؟ قال: إن قضاه فحسن، وأرجو ألا يجب عليه شيء". "الاستذكار" 10/ 203، "شرح العمدة" كتاب الصوم 2/ 601".
(6)
"موطأ مالك"(1/ 307).
لَقَدْ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم:"أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا؟ " قَالَتْ: لَا. قَالَ: "فَلَا يَضُرُّكِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا"
(1)
. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَنَا خَبَّأْتُ لَكَ خَبَئًا، فَقَالَ:"أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصِّيَامَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ"
(2)
. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ غَيْرُ مُسْنَدٍ. وَلاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ تَرَدُّدُ الصَّوْمِ لِلتَّطَوُّعِ بَيْنَ قِيَاسِهِ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَطَوِّعًا يَخْرُجُ مِنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فِيمَا عَلِمْتُ، وَزَعَمَ مَنْ قَاسَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَشْبَهَ بِالصَّلَاةِ مِنْهُ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُفْسِدَ لَهُ الْمَسِيرُ فِيهِ إِلَى آخِرِهِ، وَإِذَا أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ نَاسِيًا فَالْجُمْهُورُ
(3)
عَلَى أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ
(4)
: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ، وَلَعَلَّ مَالِكًا حَمَلَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ عَلَى النِّسْيَانِ، وَحَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِقَرِيبٍ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَخَرَّجَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِعَيْنِهِ).
من دخل في صيام تطوع، استحب له إتمامه، ولم يجب، فإن خرج منه، فلا قضاء عليه، هذا مذهب أحمد، والشافعي.
(1)
أخرجه أبو داود (2456)، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
(2)
أخرجه مسلم (1154).
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 355)، حيث قال:"والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون: إن المتطوع إذا أفطر ناسيًا أو عليه شيء فلا قضاء عليه".
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 355)، حيث قال:"وقال ابن علية المتطوع عليه القضاء أفطر متعمدًا أو ناسيًا قياسًا على الحج".
وقال أبو حنيفة، ومالك: يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر، فإن خرج قضى. وعن مالك: لا قضاء عليه.
واحتج من أوجب القضاء بما رُوي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأُهدِي لنا حَيْسٌ، فأفطرنا، ثم سألنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اقضِيَا يومًا مكانَه".
ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها، كالحج والعمرة.
والصواب: ما روى مسلم، وأبو داود، والنسائي، عن عائشة، قالت دخل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال:"هل عندكم شيء؟ "، فقلت: لا. قال: "فإني صائم". ثم مرَّ بعد ذلك اليوم، وقد أُهدِي إليَّ حَيسٌ، فخبأت له منه، وكان يحب الحَيس. قلت: يا رسول اللَّه، إنه أهدي لنا حيس، فخبأت لك منه، قال:"أَدْنِيه، أما إني قد أصبحت وأنا صائم". فأكل منه، ثم قال لنا:"إنما مثل صوم التطوع مثل الرجلِ يُخرج من ماله الصدقة؛ فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبَسها".
وروت أم هانئ، قالت: دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأُتي بشراب، فناولَنِيه فشربت منه، ثم قلت: يا رسول اللَّه، لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها:"أكنتِ تقضين شيئًا؟ "، قالت: لا. قال: "فلا يضرُّكِ إن كان تطوعًا". رواه سعيد وأبو داود، والأثرم وفي لفظ قالت: قلت: إني صائمة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن المتطوعَ أميرُ نفسه، فإن شئتِ فصومي، وإن شئتِ فأفطري". ولأن كل صوم لو أتمَّه كان تطوعًا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه، كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال.
واعلم سائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام، في أنها لا تلزم بالشروع، ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها، إلا الحج والعمرة، فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا؛ لتأكد إحرامهما، ولا يخرج منهما
بإفسادهما. ولو اعتقد أنهما واجبان، ولم يكونا واجبين، لم يكن له الخروج منهما.
* * *
[بسم اللَّه الرحمن الرحيم]
[كِتَابُ الاِعْتِكَافِ]
* قوله: (وَالِاعْتِكَافُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِالشَّرْعِ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ
(1)
إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الدُّخُولَ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُوَفِّيَ شَرْطَهُ وَهُوَ فِي رَمَضَانَ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَبِخَاصَّةٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ آخِرُ اعْتِكَافِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى عَمَلٍ مَخْصُوصٍ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ وَتُرُوكٍ مَخْصُوصَةٍ).
الاعتكاف سنَّةٌ، إلا أن يكون نذرًا، فيلزم الوفاء به، لا خلاف في ذلك.
ومما يدل على أنه سنة فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه، تقربًا إلى اللَّه تعالى، وطلبًا لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا، ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به إلا من أراده.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 243)، حيث قال:"وأجمعوا أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضًا، إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا، فيجب عليه".
ولو كان واجبًا لما علَّقه بالإرادة. وأما إذا نذَره، فيلزمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن نذَرَ أن يطيعَ اللَّهَ فليُطِعْه".
* قوله: (فَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يَخُصُّهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قِيلَ: إِنَّهُ الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْقُرْبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ
(1)
. وَقِيلَ: جَمِيعُ أَعْمَالِ الْقُرْبِ وَالْبِرِّ الْمُخْتَصَّةِ بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ وَهْبٍ
(2)
، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَدْرُسُ الْعِلْمَ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ: لَا. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ
(3)
، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
(4)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(5)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، أَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مَشْرُوعٌ بِالْقَوْلِ. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الِاعْتِكَافِ حَبْس النَّفْسِ عَلَى الْأَفْعَالِ
(1)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 381)، حيث قال:"قال مالك: ولا يشتغل في مجالس العلم، قيل له: أفيكتب العلم في المسجد؟ فكره ذلك، قال ابن نافع: في الكتاب إلا أن يكون الشيء الخفيف، وقال ابن وهب: وسئل مالك: أيجلس مجالس العلماء ويكتب العلم؟، فقال: لا يفعل إلا الشيء الخفيف، والترك أحب إليَّ".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 381)، حيث قال:"قال ابن القاسم: ولا بأس أن يشتري ويبيع الشيء الخفيف من عيشه الذي لا يشغله".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 388)، حيث قال:"وقال الثوري: المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة وما لا يحسن به أن يضيع من أموره، ولا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه، ولا يجلس عنده أهله، ولا يوصيهم لحاجة إلا وهو قائم أو ماشٍ، ولا يبيع ولا يشتري وإن دخل تحت سقف بطل اعتكافه".
(4)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 115)، حيث قال:"ولا يعود المريض ولا يشهد الجنازة إذا كان اعتكافًا واجبًا".
(5)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 473)، حيث قال:"قال أبو جعفر: وإن خرج المعتكف إلى جنازة، أو إلى عيادة مريض، أو غير ذلك، سوى خروجه للغائط والبول والجمعة فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة".
الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسَاجِدِ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ. وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى الْقُرَبِ الْأُخْرَوِيَّةِ كُلِّهَا أَجَازَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اعْتَكَفَ لَا يَرْفُثُ وَلَا يُسَابُّ، وَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ وَالْجَنَازَةَ، وَيُوصِي أَهْلَهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَا يَجْلِسُ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
(1)
. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ خِلَافُ هَذَا
(2)
، وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلَا يَعُودَ مَرِيضًا. وَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ مَا أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ فِي هَذَا الْمَعْنَى).
لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، إلا أن يشترط ذلك.
الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة.
واختلفوا في ذلك: قيل: ليس له فعله. وهو قول مالك، والشافعي، والأحناف.
وقال أحمد: يشهد الجنازة، ويعود المريض، ولا يجلس، ويقضي الحاجة، ويعود إلى معتكَفه.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِكَافُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا؛ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ
(3)
، وَسَعِيدُ بْنُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8049).
(2)
أخرج عبد الرزاق (8055): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عَائِشَةُ فِي اعْتِكَافِهَا إِذَا خَرَجَتْ إِلَى بَيْتِهَا لِحَاجَتِهَا تَمُرُّ بِالْمَرِيضِ، فَتَسْأَلُ عَنْه، وَهِيَ مُجْتَازَةٌ لَا تَقِفُ عَلَيْهِ.
(3)
أخرج عبد الرزاق (8014): عَن إِبْرَاهِيمَ قَالَ: جَاءَ حُذَيْفَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَلَا أُعْجِبُكَ مِنْ نَاسٍ عُكُوفٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَا أُبَالِي أَفِيهِ أَعْتَكِفُ، أَوْ فِي بُيُوتِكُمْ هَذِهِ، إِنَّمَا الِاعْتِكَافُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَكَانَ الَّذِينَ اعْتَكَفُوا فَعَابَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ الْأَكْبَرِ.
الْمُسَيَّبِ
(1)
. وَقَالَ آخَرُونَ: الِاعْتِكَافُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
(2)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ
(5)
، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ
(6)
. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ فِيهِ جُمُعَةٌ. وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ
(7)
.
(1)
أخرج ابن أبي شيبة (9672): عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ:"لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ".
(2)
وهو مذهب أحمد، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 483)؛ حيث فيه: "قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: الاعتكافُ، في أي المساجدِ يكون؟ قال: في كلِّ مسجدٍ تُقامُ فيه الصلاةُ. "مسائل الكوسج" (714) ".
(3)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 115)، حيث قال:"والاعتكاف في المسجد الجامع أحب إلينا، وإن اعتكف في غيره فمن الجمعة إلى الجمعة".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 470)، حيث قال:" (ويجوز الاعتكاف في كل مسجد له إمام ومؤذن، كان مسجد جماعة أو لم يكن) ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 385)؛ حيث قال:"وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري وهو أحد قولي مالك وبه يقول بن علية وداود والطبري".
(6)
يُنظر: "المدونة"(1/ 298)، حيث فيها:"في المعتكف هل يجوز له أن يعتكف في غير مسجد الجماعة؟ وهل يجوز له أن يبيت في غير المسجد؟ قال مالك: والأمر الذي لا اختلاف فيه أنه لا ينكر الاعتكاف في كل مسجد تجمع فيه الجمعة. قال: ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا تجمع فيها الجمع إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها. قال: فإن كان مسجدًا لا تجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه، فإني لا أرى بأسًا في الاعتكاف فيه؛ لأن اللَّه تعالى قال في كتابه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. فعمَّ اللَّه المساجد كلها ولم يخص منها شيئًا. قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا تجمع فيها الجمعة: إذا كان لا يجب عليه أن يخرج إلى المساجد التي تجمع فيها الجمع".
(7)
يُنظر: "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها"، للرجراجي (2/ 167)، حيث قال:"فالمذهب على قولين؛ أحدهما: أنه يعتكف في كل مسجد، جامعًا كان أو غيره، وهو نص "المدونة"، ومشهور المذهب. والثاني: لا يجوز له أن يعتكف إلا في المسجد الجامع، ورواه ابن عبد الحكم عن مالك".
وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْمَسْجِدَ
(1)
، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ لُبَابَةَ
(2)
مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مُبَاشَرَةَ النِّسَاءِ إِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى الْمُعْتَكِفِ إِذَا اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا).
لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يُجمع فيه، يعني: تقام الجماعة فيه. وإنما اشترط ذلك؛ لأن الجماعة واجبة.
واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين:
إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا مع إمكان التحرز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف، إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة اللَّه فيه. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلًا.
والأصل في ذلك قول اللَّه تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. فخصها بذلك، ولو صح الاعتكاف في غيرها، لم يختص تحريم المباشَرة فيها، فإن المباشَرة محرمة في الاعتكاف مطلقًا.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: إنْ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِل عليَّ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 242)، حيث قال:"وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد".
(2)
يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"، للقاضي عياض المالكي (4/ 150)، حيث قال:"ولابن لبابة من المتأخرين من أصحابنا في تجويزه للجميع في غير مسجد ولا صوم".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 472)، حيث قال:"قال أبو جعفر: (ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها) قال أبو بكر أحمد: يعني أن اعتكافها في مسجد بيتها أفضل من اعتكافها في مسجد جماعة، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه، وبيوتهن خير لهن". وقال صلى الله عليه وسلم:"خير صلاة المرأة في بيتها"".
رأسَه، وهو في المسجد، فأرجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا. وعن عائشة رضي الله عنها، في حديث: وأن السنَّة للمعتكف ألا يخرجَ إلا لحاجة الإنسان، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. فذهب أبو عبد اللَّه إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه، ولا يجوز في غيره. وروي عن حذيفة، وعائشة، والزهري، ما يدل على هذا.
وقال بعضهم: لا يصح إلا في مساجد الجماعات. وهو قول الشافعي، إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة؛ لئلا يلتزم الخروج من معتكفه، لما يمكنه التحرز من الخروج إليه.
وروي عن خذيفة، وسعيد بن المسيب: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبيٍّ. وحُكِي عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد الثلاثة.
وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَرْكِ اشْتِرَاطِهِ: هُوَ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ أَمْ لَا يَكُونَ لَهُ؟ فَمَنْ قَالَ: لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، وَإِنَّ مَنْ شَرَطَ الِاعْتِكَافَ تَرَكَ الْمُبَاشَرَةَ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ قَالَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُبَاشَرَةَ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي الدَّارِ، لَكَانَ مَفْهُومُ دَلِيلِ الْخِطَابِ يُوجِبُ أَنْ تُعْطِيَهُ إِذَا كَانَ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَكِنْ هُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعُكُوفَ إِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَرْطِهِ).
هذا احتمال للآية بين المفهوم والخطاب المنطوق، من حمل المفهوم على الاعتكاف نفسه، ومنهم من حمله على المباشرة.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ تَعْمِيمِهَا: فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ الْمُخَصَّصِ لَهُ. فَمَنْ رَجَّحَ الْعُمُومَ قَالَ: فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمَنِ انْقَدَحِ لَهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُون مَسْجِدًا فِيهِ جُمُعَةٌ؛ (لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَمَلُ الْمُعْتَكِفِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ)، أَوْ مَسْجِدًا تُشَدُّ إِلَيْهِ الْمَطِيُّ، مِثْلَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي وَقَعَ فِيهِ اعْتِكَاُفهُ، وَلَمْ يَقِسْ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَتْ غَيْرَ مُسَاوِيَةٍ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ).
معارضة عموم لفظ المساجد، لقياس مُخصِّص للمساجد الثلاثة الشريفة.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ: فَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ أَيْضًا لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ: أَنَّ حَفْصةَ وَعَائِشَةَ وَزَيْنَبَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ حِينَ ضَرَبْنَ أَخْبِيَتَهُنَّ فِيهِ
(1)
. فَكَانَ هَذَا الْأَثَرُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا فَهُوَ قِيَاسُ الِاعْتِكَافِ
(1)
أخرجه مالك (1/ 316): عن عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه. وجد أخبية؛ خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فلما رآها سأل عنها. فقيل له: هذا خباء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"آلبر تقولون بهن؟ " ثم انصرف، فلم يعتكف حتى اعتكف عشرًا من شوال. وسئل مالك: عن رجل دخل المسجد لعكوف في العشر الأواخر من رمضان، فأقام يومًا أو يومين. ثم مرض فخرج من المسجد. أيجب عليه أن يعتكف ما بقي من العشر، إذا صح أم لا يجب ذلك عليه؟ وفي أي شهر يعتكف إن وجب عليه ذلك؟
عَلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضلَ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ. قَالُوا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ زَوْجِهَا فَقَطْ عَلَى نَحْوِ مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ مِنِ اعْتِكَافِ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، كَمَا تُسَافِرُ مَعَهُ وَلَا تُسَافِرُ مُفْرَدَةً، وَكَأَنَّهُ نَحْوٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْأَثَرِ).
فيه من الفقه أن المعتكِف يجب أن يجعل لنفسه في المسجد مكانًا لمبيته، بحيث لا يضيِّق على المسلمين، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحن إذا ضرب فيه خباءه، وفيه من الفقه أن المعتكِف إذا أراد أن ينام في المسجد أن يتنحَّى عن الناس، خوف أن يكون منه ما يؤذيهم من آفات البشر.
* قوله: (وَأَمَّا زَمَانُ الِاعْتِكَافِ فَلَيْسَ لِأَكْثَرِهِ عِنْدَهُمْ حَدٌّ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُمْ يَخْتَارُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ بَلْ يَجُوزُ الدَّهْرُ كُلُّهُ، إِمَّا مُطْلَقًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الصَّوْمَ مِنْ شُرُوطِهِ، وَإِمَّا مَا عَدَا الأَيَّامَ الَّتِي لَا يَجُوزُ صَوْمُهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الصَّوْمَ مِنْ شُرُوطِهِ. وَأَمَّا أَقَلُّهُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ لِاعْتِكَافِهِ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ مِنْهُ. أَمَّا أَقَلُّ زَمَانِ الِاعْتِكَافِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(1)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَكْثَرِ
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين"، للنووي (2/ 391)، حيث قال:"واستحب الشافعي رحمه الله أن يعتكف يومًا للخروج من الخلاف، فإن مالكًا وأبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوِّزان اعتكاف أقل من يوم. ونقل الصيدلاني وجهًا: أنه لا يصح الاعتكاف إلا يومًا، أو ما يدنو من يوم. قلت: ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة، وكلما دخل نوى الاعتكاف، صح على المذهب. وحكى الروياني فيه خلافًا ضعيفًا. واللَّه أعلم".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 475)، حيث قال: "قال أبو جعفر: (ويجوز الاعتكاف يومًا فما فوقه من الأيام)، وذلك لقول اللَّه تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ =
الْفُقَهَاءِ
(1)
أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ. وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْعَشْرَةَ اسْتِحْبَابٌ، وَأَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ
(2)
.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأَثَرِ، أَمَّا الْقِيَاسُ: فَإِنَّهُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمَ قَالَ: لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ اعْتِكَافُهُ لَيْلَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إِذِ انْعِقَادُ صَوْمِ النَّهَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ. وَأَمَّا الأثَرُ الْمَعَارِضُ: فَمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِه
(3)
. وَلَا مَعْنَى لِلنَّظَرِ مَعَ الثَّابِتِ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ).
عمومًا إذا قلنا: إن الصوم شرط. لم يصح اعتكاف ليلة مفردة، ولا بعض يوم، ولا ليلة وبعض يوم؛ لأن الصوم المشترط لا يصح في أقل من يوم. ويحتمل أن يصح في بعض اليوم، إذا صام اليوم كله؛ لأن الصوم المشروط وُجد في زمن الاعتكاف، ولا يعتبر وجود المشروط في زمن الشرط كله.
= فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. ولم يقدره بوقت، والاعتكاف: هو اللبث على وصف، وأي جزء حصل منه على الوصف المشروط: فهو اعتكاف. وقد قال محمد بن الحسن: إنه لو اعتكف نصف يوم: جاز؛ لأن مقدار ما فعله لبث صحيح، إلا أنه لا ينبغي له أن يفطر حتى يمسي؛ لأن الصوم الذي قد دخل فيه، قد لزمه إتمامه بالدخول. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه إذا دخل في اعتكاف لزمه أن يتمه يومًا".
(1)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 347)، حيث قال:" (ويستحب أن لا ينقص الاعتكاف عن يوم وليلة)، خروجًا من خلاف من يقول: أقله ذلك".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 386)، حيث قال:"قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك أنه قال: أقل مدة الاعتكاف يوم وليلة، فسألته عنه فأنكره، وقال: أقله عشرة أيام، وبه أقول".
(3)
سبق تخريجه.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ إِلَى اعْتِكَافِهِ إِذَا نَذَرَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً أَوْ يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
، وَأَبَا حَنِيفَةَ
(3)
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
(4)
قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَخَرَجَ بَعْدَ غُرُوبِهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ
(5)
فَقَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ زُفَرُ، وَاللَّيْثُ
(6)
: يَدْخُلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْيَوْمُ وَالشَّهْرُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ. وَفَرَّقَ أَبُو ثَوْرٍ
(7)
بَيْنَ نَذْرِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فَقَالَ: إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا نَذَرَ عَشْرَ لَيَالِيَ دَخَلَ قَبْلَ
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"، للصقلي (3/ 1218)، حيث قال:"ويستحب لمريد الاعتكاف أن يدخل معتكفة قبل غروب الشمس من أول ليلة من اعتكافه ليكمل له اليوم بليلته".
(2)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 115)، حيث قال:"قال الشافعي: والاعتكاف سنة فمن أوجب على نفسه اعتكاف شهر فإنه يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس، ويخرج منه إذا غربت الشمس آخر الشهر".
(3)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (3/ 122)، حيث قال:"وإن أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس".
(4)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 157)، حيث قال:"وإن قال: للَّه عليَّ اعتكاف يوم دخل فيه قبل الفجر إلى غروب الشمس".
(5)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"، للصقلي (3/ 1218)، حيث قال:"وأما من نذر اعتكاف يوم لزمه ليلة ولوم، ويدخل معتكفه عند غروب الشمس من ليلته، وإن دخل قبل الفجر فاعتكف يومه لم يجزئه".
(6)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 401)، حيث قال:"وقال زفر بن الهذيل والليث بن سعد: يدخل قبل طلوع الفجر. والشهر واليوم عندهما سواء تقدم".
(7)
يُنظر: "الاستذكار"(3/ 401)، حيث قال:"وقال أبو ثور: إذا أراد اعتكاف عشرة أيام دخل في اعتكافه قبل طلوع الفجر، وإذا أراد عشر ليال دخل قبل غروب الشمس".
غُرُوبِهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
(1)
: يَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْأَقْيِسَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَمُعَارَضَةُ الْأَثَرِ لِجَمِيعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ رَأَى أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ لَيْلُهُ وَاعْتَبَرَ اللَّيَالِيَ قَالَ: يَدْخُلُ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ اللَّيَالِيَ قَالَ: يَدْخُلُ قَبْلَ الْفَجْرِ).
من نذر أن يعتكف شهرًا بعينه، دخل المسجد قبل غروب الشمس، وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح، ثم دخل معتكفه؛ ولأن اللَّه تعالى قال:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. ولا يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر. ولأن الصوم شرط في الاعتكاف، فلم يَجُزِ ابتداؤه قبل شرطه.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ اليَوْمِ يَقَعُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعًا أَوْجَبَ إِنْ نَذَرَ يَوْمًا أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّهَارِ أَوْجَبَ الدُّخُولَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ خَاصٌّ بِالنَّهَارِ وَاسْمَ اللَّيْلِ بِاللَّيْلِ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَنْذِرَ أَيَّامًا أَوْ لَيَالِيَ. وَالْحَقُّ أَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ يُقَالُ عَلَى النَّهَارِ مُفْرَدًا، وَقَدْ يُقَالُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعًا، لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَتُهُ الْأَوْلَى إِنَّمَا هِيَ عَلَى النَّهَارِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى اللَّيْلِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُخَالِفُ لِهَذِهِ الْأَقْيِسَةِ كُلِّهَا: فَهُوَ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي رَمَضَانَ، وَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ
(2)
).
(1)
يُنظر: "الاستذكار"(3/ 401)، حيث قال:"وقال الأوزاعي بظاهر حديث عائشة المذكور قال: يصلي في المسجد الصبح ولقوم إلى معتكفه".
(2)
أخرجه البخاري (2041).
هذا الحديث الذي جاء بدخول المعتكف إلى اعتكافه إذا صلَّى الصبح يوهم أنه كان يدخل ذلك الحين الاعتكافَ، وليس ذلك على ما يوهم ظاهرُه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يدخل الخِبَاء الذى يُضرَب له؛ لينظرَ كيف يُرتَّب مكانُ نومه ومصلاه وحوائجه، ثم يخرج في حوائجه، فإذا صلى المغرب دخل معتكَفِه، ولا يمكن أن يدخل بنية الاعتكاف ثم ينصرف عنه؛ لأنه لا يحل قطع الاعتكاف ألبتة بعد أن يدخل فيه، ولا يجوز أيضًا أن يقطع اعتكاف غيره لا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم أذِنَ لعائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما في ذلك، ودليل آخر: وهو أنه إن كان دخل للاعتكاف بعد صلاة الصبح فقد دخل في بعض النهار، ولا يجزئه ذلك من اعتكافه حتى يثبت أنه دخل الخباء قبل انصداع الفجر بنية الاعتكاف، وذلك معدوم في الروايات. وقال غيره: ويمكن أن يكون دخوله صبيحة عشرين متطوعًا بذلك، وكان اعتكافه كله تطوعًا، ومن زاد في التطوع فهو أفضل، وإنما يقع التحريم في النذر، ولو أن امرأً نذر اعتكاف العشر الأواخر ما لزمه أن يدخل إلا ليلة إحدى وعشرين عند الغروب، ويخرج صبيحة ثلاثين عند الغروب.
* قوله: (وَأَمَّا وَقْتُ خُرُوجِهِ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
رَأَى أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَأَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: بَلْ يَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 300)، حيث فيها:"وقال مالك في حديث أبي سعيد الخدري في الاعتكاف: إن ذلك يعجبني وعلى ذلك رأيت أمر الناس، أن يدخل الذي يريد الاعتكاف في العشر الأواخر حين تغرب الشمس من ليلة إحدى وعشرين ويصلي المغرب فيه، ثم يقيم فيخرج حتى يفرغ من العيد إلى أهله وذلك أحب الأمر إليَّ فيه".
(2)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 115)، حيث قال:"ويخرج منه إذا غربت الشمس آخر الشهر".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 349)، حيث قال:"ويخرج بعد غروب الشمس".
الْمَاجِشُونِ: إِنْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلِ اللَّيْلَةُ الْبَاقِيَةُ هِيَ مَنْ حُكْمِ الْعَشْرِ أَمْ لَا؟).
إن أحبَّ اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعًا، فيدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين؛ لما رُوي عن أبي سعيد: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسطَ من رمضانَ، حتى إذا كانت ليلةُ إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يَخرج في صبيحتها من اعتكافه، قال: من كان اعتكف معي، فليعتَكِفْ العشر الأواخر.
ولأن العشر بغير "هاء" عدد الليالي، فإنها عدد المؤنث، قال اللَّه تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 2]. وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين.
وقال بعضهم: يدخل بعد صلاة الصبح. قال حنبل، قال أحمد: أحبُّ إليَّ أن يدخل قبل الليل، ولكن حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر، ثم يدخل معتكفه.
ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان، استُحِبَّ له أن يبيت ليلة العيد في معتكَفِه. وجاء عن بعض التابعين أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر، ثم يغدو كما هو إلى العيد.
وقال إبراهيم: كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد، ثم يغدو إلى المصلى من المسجد.
* قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُهُ فَثَلَاثَةٌ: النِّيَّةُ، وَالصِّيَامُ، وَتَرْكُ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ. أَمَّا النِّيَّةُ: فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا اخْتِلَافًا
(1)
. وَأَمَّا الصِّيَامُ: فَإِنَّهُمُ
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود (1/ 136)، حيث قال:"وفي الشرع: عبارة عن المقام في مكان مخصوص وهو المسجد بأوصاف مخصوصة من النية والصوم وغيرهما". =
اخْتَلَفُوا فِيهِ
(1)
، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِالصَّوْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاعْتِكَافُ جَائِزٌ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ
(2)
، وَابْنُ عَبَّاسٍ
(3)
عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَبِقَولِ الشَّافِعِيِّ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ
(4)
. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ اعْتِكَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا وَقَعَ فِي رَمَضَانَ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمُقْتَرِنَ بِاعْتِكَافِهِ هُوَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ لِلِاعْتِكَافِ نَفْسِهِ قَائِلًا: لَا بُدَّ مِنَ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَقْصُودًا لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ قَالَ: لَيْسَ الصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ. وَلِذَلِكَ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ: وَهُوَ اقْتِرَانُهُ مَعَ الصَّوْمِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ
= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 725)، حيث قال:" (الاعتكاف نافلة) من نوافل الخير، (مرغَّب فيه) شرعًا. (وهو) في الأصل: مطلق اللزوم لشيء، وشرعًا: (لزوم مسلم مميِّز). . . (بنية): الباء للملابسة أو بمعنى مع، متعلقة بـ (لزوم) إذ هو عبادة، وكل عبادة تفتقر لنية".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (1/ 246)، حيث قال:"وَشرعًا اللّبث فِي الْمَسْجِد من شخص مَخْصُوص بنية".
مذهب الحنابلة: "الروض المربع شرح زاد المستقنع"(ص: 243)، حيث قال:" (ولا يصح) الاعتكاف (إلا) بنية؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 243)، حيث قال:"ولا يجوز الاعتكاف إلا في صوم، وبه قال سائر الفقهاء إلا الشافعي فإنه قال: ليس من شرط الاعتكاف الصوم".
(2)
أخرج عبد الرزاق (8033): عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَا:"لَا جِوَارَ إِلَّا بصِيَامٍ".
(3)
أَخرج عبد الرزاق (8036): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنِ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ".
(4)
أخرج ابن أبي شيبة (9621): قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما:"لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ إِلَّا أَنْ يَفْرِضَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ".
لِلصِّيَامِ
(1)
. وَاحْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ إِلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ
(2)
. قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
(3)
: لَمْ يَقُلْ أَحَد فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا: السُّنَّةُ، إِلَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَإِنْ كانَ الْأَمْرُ هَكَذَا بَطَلَ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُسْنَدِ).
مذهب الشافعي، وأحمد: أن الاعتكاف يصح بغير صوم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: إذا اعتكف يجب عليه الصوم؛ لما روي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا اعتكافَ إلا بصوم".
ولأنه لُبْثٌ في مكان مخصوص. فلم يكن بمجرده قربةً، كالوقوف.
والصواب: عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول اللَّه، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بنذرِكَ".
ولو كان الصوم شرطًا لما صحَّ اعتكافُ الليل؛ لأنه لا صيام فيه، ولأنه عبادة تصح في الليل، فلم يُشترط له الصيام كالصلاة، ولأنه عبادة
(1)
أخرج ابن حبان في "صحيحه"(4379): عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ".
(2)
أخرجه أبو داود (2473)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 389)، حيث قال:"قال أبو عمر: لم يقل أحد في حديث عائشة: هذا السنة، إلا عبد الرحمن بن إسحاق، ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري وبعضه من كلام عروة".
تصح في الليل، فأشبه سائر العبادات، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع، ولم يصح فيه نص، ولا إجماع.
* قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إِذَا جَامَعَ عَامِدًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ
(1)
، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ لُبَابَةَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا)
(3)
.
الجماع في الاعتكاف محرم بالإجماع، والأصل فيه قول اللَّه تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]. فإن جامع في الفرج متعمدًا أفسد اعتكافه، بإجماع أهل العلم، ولأن الوطء إذا حرُم في العبادة أفسدها، كالحج والصوم.
وأما إن كان ناسيًا، فكذلك عند أحمد وأبي حنيفة، ومالك.
وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه؛ لأنها مباشَرة لا تُفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف، كالمباشرة فيما دون الفرج.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 244)، حيث قال:"وأجمعوا أن قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] أنه يقتضي الجماع. ومن وطئ حال الاعتكاف فسد اعتكافه ولم يجب عليه كفارة بلا خلاف من الفقهاء في ذلك من قال منهم: من شرطه الصوم، ومن قال منهم: ليس من شرطه الصوم".
(2)
يُنظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"، لابن الملقن (5/ 438)، حيث قال:"وقال ابن لبابة وغيره منهم: تحرم المباشرة في المسجد دون غيره".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"التجريد"، للقدوري (3/ 1603)، حيث قال:"قال أصحابنا: إذا جامع المعتكف ناسيًا بطل اعتكافه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 291)، حيث فيها:"في المعتكف يطأ امرأته في ليل أو نهار: قلت: أرأيت إن جامع ليلًا أو نهارًا في اعتكافه ناسيًا: أيفسد اعتكافه؟ قال: نعم ينتقض ويبتدئ، وهو مثل الظهار إذا وطئ فيه".
ومذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 468)، حيث قال:" (لو جامع ناسيًا فهو) (كجماع الصائم) فلا يبطل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 361)، حيث قال:" (فإن وطئ) المعتكف (في فرج ولو ناسيًا فسد اعتكافه) ".
والصواب: أنَّ ما حرُم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده، كالخروج من المسجد، ولا نسلم أنها لا تفسد الصوم، ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف، إلا إذا اقترن بها الإنزال.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ، فَرَأَى مَالِكٌ
(1)
أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَيْسَ فِي الْمُبَاشَرَةِ فَسَاد إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ، وَللشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ
(3)
: أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي: مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الِاسْمُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَهُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَهُ عُمُومًا قَالَ: إِنَّ الْمُبَاشِرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. يَنْطَلِقُ عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا دُونَ الْجِمَاعِ. وَمَنْ لَمْ يَرَ عُمُومًا وَهوَ الْأَشْهَرُ الْأَكْثَرُ قَالَ: يَدُلُّ إِمَّا عَلَى الْجِمَاعِ، وَإِمَّا عَلَى مَا دُونَ الْجِمَاعِ، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجِمَاعِ بِإِجْمَاعٍ بَطَلَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى غَيْرِ الْجِمَاعِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا. وَمَنْ أَجْرَى الْإِنْزَالَ بِمَنْزِلَةِ الْوِقَاعِ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَمَنْ خَالَفَ فَلِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ حَقِيقَةً).
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 291)، حيث فيها:"في المعتكف يُقبِّل، أو يُباشر، أو يلمس، أو يعود مريضًا، أو يتبع جنازة قلت لابن القاسم: أرأيت المعتكف إذا قبَّل أو لمس أيفسد ذلك اعتكافه؟ فقال: نعم. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: بلغني عنه في القُبلة أنه قال: تنقض اعتكافه".
(2)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (3/ 1599)، حيث قال:"قال أصحابنا: إذا باشر المعتكف امرأته أو قبَّله بشهوة، فلم ينزل، لم يبطل اعتكافه".
(3)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 116)، حيث قال:"ولا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد لا تفسده قبلة ولا مباشرة ولا نظرة أنزل أو لم ينزل، وكذلك المرأة كان هذا في المسجد أو في غيره".
المباشرة دون الفرج، إن كانت لغير شهوة، فلا بأس بها، مثل أن تغسل رأسه، أو تفليه، أو تناوله شيئًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجِّلُه.
وإن كانت عن شهوة، فهي محرمة، لقول اللَّه تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف، وما أفضى إلى الحرام كان حرامًا. فإن فعل، فأنزل، فسد اعتكافه، وإن لم يُنزِل، لم يفسد. وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، في أحد قوليه.
وقال مالك: يفسد في الحالين؛ لأنها مباشرة محرمة، فأفسدت الاعتكاف، كما لو أنزل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، فَبَعْضُهُمْ قَالَ: كَفَّارَةُ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَهْدَى بَدَنَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ
(1)
. وَأَصْلُ الْخِلَافِ: هَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ).
لا كفارة بالجماع في ظاهر مذهب أحمد، ومالك. وقال آخرون: عليه كفارة.
والصواب: أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع، فلم تجب بإفسادها
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 404)، حيث قال:"وقال مجاهد: يتصدق بدينارين، قال أبو عمر: فساد الاعتكاف بالوطء لا شك فيه والعزم في الكفارة مختلف فيه ولا حجة لمن أوجبه، فإن كان الاعتكاف في رمضان ووطئ فيه فكفارته كفارة الجماع في رمضان أو كان في غير رمضان فلا كفارة عليه، وعليه قضاء اعتكافه".
كفارة، كالنوافل، ولأنها عبادة لا يدخل المال في جُبْرانها، فلم تجب الكفارة بإفسادها، كالصلاة، ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع، ولم يرِدِ الشرع بإيجابها، فتبقى على الأصل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ النَّذْرِ بالِاعْتِكَافِ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ التَّتَابُعُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: قِيَاسُهُ عَلَى نَذْرِ الصَّوْمِ الْمُطْلَقِ).
إذا نذر اعتكاف شهر، لزمه شهر بالأهلة، أو ثلاثون يومًا. وهل يلزمه التتابع؟ الجواب: على قولين:
أحدهما: لا يلزمه. وهو مذهب الشافعي؛ لأنه معنى يصح فيه التفريق، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر، كالصيام.
والثاني: يلزمه التتابع. وهو قول أبي حنيفة ومالك.
وإن قال: للَّه عليَّ أن أعتكف أيام هذا الشهر، أو ليالي هذا الشهر، لزمه ما نذَر، ولم يدخل فيه غيره. وكذلك إن قال: شهرًا في النهار، أو في الليل.
* قوله: (وَأَمَّا مَوَانِعُ الِاعْتِكَافِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَا عَدَا الْأَفْعَالَ
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"، للصقلي (3/ 1218)، حيث قال:"والسنة في الاعتكاف التتابع. قال ابن القاسم: فمن نذر اعتكاف شهر أو ثلاثين يومًا فلا يفرقه، وليعتكف ليله ونهاره".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"، للكاساني (2/ 111)، حيث قال:"ولو قال: للَّه عليَّ أن أعتكف شهرا يلزمه اعتكاف شهر، أي شهر كان، متتابعًا في النهار والليالي جميعًا، سواء ذكر التتابع أو لا".
(3)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 157)، حيث قال:" (قال الشافعي): وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر ولم يقل: متتابعًا. أحببته متتابعًا. (قال المزني): وفي ذلك دليل أنه يجزئه متفرقًا".
الَّتِي هِيَ أَعْمَالُ الْمُعْتَكِفِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ
(1)
؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأَسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا إِذَا خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ: مَتَى يَنْقَطِعُ اعْتِكَافُهُ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَوَّلِ خُرُوجِهِ، وَبَعْضُهُمْ
(4)
رَخَّصَ فِي السَّاعَةِ، وَبَعْضُهُمْ
(5)
فِي الْيَوْمِ).
المعتكف ليس له الخروج من معتكفه، إلا لما لا بدَّ له منه، ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بدَّ له منه؛ ولأن هذا لا يمكن فعله في المسجد، فلو بطَل الاعتكاف بخروجه إليه، لم يصح لأحد الاعتكاف.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته، والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط، كَنَّى بذلك عنهما؛ لأن كل
(1)
يُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص: 50)، حيث قال:"وأجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط والبول".
(2)
أخرجه مسلم (297).
(3)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 157)، حيث قال: " (قال الشافعي):
…
وإن خرج لغير حاجة نقض اعتكافه".
(4)
وهو مذهب أبي حنيفة، يُنظر:"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 351)، حيث قال:" (فإن خرج ساعة بلا عذر فسد)؛ أي: فسد اعتكافه وهذا عند أبي حنيفة".
(5)
يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 351)، حيث قال:" (فإن خرج ساعة بلا عذر فسد)؛ أي: فسد اعتكافه وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يفسد إلا بأكثر من نصف يوم. وقوله: أقيس؛ لأن الخروج ينافي اللبث، وما ينافي الشيء يستوي فيه القليل والكثير، كالأكل والشرب في الصوم والحدث في الطهر، وقولهما استحسان، وهو أوسع لأن القليل منه لو لم يبح لوقعوا في الحرج؛ لأنه لا بدَّ منه لإقامة الحوائج، ولا حرج في الكثير والفاصل أكثر من نصف النهار إذ الأقل تابع للأكثر كما في نية الصوم".
إنسان يحتاج إلى فعلهما، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب، إذا لم يكن له من يأتيه به، فله الخروج إليه إذا احتاج إليه، وإن بغتَه القيءُ، فله أن يخرج ليتقيأَ خارج المسجد، وكل ما لا بدَّ له منه، ولا يمكن فعله في المسجد، فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه وهو عليه، ما لم يطل. وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه اللَّه تعالى عليه، مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة، ويلزمه السعي إليها، فله الخروج إليها، ولا يبطل اعتكافه. وبهذا قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع، إذا كان اعتكافه يتخلَّله جمعة. فإن نذر اعتكافًا متتابعًا، فخرج منه لصلاة الجمعة، بطل اعتكافه، وعليه الاستئناف؛ لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه، فبطل بالخروج، كالمكفِّر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة.
ولنا أنه خرج لواجب، فلم يبطل اعتكافه، كالمعتدَّة تخرج لقضاء العدة، وكالخارج لإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق، أو أداء شهادة تعينت عليه؛ ولأنه إذا نذر أيامًا فيها جمعة، فكأنه استثنى الجمعة بلفظه، ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أيامًا فيها عادة حيضها، فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها، والأصل غير مسلم. إذا ثبت هذا، فإنه إذا خرج لواجب، فهو على اعتكافه، ما لم يطل؛ لأنه خروج لما لا بدَّ له منه، أشبه الخروج لحاجة الإنسان. فإن كان خروجه لصلاة الجمعة، فله أن يتعجل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِ مَسْجِدِهِ؟ فَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الأَكْثَرُ؛ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ،
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 298)، حيث قال:"وقال مالك: لا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه، إلا أن يكون خباؤه في رحبة من رحاب، المسجد. وقال مالك: ومما يدل على ذلك، أنه لا يبيت إلا في المسجد قول عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان".
(2)
يُنظر: "بحر المذهب"، للروياني (3/ 319)، حيث قال: "فلو اعتكف الرجل في =
وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ. وَأَجَازَ مَالِكٌ
(1)
لَهُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَأَنْ يَلِيَ عَقْدَ النِّكَاحِ
(2)
، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ
(3)
. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ إِلَّا الِاجْتِهَادُ، وَتَشْبِيهُ مَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ).
لا بأس أن يتزوج المُعتكف في المسجد، ويشهد النكاح؛ لأن الاعتكاف عبادة لا تحرِّم الطيب، فلم تحرِّم النكاح كالصوم، ولأن النكاح طاعة، وحضوره قُرْبةُ، ومدته لا تتطاول، فيتشاغل به عن الاعتكاف، فلم يُكره فيه؛ كتشميت العاطس، وردِّ السلام.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ شُهُودَ جَنَازَةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ
(4)
عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ لَا يَنْفَعُهُ، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ
= مسجد بيته وجهان؛ أحدهما: يجوز اعتبارًا بان صلاة نفله في بيته أفضل. وأصل الاعتكاف نفل ففي البيت أفضل. والثاني: لا يجوز ولعتبر بفرضه وفرضه في المسجد أفضل بخلاف المرأة".
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 293)، حيث فيها:"قيل لابن القاسم: ما قول مالك في المعتكف؛ أيشتري ويبيع في حال اعتكافه؟ فقال: نعم. إذا كان شيئًا خفيفًا لا يشغله من عيش نفسه".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 293)، حيث فيها:"وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْكِحَ الْمُعْتَكِفُ".
(3)
مذهبُ أبي حنيفة كمذهب مالك، يُنظر:"التجريد"، للقدوري (4/ 1833)، حيث قال:"قال أصحابنا: يجوز للمحرم أن يُزوَّج، ويتزوج".
ومذهب الشافعي، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (1/ 356)، حيث قال:"ويجوز للمعتكف أن يتزوج ويزوج؛ لأنها عبادة لا تحرم الطيب فلا تحرم النكاح".
وأحمد، يُنظر:"مختصر الخرقي"(ص: 52)، حيث قال:"والمعتكف لا يتجر ولا يتكسب بالصنعة، ولا بأس أن يتزوج في المسجد ويشهد النكاح".
(4)
وهو مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 293)، حيث فيها:"قال ابن وهب عن يونس عن يزيد، أنه سأل ابن شهاب عن رجل اعتكف وشرط أن يطلع إلى قريته اليوم واليومين ويطلع على أهله ويسلم عليهم أو لحاجة. قال: لا شرط في الاعتكاف في السنة التي مضت".
بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: يَنْفَعُهُ شَرْطُهُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُهُمُ الِاعْتِكَافَ بِالْحَجِّ فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَانِعَةٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ مَنْ رَآهُ؛ لِحَدِيثِ ضُبَاعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنْ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي"
(2)
. لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْحَجِّ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْخَصْمِ الْمُخَالِفِ).
الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة، اختلفت فيه الأقوال:
فقال مالك، والشافعي، وأحمد، والأحناف: ليس له فِعْلُه.
قال أحمد: يشهد الجنازة، ويعود المريض، ولا يجلس، ويقضي الحاجة، ويعود إلى معتكفه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ فِي النَّذْرِ، أَوْ كَانَ التَّتَابُعُ لَازِمًا: فَمُطْلَقُ النَّذْرِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مَا هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي إِذَا قَطَعَتِ الِاعْتِكَافَ أَوْجَبَتِ الِاسْتِئْنَافَ أَوِ الْبِنَاءَ مِثْلُ الْمَرَضِ؟ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا قَطَعَ الْمَرَضُ الِاعْتِكَافَ بَنَى الْمُعْتَكِفُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَسْتَأْنِفُ الِاعْتِكَافَ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَلَا خِلَافَ فِيمَا أَحْسَبُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَائِضَ تَبْنِي).
إذا حاضت المرأة، خرجت من المسجد، وهذا لا خلاف فيه؛ لأن
(1)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 115)، حيث قال:"ولا بأس بالاشتراط في الاعتكاف الواجب وذلك أن يقول: إن عرض لي عارض كان لي الخروج".
وهو مذهب أحمد، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 489)، حيث فيه:"فأمَّا عيادةُ المرضَى وشهود الجنازةِ فَلَا يفعل حتَّى يشترط. "مسائل الكوسج" (715) ".
(2)
أخرجه مسلم (1208).
الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة، وآكد منه، وإذا ثبت هذا فإن المسجد إن لم يكن له رَحْبة، رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت فأتمت اعتكافها، وقضت ما فاتها، ولا كفارة عليها.
وقال مالك، والشافعي: ترجع إلى منزلها، فإذا طهرت فلترجع؛ لأنه وجب عليها الخروج من المسجد، فلم يلزمها الإقامة في رحبته، كالخارجة لعدة، أو خوف فتنة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَمْ لَيْسَ يَخْرُجُ؟).
لا حرج إذا خرج لما له بدٌّ، فإذا خرج لما ليس له منه بد، بطل اعتكافه وإن قل. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم؛ لأن اليسير معفوٌّ عنه، بدليل: أن صفية رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه، فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلِبَها. ولأن اليسير معفو عنه، بدليل ما لو تأنى في مشيه.
والصواب: أن هذا خروج من معتكفه لغير حاجة، فأبطله، كما لو أقام أكثر من نصف يوم، وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له بد؛ لأنه كان ليلًا، فلم يأمن عليها، ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعًا، له ترك جميعه، فكان له ترك بعضه، ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه. وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس، وعليه في تغيير مشْيِه مشقة، ولا كذلك هاهنا، فإنه لا حاجة به إلى الخروج.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا جُنَّ الْمُعْتَكِفُ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ: هَلْ يَبْنِي أَوْ لَيْسَ يَبْنِي بَلْ يَسْتَقْبِلُ؟
(1)
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ:
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الأصل المعروف بالمبسوط"، للشيباني (2/ 284)، حيث قال:"وإذا أغمى على المعتكف أيامًا أو أصابه لمم فى اعتكاف واجب عليه فعليه إذا برئ وصح أن يستقبل الاعتكاف".=
أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ مَحْدُودٌ مِنْ قِبَلِ السَّمْعِ، فَيَقَعُ التَّنَازُعُ مِنْ قِبَلِ تَشْبِيهِهِمْ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَعْنِي: بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي مِنْ شَرْطِهَا التَّتَابُعُ، مِثْل صَوْمِ النَّهَارِ وَغَيْرِهِ).
إن تعذر عليه المقام في المسجد؛ لمرض لا يمكنه المقام معه فيه، كالقيام المتدارك، أو سَلَسِ البول، أو الإغماء، أو لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة، مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش، فله الخروج.
وإن كان المرض خفيفًا، كالصداع، ووجع الضرس، ونحوه، فليس له الخروج. فإن خرج بطل اعتكافه. وله الخروج إلى ما يتعين عليه من الواجب، مثل الخروج في النفير إذا عَمَّ، أو حضر عدو يخافون كلبه، واحتيج إلى خروج المعتكف، لزمه الخروج؛ لأنه واجب متعيِّن، فلزم الخروج إليه، كالخروج إلى الجمعة.
وإذا خرج ثم زال عذره، نظرنا، فإن كان تطوعًا فهو مخيَّر، إن شاء رجع إلى معتكفه، وإن شاء لم يرجع، وإن كان واجبًا رجع إلى معتكفه، فبنى على ما مضى من اعتكافه.
= ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 291)، حيث قال:"قلت: أرأيت من دخل في اعتكافه فأغمي عليه أو جن بعدما اعتكف أيامًا؟ فقال: إذا صح بَنَى على اعتكافه ووصل ذلك بالأيام التي اعتكفها، فان هو لم يصلها استأنف ولم يبنِ. قلت: أتحفظه عن مالك؟ فقال: قال مالك في المغمى عليه والمجنون: أنه مرض من الأمراض وهذا مثله".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 495)، حيث قال:"فأما إذا جُنَ المعتكف ثم أفاق فلا يختلف المذهب، أنه يبني على اعتكافه سواء خرج من المسجد في حال جنونه أم لا؛ لأن فعل المجنون كلا فعل فكان أسوأ حالًا من الناسي، وإنما لم يبطل أعتكافه بالجنون؛ لأنه مغلوب على زوال عقله بأمر هو فيه معذور، فصار كمن غلب على الخروج، وكذلك لو أغمي عليه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف"، للمرداوي (3/ 358)، حيث قال:"ولا يبطل بإغماء جزم به في الرعاية وغيرها، واقتصر عليه في الفروع".
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ
(1)
عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ الْمُتَطَوِّعِ إِذَا قُطِعَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ؛ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ
(2)
. وَأَمَّا الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ فَلَا خِلَافَ فِي قَضَائِهِ، فِيمَا أَحْسَبُ
(3)
).
إن كان تطوعًا، فلا قضاء عليه؛ لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة.
وإن كان نذرًا نظرنا، فإن كان نذَر أيامًا متتابعة، فسد ما مضى من اعتكافه، واستأنف؛ لأن التتابع وصْف في الاعتكاف، وقد أمكنه الوفاء به، فلزمه، وإن كان نذَر أيامًا معينة، كالعشرة الأواخر من شهر رمضان، ففيه وجهان؛ أحدهما، يبطل ما مضى، ويستأنفه؛ لأنه نذَر اعتكافًا متتابعًا، فبطل بالخروج منه، كما لو قيده بالتتابع بلفظه.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ
(4)
أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً انْقَطَعَ اعْتِكَافُهُ).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 244)، حيث قال:"وأهل العلم متفقون على أنه لا يجب قضاء الاعتكاف إلا على من نواه وشرع في فعله ثم قطعه لعذر".
(2)
أخرج البخاري (2033): عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْربَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زينَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الأَخْبيَةَ، فَقَالَ:"مَا هَذَا؟ " فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"آلبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ؟ " فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
(3)
لعله يُستفاد من قول ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 244)، حيث قال:"وأهل العلم متفقون على أنه لا يجب قضاء الاعتكاف إلا على من نواه وشرع في فعله ثم قطعه لعذر".
(4)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(2/ 450)، حيث قال:"ولا يبطل بإنزال بفكر أو نظر، ولا بسكر ليلًا". =
مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة في المعتكف يأتي الكبيرة أنه قد بطل اعتكافه.
* قوله: (فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا رَأَيْنَا أَنْ نُثْبِتَهُ فِي أُصُولِ هَذَا البَابِ وَقَوَاعِدِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحِبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا).
هذا ما أثبته المؤلف رحمه الله من أساسات وقواعد كتاب الصيام والاعتكاف، واللَّه الموفِّق.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
= مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 354)، حيث قال:"ومن أتى كبيرة في اعتكافه بشرب خمر أو غيره فسد اعتكافه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب في شرح روض الطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 436)، حيث قال:" (متى ارتد) المعتكف (أو سكر) بمحرم (بطل اعتكافه) زمن الردة والسكر، وإن لم يخرج من المسجد لعدم أهليته للعبادة (وتتابعه وإن لم يخرج)؛ لأن ذلك أشد من خروجه بلا عذر وهو يقطع التتابع، كما سيأتي. وأما نص الشافعي على عدم بطلان اعتكاف المرتد فحملوه على غير المتتابع حتى إذا أسلم يبني، بل نقل الماوردي وغيره أن الشافعي أمر الربيع أن يضرب على هذا النص".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف"، للمرداوي (3/ 382)، حيث قال:"لو سكر في اعتكافه فسد، ولو كان ليلًا، ولو شرب ولم يسكر، أو أتى كبيرة، فقال المجد: ظاهر كلام القاضي: لا يفسد، واقتصر هو وصاحب الفروع عليه".
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
(كِتَابُ الْحَجِّ)
قصد المؤلف (كِتَابُ الْحَجِّ)، يعني: هذا (كتاب الحج)، والمراد: الكتاب الذي معنا فيه أحكام الحج
(1)
، والمؤلف -كما قلنا- كعادته لن يستوعب جميع المسائل، لكنه في (كتاب الحج) أيضًا اختلف عن غيره، كما لاحظتم في (كتاب الذبائح) تَوَسَّع المؤلف، وكان المؤلف في (كتاب الحج) أخرجه عن "بداية المجتهد"، ثم رأى بعد ذلك أن يضمه فيه، فألحقه به.
(1)
الحج في اللغة: القصد إلى مُعَظَّم. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 226).
والحج شرعًا عند الحنفية: هو زيارة البيت على وجه التَّعظيم. انظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 409).
وعند المالكية: هو وقوفٌ بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة، وطواف بالبيت سبعًا، وسعي بين الصفا والمروة كذلك، على وجه مخصوص بإحرام. انظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 2).
وعند الشافعية: قصد الكعبة للنُّسك. انظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 443).
وعند الحنابلة: هو قَصد مكة للنُّسك في زمن مخصوص. انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (1/ 334).
[الْجِنْسُ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الحج وَشُرُوطِهِ]
* قال: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ: الْجِنْسُ الْأَوَّلُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَجْرَى الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا لِعَمَلِ هَذِهِ العِبَادَةِ).
يعني: الإنسان إذا عزم على الحج، وقصد ذلك يَنبغي له حقيقةً أن يَعرف ما يحتاج إليه من أُمور الحج، يعني: لا ينبغي للمسلم أن يعزم أن يحج وهو لا يُدرك أُمور الحج، حتى وإن لم يكن عالمًا ولا من طلاب العلم، وهناك كتب قيِّمة عن المناسك طُبِعت، وتوزع كثيرًا، وفيها فوائد كثيرة، فيأخذها الإنسان فتكون بمثابة دليل يرشده إلى الطريق، يعني: الإنسان عندما يريد أن يسافر إلى مكان ما، وهو لا يعرفه يحتاج إلى إنسان يأخذ بيده، فيدله على الطريق، فهذا الكتيب الذي معك وهذه الرسالة بمثابة كشَّاف يُضيء لك الطريق، فلتقرأ فيه. نعم أنت لا تستطيع أن تعرف دقيق المسائل ولا جزئياتها، لكنك تعرف الأُمور الجوهرية، تعرف كيف تُحرم؟ كيف تدخل في الإحرام؟ كيف تسير في طريقك؟ كيفية الطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، والوقوف بعرفة، والذبح، والرمي. . كل هذه الأُمور ينبغي للمسلم أن يكون على معرفة بها.
(الْجِنْسُ الثَّانِي: فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَرْكانِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الْمَعْمُولَةُ أَنْفُسُهَا وَالْأَشْيَاءُ الْمَتْرُوكَةُ).
يعني: أنتم تعرفون أن الحج يشتمل على أركان
(1)
مِثل الوقوف
(1)
اعلم أنَّ كل واحد من الركن والشرط يتوقف وجود الماهية عليه، لكن الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الركن داخل في الماهية؛ كالركوع للصلاة، وسائر أركانها، والشرط خارج عنها؛ كالوضوء لها، وسائر شروطها.
الوجه الثاني: أن الركن يتوقف عليه الوجود الذهني والخارجي جميعًا، والشرط إنَّما =
بعرفة
(1)
. لو أن إنسانًا ما وقف بعرفة ولو للحظات في وقت الوقوف لا حج له.
ومثلًا لو أنه ما نوى الحج -أيضًا والنية ركن، وهي الدخول في النسك-، فلا حج له.
إذًا هناك أركان، والركن لا يَسقط في السهو ولا في العَمد، وهناك واجبات
(2)
لو قَصَّرت فيها تَجبرها بدم، وهناك سنن يُستحب لك أن تفعلها، لكن المسلم يحاول دائمًا أن لا يُفرط في أيِّ أمر من الأُمور المتعلقة بالمناسك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي- فُرض الحج ولم يَحج مباشرةً، وهناك أسباب سنتبيَّنها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حَجَّ ومعه جمعٌ غفير من المؤمنين صَحِبوه من المدينة، وهناك مَن لحق به، وهناك من هم في مكة، وأيضًا في المناسك وفي المشاعر كان يقول:"خُذُوا عَنِّي مناسككم"
(3)
.
إذًا، الأولى بالمسلم أن يبذل غاية جهده وطاقته في أن يكون حجه على وفق الطريقة التي حج عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدر الإمكان.
* قال: (الْجِنْسُ الثَّالِثُ: فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى الْأُمُورِ اللَّاحِقَةِ، وَهِيَ أَحْكَامُ الْأَفْعَالِ.
= يتوقف عليه الوجود الخارجي فقط، مع تحقق الوجود في الذهن، فيمكننا أن نتصور صورة الصلاة بلا وضوء، ولا يُمكننا أن نتصورها في أذهاننا بلا ركوع.
وأبين من هذا: أننا نتصور حقيقة العِلم بدون تصور حقيقة الحياة، لكن قيام العلم بمحله في الخارج لا بدَّ فيه من الحياة؛ لأنها شرطه. انظر:"شرح مختصر الروضة" للصرصري (1/ 404).
(1)
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنَّ الوقوف بعرفة فرضٌ، ولا حَجَّ لمن فاته الوقوف بها". انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 57).
(2)
الواجب: هو الحتم واللازم الذي لا خِيرة فيه. انظر: "الموافقات" للشاطبي (1/ 477).
(3)
أخرجه مسلم (1297).
وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مُشْتَمِلَةً عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَجْنَاسِ).
وأنتم تعلمون أن الحج جمع بين أمرين: عبادة بدنية وعبادة مالية، فأنت تحتاج إلى مالٍ لتنفق منه، وأنت أيضًا تستخدم بدنك في الحج، ألست تسافر فتحتاج إلى المشي لتطوف وتسعى، يعني: بين الصفا والمروة
(1)
، وتقف بعرفة، وتذهب لرمي الجمرات. . .
إذًا، أنت تنفق، وكذلك -أيضًا- تستخدم بدنك في هذه الطاعة.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْجِنْسُ الْأَوَّلُ: وَهَذَا الْجِنْسُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى مَعْرِفَةِ الْوُجُوبِ وَشُرُوطِهِ. وَعَلَى مَنْ يَجِبُ؟ وَمَتَى يَجِبُ؟).
(1)
السعي بين الصفا والمروة واجبٌ عند الحنفية.
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 163)، حيث قال:"ومَن ترك السعي بين الصَّفا والمروة فعليه دمٌ، وحجه تام؛ لأن السعي من الواجبات عندنا، فيلزم بتركه الدم دون الفساد".
وهو ركن عند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 84)، حيث قال:"وما ذكره المصنف من أنَّ السعي ركن هو المعروف من المذهب؛ فمن ترك السعي أو شوطًا منه أو ذراعًا من حج أو عمرة صحيحتين أو فاسدتين - رَجَعَ له مِن بلده، وروى ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك: أن السعي واجب يُجبر بدم إذا رجع لبلده، والرواية المذكورة عن مالك هي: مَن ترك السعي حتى تَباعد وأطال وأصاب النساء أنه يُهدي ويجزيه".
وركن عند الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 285) حيث قال: "رابعها: السعي بين الصَّفا والمروة؛ لما روى الدارقطني وغيره بإسناد حسن: "أنَّه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في السَّعي، وقال:"يا أيها الناس، اسعوا؛ فإن السعي قد كُتِب عليكم".
وركن عند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 596)، حيث قال:"والرابع: السعي بين الصفا والمروة؛ لحديث عائشة قالت: "طاف رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، يعني: بين الصفا والمروة، فكانت سُنة، فلعمري ما أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَن لم يَطف بين الصفا والمروة"، رواه مسلم".
إذًا، على مَن يجب الحج؟
لا يجب الحج على كل إنسان، بل هناك شروط لا بدَّ من توافرها
(1)
، هذه الشروط إذا توفرت وجب الحج، وهذه الشروط منها ما هي شروط صحة، ومنها ما هي شروط وجوب، فهناك مَن يجب عليه الحج ويصح منه، وهناك مَن يُطلب منهم هذا الفرض لكن لا يصحُّ منهم، وهناك مَن يصح منهم، لكن لا يَكفيه عن حجة الإسلام؛ كالصبي
(2)
،
(1)
شروط الحج عند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 313)، حيث قال:"وشرط وجوبه: الإسلام، والعقل، والبلوغ. وشرط وجوب أدائه: الصحة، والإقامة. وشرط صحة أدائه: النية، والطهارة عن الحيض والنفاس. وركنه: الكف عن اقتضاء شهوتي البطن والفرج".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 475)، حيث قال:"شروط وجوبه ثلاثة: البلوغ، والعقل، والحرية، ولأدائه شرط واحد: وهو الاستطاعة، ثم قال: ولا خلاف أنَّ الاستطاعة شرط في أداء الحج، وإنما الخلاف في تعيينها".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 241)، حيث قال:" (وشرط)، أي: وشروط (وجوبه)؛ أي: ما ذكر من حج أو عمرة: (الإسلام، والتكليف، والحرية، والاستطاعة) إجماعًا، وقال تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 512)، حيث قال:"بشروط خمسة، وهي: إسلام، وعقل، وهما شرطان للوجوب والصحة؛ فلا يصحان مِن كافر ومجنون، ولو أَحرم عنه وَلِيُّه، وبلوغ، وكمال حرية، وهما شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة، وتأتي الاستطاعة، وهي شرط للوجوب دون الإجزاء".
(2)
البلوغ مِن شروط وجوب الحج عند الأئمة الأربعة.
فمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 3)، حيث قال:"وأما اشتراط البلوغ والحرية فلقوله عليه الصلاة والسلام: "أيُّما صبي حَجَّ به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حَجَّ بأهله فمات، فأجزأت عنه، فإن أعتق فعليه الحج".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 490)، حيث قال:"شروط وجوب الحج: الحرية، والبلوغ، والعقل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 241)، حيث قال:" (وشرط)، أي: وشروط (وجوبه)؛ أي: ما ذكر من حَج أو عمرة: (الإسلام، والتكليف، والحرية، والاستطاعة) إجماعًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 378)، حيث قال:"شرائط وجوب الحج والعمرة بخمسة شروط. . . الشرط الثالث: البلوغ".
وكذلك المملوك
(1)
، على الرأي الصحيح بالنسبة للمملوك.
* قال: (فَأَمَّا وُجُوبُهُ: فَلَا خِلَافَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فِوَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]).
المؤلف هنا -كما ترون- لم يدخل في تفصيل هذه المسألة؛ أي: في الأدلة على وجوب الحج؛ لأن هذه قضية مُسَلَّمة؛ لأن الحج ركن من أركان الإسلام
(2)
، لكن لا مانع أن نُشير ولو بعض الشيء إلى أهمية ذلك، نحن نقول: الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وهو خامس الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، والدليل على وجوبه: الكتاب والسُّنة والإجماع.
(1)
لا يجب الحج على المملوك عند الأئمة الأربعة.
فعند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 3)، حيث قال:"ولا مال للعبد؛ ولأنه مشغول بخدمة المولى، فلو وجب عليه الحج لبطل حق المولى في زمان طويل، وحق العبد مُقَدَّم، فصار كالجهاد بخلاف الصلاة والصوم؛ لأن وقتهما يسير، ولا يحتاج فيهما إلى المال".
وعند المالكية، يُنظر:"شرح صختصر خليل" للخرشي (2/ 284)، حيث قال:"الحرية والتكليف شرط في وجوب الحج، فلا يجب على عبد، ولا على مَن فيه بقية رِق من مكاتب ومبعض، ولو قَلَّ جزؤه ونحوهما".
وعند الشافعية، ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1214)، حيث قال:" (وشرط وجوبه). . .، والتكليف، والحرية، والاستطاعة بالإجماع، فلا يجب على أضداد هؤلاء لنقصهم".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 379)، حيث قال:" (فلا يجب) الحج ولا العمرة (على الصَّغير) للخبر، ولأنه غير مكلف (ولا على قن)؛ لأن مُدَّتهما تَطول، فلم يجبا عليه لما فيه من إبطال حق السيد؛ كالجهاد، وفيه نظر؛ لأن القصد منه الشهادة. قاله في "المبدع".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 41)، حيث قال:"اتفقوا أن الحر المسلم العاقل البالغ الصَّحيح الجسم واليدين والبصر والرِّجلين الذي يجد زادًا وراحلة وشيئًا يتخلف لأهله مدة مُضيه، وليس في طريقه بحر، ولا خوف، ولا منعه أبواه أو أحدهما، فإنَّ الحج عليه فرض".
أمَّا الكتاب؛ فقول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، و"على" إنَّما هي من صيغ الوجوب، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
وأمَّا السُّنة ففيها أحاديث كثيرة؛ منها: حديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأنَّ محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحَج البيت من استطاع إليه سبيلًا"
(1)
، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أيضًا في الحديث الصَّحيح:"يا أيُّها الناس، قد فرض اللَّه عليكم الحَج؛ فَحُجوا"، فقام رجل، فقال: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فلم يَرد عليه صلى الله عليه وسلم، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم"، ثم انظروا إلى التوجيه النبوي الكريم:"ذَروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"
(2)
، وانظروا -أيضًا- إلى رحمة اللَّه تعالى بعباده، "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم"، فلا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، فأنت أُمرت بأمر؛ أمرت -مثلًا- بأن تصلي قائمًا، فإن عجزت تصلي قاعدًا، وإن عجزت تصلي -أيضًا- على جنبك، وهكذا، إذًا فاتَّقِ اللَّه على قدر طاقتك، لكنه بعد ذلك قال:"وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فالترك سهل، وهو أن تجتنبه، لكن مع الأسف جدًّا أن ترك المعاصي يقع فيه كثير من المسلمين.
* قال: (وَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ: فَإِنَّ الشُّرُوطَ قِسْمَانِ: شُرُوطُ صِحَّةٍ، وَشُرُوطُ وُجُوبٍ).
أولًا: يشترط فيمن يَحج من حيث العموم: أن يكون مسلمًا، وأن
(1)
أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).
(2)
أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1337).
يكون بالغًا، وأن يكون عاقلًا، وأن يكون حرًّا، وأن يكون قادرًا؛ يعني: عنده الاستطاعة
(1)
.
فيجب أن يكون مسلمًا؛ لماذا بدأ بهذا القيد؟ لأن الكافر أولًا: لا يُطالب بأداء الحج، ولا يُطالب بقضائه بعد أن يُسلم، لكنه يعاقب على تركه؛ لماذا؟
(2)
؛ لأن الأصل أن الكافر مُطالب بأن يُسلم، والحج ركن من أركان الإسلام، فكان عليه أن يُؤديه، فلما لم يؤده يُضاف إلى عقوبته عقوبة أُخرى، وهي عدم إيمانه؛ قال سبحانه:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47].
(1)
اختلف الأئمة الأربعة في الاستطاعة:
فعند الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 419)، حيث قال: "اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة: أنه شرط نفس الوجوب، أو شرط الأداء؛ فمنهم مَن ذهب إلى الأول لما مَرَّ أن الاستطاعة لا تَثبت بدونه، (وهو مروي عنه)، ومنهم مَن ذهب إلى الثاني؛ (لأنه عليه الصلاة والسلام فَسَّر الاستطاعة بالزَّاد والراحلة، لا غير).
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 475)، حيث قال:"وجعل ابنُ الحاج الاستطاعةَ -أيضًا- من شروط الصحة، ونقله عن التادلي، وجعله في "الشامل" مقابل الأصح، وتبعه الشيخ زروق، ونص كلام ابن الحاج في "مناسكه": "وشروط وجوبه ثلاثة: البلوغ، والعقل، والحرية، ولأدائه شرط واحد، وهو الاستطاعة"، ثم قال: "ولا خلاف أن الاستطاعة شرط في أداء الحج، وإنما الخلاف في تعيينها".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 241)، حيث قال:"وشروط (وجوبه)؛ أي: ما ذكر من حَج أو عمرة: (الإسلام، والتكليف، والحرية، والاستطاعة) إجماعًا. . .، (وهي)؛ أي: الاستطاعة (نوعان، أحدهما: استطاعة مباشرة) لحج أو عمرة بنفسه، (ولها شروط) سبعة. . . ".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 512)، حيث قال:"وتأتي الاستطاعة، وهي شرط للوجوب دون الإجزاء".
(2)
كلام الشارح يُشير إلى مسألة: هل الكافر مخاطب بفروع الشريعة؟ وسيأتي الكلام عليها.
* قال: (فَأَمَّا شُرُوطُ الصِّحَّةِ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ الْإِسْلَامَ، إِذْ لَا يَصِحُّ حَجُّ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ).
كما قال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]؛ لماذا لا تُقبل نفقات الكافر؟ الكافر ربما يَبني مسجدًا، يبني المستشفيات، ويضع القناطر والسكك، ربما ينفق أموالًا كبيرة في سبيل إصلاح المجتمع، وما نعرفه الآن بما يتعلَّق بخدمات المجتمع؛ قد يحمل أعمالًا كثيرة، ويتبرع ويتصدق، وهي أعمال في ظاهرها طيبة، لكنها لا تنفع لماذا؟ لأنهم كفروا باللَّه وبرسوله، إذًا كفره باللَّه وبرسوله هو الذي منعه أن يستفيد من هذه الأعمال، فإن أراد أن تُسجل له هذه الأعمال، وأن يستفيد منها فعليه أن يبادر بالدخول في الإسلام؛ لأنه كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
* قال: (وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِ مِنَ الصَّبِيِّ).
إذًا يُشترط أن يكون مسلمًا، وأن يكون -أيضًا- بالغًا، هذا هو الشرط الثاني، فهل الصبي
(1)
يَحج أو لا؟ هناك أمران، إذا قلنا: يحج.
(1)
حَجُّ الصبي عند الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (4/ 142)، حيث قال:"قال ابن المنذر: أجمع أهلُ العلم إلا مَن لا يعتد بخلافه: أن الصبي والعبد لا يُعتبر حجهما في حجة الإسلام، فإذا بلغ الصبي وأعتق العبد، ووجدا إليه سبيلًا يجب عليهما".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 476)، حيث قال:"قال في "الإكمال": ولا خلاف بين أئمة العلم في جواز الحج بالصبيان إلا قومًا مِن أهل البدِع مَنعوه، ولا يُلتفت لقولهم، وفِعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجماع الأئمة والصحابة يَرُدُّ قولهم، وإنما الخلاف للعلماء: هل يَنعقد عليهم حكم الحج، وفائدة الخلاف: إلزامهم من الفدية والدم والجَبر ما يَلزم الكبير أم لا؟ ".
وعند الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 10)، حيث قال: "ولو بلغ بعد =
وقلنا: إنَّ حجه صحيح، فهل يكفيه عن حجة الإسلام أم لا؟ الصحيح: أن الصبي يصح حجه، والدليل على ذلك: قصة تلكم المرأة التي رفعت صبيًّا، فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حَجٌّ؟ قال:"نعم، ولك أجر"
(1)
، إذًا هو له حج، وأضاف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم
(2)
بأن لها أجرًا؛ لأن أسلوبه صلى الله عليه وسلم الجواب بحكمة، كما أجاب عن سؤالهم: إنَّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا! فماذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال:"هو الطَّهور ماؤه، الحِلُّ مَيتته"
(3)
، فلما رآهم قد ترددوا في طهارة ماء البحر خشي -أيضًا- أن يَترددوا فيما هو أهم، ألا وهو لحمه، فقال:"هو الطَّهور ماؤه، الحِل ميتته"، وهنا قال:"نعم، ولك أجر"، "نَعَمْ"، ثم أضاف:"ولَكِ أجر"؛ لماذا؟ لأنها ستكون سببًا في أن هذا الصبي يؤدي هذه القُربة، وهي ستسجل لهذا الصغير في سجل حسناته، فهو وإن كان صغيرًا غير مكلف، لكنه يثاب على أعماله الصالحة، فإذا تسببت في عمل من أعمال الخير، بأن أخذت -مثلًا- بيد أخيك المسلم وأرشدته إلى الطريق، أو دللته وأرشدته إلى مسألة من المسائل اليسيرة، فأنت ستثاب على ذلك، فكل عمل تعمله في هذه الحياة من أعمال الخير ستجده مكتوبًا مدونًا مُسطرًا لك، ستجده ذخره في يوم القيامة، الآن مثلًا إنسان يَجمع أموالًا؟ لماذا يجمع هذا الأموال؟ يجمع
= الوقوف وقبل خروج وقته ولم يَعد إلى الموقف لم يُجزئه عن حجة الإسلام على الصَّحيح".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 379)، حيث قال:" (فلا يجب) الحج ولا العمرة (على الصغير) للخبر، ولأنه غير مكلف. . .، (ويصح) الحج (منهم)؛ كالعمرة؛ أي: مِن الصغير؛ لحديث ابن عباس: "أنَّ امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا، فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حج؟ قال:"دعَمْ، ولكِ أجر"، رواه مسلم".
(1)
أخرجه مسلم (1336).
(2)
جوامع الكلم: واحدها: جامعة، وهي الألفاظ اليسيرة ذات المعاني الكثيرة. انظر:"النهاية" لابن الأثير (1/ 295).
(3)
أخرجه أبو داود (83)، وغيره، وصححه الألباني في "المشكاة"(479).
هذه الأموال؛ لأن من الأسباب: أنه قد يأتي يوم من الأيام لا يستطيع أن يعمل، فيجد أنه قد ادَّخر هذا المال، فيخدمه في آخر حياته، إذًا هذه أعمال الخير التي تُقدمها في وقت شبابك وفي وقت قدرتك إنما تدخرها ليوم عظيم، ستجد أنها تَسبقك في ذلك اليوم، فعندما توضع الموازين تجد أن تلك الأعمال ستنال عليها الثواب الكبير في ذلك اليوم العظيم.
(فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ).
أي: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد إلى صحة حَجِّ الصبي
(1)
.
(وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ لِلْأُصُولِ).
أولًا: هناك علامات للبلوغ عِدَّة
(2)
؛ منها: أن يبلغ الإنسان سِنَّ البلوغ، وهذا يشترك فيه الصغير والصبي، ومنها أيضًا: الإنبات، يعني: أن يَنبت شعر العانة، ومنها أيضًا: أن يَحتلم، هذه كلها من علامات البلوغ، فهذا معناه أنه قد بلغ، ومن قبل ذلك لا يكون بالغًا؛ أي: لا يكون مُكَلَّفًا، فيكون مرفوعًا عنه القلم، لكنهم يختلفون: هناك صبي صغير غير مُميز، وهناك صبي مميز مُدرك، ولذلك ترون قصة الصحابي
(3)
الذي كان في السنة الرابعة أو قريبًا منها، وعقل مجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوجهه، فالذكاء
(1)
تقدَّم.
(2)
علامات البلوغ سِتٌّ:
1 -
منها ما هو مُشترك بين الرجل والمرأة، وهو بلوغ خمس عشرة سنة، ونَبات شَعر العانة، وإنزال المني.
2 -
ومنها ما هو خاصٌّ بالرجال فقط، وهو نبات شعر اللحية والشارب.
3 -
ومنها ما هو خاص بالنساء فقط، وهو الحيض والحمل. انظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 109)، و"شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 404)، و"أسنى المطالب" للأنصاري (2/ 206)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 173).
(3)
هو محمود بن الرَّبيع، وحديثه أخرجه البخاري (77) قال:"عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي، وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ".
والفطنة والمواهب إنما هي من اللَّه سبحانه وتعالى، فاللَّه يعطي هذا ذكاءً ونبوغًا قويًّا، وهذا يجعله متوسطًا، وهذا يجعله دون ذلك، هذا يعطيه المال، وهذا يجعله فقيرًا، وهذا يَهبه قوة في البدن، وهذا أيضًا يجعله دون ذلك لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، إذًا الصغار -أيضًا- ليسوا كلهم على نسق واحد، وهذا يعرفه كل إنسان منا أثناء التلقِّي، هؤلاء الطلاب الذين هم في فصل واحد قد يصل عددهم إلى مائة أو إلى ثمانين أو سبعين أو حتى عشرين، هل كلهم في درجة واحدة من الذكاء والفطنة؟ لا، فتجد منهم المبدع الذكي الفَطِن،
وتجد منهم المتوسط، وتجد منهم مَن هو دون ذلك، إذًا، هذه مواهب وهبها اللَّه سبحانه وتعالى لعباده، كذلك هؤلاء الصغار قد تجد مِن الصغار مَن عنده من التصرف والحكمة والعقل والدراية مَن هو أحسن من الكبير، ولذلك الحَجْرُ
(1)
على نوعين: حَجر على صغير، وحجر على كبير، فقد تجد إنسانًا وصل الثلاثين من عمره ويحجر عليه في ماله؛ لأنه يتصرَّف تصرُّفَ السفهاء، واللَّه تعالى يقول:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5]، ثم قال:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فبالنسبة للصغار فإنهم يختلفون؛ فقد تجد من الصغار مَن هو فطن فيتصرف تصرفات عظيمة ويكون في سِنِّ السابعة أو السادسة، ومنهم من هو دون ذلك.
* قال: (وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَخَذَ فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورِ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِيهِ:"أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ"
(2)
.
وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ تَمَسَّكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عَاقِلٍ).
(1)
الحَجْر: المَنْع مِنَ التصَرُّف. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 342).
(2)
تقدَّم تخريجه.
هنا لا تصح من غير عاقل، ما معنى هذا؟ أنتم تذكرون حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي -أيضًا- من طريق عائشة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"رُفع القلم عن ثلاثٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يحتلم"
(1)
، إذًا، ذكر هنا ثلاثة؛ ذكر المجنون، وذكر الصغير، وذكر النائم، والنائم معروف أنه في وقت نومه مرفوع عنه القلم، لكنه إذا صحا يُطالب بما غفل عنه؛ كالصلاة:"مَن نام عن صلاة أو نَسِيَها فَلْيُصلها متى ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك"
(2)
، لكن الحديث هنا على أن الصبي والمجنون غير مكلفين.
والحنفية
(3)
يقولون: إذا قلتم بأن الحج يصح من الصبي، فكأنكم كَلَّفتموه بذلك، وهذا خلاف ما أرشد إليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال:"رفع القلم عن ثلاث. . . "، وأنتم كأنكم وضعتم القلم عليه، فإذا صححتم منه هذه العبادة فكأنكم طالبتموه بالتكليف.
والجمهور يقولون: لا، نحن ما طلبناهما بالتكليف، نحن نقول: هذه قربة، وهذا عمل خير يُثاب عليه، لكن هذا لا يكفيه، كما جاء في حديث -وإن كان فيه مقال-:"أنَّ مَن حَجَّ ثم عتق، أو حج وهو صغير، فإنه يَحج بعد ذلك"
(4)
، يعني: لو حج إنسان صغير ثم بلغ، فإنه يُعيد تلك الحجة، وكذلك -أيضًا- مَن حج وهو مملوك ثم أعتق، فإنه يَحج حجة الإسلام، هذا جاء في حديث فيه كلام للعلماء، ربما يَمر بنا
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4401) وغيره، وصححه الألباني في "الإرواء"(297).
(2)
أخرجه البخاري (572)، ومسلم (684).
(3)
عند الحنفية: الحج مُشتمل على المالي والبدني، وفي نية الصبي قصور؛ ولهذا سقطت عنه الفرائض كلها. انظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 3).
(4)
معنى حديث أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3/ 140)، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيُّما صبي حَجَّ ثم بلغ الحنث عليه أن يَحج حجة أُخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أُخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه أن يحج حجة أخرى"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(986).
(5)
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 482)، حيث قال: "قال =
* قال: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا مِنَ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ).
الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق في حديثه فقال: "نَعَم، ولكِ أجر"، ولم يُحدد سن الطفل، لكننا نفرق في هذا الصغير بأن نقسمه إلى قسمين:
مُميز مدرك، فهذا يوجهه والده، وهو يعمل كل الأعمال التي يعملها الإنسان الكبير إلا التي يَعجز عنها، مثل ألا يستطيع أن يرمي الجمرات، فيشق عليه بعض الأُمور، فوليه ينوب عنه.
أما الصغير عير المميز فإنَّ وليه ينوي الإحرام عنه، فيقوم بجميع أعماله.
لكن تبقى قضية إذا جاء يطوف ويسعى: هل يطوف طوافًا واحدًا ويكفيه عنه وعن هذا الصغير؟ أم لا بدَّ من أن يطوف عن الصغير أولًا، ثم يطوف عن نفسه، وهل يفعل كذلك كذلك في السعي أم لا؟
هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء، منهم من قال: يكفي طواف واحد وسعي واحد، ومنهم مَن يقول: لا بدَّ من طوافين، والأحوط للمسلم هنا: أن يطوف وأن يسعى سَعْيَين
(1)
.
= سند: الصبي يصح حجُّه، فإن كان مميزًا أذن له وليه، فأحرم، وصَحَّ إحرامه، وإن كان صغيرًا أحرم عنه وليُّه، فيصير الصبي محرمًا بما ينويه وليُّه من حج أو عمرة".
وعند الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 206)، حيث قال:"أما إحرام الصبي فصحيح، فإن كان مراهقًا صَحَّ إحرامه بنفسه، وإن كان طفلًا أحرم عنه وليُّه، وكان إحرامه للصبي شرعيًّا، وإن فعل الصبي ما يوجب الفدية لزمته الفدية".
وعند الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 379)، حيث قال:" (ولا يجزئ) حَجُّهم (عن حجة الإسلام)؛ لقول ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أُخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أُخرى"، رواه الشافعي والبيهقي. . .، ولأنهم فعلوا ذلك قبل وجوبه فلم يُجزئهم إذا صاروا من أهله؛ كالصبي يُصلي، ثم يبلغ في الوقت".
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"المحيط البرهاني" لابن مازة (2/ 481)، حيث قال: "والصبي الذي يحج به أبوه يَقضي المناسك، ويرمي الجمار، وإنه على وجهين: =
وكذلك سنأتي في الرمي نرى أن إنسانًا أُنِيب
(1)
عن زوجته التي
= الأول: إذا كان صبيًّا لا يعقل الأداء بنفسه، وفي هذا الوجه إذا أحرم عنه أبوه جاز. وإن كان يعقل الأداء بنفسه يَقضي المناسك كلها، يَفعل مثل ما يفعله البالغ؛ لأن نوافل الصلاة مشروعة في حق الصبي نظرًا له، حتى يثاب عليه لو أتى به، ولو تركه لا يُعاقب عليه، ولو ترك هذا الصبي بعض أعمال الحج نحو الرمي وما أشبهه لم يكن عليه شيء؛ لأنه لو ترك الكل لا شيء عليه، فكذا إذا ترك البعض".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 483)، حيث قال:"وإذا كان الصبي يتكلم، فإنه يُلقن التلبية، وإن كان لا يتكلم لصغره سقط حكم التلبية في حقه، كما يسقط في حق الأخرس الكبير، وإذا سقط وجوبها رأسًا سقط حكم الدم عنها إذا لم يترك واجبًا، وعلى القول بأن التلبية ركن كتكبيرة الإحرام يُلبي عنه وَلِيُّه، كما ينوي عنه".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 479)، حيث قال:" (وإن حمل محرمًا صغيرًا أو كبيرًا أو مَحرمين) صغيرين أو كبيرين أو. . . لعذر أو غيره (حلال أو محرم قد طاف عن نفسه)، أو لم يدخل وقت طوافه، وطاف كل منهما بمحمول (وقع للمحمول) بشرط؛ لأنه كراكب دابة، إذ لا طواف على الحامل، نعم إن قصد الحامل نفسه وحدها أو مع المحمول وقع له أخذًا مما يأتي، (وكذا لو لم يطف)؛ أي: المحرم الحامل عن نفسه ودخل وقت طوافه وقع للمحمول (إن قصده للمحمول)؛ لعدم وقوعه حينئذ؛ لأنه يعتبر عدم صرفه الطواف إلى غرض آخر، وقد صرفه عنه إليه (فإن قصد نفسه أو كليهما)؛ أي: نفسه ومحموله (أو لم يقصد شيئًا وقع للجامع فقط)، وإن قصد محموله نفسه؛ لأنه الطائف، ولم يصرفه عن نفسه ومن هنا يُؤخذ أنه لو حمل حلالًا ونَوَيا وقع للحامل، وسواء في الصغير أَحَمَله وَلِيُّه والذي أحرم عنه أم غيره، لكن ينبغي في حمل غير الولي أن يكون بإذن الولى؛ لأن الصغير إذا طاف راكبًا لا بدَّ أن يكون وليُّه سائقًا أو قائدًا".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 512)، حيث قال:"ويصحان؛ أي: الحج والعمرة من صغير؛ ذكر أو أنثى، ولو ولد لحظة. . ويُحرم ولي في مال عمن لا يُميز؛ لتعذر النية منه، وولي المال: الأب ووصيه والحاكم، وظاهره: لا يصح من غيرهم بلا إذنهم. . . ويُحرم مميز بإذنه؛ أي: الولي عن نفسه؛ لأنه يصح وضوؤه فيصح إحرامه كالبالغ، ولا يُحرم عنه وليه؛ لعدم الدليل، وحكمه حكمه في الضمان".
(1)
قال ابن حجر الهيتمي: "لو أنابه جماعة في الرمي عنهم جاز، كما هو ظاهر". انظر: "تحفة المحتاج"(4/ 137).
لا تستطيع الرمي، أو والده أو والدته، فهذه الشريعة ما جاءت لتكليف الناس بما لا يطيقون، فهناك من يرى أنك ترمي الجمرات مثلًا في اليوم الثاني ثم ترجع وترمي، لا، ارمِ -مثلًا- جمرة العقبة الصغرى في اليوم الثاني، أو جمرة العقبة في يوم النحر عن نفسك، ثم ارمِ عن هذا، وفي اليوم الثاني ترمي الصغرى عن نفسك ثم عن هذا، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، وهكذا في اليوم الثالث أو الرابع إذا لم تتعجل؛ فدين اللَّه يُسر.
(وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ وُقُوعُ الصَّلَاةِ مِنْهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: "مِنَ السَّبْعِ إِلَى الْعَشْرِ").
المؤلف اقتطع جُزءًا من الحديث، وهو حديث:"مُرُوا أبناءكم بالصلاة لِسبع، واضربوهم عليها لِعشر، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع"
(1)
، "مُرُوا": هذا أمر، هنا الأمر ليس أمر إجابة، لكن كما قال الشاعر
(2)
:
وينشأ ناشئ الفتيان مِنَّا
…
على ما كان عَوَّده أبوه
فأنت إذا أخذت الصغير وهو في سِن السادسة أو السابعة أو الثامنة، وبَيَّنت له كيف يتوضأ، وكيف يصلي، ثم صاحبته معك مَرَّأت يعتاد على ذلك تُصبح لديه سجية
(3)
، فيرغب ويلح عليك أحيانًا أن يُرافقك إلى المسجد.
* قال: (وَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ: فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِسْلَامُ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ
(4)
، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ
(1)
أخرجه أبو داود (495)، وحَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود"(509).
(2)
البيت لأبي العلاء المَعري من قصيدة بعنوان: "قد اختَلّ الأنامُ بغيرِ شَكٍّ". انظر: "ديوانه"(ص: 1458).
(3)
السجية: الخلق والطبيعة. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2372).
(4)
يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (1/ 500 - 503)، حيث قال: "والكفار=
الِاسْتِطَاعَةِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]).
هذه مسألة هامة جدًّا أيضًا، وهي مِن شروط الوجوب؛ أي: أنَّ الحَج لا يجب إلا على المستطيع
(1)
، والمستطيع بأن يكون مستطيعًا ببدنه، أي: يكون عنده قدرة بدنية، فيستطيع أن يذهب إلى الحج، وعنده مال يستطيع أن ينفق منه في حاجاته، وأن يكون هذا المال الذي عنده أيضًا زائدًا عن حاجاته الأصلية، وكذلك -أيضًا- عن نفقة أولاده ومَن تلزمه مؤنته؛ لأنه ليس المراد من ذلك أن يكون عند الإنسان مال فيذهب ويترك
= مخاطبون بالفروع؛ أي: بفروع الإسلام. . .، لورود الايات الشاملة لهم، مثل: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} . . .، كما أنهم مخاطبون "بالإيمان" والإسلام إجماعًا؛ لإمكان تحصيل الشرط، وهو الإيمان. "وفائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام:"كثرة عقابهم في الآخرة"، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 132)، حيث قال:"الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزَّاد والراحلة، فاضلًا عن المسكن، وما لا بدَّ منه، وعن نفقة عياله إلى حين عوده، وكان الطريق آمنًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 498)، حيث قال:"الاستطاعة على المشهور: هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة، مع الأمن على النفس والمال".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع" للشربيني (1/ 252)، حيث قال: "الاستطاعة نوعان: أحدهما: استطاعة مباشرة، ولها شروط:
أحدها: (وجود الزاد) الذي يكفيه وأوعيته حتى السفرة، وكلفة ذهابه لمكة ورجوعه منها إلى وطنه.
والثاني من شروط الاستطاعة: وجود (الراحلة) الصالحة لمثله؛ بشراء، أو استئجار بثمن، أو أجرة مثل لمن بينه وبين مكة مَرحلتان فأكثر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 387)، حيث قال:"الاستطاعة: أن يملك زادًا وراحلة لذهابه وعوده، أو يملك ما يَقدر به على تحصيل ذلك؛ أي: الزاد والراحلة؛ من نقد، أو عَرَض".
أولاده عالة يتكففون
(1)
الناس، لا يجدون ما يأكلونه ولا ما يلبسونه، فيذهب للحج ويتركهم هكذ، لا، تِلكم لوازم أولية لا بدَّ أن يُقَدِّمها، إذًا يكون عنده مال زائد عن الحاجات المطلوبة، وألا يكون -أيضًا- عليه حقوق أُخرى، وهذه الحقوق قد تكون حقوق اللَّه سبحانه وتعالى؛ كالحقوق التي تجب -مثلًا- في الكفارات أو النُّذور أو غيرها، وقد يكون حق الإنسان؛ كالديون، وهو أن بعض الناس يقول: أذهب إلى صاحب الدَّين فأستأذنه، فيأذن لي فأحج
(2)
، وهذا غير كافٍ؛ لأنَّ المراد ألا تكون ذمتك مشغولة بحق غيرك؛ لأنه لو كان عليك دين وأردت أن تحج فكان الأولى بك أن تُسَدِّد هذه الديون لماذا؟ لأن الإنسان لو مات في هذه الفترة وعليه دَيْن؛ فسيُسأل عن هذا الدَّين، أما لو توفي وهو غير قادر على الإنفاق على حجه فإنه لا يكون عليه شيء؛ كالفقير تمامًا بالنسبة للزكاة، فالزكاة هي الركن
(1)
يتكففون الناس، معناه: يسألون الناس بأكفهم يَمدونها إليهم. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 336).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 456)، حيث قال:" (قوله ممن يجب استئذانه)؛ كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، وكذا الغريم لمديون لا مال له يقضي به، والكفيل لو بالإذن، فيُكره خروجه بلا إذنهم، كما في "الفتح"، وظاهره: أن الكراهة تحريمية، ولذا عبر الشَّارح بالوجوب".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب، حيث قال:"إذا كان عليه دين فقضاؤه مُقدم على الحج بلا خلاف، بخلاف دَيْن أبيه، فإنه يقدم الحج عليه، سواء قلنا: الحج على الفور أو على التراخي، وسواء كان الدين مؤجلًا أو حالًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 444)، حيث قال:" (ومؤن السفر ذهابًا وإيابًا فمستطيع) فيلزمه النسك، وإلا فلا، كنظيره في الكفارة، وصَرَّح الدارمي بمنعه من ذلك حتى يترك لممونه نفقة الذهاب والإياب، ووجه اعتبار كون ما ذكر فاضلًا عن دينه الحال والمؤجل: أن الحال على الفور، والحج على التراخي، والمؤجل يحل عليه، فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدَّيْن".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 518)، حيث قال:" (و) يعتبر كون زاد وراحلة وآلتيهما، أو ثمن ذلك فاضلًا عن (قضاء دَيْن) حال أو مؤجل للَّه أو لآدمي؛ لتضرره ببقائه بذمته".
الثالث من أركان الإسلام، ولا تجب على كل مسلم، كما هو معلوم من شروطها المعروفة التي مَرَّت بنا
(1)
، وقد يُوجد من بين المسلمين من هو فقير لا يملك النصاب، فالزكاة ليست واجبة عليه، ولو مات ولم يزكِّ لا يأثم ولم يُقَصِّر؛ لأنه لا يملك النصاب، فكذلك الإنسان الذي لا يستطيع الحج.
فالاستطاعة لا بدَّ أن يكون عند الإنسان قدرة بدنية، وأن يكون عنده مال، وهذا هو أكملها.
وإذا وجد عند الإنسان مال لا تتعلق به حقوق الآخرين، وكان قادرًا على الحج بنفسه - فيجب عليه الحج، وعليه أن يُبادر إليه.
أما إذا كان عنده قدرة بدنية فقط، ويستطيع أن يكون مع رفقة، وأن يُقَدِّم خدمات - في هذه الحالة له أن يَحج، والحج مُتَعَيَّن عليه عند بعض العلماء، بل بعضهم يرى ولو بالسُّؤال، ولكن هذا لا ينبغي، كما سنتكلم عنه، أو بأن يكون الحج قريبًا منه يستطيع أن يمشي، كأن يكون من أهل مكة، في هذه الحالة يلزمه.
الحالة الثالثة: أن يكون عنده مال، وليس عنده قدرة بدنية، فلا يستطيع أن يذهب بنفسه إلى الحج، ففي هذه الحالة يُنيب عنه، خلافًا للمالكية
(2)
.
الحالة الرابعة: ألا يستطيع الحج ببدنه، وليس عنده مال، فهذا معلوم أنه لو مات على هذه الحالة: أنه لا يعتبر مقصرًا، ولا مُخِلًّا بهذا الركن الذي هو أحد أركان الإسلام.
(1)
تقدَّم الكلام عليها.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 18)، حيث قال:"هذا لا يتأتى على المشهور مِن منع النيابة وعدم صحتها عن الحيِّ؛ سواء كان صحيحًا أو مريضًا، ولا على ما ذكره المصنف مِن الكراهة في التطوع على ما فيه، وإلا كره الحج عن الغير الحي مطلقًا بدءًا أو غير بدء".
* قال: (وَإِنْ كَانَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ تُتَصَوَّرُ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُبَاشَرَةٍ وَنِيَابَةٍ. فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا الِاسْتِطَاعَةَ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ مَعَ الْأَمْنِ).
المقصود بالمباشرة هنا: أن تباشر الحج بنفسك، يعني: أن تقوم بالحج بنفسك.
يعني: مباشرة لا تكون بواسطة وكيل أو نائب ينوب عنه.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ -وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(2)
-: "إِنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ: الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ").
هناك خلاف بين العلماء: ما هي الاستطاعة
(3)
؟ هل هي القدرة
(1)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(2424)، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رسول اللَّه، ما السبيل؟ قال:"زَادٌ وَرَاحِلةٌ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 433)، عن عطاء، قال: قال عمر: " {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ".
(3)
الاستطاعة عند الأئمة الأربعة: هي ملك الزاد والراحلة.
فعند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 4)، حيث قال:"لا بد من القدرة على الزاد والراحلة؟ لأنه عليه الصلاة والسلام فَسَّر الاستطاعة به".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 492)، حيث قال:"الاستطاعة: الزَّاد والراحلة".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 444)، حيث قال:"الاستطاعة تارةً تكون (بالنَّفس، وتارة) تكون (بالغير؛ فالأولى تتعلق بخمسة أمور: الأول والثاني: الزاد والراحلة)؛ لتفسير السبيل في الآية بهما في خبر الحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 388)، حيث قال:"الاستطاعة: ملك الزاد والراحلة".
فقط؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فالآية أطلقتها، ولم تقيدها، وجاءت آثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم قَيَّدتها بالزَّاد والراحلة، وهذه مختلف فيها من حيث الصحة والضعف
(1)
، فمن العلماء مَن يرى أن الاستطاعة هي الصحة، وهناك أقوال أُخرى أن يكون الإنسان صحيحًا، فإذا كان صحيحًا لَزِمه.
(وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: مَنِ اسْتَطَاعَ الْمَشْيَ فَلَيْسَ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ).
أمَّا بالنسبة مَن استطاع الحج، فهذا يختلف؛ إن كان قريبًا فلا يُخالف مالكٌ جمهورَ العلماء، أمَّا إن كان بعيدًا فهنا يأتي الخلاف.
(وَكَذَلِكَ لَيْسَ الزَّادُ عِنْدَهُ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الِاكْتِسَابُ فِي طَرِيقِهِ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ).
يعني: إنسان يستطيع أن يكتسب بصنعة بيديه؛ كأن يكون جزارًا، أو حدادًا، أو خَيَّاطًا، وغير ذلك، فهو يستطيع وهو في طريقه إلى الحج أن يُقَدِّم خدمات، أو أن يُوافق أن يرافق رفقة من الناس، كما يعرف الآن بالحملات؛ أي: عدة سيارات فيها مجموعة كبيرة من الناس يحتاجون إلى خَدَم، فلو قُدِّر أنه وَجَد مثل هذه الفرصة؛ ليخدم في هذا المكان، فيهيئ الطعام، أو يُهيئ بعض الأعمال، أو يحمل الأثاث أو يضعه ونحو ذلك، فهو في هذه الحالة قد تَيَسَّر له الحج، فينبغي له أن يحج في هذه الحالة، إذًا هذه وسيلة.
والطريقة الأُخرى: ولو بالسؤال، وهذا الذي يختلف فيه جمهورُ
(1)
ستأتي.
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 492)، حبث قال:"حكى سند الإجماع على أن مَن كان دون مسافة القصر لا يُعتبر في حقه وجود الراحلة، ونصه، والدليل على الاعتبار بالقدرة دون الملك: أن التمكن من المشي إلى الحج -وهو منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة- لم يعتبر في وجوبه عليه الراحلة إجماعًا".
العلماء عن المالكية، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن مِثل هذه المسألة، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح:"مَن يَستعفف يعفه اللَّه، ومَن يَستغنِ يُغنه اللَّه"
(1)
، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن يسأل الناس جاء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة
(2)
من لحم
(3)
، كأنه تَقَطَّع وجهه وزال اللحم الذي عليه، بمعنى: أنه ذهب عنه الحياء، وتعلمون قصة الرجل الذي جاء يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيقدم له الرسول صلى الله عليه وسلم درهمًا؛ فيأمره بأن يشتري فأسًا وحبلًا ويحتطب
(4)
، وأن يكون ذلك وسيلة للعمل.
وهكذا ينبغي على المؤمن ألا يذل نفسه للناس، بل ينبغي للمؤمن أن يكون قويًّا، أما إذا كان عاجزًا لا يستطيع أن يَعمل، ولا يُوجد من ينفق عليه، فهذه مسألة أُخرى بالنسبة لسؤال الإنسان الناس، لكن أن يذهب هذا الإنسان لِيُؤدي عبادة -ركنًا من أركان الإسلام- فاللَّه سبحانه وتعالى طَيِّبٌ لا يَقبل
(1)
أخرجه البخاري (1361)، ومسلم (1034).
(2)
مزعة: قطعة يسيرة من اللحم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 325).
(3)
أخرجه البخاري (1474)، ومسلم (1040)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يَزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم".
(4)
أخرجه أبو داود (1641)، عن أنس بن مالك: أنَّ رجلًا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال:"أَمَا في بيتك شيء؟ ". قال: بلى، حلس نَلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال:"ائتني بهما"، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:"مَن يشتري هذين؟ " قال رجل: أنا، آخذهما بدرهم، قال:"من يزيد على درهم"، مرتين، أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين؛ فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال:"اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني به"، فأتاه به، فشَدَّ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له:"اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا"، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذا خيرٌ لك مِن أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إنَّ المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فَقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع"، وضعفه الألباني في "المشكاة"(1851).
إلا طَيِّبًا
(1)
، فهو يريد منك مالًا حلالًا طَيِّبًا، لا أن تذهب وتُذل نفسك وتتكفف الناس ثم تذهب للحج، فهذه الشريعة إنما بُنيت على التيسر، وعلى رفع الحرج، وعلى التَّخفيف على الناس، فاللَّه تعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، فهذا لا يستطيع أن يجم مالًا؛ لِيَحج به، إذًا هو معذور، فلماذا يُضطر لهذا؟ أو أن يُفتى بأن يَسأل الناس لا يدري؛ أعطوه أو منعوه؟
* قال: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ لِعُمُومِ لَفْظِهَا).
أمَّا عمومِ لفظها فهو قول اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والآية -كما ترون- مطلقة عامَّة ما قَيَّدت ولا فَسَّرت الاستطاعة؛ أهذه الاستطاعة بالبدن، أو بالبدن والمال، أو أن المراد الصحة، أو غير ذلك، إذًا هي أطلقت؛ فمن الذي يُبيِّن الكتاب؟ إنما هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى عندما نَزَّل هذا الكتاب قال:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، لكن هذا الكتاب اشتمل على كثير من الأحكام المُجملة التي تتطلمب بيانًا وتفصيلًا، وهذه مهمة ووظيفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهو المبين للناس. . . إذًا الرسول هو الذي يُبَيِّن، وهو الذي يبلغ الناس، كما قال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم وَرَدت عنه آثار لتفسير الاستطاعة أن المراد بها: الزَّاد والراحلة.
* قال: (وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ أَثَرٌ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. . . "، الحديث.
سُئِلَ مَا الِاسْتِطَاعَةُ؟ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ")
(1)
.
سئل: ما السَّبيل؟ قال: "الزَّاد والرَّاحلة"، فقوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، يعني: طريقًا.
(فَحَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ذَلِكَ) وأحمد أيضًا (عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ، وَلَا لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الِاكْتِسَابِ فِي طَرِيقِهِ).
إذًا الذي لا يستطيع المشي ولا يستطيع الاكتساب عند مالك لا يَجب عليه الحج، ولا يلزمه؛ لماذا؟ لأن الحج عند مالك إنَّما يجب بالبدن؛ أي: يجب على الإنسان أن يُؤدي الحج بنفسه، لا أن ينوب عنه غيره.
قال: (وَإِنَّمَا اعْتَقَدَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الرَّأْيَ)، ومن معه من الأئمة؛ (لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ: إِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ مُجْمَلًا، فَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَفْسِيرِ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ: أَنْ لَيْسَ يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ)
(2)
.
والشافعيُّ هو أول واضع -كما هو معروف- لعلم أصول الفقه
(3)
، وكتابه "الرسالة" كتاب قَيِّم يدل على قوة بلاغته رحمه الله وفصاحته وقوة
(1)
أخرجه الترمذي (813)، وقال الألباني في "ضعيف الترمذي" (3207):"ضعيف جدًّا".
(2)
قال الزركشي في "البحر المحيط"(5/ 276): "قال أبو إسحاق: فقد نص الشافعي في "الرسالة القديمة والجديدة" على أن سنة الرسول لا تُنسخ إلا بسنة، وأن الكتاب لا يَنسخ السنة، ولا السنة تنسخ الكتاب، وأن كتاب اللَّه فيما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة إنما يأتي أمر ثان يَنسخ سنته، حتى يكون هو المتولي لنسخه، وسنته أن يكون ذلك؛ لئلا يختلط البميان بالنسخ، فلا يوجد لرسول اللَّه سنة ظاهر القرآن خلافها، إلا جعل القرآن ناسخًا، أو جعلت السنة إذا كان ظاهرها خلاف القرآن ناسخة للقرآن، فيكون ذلك ذريعة إلى أن يخرج أكثر السنن من أيدينا".
(3)
علم أصول الفقه: هو العلم بالقواعد التي يُتوصل بها إلى مسائل الفقه. انظر: "شرح التلويح على التوضيح" للتفتازاني (1/ 36).
حجته وعارضته، مَن يقرؤه من طلاب العلم المتمكنين يدرك المنزلة التي تبوأها الإمام الشافعي بالنسبة لعلوم الشريعة، وكذلك في اللغة، وأنت ترى في "رسالته" القوة والجزالة وقوة المعاني وقوة الألفاظ، ولذلك المؤلف ربط ذلك بالإمام الشافعي؛ لأنه هو أول من أظهر علم الأصول، ولا نقول: إنَّ من قبله من العلماء كانوا لا يعرفون الأصول، فالصحابة يعرفون الأصول، وهو مرتكز ومستقر في أذهانهم رضي الله عنهم، فهم يعرفون الناسخ
(1)
، والمنسوخ
(2)
، والعام والخاص، والمُطلق والمقيد، والأمر
(3)
والنهي
(4)
، وغير ذلك من الأُمور ذات العلاقة بأصول الفقه.
والحنفية يَدَّعون أن أبا حنيفة هو أول مَن دَوَّنه
(5)
، لكن الدعوة تحتاج إلى بيِّنة، ونحن الذي وصلنا ووقفنا عليه وتناقله العلماء قبلنا هذه "الرسالة"، ومهما يكن من أمر، فالإمام الشافعي حسب ما اشتهر وظهر هو أول مَن أظهر علم أصول الفقه؛ ذلك العِلم الجليل الذي يُعتبر من خصائص هذه الأمة، فإن هذا العلم -أيضًا- يعتبر من الأسس والقواعد الجليلة، والذي يستطيع الفقيه بميزانه الدقيق أن يزن به مسائله التي يجتهد
(1)
الناسخ: هو الذي يرد بعد استقرار حكم المنسوخ، (والتمكين من فعله مما ينافي بقاء حكم المنسوخ)، ويمتنع معه اجتماعهما في أمر واحد في حال واحدة لشخص واحد، فيكون الآخر ناسخًا للأول، وإن اقتضى زوال (جميعه، وإن اقتضى) بعضه فهو ناسخ لذلك البعض". انظر: "الفصول في الأصول" للرازي (2/ 273).
(2)
المنسوخ: هو الحكم المرفوع. انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 97).
(3)
الأمر: هو القول المقتضي طاعة المأمور. انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 202).
(4)
النهي: هو القول المقتضي ترك الفعل. انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 202).
(5)
الشافعي رضي الله عنه أَوَّل مَن صنَّف في أُصول الفقه؛ حيث صنف فيه كتابَ "الرسالة"، وكتاب "أحكام القرآن"، و"اختلاف الحديث"، و"إبطال الاستحسان"، وكتاب "جماع العلم"، وكتاب "القياس"، الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة، ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثم تبعه المصنفون في الأُصول.
قال الإمام أحمد بن حنبل: "لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي".
وقال الجويني في "شرح الرسالة": "لم يسبق الشافعيَّ أحدٌ في تصانيف الأُصول ومعرفتها. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (1/ 18).
فيها، حتى لا يميل يمينًا ولا شمالًا؛ لأن هذه الأسس والقواعد الأصولية موازين ومقاييس وضوابط يَضبط بها الفقيه طريقته في التخريج، في التفريع، في إلحاق المسائل بعضها ببعض، وأيضًا يوافقه في ذلك القواعد الفقهية.
* قال: (وَأَمَّا وُجُوبُهُ بِاسْتِطَاعَةِ النِّيَابَةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ؛ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا تَلْزَمَهُ النِّيَابَةُ إِذَا اسْتُطِيعَتْ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ).
هذا هو قول مالك
(1)
، أما أبو حنيفة فليس مع مالك في هذه المسألة.
(وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تَلْزَمُ).
وعن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد.
(فَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي عِنْدَهُ مَالٌ يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ عَنْهُ غَيْرُهُ، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ هُوَ بِبَدَنِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِمَالِهِ).
يعني باختصار: مراد المؤلف هنا، وبيان الكلام: أنَّ مالكًا يُخالف الجمهور في هذه المسألة، فمالك يرى أنَّ الحج يجب على المستطيع ببدنه، أمَّا مَن لا يستطيع ببدنه فإنه يلزمه الحج؛ لأنه لا يرى أن ينوب أحد عن أحد في هذه المسألة.
وجمهور العلماء -وفيهم الأئمة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد- يقولون: لا، إذا لم يستطع الحج ببدنه، فإنه يُخرج جزءًا من ماله لِيُنيب عنه من يحج عنه.
هذا إذا كان الإنسان مريضًا مرضًا مزمنًا.
(1)
تقدَّم الكلام على هذه المسألة.
أما إذا كان عند الإنسان عارض من العوارض، فيقول: أنا لا أستطيع الحج، فلا، فالقصد من ذلك: أن ذلك يجوز للمتقدم في السن، أو المريض مرضًا مزمنًا.
* قال: (وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ مِنْ أَخٍ أَوْ قَرِيبٍ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَهِيَ التِي يَعْرِفُونَهَا بِالْمَعْضُوبِ)
(1)
.
يعني: المعذور هو الذي لا يَثبت على الدابة؛ أي: الذي يحتاج أن يسنده؛ أي: يجلسه على الراحلة.
(وَهُوَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الَّذِي يَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَلَمْ يَحُجَّ يَلْزَمُ وَرَثَتُهُ عِنْدَهُ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَالِهِ مِمَّا يَحُجُّ بِهِ عَنْهُ).
يعني: إنسان مات وقد وجب عليه الحج، هذا في حَقِّ مَن يُقصر، يعني إنسان كان قادرًا بماله وببدنه، لكنه فَرَّط -وما أكثر المفرطين- وليس في الحج الذي يحتاج إلى إعداد وتهيئة وضرب في الأرض وغير ذلك فقط، بل هناك من يُقصر في الصلاة، ومَن يقصر في الزكاة، وفي الصيام، وفي غير ذلك، بل هناك مَن يُقصر في قيدته، فيصرف شيئًا منها للبشر هذا إنسان مقصر مفرط، فلو قدر أن إنسانًا لزمه الحج، فتساهل فيه حتى مات، هذا هو الذي يُحج عنه من ماله
(2)
، وقد يوجد أن يحج عنه ابن، أو أب أو أخ، أو قريب، أو غير ذلك.
(1)
المعضوب: الضعيف. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (3/ 391).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(2/ 85)، حيث قال:"قال الكرماني: فلو مات رجل وعليه فرض الحج سَقَط فرض الحج عنه عندنا، إلا أن يُوصي بأن يُحج عنه مِن ثلث ماله، فتُجبر الورثة على ذلك، وإن لم يُوص لم يُجبروا على ذلك".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 543)، حيث قال:"من مات وهو صرورة، ولم يُوص أن يحج عنه أحد، فأراد أن يتطوع عنه بذلك ولد أو والد أو زوجة أو أجنبي فليتطوع عنه، بغير هذا يُهدي عنه، أو يتصدق، أو يعتق". =
* قال: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَنُوبُ فِيهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ).
هذا من حيث الإطلاق، لكن غالبًا يكون المُطلق
(1)
مُقيدًا
(2)
، والخاص
(3)
أيضًا، والعام
(4)
أيضًا، ومخصص، وأحيانًا نجد في غالب القواعد مستثنيات؛ أي: يستثنى منها، نَعم، الصلاة لا يُصَلِّي أحد عن أحد، والزكاة لا يذكي أحد عن أحد، لكن الحج يختلف؛ فتدخله النيابة، وقد ورد في ذلك حديث. إذًا؛ ورود أثر في ذلك ينفي أن يلحق الحج بغيره من العبادات الأُخرى.
(فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا يُزَكِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ).
يعني: ليس لأحد أن يقول: أنا عندي كَسَل؛ اذهب يا فلان، فصلِّ عني. لا، هذا لا ينفعه؛ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، ولا يقول: صُم عَنِّي. هذا لا ينفعه، لكن أن يأخذ مبلغًا من المال ويتصدق عن فلان، هذا نعم يَحصل، إنما في العبادات التي هي الأركان لا، كذلك
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 12)، حيث قال:"إن أَخَّره حتى مات حُجِّ عنه من تركته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 520)، حيث قال:"ومَن وجب عليه نسك ومات قبله، و (ضاق ماله) عن أدائه من بلده استنيب به مِن حيث بلغ".
(1)
المطلق: هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه؛ كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . انظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 101).
(2)
المقيد: هو المتناول لمعينِ، أو غير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة:{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} . انظر: "روضة الناظر"(2/ 102).
(3)
الخاص: هو كل لفظ وُضع لمعنى معلوم على الانفراد. انظر: "الكافي شرح البزدوي" للسغناقي (1/ 203).
(4)
العام: هو كل لفظ ينتظم جمغا من المسميات؛ لفظًا أو معنى. انفر: "الكافي شرح البزدوي" للسغناقي (1/ 203).
الوضوء لا يكفي أن يتوضأ أحد عن أحد، ولا أن يغتسل أحد عن أحد، وهنا الحج مستثنى في هذه المسألة.
* قال: (وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا، فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورِ، خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ، وَفِيهِ: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ")
(1)
.
انظروا إلى هذه المرأة، كيف كانت عناية الأبناء بآبائهم؟! فهذه امرأة أشفقت على أبيها، يعني: تألم قلبها أن يموت والدها وقد أتته فريضة الحج ولم يُؤدِّها، وأنتم تعلمون فيما مضى كم يعاني الإنسان من المشقات والمتاعب والأهوال، وسنتكلم عن ذلك قريبًا إن شاء اللَّه، عندما نأتي إلى هذا الطريق في هذه البلاد قبل هذه الحكومة قبل عهد الملك عبد العزيز، كيف كانت الحال سنتكلم عنها إن شاء اللَّه؛ لأن هذا من باب الاعتراف بالفضل لأهله.
فهذه امرأة أخبرت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إن أبي أدركته فريضةُ اللَّه على عباده في الحَجِّ شيخًا كبيرًا لا يَثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ".
فهذا دليل قطعي على أن الإنسان إذا مات ولم يَحج، فإنه يُحج عنه، وهذا رفع الخلاف، فلا خلاف بعد قول اللَّه سبحانه وتعالى، ولا بعد قول رسول صلى الله عليه وسلم.
(وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَهَذَا فِي الْحَيِّ.
وَأَمَّا فِي الْمَيِّتِ فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا).
إذًا في الحيِّ، وفي الميت أيضًا.
(1)
أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334).
(خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أُمِّي نَذَرَتِ الْحَجَّ فَمَاتَتْ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: "حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ")
(1)
.
انظروا إلى هذا المَثَل البليغ الذي مَثَّل به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى قد أكثر مِن ضرب الأمثال في القرآن، وقال:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، فنجد أن في القرآن جملة كثيرة من القصص، ومن ضرب الأمثلة، ومن الشواهد، وهذه كلها لتقريب الأُمور إلى الأذهان وترسيخها فيها؛ لذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُكثر -أيضًا- من ضرب الأمثلة، وأيضًا هنا قالَ:"أَرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دين كنتِ قاضيتِه"، لو أن أمكِ -هذه التي أُمِرت بالشفقة ووجوب البر نحوها والطاعة لها- عليها دَيْن وقد ماتت أكنت قاضيته؟
فكأنها جاءت يكاد قلبها يذوب حسرة على أمها تسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما الذي تستطيع أن تقدِّمه لهذه الأم التي قد ماتت، والرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها بأن تحج، ثم أراد أن يُقَرِّب لها ذلك الأمر، وأن يكف عنها كُلَّ وَهْم أو استغراب:"أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ عنها قاضية". قالت: نعم. إذًا هي لا يشكل عليها هذا، فلو كان على أمها دين من الديون من حقوق الآخرين، فإنها ستسارع فَتُوفي هذه الحقوق لأصحابها؛ لترفع ذمة أمها، فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن ذاك حق للناس وهذا حق للَّه، وأيهما أولى بالوفاء؟
بالطبع حق اللَّه الذي خَلَقك وأوجدك من العدم، وتفضل عليك بالنِّعم التي لا تُعد ولا تُحصى، وجعل عليك رقيبًا، وتكفل بعنايتك ورعايتك
(1)
أخرجه البخاري (1754).
وأنت حَمل في بطن أمك التي حملتك تسعة أشهر بين التألم والضجر
(1)
، ثم توضع وعناية اللَّه تعالى تحفك إلى أن تصبح طفلًا فصبيًّا يافعًا فشابًّا إلى أن تكتهل في حياتك، هذه هي رعاية اللَّه سبحانه وتعالى لك، ففضل اللَّه سبحانه وتعالى عليك وعلى عباده لا ينقطع حتى أثناء الوفاة، فهذه الشريعة كما تعنى بالمؤمن في حياته، فكذلك لا تغفل عنه وقت مماته، ولا بعد مماته أيضًا؛ لأنها شريعة خالدة جاءت لأن تكون خاتمة الشرائع إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها.
فما دام حق الإنسان يُوفَّى فحقُّ اللَّه سبحانه وتعالى أولى بالوفاء.
* قال: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُقُوعِهِ فَرْضًا).
يعني: مراد المؤلف: أنَّه إذا حَجَّ إنسان عن إنسان لا خلاف في أنه يقع إذا حججت عنه تطوعًا
(2)
، لكن لو حججت عنه فريضة؛ هل يقع؟ الصحيح: أنه يقع.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الَّذِي يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ؛ سَوَاءً
(1)
الضجر: القلق من الغم. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 719).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (4/ 472)، حيث قال:"الحج التطوع عن الصَّحيح جائز".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 3)، حيث قال:"قال في "شرح العمدة": النيابة في الحج -إن كانت بغير أجرة- فحسنة؛ لأنه فِعل معروف، وإن كانت بأجرة فاختلف المذهب فيها، والمنصوص عن مالك: الكراهة، رأى أنه مِن باب أكل الدنيا بعمل الآخرة".
ومذهب التنافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 221)، حيث قال:"وتجوز النيابة في حج التطوع وعمرته، كما في النيابة عن الميت إذا أوصى بذلك، ويجوز أن يحج عنه بالنفقة، وهي قدر الكفاية، كما يجوز بالإجارة والجعالة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 397)، حيث قال:"ويصح الاستنابة في حج التطوع، وفي بعضه لقادر".
كانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ لَا؟).
هناك مسألة تَكثر حولها الأسئلة، يعني: لا تمر سنة، بل ربما في كل درس تَرد حولها أسئلة إذا ناب إنسان عن إنسان؛ ليحج عنه، هل يلزم الذي أُنيب أن يحج من البلدة التي مات فيها هذا الشخص، أو مِن التي أنابه منها
(1)
، فلنفرض أن شخصًا موجودًا في دمشق، فأراد أن يُنيب غيره ليحج عنه، هل لا بدَّ أن يكون من دمشق، أو له أن ينيب واحدًا من مكة؟
بعض العلماء يقول: من المكان الذي فيه ينطلق، وبعضهم يقول: لا، هو نفسه لو كان بمكة، يعني لو قدر أن إنسانًا جاء إلى مكة، وبقي فيها فترة، ثم أراد أن يحج: هل نقول له: اذهب إلى دمشق أو القاهرة أو باكستان أو أي بلدة من بلاد الإسلام، أو حتى أوروبا وأمريكا، مِن هناك تنشأ الحج، وهو هنا في مكة، لا نقول له ذلك، ونحن نعلم أن هذا الدِّين يسر، ولن يُشاد الدِّين أحد إلا غلبه، ولماذا نشدد على الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التشديد.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 529)، حيث قال:"ومَن خرج من بلده حاجًّا فمات في الطريق وأوصى أن يُحج عنه يُحج عنه من بلده، عند أبي حنيفة، وهو قول زفر. وقال أبو يوسف ومحمد: يُحج عنه مِن حيث بلغ استحسانًا، وعلى هذا الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 549)، حيث قال:"من استؤجر على أن يحج عن ميت من بلد ذلك الميت، فإنه يتعين عليه أن يُحرم من ميقات الميت، وإن لم يشترط عليه ذلك في العقد بريد، وكذلك لو استأجر أن يحج عن الميت من بلد غير بلد الميت، فإنه يتعين عليه الإحرام من ميقات ذلك البلد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 25)، حيث قال:"ويحج عنه (من الميقات) لبلده".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 520)، حيث قال:" (وإن مات) مَن وجب عليه حج بطريقه، (أو) مات (نائبه بطريقه حَجَّ عنه من حيث مات) هو أو نائبه؛ لأن الاستنابة من حيث وجب القضاء والمنوب عنه لا يلزمه العود إلى وطنه، ثم العود للحج منه، فيستناب عنه (فيما بقي) نصًّا (مسافة وقولًا وفعلًا)؛ لوقوع ما فعله قبل موقعه وأجزأه".
(هَلْ مَنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ لَا؟).
هذه مسألة مهمة جدًّا، وهي مِن المسائل
(1)
التي يَذكرها العلماء ضِمن القواعد الفقهية؛ فيدخلونها ضمن القواعد، ويجعلونها من الأُمور الفرعية، يعني هناك إنسان أراد أن يحج وجاء إليه آخر، وقال: يا فلان، أنت شاب تقيٌّ، فيك قوة، وعندك نشاط وجَلد تستطيع أن تحج، وهذا مبلغ من المال حُجَّ به، وسيأتي الكلام في الأجرة أيضًا، المهم أنَّه فَوَّضَه لِيَحج عنه، وهذا بعدُ لم يحج عن نفسه، فهل هذه الحَجة تقع على الغير، أو تقع عنه هو؟
مسألة فيها خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: ليس للإنسان أن
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (2/ 603)، حيث قال:"الأفضل: أن يكون قد حَجَّ عن نفسه حجة الإسلام خروجًا عن الخلاف".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(2/ 15)، حيث قال:"المعتمد في المذهب: أن النيابة عن الحي لا تجوز، ولا تصح مطلقًا إلا عن ميت أوصى به، فتصح مع الكراهة. وشبه في الكراهة قوله: (كبدء للمستطيع)؛ أي: كما يُكره للمستطيع الذي عليه حجة الفرض أن يبدأ (به): أي: بالحج (عن غيره) قبل أن يحج عن نفسه بناء على أنه واجب على التراخي، وإلا منع. وعلى ما تقدم من اعتماد بعضهم يُحمل على ما إذا حج عن ميت أوصى به وإلا لم يَصِحَّ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 457)، حيث قال:"ويصح استئجار مَن لم يحج للحج في الذِّمة)، فيحج عن نفسه، ثم عن المستأجر في سنة أُخرى (لا) في إجارة (العين)؛ لأنها تتعين للسنة الأُولى، فمَن عليه فرض الحج لا يجوز أن يحج عن غيره، كما صرح به الأصل، (والعمرة كالحج) فيما ذكر، (وإن استؤجر للحج مَن عليه عمرة أو بالعكس)؛ أي: استؤجر للعمرة مَن عليه حج (جاز) إذ لا ماء، والتصريح بالجواز من زيادته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 396)، حيث قال:"ومن عليه حجة الإسلام أو عليه حجة قضاء أو نذر لم يصح ولم يجز. أن يحج عن غيره؛ لحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبَّيك عن شبرمة. فقال: "حَجَجت عن نفسك؟ ". قال: لا. قال: "حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبرمة"، احتج به أحمد في رواية صالح، وإسناده جيد، وصححه البيهقي؛ ولأنه حج عن غيره قبل حجه عن نفسه فلم يَجز كما لو كان صبيًّا".
يؤدي فرضًا عن غيره، وهو واجب عليه، فعليه أن يبدأ أولًا بنفسه كما في الحديث:"ابدأ بنفسك، ثُمَّ بِمَن تَعول"
(1)
، إذًاا بدأ بنفسك أولًا، فأَدِّ هذا الفرض؛ لماذا؟ لأنك لا تضمن ذلك، كما في الحديث:"تَعَجَّلوا إلى الحَجِّ؛ فإن أحدكم لا يدري ما يَعرض له"
(2)
، فإذًا لا تَدري ما يحصل لك؛ فتتعجل الحج.
ثم إنه لا فرق بين قوي وضعيف، فكم من إنسان تجده هزيلًا ضعيفًا ومجهدًا وظهره مُنحنيًا، ولكنه -ما شاء اللَّه- يعيش سنوات طويلة، وربما يصل الثمانين، أو يتجاوز المائة، وربما تجد إنسانًا في عنفوان شبابه وفي قوته ثم تُفاجأ وإذا به قد مات، وأحيانًا يَعترض الإنسان الموت، ما هو فقط أنه مرض، أو وقع له حادث من الحوادث، أو غرق، إلى غير ذلك، لا يمكن أن يضمن الإنسان لنفسه -ولو ساعة واحدة- أنه سيعيش، فهذه بيد اللَّه سبحانه وتعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] [الأنبياء: 31]، [العنكبوت: 57]، ولذلك تجدون الشاعر المعروف في قصيدته "العينية" المؤثرة الذي ينضح
(3)
القلب إذا سَمِعها لوعةً
(4)
وحزنًا، وتدمع العيون لقصة أبنائه الخمسة الذين ذهبوا إلى مصر، فأصيبوا بمرض الطاعون، فماتوا مرة واحدة؛ يقول في قصيدته تلك
(5)
:
وَلَا بكَهامٍ ناكلٍ عَنْ عَدُوِّه
…
إذا هُوَ لاقَى حاسرًا ومُقَنَّعا
(1)
أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1034)، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اليدُ العُليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غِنى، ومَن يستعفف يعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه".
(2)
أخرجه أحمد (2867)، عن ابن عباس، وحَسَّنه الأرناؤوط.
(3)
أي: يفوح. انظر: "النهاية"(5/ 70)، مادة: نضح.
(4)
اللوعة: وجع القلب من المرض والحُب والحزن. وقيل: هي حرقة الحزن والهوى والوجد. انظر: "لسان العرب"(8/ 327)، مادة:(لوع).
(5)
البيت لمتمم بن نويرة يَرثي أخاه مالك بن نويرة. انظر: "جمهرة أشعار العرب" لابن أبي الخطاب القرشي (ص 594).
فمهما طالت بك الحياة فإنك ستلقى الموت.
وهذه القصيدة فيها أبيات تَمَثَّل بها معاوية رضي الله عنه في مرض موته، عندما دخل عليه عبد اللَّه بن عباس، فطلب أن تُوضع له مسندة؛ ليتكئ عليها فقال بيتًا من هذه القصيدة، فرد عليه عبد اللَّه بن عباس من نفس القصيدة
(1)
). . .
إذًا، إذا حضرت المنية لا ينفع شيء آخر.
ونأتي إلى مسألتنا: لماذا أحج عن غيري مهما كان عندي مِن مِثْلِ الرَّأفة والرحمة وحب الخير للناس؟! نعم، اللَّه تعالى يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، لكن اللَّه تعالى يقول:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، فأنت ما تتقهقر
(2)
عن الصف الأول؛ ليتقدم غيرك، لا، هذه مسألة فيها منافسة، أمَّا في أُمور الدنيا، فأعطِ غيرك من مالك، لكن في أُمور الآخرة فنافس عليها، واللَّه تعالى يقول:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10، 11]، إذًا، نافس في هذه الأُمور مهما كان عندك من العطف ومن الرحمة ومن الحنان ومن الشفقة ومن حب الخير للناس، لكن لا تُقدم غيرك على نفسك.
وفي هذه الحالة لو قُدِّر هذا، ماذا يحصل؟
لا يجوز للإنسان أن يحج عن غيره مع وجوب الحج عليه، ويقولون: لو حصل ذلك تقع عن حجته حجة الإسلام، والآخر إن كان أخذ منه مالًا، فيرده عليه.
(1)
الذي جاء في "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 160): "لما احتضر معاوية، قيل له: ألا تُوصي؟ فقال: اللهم أَقِل العثرة، واعف عن الزَّلة، وتجاوز بحلمك عن جهل مَن لم يرج غيرك، فما وراءك مذهب، وقال:
هُوَ المَوْتُ لَا مَنْجَى مِنَ المَوْتِ وَالَّذِي
…
نُحَاذِرُ بَعْدَ المَوْتِ أَدْهَى وَأَفْظَعُ
(2)
تقهقر: تَرجع. انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 129).
وبعضهم يقول: يجوز أن يحج عن غيره، وأنا أرى أنه لا ينبغي للمسلم أن يحج عن غيره وفي عنقه فريضة الحج.
* قال: (فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شرْطِهِ).
وسيأتي كلام العلماء عن حديث: "حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبرمة"
(1)
، والحديث صالح للاحتجاج به مهما قيل عنه؛ لأن ألفاظه مختلفة، وسيأتي الكلام: هل هو مرفوع أو موقوف؟ إلى غير ذلك، لكن الحديث صالح للاحتجاج به.
(وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ أَفْضلُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ عَنِ الْحَيِّ لَا يَقَعُ).
كما عرفتَ ذلك، فقد مَرَّ بنا قول مالك، ونبهنا عليه أنَّ مالكًا لا يرى أن الحيَّ يَحج عنه غيره إن كانت عنده قدرة، فبأي حال من الأحوال يحج، فإذا لم يستطع أن يحج لنفسه فليس له أن ينيب غيره، أما الميت فهذا لا حيلة له إذًا يُحج عنه.
(وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَى فَرِيضَةَ نَفْسِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ).
وبه قال الشافعي وأحمد في الرِّواية الصحيحة المشهورة في المذهب، لكن له رواية أخرى يتفق فيها مع الآخرين
(2)
.
(أَنَّهُ إِنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَقْضِ فَرْضَ نَفْسِهِ انْقَلَبَ إِلَى فَرْضِ نَفْسِهِ، وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا
(1)
أخرجه أبو داود (1811)، وصححه الألباني في "الإرواء"(994).
(2)
تقدَّم الكلام على هذه المسألة، وانظر:"تبيين الحقائق"(2/ 88)، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"، للدسوقي (2/ 18)، و"أسنى المطالب"(1/ 457)، و"كشاف القناع"(2/ 396).
يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ:"وَمَنْ شُبْرُمَةُ؟ ". فَقَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَالَ: قَرِيبٌ لِي، قَالَ:"أَفَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ ". قَالَ: لَا، قَالَ:"فَحُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ"
(1)
).
انظروا إلى حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مصلحة الناس، وتَوجيهه إلى الطريق السوي الذي فيه الخير والسعادة لهم ولِمَن جاء بعدهم، فعندما سَمِع هذا الأعرابي يرفع صوته، ويقول: لَبَّيك عن شُبرمة، استوثق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الرجل: هل أدى ما وجب عليه أولًا أو لا؟ فسأل الرجل: "ومَن شُبرمة". فقال: أخ لي، أو قريب لي. وفي رواية:"ابن عم لي"
(2)
، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المراد:"أَفَحججت عن نفسِك؟ ". قال: لا. قال: "حُجَّ عن نفسِك، ثم حُجَّ عن شبرمة"؛ أي: ابدأ بنفسك أولًا فأدِّ ما وجب عليها، ثم بعد ذلك افعل للآخرين.
من هنا نعلم أنَّ واجب طالب العلم أو العالِم أو كذلك الإنسان الذي يَعرف حكمًا من الأحكام - إذا رأى ضالًّا، رأى إنسانًا في أي عمل من الأعمال قد ارتكب خطأً، فإنه يُوجهه إلى الصواب، فترى إنسانًا قد أخل بحكم من أحكام الصلاة، أو الصيام، أو الحج، وما أكثر ما يقع في هذا الركن -ركن الحج- من الأخطاء، فأنت تأخذ بيدي أخيك المسلم وتُوجهه بحكمة وبرفق وبلين، وتتجنب العنف؛ لأن العنف لا يُولد إلا العنف، واللَّه سبحانه وتعالى قال لنبيه:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، وقال سبحانه وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال سبحانه وتعالى في محاكاة ومجادلة أهل الكتاب:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] حتى الذي يَسب اللَّه، اللَّه تعالى يقول:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فلو رأيت إنسانًا يعبد صنمًا من الأصنام،
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
لم أجده بهذه اللفظة.
وأقدمت على أن تَسب هذا الصنم وأنت تعتقد أنه سيترتب عليه: أن الإنسان هذا السفيه سينطلق ويسب اللَّه سبحانه وتعالى، فيجب عليك أن تتجنب ذلك:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
فواجب الداعية المسلم -بل أي مسلم- أن يبلغ دين اللَّه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"بَلِّغوا عَنِّي ولو آية"
(1)
، ويقول صلى الله عليه وسلم:"الدِّينُ النَّصيحة". قلنا: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: "للَّه ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"
(2)
، قال:"الدِّين النصيحة"، ثلاثًا، فأنت إذا رأيت أخاك المسلم قد ضَلَّ عن الطريق السوي وارتكب خطأ، فعليك أن تأخذ بيده برفق، وتنصحه بينك وبينه، ولا تُشَهِّر به، فتقول له مثلًا: يا أخي، الحق في ذلك كذا وكذا، والحق ضالة المؤمن، وعليك أن ترجع إلى الصواب، وأنت بذلك -بإذن اللَّه- ستأخذ بمجامع قلبه، وتؤثر فيه؛ لأن الكلمة الطيبة تترك أثرًا، فإذا لم يستمع لك، فقد أَدَّيتَ ما عليك، ولذلك تجدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يُعطي الراية يوم خيبر، أراد أن يُعطيها لرجل يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله، فكل الصحابة ارتفعت أعناقهم واشرأبت
(3)
، والشاهد: وصية رسول للَّه صلى الله عليه وسلم: "فواللَّهِ لَأَنْ يَهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعم"
(4)
، فهذا أمر عظيم، وتصور لو أخذت بيد رجل سفيه انحرف
(1)
أخرجه البخاري (3274).
(2)
أخرجه مسلم (55).
(3)
اشْرَأَبَّت: ارْتَفَعَت وعَلَت. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 455).
(4)
هذا حديث أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (2406)، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لأعطين الراية غدًا رجلًا يَفتح اللَّه على يديه"، قال: فبات الناس يَدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غَدوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال:"أين علي بن أبي طالب؟ ". فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول اللَّه، قال:"فأرسلوا إليه فَأْتُوني به". فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال عليٌّ: يا رسول اللَّه، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:"انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يَجب عليهم مِن حَقِّ اللَّه فيه، فواللَّه لأن يَهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا، خير لك مِن أن يكون لك حُمر النَّعم".
عن الطريق السوي، فهدى اللَّه هذا الإنسان على يديك، كم سيُسجل في صحائف أعمالك مِن الحسنات؛ حسنات عظيمة متتالية من أعمال هذا الإنسان، وربما يسبقك في أعمال الخير، فكم من أناس كانوا منحرفين فهداهم اللَّه إلى الطريق السوي، فاستقامت أحوالهم، وحَسُنت سيرتهم، وفتح اللَّه عليهم فتحًا عظيمًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"
(1)
، وازنوا بين العرب في الجاهلية وبين إسلامهم، وهؤلاء الصحابة الرعيل الأول أكابر الصحابة، أليسوا عاشوا في الجاهلية، انظر إلى حالتهم أولًا وإلى حالتهم بعد إسلامهم، انظروا كيف هَذَّبهم الإسلام؟ كيف صَقل عقولهم
(2)
وأنضج مداركهم
(3)
؟ فتحولوا من رعاة الإبل والغنم إلى أن أصبحوا سادة وقادة الأمم.
إذًا ما أجمل الكلمة الطيبة التي تَبُثُّها في روع أخيك؛ فتنفذ إلى قلبه، فتستقر فيه؛ فيهديه اللَّه سبحانه وتعالى! وهذه الحياة إذا عمل فيه أعمال الخير فأنت ستشاركه في فضله، دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن مَن دل على هدى فله مثل أجر فاعله
(4)
من غير أن ينقص من أجره شيء، من دل على خير فله مثل أجر فاعله. هذه من أجلِّ الأعمال التي نتساهل فيها، كم نرى من الناس الذين يُقصرون، فربما يحجم عن ذلك بعضنا حياءً، وبعضنا تكاسلًا، وبعض الناس يقول: هو مسؤول عن نفسه، وهذا خطأ، هذا ليس
(1)
جُزء من حديث أخرجه البخاري (3374)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند اللَّه أتقاهم". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس: يوسف نبي، ابن نبي اللَّه، ابن نبي اللَّه، ابن خليل اللَّه". قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فعن معادن العرب تَسألوني". قالوا: نعم، قال:"فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
(2)
صقل عقولهم؛ أي: جلاها. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (29/ 316).
(3)
مداركهم؛ أي: الحواس. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (27/ 145).
(4)
معنى حديث أخرجه مسلم (1893)، عن أبي مسعود الأنصاري، قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أُبْدِعَ بي فاحملني، فقال: "ما عندي"، فقال رجل: يا رسول اللَّه، أنا أدله على مَن يحمله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن دَلَّ على خير فله مثل أجر فاعله".
من النصيحة، بل النصيحة أن نُرشد الضال، وأن نُبين للمنحرف الطريق السوي.
* قال: (وَالطَّائِفَةُ الأوْلَى عَلَّلَتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فِي الْحَجِّ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ).
هذه قد تكررت معنا في مباحث كثيرة؛ من ذلك في الصلاة مثلًا الإنسان لن يأخذ الأجرة على الصلاة من الناس، أو كذلك -أيضًا- على تعليم القرآن، أو يأخذ الأجرة كذلك على أن يحج عن غيره، لكن أن يأخذ نفقة هذه مسألة أُخرى، فما الحكم في هذه المسألة؟ سر الخلاف أن هذه قربة وطاعة للَّه سبحانه وتعالى، فالحج ركن من أركان الإسلام، إذا هو قربة للَّه سبحانه وتعالى مَن يفعله فهو يؤدي واجبًا بالنسبة لنفسه، ولماذا تؤدي هذا الواجب؟ ولماذا تعبد اللَّه على بصيرة؟ لتنال الثواب من اللَّه سبحانه وتعالى، أما الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا فهذا لا ينفع، فاللَّه سبحانه وتعالى يقول:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خيرُكم مَن تَعَلَّم القرآنَ وعَلَّمَه"
(1)
، لماذا؟ لأن هذا هو كتاب اللَّه سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنت إذًا قد عَلَّمت هذا الكتاب، قد أخذت بيدي المتعلم إلى طريق الهداية وإلى طريق الخير، وقد هديته إلى هذا الطريق السوي، وفتحت له طريق الثواب، هل تأخذ الأجرة على أعمال البر؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء
(2)
، فبعض العلماء يقول: له أن يأخذ الأجرة.
(1)
أخرجه البخاري (5027).
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 124)، حيث قال:"لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والحَج والإمامة وتعليم القرآن والفقه". =
وبعضهم يقول: ليس له أن يأخذ الأجرة؛ لماذا؟ لأن هذه قربة من القربات وطاعة من الطاعات؛ لماذا تأخذ الأجرة على الصلاة؟ لماذا تأخذ الأجرة على تعليم القرآن؟ لماذا تأخذ الأجرة على التعليم والدعوة؟ لماذا تأخذ الأجرة عندما تريد أن تحج عن أخيك المسلم؟ خُذ نفقتك فقط.
ولا شك أن في هذا أدلة؛ فمن الأدلة في هذا مثلًا: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه حيث عَلَّم رجلًا القرآن
(1)
، وتعلمون فضل مَن يُعَلِّم القرآن، فما كان من هذا الرجل إلا أن أهدى إليه، لكنكم تعلمون حرص الصحابة رضي الله عنه على تحري الحلال، وأيضًا دِقَّتهم في عدم أن يأخذ أحدهم ولو فلسًا من حرام؛ خشية أن يأخذ أحدهم شيئًا ولو نزرًا يسيرًا؛ لما لهذا الحرام من أثر في غذاء الإنسان؛ في تربيته، في كسوته، في أبنائه -أيضًا- الذين سيخلفونه، ولذلك سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذا القوس، فقال: "إن
= وعند المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 236)، حيث قال:"يجوز أخذ الأجرة على الأذان وحده، أو على الإقامة وحدها، أو على أحدهما مع الصلاة فريضة أو نافلة، وسواء كانت الأجرة من بيت المال كما فعل عمر، أو من آحاد الناس على المشهور، ومنعها ابن حبيب من آحاد الناس على الأذان".
وعند الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 462)، حيث قال:"ويصح الاستئجار لشعار غير فرض كالأذان".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 12)، حيث قال:" (ويحرم ولا تصح إجارة على عمل يَختص فاعله أن يكون من أهل القُربة، وهو المسلم، ولا يقع) ذلك العمل (إلا قربة لفاعله؛ كالحج؛ أي: النيابة فيه)؛ أي: في الحج. (والعمرة والأذان ونحوها كإقامة وإمامة صلاة، وتعليم قرآن وفقه حديث، وكذا القضاء. قاله ابن حمدان. . . ولأن من شرط هذه الأفعال كونها قربة إلى اللَّه تعالى، فلم يجز أخذ الأجرة، كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه".
(1)
أخرجه أبو داود (3416) عن عبادة بن الصامت، قال:"عَلَّمت ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمالٍ، وأرمي عنها في سبيل اللَّه عز وجل؛ لآتين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيتُه، فقلت: يا رسول اللَّه، رجل أهدى إليَّ قوسا مِمَّن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها في سبيل اللَّه، قال: "إن كنتَ تُحب أن تُطَوَّق طوقًا من نار فاقبلها". وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
كنتَ تحبُّ أن تُطوق طوقًا من نار فَخُذه"
(1)
، إن أردت أن يكون قوسًا من نار فخذه، فكان منه ما كان منه إلا أن رفضه.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "واتَّخِذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا"، لكننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِن في إعطاء الأجرة على الأذان
(2)
، وقد أعطى أبا محذورة، لكن الذين منعوا قالوا: إنما أعطاه؛ لأنه كان في أول الأمر -في أول الإسلام- فأراد الرسول أن يتألفه، وأنتم تعلمون أن من الأصناف التي تُصرف لهم الزكاة: المؤلفة قلوبهم؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ، وكذلك قالوا أيضًا: الصحابة رضي الله عنهم الذين مروا بجماعة من الناس في قوم وأرادوا أن يضيفوهم؛ فأبوا، فلدغ لهم لديغ، فطلبوا منهم أن يرقوا هذا الذي لُدغ، فما كان منهم إلا أن رقوه، بشرط أن يعطوهم شيئًا، فأخذوا ذلك الشيء، واستفتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقرهم على ذلك
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2158)، عن أُبَي بن كعب، قال:"عَلَّمت رجلًا القرآن، فأهدى إليَّ قوسًا، فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أخذتَها أخذت قوسًا من نار"، فرددتُها"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1493).
(2)
يعني: الحديث الذي أخرجه النسائي (632)، عن أَبي مَحْذُورَةَ، قَالَ لَهُ:"خَرَجْتُ فِي نَفَرٍ، فَكُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ حُنَيْنٍ مَقْفَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ، فَلَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الطَّرِيق، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ وَنَحْنُ عَنْهُ مُتَنَكِّبُونَ، فَظَلِلْنَا نَحْكِيهِ وَنَهْزَأُ بِهِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّوْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا حَتَّى وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ؟ "، فَأَشَارَ الْقَوْمُ إِلَيَّ وَصَدَقُوا، فَأَرْسَلَهُمْ كُلَّهُمْ، وَحَبَسَنِي فَقَالَ: "قُمْ، فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ"، فَقُمْتُ فَأَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ. . . "، الحديث، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي".
(3)
يعني: الحديث الذي أخرجه البخاري (5417)، عن أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَروهَا، حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَب، فَاسْتَضَافُوهُمْ؛ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، فَسَعَيْنَا =
إذًا، ثبت أخذ الأجرة على الأذان، وثبت -أيضًا- أخذ الأجرة على الرقية، فالرقية إنما هي على شيء من كتاب اللَّه عز وجل، وجاء فى الحديث:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه"
(1)
، وهذا -أيضًا- جاء بمناسبة الرقية، وهناك -كما قلنا- من منع ذلك، فهل يجوز للإنسان أن يأخذ الأجرة؟
نحن نقول: الأَوْلَى ألا يأخذ، وإن أَخَذَ فليأخذ النفقة فقط، كما قال المالكية
(2)
، وهذا رأي -حقيقةً- دقيق في مذهب المالكية، يعني: يَقسمون الأجر إلى قسمين.
الأول: شيء يأخذه الإنسان بلاغًا، والبلاغ: ما يُبلغك؛ أي: يُوصِّلك إلى المكان الذي تريد الوصول إليه، يكفيه للذهاب إلى الحج، فإن نقص يعطيه، وإن زاد رده.
الثاني: الأجرة أن تأخذ -مثلًا- منه خمسة آلاف ريال، وربما لا تصرف إلا ألفًا أو ألفين والباقي تضعه فى جيبك؛ فتستفيد منه، هذا هو محل الخلاف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومَن وقع في الشبهات قد وقع في الحرام"
(3)
، ونحن نقول:
= لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا؛ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ. . . ".
(1)
أخرجه البخاري (5405).
(2)
قال الخرشي في "شرح مختصر خليل"(7/ 19): "ومما هو مكروه: أخذ الأجرة على تعليم الفقه؛ لِئلا يَقل طالبه، والمطلوب خلافه، وكذلك يُكره أخذ الأجرة على تعليم فقه الفرائض؛ للعلة المذكورة، وكذلك يُكره بيع كتب الفقه ما لم يكن مفلسًا، كما مر في الفلس: أنه جائز؛ لضرورة الغرماء، وأما أخذ الأجرة على تعليم علم الفرائض فلا كراهة فيه، وعطف (فرائض) على (فقه) مِن عطف الخاص على العام".
(3)
يعني: الحديث الذي أخرجه البخاري (52) من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ:"سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّن، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي =
المسألة هنا لا تصل إلى هذا الحد، لكن الورع والأحوط للمسلم أن يأخذ ما يكفيه؛ لماذا؟ لأنك إذا أخذت ما يكفيك في النفقة فستثاب أيضًا؛ لأنك فعلت عملًا لأخيك، وانظروا في قصة المرأة التي رفعت غلامًا صغيرًا وقالت: ألهذا حَجٌّ؟ قال: "نَعَم، ولَكِ أَجْرٌ"
(1)
، فأنت في أي عمل تقدمه لأخيك المسلم تبتغي بذلك وجه اللَّه سيثيبك اللَّه عليه، حتى لو أخذت لقمة واحدة ووضعتها في فم أخيك المسلم آجرك اللَّه عليها، الكلمة الطيبة إنما هي صدقة، إرشادك أخاك إلى الطريق السوي صدقة، كل عمل من أعمال البر تثاب عليه وتؤجر عليه.
* قال: (فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَا: "إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ جَازَ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ).
وأحمد فَرَّق بين كره ذلك، يعني مالك والشافعي قالا بوجه مع الكراهة، وهي رواية للإمام أحمد
(2)
، لكنها ليست الرواية المعتمدة، أما مذهب أبي حنيفة
(3)
، وأحمد
(4)
، فإن ذلك لا ينبغي لأيِّ مسلم.
= يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَة إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
وفي رواية بالجواز، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (6/ 46)، حيث قال:"واختار ابن شاقلا الصحة في الحج؛ لأنَّه لا يجب على أجير، بخلاف أذان ونحوه. وذكر في "الوسيلة" الصحة عنه، وعن الخرقي".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين - رد المحتار"(2/ 601، 602)، حيث قال:"ولا يجوز الاستئجار على الطاعات، فالعبارة المحورة ما في "كافي الحاكم": وله نفقة مثله. . . والحاصل: أن قول الشارح: لم يجز حجه عنه، خلاف ظاهر الرواية، وأن قول "الخانية" له أجر مثله يُشعر بأن الإجارة فاسدة، مع أنها باطلة، كالاستئجار على بقية الطاعات. . .، والمتون المصرح فيها بجواز الاستئجار على التعليم ونحوه لم يذكر فيها جوازه على الحج، بل المصرح به في عامة متون المذهب: أنه لا يجوز الاستئجار على الحج، كـ "الكنز"، و"الوقاية"، و"المجمع"، و"المختار"، و"مواهب الرحمن"، وغيرها".
(4)
الصحيح: عدم الجواز، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (6/ 45)، حيث قال: =
* قال: (وَعُمْدَتُهُ: أَنَّهُ قُرْبَة إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ).
لو أن إنسانًا أراد أن يبني جدارًا لإنسان فله أن يطلب عليه أجرة، ولو أراد -أيضًا- أن يبني بيتًا فله أن يأخذ عليه أجرة، والسائق مالك السيارة يأخذ الأجرة، وهكذا هذه أُمور مباحة، يأخذ الإنسان مقابل عمله أجرة عليه، لكن هذه قربة وطاعة فهل تأخذ عليها الأجرة أو لا؟
* قال: (وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ فِي كَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ قُرْبَة).
يعني: أنت تأخذ الأجرة على كتابة المصاحف
(1)
، وبناء
= " (ولا يصح الإجارة على عمل يَختص فاعله أن يكون من أهل القُربة). يعني: بكونه مسلمًا، ولا يقع إلا قربة لفاعله؛ كالحج؛ أي: النيابة فيه، والعمرة، والأذان، ونحوهما. . . وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. قال ابن منجا وغيره: هذا أصحُّ. وجزم به في "الوجيز" وغيره. وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 12).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 384)، حيث قال:" (وتعليم القرآن والفقه وقراءتهما)؛ لأن القُربة تقع على العامل، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا القرآن"؛ أي: علموا، ولا تأكلوا به، بخلاف بناء المساجد، وأداء الزكاة، وكتابة المصحف، والفقه، وتعليم الكتابة، والنجوم، والطب، والتعبير، والعلوم الأدبية، فإن أخذ الأجرة في الجميع جائز بالاتفاق".
مذهب المالكية، يُنظر:"الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (15/ 423)، حيث قال:"قال ابن القاسم: وتجوز الإجارة على كتابة المصحف. وقال ابن حبيب: لا تجوز إجارة المصحف، بخلاف بيعه. وكأن إجارته ثمن للقرآن، وبيع المصحف ثمن الرق والخط، وقد بِيعت المصاحف في أيام عثمان، فلم ينكروا ذلك، وكره إجارته مَن لقيتُ من أصحاب مالك، واختلف قول ابن القاسم فيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه" لابن الرفعة (2/ 447)، حيث قال:"فإن استأجر عليه جاز؛ لأنه عمل معلوم؛ فجاز الاستئجار عليه [وإن كان قُربة]؛ ككتابة المصحف، ولأنه إعلام بدخول الوقت؛ فجاز الاستئجار عليه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 344)، حيث قال:"ويجوز أن يستأجر مَن يكتب له مصحفًا، في قول أكثر أهل العلم".
المساجد
(1)
، فالعمال الذين يبنون المساجد يأخذون الأجرة، وكذلك الذين يبنون أعمال البر من المساجد التي تبنى للأوقاف وأمثالها، كل أعمال البر يأخذون عليها الأجرة فَلِمَاذا استثنى هنا؟!
(وَالْإِجَارَةُ فِي الْحَجِّ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِي يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ عَلَى الْبَلَاغِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُبَلِّغُهُ مِنَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ).
قصده بالبلاغ يعني: المكان الذي تَبلغه قال تعالى: {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ، يعني: المكان الذي تصل إليه، فتأخذ مالًا يُبَلِّغك الحج وتعود منه، فإن زاد فَرُدَّه إلى صاحبه، فلا لك ولا عليك، فقد أَدَّيتَ هذه العبادة الجليلة عن أخيك المسلم؛ لأنه كان
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"(5/ 124) للزيلعي حيث قال: "يجوز الاستئجار على بناء المسجد، وأداء الزكاة، وكتابة المصحف والفقه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة" للقرافي (2/ 66)، حيث قال:"قال صاحب "الطراز": واتفق الجميع على جواز الرزقة، وقد أرزق عمر بن الخطاب المؤذنين، وكذلك تجوز الرزقة للحاكم، وإن امتنعت الإجارة على الحكم حجة، المشهور: أنه فعل يجوز التبرع به عن الغير، فلا يكون كونه قربة مانعًا من الإجارة فيه قياسًا على الحج عن الغير، وبناء المساجد، وكتب المصاحف والسعاية على الزكاة، ويمتنع في الإمامة مفردة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع" للنووي (7/ 139)، حيث قال:"جاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"(4/ 13)، حيث قال:" (وتصح) الإجارة (على بناء المساجد وكنسها وإسراج قناديلها، وفتح أبوابها ونحوه)، كتجميرها".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي"(2/ 14)، حيث قال:"إجارة البلاغ بقوله: (والبلاغ: إعطاء)؛ أي: وإجارة البلاغ عقد على إعطاء (ما ينفقه) الأجير على نفسه (بدءًا وعودًا بالعرف)؛ أي: بالمعروف بين الناس؛ فلا يُوسع ولا يُقتر على مقتضى العادة، فإذا رجع رد ما فضل، ويرد الثياب التي اشتراها من الأجرة".
بحاجة إلى ذلك، وأنت في نفس الوقت أيضًا ستُؤجر على عملك؛ لماذا؟ لأنك ستؤجر على الطواف وإن كان لغيرك، لكن أمامك فرصة أيضًا للتطوع، وكذلك الدعاء الذي يفعله الإنسان بعرفات وتكبيره أيضًا عند رمي الجمرات، وما يقوم به من أعمال طيبة في هذه الأماكن سيُؤجر عليها، ثم العمل نفسه من حيث الجملة يُؤجر عليه؛ لماذا؟ لأنك في هذا العمل أعنتَ أخاك المسلم على الخير؛ استجابة لقول اللَّه تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، أليس هذا من أعمال البر؟ أليس من أعمال التقوى؟ بلى، إذًا أنت تؤجر عليه؛ لأنك عملت ذلك استجابة لأمر ربك، ولما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(فَإِنْ نَقَصَ مَا أَخَذَهُ عَنِ الْبَلَاغِ وَفَّاهُ مَا يُبَلِّغُهُ، وَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رَدَهُ.
وَالثَّانِي: عَلَى سُنَّةِ الْإِجَارَةِ.
وَإِنْ نَقَصَ شَيْءٌ، وَفَّاهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلَهُ).
يعني: سنة طريقة الإجارة، وليس مراده سنة هنا: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يعني السنة
(2)
في اللغة، وهي الطريقة، فالمعنى: على طريقة الإجارة، يعني: تتفق معه وتتفاوض، فتقول: أنا سأحج عنك بمبلغ كذا، فيعطيك إياه، وكثير من الذين يحجون يأخذون هذه الأشياء حتى يستفيدوا منها، وبعضهم يقول: أنا محتاج لذلك أيضًا، وإن نقص شيء وفاه من عنده، وإن فضل شيء فله.
(1)
من ذلك: حديث أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهُ فِي عَوْن الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ"، أخرجه مسلم (2699).
(2)
الأصل فيها: الطريقة والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع فإنما يُراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، وندب إليه قولًا وفعلًا، مما لم يَنطق به الكتاب العزيز. انظر:"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 409).
وهذه مسألة أُخرى: هل الحج واجب على المملوك في حال ملكه، أي: في كونه مملوكًا أو لا؟
الجواب: لا يجب عليه؛ لماذا
(1)
؟
لأنَّه لا مال له، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
(2)
.
إنَّ العبد لا يملك، وإذا كان لا يملك فلا مال له، والحج يحتاج إلى مال.
ثم -أيضًا- مسألة أُخرى: وهي أن العبد جميع وقته ملك لسيده، إلا الأوقات التي يصلي فيها وغيرها، فهنا لو ذهب إلى الحج ستتعطل مصالح سيده، ويتأثر بذلك.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف يترك حقوق اللَّه وينشغل بحقوق المخلوق؟
والجواب: أن هذه سنة اللَّه في خلقه، لكن اللَّه تعالى حَضَّ على العتق ورَغَّب فيه، ثم رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك
(3)
، وبَيَّن فضل ومكانة أن من يعتق أن اللَّه سبحانه وتعالى في الآخرة، وسيسعد -أيضًا-في هذه الدنيا، وقد مَرَّ بنا أن من الكفارات عتق رقبة، وكذلك جاء في كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك في الظهار، وكذلك كفارة اليمين
(4)
.
(1)
تقدَّم الكلام على حَجِّ العبد، وأن الحرية مِن شروط الحج.
(2)
أخرجه البخاري (2250)، ومسلم (1543).
(3)
منها: ما أخرجه أحمد في "المسند"(9441)، عن سعيد بن مرجانة:"أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن أعتق رقبة مؤمنة أعتق اللَّه بكل إرب منها إربًا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرِّجل الرِّجل، وبالفرج الفرج"، فقال علي بن حسين: أأنت سمعتَ هذا من أبي هريرة؛ فقال سعيد: نعم، فقال عليُّ بن حسين لغلام له أفره غلمانه: ادع لي مطرفًا، قال: فلما قام بين يديه، قال: اذهب فأنت حُر لوجه اللَّه عز وجل"، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
(4)
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وقوله: =
إذًا، هذا إنسان لا يلزمه الحج؛ لأنه أولًا: لا مال له، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سبق معنا:"مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
(1)
، انظروا أزال الرسول صلى الله عليه وسلم كل إشكال، فمن هو المبتاع؛ هو المشتري، فإذا اشترط المشتري هذا العبد وما معه من المال فله ذلك.
والعلماء يدققون في هذه المسألة بأن يذكروا ذلك ضمن القواعد، أيضًا إذا بيع العبد
(2)
وعليه مثلًا ثياب لها قيمة كبيرة؛ فلمن تكون هذه؟
والجواب: ما كان معتادًا فلا شك أنه يباع معه، أما الشيء غير المعتاد الذي يتزين به لسيده وعند ضيوفه، فهذه هي التي فيها خلاف بين العلماء.
= {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وقوله:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3].
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (6/ 4)، حيث قال:"ومال العبد لمولاه عند الجمهور، وعند الظاهرية للعبد، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي والشعبي ومالك وأهل المدينة؛ لما روي عن ابن عمر -رضي اللَّه تعالى عنهما- أنه عليه السلام قال: "مَن أعتقَ عبدًا وله مال، فالمالُ للعبد"، رواه أحمد. وكان عمر رضي الله عنه إذا أعتق عبدًا لم يتعرض لماله".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 363)، حيث قال:"العبد يملك عندنا حتى يَنتزع سيده ماله".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (4/ 233)، حيث قال:" (لا يملك العبد بتمليك سيده في الأظهر)، كما لا يملك بالإرث، وتمليك غير السيد، ولأنه مملوك فأشبه البهيمة، وهذا هو الجديد، وبه قال أبو حنيفة. والقديم: يَملك، وبه قال مالك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن باع عبدًا وله مالٌ"، فأضاف المالَ إليه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 515)، حيث قال:"العبد وماله كانا للسيد، فأزال ملكه عن أحدهما، فبقي ملكه في الآخر كما لو باعه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن باع عبدًا وله مال فماله للبائع، إلا أن يَشترطه المبتاع".
* قال: (وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ حَتَّى يُعْتَقَ
(1)
، وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ عَلَى مَنْ تَجِبُ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ).
أوجب أهل الظاهر الحج على العبد
(2)
، قالوا: لأن اللَّه تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} والعبد يدخل ضمن
(1)
الحرية من شروط الحج.
فعند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 3)، حيث قال:"وأما اشتراط البلوغ والحرية فلقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما صَبي حَجَّ به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج بأهله فمات فأجزأت عنه، فإن أعتق فعليه الحج"، ذكره أحمد، وعليه إجماع المسلمين؛ ولأن الحج مشتمل على المالي والبدني، وفي نية الصبي قُصور؛ ولهذا سقط عنه الفرائض كلها ولا مال للعبد؛ ولأنه مشغول بخدمة المولى، فلو وجب عليه الحج لبطل حق المولى في زمان طويل، وحق العبد مُقَدَّم، فصار كالجهاد بخلاف الصلاة والصوم".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 487)، حيث قال:"لا يَجب الحج على عبد، ولا على مَن فيه شائبة رِق؛ مِن مكاتب، ومُدبر، ومعتق لأجل، وأم ولد، ومعتق بعضه".
وعند الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (1/ 251)، حيث قال عن الحج والعمرة:"فلا يَجبان على مَن فيه رق؛ لأن منافعه مستحقة لسيده، وفي إيجاب ذلك عليه إضرار لسيده".
وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (1/ 335)، حيث قال:"لا يجب على الصغير، ولا على قن، وكذا مكاتب، ومدبر، وأم ولد، ومعتق بعضه، ويصح منهم، ولا يجزئ حجة الإسلام إلا أن يُسلم، أو يفيق، أو يبلغ، أو يعتق في الحج قبل الخروج مِن عرفة أو بعده قبل فوت وقته إن عاد فوقف، وللزمه العود إن أمكنه، وفي العمرة قبل طوافها فيجزئهم".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 13)، حيث قال: "وأما حج العبد والأمة، فإن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي قالوا: لا حَجَّ عليه، فإن حج لم يُجزه ذلك من حجة الإسلام.
وقال أحمد بن حنبل: إذا عتق بعرفة أجزأته تلك الحجة.
وقال بعض أصحابنا: عليه الحج كالحُر".
الناس، والعبادات لا يختلف فيها أحد؛ فلماذا نوجبها على الحر ولا نُوجبها على العبد؟
* قال: (وَمِمَّنْ تَقَعُ. وَأَمَّا مَتَى تَجِبُ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟)
هذه المسألة التي عرض لها المؤلف: متى تجب؟ أي: متى تجب فريضة الحج؟ نحن عرفنا أن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن الدليل على وجوبه: كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك موضع إجماع هذه الأمة، لكن الذي بقي هنا أن نعرف متى يجب؟ ما دمنا عرفنا أنه واجب، فهل هناك وقت يتعين أن يُؤدى الحج فيه؟ وهي المسألة التي يُعَبِّر عنها الفقهاء: هل الحج على الفور أو على التراخي؟
(1)
؛ أي: هل يجب على
(1)
الحج واجب على الفور عند الحنفية.
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 132)، حيث قال:"ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له: الحج في كل عام، أم مرة واحدة؟ فقال: "لا، بل مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع"، ثم واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه".
وعند المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي"(2/ 2)، حيث قال:" (وفي فوريته)؛ أي: في وجوب الإتيان به أول عام القدرة عليه، فيعصي بالتأخير عنه ولو ظن السلامة، وهو المعتمد، (وتراخيه؛ لخوف الفوات)؛ أي: إلى وقت يخاف فيه فوأته بالتأخير إليه". وانظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 282).
وعند الشافعية: على التراخي، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 456)، حيث قال:" (وجوب الحج والعمرة) ومِن حيث الأداء (على التراخي)، فلمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره: أن يُؤخره بعد سنة الإمكان؛ لأنه فرض سنة خمس، كما جزم به الرافعي هنا، أو سنة ست كما صححه في "السير"، وتَبِعه عليه في "الروضة"، ونقله في "المجموع" عن الأصحاب".
وعند الحنابلة: على الفور.
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 377)، حيث قال:" (ويَجبان في العمر مرة واحدة)؛ لما روى أبو هريرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فَحُجُّوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لو قلت: نعَم، لوجبت، ولما استطعتم". . (على الفور) فيَأثم =
الإنسان إذا تَمَكَّن من أداء الحج بشروطه المعروفة التي مَرَّت بنا: أنه يلزمه أن يُؤديه في ذلك الوقت الذي اجتمعت فيه شرائط الحج وليس له أن يؤخره، أم أن عمر الإنسان ظرف لهذا الركن، فمتى ما أداه في أيِّ وقت -سواء بادر بأدائه أو أَخَّره- فإن ذلك مكان لأدائه؟
وثمرة الخلاف تظهر هنا فيمن أَخَّر الحج فأدركته المنية، مع قدرته على أدائه قبل وفاته، أمَّا مَن يدركه الموت وهو عن أدائه، إمَّا ببدنه أو بماله، أو لوجود عارض من العوارض الذي يمنعه كأن يكون الطريق غير آمن، ففي هذه الحالة يختلف الحال، أما الذي هو محل خلاف أو ثمرة الخلاف فيمن قدر على أداء الحج وأَخَّره مع القدرة عليه العلماء.
فقد اختلفوا في ذلك؛ فمنهم مَن يرى أنَّه يَجب على المسلم إذا قَدر على أداء الحج: أن يُبادر إلى ذلك، وألا يؤخره إلى وقت آخر، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة من كتاب اللَّه عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أما من الكتاب: فقول اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، فـ (على)
(1)
مِن صيغ الوجوب، والأمر عادة عندما يُطلق إنما ينصرف في أول أمره إلى الفورية.
إذًا، هذه الآية دليل على وجوب الحج، وهي -أيضًا- تدل على وجوبه عند القدرة عليه؛ لأن الأمر فيها صريح، فلا يجوز أن يؤخر ذلك عن وقت القدرة عليه.
وصَحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيُّها الناس، إنَّ اللَّه كتَبَ عليكم الحَجَّ فَحُجُّوا"
(2)
؛ أي: فرض عليكم الحج، وفي رواية: "يا أيُّها الناس،
= إن أخَّر بلا عذر، بناءً على أنَّ الأمر المطلق للفور، ويُؤيده خبر ابن عباس مرفوعًا قال:"تَعَجَّلوا إلَى الْحَجِّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ"، رواه أحمد".
(1)
هي كلمة إيجاب، يعني: لفظ (على) مِن صيغ الإلزام. انظر: "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 14).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(2304)، عن ابن عباس، قال:"خطبنا -يعني: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، كُتِب عليكم الحَجُّ"، قال: فقام الأقرع بن =
قد فرض اللَّه عليكم الحج فَحُجُّوا"
(1)
في الحديث المطول في هذه الرواية.
ثم -أيضًا- يقول هؤلاء: أليس اللَّه عز وجل يأمرنا بأن نُسارع إلى فِعل الخيرات، وأن نبادر إلى طلب المغفرة منه، وأن نتسابق في فعل الأفعال الحسنة التي تُقربنا إلى اللَّه عز وجل وتُجنبنا معاصيه، واللَّه تعالى يقول:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، ويقول تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، فإن أداء الفرض في أول وقته مع القدرة عليه إنما هو مبادرة إلى فعل الخيرات ومسارعة إلى ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، فلا نريد أن نسترسل فيها.
وأما الذين قالوا: إن الحج واجب، لكنه يجب على التراخي؛ أي: يجوز للإنسان مع قدرته -مثلًا- أن يؤديه في هذا العام، وله أن يؤخره إلى العام القادم، أو الذي يليه، أو الذي يليه، وهكذا.
ويؤيدون ذلك بأن عمر الإنسان إنَّما هو بمثابة ظرف لذلك، فله أن يؤدي هذه الفريضة في أي جزء وفي أي وقت من هذا الظرف المُوَسَّع، ويقيسون -أيضًا- ذلك على الصلاة، ويقولون: أليس للصلاة وقت، ووقتها له أول وآخر، كما بَيَّن ذلك جبريل عندما صَلَّى برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(2)
،
= حابس، فقال: أَفِي كل عام يا رسول اللَّه؟ قال: "لو قُلتها لَوَجبت، ولو وَجَبت لم تَعملوا بها -أو: لم تستطيعوا- أن تَعملوا بها؛ الحَجُّ مَرَّة؛ فمَن زاد فهو تَطوع"، وصححه الأرناؤوط.
(1)
أخرجه مسلم (1337).
(2)
يعني: حديث ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مَرَّتين، فَصَلَّى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قَدر الشِّراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي -يعني المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظِله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر"، ثم التفت إليَّ فقال:"يا محمد، هذا وقت الأنبياء مِن قَبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين"، أخرجه أبو داود (393)، وغيره، وصححه الألباني في "المشكاة"(583).
فإنه صَلَّى به الصلوات في أول وقتها في اليوم الأول؛ فمثلًا صلى به الظهر في اليوم الأول عندما زالت الشمس، وصلى به في اليوم الثاني عندما صار ظِلُّ كل شيء مثله؛ أي: في آخر الوقت. . .
وأيضًا في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الصلاة، فأبقاه معه حتى أراه كيف وقت الصلاة؟
(1)
.
إذًا، قالوا: الصلاة لها وقت أول ووقت آخِر، والتفريط: إنما هو أن تؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، فقاسوا الحج على الصلاة، فقالوا: الصلاة عبادة، وهي ركن من أركان الإسلام، ولها وقت مُوَسَّع، ويجوز للإنسان أن يفعلها في أول الوقت وفي آخره، وكذلك -أيضًا- الحج ركن ويُقاس على الصلاة، ووقته -أيضًا- مُوَسَّع، فيُلحق بذلك، هذه هي أيضًا وجهة هؤلاء.
فهذا معنى قولهم: على الفور أو على التراخي، لكننا نقول: هل يستطيع الإنسان أن يضمن أن يعيش ليؤدي الحج، ففرق بين وقت الصلاة وبين وقت الحج، فالحج يأتي مرة في العام، وأما الصلاة فإنها تتكرر في كل يوم خمس مرات، ثم الوقت المحدفى للصلاة فهو وقت قليل جدًّا إذا ما قورن بوقت الحج، فلو صليت الصلاة في أول وقتها أو في آخرها فالغالب السلامة، هذا مع أن الحياة والموت بيد اللَّه.
إذًا، وقت الصلاة يختلف عن الحج، ثم إن وقت الصلاة يختلف
(1)
أخرجه مسلم (613)، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له:"صَلِّ معنا هذين"، يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالًا فَأَذِّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أَخَّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يَغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال:"أين السائل عن وقت الصلاة؟ "، فقال الرجل؛ أنا يا رسول اللَّه، قال:"وقتُ صلاتكم بين ما رأيتم".
عن الحج من ناحية أُخرى، وهي عدم وجود فاصل؛ لأنك إذا ما أَخَّرت الحج إلى عام قادم، فستمر بك أشهر لا يمكن أن تؤدي العبادة فيها؛ لأن الحج إنما يؤدى في أوقات محددة معروفة، لكن الصلاة وقتها مُضَيَّق مهما كان موسعًا، وذلك بالنسبة للحج، وأنه لا يتجزأ؛ أي: لا يوجد فاصل خارج عنه، ولذلك القياس
(1)
عليها غير وارد؛ لأنه قياس -كما هو معروف- مع الفارق الذين يقولون: إن الحج ليس على الفور، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حَجَّ -على المشهور- في العام العاشر، وقيل: إن الحج فُرض في السنة الخامسة. وقيل: في السنة السادسة. وقيل: في السنة الثامنة. وقيل: في السنة التاسعة. وقيل أيضًا: في العاشرة. وقيل أيضًا: قبل أن يُهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
(2)
، ومهما كان فالقول المشهور أنه في العام العاشر؛ فيقولون: لماذا أَخَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحج إلى العام العاشر، مع أنه لم يظهر هناك مانع شرعي يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من أداء الحج قبل ذلك العام؟
قد يقال: إنه قبل فتح مكة هناك مانع، وربما يصده المشركون، ومكة بعدُ لم تكن بلد إسلام، لكنها فتحت -كما هو معلوم- في العام الثامن، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في العام التاسع، وإنما أَرسل أبا بكر أميرًا على الناس في الحج، إذًا قالوا: هذا دليل على أن الحج ليس على الفور، وإنما هو على التراخي؛ لأنه لو كان على الفور لكان الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
القياس هو: رَدُّ فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما.
وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل.
وقيل: موازنة الشيء بالشيء.
وقيل: اعتبار الشيء بغيره. انظر: "العدة في أصول الفقه"، لأبي يَعلى الفراء (1/ 174).
(2)
قال الحافظ ابن كثير: "وكان فرض الحَجِّ في السنة السادسة في قول بعض العلماء، وفي التاسعة في قول آخرين منهم، وقيل: سنة عشر، وهو غريب، وأغرب منه ما حكاه إمام الحرمين في "النهاية" وجهًا لبعض الأصحاب: أن فرض الحج كان قبل الهجرة. انظر: "الفصول في السيرة" (ص 227).
أسرع الناس مبادرة إليه، فقالوا: هذا دليل على عدم وجوبه على الفور.
والآخرون ردوا وقالوا: أبدًا ليس في هذا دليل؛ لأن الأصل في ذلك إنما هو المبادرة، ودعوى أنه فُرض في مكة أو في السنة الخامسة أو السادسة أو الثامنة، هذه كلها أقوال مرجوحة، وبعضها ضعيف، وإنَّما المشهور -بل القول الصحيح- أنه فرض في السنة التاسعة؛ بدليل أن آية الحج التي هي جزء من سورة آل عمران صدر تلك السورة إنما نزلت في عام الوفود
(1)
، وعام الوفود إنما كان في السنة التاسعة؛ أي: العام الذي كان يفد الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه؛ ليأخذوا من علمه ويتفقهوا في دين اللَّه.
إذًا، ما الجواب عن ذلك؟
الجواب: إمَّا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَخَّر ذلك لعذر، والعذر لم يَظهر، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم انشغل بأمرٍ لا يقل أهمية عن أداء الحج، وبالنسبة لأداء الحج في العام التاسع؛ لأن ذاك العام -كما أشرنا- إنما هو عام الوفود، وكان الناس يأتون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِن كل حدب وصوب، يأتون من أطراف الجزيرة ووسطها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليتفقهوا في دين اللَّه، وليعلن بعضهم إسلام أقوامهم، ولذلك انشغل الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر هو في غاية الأهمية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عملتم سابقًا -وهو من المحافظين المداومين على السُّنن الرواتب- رأينا أنه صلى الله عليه وسلم انشغل عن الركعتين بعد الظهر عندما جاءه وفد بني عبد قيس بإسلام قومه، وصلَّاها بعد العصر
(2)
،
(1)
كان عام الوفود في السنة التاسعة - دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، كما أعلم اللَّه سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وجعله علمًا لقرب أجله. انظر:"حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار"، لمحمد بن عمر بحرق (ص 365)، و"سيرة ابن هشام"(2/ 559).
(2)
يعني: الحديث الذي أخرجه البخاري (1233) ومسلم (834)، عن كريب: "أنَّ ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر عز وجل أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسَلْها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أُخبرنا عنك أنك تُصلينهما، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال ابن =
ولما سئل عن ذلك أفاد صلى الله عليه وسلم أنهما الركعتان بعد الظهر، وأنه جاءه وفد من بني عبد القيس بإسلام قومهم؛ فشغلوه عن الركعتين، فهما هاتان، وذلك ثابت في "الصَّحيحين"، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم سَيَحج بالناس، وهذه الحجة هي حَجة الوداع، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَجتمع حوله جمعٌ غفير من الناس وهو ما تحقق، ولأن مكة لا تزال فيها بعض آثار الشرك، ولذلك عندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا أمره أن يتخذ منادين ينادون ألَّا يحج بالبيت مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان
(1)
، وكانت النساء يَطفن بالبيت عرايا، ويَقلن:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أُحِلُّه
(2)
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُطَهِّر هذا البيت العظيم وهذه الكعبة الشريفة مِن أدناس الشرك والأوثان، وألا يأتي إلا وهي صافية نقية، وقد تحقق له ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما حَجَّ في العام العاشر كانت مكة قد طهرت
= عباس: وكنت أضربُ الناس مع عمر بن الخطاب عنها، فقال كريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها، فبلغتها ما أرسلوني، فقالت: سَلْ أم سلمة، فخرجت إليهم، فأخبرتهم بقولها. . . تقول لكَ أم سلمة: يا رسول اللَّه، سمعتُك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: قال: "يا بنت أبي أُمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الرَّكعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان".
(1)
أخرجه البخاري (1622) ومسلم (1347)، عن حميد بن عبد الرحمن:"أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أَمَّره عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل حَجَّة الوداع يوم النحر في رهط يُؤذن في الناس: "أَلَا لا يَحج بعد العام مُشرك، ولا يَطوف بالبيت عريان".
(2)
أخرجه مسلم (3028)، عن ابن عباس، قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: مَن يُعيرني تطوافًا؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ".
من أدناس الأصنام والأوثان، وحج مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمعٌ غفير لا تُرى أطرافه من عن يمين رسول اللَّه وعن شماله ومن أمامه ومِن خلفه
(1)
، هذا عدا -أيضًا- الذين لحقوا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المشاعر.
وبهذا نتبين أن الأَوْلَى بالمسلم إذا لم يكن معذورًا وكان قادرًا على أداء الحج: أن يُبادر إلى هذا العمل الجليل؛ وخاصة أنه ركن من أركان الإسلام، وأن الإنسان إذا مات وهو مقصر فإنه سيسأل عن ذلك؛ لذا ينبغي أن نُبادر إلى أداء ذلك الركن، وألا نتساهل فيه.
* قال: (وَالْقَوْلَان مُتَأَوَّلَانِ عَلَى مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ).
أكثر العلماء يَرون أنَّها على الفور، وإذا أخذنا الخلافات اليسيرة في المذاهب فنقول: إن المالكية والحنابلة والحنفية يرون أنَّها على الفور، وأنَّ الشافعية هم الذين يَرَون أنَّها على التراخي
(2)
.
(وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي، وَبِالْقَوْلِ: إِنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ)
(3)
.
المختار في المذاهب الثلاثة كلها: أنه على الفور.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ عَلَى التَّوْسِعَةِ.
وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ: عَلَى التَّوْسِعَةِ: أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه مسلم (1218) عن جابر، وفيه:". . . فقال: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يَحج، ثم أَذَّن في الناس في العاشرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجٌّ؛ فَقَدِم المدينة بَشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويعمل مِثل عمله. . . "، الحديث.
(2)
تقدَّم الكلام على هذا.
(3)
تقدَّم.
بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ لَبَيَّنَهُ)
(1)
.
مِن العلماء مَن يقول: إن الأدلة التي يَستدل بها الذين قالوا: إن الحج ليس على الفور: قول اللَّه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ويقولون الذين يرون أنه على الفور ليس في ذلك دلالة على فرضية الحج، وإن ما فيه إتمامهما، وأن الحج بعدُ لم يُفرض.
(وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ كَانَ الْأَصْلُ تَأْثِيمَ تَارِكِهِ حَتَّى يَذْهَبَ الْوَقْتُ).
لأنهم قالوا: ليس من الحكمة أن يُفرَض ركن من الأركان، والمسلمون غير قادرين على أدائه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صُدوا عن العمرة
(2)
، ثم بعد ذلك قضاها صلى الله عليه وسلم في العام السابع، لكن أولئك يقولون: يُفرض، فإن مُنع يكون ذلك عذرًا.
* قال: (أَصْلُهُ: وَقْتُ الصَّلَاةِ).
يعني: يريد المؤلف أن يقول: لما كان الحج خاصًّا بوقتٍ فإذا ما أَخَّره الإنسان يكون آثمًا بتأخيره عن وقته؛ كالحال بالنسبة للصلاة، أليس
(1)
تقدَّم قوله.
(2)
أخرجه البخاري (2731)، عن المسور بن مخرمة ومروان، يُصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا:"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريشٍ طليعة؛ فخذوا ذات اليمين"، فواللَّه ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل. فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حَبَسها حابس الفيل"، ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه إلا أعطيتهم إياها. . . "، الحديث.
مَن يؤخر الصلاة عن وقتها يكون آثمًا إلا أن يكون معذورًا كما جاء في الحديث الصَّحيح: "مَن نام عن صَلَاةٍ أو نَسِيَها فَلْيُصَلِّها مَتى ذكرها، فإنَّه لا كفارةَ لها إلا ذلك"
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس التَّفريط في النَّوم، إنَّما التفريط أن تُؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأُخرى"
(2)
، هذا هو التساهل والتفريط بأن تجلس تنتظر حتى يخرج وقت هذه الصلاة فيدخل وقت صلاة أُخرى، فأنت بذلك أخللت بشرط من شروط صحة الصلاة، ألا وهو الوقت.
* قال: (وَالْفَرْقُ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ: أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ، وَالصَّلَاةُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ شَبَّهَ أَوَّلَ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الْحَجِّ الطَّارِئَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي").
لكننا قلنا: هو قياس مع الفارق؛ لأن هذا وقت -مهما كان موسعًا بالنسبة للصلاة- فهو مُبَيَّن.
(وَمَنْ شَبَّهَهُ بِآخِرِ الْوَقْتِ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: عَلَى الْفَوْرِ.
وَوَجْهُ شَبَهِهِ بِآخِرِ الْوَقْتِ: أَنَّهُ يَنْقَضِي بِدُخُولِ وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُهُ، كَمَا يَنْقَضِي وَقْتُ الصَّلَاةِ بِدُخُولِ وَقْتٍ لَيْسَ يَكُونُ فِيهِ الْمُصَلَّي مُؤَدِّيًا).
انظروا (لَيْسَ يَكُونُ فِيهِ الْمُصَلِّي مُؤَدِّيًا)، وإنما يكون قاضيًا
(3)
، يعني:
(1)
أخرجه البخاري (572)، ومسلم (684).
(2)
أخرجه مسلم (681)، عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:". . . أما إنه ليس في النوم تفريط، إنَّما التفريط على مَن لم يُصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأُخرى؛ فمَن فَعل ذلك فليصلها حين يَنتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها".
(3)
الواجب إذا أُدِّي في وقته سُمِّي أداء، وإن أُدِّي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المُقَدَّر سُمِّي قضاء، وإن فعل مرة على نوع من الخلل، ثم فعل ثانيًا في الوقت سُمِّي إعادة. انظر:"المستصفى" للغزالي (ص 76).
لو أن إنسانًا فاتته صلاة العصر مثلًا، ثم أداها في وقت صلاة المغرب يكون قاضيًا لها، كذلك الحال بالنسبة للظهر مع العصر، وهكذا، وهذا يختلف باختلاف الحج، فإن كان الإنسان أَخَّر ذلك لعذر فإنه لا إثم عليه، أمَّا إن كان مفرطًا فإنه يأثم.
(وَيَحْتَجُّ هَؤُلَاءِ بِالغَرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُكَلَّفُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى عَامٍ آخَرَ، بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ إِمْكَانِ وُقُوعِ الْمَوْتِ فِي مُدَّةٍ مِنْ عَامٍ).
يعني: من الإنسان على هذه الحياة الذي يضمن أن يعيش أوقاتًا محددة؛ لأن هذه أُمور بيد اللَّه سبحانه وتعالى.
* قال: (وَيَرَوْنَ أَنَّهُ بِخِلَافِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَّا نَادِرًا).
هو في الغالب، لكن لا أحد يستطع بأنه لا يموت فيه، لكن الغالب أن الإنسان في وقت الصلاة يبقى.
(وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ التَّأْخِيرَ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ مَعَ مُصَاحَبَةِ الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ، وَالتَّأْخِيرُ هَاهُنَا يَكُونُ مَعَ دُخُولِ وَقْتٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْعِبَادَةُ).
مراد المؤلف: أنه لو أن إنسانًا مثلًا انشغل عن الصلاة بأن نام عنها، أو وُجِد عنده ظرف أو حائل أو مانع يمنعه الصلاة، فعليه أن يؤديها في الوقت الذي يليه، لكن لو أن إنسانًا فاته الوقوف بعرفة
(1)
؛ أي: فاته اليوم التاسع وليلة العاشر، فقد انتهى الحج في هذا اليوم الواحد، فلا يستطيع أن يؤديه، بل يحتاج أن ينتظر للعام القادم حتى يَحج فيه.
(1)
قال ابن المنذر في "الإجماع"(ص 57): "وأجمعوا على أن الوقوف بعرفة فرض، ولا حج لمن فاته الوقوف بها".
(فَهُوَ لَيْسَ يُشْبِهُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ).
يعني: يقول المؤلف: إن الوقت الذي يلي وقت الصلاة تقضى الصلاة فيه، لكن في الحج ليس لك فعل ذلك، إذًا هنا قياس مع الفارق.
(وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، لَيْسَ يُؤَدِّي التَّرَاخِي فِيهِ إِلَى دُخُولِ وَقْتٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ وُقُوعُ الْمَأْمُورِ فِيهِ، كَمَا يُؤَدِّي التَّرَاخِي فِي الْحَجِّ إِذَا دَخَلَ وَقْتُهُ، فَأَخَّرَهُ الْمُكَلَّفُ إِلَى قَابِلٍ).
يعني: لو أن إنسانًا لم يقف بعرفة: هل له أن يقف في اليوم العاشر؟
لا، لكن لو أن إنسانًا فاتته صلاة المغرب إنما يصليها في وقت العشاء، وكذلك -أيضًا- أهل الأعذار لهم أن يجمعوا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء
(1)
، فالأوقات هناك موسعة، وهناك
(1)
عند الحنفية: "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 88): "قال رحمه الله: وعن الجمع بين صلاتين في وقت بعذر، يعني: منع عن الجمع بينهما في وقت واحد بسبب العذر، أحترز بقوله: في وقت عن الجمع بينهما فعلًا بأن صلى كل واحدة منهما في وقتها بأن يُصَلِّي الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، فإنه جمع في حق الفعل، وإن لم يكن جمعًا في الوقت، واحترز بقوله: بعذر، عن الجمع في عرفة والمزدلفة، فإن ذلك يجوز، وإن لم يكن لعذر".
وعند المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 70)، حيث قال:"يُرخص في الحضر برجحان جمع العشاءين فقط بأن يقدم الثانية عند الأولى بكل مسجد، وفي كل بلد كانت المدينة، أو غيرها لأجل المطر الغزير، وهو الذي يحمل الناس على تغطية الرأس، أو الطين الذي يمنع المشي بالمداس مع ظلمة الشهر لا الغيم، ومثل المطر الثلج والبرد، ولا يجوز الجمع المذكور لأجل طين فقط، ولا لأجل ظلمة ولو مع ريح شديد".
وعند الشافعية، ينظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 272)، حيث قال:"إذا أَخَّر الصلاة بعذر فلا شيء عليه في إخراج بعض الصلاة عن وقتها، أو بلا عذر فقد أثم".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 7)، حيث قال:"يجوز الجمع بين العشاءين لا الظهرين؛ لمطر يبل الثياب، زاد جمع: أو يَبل النعل أو البدن، وتُوجد معه مشقة".
أصحاب الأعذار، والحائض والنفساء تقضيان الصلاة في آخر الوقت، فمثلًا: لو أن امرأة حائضًا طَهرت قبل طلوع الفجر الصادق، فإنها في هذه الحالة على رأي جماعة من العلماء تُصَلِّي المغرب والعشاء
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 59)، حيث قال:"إذا أدركت من الوقت بقدر أن تَقدر على الاغتسال والتحريمة؛ لأن زمان الاغتسال هو زمان الحيض فلا تَجب الصلاة في ذمتها ما لم تُدرك قدر ذلك من الوقت، ولهذا لو طهرت قبيل الصبح بأقل من ذلك لا يجزيها صوم ذلك اليوم، ولا يجب عليها صلاة العشاء، فكأنها أصبحت وهي حائض، ويجب عليها الإمساك".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 172)، حيث قال:" (وليس عليها)؛ أي: على الحائض لا وجوبًا ولا ندبًا (نظر طهرها قبل الفجر)، لعلها تدرك العشاءين والصوم، بل يكره؛ إذ هو ليس من عمل الناس، ولقول الإمام: لا يُعجبني، (بل) يجب عليها نظره (عند النوم) ليلًا؛ لتعلم حكم صلاة الليل والصوم، والأصل استمرار ما كانت عليه، (و) عند صلاة (الصبح) وغيرها من الصلوات وجوبًا موسعًا في الجميع إلى أن يبقى ما يسع الغسل والصلاة فيجب وجوبًا مضيقًا، ولو شَكَت هل طهرت قبل الفجر أو بعده سَقطت الصلاة، يعني: صلاة العشاءين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (1/ 114)، حيث قال:"الحكم إذا زالت الموانع آخر الوقت، أو طرأت أول الوقت، ولو زالت هذه الأسباب المانعة من وجوب الصلاة، وقد بقي من الوقت قدر تكبيرة فأكثر - وجبت الصلاة؛ لأن القدر الذي يتعلَّق به الإيجاب يستوي فيه قدر الركعة ودونها، ويجب الظهر مع العصر بإدراك قدر زمن تكبيرة آخر وقت العصر، ويجب المغرب مع العشاء بإدراك ذلك آخر وقت العشاء؛ لاتحاد وقتي الظهر والعصر ووقتي المغرب والعشاء في العذر، ففي الضرورة أولى، ويشترط للوجوب أن يخلو الشخص عن الموانع قدر الطهارة والصلاة أخف ما يجزي كركعتين في صلاة المسافر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 259)، حيث قال: "والأصل: أنه لا تَجب صلاة إلا بإدراك وقتها، (وإن بقي قدرها)؛ أي: قدر التكبيرة (مِن آخره)؛ أي: آخر الوقت (ثم زال المانع) من حيض أو جنون ونحوه (ووجد المقتضي) للوجوب (ببلوغ صبي، أو إفاقة مجنون، أو إسلام كافر، أو طهر حائض) أو نفساء (وجب قضاؤها وقضاء ما تجمع إليها قبلها، فإن كان) زوال المانع، أو طروء التكليف (قبل طلوع الشمس لزمه قضاء الصبح) فقط؛ لأن التي قبلها لا تُجمع إليها، (وإن كان قبل غروبها لزم قضاء الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر لزم قضاء المغرب والعشاء)؛ لما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس: أنهما قالا في الحائض تَطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلي =
(فَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ بَابِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ: هَلْ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ كَمَا قَدْ يُظَنُّ).
يعني: يريد المؤلف أنَّ يقول: إن الخلاف أكثر من ذلك، فليس مجرد الخلاف في مطلق الأمر؛ هل هو على الفور أو على التراخي، لا، بل هناك -أيضًا- قضية أُخرى.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا).
هذه مسألة هامة جدًّا، وهي -أيضًا- ليست مرتبطة بالحج وحده، ولقد تساهل كثير من المسلمين في أمر النساء، فتجد أن النساء يتنقلن من مكان إلى مكان، ويجاورها الأجنبي في ذلك، ونقصد بذلك السَّفر أولًا بالنسبة لسفر المرأة، هذا الحكم ينقسم إلى قسمين: أن يكون سفرها مع غير ذي محرم، يعني أن تسافر وليس معها محرم بغير الحج، أو أن يكون في الحج، أما بالنسبة لغير الحج؛ فلا خلاف بين العلماء -فيمن يعتد بخلافه- أن لا يجوز للمرأة أن تسافر يومًا أو ليلة أو مسيرة يوم وليلة -أو ثلاثة أيام- إلا ومعها ذي محرم
(1)
، هذا بالنسبة لغير الحج، ووقع خلافهم في الحج: هل المَحْرَم شرط في الحج أو لا
(2)
؟ ثم يختلف الذين
= المغرب والعشاء، فإذا طهرت قبل غروب الشمس صَلَّت الظهر والعصر جميعًا؛ لأن وقت الثانية وقت للأُولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه قضاء فرضها، كما يلزم فرض الثانية".
(1)
قال الشافعي: "حَرَّم اللَّه تعالى سبعًا نَسَبًا وسبعًا سَبَبًا؛ فجعل السبب: القرابة الحادثة بسبب المصاهرة والرضاع". انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 472).
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 465)، حيث قال:"ولو حَجَّت بلا محرم جاز مع الكراهة".
قال ابن عابدين في "حاشيته رد المحتار"(2/ 465): " (قوله: مع الكراهة)؛ أي: التحريمية للنهي في حديث "الصَّحيحين": "لا تُسافر امرأة ثلاثًا إلَّا ومعها مَحرم".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 521)، حيث قال: "يُشترط في =
-أيضًا- يقولون بأنه شرط: هل هو شرط وجوب، أو شرط أداء؟
قد يسأل سائل: فيقول: ما الفرق بين الاثنين؟
عندما نقول: إنَّه شرط وجوب أنه لو أن امرأة لم تَجد محرمًا أو وجدت مَحرمًا ولم يخرج معها، ثم بعد ذلك ماتت، فإنها في هذه الحالة لا يَجب عليها الحج، بمعنى: لا يقضى عنها إذا ماتت، وإذا قلنا: هو شرط أداء؛ أي: شرط لأداء هذه الفريضة، فإنها إذا لم تجد محرمًا، أو وجدت مَحرم وامتنع أن يخرج معها، ولو أعطته أجرته - ففي هذه الحالة يُؤَدَّى عنها الحج إذا ماتت من مالها، هنا الفرق بين الاثنين.
نعود إلى مسألتنا: مِن العلماء مَن قال: إنَّ سَفَر المرأة بغير مَحرم منهم من يقول: هو جائز، ومنهم من يقول: إنه غير جائز، والأئمة الأربعة قد انقسموا في هذه المسألة إلى قسمين؛ ففريق منهم يَرى أنَّه لا بدَّ أن يصحبها ذو مَحرم، وبعضهم يَرى أنه لا يَصحبها.
(يُطَاوِعُهَا عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهَا إِلَى السَّفَرِ).
قد تجد المرأة ذا مَحرم من أب أو ابن أو أخ، أو كذلك ابن أخ أو ابن أخت أو عَم أو خال، وهؤلاء السبعة هم الذين نعرفهم بالمحارم مِن ذَوي النَّسب، ويُلحق بهم مثلهم تمامًا أيضًا: المحارم من الرضاعة؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصَّحيح: "يَحرم من الرَّضاعة ما يَحرم من
= وجوب الحج على المرأة أيضًا: وجود زوج أو مَحرم، فإن لم يكن لها محرم ولا زوج، فيجب عليها الخروج للحج في الفرض في رُفقة مأمونة".
وعند الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 216)، حيث قال:"يشترط في وجوب نُسك المرأة: أن يخرج معها زوج أو مَحرم لها بِنَسب أو غيره، أو نسوة ثقات؛ لأن سفرها وحدها حرام، وإن كانت في قافلة؛ لخوف استمالتها وخَديعتها".
وعند الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 394)، حيث قال:"يُشترط لوجوب الحج على المرأة -شابَّة كانت أو عجوزًا- مسافة قصر ودونها: وجود مَحرم".
النَّسب"
(1)
، إذًا ما يُحرمه النسب تُحَرِّمه الرضاعة، وهناك المحرم بالمصاهرة: أبو الزوج، أو ابنه، أو زوج أُمِّها، أو زوج ابنتها، هؤلاء هم المحارم بالمصاهرة.
فلو وَجدت واحدًا مِن المَحارم بالنَّسب، أو بالسبب الذي هو الرَّضاعة، أو بالمصاهرة، ووافق أن يَخرج معها، فإنها في هذه الحالة يَلزمها الخروج على الحج إذا لم يُوجد مانع من الموانع.
* قال: (لِلْحَجِّ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ ذَلِكَ، وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا وَجَدَتْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً)
(2)
.
أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الأحاديث المتفق عليها: "لا يَحِلُّ لامرأة تُؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تُسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذي مَحرم"
(3)
.
وفي حديث ثانٍ: "لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تُسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو مَحرم"
(4)
.
وفي حديث ثالث: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:"انْطَلِقْ؛ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ"
(5)
.
فهذا نصٌّ في المُدَّعى، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل -لمَّا ذكر أن
(1)
أخرجه البخاري (2502)، ومسلم (1445).
(2)
تقدَّم قولهما.
(3)
أخرجه البخاري (1038) ومسلم (1339).
(4)
أخرجه مسلم (1338).
(5)
أخرجه مسلم (1341).
زوجته خرجت إلى الحج- أمره أن ينطلق وراءها ليحج معها.
فهذه الأدلة لم تضع قيودًا أُخرى، ولذلك يقول الإمام الجليل ابن المنذر
(1)
: "إن هؤلاء الأئمة -يعني بذلك مالكًا والشافعي ومَن معهم- لم يأخذوا بالقول الظاهر من هذا الحديث؛ لأن الحديث ظاهره أن المرأة لا تُسافر إلا ومعها ذو مَحرم، ونجد أنهم اشترطوا شروطًا لا دليل عليها؛ فبعضهم يقول: تسافر مع رفقة مؤمنة. وبعضهم يقول: تسافر مع عدد. وبعضهم يقول: تسافر مع نساء". وهكذا نجد أنهم يذكرون عدة أسباب دون أن نجد نصًّا يدل عليها، بينما نراهم لم يعملوا بما جاء في هذا الأحاديث.
* قال: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ
(3)
: "وُجُودُ ذِي الْمَحْرَمِ وَمُطَاوَعَتُهُ لَهَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ").
الآن العلماء انقسموا إلى قسمين؛ فأبو حنيفة وأحمد ومعهم جمع كثير من السلف يرون: أنه لا يجوز لامرأة أن تسافر إلى الحج إلا مع ذي مَحرم.
وذهب مالك والشافعيُّ
(4)
ومَن وافقهما إلى أن ذلك ليس شرطًا، وأنه يجوز للمرأة أن تسافر بغير مَحرم، وأن عدم وجود المحرم لا يكون سببًا مانعًا من أدائها الحج.
(1)
انظر "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 176)، حيث قال: "وأغفلَ قومٌ القولَ بظاهر الحديث، وشرط كلُّ رجل منهم شرطًا لا حُجَّة معهم فيما اشترطوه.
قال مالك: تَخرج مع جماعة من النِّساء.
وقال الشافعي: تَخرج مع ثِقة حُرَّة مُسلمة".
(2)
تقدَّم قولهما.
(3)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 176)، حيث قال: "واختلفوا في وجوب الحَجِّ على المرأة التي لا مَحرم لها.
فقالت طائفة: المَحرم مِن السبيل؛ منهم النخعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، أصحاب الرأي".
(4)
تقدَّم قولهما.
واحتج الذين يقولون بأن المحرم لا يُشترط بقول اللَّه عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قالوا: والآية أطلقت، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَفَسَّر الاستطاعة بالزَّاد والراحلة، ولم يفسر ذلك بوجود محرم، فَدَلَّ ذلك على أنَّ المحرم ليس شرطًا، هذا هو الدليل الأول.
واستدلوا ثانيًا بالحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث عدي بن حاتم
(1)
، والذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يخبر ببعض المغيبات، وهو الذي لا ينطق عن الهوى - قال:"يُوشك أن تَخرج الظَّعينة من الحِيرة تؤم البيت لا جوار لها، ولا تخاف إلا اللَّه"، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يُوشك"؛ أي: يقرب أن يأتي زمن تخرج فيه المرأة من الحِيرة في وسط العراق إلى مكة، وكم بين الحِيرة ومكة؟! فتخرج المرأة تَؤم البيت لا أحد معها مِن محرم ولا غيره، وإنما تخرج وحيدة، وهي في خروجها على هذه الحالة لا تخاف إلا اللَّه؛ أي: لا تخشى إلا اللَّه؛ أي: أنه لا يَعترضها أحد في طريقها، فهذا كناية عن الأمر الذي سيحصل، وها نحن نعيش ذلك، ألا ترون أن الإنسان يَنطلق من أقصى الشرق من هذه البلاد فيأتي إلى مكة، أو يأتي من أقصى الجنوب، أو من أقصى الشمال، وربما يأتي من البلاد المجاورة ويسير وحده ولا يخشى إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وهذه نعمة من نعم اللَّه سبحانه وتعالى، وهذا مما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وربما نحن الذين نعيش في أمن وفي رغد وفي اطمئنان قد لا نشعر كثيرًا بأهمية هذا الأمن، لكن مَن الذي يعرف قيمة هذا الأمن؟ إنما هو الذي يعيش في خوف، ولذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى عندما أمر ببناء بيته ربط ذلك بالأمن، واللَّه سبحانه وتعالى بين أهمية الأمن فيما يتعلَّق باطمئنان نفس المؤمن؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى قال عن
(1)
أخرجه البخاري (3595)، عن عدي بن حاتم، قال:"بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السَّبيل، فقال: "يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ ". قلت: لَم أرها، وقد أُنبئت عنها، قال:"فإن طالت بك حياةٌ لَتَرَين الظعينة تَرتحل من الحِيرة، حتى تَطوف بالكعبة لا تَخاف أحدًا إلا اللَّه. . . "، الحديث.
إبراهيم عليه السلام أنه قال: {. . . فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 81 - 82].
إذًا، انظر الفرق بين طائفتين؛ طائفة تعبد اللَّه سبحانه وتعالى لا شريك له، وبين طائفة تعبد غير اللَّه وتجعل غيره له شريكًا، فأي الفريقين أحقُّ بالأمن؟ بالطبع: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، أولئك لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في هذه الحياة الدنيا، ويسيرون على هدى من اللَّه سبحانه وتعالى، وهذا الهدى سيأخذ بأيديهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو شأن المتقين المؤمنين، ولذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول عن بيته:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 96، 97]، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وإبراهيم عليه السلام قال في دعائه -وهو يُعِدُّ لبناء هذا البيت- كما قال اللَّه عنه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35] قبل ذلك قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37].
لما قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] استجاب اللَّه دعاءه، فقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
إذًا، الأمن هو علامة الاطمئنان وعلامة الراحة، ولذلك نجد أننا نعيش في أمن في ذلك المكان؛ لماذا؟ لأننا طبقنا شرع اللَّه سبحانه وتعالى، ولنوازن فقط بهذه المناسبة بين فترة ليست بعيدة وبين ما نحن فيه الآن، فقبل مجيء الملك عبد العزيز رحمه الله، كان الناس في هذه البلاد في خوف، فلا يأمن الإنسان على نفسه، ولا يأمن على ماله، وربما يسلب جميع ما معه ويُترك يتيه في الصحراء، وربما يلقى به فيموت من الجوع، فتأكله الطير،
أو تفترسه السباع، هذا كله كان موجودًا، ويأتي إنسان فتعترضه جماعة من الوحوش ومن اللصوص فيسلبون ما معه، وربما قتلوه فجاء رحمه الله فأرخى الأمن أولًا، وأزال كل أسباب الخوف؛ لماذا؟ لأنه عندما يتقرب الإنسان إلى الحق تبعد عنه هذه الوحشة، فكان الناس فيما مضى في جفوة، وكانوا متنافرين مختلفين، فنشر بينهم رحمه الله العلم، وأرسل الدعاة والمُوجهين، وجعلهم يَهدون بهدي القرآن؛ فكانت النتيجة كثرة أتباعهم، واستقامة نفوسهم، وهداية قلوبهم، فزالت تلك الوحشة والفجوة التي كانت فيهم، وأصبح الكل إخوة متحابين، وهذه نتيجة تطبيق شريعة اللَّه، فانظر إلى قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يُوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تَؤم البيت لا جوار معها"؛ أي: ليس معها حامي (لا رجل ولا غيره)، وإنما من الذي يَحميها؟ هو اللَّه، فتخاف من اللَّه عز وجل، فهذا دليل آخر استدل به هؤلاء.
ثم استدلوا بدليل ثالث قياسي، فقالوا: أليست المرأة لو أسرها العدو، ثم استطاعت أن تنفك من ذلك الأسر وتخرج أليست تسافر وحدها؟ نقول: بلى. قالوا: إذًا؛ لماذا نَمنع المرأة أن تسافر إلى الحج؛ فتلك سفر طاعة، وهذا -أيضًا- سفر طاعة؛ فلماذا نُفرق بينهما؟
أما الفريق الآخر فأدلتهم واضحة وصريحة، وهي نصوص جاءت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يَحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي مَحرم"
(1)
، وجاء تقييد ذلك في الحج في قصة الرجل الذي اكتتب في غزوة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَنطلق وراء زوجته؛ فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم صنيعه، وأمره أن يذهب مع زوجته لِيَحج معها
(2)
، ولو لم يكن المحرم واجبًا لما أمره بذلك وأكد عليه، ولا سِيَّما أنه اكتتب للخروج لغزوة ما.
وجواب الذين قالوا: إن المحرم شرط: أجابوا عن تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة يقصد به صلى الله عليه وسلم الرجال، فهم الأصل والنِّساء تَبع لهم.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
وبالنسبة للمرأة تضاف لها شروط أُخرى، ثم يقولون: أولًا: هؤلاء الأئمة الذين قالوا: إن المَحرم ليس شرطًا، أليسوا قد أضافوا شروطًا أُخرى، كتخلية الطريق
(1)
، بمعنى أن يكون الطريق مأمونًا، وأن يتمكن من المسير، وأن يكون عنده وقت يستطيع فيه الوصول لأداء الحج في وقته
(2)
،
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(2/ 4)، حيث قال:"هو فرض عليه بشرط أَمن الطريق للكل".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 471)، حيث قال:"اختلف في الحَجِّ: هل هو واجب على الفور؟ بمعنى: أنه إذا وجد سببه وشروطه الآتية وَجب على المكلف المبادرة إليه في أول سَنة يُمكنه الإتيان به فيها، ويعصي بتأخيره عنها، أو هو واجب على التراخي، فلا تجب المبادرة في أول سنة، وإنما تَجب عند خوف الفوات؛ إمَّا لفساد الطريق بعد أمنها، أو لخوف ذهاب ماله أو صِحته، أو ببلوغه الستين".
وعند الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للخطيب الشربيني (1/ 252)، حيث قال: " (و) الشرط السادس للوجوب: تخلية الطريق؛ أي: أمنه ولو ظَنًّا في كل مكان بحسب ما يليق به، فلو خاف في طريقه -على نفسه أو عضوه، أو نفس محترمة معه أو عضوها، أو ماله ولو يسيرًا -سَبُعًا أو عدوًّا أو رصديًّا، ولا طريق له سواه- لم يَجب النسك عليه؛ لحصول الضرر، والمراد بالأمن العام حتى لو كان الخوف في حقه وحده قضى مِن تركته، كما نقله البلقيني عن النص.
ويجب ركوب البحر إن غلبت السلامة في ركوبه وتَعَيَّن طريقًا؛ كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة، فإن غلب الهلاك، أو استوى الأمران لم يجب، بل يَحرم؛ لما فيه من الخطر".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 518)، حيث قال:"يُشترط في الطريق إمكان سلوكه بلا خفارة، فإن لم يمكن سلوكه إلا بها لم يجب".
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 458)، حيث قال:"من شروط الوجوب: الوقت؛ أي: القدرة في أشهر الحج، أو في وقت خروج أهل بلده".
وعند المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 192)، حيث قال:"مِن شروط وجوب الحج: إمكان الوصول لأماكن المناسك من مكة ومنى وعرفة ومزدلفة إمكانًا عاديًّا لا خارقًا للعادة كخطوة وطيران؛ لأنه خلاف ما وقع منه صلى الله عليه وسلم، ولكن إن وقع أجزأ عن حَجَّة الإسلام؛ كتكلف غير مستطيعه".
وعند الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (1/ 252)، حيث قال: "مِن شروط الوجوب: تخلية الطريق؛ أي: أمنه ولو ظَنًّا في كل مكان، بحسب ما يليق به، فلو خاف في طريقه على نفسِه أو عضوه، أو نفس محترمة معه أو عضوها، أو ماله ولو =
والنفقة
(1)
؛ أي: أن تكون معه نفقة لنفسه ولأولاده -أيضًا- حتى
-يسيرًا- سَبُعًا أو عدوًّا أو رصديَّا، ولا طريق له سواه - لم يجب النسك عليه؛ لحصول الضرر، والمراد بالأمن العام حتى لو كان الخوف في حقه وحده قضى مِن تركته، كما نقله البلقيني عن النَّصِّ.
ولجب ركوب البحر إن غلبت السلامة في ركوبه، وتَعَيَّن طريقًا كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة، فإن غلب الهلاك، أو استوى الأمران لم يَجب، بل يَحرم لما فيه من الخطر".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 518)، حيث قال:"مِن شروط وجوب الحج: سَعة وقت بأن يكون متسعًا يمكن الخروج والسير فيه حسب العادة؛ لعذر الحج مع ضيق وقته، فلو شرع من وقت وجوبه فمات في الطريق بَيَّنَّا عدم وجوبه؛ لعدم وجود الاستطاعة".
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 132)، حيث قال:"الحَجُّ واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزَّاد والراحلة فاضلًا عن المسكن وما لا بدَّ منه، وعن نفقة عياله إلى حين عوده، وكان الطريق آمنًا".
وعند المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 7)، حيث قال:"يجب عليه الحج ولو لم يكن عنده وعند أهله وأولاده إلا مقدار ما يُوصله فقط، ولا يراعي ما يؤول أمره وأمر أهله وأولاده إليه في المستقبل؛ لأن ذلك أمره للَّه تعالى، وهذا مبني على أنَّ القول بأنَّ الحج واجب على الفور، وأما على القول بالتراخي فلا إشكال في تبدية نفقة الولد والأبوين على الحج، ومثل نفقة الأولاد والأبوين نفقة الزوجة، فتقدم على القول بالتراخي، ويقدم عليها الحج على القول بالفورية، ولو خشي التطليق عليه في غيبته، فإذا كان عنده عشرة ريالات إذا تركها للزوجة لا يقدر على الحج، وإن حَجَّ بها طلقت عليه الزوجة؛ لعدم النفقة، فإنه يَحج بها على القول بالفور ما لم يَخش على نفسه عند مفارقتها الزِّنا بها أو بغيرها".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 242)، حيث قال:"يشترط وجود الزَّاد الذي يكفيه، ولو مِن أهل الحرم وأوعيته -ولو سفرة- إذا احتاج لذلك، ومؤنة؛ أي: كلفة ذهابه لمكة وإيابه؛ أي: رجوعه منها إلى محله، وإن لم يكن له فيه أهل وعشيرة، (وقيل: إن لم يكن له ببلده) بهاء الضمير (أهل)؛ أي: مَن تلزمه مؤنته؛ كزوجة، وقريب، (وعشيرة)؛ أي: أقارب، ولو مِن جهة الأم: أي: إن لم يكن له واحد منهما (لم يشترط) في حقه (نفقة الإياب) المذكورة من الزَّاد وغيره، إذ المحال كلها في حقه سواء، والأصح الأول؛ لما في الغربة من الوحشة، والوجهان جاريان -أيضًا- في الراحلة للرجوع، والمؤنة تشمل الزَّاد وأوعيته". =
لا يَتركهم عالة، وألا يكون عليه دَيْنٌ
(1)
يستغرق ما عنده من المال، قالوا: هل هذه وردت في الحديث الذي فُسِّرت فيه الاستطاعة بالزاد والراحلة، وقد أضفتم شروطًا اتفقتم على بعضها، واختلفتم في البعض الآخر، وهي ليست في هذا الحديث، فكيف لا تعملون بحديث صحيح صريح في هذه المسألة؟
قالوا: وأمَّا حديث عدي الذي في "الصَّحيح": "يُوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا اللَّه"، قالوا: هذا دليل على أن ذلك سيحصل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يُخبر أنه من الممكن أن تَخرج المرأة من الحيرة إلى مكة دون أن يكون معها أحد، ولا تخاف إلا اللَّه، وليس في الحديث دليل على جواز سفر المرأة بغير مَحرم بدليل أنكم توافقوننا على أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بغير محرم في غير الحج، وهذا الحديث -أيضًا- لم يعرض إلى الحج، وإنما هو مطلق.
= وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 389)، حيث قال:"يُعتبر في الاستطاعة: أن يكون له إذا رجع من حَجِّه وما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام، لتضرره بذلك كالمفلس، ولم يعتبر ما بعد رجوعه عليها، يعني: ولم يعتبر على رواية ما يَكفيه بعد رجوعه، فيعتبر إذن أن يكون له ما يقوم بكفايته وكفاية عياله إلى أن يعود".
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي (ص 203)، حيث قال:"الذي كان له زادٌ وراحلة، وعليه دَيْن بقدر ذلك أو أكثر أو أقل، فليس عليه الحج".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 505)، حيث قال:"لو كان عليه دَيْن وبيده مال، فالدين أحقُّ بماله من الحج".
وعند الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (1/ 252)، حيث قال:"ويُشترط كون ما ذُكر من الزَّاد والراحلة والمحمل والشريك فاضلين عن دينه حالًّا كان أو مؤجلًا، وعن كلفة مَن عليه نفقتهم مدة ذهابه وايابه، وعن مسكنه اللائق به المستغرق لحاجته، وعن عَبد يليق به ويحتاج إليه؛ لخدمته، ويلزمه صرف مال تجارته إلى الزاد والراحلة، وما يتعلَّق بهما".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 518)، حيث قال:"يُعتبر كون زاد وراحلة وآلتيهما أو ثمن ذلك فاضلًا عن قضاء دَيْنٍ حالٍّ أو مؤجل اللَّه أو لآدمي؛ لتضرره ببقائه بذمته، وأن يكون فاضلًا عن مؤنته ومؤنة عياله".
قالوا: وأمَّا قصة المرأة الأسيرة، تلكم التي جاء لصوص هاجموا على المدينة، فأخذوا ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القصواء، ومعها امرأة، ثم لما كانت في جنح الظلام في الليل أخذت تضع يدها على كل بعير فيُخرج صوتًا حتى وضعت يدها على تلكم الناقة، فلم تُخرج صوتًا، فكانت هي القصواء، فجاءت بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت قد نذرت أن تذبحها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليها ذلك، وقال لها:"بِئس ما جَزيتها"
(1)
، وبَيَّن لها أنه لا نذر فيما لا يَملك ابن آدم، وأنها لا تملك هذه الناقة، وقد مَرَّ بنا قريبًا في أحكام النَّذر.
الفريق الآخر أجاب، فقال: نعم، هذه المرأة التي أُسِرت وأخذت إلى أرض العدو كانت تعيش في خطر محقق، بينما لو وجدت فرصة أو لاحت لها مناسبة واستطاعت أن تفر، فإن الخوف هنا مظنون، فهل تبقى في الخوف المتيقن المتحقق أو أن تُغامر في خوف ربما يقع وربما لا يقع؟ لا شك أن خروج المرأة إنما هي ضرورة، والضرورات تُبيح المحظورات، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا ضَرَر ولا ضِرَار"
(2)
، ومنه أخذ
(1)
أخرجه أبو داود (3316)، عن عمران بن حصين، قال:"كانت العضباء لرجل مِن بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، قال: فَأُسِر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد، علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: "نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف"، قال: وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقد قال فيما قال: وأنا مسلم - أو قال: وقد أسلمت. . .، فأغار المشركون على سرح المدينة، فذهبوا بالعضباء، قال: فلما ذهبوا بها، وأسروا امرأة من المسلمين، قال: فكانوا إذا كان الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم، قال: فنوموا ليلة، وقامت المرأة فجعلت لا تَضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء، قال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة، قال: فركبتها، ثم جعلت للَّه عليها إن نَجَّاها اللَّه لتنحرنها، قال: فلما قَدمت المدينة عرفت الناقة؛ ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل إليها، فجيء بها، وأخبر بنذرها، فقال: "بئس ما جزيتيها -أو: جزتها- إن اللَّه أنجاها عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم"، وصححه الألباني في "المشكاة" (3437).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2340)، وصححه الألباني في "الإرواء"(896).
العلماء القاعدة المعروفة: "الضَّررُ يُزال"
(1)
، وطَرَّدُوا عليها جملة من القواعد، "الضرورات تبيح المحظورات"
(2)
، فيباح للإنسان أن يأكل من الميتة عند الضرورة، وأن يشرب المُحَرَّم ليدفع غصة؛ لأن مهجة الإنسان وحياته فوق أن يَشرب أو أن يأكل مُحَرَّمًا، وأن يحافظ الإنسان على نفسه من الموت أهم من أن يَترك محرمًا، ولذلك قال كثير من العلماء: مَن كان في فلاة فأدركه الجوع فلم يَجد ما يأكله إلا ميتة، فيجب عليه أن يأكل من هذه الميتة.
لكن لو خَرجت بغير مَحْرَم وحَجَّت؛ فما حكم حَجِّها؟
نرى أنَّ حَجَّها صحيح، لكنها ارتكبت خطأ في هذا المقام.
(وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ وَالسَّفَرِ إِلَيْهِ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ).
قول المؤلف: (ثَلَاثًا)؛ أي: لا يَحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام.
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 83، 84)، حيث قال:"القاعدة الرابعة: الضَّرر يُزال أصلها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرَرَ ولا ضِرَار"، أخرجه مالك في "الموطأ" مرسلًا. . .، اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثيرٌ من أبواب الفقه من ذلك: الرَّد بالعيب، وجميع أنواع الخيار: من اختلاف الوصف المشروط، والتعزير، وإفلاس المشتري، وغير ذلك، والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة، والقصاص، وا لحدود، وا لكفارات، وضمان المتلف، والقسمة، ونصب الأئمة، والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين، والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب، أو الإعسار، أو غير ذلك، وهي مع القاعدة التي قبلها متحدة، أو متداخلة".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص: 73)، حيث قال:"الضرورات تُبيح المحظورات، ومِن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال، وأخذ مال الممتنع الأداء من الدين بغير إذنه، ودفع الصائل، ولو أَدَّى إلى قتله". وانظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 45).
(وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ")
(1)
.
لكن قد تتفرع هنا مسائل، فمثلًا لو قدر أن امرأة خرجت مع زوجها المحرم، وفي أثناء الطريق توفي زوجها
(2)
، هل تستمر في أداء هذه
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 77)، حيث قال:"المرأة إذا أَحرمت بغير زوج أو مَحرم أو مات مَحرمها أو زوجها بعد إحرامها، فهي مُحصرة".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 526)، حيث قال:"إذا خرجت مع زوجها لحج تطوع، أو لغزو، أو رباط، أو غير ذلك، فمات عنها في الطريق: أنها ترجع لتتم عدتها ببيتها؛ إن علمت أنها تصل قبل انقضاء عدتها إن وجدت ثقة ذا مَحرم أو رفقة مأمونة، وإلا تمادت مع رفقتها، وقياسه في المحرم: إذا مات عنها أنها إن لم تجد محرمًا ولا رفقة مأمونة أن تمضي مع رفقتها بلا إشكال، وإن وجدت المحرم أن ترجع معه، وإن وجدت رفقة مأمونة، والتي هي فيها -أيضًا- مأمونة فلا يخلو إمَّا أن يكون ما مضى من سفرها أكثر مما بقي، أو بالعكس، ففي الأولى تَمضي مع رفقتها بلا إشكال، وفي الثانية مَحل نظر، والظاهر: الرجوع ارتكابًا لأخف الضررين، إلا أن يكون هناك ما يُعارضه".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 251)، حيث قال:"لو تطوعت بحج ومعها مَحرم فمات، فلها إتمامه، كما قاله الروياني؛ أي: إن أمنت على نفسها في المضي، وحرم عليها التحلل حينئذ، وإلا جاز لها التحلل، وظاهر تعبيره بالإتمام: لزوم الرجوع لها لو مات قبل إحرامها، وهو محتمل بشرط: أن تأمن على نفسها في الرجوع".
وعند الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 396)، حيث قال:" (وإن مات المحرم قبل خروجها) للسفر (لم تخرج) بلا محرم؛ لما تقدم من النهي عن السفر بلا مَحرم. (و) إن مات (بعده)؛ أي: بعد خروجها، (فإن كان) مات (قريبًا رجعت)؛ لأنها في حكم الحاضرة، (وإن كان) مات (بعيدًا مضت) في سَفرها للحج؛ لأنها لا تستفيد بالرجوع شيئًا؛ لكونها بغير محرم. (ولو مع إمكان إقامتها ببلد)؛ لأنها تحتاج إلى الرجوع، (ولم تصر محصرة)؛ لأنها لا تستفيد بالتحلل زوال ما بها كالمريض، الكن إن كان حجها تطوعًا وأمكنها الإقامة ببلد فهو أَوْلَى) من السفر بغير محرم".
الفريضة وفي السفر إليها وتؤديها، أو تعود إلى بلدها، هناك كلام للعلماء، ويقدرونه بالمسافات، لكننا نرى أن الأولى ما دام قد خرجت، وأنها لا تخشى على نفسها أو على عِرضها، فلها في هذه الحالة أن تُواصل هذه الرحلة، واللَّه سبحانه وتعالى سيحفظها.
(فَمَنْ غَلَّبَ عُمُومَ الْأَمْرِ قَالَ: تُسَافِرُ لِلْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ).
الآن الأُمور قد تَغَيَّرت بحمد اللَّه، وتَيَسَّرت السُّبل، وأصبح الإنسان لا يسافر وحده، بل في مجموعة كبيرة ويسافرون في طائرة، أو آلاف من الناس في باخرة، أو في سيارة، أو فيما يُعرف بالحملات، ومع ذلك لا ينبغي -أيضًا- للمرأة أن تسافر إلا ومعها ذو مَحرم؛ لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما
(1)
، فالمرأة يُخشى عليها في كل حال، والشيطان يجري من ابن اَدم مَجرى الدَّم
(2)
، فلا ينبغي أن يضل المرأة، وإن كانت تُؤَدِّي عبادة من العبادات فلا ترتكب ممنوعًا، وإن كانت تؤدي فريضة الحج.
* قال: (وَمَنْ خَصَّصَ الْعُمُومَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ: لَا تُسَافِرُ لِلْحَجِّ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
فَقَدْ قُلْنَا فِي وُجُوبِ هَذَا النُّسُكِ الَّذِي هُوَ الْحَجُّ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَجِبُ؟ وَعَلَى مَنْ يَجِبُ؟ وَمَتَى يَجِبُ؟).
(1)
معنى حديث أخرجه الترمذي (2165)، عن ابن عمر قال:"خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيها الناس، إني قُمت فيكم كمقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: ". . . أَلَا لا يَخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ئالثهما الشيطان"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (430).
(2)
معنى حديث أخرجه البخاري (7171)، عن أنس:"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمَرَّ به رجل فدعاه، فجاء، فقال: "يا فلان، هذه زوجتي فلانة"، فقال: يا رسول اللَّه من كنت أظن به، فلم أكن أظن بك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم".
إذًا، قد تكلم المؤلف عن الحج، وعلى مَن يجب؟ ومتى يجب؟ وما شروطه؟ وغير ذلك، فالمؤلف قد انتهى من المقدمة المتعلقة بالحج، وسينتقل الآن إلى الشطر الثاني، ألا وهي العمرة.
* قال: (وَقَدْ بَقِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النُّسُكِ؛ الَّذِي هُوَ الْعُمْرَةُ).
إذًا، هناك نُسكان، يعني: الإنسان مطالب بأن يؤدي واجبين؛ الأول: وهو الحج، ولا شَكَّ أن تأكيد الحج أعظم من العمرة، يعني: الحج مؤكد تأكيدًا أعظم من تأكيد العمرة؛ لأن الحج لا خلاف فيه بين العلماء، بل أدلة الكتاب والسنة والإجماع كلها مُطبقة على أنه ركن من أركان الإسلام، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلامُ على خمس"، ثم قال آخرها:"حَج بيت اللَّه الحرام"
(1)
، إذًا، هذا أمر لا خلاف فيه، ولا يجوز للمسلم أن يتساهل في هذا الأمر، أو أن يُفرط فيه.
بعد ذلك النسك الآخر، وهي العمرة، ومن توفيق اللَّه سبحانه وتعالى لعباده وتيسيره عليهم أنه لم يشرع للعمرة سفرًا معينًا وحدها، وإنما للإنسان أن يسافر للعمرة لسفر مستقلٍّ، وله إذا سافر إلى الحج أن يَعتمر، وهذا من توفيق اللَّه وتيسيره على عباده ولطفه به وإحسانه إليهم وإنعامه، وما أكثر نعم اللَّه سبحانه وتعالى علينا.
إذًا، العمرة ليست شاقة بالنسبة للمؤمنين، فإذا ما هيَّأت نفسك وأتيت للحج فما عليك إلا أن تطوف بالبيت سبعة أشواط، وأن تسعى بين الصفا والمروة كذلك سبعة، وأن تحلق أو تُقصر
(2)
، هذه هي العمرة إلى
(1)
جزء من حديث ابن عمر تقدَّم تخريجه.
(2)
أركان العمرة.
عند الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 472)، حيث قال:"هي إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير، فالإحرام شرط، ومعظم الطواف ركن".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 8)، حيث قال: "أركان العمرة =
جانب السُّنَّة: الصلاة خلف مقام إبراهيم؛ لقول اللَّه تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا} [البقرة: 125]، فهذا أمر ميسور سهل لا يَلحق الإنسان منه مشقة، أليست هذه من نعم اللَّه علينا؟
لكن لو قُدَّر أن العمرة تحتاج إلى أن يُضرب لها سفر مُستقل ولا بد، فربما تكون هناك مشقة على الإنسان، فيفني غالب عمره ويبذل ويكد ويكدح حتى آخر حياته، ولا يحصل إلا على مال؛ ليؤدي به الحج، فإذا ما اعتمر مع حجه أصبح الأمر ميسورًا.
وأيضًا من ناحية أُخرى، نحن نرى الآن كثرة المسلمين -بحمد اللَّه- فهم يمثلون ربع العالم، ولكن المهم هنا هو العمل بالإسلام، فهذه نعمة من نعم اللَّه، وها نحن نجتمع في هذا المكان وفي غيره، كلنا نلتقي حول كلمة الإسلام، فلغاتنا مختلفة، وألواننا مختلفة، ولهجاتنا مختلفة، ننتهي إلى شعوب مختلفة؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، إذًا كلنا في البشرية سواء، ما هي الميزة التي نمتاز بها؟ لا أمتاز بأنني عربي، ولا لأنني من قبيلة تميم، أو قبيلة قيس، أو حرب، أو غير ذلك، ولا أمتاز لأنني من بلدة كذا، إنما أمتاز بشيء واحد هو الذي يرفعني
= ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي، فأما الإحرام فحكى الإجماع على ركنيته غيرُ واحد من العلماء، إلا أن بعض المتأخرين من الحنفية يقولون: إنه شرط وليس بركن؛ لأنه خارج عن الماهية، والأمر في ذلك قريب، فإن المراد أنه لا بدَّ من الإتيان به، ولا يَنجبر تركه بشيء"، وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 2).
وعند الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للشربيني (1/ 254)، حيث قال:"أركان العمرة أربعة أشياء بل خمسة -كما ستعرفه-: الأول: (الإحرام، و) الثاني: (الطواف، و) الثالث: (السعي، و) الرابع: (الحلق أو التقصير في أحد القولين) القائل بأنه نسك، وهو الأظهر، ومثله: التقصير، والخامس: الترتيب في جميع أركانها على ما ذكرناه"، وانظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 285).
وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 398)، حيث قال:"أركان العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي".
درجات عند اللَّه سبحانه وتعالى، وهو التقوى، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، فصاحب المنزلة الرفعية والمكانة العالية عند اللَّه هو الذي يتقي اللَّه سبحانه وتعالى ويعمل بشرعه، هذا هو الذي له مكانة عالية، أما مهما ارتفع نسب الإنسان فإنَّه لا يُفيده ذلك إذا لم يعمل بشرعه؛ يقول الشاعر
(1)
:
أبي الإسلام لا أبَ لِي سِوَاه
…
إذا ما افتخروا بقيسٍ أو تميم
إذًا، الفخر كل الفخر أن تفتخر بأنك مسلم، فما أجمل هذه الكلمة! وما أعذبها! وما أحلاها! فعندما تنطق بها بلسانك تقول: أنا مسلم؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، إذًا الإسلام نعمة من نعم اللَّه سبحانه وتعالى، وهي أعظم نعمة نفتخر بها، وما يأتي بعدها من نعم اللَّه كثيرة، لا تُعد ولا تُحصى، وكلها عظيمة، لكن نعمة الإسلام تأتي في مقدماتها؛ فالحمد للَّه على ذلك، إذًا نحن جمع غفير والحمد للَّه، فلو أن المسلمين تجمعوا في هذه المشاعر لا يُمكن أن يحصل ذلك، وسيترتب عليه أضرار كثيرة أخرى، فكان من توفيق اللَّه سبحانه وتعالى أن جعل الحج مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع.
ثم بعد ذلك نأتي إلى موضوع حديثنا، وهو (العمرة)، فالعمرة ليست بمثابة الحج من حيث الدرجة، ومن حيث الحكم، ولذلك اختلف العلماء فيها: أهي واجبة أم هي سنة؟
(2)
، فمن العلماء مَن قال: إنها واجبة.
(1)
البيتُ لنهار بن توسعة اليشكري، انظر:"الكامل في اللغة والأدب" للمبرد (3/ 133).
(2)
العمرة عند أكثر الحنفية سُنَّة مؤكدة في العمر مرة واحدة. يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (4/ 427)، حيث قال:" (والعمرة أولى بالرَّفض). ش: من الحج. م: (لأنَّها أدنى حالًا، وأقل أعمالًا وأيسر قضاء؛ لكونها غير موقتة). ش: لأن العمرة سنة، والحج فريضة؛ لأن أداءها يمكن في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 226).
وعند المالكية، انظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 2)، حيث قال: "وتقع العمرة سنة كفاية، فإن لم يقصد ذلك كان كل منهما مندوبًا. (قوله: وهي =
ومنهم من قال: إنها سنة، وتعلمون أن الواجب هو الذي إذا فعله الإنسان أُثيب عليه، وإذا تركه عُوقب على تركه، وأن السنة هي التي إذا فَعَلها الإنسان أثيب عليها بها وإذا تركها لا يعاقب عليها، فهناك فرق بين الواجب وغيره، فما حجة الذين يقولون إنها واجبة؟
استدلوا بعدة أدلة ونحن لا نريد أن نَدخل في التفاصيل، لكن من أصرح الأدلة وأصحها بالنسبة للأحاديث: حديث عائشة رضي الله عنها عندما سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هل عَلى النِّساء جِهاد؟ ونحن نعلم أن الجهاد من أجل الأعمال؛ لأن المسلم بِه يدافع عن الإسلام، واللَّه؛ سبحانه وتعالى {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]، إذًا هناك بيع وشراء، فتقدم نفسك مقابل الثمن، وهو جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للذين آمنوا باللَّه ورسله، إذًا، قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:"عليهن جهاد لا قتال فيه: الحَج والعمرة"
(1)
، فذكر هنا مع الحج العمرة، ومحل الشاهد من هذا الحديث على أن العمرة واجبة هي كلمة:"عليهن"؛ لأن (على) من صيغ الوجوب
(2)
؛ أي: يجب عليهن الحج والعمرة،
= أفضل من الوتر)، هذا القول نقله (ح) عن "مناسك ابن الحاج"، وفي النوادر عن مالك: أنَّها سنة مؤكدة مثل الوتر".
وعند الشافعية، الأظهر: أن العمرة فرض في العمر مرة واحدة. يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 206)، حيث قال:(وكذا العمرة) فرض (في الأظهر)، لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ أي: ائتوا بهما تامَّيْنِ، ولخبر ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"قلتُ يا رسول اللَّه: هل على النساء جهاد؟ قال: "نَعَمْ، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة".
والمذهب عند الحنابلة: أن العمرة فرض في العمر مرة واحدة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 377)، حيث قال:" (ويَجبان في العمر مرة واحدة). . . (على الفور) صلى الله عليه وسلم، أَنَصَّ عليه صلى الله عليه وسلم فيأثم إن أخَّر بلا عذر، بناءً على أن الأمر المطلق للفور".
(1)
أخرجه ابن ماجه (2901)، وصححه الألباني في "الإرواء"(981).
(2)
يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (1/ 354 - 356)، حيث قال:""وصيغتهما"؛ أي: صيغة الوجوب والفرض كوجب وفرض. وكذا واجب وفرض. =
فقالوا: هذا دليل على أن العمرة واجبة على المسلم مرة في العمر.
ودليل آخر: لما جاء الصَّبي بن معبد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: "إني أسلمتُ وإني وجدت أن الحج والعمرة مكتوبين عليَّ، فأهللتُ بهما، فقال له عمر رضي الله عنه: هُدِيت إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
فهذه نعمة عظيمة حيث يُخبر هذا الرجلُ عمرَ رضي الله عنه بأنه دخل في الإسلام، ثم بعد ذلك يُخبره بأنه وجد أن الحج والعمرة مكتوبين عليه، أي: مفروضين ومكتوبين عليه، ثم بَيَّن أنه أَهَلَّ بهما؛ أي: أحرم بهما، فبم أجابه عمر رضي الله عنه؟ لو لم تكن العمرة واجبة لأرشده عمر إلى الطريق السوي، لقال له: الحج مكتوب والعمرة سنة، لكنه قال له:"هديت إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ". إذًا، الحج والعمرة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، ونعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة له لا يجوز
(2)
، فلو كان عمر رضي الله عنه يرى أن العمرة ليست واجبة لأرشد الرجل إلى ذلك.
= "وحتم" ومنه قوله سبحانه وتعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ؛ أي: واجب الوقوع بوعده الصادق، وإلا فهو سبحانه وتعالى يجب عليه شيء. فيقال في الواجب: حتم ومحتوم ومحتم، ونحو ذلك. . . "و" وكذا "كتب عليكم" مأخوذ من كتب الشيء إذا حتمه وألزم به، وتُسمَّى الصلوات المكتوبات لذلك".
(1)
أخرجه أبو داود (1799)، وغيره، عن أبي وائل، قال:"قال الصبي بن معبد: كنت رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا فأسلمت، فأتيت رجلًا من عشيرتي، يقال له: هذيم بن ثرملة، فقلت له: يا هناه، إني حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ، فكيف لي بأن أجمعهما؟ قال: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معًا، فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أُهل بهما جميعًا، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه مِن بعيره، قال: فكأنما أُلقي عليَّ جبل حتى أتيت عمر بن الخطاب، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إني كنت رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا وإني أسلمت، وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ، فأتيت رجلًا من قومي، فقال لي: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وإني أهللت بهما معًا، فقال لي عمر رضي الله عنه: هُديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم"، وصححه الألباني في "الإرواء"(983).
(2)
قال الغزالي في "المُستصفى"(ص 192): "لا خلاف أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن =
وفي قصة أبي رَزِينٍ أيضًا عندما جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسول اللَّه، إنَّ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن"، يعني: لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر ولا أن يسافر؛ أفأحج عنه وأعتمر؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "حُجَّ عن أبيك واعتمر"
(1)
، أيضًا هذا دليل ثاني.
ومن الأدلة أيضًا: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور الذي جاء فيه جبريل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيه قال عمر رضي الله عنه:"بينما نحن جلوس عند رسول اللَّه إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه"، ثم سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الإسلام. . .، الحديث المتفق عليه
(2)
، وفي آخر جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام:"وأن تَحج البيت"، في رواية ليست في "الصَّحيحين" ولكنها صحيحة: "وأن تحج
= وقت الحاجة، إلا على مذهب مَن يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافًا للمعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر. . . فقالوا: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل من المجمل جهل. وأما العام فإنه يُوهم العموم، فإذا أرلد به الخصوص، فلا ينبغي أن يتأخر بيانه، مثل قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب، وأَدَّى ذلك إلى قتل مَن لا يجوز قتله، والمجمل مِثل قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مهو يجوز تأخير بيانه؛ لأن الحق مجمل لا يَسبق إلى الفهم منه شيء، وهو كما لو قال: حج في هذه السنة، كما سأفصله، أو: اقتل فلانًا غدًا بآلة، سأعينها من سيف أو سكين. وفَرَّق طوائف بين الأمر والنهي وبين الوعد والوعيد، فلم يُجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد".
(1)
أخرجه الترمذي (930)، وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3127).
(2)
يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، ما الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكِتَابِهِ، وَلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخرِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. . . "، أخرجه البخاري (50)، ومسلم (3127).
وتعتمر"
(1)
، وهذا محل الشاهد، وهذا دليل رابع.
وهناك أدلة كثيرة؛ منها: قول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، ولذلك جاء في "صحيح البخاري" تعليقًا: يقول عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه: "إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَاب اللَّهِ"
(2)
، يعني: مُلازِمة له، يعني: في قول اللَّه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، لكن العلماء أجابوا عن ذلك بأنه لا دلالة في ذلك على الوجوب؛ لوجود فارق بين أن تُتم الشيء وبين أن تُوجبه، قالوا: ففي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} لو أن إنسانًا أدى الحج الفرض، ثم حج مرة أُخرى فيجب عليه أن يتم هذا النسك إذا دخل فيه، مع أنه ليس في الأصل مفروض عليه، ولو دخلت في صلاة تطوع فيجب عليك أن تتمها وألا تقطعها بسبب من الأسباب وهكذا. إذًا الأدلة هي تلكم الأحاديث التي أوردناها.
وأما الذين قالوا: إن العمرة غير واجبة، قالوا: الأدلة الصحيحة كالحديث المتفق عليه في قصة جبريل عندما جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليس فيه أن تعتمروا، وإنما فيه ذِكر الحج، وفي حديث جابر:"أن رجلًا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن العمرة: أهي واجبة؟ قال: "لا، وأن تطوَّع أفضل لك"
(3)
، وفي رواية:"خير لك"
(4)
.
* قال: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(5)
، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ
(1)
أخرجه ابن خزيمة (3065).
(2)
أخرجه البخاري تعليقًا، كتاب (الحج)، باب (وجوب العمرة وفضلها).
(3)
أخرجه الترمذي (931)، وقال:"حسن صحيح"، وضعف إسنادَه الألبانيُّ في "ضعيف سنن الترمذي".
(4)
أخرجه أحمد (14397)، وضعف إسنادَها الأرناؤوطُ.
(5)
انظر أقوالهم في: "المُحلى" لابن حزم (5/ 11، 12)، حيث قال:"ومِن طريق سعيد بن منصور، نا هشيم، نا مغيرة -هو ابن مقسم- عن الشَّعبي: أنه قال في العمرة: "هي واجبة"، وعن شعبة، عن الحكم قال: "العمرة واجبة". =
الصَّحَابَةِ وَابْنِ عُمَرَ
(1)
وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: "هِيَ سُنَّةٌ"
(2)
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "هِيَ تَطَوُّعٌ"
(3)
).
يعني: لا بُعد بين قولي الإمامين مالك وأبي حنيفة، فقولهما مُتقارب، سواء قلنا بأنهما سنة أو تطوع، فالمراد عندهما: أنها ليست بواجبة.
(وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ
(4)
، فَمَنْ أَوْجَبَهَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]).
وقلنا: إن الاحتجاج بهذا الدليل غير مُسَلَّم، ولكن أصلح دليل استدلوا به هو حديث عائشة رضي الله عنها عندما سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جِهاد؟ فقال: "عليهن جهاد لا قتال فيه: الحَج والعمرة"
(5)
، وكذلك ما جاء في سياق الوجوب من الأدلة التي ذكرناها؛ كأثر الصبي بن معبد عندما جاء إلى عمر رضي الله عنه، وحديث أبي رزين، وغير ذلك من الأدلة التي وردت منها، ومنها الرواية التي ليست في "الصَّحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مجيء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
= قال أبو محمد: وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان، وجميع أصحابهم".
(1)
كما عند البخاري، كتاب (الحج)، باب (وجوب العمرة وفضلها)، وفيه:"وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: "لَيْسَ أَحَد إِلَّا وَعَلَيهِ حَجَّةٌ، وَعُمْرَةٌ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ".
(2)
تقدَّم قولهم.
(3)
تقدَّم قوله.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 109)، حيث قال:"وهو قول الشَّعبي، وبه قال أبو ثور وداود".
(5)
تقدَّم تخريجه.
(وَبِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ أَبْيَضُ الثِّيَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا الْإِسْلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ"
(1)
).
الشاهد: "وتَحج وتَعتمر" في هذه الرواية ورد ذِكر العُمرة، فكونها فُرضت مع الحج، مع أنه أجاب عن أركان الإسلام، وفي ذلك دليل على وجوبه.
(وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]).
عبد الرزاق: هو عبد الرَّزاق الصَّنعاني الإمام الجليل، صاحب المُصَنِّف المَعروف.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِاثْنَتَيْنِ حِجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، فَمَنْ قَضَاهُمَا فَقَدْ قَضَى الْفَرِيضَةَ"
(2)
).
وقد تكَلَّم العلماء عن ذلك، وقالوا: إنه مرسل.
(وَرُوِيَ عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضتَان لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ"
(3)
.
(1)
أخرجه ابن خزيمة (3064)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(173).
(2)
ذكره ابنُ عبد البر في "الاستذكار"(4/ 111)، وعزاه لعبدِ الرَّزاق، ولم أجده في النسخة المطبوعة.
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 346)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(3520).
وجاء عن ابن عبَّاس في البخاري -أيضًا- تعليقًا أنها قرينة الحَجِّ
(1)
.
(وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ"
(2)
.
وَبَعْضُهُمْ يَرْفَغهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا حُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَالْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ الثَّابِتَةُ الْوَارِدَةُ فِي تَعْدِيدِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهَا الْعُمْرَةَ، مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:"بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ"
(3)
.
فإنه ذكر في آخرِه الحَجِّ: "وحَج بيت اللَّه"، دون أن يذكر معه العمرة، لكن العمرة -كما قلنا- لا تصير إلى درجة الحج من حيث الوجوب، فالحج ركن وفرض، وأما العمرة -فأكثر ما قيل فيها-: إنها واجبة.
(ذَكَرَ الْحَجَّ مُفْرَدًا. وَمِثْلُ حَدِيثِ السَّائِلِ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ:"وَأَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ"
(4)
. وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ لَيْسَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ).
يعني: الأعرابي الذي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سائلًا: ماذا فرض اللَّه عليَّ من الإسلام؟ فذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكر، وفي بعض الروايات جاء ذِكر الحج، ولم تَرِد العمرة.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه الدارقطني (3/ 347)، وتتمته:"كوجوب الحج مَن استطاع إليه سبيلًا".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم"(91)، من حديث أنس بن مالك، وفيه:"وَزَعَمَ رَسُولُكَ: أَنَّ عَلَيْنَا حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا! قَالَ: "صَدَقَ".
* قال: (لِأَنَّ هَذَا يَخُصُّ السُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ، أَعْنِي: إِذَا شَرَعَ فِيهَا أَنْ تَتِمَّ وَلَا تُقْطَعَ).
يعني: مراد المؤلف: أن هناك فرقًا بين أن تبدأ عبادة وبين أن تتم، فقد تكون العبادة غير واجبة ويلزمك إتمامها، كما هو الحال بالنسبة للسُّنن؛ كحج التطوع إذا دخلتَ فيه، فإنه يجب عليك أن تُتمه، إذًا، الإتمام ليس دليلًا صريحًا على وجوب العمرة إنما الصريح هو الحديث الذي ذكرناه وما يُؤيده.
(وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا -أَعْنِي: مَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ- بِآثَارٍ).
هذه الآثار التي سيذكرها ضعيفة.
(مِنْهَا؛ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:"سَأَلَ رَجُل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعُمْرَةِ؛ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَلَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ"
(1)
).
وفي بعض الروايات: "وأن تَطَّوع خيرٌ لك"
(2)
، وفي بعضها:"وأن تَطوع أفضل لك"
(3)
، وهذا فيه كلام معروف، فراويان من رُواته ضعيفان.
(قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةً فِيمَا انْفَرَدَ بِه)
(4)
.
قال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "الاستذكار"، أبو عمر الإمام المالكي الجليل المعروف، صاحب كتاب "الاستذكار" و"التمهيد"، وهما في شرح "الموطأ"، أحدهما عني بالسَّند أكثر وهو "التمهيد"، والآخر
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 111)، حيث قال:"وهذا لا حُجة فيه عند أهل العلم بالحديث، لانفراد الحجاج به، وما انفرد به فليس بحجة عندهم".
"الاستذكار"، وهو الذي يعتمد عليه المؤلف في نقله، وقد عني فيه بالأحكام الفقهية مع عنايته -أيضًا- بالدليل.
* قال: (وَرُبَّمَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ: "إِنَّهَا تَطَوُّعٌ"، بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ وَاجِبٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ"
(1)
، وَهُوَ حَدِيث مُنْقَطِعٌ فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَرَدُّدُ الْأَمْرِ بِالتَّمَامِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْوُجُوبَ أَمْ لَا يَقْتَضِيهِ).
كما ذكر المؤلف.
وبهذا ننتهي على أن الأَوْلَى من بين القولين هو أن العمرة واجبة، وأنه لا ينبغي التساهل فيها، وأنه لا مشقة في أدائها، فللمسلم أن يؤديها أثناء أدائه لركن الإسلام الخامس، وهو الحج.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْقَوْلُ الأول فِي الْجِنْسِ الثَّانِي)
وَهُوَ تَعْرِيفُ أَفْعَالِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي نَوْعٍ مِنْهَا، وَالتُّرُوكُ الْمُشْتَرَطَةُ فِيهَا).
المؤلف الآن ينتقل إلى موضوع جديد، وهو ما يتعلَّق بالأفعال المرتبطة بالحج وبالعمرة، وبالأمور التي يلزم الإنسان أن يتركها، ولكنه سيبدأ أولًا بالمقدمة، ثم بعد ذلك يدخل في الأفعال والتروك، ويقصد بالتروك التي تُعرف فقهًا بمحظورات الإحرام
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 569)، ولفظه: عن أبي صالح الحنفي: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"الحج جهاد، والعمرة تطوع"، وقد روى البيهقي عن الشافعي أنه قال:"هو منقطع، يعني: مرسل".
(2)
المحظورات: جمع مَحظورة، وهي الخصلات المحظورات، أو الفِعلات المحظورات؛ أي: الممنوع فعلهن في الإحرام. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 206)، وانظر:"حاشية ابن عابدين - رد المحتار"(2/ 577).
(وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ -كَمَا قُلْنَا- صِنْفَانِ: حَجٌّ وَعُمْرَةٌ).
إذًا، العبادة -كما هو معلوم التي يريد أن يتكلم عنها-: صنفان، الحج الذي هو ركن، والعمرة التي رأينا الاختلاف فيها، وفيه تشابه في بعض الأعمال؛ لأن العمرة إنما تقوم على أركان ثلاثة
(1)
يَسبقها قبل ذلك أيضًا النية، فأركان العمرة: الدخول في النسك عند الميقات، عندما يُحرم الإنسان، ثم يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وهذه أركان العمرة، وهي ميسورة وسهلة، وهي -أيضًا- موجودة في الحج؛ لأن الإنسان يُحرم للحج، ويطوف، ويسعى، ويحلق أو يُقَصِّر.
* قال: (وَالْحَجُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: إِفْرَادٍ، وَتَمَتُّعٍ، وَقِرَانٍ).
الحج ثلاثة أصناف، وسيتحدث عنها المؤلف بشيء من التفصيل، وسنزيد نحن بيانًا وتفصيلًا أكثر، فالإفراد: هو أن يُحرم المسلم بالحج مُفردًا؛ أي: يقول: لبَّيك حَجًّا، أو يقول: اللهم لَبَّيك حَجًّا، هذا هو الإفراد.
(وَتَمَتُّعٍ)، والتمتع: هو أن يُحرم بالعمرة مُتمتعًا بها إلى الحج؛ أي: إذا وصل الميقات واغتسل وتنظف وتطيب في بدنه لا في ملابسه، كما هو المعروف من السنة، إن لم يكن قد تنظف ولبس قبل أن يَصل إلى الميقات، ودخل في النسك، فإنَّه عند دخوله في النسك يقول المتمتع: لبيك عمرة، ثم إذا ما وصل إلى مكة، فإنه يطوف بالبيت سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة سبعًا، ثم إن كان قريبًا من الحج فالأَوْلَى أن يُقصر حتى لا يزول شعره؛ لأنه سيحتاج إليه بعد ذلك في الحج، فإذا ما قَصَّر حَلَّ بالإحرام، فإذا ما جاء اليوم الثامن حِينئذ يُحرم من مكانه الذي كان فيه من بيته من داخل مكة من أي مكان فيه، ولا يَخرج خارج مكة؛ لأن الإحرام للحج إنما يكون من مكة، والمطلوب في الحج والعمرة معًا: أن يجتمع في كل واحد منهما الحِلّ والحَرم، ولذلك لا ينبغي للمسلم إذا أراد
(1)
تقدَّم الكلام عليها.
أن يُحرم بالعمرة وهو بمكة أن يُحرم من مكة، وإنما يَخرج خارجها؛ إمَّا أن يخرج إلى التنعيم، أو غير ذلك من الأماكن، ثم بعد ذلك يأتي لِيَجمع بين الحِلِّ والحَرَم.
وقد يسأل سائل فيقول: لماذا يُحرم بالحج من مكة؟
فالجواب: لأنه بعد ذلك سيمر بمكان ليس من الحَرَام، ألا وهو عرفات، فعرفات ليست من الحرم، وإنما هي خارجه، وبذلك سيجمع بين الحل والحرم.
(وَقِرَانٍ)، أمَّا القِرَان فهو أن يُحرم بالحج والعمرة معًا، فيقول: لَبَّيك حَجًّا وعمرة، أو: اللهم لبيك عمرة وحجًّا، فيجمعهما معًا، وهذا إذا وصل إلى مكة فإنه يطوف طواف القدوم، ويسعى كالمفرد تمامًا، فلو سعى المفرد أو القارن لكفاه عن سعي الحج، ولا يحتاج إلى أن يُعيده، فمثلًا يوم النحر وسينزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة في هذه الحالة إن كان القارن أو المُفرد قد سعى عندما قَدِم إلى مكة ففي هذه الحالة يكفيه، أمَّا المتمتع فعلى الرأي الصحيح لا بدَّ له مِن سعي آخر؛ لأن الأول لعمرته، والثاني: إنَّما هو لحجه.
* قال: (وَهِيَ كُلُّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ مَحْدُودَةٍ).
وكلها تشتمل على أفعال محدودة، والفرق بينها يسير.
(فِي أَمْكِنَةٍ مَحْدُودَةٍ).
يعني مثلًا: المتمتع والقارن يلزم كلّ واحد منهما دمٌ، أما المفرد فلا دم عليه، قال:
(وَأَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ. وَمِنْهَا فَرْضٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ فَرْضٍ).
الحج منه ما هو أركان
(1)
؛ كنية الدخول في النسك، والوقوف
(1)
أركان الحج، عند الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين - =
بعرفة، والطواف، والسعي على خلاف فيه، ومنها ما هو واجب؛ كالوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، وكذلك المبيت بالمزدلفة، فهناك قول يقول: إن المبيت بالمزدلفة ركن. وقيل: واجب. وقيل: سنة، وهذا نترك بيانه لِمحله إن شاء اللَّه.
* قال: (وَعَلَى تُرُوكٍ تُشْتَرَطُ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ).
كذلك هناك أُمور يجب على المسلم أن يَتركها، ومنها: ليس له أن
= رد المحتار" (2/ 466)، حيث قال: "والحج (فرضه) ثلاثة: (الإحرام) وهو شرط ابتداء، وله حكم الركن انتهاء، حتى لم يَجز لفائت الحج استدامته؛ ليقضي به مِن قابل. (والوقوف بعرفة) في أوانه؛ سُمِّيت به؛ لأن آدم وحواء تعارفا فيها. (و) معظم (طواف الزيارة)، وهما ركنان". وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 125).
وعند المالكية: أركان الحج أربعة. الإحرام، وطواف الإفاضة، والسعي، والوقوف بعرفة. انظر:"مواهب الجليل"(3/ 8)، وانظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 21).
وعند الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 285)، حيث قال:" (أركان الحج خمسة) بل ستة: أحدها: (الإحرام)؛ أي: نية الدخول فيه؛ لخبر: "إنما الأعمال بالنيات". (و) ثانيها: (الوقوف) بعرفة؛ لخبر: "الحج عرفة". (و) ثالثها: (الطواف) بالكعبة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، والمراد: طواف الإفاضة. (و) رابعها: (السعي) بين الصفا والمروة؛ لما روى الدارقطني وغيره بإسناد حسنٍ: "أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في السعي، وقال:"يا أيها الناس، اسعوا؛ فإن السعي قد كُتب عليكم". (و) خامسها: (الحلق) أو التقصير (إذا جعلناه نُسكًا)، وقد سبق أنَّه القول المشهور؛ لتوقف التحلل عليه، مع عدم جَبر تركه بدم كالطواف. (و) سادسها:(الترتيب) في مُعظم هذه الأركان، كما بحثه في "الروضة".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 521)، حيث قال:"أركان الحج أربعة: (الوقوف بعرفة)؛ لحديث: "الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمعة فقد تَمَّ حَجُّه"، رواه أبو داود، (وطواف الزيارة) قال ابن عبد البر: هو مِن فرائض الحج، لا خلاف في ذلك بين العلماء؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. (والسعي) بين الصفا والمروة؛ لما تقدم في موضوعه. (والإحرام، وهو النية)؛ أي: نية النسك، وإن لم يتجرد من ثيابه المحرمة على المحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيات".
يَلبس مَخيطًا، ولا أن يُغطي رأسه، ولا أن يقلم أظفاره بعد أن يدخل في النسك، ولا أن يأخذ من شعره، وكذلك ليس له أن يَتطيب، ولا أن يَصيد، ولا أن يعقد النكاح، ولا أن يتزوج. وهذه تُعرف بمحظورات الإحرام
(1)
، وسنبينها إن شاء اللَّه واحدًا واحدًا.
* قال: (وَلكُلٍّ مِنْ هَذِهِ أَحْكَامٌ مَحْدُودَةٌ، إِمَّا عِنْدَ الْإِحْلَالِ بِهَا، وَإِمَّا عِنْدَ الطَّوَارِئِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا).
عند الإخلال بها؛ أي: لو قُدِّر أن إنسانًا أحرم، ثم بعد ذلك لَبِس مَخيطًا متعمدًا، أو مثلًا حلق شعره لوجود أذى، فإنه يلزمه شاة؛ أي: يذبح كبشًا، إذًا هذا خلل حصل منه، وأحيانًا يضطره ظرف إلى ذلك، يعني: يحبسه حابس ونحوه، فإن كان قد قال:"فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" يتحلل ولا شيء عليه، كأن يُصيبه مرض، أو يُمنع من الوصول إلى مكة، أو تتعطل السيارة التي معه، ولا يستطيع أن يصل إلى مكة، ففي هذه الحالة يتحلَّل، فإن كان قد وضع المخيط فلا شيء عليه، وإن لم يكن وضعه فيلزمه دمًا يذبحه في مكانه إن وجد مَن يأكله، وإلا ينقله إلى مكان آخر.
* قال: (فَهَذَا الْجِنْسُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى الْقَوْلِ فِي الْأَفْعَالِ، وَإِلَى الْقَوْلِ فِي التُّرُوكِ.
وَأَمَّا الْجِنْسُ الثَّالِث فَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ فِي الْأَحْكَامِ فَلْنَبْدَأْ بِالْأَفْعَالِ، وَهَذِهِ مِنْهَا مَا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَنْوَاعُ مِنَ النُّسُكِ).
ما هي الأربعة أنواع؟
الإفراد - التمتع - القران - العمرة.
(1)
تقدَّم التعريف بها.
(أَعْنِي: أَصْنَافَ الْحَجِّ الثَّلَاثَ، وَالْعُمْرَةَ، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا).
وهناك أُمور يختص بها أحدهم دون الآخر، كما ذكرنا أنَّ الهدي إنما يختص بالمتمتع والقارن، أما المفرد فلا، والسعي كذلك مرة أُخرى يختص به المتمتع.
* قال: (فَلْنَبْدَأْ مِنَ الْقَوْلِ فِيهَا بِالْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى مَا يَخُصُّ وَاحِدًا مِنْهَا).
يريد المؤلف أن يبدأ أولًا بالأمور المشتركة، فالإحرام -مثلًا- مُشتركًا بين هذه الأنساك الأربعة، وهذا هو الأحسن: أن يَبدأ بالأمور التي تَجمع هذه الأربعة، ثم بعد ذلك يَأخذ ما يَخص كل واحد منها.
* قال: (فَنَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أَوَّلُ أَفْعَالِهِمَا الْفِعْلُ الَّذِي يُسَمَّى الْإِحْرَامَ).
إذًا، أول ما يَبدأ الإنسان به إنَّما هو أن يُحرم، وليس الإحرام كما يفهمه بعض الناس من المسلمين بأن يتجرد من المَخيط ويلبس إزارًا ورداء، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:"وليلبس إزارًا ورداء أبيضين"
(1)
، نعم هذه بداية، لكن الإحرام هو نية الدخول في النُّسك من هنا بدأ الإحرام، وإلا الاغتسال أو اللبس هذا لك أن تفعله في بيتك.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْإِحْرَامِ
وَالْإِحْرَامُ شُرُوطُهُ الْأُوَلُ: الْمَكَانُ، وَالزَّمَانُ).
المقصود بالإحرام بمعنى التحريم؛ أي: ما يَحرم على الإنسان أن يفعله
(1)
وذلك لما أخرجه أبو داود (3878): "البسوا مِن ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم"، وصححه الألباني في "المشكاة"(1638).
بعد التلبيس، أليس للإنسان أن يأخذ من شعره، هذا مما أباحه اللَّه له، وله أن يقص أظفاره، بل هذا من السُّنة
(1)
، وله -أيضًا- أن يَلبس ما يشاء من الثياب، وله أن يَتطيب الطيب مِمَّا حُبِّب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما قال:"حُبِّب إليَّ مِن دنياكم النِّساء والطِّيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة"
(2)
، كذلك الصيد ما لم تكن في الحرم مباح لك، لكنك بعد أن تتلبس بهذه العبادة وتلتزم بها حينئذ حرمت عليك أمور كانت مباحة لك، فعليك ألا تتجاوز هذه الحدود، كما قال اللَّه عز وجل:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} .
[القول في ميقات المكان]
* قال: (أَمَّا الْمَكَانُ: فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَوَاقِيتُ الْحَجِّ).
المؤلف سيتكلم عن مواقيت الحج، ومواقيت الحج تنقسم إلى قسمين: مواقيت مكانية، ومواقيت زمنية.
المواقيت المكانية: هي المواضع التي يُحرم منها الحاج أو المعتمر.
والمواقيت الزمنية: هي زمن الحج، وليس معنى ذلك - عندما نقول: زمن الحج
(3)
، التي هي الأشهر الثلاثة على قولٍ، أو شوال وذو القعدة
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257)، عن أبي هريرة رواية:"الفطرة خمس -أو-: خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب".
(2)
أخرجه النسائي (3939)، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حُبِّب إليَّ من الدنيا: النِّساء والطِّيب، وجُعل قرة عيني في الصلاة"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3124).
(3)
أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزُّبَير، وعطاء، ومجاهد، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري، وأصحاب الرأي.
وروي عن عمر وابنه وابن عباس: "أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وهو قول مالك؛ لأن أقل الجمع ثلاثة". =
وعشر من ذي الحجة أو تسع، على قول المالكية، والأرجح: الأشهر الثلاثة - ليس معنى ذلك أن هذه الأعمال لنا أن ننقلها ونضعها في كل يوم من الأيام، فتلك أُمور ضبطت حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبيَّن لنا عن طريق القول والفعل، فعن طريق القول: الأحاديث التي مرت معنا، وسيمر بنا غيرها، ومن القول: قوله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي مَناسككم"
(1)
.
* قال: (فَلْنَبْدَأْ بِهَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْجُمْلَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي مِنْهَا يَكُونُ الْإِحْرَامُ)
(2)
.
المواقيت
(3)
: جمع ميقات، وليس المراد بذلك: الوقت؛ لأن الوقت يُجمع على أوقات، تقول: وقت الصلاة، وأوقات الصلوات، وأما الميقات فيجمع على مواقيت، فكما أن للصلاة وقتًا، فكذلك -أيضًا-
= وقال الشافعي: "آخر أشهر الحج: ليلة النحر، وليس يوم النحر منها".
فعند الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 155)، حيث قال:"أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 16)، حيث قال:"المشهور أنها: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 256)، حيث قال:"أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة".
وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 348)، حيث قال:"وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فيوم النحر منها، وهو يوم الحج الأكبر".
(1)
أخرجه مسلم (1297).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 248، 249)، حيث قال:"واتفقوا على أنَّ ذا الحليفة لأهل المدينة، و (الجحفة) لأهل المغرب، و (قرنًا) لأهل نجد، و (يلملم) لأهل اليمن، والمسجد الحرام لأهل مكة، مواقيت للإحرام للحج والعمرة، حاشا العمرة لأهل مكة فقط".
(3)
المواقيت: جمع الميقات، وهو الوقت المحدود، فاستعير للمكان، ومنه مواقيت الحج لمواضع الإحرام. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 491)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 667).
هناك للحج وقت، وهذا الوقت هو الوقت الزمني، وهناك مواقيت ومواضع محددة لا يجوز للمسلم أن يتجاوزها في إحرامه.
* قال: (أَمَّا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: فَذُو الْحُلَيْفَةِ).
وَقَّت الرسولُ صلى الله عليه وسلم لنا هذه المواقيت، ولم يدع ذلك لاجتهادنا؛ لأن تلكم المواقيت إنما تتعلق بعبادة هي ركن من أركان الإسلام، فأراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرسم لنا هذا الطريق ولا يتركنا ليتوزع اجتهادنا؛ فنختلف حول تحديد ذلك، فوضع لنا تلك المواقيت، كما في حديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما المتفق عليه:"وَقَّتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحُليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن يلملم"
(1)
، وفي حديث آخر زيادة:"ولأهل العراق: ذات عرق"
(2)
، فهذه مواقيت خمسة، والخامس فيه اختلاف: هل الذي وَقَّته هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَّا لم يبلغه توقيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وَقَّته، فصادف ما فعله عمر موافقًا لما حَدَّده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو وقته النبي صلى الله عليه وسلم، وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء اللَّه.
وأيضًا في حديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجُحفة، وأهل نجد مِن قرن -يعني قرن المنازل- وأهل اليمن مِن يَلملم"
(3)
، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث عبد اللَّه بن عباس الأول: "هُنَّ لهن ولمَن أَتَى عليهن مِن غير أهلهن مِمَّن أراد الحج والعمرة، ومن كان مِنزله دون ذلك فَمِن حيث أَهَلَّ حتى أهلُ مكة
(4)
يهلون -أي: ينشئون من حيث كانوا- من مكة".
(1)
أخرجه البخاري (1452)، ومسلم (1181).
(2)
أخرجه مسلم (1183).
(3)
أخرجه البخاري (1453)، ومسلم (1182).
(4)
أخرجه البخاري (1452)، ومسلم (1181).
فقد رسم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا طريقًا سويًّا محددًا لا يتطرق إليه أي شبهة أو أي اختلاف.
فوقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحليفة، فما هو ذو الحليفة؟
هو هذا الذي يعرف الآن بأبيار علي، لكن لماذا سُمِّي بذي الحليفة
(1)
؟
كلمة (حُليفة) في لغة العرب: إنما هي تصغير حَلْفَا، وهي نبت معروف يكثر في ذلك المكان، فحليفة حذفت الألف، وأقيمت التاء مكانها؛ لأنها علامة التأنيث، فحليفة تصغير حلف، والحلفا: إنما هو شجر معروف يَكثر في ذلك المكان؛ فنسب إليه لشهرته بهذا النبت المعروف، وهو يُعرف الآن بأبيار عليٍّ، ويقال: إن لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بئرًا في هذا المكان.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومثلهم -أيضًا- أهل مصر وكذلك المغرب وكل مَن مَرَّ على ذلك المكان: الجُحفة.
والجحفة
(2)
هذه مكان معروف، وكان موجودًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه تعالى أن يُحَبِّب إليهم المدينة كحبِّهم مكة فقال:"اللهم حَبِّب إلينا المدينة"، وسأل ربه أن يبارك للمسلمين في مدها وصاعها، وجاء -أيضًا- في الحديث:"اللهم حَبِّب إلينا المدينة كحُبِّنا مكة أو أَشَد، اللهم بارك لنا في صاعها وفي مُدِّها، وصَحِّحها لنا، وانقل حُمَّاها إلى الجحفة"
(3)
، فإن المدينة كانت مشهورة بالحُمَّى؛ أي: يُحم
(1)
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها: ميقات أهل المدينة، وهو من مِياه جشم، بينهم وبين بني خفاجة من عقيل. انظر:"معجم البلدان"، للحموي (2/ 295).
(2)
الجحفة: موضع بين مكة والمدينة، وهي ميقات أهل الشام، وكان اسمها مهيعة، فأجحف السيل بأهلها، فسميت جحفة. انظر:"مختار الصحاح" للرازي (ص: 53).
(3)
يعني: حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اللَّهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ =
الذي يقطنها، أو يأتي إليها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا اللَّه أن ينقل حُمَّاها إلى الجُحفه، وكانت في ذلك الوقت بلاد كفر ليست دار إسلام، وإلا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى إليها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بأمته.
ويقولون: سُمِّيت جحفة؛ لأن السيل جحفها؛ أي: جَرَفها، فهي الآن أصبحت قرية خربة، ولا توجد الآن، وهناك بلدة كبيرة مشهورة هي مدينة رابغ، هي قبلها بقليل؛ فيُحرم الحاج أو المعتمر منها والذي يمر عليها، وفيها احتياط؛ لأنها تَسبقها نحو المدينة بقليل، ففي ذلك حيطة؛ فمن يُحرم من رابغ إنَّما أحرم من المكان الذي حُدِّد له.
ولأهل نجد: قرن المنازل
(1)
، وبعضهم يُسميه: قرن الثعالب، وهذا حقيقة غير مُسَلَّم؛ لأن قرن الثعالب إنَّما هو جبل يُطل على عرفات، فإنما هو قرن المنازل، والآن عرف واشتهر ببلدة تُسمى السَّيل الكبير، فمن يأتي من طريق نجد إنَّما يُحرم من هنالك.
ولأهل اليمن: يلملم
(2)
، وهي قريبة -أيضًا- من قرن المنازل، وتُعرف اليوم بالسعدية.
ولأهل العراق: ذات عِرق
(3)
، ولم ترد في هذا الحديث، وذات عِرق تُعرف اليوم بالضريبة، وبحمد اللَّه هذه المواضع التي حَدَّدها لنا
= أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ"، أخرجه البخاري (1790)، ومسلم (1376).
(1)
قَرْن المنازل: وهو قَرْن الثعالب: ميقات أهل نجد تِلقاء مكة على يوم وليلة، وأصله: الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير. انظر: "معجم البلدان" للحموي (4/ 332)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 393).
(2)
يلملم: ميقات أهل اليمن، بينه وبين مكة ليلتان. انظر:"النهاية" لابن الأثير (5/ 299)، و"معجم البلدان"(1/ 246).
(3)
ذات عرق: يُحرم أهل العراق بالحج منه، وهو الحد بين نجد وتهامة، وسُمِّي به؛ لأن فيه عرقًا، وهو الجبل الصغير. وقيل: العرق من الأرض سبخة تنبت الطرفاء. انظر: "معجم البلدان" للحموي (4/ 107)، "النهاية" لابن الأثير (3/ 219)، و"الصحاح" للجوهري (4/ 1523).
رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم هي أماكن معروفة محددة، ولا يتطرق أي شك إلى المعتمر والحاج الذي يريد أن يَبدأ نُسكه منها؛ أي: يدخل في النسك، فهي مُعَيَّنة ومحددة ومعالمها واضحة، وهذا من فضل اللَّه سبحانه وتعالى علينا.
لكن هنا قد يرد سؤال ربما يدور في ذهن البعض: مَن الذي وَقَّت هذه المواقيت؟ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة لا إشكال؛ لأن أهل المدينة كانوا مُسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه هي دار الهجرة، وهذه طيبة الطيبة، وهي مأوى خيرة المسلمين، ولكن هل وَقَّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل الشَّام: الجُحفة، والشام -كما هو معلوم- لم يكن أهلها مسلمين في ذلك الوقت، ومثل هذا بالنسبة للعراق؟
على القول الصَّحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي حَدَّد لهم هذه المواقيت، وإن كان بعضها يومئذ لأقوام لم يكونوا مسلمين فهذه علامة وآية على صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ففي ذلكم إشارة بليغة إلى أن أهل تلك البلاد سيُسلمون، وسيُحرمون بالحج والعمرة، فبَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الأماكن التي يأتي منها هؤلاء، ومن بين هؤلاء أهل المغرب.
إذًا، هذه علامة من علامات نبوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكما نرى -والحمد للَّه- فُتحت بلاد الشام وأصبحت بلاد إسلام، وفُتحت -أيضًا- بلاد العراق التي كانت تُعرف ببلاد فارس، وأصبحت دار إسلام ومأوى للمسلمين، بل إنَّ الإسلام قد تجاوز تلك المناطق؛ فامتد شرقًا وغربًا حتى شَمِل المعمورة، فهذا هو دين اللَّه سبحانه وتعالى الذي قال عنه:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، إذًا، هذا كما ترون من فضل اللَّه سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وسيأتي مزيد بيان لذلك عندما نتحدث عمَّن حَدَّد ذاتَ عِرق هل هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو عُمر رضي الله عنه؟
* قال: (وَأَمَّا لِأَهْلِ الشَّامِ: فَالْجُحْفَةُ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنٌ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمُ).
لكن لا يُشكل على ذلك لو قُدِّر أنَّ أهل نجد وأهل الرياض -مثلًا-
جاؤوا عن طريق المدينة، فإنهم يُحرمون من ذي الحليفة، ولو قدر أن أهل المدينة ذهبوا هناك ومروا بقرن المنازل، فإنَّه يحرم هناك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"هُنَّ لهن"، يعني: هذه المواقيت لهن؛ أي: لهذه البلاد، "ولِمَن أتى عليهن"؛ أي: ولمن أتى على هذه المواقيت مِن غير أهلهن؛ أي: من البلاد الأُخرى، ثم قال في آخر الحديث:"حتى أهل مكة يهلون من مكة وإن كان من منزله"؛ أي: يحرم من منزله.
* قال: (لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
الإنسان قد يكون بينه وبين الميقات مسافات، كجدة؛ فهل يذهب الإنسان مثلًا ما يَقرب من مائة وخمسين كيلو وأكثر ليذهب إلى أقرب ميقات، كالجحفة، أو ما يصل -مثلًا- إلى أربعمائة كيلو إلى المدينة؛ ليحرم منها، لا، اللَّه سبحانه وتعالى خَفَّف؛ فهم يُحرمون من أماكنهم.
* قال: (مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِيقَاتِ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: "مِيقَاتُهُمْ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ").
جمهور العلماء
(1)
، ومنهم الأئمة الذين لم يُذكرهم المؤلف: أن ميقات أهل العراق: هو مِن ذات عرق؛ لماذا؟
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 7)، حيث قال:"المواقيت التي لا يتجاوزها الإنسان إِلَّا محرمًا: لأهل المدينة: ذو الحليفة، ولأهل العراق: ذات عِرق، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن، ولأهل اليمن: يلملم، وكل واحد من هذه المواقيت وقت لأهلها ولمن مَرَّ بها من غير أهلها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 32)، حيث قال:"وأما ذات عرق فهو ميقات أهل العراق وبلاد فارس وخراسان وأهل المشرق ومَن وراءهم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 225)، حيث قال: " (ومن المشرق) العراق وغيره: (ذات عرق)، وهي قرية على مرحلتين من مكة، وقد خربت، والعقيق: وهو واد فوق ذات عرق لأهل العراق وخراسان أفضل من =
لأنه جاء في حديث جابر
(1)
الشهير الطَّويل؛ أطول حديث جاء في صفة حَجِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أورده مسلم بكماله، وهو حديث يشتمل على كثير من الأحكام والحِكَم والأسرار والفضائل، وفي هذا الحديث في رواية مِن روايات مسلم: أنه قال: "سمعتُه، فذكر: "ومهل أهل المدينة: ذو الحليفة"، فرفع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية من رواياته شَكَّ فقال: "من الجحفة"، يعني: أهل المدينة لو ذهبوا مع الطريق الآخر أحرموا مع الجحفة، وأهل العراق من ذات عرق، إذًا: "سمعتُه"، يَعني: هل رفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذًا هناك شك في رواية جابر هذه؛ هل رفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأنه سمعه مِن غيره.
* قال: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: "إِنْ أَهَلُّوا مِنَ الْعَقِيقِ كَانَ أَحَبَّ").
العقيق
(2)
ليس بعيدًا أيضًا؛ لأنه يوجد في الوادي المعروف، وهو وادي أبيار عليِّ، لكنه يختلف عنه من حيث الطريق.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَقَّتَهُ لَهُمْ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:"عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ".
= ذات عرق؛ لأنه أحوط، ولما روى ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 296)، حيث قال: " (و) ميقات أهل (المشرق وخراسان والعراق: ذات عِرق): منزل معروف؛ سُمِّي بذلك لِعرق فيه؛ أي: جبل صغير، أو: أرض سبخة تنبت الطرفاء، وهو (قرية خربة قديمة، وعرق: جبل مشرف على العقيق).
(1)
يعني: حديث جابر في صِفة حَجِّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم (1218)، قَالَ:"إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ. . . "، الحديث.
(2)
العَقِيق: العرب تقول لكل مسيل ماء شَقه السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق، وفي بلاد العرب أربعة أعقة، وهي أودية عادية شَقَّتها السيول. انظر:"معجم البلدان" للحموي (4/ 138).
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: "بَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ وَالْعَقِيقَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
وَعَائِشَةَ
(2)
").
لما سئل جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه: قال: "سمعتُ"، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو لعله رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذًا هناك تردد فى هذه الراوية، فَمِن هنا وقع الخلاف، وإلا لم يحصل هذا الشك، ولما اختلف العلماء في المسألة، لكن في الحقيقة جاءت أحاديث كثيرة متعددة تكلم العلماء عن بعض طرقِها، لكنها باجتماعها صالحة تُؤكد ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه.
قال رحمه الله: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ يُخْطِئُ هَذِهِ -وَقَصْدُهُ الْإِحْرَامُ- فَلَمْ يُحْرِمْ إِلَّا بَعْدَهَا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا).
المؤلف هنا كما ترون أسرع في هذه المسألة، وجمهور العلماء
(3)
(1)
يعني: الحديث الذي أخرجه أبو داود (1740)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(306)، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ: الْعَقِيقَ".
(2)
يعني: حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ: ذَاتَ عِرْقٍ"، أخرجه أبو داود (1739)، وصححه الألباني في "الإرواء"(999).
(3)
عند الحنفية، يُنظر:"البناية" للعيني (4/ 158)، حيث قال:"إنها من توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بحديث مسلم في "صحيحه"، من حديث أبي الزُّبَير، عن جابر قال: سمعتُ -أحسبه رفع الحديث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر: الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 32)، حيث قال:"إنها من توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي الزُّبَير أنه: سمع جابر بن عبد اللَّه يسأل عن المهل، فقال: سمعتُ -أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر: الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم". =
على أن الذي وَقَّت ذلك إنما هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كالشافعي يرى أن الذي وَقَّت هو عمر رضي الله عنه، وهو أن أهلَ المِصْرَيْن (الكوفة والبصرة) - كما جاء في الحديث الذي في "صحيح البخاري"
(1)
شَكوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أمير المؤمنين في ذلك الوقت، وفتح العراق إنما تم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا له: إنَّ قرن -يعني: قرن المنازل- بعيدة عن طريقهم ويلحقهم مشقة، وطلبوا منه أن يحدد لهم ميقاتًا، فقال:"انظروها إلى حذوها من طريقكم"، ولذلك قال بعض العلماء: إن الذي وَقَّته هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما شكا أهل المِصرين (الكوفة والبصرة) إلى عمر رضي الله عنه، وبينوا له أنه يلحقهم مشقة وتعب وجهد في المهل الذي يحصل بسبب ذهابهما إلى قرن المنازل - أرشدهم عمر رضي الله عنه إلى ما يَجوز من ذلك، وهو المحاذاة، ثم حدد بهم ذلك الموضع: ذات عرق، فجاء رأيه الذي اجتهد فيه موافقًا لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولقوله، وعمر رضي الله عنه كان ملهمًا
(2)
، ونزل القرآن في عِدَّة مواضع مؤيدًا لرأيه، كما في أسرى
= وعند الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 225)، حيث قال:"قيل: إن ذات عرق إنَّما كان باجتهاد عمر رضي اللَّه تعالى عنه، والذي في "الشرح" و"الروضة" عن ميل الأكثرين أنه بالنص. وقال في "المجموع": إنه الصحيح عند جمهور الأصحاب، والذي في "شرح المسند" للرافعي: مذهب الشافعي: أنه باجتهاد عمر، ولم يذكر غيره. وقال المصنف في "شرح مسلم": إنَّه الصَّحيح، وهو ما نَصَّ عليه في "الأم"، والرَّاجح الأول؛ لصحة الحديث المتقدم".
وعند الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 297)، حيث قال:"هذه المواقيت كلها ثَبتت بالنص لا باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لحديث ابن عباس: "وَقَّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرنًا، ولأهل اليمن: يلملم، هُنَّ لهن ولِمَن أتى عليهن من غير أهلهن مِمَّن يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمهله مِن أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها"، متفق عليه.
(1)
أخرجه البخاري (1531)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لما فتح هذان المِصْرَان أتوا عمر، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأهل نجد: قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شَقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحَدَّ لهم: ذات عرق".
(2)
أخرجه البخاري (3469) واللفظ له، ومسلم (2398/ 23) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن =
بدر
(1)
، وكذلك في الحجاب
(2)
، وكذلك في المقام حين قال: لو اتَّخذت يا رسول اللَّه مِن مقام إبراهيم مُصَلَّى
(3)
، فأنزل اللَّه:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، إلى غير ذلك من الأحكام التي نزلت مُؤيدة لرأي عمر رضي الله عنه.
* قال: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ يُخْطِئُ هَذِهِ -وَقَصْدُهُ الْإِحْرَامُ- فَلَمْ يُحْرِمْ إِلَّا بَعْدَهَا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا).
المؤلف هنا حقيقة قد يُوقع القارئ في لبس، فيمكن أن نقسم هذه المسألة إلى قسمين، والمؤلف يقصد الشطر الثاني الذي فيه الخلاف، لكن ليس كل الناس يدركون أن هناك طرفًا أو جزءًا أو شطرًا لهذه المسألة ليس
= النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، وإنه إن كان في أُمَّتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب".
(1)
أخرجه مسلم (1763/ 58) عن ابن عباس، وفيه:". . . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ ". قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمَكِّنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكني من فلان نَسيبًا لعمر، فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فَهَوِي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلتُ. . . "، الحديث.
(2)
يعني: الحديث الذي أخرجه البخاري (146)، ومسلم (2170) عن عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِعِ، وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ -زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ؛ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الحِجَابُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الحِجَابِ".
(3)
يعني: الحديث الذي أخرجه البخاري (402)، عن عُمَر بْن الخَطَّاب رضي الله عنه:"وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ".
فيه خلاف، يعني: الذي يتجاوز الميقات
(1)
ولم يُحرم هو لا يخلو؛ إما أن يعود إليه قبل أن يُحرم، وإما أن يعود إليه بعد الإحرام، فالتي يريدها المؤلف وفيها الخلاف هي الثانية: مَن يتجاوز الميقات، ثم يُحرم بعد الميقات؛ ثم يعود إلى الميقات. هذه التي فيها خلاف، أما الأولى التي لم يَعرض لها، وكان ينبغي أن يُبينها، وهي: إذا تجاوز إنسان الميقات، ثم عاد إلى الميقات قَبل أن يُحرم، فهذه لا خلاف فيها، فعليه أن يُحرم من الميقات، ولا شيء عليه، لكن الكلام فيمن تجاوز الميقات، ثم أحرم بعد أن تجاوز الميقات، يعني: سار أقرب إلى مكة، ثم عاد مرة أُخرى إلى
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (3/ 110)، حيث قال:"مَن دخل مكة يريد الحج أو العمرة لا يجوز له أن يَتجاوز الميقات بغير إحرام، فإن جاوز فإمَّا أن يعود إليه أو لا، فإن لم يعد وجب عليه الدم، وإن عاد، فإما أن يعود قبل الإحرام أو بعده، فإن عاد قبله سَقَط الدم بالاتفاق؛ لأنه أنشأ التلبية الواجبة عند ابتداء الإحرإم، وإن عاد بعده؛ فإمَّا أن يعود بعدما ابتدأ الطواف واستلم الحجر أو قبله، فإن عاد بعده لا يَسقط الدم بالاتفاق".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 170)، حيث قال:"إن لم يُحرم من الميقات المكاني مِثل أن يُقيم بمكة حتى يَحج منها، فعليه الدم، وكذلك لو مَرَّ على الميقات الذي أحرم منه أولًا، فتعداه، فعليه دم".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 465)، حيث قال:"لو جاوز ميقاتًا مريدًا للنُّسك، ثم أحرم بالعمرة متمتعًا وبينه وبين مكة مرحلتان - لَزِمه دمان؛ دم للتمتع، ودم للإساءة، وان لم يَنو التمتع -أو بينهما دونهما- فدمٌ يلزمه للإساءة لا للتمتع؛ لفقد التمتع الموجب للدم؛ لأنه حينئذ مِن حاضري المسجد الحرام".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 402)، حيث قال:"ولا يجوز لمن أرأد دخول مكة أو دخول (الحرم أو) أراد (نُسكًا - تجاوز الميقات بغير إحرام)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وَقَّت المواقيت، ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه: أنَّهم تجاوزوها بغير إحرام. . . أنه لو أرادها لتجارة أو زيارة أنه يلزمه. نَصَّ عليه واختاره الأكثرون؛ لأنه من أهل فرض الحج، ولعدم تكرر حاجته، فإن لم يُرد الحرم ولا نسكًا لم يلزمه بغير خلاف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدرًا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد، فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام، (إن كان حرًّا مسلمًا مكلفًا)، بخلاف الرقيق والكافر وغير المكلف؛ لأنهم ليسوا من أهل فرض الحج".
الميقات: هل يَسقط عنه الدم، أو لا بدَّ له من دم؟ بل ومن العلماء مَن يرى -وهذا قول ضعيف- أن الإنسان لو أحرم من بعد الميقات ولم يَعد إليه فَسد حَجُّه - كما هو رأي أهل الظاهر
(1)
، لكن هذا رأي ضعيف في الحقيقة لا يُلتفت إليه.
* قال: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ يُخْطِئُ هَذِهِ -وَقَصْدُهُ الْإِحْرَامُ- فَلَمْ يُحْرِمْ إِلَّا بَعْدَهَا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا).
مَن تجاوز الميقات، ثم عاد إليه قبل أن يَتَلَبَّس بالإحرام؛ أي: قبل أن يدخل في النُّسك فإنه لا شيء عليه، فيُحرم من الميقات فقط، فلو قُدِّر أن إنسانًا تجاوز الميقات حتى وصل إلى جدة ولم يُحرم، ثم عاد إلى الميقات، فعليه أن يُحرم منه فقط، كالإخوة الذين يأتون من بعض البلاد؛ من مصر، أو الشام، أو المغرب، فينزلون في جدة هؤلاء كثير منهم ما يُحرم إذا حازى الميقات؛ فماذا يفعل؟ في هذه الحالة يَذهب وينتقل إلى الجُحفة، أو يأتي إلى ميقات أهل المدينة ذي الحليفة، فإذا أحرم انتهى ولا شيء عليه، أمَّا إن أحرم من مكانه فعليه دم إِلَّا أن يكون أحرم عندما حازى الميقات فلا شيء عليه.
* قال: (وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: "إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ"، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: "لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَإِنْ رَجَعَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: "لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ"").
الإمام الشافعي يبيِّن أنه لو قُدِّر أن إنسانًا تجاوز الميقات، وأحرم من ذلك المكان الذي وصل إليه، ثم عاد إلى الميقات، فإنه ليس عليه دم.
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 52)، حيث قال:"فكل مَن خطر على أحد هذه المواضع -وهو يريد الحج أو العمرة- فلا يحل له أن يتجاوزه إِلَّا محرمًا، فإن لم يحرم منه فلا إحرام له، ولا حَجَّ له ولا عمرة له، إِلَّا أن يرجع إلى الميقات الذي مَرَّ عليه، فيَنوي الإحرام منه، فيَصح حينئذ إحرامه وحَجُّه وعمرته".
ومالك وأحمد يقولان: إن رجع أو لم يرجع، فعليه دم؛ لأنه انتهك حرمة هذا الميقات، فلم يُحرم منه.
وأبو حنيفة يُفَصِّل فيقول: إن عاد إليه صامتًا فعليه دم، فيكون كقول مالك وأحمد، وإن رجع ملبيًّا ذاكرًا اللَّه تعالى فلا شيء عليه.
ولا شَكَّ أن الأحوط في هذه المسألة والأقرب: هو رأي الإمامين مالك وأحمد
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 73)، حيث قال:" (مَن جاوز الميقات غير مُحرم، ثم عاد محرمًا ملبيًا، أو جاوز ثم أَحرم بعمرة، ثم أفسد وقضى - بطل الدم)، أمَّا الأول فالمذكور هنا قول أبي حنيفة، وعندهما سقط عنه الدم بعوده إلى الميقات محرمًا لَبَّى أو لم يُلَبِّ، وعند زفر: لا يسقط؛ لَبَّى أو لم يُلَبِّ، ولا خلاف بينهم أنه إذا رجع إلى الميقات قبل الإحرام، فأحرم من الميقات سَقط عنه الدم، وإن رجع بعدما طاف لا يسقط عنه الدم، لزفر رحمه الله أنَّ جنايته لم تَرتفع بالعود، فصاركما إذا أفاض من عرفات، ثم عاد إليها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 41)، حيث قال:"الصرورة المستطيع إذا جاوز الميقات غير مُريد لمكة، ثم أرادها بعد ذلك وأحرم، فاختلف في لزوم الدم له، والمسألة كذلك مفروضة في "المدونة"، وفي شروحها، ونقل ابن بشير الخلاف في الصرورة لا بقيد كونه أحرم بعد ذلك، وتبعه على ذلك المصنف في "مناسكه" و"توضيحه"، وهو بعيد، والتأويلان لابن شبلون على أنَّ الصرورة يلزمه الدم؛ سواء كان مريدًا للحج حين جاوز الميقات أو غير مريد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 262)، حيث قال:" (وإن أحرم) مَن جاوز الميقات غير محرم، (ثم عاد) له، (فالأصح: أنه إن عاد) إليه (قبل تَلَبُّسه بنسك سَقط الدم) عنه؛ أي: لم يجب لقطعه المسافة من الميقات محرمًا وفعله جميع المناسك بعده، فكان كما لو أحرم منه؛ سواء أدخل مكة أم لا؟ (وإلا) بأن عاد بعد تَلَبُّسه بنسك ولو طواف قدوم، (فلا) يسقط الدم عنه؛ لتأدي النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يَجب بعوده لم تكن مجاوزته مُحرمة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 415)، حيث قال:"مَن تجاوز الميقات بلا إحرام، ثم عاد إليه فأحرم منه (بخلاف واقف ليلًا فقط) فلا دم عليه".
* قال: (وَقَالَ آخَرُونَ: "إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ فَسَدَ حَجُّهُ").
وهذا هو قولُ أهل الظَّاهر
(1)
، وهو قول ضعيف حقيقة؛ لأن الحج لا يفسد لكونك أحرمت مِن بعد الميقات، أو حتى أحرمت قبل الميقات، والفرق -أيضًا- بين أن تُحرم قبل الميقات أو بعده؛ لأنك لو أحرمت قبل أن تَصل إلى الميقات في هذه الحالة لا يَلزمك دم، لكنه يُكره، ووجد من الصحابة رضي الله عنهم مَن أحرم قبل الميقات، لكن المسلم دائمًا يَسعى إلى التزود من التقوى، واللَّه تعالى يقول في شأن الحج:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
(وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمِيقَاتِ فَيُهِلُّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي الْأَحْكَامِ.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَهُنَّ فَمِيقَاتُ إِحْرَامِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ).
يعني: الناس الذين دون هذه المواقيت الخمسة، يعني: يأتون بعدها، فالأقربون إلى مكة يحرمون منها - أي: يدخلون في الإحرام، فينوون النسك من أماكنهم، هذا هو المكان الذي يحرمون منه.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا: هَلِ الْأَفْضَلُ إِحْرَامُ الْحَاجِّ مِنْهُنَّ، أَوْ مِنْ مَنْزِلِهِ إِذَا كَانَ مَنْزِلُهُ خَارِجًا مِنْهُنَّ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: الْأَفْضَلُ لَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَالْإِحْرَامُ مِنْهَا رُخْصَةٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
وَجَمَاعَةٌ.
(1)
انظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 52)، حيث قال:"كل مَن خطر على أحد هذه المواضع -وهو يريد الحج أو العمرة- فلا يَحل له أن يتجاوزه إِلَّا محرمًا، فإن لم يُحرم منه فلا إحرام له، ولا حَجَّ له ولا عمرة له، إِلَّا أن يرجع إلى الميقات الذي مَرَّ عليه فينوي الإحرام منه، فيَصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته".
(2)
نسب هذا القولَ للثوري العينيُّ في "البناية"(4/ 161) فقال: قال القرطبي: كان إحرام ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما من الشام، وكان إحرام عمران بن الحصين من =
وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ
(1)
، وَأَحْمَدُ: إِحْرَامُهُ مِنَ الْمَوَاقِيتِ أَفْضَلُ.
وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ: الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأَنَّهَا السُّنَّةُ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فهِيَ أَفْضَلُ.
وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ أَحْرَمَتْ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ؛ ابْنَ عَبَّاسٍ
(2)
، وَابْنَ عُمَرَ
(3)
، وَابْنَ مَسْعُودٍ
(4)
وَغَيْرَهُمْ، قَالُوا:"وَهُمْ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ").
الدخول في النسك هو النية، فسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي يَنبغي اتِّباعها، ولا ينبغي الحيد عنها أن يُحرم من الميقات
(5)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي
= البصرة، وابن مسعود من القادسية، وكان إحرام علقمة والأسود وعبد الرحمن بن يزيد الشعبي رحمه الله من بيوتهم، وإحرام سعيد بن جبير من الكوفة على بَغلة. رواه سعيد بن منصور رضي الله عنه، وهو قول الثوري والحسن بن حي، وقال إسماعيل القاضي: والذين أحرموا قبل الميقات من الصحابة والتابعين كثير".
(1)
نُسب هذا القولَ لإسحاقَ العينيُّ في "البناية"(4/ 161)، فقال: الأفضل عندنا: تقديم الإحرام عن هذه المواقيت، والتأخير إليها رخصة من اللَّه تعالى ورِفق بالناس، وكره التقديمَ مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ. قيل: والشافعيُّ، وليس بصحيح".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 124)، عن حَمْزَةَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِيهِ:"أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَحْرَمَ مِنَ الشَّامِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 123)، عن نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:"أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
(4)
أخرجه أبو يوسف في "الآثار"(ص 111)، عن إِبْرَاهِيمَ:"أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ مَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذُكِرَ رَجُلٌ بَعَثَ هَدْيًا وَأَحْرَمَ وَهُوَ مُقِيمٌ".
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية" للعيني (2/ 161)، حيث قال:"يجوز له تقديم الإحرام على المواقيت بلا خلاف".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 21)، حيث قال: "من أحرم قبل ميقاته المكاني كره له ذلك، وصَحَّ إحرامه، فما ذكره من صحة إحرامه وانعقاده فلا خلاف فيه، وتَقَدَّم الفرق بينه وبين الميقات الزماني على القول بعدم انعقاد الإحرام قبله، ما ذكره من الكراهة هو المشهور من المذهب، كما صرح به سند =
الحليفة، ودخل في النسك، لكن لو قُدِّر أن إنسانًا أحرم مِن هنا من المدينة، أو حتى قبل المدينة، أو حتى أحرم من مصر مثلًا، أو من الشام وغيرها، نحن لا نقول: بأن حجَّه باطل، لكننا نقول: إنه قد فعل مكروهًا.
وهناك مَن يقول: إن ذلك يَحرم، لكننا نقول -كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعك ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"
(1)
، فأنت تعبت وبذلت الكثير من الجهد، وستنفق الكثير من المال؛ فلماذا لا تحرص أن تكون على وفق حَجِّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أمرك فيها بقوله:"خذوا عني مناسككم".
* قال: (وَأُصُولُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(2)
تَقْتَضِي: أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِحْرَامُ إِلَّا مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ إِجْمَاعٌ عَلَى خِلَافِهِ.
= وغيرُ واحد، قال في "التوضيح": أمَّا كراهة تقديمه فهو الذي يحكيه العراقيون عن المذهب من غير تفصيل، وهو ظاهر "المدونة"، وفي "الموازية": لا بأس أن يُحرم من منزله إذا كان قبل الميقات ما لم يكن منزله قريبًا، فيكره له ذلك. انتهى".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 263)، حيث قال:"الأفضل: أن يُحرم (من الميقات) تأسيًا به صلى الله عليه وسلم. (قلت: الميقات)؛ أي: الإحرام منه إن لم يلتزم بالنذر الإحرام مما قبله: (أظهر، وهو الموافق للأحاديث الصحيحة، واللَّه أعلم)؛ لما صَحَّ "أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بحُجَّته وبعمرة الحديبية من الحليفة"، وإنما جاز قبل الميقات المكاني دون الزماني لما يأتي من أن تعلق العبادة بالوقت أشد منه بالمكان، ولأن المكاني يختلف باختلاف البلاد بخلاف الزماني والأفضل للمكي الإحرام منها وأن لا يحرم من خارجها في جهة اليمن، وينبغي أن لا يكون إحرام المصريين من رابغ مفضولًا، وإن كانت قبل الميقات؛ لأنه لعذر، وهو إبهام الجحفة على أكثرهم، وعدم وجود ماء فيها، وخشية مَن قصدها على ماله ونحوه".
وعند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 402)، حيث قال:"إذ الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه حرام".
(1)
أخرجه الترمذي (2518)، وقال:"حديث صحيح"، وصححه الألباني في "المشكاة"(2773).
(2)
وعند الظاهرية، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (5/ 52)، حيث قال:"إن أحرم قبل شيء من هذه المواقيت وهو يَمر عليها - فلا إحرام له، ولا حَجَّ له، ولا عمرة له، إِلَّا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام، فذلك جائز، وإحرامه حينئذ تام، وحجه تام، وعمرته تامة".
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ مِيقَاتِهِ وَأَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ مِيقَاتِهِ، مِثْلُ: أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْإِحْرَامَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُحْرِمُوا مِنَ الْجُحْفَةِ).
يعني: لو أن أهل المدينة قالوا: نحن سنمر بالجحفة، فلماذا نُحرم من ذي الحليفة، فنحرم من الجحفة، فلا داعي أن نحرم من ذي الحليفة، ونقضي هذه المسافة دون أن يكون علينا إحرام، هذا الذي يريد المؤلف أن يقوله، وجمهور العلماء على أنَّه ليس له ذلك، والإمام مالك أجاز له ذلك
(1)
.
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 50)، حيث قال:"القارن إذا تَوَجَّه إلى عرفات قبل أداء العمرة ونحو ذلك يَبطل حكمه، ولو فرغ من أفعال العمرة وحَلَّ، ثم خرج إلى غير ميقاته ولحق بموضع لأهله التمتع والقران اتَّخذ دارًا أو لم يتخذ، تَوَطَّن أو لم يتوطن، ثم أحرم من هناك بالحج، وحَجَّ من عامه ذلك - يكون متمتعًا عند أبي حنيفة؛ لانعدام الإلحاق بالأهل مِن كل وجه".
وعند المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 303)، حيث قال:"مَن سافر في البحر، فإنه يُحرم إذا حاذى الميقات، ولا يُؤخر إلى البر، وظاهره: سواء كان ببحر القلزم أو بحر عيذاب، على ظاهر المذهب، خلافًا للتفصيل. سند، ولما أوجب الجمهور إحرام مَن مَرَّ بغير ميقاته منه عمومًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هُنَّ لهن ولمَن أتى عليهن مِن غير أهلهن".
واستثنى أهل المذهب مَن ميقاته الجحفة يَمر بذي الحليفة، فلا يجب إحرامه منها؛ لمروره على ميقاته بعد، أشار إلى ذلك بقوله: إِلَّا كمصري يَمر بذي الحليفة، يعني: أنه إذا كان ميقاته بين يديه؛ كالشامي، والمغربي، والمصري، فإنه إذا مَرَّ بذي الحليفة، فالأفضل له: أن يُحرم منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منه، ويجوز له أن يُؤخر إحرامه إلى ميقاته الذي هو الجحفة".
وعند الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 50)، حيث قال:"فإن لم يخرج وأتى بأفعال العمرة) أَثِم اتفاقًا، كما علم مِمَّا مَرَّ، و (أجزأته) عن عمرة الإسلام وغيرها (في الأظهر)؛ لانعقاد إحرامه اتفاقًا، ومَن حكى فيه خلافًا فمردود عليه، كما لو أحرم بالحج من غير ميقاته، (وعليه دم)؛ لتركه الإحرام من الميقات، (فلو خرج إلى الحِل بعد إحرامه) وقبل الشروع في طوافها (سَقط الدم)؛ أي: لم يجب (على المذهب)؛ نَظير ما مَرَّ فيمن جاوز الميقات وعاد إليه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (1/ 346)، حيث =
(فَقَالَ قَوْمٌ: "عَلَيْهِ دَمٌ"، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ").
إذًا، جمهور العلماء على أنَّه لا يَجوز للإنسان أن يَتجاوز الميقات، يعني: مَرَّ بميقات، ويريد أن يذهب إلى ميقات آخر، فبذلك يكون قد تجاوز الميقات، فالجمهور يقولون: عليه دم. وهذا هو الرأي الصحيح أنه لا ينبغي له ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هُنَّ لهن ولمَن أتى عليهن مِن غير أهلهن".
* قال: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ هُوَ مِنَ النُّسُكِ الَّذِي يَجِبُ فِي تَرْكِهِ الدَّمُ أَمْ لَا؟).
عمدة العلماء في إيجاب الدم
(1)
في مثل هذه الأُمور وغيرها -وما أكثرها من الأُمور التي تحتاج إلى جَبر بدم- هو أثرُ عبد اللَّه بن عباس
= قال: "الأفضل: أن يُحرم من أول الميقات، وهو الطرف الأبعد عن مكة، وإن أحرم من الطرف الأقرب من مكة جاز، وهي لأهلها ولمَن مَرَّ عليها مِن غير أهلها ممن يريد حجًّا أو عمرة، فإن مَرَّ الشامي أو المدنى أو غيرهما على غير ميقات بلده، فإنه يحرم من الميقات الذي مَرَّ عليه؛ لأنه صار ميقاته، ومَن منزله دون الميقات -أي: بين الميقات ومكة- فميقاته من موضعه، فإن كان له منزلان جاز أن يَخرج مِن أقربها إلى مكة، والأولى مِن البعيد، وأهل مكة ومَن بها من غيرهم؛ سواء كانوا في مكة أو في الحرم، فإذا أرادوا العمرة فَمِن الحِلِّ ومِن التَّنعيم أفضل، وهو أدناه".
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 73)، حيث قال:"مَن ترك نسكًا فعليه دم".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 11)، حيث قال:"مَن ترك نسكًا فعليه دم".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 497)، حيث قال:"مَن ترك نسكًا فعليه دم".
وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (1/ 398)، حيث قال:"مَن ترك واجبًا ولو سهوًا فعليه دم".
الذي قال فيه: "مَن ترك نسكًا فعليه دمٌ"
(1)
، وهذا اختلف فيه: أهو مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أم موقوف؟ والصحيح: أنه موقوف على ابن عباس، لكن العلماء تلقوه بالقبول، قالوا: هذا قول صحابي، ولا يمكن أن يقوله برأيه، ولم يُعرف له مخالف، فكان ذلك مَحل اتفاق.
قال رحمه الله: (وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ مَنْ مَرَّ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعَمْرَةَ).
الذي يمر بالمواقيت لا يخلو من حالين، إمَّا أن يريد حجًّا أو عمرة، أو لا يريد حَجًّا أو عمرة، فمثلًا إنسان يريد أن يذهب إلى مكة للتجارة، أو يذهب للعلاج أو للدراسة أو لزيارة مريض أو لزيارة صديق وغير ذلك، فالحديث صحيح أن مَن مَرَّ على هذه المواقيت وهو لا يُريد حجًّا ولا عمرة أنَّه لا يلزمه؛ لأنه قال:"ممن أراد الحج والعمرة"، فمفهومه: أنَّ الذي لا يريد حجًّا ولا عمرة أنه لا شيء عليه، حتى وإن طال به الزمن، نفترض أن إنسانًا حَجَّ قبل عشرين عامًا، ثم مر بهذا الميقات أيضًا لا نقول: يجب عليه ما لم يُرد الحج والعمرة، فإن أرادهما وجب، لكن الأفضل له والأولى إن كان يريد دخول مكة ألا يدخلها وهو محرم، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه العمامة بغير إحرام
(2)
، إذًا هذا دليل على أنه لا يَلزم مَن دخل مكة مِمَّن لا يريد حجًّا ولا عمرة أن يكون مُحرمًا، وهذا أيضًا من التيسير.
(وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدْهُمَا وَمَرَّ بِهِمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: "كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِمَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ إِلَّا مَنْ يَكْثُرُ تَرْدَادَهُ، مِثْلَ الْحَطَّابِينَ وَشَبَهِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ").
مثل أصحاب السيارات التي ينقلون بها المسافرين، أو إنسان يتاجر
(1)
أخرجه مالك (240)، وضعف الألباني رفعَه، وصحح وقفَه في "الإرواء"(1100).
(2)
معني حديث أخرجه مسلم (1358)، عن جَابِرِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ -وَقَالَ قُتَيْبَةُ: دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ- وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ".
فيذهب ويعود، وهكذا، فهذا ليس عليه شيء، فيُستثنى من ذلك الذي يَكثر تردده على مكة وعلى الحرم.
* قال: (وَقَالَ قَوْمٌ: "لَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ بهَا إِلَّا لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ).
هذا هو رأي الجمهور
(1)
، ومعه الحنابلة وغيرهم.
(1)
عند الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 583)، حيث قال:"مَن دخل مكة بغير إحرام وجب عليه أحدُ النُّسكين، يعني: الحج أو العمرة؛ لأن دخوله مكة سبب لوجوب الإحرأم، فإذا وجد منه لَزِمه الإحرام بالحج أو العمرة، كمن نذر بالإحرام، فإنه يلزمه أن يُحرم بأحد النسكين، وفيه خلاف الشافعي بناءً على أن له أن يدخل مكة بغير إحرام إن لم يُرد أداء النسك، عنده وعندنا: ليس له ذلك".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 42)، حيث قال:"المارُّ بالميقات إذا كان مريدًا لدخول مكة، ولم يكن كعبد، ولا مِن المترددين، ولا ممن عاد لأمر، فإنه يَجب عليه الإحرام؛ سواء أراد دخولها لأحد النُّسكين أو لغير ذلك، فإن دخلها بغير إحرام، فقد أساء؛ أي: أَثِم، إِلَّا أنه لا دم عليه إن لم يقصد دخولها لأجل نُسك، وإنما دخلها لحاجة أُخرى، أو لأنها بلده، أو لغير ذلك، وظاهره: ولو أراد النسك بغير ذلك وأحرم من الطريق أو من مكة".
وعند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 277)، حيث قال:"مَن قصد مكة أو الحرم ولو مكيًّا أو عبدًا أو أنثى لم يَأذن لهما سيد أو زوج في دخول الحرم؛ إذ الحرمة من جهة لا تُنافي الندب من جهة أُخرى لا لنسك، بل لنحو زيارة أو تجارة استحب له أن يُحرم بحج إن كان في أشهره، ويُمكنه إدراكه أو عمرة، وإن لم يكن في أشهره؛ كتحية المسجد لداخله، ويكره تركه للخلاف في وجوبه".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 526)، حيث قال:"لا يَحل لمكلف حُر مسلم أراد مكة نصًّا، أو أراد الحرم، أو أراد نسكًا تجاوز ميقات بلا إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وَقَّت المواقيت ولم يُنقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه تجاوز ميقاتًا بلا إحرام، وعُلم منه: أنه يجوز الإحرام مِن أول الميقات وآخره، لكن أوله أولى إِلَّا إن تجاوزه لقتال مباح؛ لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر، ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه: أنه دخل مكة محرمًا ذلك اليوم، أو لخوف، أو حاجة تتكرر؛ كحطاب ونحوه؛ كناقل ميرة، وحشاش، فلهم الدخول بلا إحرام؛ لما روى حرب عن ابن عباس: "لا يدخل إنسان مكة إِلَّا محرمًا إِلَّا الحَمَّالين والحَطَّابين وأصحاب منافعها"، احتج به أحمد، وكَمَكِّي يَتردد لقريته بالحِل؛ دفعًا للمشقة والضَّرر؛ لتكرره".
* قال: (وَهَذَا كُلُّهُ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ مِنْهَا، أَوْ بِالعُمْرَةِ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحِلِّ وَلَا بُدَّ).
قال رحمه الله: أهل مكة يحرمون -كما أشرنا إلى هذا سابقًا- بالحج من مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا أمر أصحابه مَن أحرم بالحج أو بالحج والعمرة، أمرهم أن يحلوا منه، إِلَّا مَن ساق الهدي، وقال:"لو استقبلت من أمري ما استدبرتم لما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرة"
(1)
، ثم إنهم أحرموا من المكان الذي كانوا فيه، فمن يريد الحج يُحرم من مكة، ومن يريد العمرة يَخرج خارج مكة إلى الحِلِّ ويُحرم.
* قال: (وَأَمَّا مَتَى يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقِيلَ: إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ)
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (1905)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1577).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية" للعيني (4/ 313)، حيث قال:"يُحرم بالحج يوم التروية، كما يحرم أهل مكة على ما بَيَّنَّا. وإن قدم الإحرام قبله جاز، وما عجل المتمتع من الإحرام بالحج فهو أفضل، لما فيه من المسارعة وزيادة المشقة، وهذه الأفضلية في حق مَن ساق الهدي، وفي حق مَن لم يسق، وعليه دم، وهو دم المتمتع".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 20)، حيث قال:"ما قاله مالك في "المدونة". مالك: وأحب إليَّ أن يُحرم أهل مكة إذا أَهَلَّ هلال ذي الحجة. قال سند: هذا يختلف فيه. فعند مالك: يُحرم أهل مكة ومَن كان بها إذا أَهَل ذو الحجة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 425)، حيث قال:"المكي يستحب له أن يحرم يوم التروية".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 386)، حيث قال:"يستحب لمتمتع حَل من عمرته ولغيره من المحلين بمكة: الإحرام بالحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، إِلَّا لمن لم يجد هديًا تَمَتِّع، فيحرم بيوم السابع؛ ليكون آخر تلك الثلاثة يوم عرفة".
لكن لو أحرم الذي يريد العمرة من مكة ففيه خلاف عند العلماء، فمثلًا إنسان أحرم بالعمرة من مكة وأَتَمَّ عمرته بمكة، فالرأي المشهور عند جماهير العلماء: أن عليه دمًا؛ لأنه خالف. وهناك قول ليس بقوي أنَّه ليس عليه شيء
(1)
.
(وَقِيلَ: إِذَا خَرَجَ النَّاسُ إِلَى مِنًى).
كذلك -أيضًا- اختلفوا في الذي يَخرج في الحج ويُحرم من خارج الحرم
(2)
، ثم يدخل مكة، قالوا: إن مَرَّ بمكة يعني بعد إحرامه فلا شيء
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"(2/ 74)، حيث قال:"لو أحرم المكي للعمرة من الحرم يَجب عليه دم".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 26)، حيث قال: "إذا أحرم بالحج مِن خارج الحرم مكيٌّ أو متمتع فلا دم عليه في تركه الإحرام مِن داخل الحرم، فإن مضى إلى عرفات بعد إحرامه من الحرم -ولم يدخل الحرم وهو مراهق- فلا دم عليه.
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 463)، حيث قال: "المكي إذا أحرم مِن سائر بقاع مكة، بل ألزموه الدم، وجعلوه مسيئا كالآفاقي؛ لأن ما خرج عن مكة مما ذكر تابع لها، والتابع لا يعطى حكم المتبوع مِن كل وجه، ولأنهم عملوا بمقتضى الدليل في الموضعين، فهنا لا يَلزم دم؛ لعدم إساءته بعدم عوده؛ لأنه من الحاضرين بمقتضى الآية.
وهناك يلزمه دم لإساءته بمجاوزته ما عين له بقوله في الخبر: "ومَن كان دون ذلك فَمِن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة".
وعند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 532)، حيث قال:"المتعة تَصح من المكي كغيره، ورواية المروزي: ليس لأهل مكة مُتعة؛ أي: ليس عليهم دم".
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 538)، حيث قال:"الأفضل: أن يُحرم من المسجد، ويجوز مِن جميع الحرم، ومن مكة أفضل من خارجها، ويصح ولو خارج الحرم، ولكن يجب كونه فيه، إِلَّا إذا خرج إلى الحِل لحاجة، فأحرم منه لا شيء عليه، بخلاف ما لو خرج لقصد الإحرام".
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 170)، حيث قال: "إن لم يُحرم من الميقات المكاني مثل أن يُقيم بمكة حتى يَحج منها، فعليه الدم، وكذلك =
عليه، يعني: نفرض أن إنسانًا أراد أن يُحرم بالحج، وخرج إلى الجعرانة، فإن مَرَّ بالحرم فلا شيء عليه؛ لأنه سيجمع بين الحَرَم والحِلِّ، وإن لم يَمر فلا، وهذا يُتصور فيمن يذهب مباشرة إلى عرفات، أما مَن يَذهب إلى منى، فإنَّه بلا شك سيكون في الحَرَم؛ لأن منى من الحَرم.
* قال: (فَهَذَا هُوَ مِيقَاتُ الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطُ لِأَنْوَاعِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ).
إذًا، عرفنا الآن المواقيت المكانية، وبقيت المواقيت الزمنية.
[الْقَوْلُ فِي مِيقَاتِ الزَّمَانِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا مِيقَاتُ الزَّمَانِ: فَهُوَ مَحْدُودٌ
= لو مَرَّ على الميقات الذي أحرم منه أولًا، فتعداه، فعليه دم".
وعند الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 44)، حيث قال:"مَن مَرَّ بالميقات فأحرم بالعمرة، ثم بعد مجاوزته أحرم بالحج، فإن كان مريدًا لهما على وجه القران ابتداء -وكان ذلك في أشهر الحج- وَجَبَ الدم للإساءة، فيجب عليه العودُ فورًا؛ لسقوط دمها، لا لسقوط دم القِران، فإن لم يَعد إِلَّا بعد دخول مكة وقبل النسك سَقَطَا، فإن لم يَعد حتى تلبس بنسك غير عرفة سَقَطَ دم القران فقط، ولو جاوز الميقات مريدًا حَجَّ السنة الثانية، وأقام بمكة وأحرم منها فيها وجب الدم، بخلاف ما لو أحرم في الأولى بحج في وقته أو بعمرة في ميقاته بعدها مكة، ولو أراد الحج في الأُولى فحج الثانية فلا دم، ولو أراد حج الأُولى -ومَرَّ بالميقات في أشهره فأحرم بعمرة- وجب الدم إن لم يَعد في إحرام الحج للميقات، أو أراد العمرة فأحرم بحج وجب في إحرام العمرة بعد ذلك الحج الميقات، فإن أحرم بها مِن أدنى الحل لَزِمه الدم".
وعند الحنابلة، يُنظر:"منتهى الإرادات" لابن النجار (2/ 155)، حيث قال:"يُسن لمحل بمكة وبقربها ولمتمتع: حل إحرام بحج في ثامن ذي الحجة، وهو يوم التروية، إِلَّا مَن لم يجد هديًا وصام في سابعه بعد فعل ما يفعله في إحرامه من الميقات وطواف وصلاة ركعتين، ولا يطوف بعده لوداعه، والأفضل من تحت الميزاب، وجاز وصح من خارج الحرم، ثم يخرج إلى منى قبل الزوال، فيصلي بها الظهر مع الإمام، ثم إلى الفجر، فإذا طلعت الشمس سار من منى".
-أَيْضًا- فِي أَنْوَاعِ الْحَجِّ الثَّلَاثِ، وَهُوَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَتِسْعٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِاتِّفَاقٍ).
هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء
(1)
، والخلاف يدور حول قول اللَّه سبحانه وتعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، والقول المشهورفي لغة العرب: أنَّ الجمع أقله ثلاثة، هذا هو القول المشهور
(2)
، وهنالك قول بأن أقل الجمع اثنان
(3)
، إذًا المسألة فيها خلاف؛ فمنهم مَن يقول: أشهر الحج: هي شَوَّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. ومنهم مَن يقول؛ وتسع مِن ذي الحجة. ومنهم من يقول: الأشهر الثلاثة كلها أشهر الحج. فمن يقول: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة هم الشافعية. ومَن يقول: وعشر من ذي الحجة هم الحنفية والحنابلة. ومَن يقول: شوال وذو القعدة وذو الحجة هم المالكية.
وفي نظري أن رأي المالكية هو الأقوى في ذلك، ولا يلزم أن يُورد على هذا اعتراض، فيقال: إن بقية الأيام لا تُؤدى فيها المناسك، فنقول شوال -أيضًا- لا يؤدى فيه ولا شيء من ذي القعدة، لكن اللَّه تعالى قال:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ما قال: في أشهر؛ لأن هناك فرقًا بين أن يقال: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، أو فى أشهر معلومات، فلما يقال: في أشهر يكون الشهر إنَّما هو ظرف، والظرف واسع، فأنت تؤدي في هذا الشهر، فيكون الأداء إنَّما هو في بعضه، فيترجح قول الذين يقولون: تسع أو عشر.
(1)
تقدَّم الكلام على هذا.
(2)
يُنظر: "أوضح المسألك إلى ألفية ابن مالك" لابن هشام (1/ 35)، حيث قال:"وبما هو مشهور من أنَّ أقل الجمع ثلاثة".
(3)
يُنظر: "شرح كتاب سيبويه" للسيرافي (4/ 231)، حيث قال:"والاثنان أقل الجمع، والذي يلي الاثنين ثلاثة يقال فيهم: (مسلمون)، وقد وافق (مسلمون): (مسلمين) بسلامة لفظ الواحد، فلما كان ثلاثة وأربعة، وما قرب من هذه الأعداد القليلة أقرب إلى الاثنين مما كثر وبعد عن الاثنين صار الواو والنون هو الأصل في الجمع القليل، ولهذا قال سيبويه: "وإنما صارت الياء والواو والنون لتثليث أقل العدد إلى تعشيره".
أمَّا قول المالكية فهو أرجح، فهم أقرب لآية:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، ثم أيضًا مما يقوي مذهب المالكية، ويُرد به على الشافعية: أن اللَّه سبحانه وتعالى قال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، ويوم الحج الأكبر هو يوم النحر، فاللَّه سَمَّاه يوم الحج الأكبر فكيف نقول: إن أيام الحج وأشهره (شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة).
وحجة الشافعية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصَّحيح: "الحج عرفة"
(1)
.
وأيضًا مما يُضعف مذهب الحنفية والحنابلة: أنه في اليوم الحادي عشر، وفي اليوم الثاني عشر رمي الجمرات، والمبيت -أيضًا- بمنى، وهذه من الواجبات، بل إن الحنفية والحنابلة يرون وجوب رمي الجمار في تلك الأيام، والحنابلة يرون وجوب المبيت -أيضًا- بمنى، إذًا بذلك يترك بعض واجبات الحج.
* قال: (وَقَالَ مَالِكٌ: "الثَّلاثَةُ الْأَشْهُرِ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِلْحَجِّ").
للإنسان أن يُؤخر طواف الإفاضة
(2)
، والأفضل للمسلم أن يَطوف يوم
(1)
أخرجه الترمذي (2975)، وقال:"حسن صحيح"، وصححه الألباني في "الإرواء"(1064).
(2)
عند الحنفية: هذا الطواف هو المفروض في الحج، وهو ركن فيه؛ إذ هو المأمور به في قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، ويُسمَّى طواف الإفاضة وطواف يوم النحر، ويكره تأخيره عن هذه الأيام؛ لما بَيَّنَّا أنه موقت بها، وإن أَخَّره عنها لَزِمه دم، عند أبي حنيفة رحمه الله. انظر:"الهداية"(1/ 146).
وعند المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (83)، حيث قال:"وأما الوقوف وطواف الإفاضة فأجمع العلماء علىِ رُكنيتهما، نَصَّ على الإجماع على ركنية الوقوف أبو عمر وغيره، ونقله القباب، ونَصَّ على الإجماع على ركنية طواف الإفاضة في "الإكمال".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 490)، حيث قال: " (ويُسمَّى الزيارة والرُّكن)؛ أي: طواف الزيارة والركن والفرض والصَّدر -بفتح الدال =
النَّحر، يعني الذي نَعرفه بيوم العيد، وهو اليوم العاشر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رَتَّب تلك الأمور؛ فلما جاء إلى منى رمى جمرة العقبة، ثم إنَّه صلى الله عليه وسلم نحر هديه، ثم بعد ذلك ذهب وطاف بالبيت وحَلق، إذًا هناك ترتيب، لكن لو غَيَّرت أو بَدَّلت فهذا لا يُحرج؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"افعل ولا حرج"
(1)
، إذًا، الأفضل أن يُطاف طواف الإفاضة يوم العاشر، فلو أَجَّلته إلى اليوم الحادي عشر والثاني عشر أو الثالث عشر، أو حتى إلى ما بَعد ذلك، فجمعت بينه وبين طواف الإفاضة لكان ذلك جائزًا، إذًا الطواف يُؤخر إلى آخر الشهر، وربما يُؤخر إلى ما بعده للضرورة، يعني: نفرض -مثلًا- أنَّ امرأة ولدت في تلك الفترة، والرأي المشهور أنَّ مدة النفاس أربعون يومًا
(2)
، فهذه المدة ستستغرق بقية شهر ذي الحجة وتطول أيضًا، فتأخذ جزءًا من المحرم، ففي هذه الحالة كذلك ربما يُؤخر الإنسان بعض الواجبات؛ كالحلق، ولنفرض أن إنسانًا أصيب بشجة في رأسه، أو أُصيب
= - كما قاله في "المجموع"، وذكر الأصل بعد هذا بقليل نحوه، لكنه قال: وقد يُسمَّى طواف الصدر، والأشهر: أن طواف الصَّدر طواف الوداع. وسُمِّي طواف الإفاضة، لإتيانهم به عقب الإفاضة مِن منى. والزيارة؛ لأنهم يأتون من منى زائرين البيت، ويعودون في الحال. والركن والفرض؛ لتعينه. والصدر؛ لأنهم يصدرون له من منى إلى مكة. والأفضل: أن يطوفوا يوم النحر، وأن يكون ضحوة".
وعند الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 430)، حيث قال:"الطواف المشروع في حج ثلاثة: طواف زيارة وهو: ركن، ويُسمَّى طواف الإفاضة، والقدوم، وطواف قدوم، وهو: سنة، وتقدم أيضًا، وطواف وداع وهو واجب على كل خارج من مكة من حاج وغيره، ويُسَمَّى طواف الصدر".
(1)
هو جزء من حديث جابر في الحج، تقدم تخريجه.
(2)
عند الحنفية، يُنظر:"العناية" للبابرتي (1/ 189)، حيث قال:"أكثر مدة النفاس: أربعون يومًا".
وعند المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 174)، حيث قال:"مدة النفاس إذا استمر الدم نازلًا عليها".
وعند الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 114)، حيث قال:"أكثره: ستون يومًا".
وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 72)، حيث قال:"أكثر مدة النفاس: أربعون يومًا".
بمرض فيه فلا يستطيع أن يحلقه أو أن يقصره له، فله أن يؤجل ذلك؛ فشريعتنا مبنيَّة على السماحة والشمول واليسر ورَفع الحرج.
* قال: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "الشَّهْرَانِ وَتِسْعَةٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ".
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "عَشَرٌ فَقَطْ").
ومع أبي حنيفة أيضًا أحمد.
(ودَلِيلُ قَوْلِ مَالِكٍ: عُمُومُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]).
وحقيقة ظاهر الآية يشهد لمذهب المالكية.
(فَوَجَبَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى جَمِيعِ أَيَّامِ ذِي الْحِجَّةِ، أَصْلُهُ: انْطِلَاقُهُ عَلَى جَمِيعِ أَيَّامِ شَوَّالٍ وَذِي الْقِعْدَةِ).
أصله: إطلاقه على جميع شهر شوال وجميع شهر ذي القعدة.
وكلام المؤلف جميع هنا؛ لماذا؟ لأن اللَّه تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، لماذا قلتم: إن الشهر يستغرق جميع شهر شوال وجميع شهر ذي القعدة، وفي ذي الحجة قلتم: تسعًا وعشرًا؟ هذا اعترإض وجيه وفي محله، وهذا كلام صحيح، وهم -أيضًا- يقولون: تسعة، وبقي أحد أركان الحج الذي هو يوم النحر، الذي فيه طواف الإفاضة، وهناك على قول الحنفية والحنابلة بقيت -أيضًا- بعض واجبات الحج. إذًا رأي المالكية لا شَكَّ أنه في نظره الأسلم في هذا.
* قال: (وَدَلِيلُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: انْقِضَاءُ الْإِحْرَامِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِانْقِضَاءِ أَفْعَالِهِ الْوَاجِبَةِ).
يعني: يعللون فيقولون: نحن ننتهي في اليوم الثانِي عشر، كما قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، الغاية: أننا نصل إلى الثالث عشر، وقد بقي بعد ذلك سبعة عشر يومًا على أن الشهر تام، أو ستة عشر يومًا على أن الشهر ناقص، ورد عليهم المؤلف فقال: لماذا حسبتم جميع شهر شوال وذي القعدة مع أنه لا يؤدى فيها شيء أصلًا من المناسك.
* قال: (وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: تَأَخُّرُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ).
ثمرة الخلاف: تأخر طواف الإفاضة
(1)
إلى آخر الحج، فلك أن تُؤخره، لكنه خلاف الأَوْلَى، وكما قلنا: قد يطرأ شيء، كالحيض أو النفاس للمرأة.
(وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَرِهَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَلَكِنْ صَحَّ إِحْرَامُهُ عِنْدَه.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 146)، حيث قال:"يكره تأخيره عن هذه الأيام؛ لما بَيَّنَّا أنه موقت بها، وإن أخَّره عنها لَزِمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 129)، حيث قال:"ينبغي أن لا يُؤخر طواف الإفاضة بعد الحلق، إِلَّا بقدر ما يَقضي حوائجه التي لا بدَّ منها. انتهى".
ومذهب الشافعي، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (3/ 549)، حيث قال:"طواف الوداع لا يدخل تحت طواف آخر، حتى لو أَخَّر طواف الإفاضة وفعله بعد أيام منًى وأراد السفر عقبه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 528)، حيث قال:"من أحصر عن طواف الإفاضة، وقد رمى وحلق لم يَتحلل حتى يطوف".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 18)، حيث قال:"وكره الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني، كما يكره الإحرام؛ سواء كان بحج أو عمرة أو بهما قبل ميقاته المكاني، وتردد المتأخِّرون من الشيوخ في رابغ: هل هو متقدم على الميقات، فيكره الإحرام منه، أو هو أول الميقات فلا يُكره، بل يكون هو المطلوب، ثم إنَّ الإحرام يصح وينعقد في الصورتين المذكورتين، وإن كان مكروهًا - أعني: فيما إذا أحرم بالحج قبل أشهره، وفيما إذا أحرم قبل الميقات المكاني. هذا معنى كلامه".
وَقَالَ غَيْرُهُ: "لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ"، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:"يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ إِحْرَامُ عُمْرَةٍ". فَمَنْ شَبَّهَهُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ قَالَ: لَا يَقَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عُمُومَ قَوْلِهِ -تَعَالَى-:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، قَالَ: مَتَى أَحْرَمَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِتْمَامِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا الْحَجَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالْعُمْرَةِ، وَشَبَّهُوا مِيقَاتَ الزَّمَان بِمِيقَاتِ الْعُمْرَةِ. فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَزَمَ عِبَادَةً فِي وَقْتِ نَظِيرَتِهَا انْقَلَبَتْ إِلَى النَّظِيرِ، مِثْلُ أَنْ يَصُومَ نَذْرًا فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْأَصْلُ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا فِي كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُصْنَعُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ فِى كُلِّ السَّنَةِ إِلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهَا تُكْرَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْرِيرِهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا، فَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ عُمْرَةً فِي كُلِّ سَنَّةٍ، وَيَكْرَهُ وُقُوعَ عُمْرَتَيْنِ عِنْدَهُ وَثَلَاثًا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ:"لَا كَرَاهِيَةَ فِي ذَلِكَ" فَهَذَا الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْإِحْرَامِ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ، وَيَنْبَغِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْقَوْلِ فِي الْإِحْرَامِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ فِي تُرُوكِهِ، ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْخَاصَّةِ بِالْمُحْرِمِ إِلَى حِينِ إِحْلَالِهِ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَتُرُوكُهُ، ثُمَّ نَقُولُ فِي أَحْكَامِ الْإِخْلَالِ بِالتُّرُوكِ وَالْأَفْعَالِ، وَلْنَبْدَأْ بِالتُّرُوكِ).
هذا هو رأي الجمهور، يعني: أن الإنسان إن أحرم قبل أشهر الحج
(1)
(1)
أجمع العلماء على أنَّ الإحرام قبل أشهر الحج مكروه، لا لأنه قبل وقت الفعل، لكن لاحتمال أن يلحقه حرج عظيم في الامتناع عن محظورات الحج.
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 7)، حيث قال:"وصَحَّ تقديمه عليها لا عكسه"؛ أي: جاز تقديم الإحرام على هذه المواقيت، بل هو الأفضل، =
فعليه أن يجعلها عمرة، وإنما الإحرام بالحج ينبغي أن يكون في أشهر الحج، وأيضًا ينبغي للمسلم حقيقة: أنه إذا أحرم بالحج، فله أن يحل من إحرامه ويجعلها عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر اقتداءً بما أرشد إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبما تمنى، والإنسان -كما قلنا- قد تعب وطوى المسافات، وجاء إلى هذه البلاد بقصد أداء هذه الفريضة، فليحاول قدر الإمكان أن يتجنب كُلَّ المواضع التي قد تقدح في حجه، أو تنقصه من أي طريق كان، إِلَّا أن يكون معذورًا، فلا يكلف اللَّه نفسًا إِلَّا وسعها.
[مَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِلْحَلَالِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْقَوْلُ فِي التُّرُوكِ
وَهُوَ مَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِلْحَلَالِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ).
= ولا يجوز عكسه، وهو تأخيره عن هذه المواقيت على ما يَجيء في موضعه إن شاء اللَّه تعالى، وإنما كان التقديم أفضل؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وفسرت الصحابة الإتمام بأن يُحرم بهما من دويرة أهله، وكانوا يَستحبون أن يُحرم بهما من دويرة أهله، ومن الأماكن القاصية".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 405)، حيث قال:" (و) يُكره أن يُحرم (بالحج قبل أشهره)؛ لقول ابن عباس: "من السنة: أن لا يُحرم بالحج إِلَّا في أشهر الحج"، رواه البخاري؛ ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها، فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكاني، (فإن فعل) بأن أحرم قبل الميقات المكاني أو الزماني (فهو مُحرم)، حكى ابن المنذر الصحة في تقدمه على ميقات المكان إجماعًا؛ لأنه فعل جماعة من الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد منهم: إنَّه لا يصح، ويدل لصحة إحرامه بالحج قبل أشهره: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وكلها مواقيت للناس، فكذا للحج".
المراد بالتروك: هي الأشياء التي يجب على المحرم أن يتركها ويتجنَّبها، لذلك يحرم عليه أن يفعلها، وإن كانت قبل تلبسهِ بالإحرام حلال في حقه.
هذا ما يعرف عند الفقهاء بمحظورات الإحرام، أي: الأُمور التي يجب على المسلم أن يجتنبها في إحرامه بحج، أو عمرة، وسواء كان الحج فرضًا، أو تطوعًا، وسواء كانت العمرة واجبةً، أو غير واجبةٍ.
تلك الأُمور التي سيرد بعضها في هذا الحديث، وهو حديث -مالك عن نافع عن ابن عمر-
(1)
فمن الأُمور التي ينبغي أن يتجنبها المسلم في إحرامه على سبيل الإجمال ثم ندخل فيها تفصيلًا:
منها: ألا يغطي رأسه؛ فلا يجوز للمسلم بعد أن يتلبس بالنسك أنْ يغطي رأسه.
ومنها: ألا يلبس مخيطًا سواء كان ثوبًا، أو سروالًا، أو عباءة، أو غير ذلك.
ومنها: ليس له أن يحلق أي شعرٍ من بدنه، كما أنه لا يجوز له أن يأخذ من أظفاره شيئًا بعد أن يحرم.
ومنها: لا يجوز له أن يتطيب بعد الإحرام.
ومنها: لا يجوز له أن يَنكِح لنفسه، ولا لغيره؛ أي: يعقد النكاح لنفسه، ولا أن يعقد لغيره.
ومنها: لا يجوز له أنْ يُجامع أهله، ولا أن يباشر النساء المباشرات الممنوعة.
(1)
أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (2761)، عن مالك، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إِلَّا أحد لا يجد نعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران، أو ورس".
ومنها أيضًا: لا يجوز له أن يصيد وهو محرم.
هذه هي محظورات الإحرام التسعة التي يجب على المسلم أن يتجنبها، وذلك ما ورد في الحديث الآتي الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما
(1)
كما أخرجه غيرهما
(2)
.
* قوله: ("أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟).
سأل رجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟
هذا يدل ابتداءً على أنه ينبغي للمسلم ألَّا يُقدم على أيِّ عمل من أعمال العبادة؛ إِلَّا بعد أن يعرف حكم اللَّه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فالذي يريد الحج، أو العمرة لا ينبغي أن يسلك ذلك الطريق عن جهل، وإنما ينبغي أن يعرف تلكم الأحكام جملة لا تفصيلًا؛ لأنَّ تفصيل جزئياتها ومسائلها من اختصاص العلماء، لكن ينبغي أن يعرف تلكم الأُمور الضرورية التي يحتاج إليها في حجه وفي عمرته، فهذا السائل أراد أن يعرف ما يبلس المحرم من الثياب فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يلبس القمص، ولا العمائم، والسراويلات؛ ثم قال ابن عمر رضي الله عنهما: ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس ثوبًا مسه زعفران، ولا الورْس" فورد في هذا الحديث ثلاثة من محظورات الإحرام، وهي تفيد جملة الأُمور التي ينبغي للمسلم حاجًا، أو معتمرًا ألا يلبسها أو شيئًا منها.
* قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَاف).
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أول نوع من المحظورات فقال:
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (1823)، والترمذي (833)، وغيرهما.
"لا تلبسوا القُمُص" والقمص: جمع قميص، وهو يجمع على قُمُص، وعلى قمصان.
والقميص: هو الثياب التي تُلبس وتَستر جميع البدن، وهو يختلف في أشكاله وألوانه على حسب العادات والبلدان، ويطلق عليه الجلباب أيضًا. وسواء كان ثوبًا، أو سروالًا، أو عباءة، أو غير ذلك، مما يحيط ببدنه أو ببعضه؛ فإنه يؤثر في إحرامه.
أما لو وضع الثوب المخيط على جسده كالعباءة فهذا لا يضر، بخلاف لو لبسه على جسده ففيه الحرمة.
(والعمامة): وهي التي توضع على الرأس والقصد منها هنا: ما يغطى به الرأس؛ أي: لا يضع محرم شيئًا ملاصقًا على رأسه سواء كانت عمامة، أو الطاقية المعروفة، أو هذه الغترة، سواء كانت بيضاء، أو حمراء، وأيضًا الطربوش، أو غير ذلك، مما يضعه الإنسان على رأسه حتى ولو وضع رداءً، أو أخذ ما يحرم وغطَّى به رأسه؛ فهذا لا يجوز.
وكذلك (السراويل): سواء كان طويلًا: وهو الذي يأتي من السرة وينزل إلى ما فوق الكعبين، أو ما يكون دون ذلك إلى نصف الفخذين، أو أكثر من ذلك. هذه أيضًا لا تجوز لأنها نوع من اللباس.
"البرانس"
(1)
: وهي ثياب واسعة فيها شيء يغطي الرأس متصلًا بها هي أشبه ما تكون بالثياب التي يلبسها المغاربة، وهي ثياب واسعة فضفاضة في أعلاها، يتدلى شيء متصلا بها من الممكن أن تغطي به الرأس، هذه أيضًا نوع من الثياب ويدخل في ذلك العباءة، وغير ذلك.
(1)
البرنس: هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به، من دراعة، أو جبة، أو ممطر، أو غيره.
وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البِرس -بكسر الباء- القطن، والنون زائدة. وقيل: إنه غير عربي. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 908)، "تهذيب اللغة" للأزهري (13/ 107)، "النهاية" لابن الأثير (1/ 122).
كذلك "الخفاف"
(1)
التي تغطي الكعبين؛ إِلَّا أن لا يجد الإنسان نعلين فإنه يلبسهما ويقطعهما أسفل من الكعبين.
* قوله: (إِلَّا أَحَد لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)
سيأتي الخلاف في هذه المسألة؛ وذلك لأنَّ حديث عبد اللَّه بن عباس -المتفق عليه-
(2)
قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في عرفات دلّ على أنها لا تُقطع، وأنه عند فقد النعلين يلبس الإنسان الخفين؛ بدلًا عنهما.
* قوله: ("وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ").
وكذلك من المحظور على المحرم "أن يبلس المحرم من الثياب شيئًا مسه زعفران أو ورس" وهذه أنواع من الطيب.
وقد ورد في معجم المعاني الجامع أنَّ الورس: نبت من الفصيلة القرنية ينبت في بلاد العرب، والحبشة، والهند، كما يوجد عليه زغب قليل، يستعمل لتلوين الملابس الحريرية؛ لاحتوائه على مادةٍ حمراء.
فلا ينبغي للمسلم أن يتطيب، ولا أن يلبس شيء فيه طيب.
وسنأتي إلى تفصيل هذه الأُمور إن شاء اللَّه عندما يدخل المؤلف في بيانها.
(1)
السراويل: معروف، يذكَّر ويؤنَّث، والجمع السراويلات.
قال سيبويه: سراويل واحدة، وهي أعجمية أعربت فأشبهت من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهى مصروفة في النكرة.
انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1729)، "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 271)، لسان العرب (11/ 334).
(2)
أخرجه البخاري (1841)، ومسلم (2764)، عن جابر بن زيد، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: "من لم يجد النعلين، فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا، فليلبس سراويل للمحرم".
* قوله: (فَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى بَعْضِ الأَحْكَامِ الوَارِدَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، واخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لا يَلْبَسُ المُحْرِمُ قَمِيصًا، وَلا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ).
اتفق العلماء على أكثر ما ورد في الحديث
(1)
؛ لكنهم اختلفوا في الخف إذا لم يجد نعليه يلبس بدلًا منهما الخف.
ولكن هل يقطع الخف أم لا يقطع؟ هذا مما اختلفوا فيه
(2)
.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 65)، قال:(وأجمعوا على أنَّ المُحرم ممنوع من: لبس القميص، والعمامة، والسراويل، والخفاف، والبرانس،. . . وقال: وأجمعوا على أنَّ المُحرم ممنوع من تخمر رأسه. . .، وقال: وأجمعوا على أنَّ المُحرم ممنوع من لبس زعفران أو ورس).
(2)
مذهب الأحناف، ينظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 348)، قال:(محظورات. أي: ممنوعات الإحرام،. . .، والخفين، إلا أن لا تجد النعلين، فاقطعهما أسفل من الكعبين).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للردير (2/ 56)، قال:(وجاز لمحرم خف)؛ أي: لبسه ومثله جرموق وجورب (قطع أسفل من كعب) كان القاطع له هو أو غيره، أو كان من أصل صنعته كالبابوج (لفقد نعل، أو غلوه) غلوًّا (فاحشًا) بأنْ زاد ثمنه على الثلث. . .).
ومذهب الشافعية، ينظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 294)، قال: (ولبس مداسٍ -أي: مكعب. . .، الذي لا يستر الكعبين، وكذا لبس خف، إن قطع أسفل كعبه، وإن ستر ظهر القدمين فيهما بباقيهما عند فقد النعلين. . .، ثم قال:
…
، الفرق بينه وبين وجوب قطع الخف عند فقد النعل مشكل، لكنْ ورد النص بذلك. نعم يتجه عدم جواز قطع الخف إذا وجد المكعب، ولا يجوز لبس الخف المقطوع والمداس مع وجود النعلين على الصحيح المنصوص، أما المداس المعروف الآن، فهذا يجوز لبسه لأنه ليس محيطًا بالقدم).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 539 - 540)، قال:(ويحرم قطعهما)، ولم يذكرها إلا شعبة، وتابعه ابن عيينةعن عمرو، ولمسلم عن جابر مرفوعًا مثله وليس فيه "يخطب بعرفات" ولم يذكر في الحديثين قطع الخفين.
قال علي: قطع الخفين فساد؛ ولأنَّ قطعهما لا يخرجهما عن حالة الحظر، إذ لبس المقطوع، كلبس الصحيح مع القدرة، وفيه إتلاف مالية الخف. . .).
فليس للمسلم كما قلنا أن يلبس ثوبًا مثل لبسنا الآن، ولا أن يبلس الفنيلة سواء كانت تحت الثياب، اي ما يلاصق البدن، أو التي تأتي فوق الثياب، كذلك أيضًا على أي شكل كانت، فليس للمسلم أن يفعل ذلك.
وليس المراد كما يظن بعض الناس أنه لو وجد إحرامًا أي: رداءه، أو إزاره ووجده مخيطًا يظن أن هذا لا يجزؤ، بل يجزؤ؛ لأنه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم نصًّا بعدم لبس المخيط؛ إنما الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم عدم لبس القمص.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على ذلك، والذين ذكروا المخيط هم بعض الفقهاء، ولذلك قال بعضهم
(1)
: (محيطًا بدل مخيطًا)، يعني: لا يلبس الإنسان ما هو مخيط على جميع بدنه كالثياب التي تبدأ من أعلى الكتفين، وتنزل إلى ما فوق الكعبين، ولا يلبس الفنيلة، ولا ما أشبهها، ولا يلبس السراويل، ومثله البنطلون، وغير ذلك.
وعلى ذلك كل لبسٍ خيط على البدن كاملة، أو على بعضه؛ فإنه لا يجوز للمحرِم أن يلبسَه، ولا يدخل ما قلنا فيما يحتاج إليه الإنسان ضرورة مع أنها تلبس وذاك (كالنظارة) فلا تضر (والسماعة) يضعها في أذنه كذلك لا تضر، (والساعة) يلبسها في يده لا تضر، وكل هذا لا يُسمَّى لباسًا، وكذلك (الحقيبة) يعلقها على بدنه هذا لا يضر أيضًا، أو القمر (الحزام) الذي يلف على بدنه ليضع فيه نقوده وحاجاته كل ذلك لا يضر، وكذالك لو ربط الرداء لا يضر؛ لكن لا يجوز له أن يأخذ ثوبًا فيلبسه أو سروالًا فيلبسه.
* قوله: (وَلَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ، وَأَنَّ هَذَا
(1)
انظر: "مختصر خليل" لخليل بن إسحاق (ص: 72)، قال: محظورات الإحرام: حرم بالإحرام. . .، على الرجل محيط بعضو. وانظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 141).
مَخْصُوصٌ بِالرِّجَالِ -أَعْنِي: تَحْرِيمَ لُبْسِ الْمَخِيطِ-، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ بِلُبْسِ الْقَمِيصِ وَالدِّرْعِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخِفَافِ وَالْخُمُرِ).
ذهب المؤلف إلى ما ذهب إليه كافة
(1)
العلماء: وهو أن النساء يختلفن عن الرجال في أُمور، ويوافقنهن في أُمور، فليس للمرأة مثلًا أن تأخذ شيئًا من شعرها، ولا أن تقلم أظفارها، ولا أن تتطيب؛ لكن لها أن تلبس ما شاءت من الثياب؛ فتلبس الدرع، والقميص، وتلبس السروال، وتغطي رأسها، فهذا أمر مطلوب، وليس فيه شيء؛ لكنَّ الأولى بالمرأة ألا تغطي وجهها؛ إِلَّا إذا رأت الأجانب كما كانت تفعل السيدة عائشة
(2)
رضي الله عنها وكذلك لا تنتقب؛ أي: لا تلبس النقاب الذي يوضع على الوجه، ولا البرقع "الجوانتي" هذا ما نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وجائز لها لبس القميص والدرع؛ وإنما هما نوع من الثياب؛ ولكنهما يخاطا على شكل معين، وألبسة النساء تختلف من نوع إلى نوع، ومن مكانٍ إلى مكان.
كذلك لها أيضًا أن تلبس السراويل، والخفاف، والخمُر جمع خمار: وهو ما تُخّمر به المرأة رأسها أي: تغطيها، أمَّا الرجل فلا يجوز له أن يغطِّي رأسه، ولا أن يلبس السراويل، والقميص، والدرع، والخفاف كما سبق.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 65)، قال:(وأجمعوا على أنَّ للمرأة الْمُحرمة لبس القميص، والدروع، والسراويل، والْخُمُر، والخفاف. . .، وقال: وأجمعوا على أنَّ المرأة ممنوعةٌ مما مُنع منه الرجال في حال الإحرام إلا بعض اللباس).
(2)
أخرجه أبو داود (1833)، قال: عن عائشة، قالت:"كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه". قال الألباني: إسناده ضعيف. انظر: "ضعيف أبي داود"(317).
(3)
أخرجه البخاري (1838)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: قام رجل فقال: يا رسول اللَّه، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تلبسوا القميص. . .، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين".
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يجِدْ غَيْرَ السَّرَاوِيلِ هَلْ لَهُ لِبَاسُهَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لَهُ لِبَاسُ السَّرَاوِيلِ وَإِنْ لَبِسَهَا افْتَدَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا).
أي: لو أنَّ إنسانًا لم يجد ما يلبسه غير السراويل، هل له لباسها أم لا؟
ذهب مالك
(1)
، وأبو حنيفة
(2)
إلى: عدم جواز ذلك، وإن لبس السراويل افتدى.
بينما ذهب الشافعي
(3)
ومن معه
(4)
إلى: أنَّ له أن يلبس السراويل إذا لم يجد إزارًا، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، "ومن لم يجد قميصًا يلبس السراويل، وإذا لم يجد نعلًا يلبس الخف".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 56)، قال:(قوله: وفي كراهة السراويل روايتان)، يعني: أنَّ المحرم هل يكره له أن يرتدي السراويل لقبح الزي، كما يكره لغير المحرم لبس السراويل مع الرداء، أو لا يكره له ذلك بل هو مباح، روايتان عن الإمام مالك، وأما لبس السراويل للمحرم فلا يجوز، ولو لم يجد إزارًا على المعتمد، ففي كلام المصنف حذف مضاف؛ أي: وفي كره ارتداء السراويل للمحرم وغيره وإن ساقه المصنف في المحرم - وعدم الكراهة روايتان، وبحث فيه ابن غازي بأنَّ كلام المصنف في المناسك ونحوه للباجي يفيد: أنَّ الجواز قول لغير الإمام لا رواية عنه فانظره).
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 8)، قال:(قال في المجمع: ولو لم يجد إِلَّا السراويل فلبسه، ولم يفتقه نوجبه؛ أي: الدم).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 32)، قال:(وقال عطاء بن أبي رباح، والشافعي، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل ولا شيء عليه). وانظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 120).
وقول أحمد، ينظر:"مسائل أحمد بن حنبل" لابن هانئ (ص: 193)، قال:(قلت: السراويل بمنزلة الخفين؟ قال: نعم).
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 539)، قال:(إِلَّا أن لا يجد) المحرم (إزارًا فليلبس سراويل. . .).
وهذا هو الأقرب إلى الصواب؛ لأنه ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث عبد اللَّه بن عمر السابق
(1)
، ثم جاء حديث عبد اللَّه بن عباس متأخرًا عنه
(2)
، فدلَّ على الإنسان إذا لم يجد قميصًا يلبس السراويل، وإذا لم يجد نعلًا يلبس الخف، ولم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطعهما، وكان ذلك آخر الأمرين من الرسول صلى الله عليه وسلم فكان ناسخًا للأول، وليس كل الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هم الذين كانوا معه في مكة، أو في المشاعر؛ بل هناك أناس كثيرون جاؤوا من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم، فكثير منهم لم يسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن آخر الأمرين من الرسول إنما هو لبس السراويل لمن لم يجد ثوبًا، ولبس الخف لمن لم يجد نعلًا، ولا يحتاج إلى قطعهما، ولا فدية عليه إن شاء اللَّه.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَذْهَب مَالِكٍ: ظَاهِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ رُخْصًة لَاسْتَثْنَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَثْنَى فِي لُبْسِ الْخُفَّيْنِ).
إذا كان ذلك هو ما استدلَّ به الإمام، فإنه ثبت عنه أنه قال أيضًا على الملأ والنساء مجتمعون حوله:"خذوا عني مناسككم"
(3)
، ثم بيَّن أن من لم يجد ثوبًا يلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ولم يأمر بالقطع، ولم يأمر بوجوب الفدية على من لبس السراويل في حقِّ من لم يجد الإزار فدل ذلك على جواز ذلك.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "السَّرَاوِيل لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخُفُّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ").
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم (3115)، عن جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:"لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلى لا أحج بعد حجتي هذه".
مراده حديث عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباسٍ وهو حديث (متفق عليه)
(1)
كالحديث الأول لابن عمر.
(السراويل لمن لم يجد الإزار يتزر به، والخف لمن لم يجد النعلين) والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقطع الخفين، ولم يأمر بوجوب الفدية على من لبس السراويل في حق من لم يجد الإزار؛ فدلَّ على جواز ذلك.
وهذا تيسير من اللَّه سبحانه وتعالى ونحن نأخذ بالمتأخر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمقام الذي كان به الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقام بيان، واللَّه تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ودعوى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في المدينة فذلك متقدم، وهذا متأخر، ولو كان الأمر على ما هو عليه، وتغير الحكم في الأمر لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم لمن لم يسمعه.
* قوله: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِجَازَةِ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: جَائِز لِمَنْ لَمْ يَجْدِ النَّعْلَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غَيْرَ مَقْطُوعَيْنِ أَخْذًا بِمُطْلَقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
قال الإمام أحمد: لا خلاف بين العلماء أنَّ الإنسان إذا لم يجد نعلين؛ فعليه أن يلبس الخفين، وليقطعهما، وهناك من يرى أنه يلبسهما دون قطع كما عرفنا.
وحديث ابن عباس قد مرَّ بنا قريبا وهو حديث (متفق عليه) وقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج.
* قوله: (وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي قَطْعِهِمَا فَسَادٌ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجهما.
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(2/ 660)، (1420) قال قتادة: وقلت لعطاء: كنا نسمع أن قال: شقها، قال: هذا فساد واللَّه لا يحب الفساد.
وهو الإمام عطاء من التابعين
(1)
: نظر إلى هذا الغرض وهو إذا قطع الإنسان الخفين؛ أفسدهما على نفسه، وفيه إلحاق ضرر بصاحب الخف فهذا فيه شيء من الفساد، واللَّه لا يحب الفساد.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَبِسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ).
مسألة أُخرى اختلف فيها الفقهاء، وهي لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين:
أولًا: الفرق بين النعل والخف: النعل: هو هذا الذي لا يرتفع إلى الكعبين وهو ما يُسمَّى (المداس)، أما الخف: وهو الذي يغطي الكعبين.
فلو أن إنسانًا وجد عنده نعلان وخف، فلو أنه لبس الخفين مع وجود النعلين هل عليه شيء؟
ذهب بعض العلماء (مالك
(2)
، وأبو ثور، وأحمد
(3)
، وقول عن الشافعي
(4)
: بأن عليه دم؛ لأنه ترك الأصل، وانتقل إلى البدل مع وجود الأصل فمن فعل ذلك فعليه دم شاة؛ لأنه ارتكب محظورًا منع منه.
(1)
قال الذهبي: عطاء بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم الإمام، شيخ الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم، المكي،. . .، ولد: في أثناء خلافة عثمان، وكان من أوعية العلم، ومات في رمضان، سنة (114، أو 115، أو 117 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 78 - 88).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 56)، قال:(وجاز لمحرم خف)؛ أي: لبسه، ومثله جرموق وجورب (قطع أسفل من كعب) كان القاطع له هو أو غيره، أو كان من أصل صنعته؛ كالبابوج (لفقد نعل، أو غلوه) غلوًّا (فاحشًا) بأن زاد ثمنه على الثلث، وإلا فعليه الفدية ولو لبسه لضرورة كشقوق، أو دمامل برجليه.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 540)، قال:(وإن لبس خفًّا مقطوعًا دون الكعبين مع وجود نعل حرم وفدى نصًا).
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (4/ 164)، قال: (فالحاصل أنَّ ما ظهر =
وذهب (أبو حنيفة
(1)
، وقول آخر عن الشافعي)
(2)
: بأنه لا شيء عليه؛ ما دام الخفين مقطوعين، وقد أبيح عند عدم وجود النعل؛ فلا مانع من ذلك.
فالإمام الشافعي له قولان: قول مع الفريق الأول، وقول مع الفريق الثاني.
* قوله: (وَسَنَذْكُرُ هَذَا فِي الْأَحْكَامِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ
(3)
عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ).
لماذا لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس؟ هذا كان فيما مضى، وليس كحالاتنا الآن؛ فقد تغيرت الأُمور، وتبدلت الأحوال، واللَّه تعالى أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقال أيضًا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ
= منه العقب ورؤوس الأصابع يحلُّ مطلقًا؛ لأنه كالنعلين سواء، وما يستر الأصابع فقط أو العقب فقط لا يحل إِلَّا مع فقد الأولين، وإذا لبس ممتنعًا لحاجة ثم وجد جائزًا نزعه فورًا، وإلا أثم وفدى).
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 349)، قال:(ولم أر من صرَّح بما إذا كان قادرا على النعلين فهل له أن يقطع الخفين أسفل من الكعبين؛ والظاهر من الحديث وكلامهم أنه لا يجوز بمعنى لا يحل لما فيه من إتلاف ماله لغير ضرورة). وقال في "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 490)، قال:(وما عزي إلى الإمام من وجوب الفدية إذا قطعهما مع وجود النعلين خلاف المذهب؛ كما في شرح اللباب).
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (7/ 258)، قال:" (وأما) لبس المداس والحمحم والخف المقطوع أسفل من الكعبين، فهل يجوز مع وجود النعلين؟ فيه وجهان مشهوران، ذكرهما المصنف والأصحاب (الصحيح) باتفاقهم تحريمه، ونقله المصنف والأصحاب عن نص الشافعي، وقطع به كثيرون أو الأكثرون. . . ".
(3)
"الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 259)، قال: ولا خلاف في الثوب المصبوغ بالورس والزعفران في أنَّ لباسه لا يجوز للمحرم على ما في حديث ابن عمر: "فاغسل الثوب حتى يذهب ريح الزعفران منه"، فلا بأس به عند جميعهم. وانظر:"الإجماع" لابن المنذر (65).
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [النحل: 18] ويقول سبحانه وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، فكلما شكر المؤمنون نعم اللَّه سبحانه وتعالى؛ فإن تلكم النعم ستترى، وتزداد شيئًا فشيئًا.
كان فيما مضى لكي يحصل الإنسان على ثوب يريد أن يغير لونه إلى البياض يحتاج إلى أن يصبغه بأي نوع من أنواع الصباغ، أما الإنسان في هذا الزمان فبحمد اللَّه كل ما يريده الإنسان، وكل ما تشتهي نفسه من المآكل، ومن المشارب، ومن الملابس مما أحلها اللَّه سبحانه وتعالى يجده بين يديه ميسورًا متوفرًا، فهذه نعم عظيمة، ومواهب جليلة، وكرم من اللَّه سبحانه وتعالى أصبغه لعباده المؤمنين.
هذا الثوب الذي يصبغ بزعفران، لا يجوز لبسه؛ لأنَّ الثوب مصبوغ حُلي بشيء من الطيب كما في قصة صاحب الجبة التي ضمخت بالطيب كما سيأتي.
* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "لَا تَلْبَسُوا مِنَ الثيابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ").
وذلك لوجود الطيب في الزعفران، والورس، والطيب إنما هو من محظورات الإحرام فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفران، أو الورس"
(1)
، وكذلك في قصة الأعرابي الذي وقصته دابته "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تحنيطه بالطيب"
(2)
فالطيب محظور من محظورات الإحرام لا ينبغي للمحرم.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (1849)، ومسلم (2863)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته، أو قال: فأقعصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين"، أو قال:"ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإن اللَّه يبعثه يوم القيامة يلبي". وفي رواية -عندهما- قال: "ولا تمسوه بطيب". البخاري (1850)، ومسلم (2868).
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعَصْفَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ طِيبٌ وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ عَنْ عَلِيٍّ: "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقِسِيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ").
الثوب المعصفر: هو الذي صبغ بالعصفر الشيء الأصفر، واختلفوا فيه:
فعند (مالك
(1)
، وأحمد
(2)
): لا شيء عليه، واستدلوا إلى جواز ذلك:"بأنَّ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كنَّ يحرمن بذلك" كما أخرج ذلك البخاري تعليقًا في كتابه
(3)
، وأخرجه غيره
(4)
، ولا شكَّ أنَّ زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وهن اللاتي يعشن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهن أقرب الناس إليه في هذا المقام؛ كنَّ يحرمن بهذه الثياب المعصفره؛ فذلك دليلٌ على جوازه.
وذهب أبو حنيفة، والثوري
(5)
: إلى أنه نوع من الطيب، فمن لبسه
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرُّعيني (4/ 213)، قال:"ومصبوغ لمقتدى به" ش: يعني: أنه يكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ إذا كان ممن يقتدى به، ولا يكره له لبسه إذا كان المحرم ممن لا يقتدى به.
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 346)، قال:(وكره لبس معصفر) للرجل لا للمرأة،. . . (في غير إحرام)، فلا يكره للرجل لبس المعصفر فيه نصًّا. . .).
(3)
أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 137)، قال: باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر. ولبست عائشة رضي الله عنها الثياب المعصفرة وهي محرمة.
قال ابن حجر: وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: "كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة" إسناده صحيح. انظر: "فتح الباري"(3/ 405).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 476)، عن ابن أبي مليكة: أن عائشة رضي الله عنها كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة.
(5)
يُنظر: "الأوسط" لا بن المنذر (3/ 228)، قال: وكان الثوري، وابن الحسن، وأبو ثور يقولون: لا يلبس المحرم المصبوغ بالعصفر.
فعليه الفدية، واستدلوا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن لبس القسي، وعن لُبْس المعصفر"
(1)
.
واستدلوا أيضًا على ما ذهبوا إليه: "ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التختم بالذهب بالنسبة للرجال، وأمر بإلقائه، وبيَّن أنه جمرة من نار"
(2)
، فلا يجوز للمسلم أن يلبس الذهب أيًا كان؛ أما المرأة فلها ذلك، وكذلك نهى عن لبس (القسي)؛ أي: الثياب التي من كتان، أو قطن إذا كانت مخِيطة، أو خِيطت بشئٍ من الحرير؛ لأنَّ الحرير نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في الذهب، والحرير:"حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم"
(3)
، فلا يجوز للرجل أنْ يلبس الحرير إلا عند الضرورة؛ كأنْ يكون ببدنه حكة يضطر إلى لبس الحرير فهذا مستثنى أو كان في الحرب، أو غير ذلك، أما أنْ يلبسه مطلقًا فلا.
ونهى كذلك أن يقرأ الإنسان القرآن وهو راكع فقال: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن وأنا راكع"
(4)
، فلا ينبغي للمسلم في حالة الركوع في
(1)
أخرجه مسلم (5488)، عن علي بن أبي طالب، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي، والمعصفر، وعن تختُّم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع.
(2)
أخرجه مسلم (5523)، عن عبد اللَّه بن عباس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال:"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده"، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا واللَّه، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(3)
أخرجه -بهذا اللفظ- ابن ماجه (3595)، علي بن أبي طالب يقول: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حريرًا بشماله، وذهبًا بيمينه، ثم رفع بهما يديه، فقال:"إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2274).
(4)
أخرجه مسلم (1007)، عن ابن عباس، قال: كشف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال:". . .، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا، أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا. فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم".
الصلاة؛ أنْ يقرأ القرآن؛ وإنما يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وله أن يزيد عن ذلك.
ونهى كذلك صلى الله عليه وسلم "عن لُبْس العصفر"
(1)
، كما نهى عن السابق فأخذوا منه النهي.
ورد الفريق الأول: بأنَّ هذا نهي تنزيه وليس تحريم؛ لأنَّ أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لبسن ذلك
(2)
، وأنَّ النهي كان في أول الأمر، ثم رخص به.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا)
(3)
.
لعلَّ المؤلف أخذ ذلك من حديثٍ ورد عند الدارقطني
(4)
، والبيهقي
(5)
، وهو قوله:"إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها"، وهذا حديث لم يصح
(6)
.
ومعنى الحديث: أي: لا يجوز للرجل أن يغطي رأسه، والمرأة يستحب لها ألا تغطي وجهها، وهذا في حالة عدم وجود أجانب إذا كانت مع محارمها أو كانت تمشي في طريق وليس حولها أحد ممن يجب عليها
(1)
أخرجه مسلم (5488)، عن علي بن أبي طالب:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي، والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع".
(2)
أخرج الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 85)، عن أسماء بنت أبي بكر:"أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يلبسن الدروع المعصفرات وهن محرمات".
(3)
يُنظر: الإقناع لابن القطان (2/ 345)، قال:(وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وأن تستر شعرها، وهي محرمة).
(4)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 294)، عن ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه".
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 441)، وقال: والمحفوظ موقوف.
(6)
قال ابن حجر: وفي إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل وهو ضعيف، قال ابن عدي: تفرد برفعه، وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه، إنما يروى موقوفًا، وقال الدارقطني في العلل: الصواب وقفه، وقال البيهقي: قد روي من وجه آخر مجهول، والصحيح وقفه. انظر:"التلخيص الحبير"(2/ 519).
أن تستتر عنهم؛ فالأولى ألا تغطي وجهها؛ أما إذا مرَّ بها أجانب فإنها ترخي خمارها على وجهها كما كانت تفعل عائشة رضي الله عنها
(1)
وغيرها من نساء المؤمنين.
* قوله: (وَأَنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا وَتَسْتُرَ شَعْرَهَا، وَأَنَّ لَهَا أَنْ تَسْدِلَ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا).
تغطي المرأة رأسها وشعرها؛ لأنَّ رأسَ المرأة وشعرَها عورةٌ، بل إن المرأة كلها عورة، وهناك خلاف في وجهها
(2)
، والصحيح أنَّ وجهها عورة، وأن المرأة ينبغي لها في الصلاة ألا تظهر شيئًا من بدنها؛ فإن وجد معها أجانب فإنها تستتر كليًّا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 284)، قال:(قوله: وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها) لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، قال ابن عباس:(وجهها وكفيها، وإن كان ابن مسعود فسره بالثياب كما رواه إسماعيل القاضي من حديث ابن عباس مرفوعًا بسند جيد ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب" ولو كانا عورة لما حرم سترهما. . .).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 287)، قال:(الحرة): الكبيرة وهو جميع البدن ما عدا الوجه والكفين، وكذا الصغير المأمور بالصلاة يندب له ستر واجب على البالغ.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 176)، قال:(وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي) ولو خارجها (جميع بدنها إلا الوجه، والكفين) ظهرًا وبطنًا إلى الكوعين لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، قال ابن عباس وغيره: ما ظهر منها وجهها وكفاها وإنما لم يكونا عورة؛ لأن الحاجة تدعو إلى إبرازهما وإنما حرم النظر إليهما.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 330)، قال:(والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفر) ها، (وشعر) ها،. . . (إلا وجهها)، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في "المغني" وغيره، هذا المذهب، وعليه الجمهور.
أولها"
(1)
، ومع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"
(2)
؛ أي: يقترعون فيما بينهم، فخير صفوف النساء آخرها؛ لتكون بعيدة عن الرجال؛ لأنَّ المرأة جوهرة مصونة ينبغي أن تحافظ على نفسها، وأن يحافظ عليها أولياء أمورها، وليست كما يدعي أعداء الإسلام؛ بأن المرأة مهينة، وأنَّ المرأة لا تأخذ حقوقها، وأنها معدمة، فهذا جهل وعدم إدراكٍ لحقيقة الإسلام، ولما في هذه الشريعة من الفضل، وهي شريعة اللَّه الخالدة التي أنزلها الحكيم الخبير، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14] فلا أعدل ولا أحكم من شريعة اللَّه، واللَّه تعالى يقول:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]، ثم يقول اللَّه لنبيه:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
* قوله: (مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا سَدْلًا خَفِيفًا تُسْتَرُ بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ إلَيْهَا).
البعض يرى أنَّ المرأة تضع شيئًا على جبهتها، أو من أسفل؛ ليكون بغطاء حتى لا يمس وجهها
(3)
، فهذا لم يشرع ولم يرد فيه دليل عن
(1)
أخرجه مسلم (916).
(2)
أخرجه البخاري (615)، ومسلم (912).
(3)
هو مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 506)، قال:(ولها أن تسدل)؛ أي: ترخي على وجهها (ثوبا متجافيًا) عنه بخشبة أو نحوها،. .، (وإن أصابه) كأن وقعت الخشبة فأصاب الثوب وجهها (بلا اختيار منها فرفعته فورًا فلا فدية، وإلا) بأن اختارت ذلك أو لم ترفعه فورًا (وجبت) مع الإثم.
ومذهب الأحناف لكن على الندب، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 527 - 528)، قال:(والمرأة) فيما مرَّ (كالرجل)؛ لعموم الخطاب ما لم يقم دليل الخصوص، (لكنها تكشف وجهها لا رأسها؛ ولو سدلت شيئًا عليه وجافته عنه جاز) بل يندب.
من الأول تأمل (قوله: وجافته)؛ أي: باعدته عنه. قال في الفتح: وقد جعلوا لذلك =
الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم وإنما ورد في الحديث: "كان النساء إذا مرَّ بهم الركب يرخين الخمار على وجوههن"
(1)
وهو ما تخمر به المرأة رأسها وترخيه على وجهها.
فالمرأة إذا رأت الأجانب تلفّ رأسها ثم تسدله على وجهها، ثم بعد ذلك تخلعه، وتضعه على رأسها، واللَّه تعالى يقول:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، وبيَّن في الآية نفسها فقال عز وجل:{إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ. . .} [النور: 31] إلى آخره.
فالمرأة قد يكون عليها غطاءٌ يسمونها (الشيلة) وغير ذلك. . وبعض النساء تلبس ثوبًا واسعًا تضع طرفه على رأسها وتغطيه، والمرأة لها أن تلبس ما شاءت في إحرامها إلا أنها تتجنب الملابس التي تفتن الرجال؛ أما ما عدا ذلك فلها أن تلبس ما شاءت من الملابس، ويحسن للمرأة أيضًا ألا تشابه الرجال فلا تلبس البياض وإذا كان قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على البياض فقال:"خير ثيابكم البيضر ألبسوه أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم"
(2)
، فالبياض مستحب في هذه الشريعة لكن في حق الرجال؛ أما المرأة فينبغي لها أن تخالف الرجل فيما تلبس.
* قوله: (كَنَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَإِذَا مَرَّ بِنَا رَكْبٌ سَدَلْنَا عَلَى وُجُوهِنَا الثَّوْبَ مِنْ قِبَلِ رُؤوسِنَا وَإِذَا جَاوَزَ الرَّكْبُ رَفَعْنَاهُ")
(3)
.
= أعوادًا كالقبة توضع على الوجه ويسدل من فوقها الثوب اهـ (قوله: جاز)؛ أي: من حيث الإحرام، بمعنى: أنه لم يكن محظورًا؛ لأنه ليس بستر، (وقوله: بل يندب): أي خوفًا من رؤية الأجانب.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه -بهذا اللفظ- الحاكم في "المستدرك"(1/ 500)، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3305).
(3)
تقدَّم تخريجه.
تقول السيدة عائشة
(1)
: "أحرمنا؛ أي: حججنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنا من أهلَّ بحج، ومنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحج وعمرة، وأهلَّ صلى الله عليه وسلم بالحج، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان مقرنًا في حجه أي: أحرم بالحج والعمرة معًا
(2)
؛ لكن هل بدأ بهما معًا؟ أو أنه بعد ذلك أدخل الحج على العمرة في حديث: "أتاني آتٍ من ربي"
(3)
؟
تقول: إذا مرّ بنا ركب سدلنا الثوب من جهة رؤوسنا. . . أي: من جهة رؤوسنا تأخذ الغطاء فترخيه على وجهها، وإذا أبعد الأجانب عنهن رفعن الثوب. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في هذا العام، وإنما أرسل أبا بكر رضي الله عنه
(4)
، وقد مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة ليقابل الوفود الذين جاؤوا من كل فج عميق من أنحاء هذه الجزيرة، بعضهم يعلن إسلامه، وبعضهم جاء ليتفقه في دين اللَّه، فقد كانوا بأمسِّ الحاجة إلى أن يبيِّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الهدى، ويرشدهم إلى طريق الخير فأرسل أبا بكر، ولأن آثار الشرك لم تزل بعدُ موجودة بمكة، وهناك من المشركين من كان لا يزال
(1)
أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (2888)، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحجة وعمرة، ومنا من أهلَّ بالحج، وأهل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهلَّ بالحج، أو جمع الحج والعمرة، لم يحلوا حتى كان يوم النحر".
(2)
وردت أدلة كثيرة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم حج مقرنًا، منها: ما أخرجه البخاري (1566)، ومسلم (2956)، عن حفصة، رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول اللَّه، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال:"إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر".
(3)
أخرجه البخاري (1534)، عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إنه سمع عمر رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي، ففال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة".
(4)
حجَّ أبو بكر بالناس في سنة تسع، أخرجه البخاري (4363)، ومسلم (3266)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
يطوف مشركًا، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرسل مناديًا وهو (أبو هريرة) ألا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد هذا العام مشرك.
ولما حجَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة وهو العام الذي لم يمكث بعده إلا ثمانين يومًا ثم لحق بالرفيق الأعلى -صلوات اللَّه وسلامه عليه- وحجَّ معه جمع غفير كما سيأتي.
* قوله: (وَلَمْ يَأْتِ تَغْطِيَةُ وُجُوهِهِنَّ إِلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: "كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ")
(1)
.
هذا حديث صحيح، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لها مواقفها الجليلة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومع أبيها عندما كانا في الغار ثاني اثنين وكيف كانت تذودهما بالطعام، وبالأخبار
(2)
؟ فليس عمل المرأة مقصور على أُمور معينة؛ لكن المرأة تخدم في كل ما فيه مصلحة وخير للإسلام، ولكنها تبتعد عن مواضع الرجال.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيرِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ
(3)
بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 441)، وصحح إسناده الألباني في "الأرواء"(1023).
(2)
انظر: الحديث الطويل الذي أخرجه البخاري (3905)، ومسلم (6588).
(3)
فذهب الأحناف والمالكية إلى اجتناب تغطية الوجه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز تغطية الوجه:
فمذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 349)، قال:(قوله: وستر الوجه والرأس)؛ أي: واجتنب تغطيتهما لحديث الأعرابي الذي وقصته ناقته. . .).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 55)، قال:(و) حرم على الرجل (ستر وجه) كلا، أو بعضا (أو رأس) كذلك (بما يعد ساترًا كطين) فأولى غيره كقلنسوة فالوجه والرأس يخالفان سائر البدن إذ يحرم سترهما بكل ما يعد ساترًا مطلقًا وسائر البدن إنما يحرم بنوع خاص وهو المحيط.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 330 - 331)، قال: (. . .، وأفهمت عبارته جواز ستر وجهه، وعليه إجماع الصحابة، وخبر مسلم في الذي وقصته ناقته:"لا تخمروا رأسه ولا وجهه" قال السهيلي: ذكر الوجه فيه وهم من =
أَنَّهُ لَا يُخَمِّرُ رَأْسَهُ)
(1)
.
لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بعمامة، ولا بطاقية، ولا بغترة، ولا بثوب يضعه على رأسه، ولا أي ملاصقًا يضعه.
ولا يفهم من هذا كما يتشدد البعض، أنه لا يحل لي أن أستظل بسيارة، ولا بشجرة، ولا بخيمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة يعني: خيمة بنمرة يستظل تحتها، وهي التي قام فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الزوال فلما زالت الشمس انتقل وصلى الظهر، ثم بعد ذلك دخل عرفات
(2)
.
وكذلك "ظلِّل عليه بثوب وهو يرمي الجمرات"
(3)
.
إذن كل ذلك جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودين اللَّه يسر "ولن يشاد الدين
= بعض الرواة. قال في الشامل: هو محمول على ما يجب كشفه من الوجه لتحقق كشف الرأس، وصح خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 539)، قال: و (لا) يحرم ولا يفدى محرم (إن حمل عليه)؛ أي: رأسه شيئًا كطبق ومكتل (أو نصب) محرم (بحياله). . . (أو استظل بخيمة أو شجرة) ولو بطرح شيء عليها يستظل به تحتها (أو بيت)(أو غطى) محرم ذكر (وجهه) فلا إثم، ولا فدية؛ لأنه لم يتعلَّق به سنة التقصير من الرجل، فلم يتعلَّق به سنة التخمير كباقي بدنه.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (65)، قال: وأجمعوا على أن الْمُحرم ممنوع من تخمير رأسه.
(2)
كما جاء في حديث جابر بن عبد اللَّه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(. . .، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس. . .). أخرجه مسلم (2922).
(3)
أخرجه مسلم (3117)، عن أم الحصين، جدته قالت:"حججت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالًا؛ وأحدهما: آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة".
أحد إلا كلبه"
(1)
، فإذا حملت على رأسك شيئًا تضعه على رأسك فإنه لا يضر.
* قوله: (فَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّقَنِ مِنَ الرَّأْسِ لَا يُخَمِّرُهُ الْمُحْرِمُ")
(2)
.
وهذه رواية عن أحمد وليست هي المشهورة
(3)
.
* قوله: (وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْزِعْهُ مِنْ مَكَانِهِ افْتَدَى
(4)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ
(6)
، وَأَحْمَدُ
(7)
، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يُخَمِّرُ الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ إِلَى الْحَاجِبَيْنِ).
(1)
أخرجه البخاري (39)، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة".
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(915).
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 243 - 244)، قال: قوله: وفي تغطية الوجه روايتان،. . .، إحداهما: يباح، ولا فدية عليه. هذا الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب.
والرواية الثانية: لا يجوز، وعليه الفدية بتغطيته. نقلها الأكثر عن الإمام أحمد.
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 142)(وستر وجه أو رأس) ابن شاس إحرام الرجل في الرأس ووجهه فيحرم عليه أن يستر رأسه بما يعد ساترًا من خرقة أو رداء مالك ولا يستر المحرم على رأسه ولا على وجهه من الشمس بعصا فيها ثوب فإن فعل افتدى.
(5)
يُنظر: "الأم" للشافعي (3/ 522) قال: (وإذا مات المحرم لم يقرب طيبًا وغسل بماء وسدر ولم يلبس قميصًا وخمر وجهه ولم يخمر رأسه يفعل به في الموت كما يفعل هو بنفسه في الحياة).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 415)، قال: عن عطاء، قال: يغطي المحرم وجهه إلى الحاجبين. وقال: هو قول سفيان.
(7)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود السجستاني (ص: 174)، قال: قلت لأحمد المحرم يغطي وجهه؟ قال: نعم، قلت: يغطي الحاجبين؟ قال: نعم، قلت: يغطي المحرم أذنيه؟ قال: لا.
وما عدا الحاجبين فلا.
* قوله: (وَرُوِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(1)
، وَجَابِرٍ
(2)
، وَابْنِ عَبَّاسٍ
(3)
، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ)
(4)
.
وذلك في قصة الذي وقصته دابته "لا تخمر رأسه ووجهه" وهذا عند مسلم
(5)
، ولكنهم اختلفوا عند الزيادة فمن أخذ بها قال: لا يغطي وجهه، ومن لم يأخذ بها فلا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي لُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ لِلْمَرْأَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَبِسَتِ الْمَرْأَةُ الْقُفَّازَيْنِ افْتَدَتْ).
لا خلاف في لبس القفازين على الحقيقة، وإنما الخلاف أنه جاء نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"ولا تنتقب المرأة"
(6)
، يعني: تلبس النقاب هذا الذي تظهر منه العينين، وقريب منه البرقع "ولا تلبس الخفين"
(7)
، ولكن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 415)، قال: عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن الفرافصة بن عمير قال: كان عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 414)، قال: عن جابر، قال: يغشي وجهه بثوبه إلى شعر رأسه، وأشار أبو الزبير بثوبه حتى رأسه.
(3)
يُنظر: "المحلَّى" لابن حزم (7/ 91)، قال: عن ابن عباس أنه قال: المحرم يُغطي ما دون الحاجب، والمرأة تسدل ثوبها من قبل قفاها على هامتها.
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 153)، قال:(وفي تغطية المحرم وجهه روايتان؛ إحداهما: يباح، روي ذلك عن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وجابر،. . .).
(5)
أخرجه مسلم (2867)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رجلًا أوقصته راحلته وهو محرم فمات، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا".
(6)
تقدَّم تخريجه.
(7)
أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (2761)، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رجلًا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: ". . .، ولا الخفاف".
يختلف البرقع عن غيره بشكله فهو يأتي مستطيل، وهذا يأتي على قدر العين فهذا قد ورد فيه نص.
ومع الإمام مالك
(1)
في هذا الرأي الإمام أحمد
(2)
، ورواية للإمام الشافعي
(3)
.
* قوله: (وَرَخَّصَ فِيهِ الثَّوْرِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ)
(4)
.
ومروي أيضًا عن أبي حنيفة
(5)
،. . . . .
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 55)، قال: حرم بالإحرام بحج أو عمرة. . .، (على المرأة). . .، (لبس) محيط بيديها، نحو:(قفاز) شيء يعمل لليدين يُحشى بقطن تلبسه المرأة للبرد، وكذا ستر أصبع من أصابعها، فإن أدخلت يديها في قميصها فلا شيء عليها. . .، (وإلا) بان فعلت شيئًا مما ذكر بأن لبست قفازًا، أو سترت كفيها أو وجهها، أو بعضه لغير ستر أو غرزت، أو عقدت ما سدلته (ففدية) إن طال.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 552)، قال:(وإذا شدت يديها بخرقة فدت) لسترها لهما بما يختص بهما أشبه القفازين، وكشد الرجل شيئًا على جسده فإن لفتهما من غير شد فلا فدية؛ لأنَّ المحرم الشد لا التغطية كبدن الرجل (ويحرم عليهما)؛ أي: الرجل والمرأة (لبس قفازين) للخبر فيها وهو أولى (وهما)؛ أي: القفازان (شيءٌ: يعمل لليدين) يدخلان فيه ليسترهما (كما يعمل للبزاة ويفديان)؛ أي: الرجل والمرأة (بلبسهما)؛ أي: القفازين كباقي المحظورات.
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 165)، قال:(ولها لبس المخيط) إجماعًا (إلا القفاز) في اليدين أو إحداهما فيحرم عليها كالرجل لبسهما أو لبسه وتلزمهما الفدية (في الأظهر) للنهي عنهما في الحديث الصحيح، لكن أعل بأنه من قول الراوي ومن ثم انتصر للمقابل بأنَّ عليه أكثر أهل العلم.
(4)
أخرجه الحارث في "مسنده"(1/ 449)، قال: عن عائشة أنها كانت ترخص للمحرمة في لبس القفازين.
وقد جاء عن عائشة -أيضًا- قالت: تلبس المحرمة ما شاءت من الثياب إلا البرقع والقفازين ولا تنتقب. انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (8/ 412).
(5)
يُنظر: "منحة الخالق" لابن عابدين (2/ 348)، قال:(قوله: كل شيء معمول على قدر البدن أو بعضه) يدخل فيه القفازان. . .، قال في شرح اللباب: وكذا أي: يحرم لبس المحرم القفازين لما نقل عز الدين بن جماعة من أنه يحرم عليه لبس القفازين في يديه عند الأئمة الأربعة، وقال الفارسي: ويلبس المحرم القفازين، ولعله محمول =
والثوري
(1)
، وهي رواية للإمام الشافعي
(2)
، لو لبست المرأة القفازين لا حرج فيه، والأولى ألا تفعل ذلك؛ لأنَّ المرأة أيضًا مأمورة بقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 8].
* قوله: (وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ مَا خَرَّجَهُ دَاوُدُ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ نَهَى عَنِ النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ": وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(3)
، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - أَعْنِي: رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام)
(4)
.
استدلَّ الإمام مالك، وأحمد، والشافعي في رواية إلى ما ذهب إليه
= على جوازه مع الكراهة في حقِّ الرجل، فإنَّ المرأة ليست ممنوعة من لبسهما وإن كان الأولى لها أن لا تلبسهما لقوله عليه الصلاة والسلام:"ولا تلبس القفازين" جمعًا بين الدلائل كذا ذكروه، لكن ليس فيه ما يدل على أنَّ الرجل ممنوع من تغطية يديه اللهم إلا أن يقال: هو نوعٌ من لبس المخيط.
وقال السندي في المنسك الكبير وما ذكره الفارسي من جواز لبسهما خلاف كلمة الأصحاب؛ لأنهم ذكروا جواز لبسهما فيما يختص بالمرأة. قال في البدائع: لأنَّ لبس القفازين لبس لا تغطية، وأنها غير ممنوعة عن ذلك، وقوله عليه السلام:"ولا تلبس القفازين" نهي ندب حملناه عليه جمعًا بين الدلائل بقدر الإمكان اهـ.
(1)
يُنظر: "المجموع" للنووي (7/ 269)، قال: الأصح عندنا تحريم لبس القفازين على المرأة، وبه قال عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم، وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز.
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (7/ 263)، قال: وهل يحرم عليها لبس القفازين؟ فيه قولان مشهوران: (أصحهما) عند الجمهور تحريمه، وهو نصه في الأم والإملاء، ويجب به الفدية.
(والثاني) لا يحرم ولا فدية.
(3)
قال أبو داود: وقد روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل، ويحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، على ما قال الليث.
ورواه موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، موقوفًا على ابن عمر.
وكذلك رواه عبيد اللَّه بن عمر، ومالك، وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا.
انظر: "السنن" لأبي داود (1825).
(4)
كالبخاري، فقد رواه في صحيحه عن ابن عمر مرفوعًا، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
"من افتداء المرأة إن لبست القفازين" فيما خرجه أبو داود
(1)
وهو حديث في البخاري
(2)
، وفي غيره
(3)
، ولا إشكال فيه وهو النهي عن النقاب والقفازين.
* قوله: (فَهَذَا مَشْهُورُ اخْتِلَافِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ فِي اللِّبَاسِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا كُلِّهِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي قِيَاسِ بَعْضِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاحْتِمَالُ اللَّفْظِ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَثُبُوتُهُ أَوْ لَا ثُبُوتُهُ).
هناك أُمور نصّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للباس فقد أعطانا أمثلة لما نهانا عن السراويل فماذا نقول على مُسمَّى البنطلون؟ فليس اسمه السراويل، وكذلك العباءات، وغير ذلك من الثياب التي جدت، وكل ما هو محيط بالبدن أو غيره لا يجوز للمحرم أن يلبسه؛ إذ كل ذلك مسكوت عنه فيلحق بالمنطوق من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو النهي عن لبس السراويل وكل مخيط يحيط بالبدن يدخل في الحرمة قياسًا على المنطوق.
* قوله: (وَأَمَّا الشَّيْءُ الثَّانِي مِنَ الْمَتْرُوكَاتِ فَهُوَ الطِّيبُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطِّيبَ كُلَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ)
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (1827)، عن عبد اللَّه بن عمر أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب. . .)، قال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الحافظ الذهبي انظر:"صحيح أبي داود"(1603). وقال الألباني: إسناده حسن صحيح.
(2)
أخرجه البخاري (1838).
(3)
أخرجه الترمذي (833)، والنسائي (2693)، وغيرهما.
(4)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 64)، قال: وأجمعوا على أنَّ المحرم ممنوع من: الجماع، وقتل الصيد، والطيب، وبعض اللباس، وأخذ الشعر، وتقليم الأظفار. وانظر:"الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 258).
الشيء الثاني من المحظورات في الإحرام:
(الطيب) بعد أن فرغ المؤلف من الكلام عن المخيط دخل إلى الشيء الثاني من المتروكات وهو: (الطيب) بالنسبة للمحرِم.
ولقد ذكر المؤلف من المحظورات الأول (تغطية الرأس) والثاني (اللبس عمومًا) فاعتبر هذين المحظورين محظورًا وذكر بعدها (الطيب) على أنه المحظور الثاني، وجعل الطيب بعد اللباس؛ لأنه هو الذي ورد في الحديث؛ فكأن المؤلف سار على نسق الحديث؛ فالمحظور الثاني، وهو في الحقيقة الثالث.
المحظور الثالث للمحرم وهو: (الطيب)، والطيب: كلمة عامة وليس النهي متلبسًا به في كل المواضع؛ بل ساعة الإحرام أما بعد ذلك؛ فهو أمر حضَّ عليه الإسلام؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حبب إليّ من دنياكم النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"
(1)
، فقرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة، وهكذا ينبغي أن تكون الصلاة قرة عين كل مسلم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"
(2)
، وكان يقول:"أرحنا يا بلال بالأذان"
(3)
؛ لأن الأذان بعده إقامة الصلاة، واللَّه تعالى يقول:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 46].
فالطيب محبَّب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ له رائحة طيبةٌ ترتاح إليها النفوس، وهو مما أباحه اللَّه سبحانه وتعالى لأنه نوع من الطيبات،
(1)
أخرجه النسائي في "السنن"(3974)، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(5261).
(2)
أخرجه أبو داود (1319)، عن حذيفة، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، صلى". وحسنة الألباني في "صحيح أبي داود"(1192).
(3)
أخرجه أبو داود (4985)، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل: قال مسعر: أراه من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها". وصحَّحه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1253).
واللَّه تعالى يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 158]، لكنه مع إباحته لنا وحضنا عليه؛ لا يجوز لنا أن نضعه في أبداننا وفي ثيابنا، بعد أن ندخل في النسك حجًا كان أو عمرة؛ لأن هذا حدٌّ وضعه اللَّه تعالى لنا، واللَّه تعالى يقول:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 230] فاللَّه سبحانه وتعالى عندما أمرنا بأمور أوجبها علينا يجب علينا أن نفعلها، وإذا نهانا عن أُمور يجب علينا أن نبتعد عنها، واللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلينا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، لكنه اختبار من اللَّه لنا، قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال أيضًا:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، فكيف يتبيَّن الصالح من غيره؟ والمحسن من غيره؟ وكيف يتفاوت الناس بأعمالهم؟ إنما هو بهذه العبادات التي وضعها اللَّه سبحانه وتعالى، فاللَّه وضع لنا طريق الخير، والرشاد، والهداية، قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وأيضًا حضنا ورغبنا، وبين لنا كل وسيلة توصلنا إلى الطريق السوي الذي يسيرُ بنا إلى الجنة، وبيَّن طريق الشر والغواية، وحذرنا منه، وبين أنه طريق يوصل إلى جهنم -وبئس المصير-.
فلا شكَّ أن الطيب مما أباحه اللَّه سبحانه وتعالى لنا، وبيَّنه لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو من الطيبات كما أنه يجوز للمحرم قبل إحرامه أن يتطيب؛ لكن لا ينبغي له أن يضع شيئًا على ردائه، ولا على إزاره؛ حتى لا يبقى أثر من ذلك بعد إحرامه وذلك احتياطًا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لِمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ وَأَجَازَهُ آخَرُونَ، وَمِمَّنْ كَرِهَهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنَ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمِمَّنْ أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ).
بعد أن عرفنا أنَّ الطيب مرغب فيه جملة؛ أما بالنسبة لمن يريد الإحرام؛ فإن التطيب قبل الإحرام وبعده لا يجوز؛ لأنه محظور من محظورات الإحرام، سواء كان في البدن، أو في الثوب، أو في الرأس، أو في أيِّ مكان آخر.
ولكن هل يجوز التطيب قبل لبس الإحرام أم لا؟
كرهه مالك
(1)
إذ رواه عن عمر
(2)
، وهو قول عثمان، وابن عمر
(3)
، وجماعة من التابعين
(4)
.
وأجازه جماهير العلماء فضلًا عن أبي حنيفة
(5)
، والشافعي
(6)
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 62)، قال:(و) حرم عليهما (تطيب). . .، إلا طيبًا يسيرًا (باقيًا) في ثوبه، أو بدنه (مما) تطيب به (قبل إحرامه) فلا فدية عليه، وإن كره.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 223)، قال: عن نافع، عن أسلم مولى عمر؛ أنَّ عمر وجد ريح طيب وهو بذي الحليفة، فقال: ممَّن هذا؟ فقال معاولة: مني، فقال: أمنك لعمري؟!! قال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، فإن أم حبيبة طيَّبتني وأقسمت عليَّ، قال: وأنا أقسم عليك لترجعن إليها فلتغسلنه عنك كما طيبتك، قال: فرجع إليها حتى لحقهم ببعض الطريق.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 225)، قال: ابن عمر يقول: لأن أصبح، يعني: مطليا بقطران، أحب إليَّ من أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا.
(4)
ورد عن ابن سيرين، وعطاء، وابن جبير، يُنظر: مصنف ابن أبي شيبة (8/ 224)، قال: عن محمد؛ أنه كان يكره أن يتطيب الرجل عند إحرامه، وعن الحسن؛ مثل ذلك، ويحب أن يجيء أشعث أغبر.
وعن عطاء: أنه كره الطيب عند الإحرام، وقال: إن كان به شيء منه فليغسله ولينقه.
وعن سعيد بن جبير: أنه كان يكره للمحرم حين يحرم أن يدهن بدهن فيه مسك أو أفواه أو عبير.
(5)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 345)، قال:(قوله: وتطيب)؛ أي: يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل الإحرام، أطلقه فشمل ما تبقَّى عينه بعده كالمسك والغالية، وما لا تبقَّى.
(6)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (85)، قال:(ويسن الغسل للإحرام،. . .، وأن يطيب بدنه للإحرام وكذا ثوبه في الأصح، ولا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا بطيب له جرم، لكن لو نزع ثوبه المطيب ثم لبسه، لزمه الفدية في الأصح).
والثوري، وأحمد
(1)
، وأبو داود؛ لأنه قد ثبت ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صراحة.
وإذا عرضنا سنة رسول صلى الله عليه وسلم وهو القائل: "خذوا عني مناسككم"
(2)
، وجدنا أنَّ الأحاديث الصحيحة تبيِّن أنَّ الرسول تطيَّب لإحرامه كما ورد في حديث عائشة المتفق عليه قالت:"كنت أُطيِّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت"
(3)
.
وجاء في الحديث الآخر: "كان يُرى الطيب في مفرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
وفي رواية: "لمعانه في مفرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(5)
.
وعلى ذلك فقد ثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطيَّب للإحرام، وكانت تطيِّبه عائشة، رضي الله عنهما فدل ذلك على جوازه قبل الإحرام.
فالطيب مما يجوز استدامته من قبل الإحرام، ولا يجوز ابتداعه يعني: إحداثه بعده، فلو بقيت رائحة في البدن؛ فإنه يستمر معه، لكنْ شريطة أن يكون قبل الإحرام.
* قوله: (وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ رحمه الله مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
(6)
، وَفِيهِ: "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 410)، قال:(و) يستحب أنْ (يفعل عند إحرامه) من مكة أو قربها (ما يفعله محرم من ميقات من غسل وغيره)؛ أي: تنظف وتطيبٌ في بدنه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (2796).
(4)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 84)(3768)، عن عائشة قالت:"طيَّبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، فرأيت الطيب في مفرق رأسه بعد ثلاث، وهو محرم".
(5)
أخرجه البخاري (271)، ومسلم (2802)، عن عائشة، قالت:"كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
(6)
أخرجه البخاري (4329)، ومسلم (2770).
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةٍ مُضَمَّخَةٍ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تُضَمَّخُ بِطِيبٍ؟ فَأُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ عَنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ مَا شِئْتَ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ" اخْتَصَرْتُ الْحَدِيثَ، وَفِقْهُهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرْتُ).
الحجة التي تمسَّك بها الإمام مالك، ومن معه من بعض الصحابة، والتابعين هو الأثر المذكور السابق وفيه: إنه لما تضمخ ثوب الرجل في الطيب بعد أن كان محرمًا، ثم بقيت آثاره الواضحة على جبته التي يلبسها؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة مطلقًا، وبغسل الطيب ثلاث مرات؛ مما يدل على كراهة ذلك، ولو كان جائزًا؛ لما أمره بغسل الثوب ثلاثًا، وبنزع الجبة التي ضُمِّخت بالطيب، أما قبل ذلك فهذا أمر جائز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الطَّرِيقِ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ").
وحجة الفريق الثاني: وهو ما ذكرنا آنفًا من جواز الطيب هذا الحديث السابق الوارد في (الموطأ)
(1)
وهو في (الصحيحين) أيضًا: "كنت أطيِّب رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قيل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت"
(2)
، وفي رواية الصحيحين: "كنت أطيِّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(920).
(2)
لم أقف عليه بلفظ: (كنت أطيب رأس).
قبل أن يحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت"
(1)
.
وهذا مما يدل على جوازه، إذ لو كان مكروهًا لرفضه صلى الله عليه وسلم، وهذا عليه جماهير أهل العلم كما سبق.
* قوله: (وَاعْتَلَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ -وَقَدْ بَلَغَهَا إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ تَطَيُّبَ الْمُحْرِمِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ-: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا"، قَالُوا: "وَإِذَا طَافَ عَلَى نِسَائِهِ اغْتَسَلَ، فَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ رِيحِ الطِّيبِ لَا جِرْمُهُ نَفْسُهُ").
وأراد الفريق الثاني رفع هذا الاختلاف بما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
(2)
.
إذ بلغها إنكار عبد اللَّه بن عمر عن تطيب المحرم قبل إحرامه فقالت: رحم اللَّه أبا عبد الرحمن -بالدعاء له- ثم انكرت ما ذهب إليه؛ بأنها كانت تطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف على نسائه، ثم يُصبح محرمًا، وهذا أيضًا مروي في البخاري
(3)
؛ فيبقى عليه أثر ريح الطيب لا جِرْمه وأثره.
نفرض جدلًا: لو أنَّ إنسانًا وضع طيبًا في رأسه قبل الإحرام، ثم مشى في مكانٍ شديد الحرارة؛ فسال الطيب على بدنه، أو على إحرامه فلا بأس بذلك ولا يضر؛ لأنَّ هذا مما يجوز استدامته لا ابتداءه فلم يبتدئ بهذا الطيب أولًا إنما كان موجودًا في بدنه، وهذا لا يضر.
* قوله: (قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا
(1)
أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (2796).
(2)
أخرجه البخاري (267)، ومسلم (2813).
(3)
تقدَّم تخريجه.
لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ ابْتِدَاؤُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، مِثْلَ لُبْسٍ الثِّيَابِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِصْحَابُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ
(1)
، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَذَلِكَ).
بينما استدل الفريق الأول القائل بالكراهه بدليل عقلي وهو: "أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم، مثل لبس الثياب، وقتل الصيد؛ لا يجوز له استصحابه وهو محرم فكذلك الطيب لا يجوز ابتداؤه، ولا استصحابه".
الرد على ذلك: أنَّ الطيب ليس كما ذكرتم؛ وإنما يجوز له استصحابه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استصحبه، واللَّه تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 22] وكان يرى يبس الطيب ولمعانه في مفرق رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفرق رأسه
(2)
.
* قوله: (فَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْحُكْمِ).
في الحقيقة ليس هناك تعارض: لأنَّ قصة الرجل السائل الذي تضمخ ثيابه في الطيب؛ إنما كان هذا بعد إحرامه، أما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان قبل الإحرام فلا تعارض بينهما، ونحن نقول: لا يجوز للمحرم أن يتطيب بعد دخوله في النسك، كما كان ذلك في الرجل السائل الذي تضمخ ثيابه وهو محرم فأمره الرسول بغسل الثوب ونزعه، أما إذا كان الطيب قبل إحرامه وبقي أثره؛ كما ثبت ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا حرج في ذلك كما ثبت ذلك عن السيدة عائشة، وبذلك يسقط ما ظاهره التعارض في الآثار.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
أخرجه البخاري (3558)، ومسلم (6132)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَتْرُوكُ الثَّالِثُ فَهُوَ مُجَامَعَةُ النِّسَاء).
المحظور الرابع على التعيين: هو مجامعة النساء؛ لأنه تكلم عن تغطية الرأس، وعن لبس المخيط، وعن الطيب.
نهى اللَّه سبحانه وتعالى عن مجامعة النساء، فقال تعالى ذكره:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، والرفث هو:(الجماع) وهو من أشد الأعمال المحظورة حرمة للمحرم؛ لأنه إن جامع قبل التحلل الأول؛ فإنه في هذه الحالة يُطَالب بأمورٍ أربعة:
1 -
عليه الإثم والوزر.
2 -
فسد حجه في هذا العام.
3 -
عليه الفدية، وهي: ذبح بدنة.
4 -
يطالب بحجٍّ غيره في العام المُقبل.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
(1)
عَلَى أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ عَلَى الْحَاجِّ حَرَامٌ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]).
ولا يختلف الحجُّ الواجب عن غيره؛ حيث لا يجوز للمسلم بعد أن يدخل في النسك أن يجامع زوجته حتى يتحلَّل التحلُّل الثاني، فليس له أن يجامع بعد التحلل الأول؛ لكنه لو جامع بعده لا يفسد حجه لكن يطالب بدل البدنة بذبح شاة، ويذهب ليحرم مرة أُخرى؛ لأنه أفسد إحرامه من الميقات، وبعد ذلك يطوف طواف الإفاضة.
(1)
الإجماع لابن المنذر (ص: 64)، قال:(وأجمعوا على أنَّ المحرم ممنوع من: الجماع،. . .)، وقال: وأجمعوا على أنَّ من جامع عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفة أنَّ عليه حجَّ قابل والهدي.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَمْنُوعُ الرَّابِعُ: فَهُوَ إِلْقَاءُ التَّفَثِ وَإِزَالَةُ الشَّعَرِ وَقَتْلُ الْقَمْلِ).
جمع المؤلف أُمورًا عدة، وكلها من محظورات الإحرام، من إلقاء التفث، وإزالة الشعر، وقتل القمل.
والقصد من إلقاء التفث هنا: هو الاغتسال، وليس المراد تنقية البدن، وتنظيفه؛ فلقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أمورًا من الفطرة، ومنها:"قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة"
(1)
، وفي حديث آخر عند مسلم
(2)
، وغيره
(3)
"أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقّتَ لذلك أربعين ليلة"؛ أي: لا ينبغي للمسلم أن يتأخر في ترك تلك الأُمور، وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، فلا تتجاوز مدة أربعين يومًا.
فالإنسان مطالب بإزالة التفث عندما يريد أن يدخل في الإحرام؛ فليزل شاربه إذا كان طويلًا، وربما يزيد شعره في بعض المواضع فتخرج عنه رائحة غير طيبة؛ فينبغي أن يحتاط لذلك؛ لأنَّ المسلم إذا دخل في نسك من الأنساك، ينبغي أن يكون على شعث؛ فلا يأخذ شيئًا من شعره، ولا من أظفاره؛ لأن هذا يُسمَّى (بالتنعم والترفه) عند الفقهاء.
وقد اختلف العلماء متى يحرم أهل مكة بالحج:
بعض العلماء
(4)
يقولون: أنهم يحرمون عند دخول أول شهر ذي
(1)
أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (518)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط".
(2)
أخرجه مسلم (520)، عن أنس بن مالك، قال: -قال أنس-: "وقَّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة".
(3)
أخرجه أبو داود (4200)، والترمذي (2759)، وغيرهما.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 21)، قال:(ووقته)؛ أي: ابتداء وقته بالنسبة =
الحجة عندما يهل الشهر عليهم؛ وذلك ليوافق (الأفاقين) في ذلك وهم الذين يأتون من سفر بعيد؛ لأنَّ الذي يأتي من سفر بعيد تلحقه مشقة ويصبه شعث؛ فينبغي أن يوافقوهم في شيءٍ من ذلك.
وبعضهم
(1)
يقول، وهم الأكثر: يحرمون كغيرهم في السنة من اليوم الثابت.
(إزالة الشعر) قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196]، قد يظن البعض أنه إذا وقع في أي أمر من هذه الأُمور، ليس عليه إلا أن يذبح دمًا، لكنه من الناحية الفقهية إذا لم يجد الدم فله أن يصوم ثلاثة أيام، وله أن يطعم ستة مساكين؛ كل مسكين نصف صاع؛ لأن اللَّه تعالى يقول:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فهذا نصٌّ في حلق الرأس بعد الإحرام.
وللحديث الوارد في ذلك وهو: "أن كعب بن عُجْرة كان القمل يتناثر من رأسه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن الوجع قد بلغ بك ما بلغ -إذ كان شعره مليءٌ بالقمل فتأثر بذلك- فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بحلق شعره، وأن يذبح شاة إن كان قادرًا، أو يصوم ستة أيام، أو أن يطعم ثلاثة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر"
(2)
، ولا بد أن نفرق بين أمرين، الأول: حلق الشعر. والثاني: ما يتعلَّق بالقمل.
= (للحج شوال) لفجر يوم النحر ويمتد زمن الإحلال منه (لآخر الحجة)،. . .، والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول الحجة على المعتمد، وقبل يوم التروية.
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 537)، قال:(قوله يوم التروية) لأنه يوم إحرام أهل مكة.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 578)، قال:(يسن لمحل بمكة وبقربها ولمتمتع: حل) من عمرته (إحرام بحج في ثامن ذي الحجة وهو يوم التروية) لحديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
(2)
أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (2848).
(قتل القمل):
قتل القمل ليس فيه شيء؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالفدية في مقابل حلق شعره، وبعض العلماء ذهب إلى كراهة ذلك؛ لكن ليس فيه فدية؛ لذلك فرق اللَّه تعالى بين الشعر، وبين القمل.
ونصَّ سبحانه وتعالى على شعر الرأس فقط، ومع ذلك نجد العلماء ألحقوا به جميع الشعر فلا يأخذ من عانته شيئًا، ولا من شاربه، ولا من إبطه، ولا أي مكان في بدنه؛ إذ ألحقوه بالرأس قياسًا عليه.
(" تقليم الأظافر"):
هذا لم يرد فيه نص، ولكن العلماء قالوا بعدم جوازه للمحرم؛ فإن قلَّم المحرم أظفارَه؛ فإنَّ عليه الفدية التي ورد النص عليها في الآية السابقة كالشعر، وهو أن يذبح دمًا، فإن لم يجد فله أن يصوم ثلاثة أيام، وله أن يطعم ستة مساكين؛ كل مسكين نصف صاع قال تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
قد يرد سؤالٌ وهو ربما يقص المحرم ظفرًا من أظفاره، أو يقلع شعرة، أو شعرتين، أو ثلاثة، أو عشرًا. فهل في هذا فدية؟
الجواب: لا، وهو ما يحصل به رفع الأذى، وهو ما يسميه الفقهاء (بإماطة الأذى)؛ أي: إبعاده فهو عادة ما يحصل ويقع، إذ يحرم على المسلم أن يأخذ شيئًا من أظفاره، أو شيئًا من شعره.
وبعض العلماء قال: من حلق ثلاث شعرات؛ عليه فدية؛ وبعضهم قال: أربع شعرات، وبعضهم قال: خمس شعرات، وبعضهم قال: ربع الرأس، وبعضهم قال: أكثر من ذلك، أو أقل.
هذه أقوال كثيرة ليس عليها نص إذ أنَّ اللَّه تعالى بين الحكم في الآية فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [االبقرة: 196]. والرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بأن يحلق رأسه جميعًا؛ لكنْ من باب الحيطة
وتجنبًا للخلاف لا ينبغي أن يؤخذ شيء من الرأس، لا قليل ولا كثير، خروجًا من الخلاف.
* قوله: (وَلَكِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ).
أما الجنابة فهي أمر متعين، وليس فيه خلاف
(1)
، وكذلك المرأة الحائض مثل الجنب تمامًا، إذ لا يجوز للرجل إذا كان جنبًا أن يصلي إلا أن يتطهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل اللَّه صلاةً بغير طهور"
(3)
، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فغسل الجنابة واجب بنص الآية، فمن كانت عليه جنابة فلا خلاف بين العلماء في وجوب الغسل عليه، وأنه متعين؛ لكنَّ الإنسان في هذه الحالة -وهو في حالة الإحرام- ينبغي أن يتمهل في دعك رأسه، وفي أظافره، حتى لا يتساقط شيء من الشعر فيقع في المحظور، واختلف العلماء في ذلك
(4)
، والخروج من الخلاف مستحب.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهِيَةِ غُسْلِهِ مِنْ غَيْرِ الْجَنَابَةِ).
اختلف الفقهاء في غسل المحرم رأسه من غير الجنابة، هل يغسل المحرم رأسه من غير الجنابة أم لا؟
الجواب: لا بأس بذلك؛ فإنه ثبت عن بعض السلف أنه اغتسل من غير الجنابة وسيأتي حديث أبي أيوب فيما بعد.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 67)، قال: وأجمعوا على أنَّ للمحرم أن يغتسل من الجنابة.
(2)
أخرجه البخاري (135)، ومسلم (457).
(3)
أخرجه مسلم (455)، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد اللَّه بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض فقال: ألا تدعو اللَّه لي يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول".
(4)
سيأتي ذكره.
والصحيح أنه يجوز للإنسان أن يغتسل من غير الجنابة؛ لكن عليه أن يتمهل في دعك الأعضاء وفي فرك الرأس، حتى لا يؤدي ذلك إلى سقوط الشعر.
* قوله: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا بَأْسَ بِغَسْلِ رَأْسَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: بِكَرَاهِيَةِ ذَلِك وَعُمْدَتُهُ: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْن عُمَرَ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا مِنَ الِاحْتِلَامِ").
ذهب الجمهور وهم الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد)
(3)
إلى جواز غسل رأس المحرم، وهو الأولى، والأقرب إلى سماحة الشريعة الإسلامة؛ فإنَّ الحجَّ أحيانًا يكون في أيام الصيف، وهناك أملاح تخرج من البدن، وكذلك العرق فيتراكم عليه ذلك فتخرج منه روائح غير طيبة، فينبغي للمسلم أن يغتسل؛ لكن عليه أن يحافظ على هذا الغسل، وأن يكون برفقٍ ولينٍ.
بينما ذهب الإمام (مالك)
(4)
إلى كراهة غسل الرأس حالة الإحرام وحجته: "أنَّ ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرمٌ إلا من الاحتلام"
(5)
.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 349)، قال:(قوله: لا الاغتسال ودخول الحمام)؛ أي: لا يتقيهما لما روى مسلم: "أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 509)، قال:(فرع للمحرم غسل رأسه بالسدر) أو نحوه في حمام أو غيره (من غير نتف شعره)؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل، وهو محرم".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 538)، قال:(ويباح) لمحرمٍ (غسل شعره بسدرٍ ونحوه) نصًّا في حمَّام وغيره بلا تسريح واحتج في رواية أبي داود بالمحرم الذي وقصته راحلته، ولأنَّ القصد منه النظافة وإزالة الوسخ كالأشنان، وله أيضًا حك بدنه ورأسه برفق؛ ما لم يقطع شعره.
(4)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 84)، قال:(و) كره (غمس رأس) في ماءٍ خيفة قتل الدواب (لغير غسل طلب) وجوبًا أو ندبًا أو استنانًا.
(5)
أخرجه مالك في "الموطأ"(904).
ومع ذلك فقد أثر أيضًا "عن عبد اللَّه بن عمر وعن أبيه رضي الله عنهما أنهما يريان الغسل"
(1)
؛ كما ذهب إلى ذلك الجمهور.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأَسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، قَالَ: فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصارِيِّ قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ كيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَتَطَأْطَأَ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ").
وحجة الجمهور إلى ما ذهبوا إليه من جواز غسل رأس المحرم: ما رواه مالك
(2)
عن عبد اللَّه بن جبير أن عبد اللَّه بن عباس وهو ابن عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمسور بن مخرمة، وهو أيضًا صحابي إذ حصل بينهما خلاف في: هل يغسل المحرم رأسه لغير الجنابة أم لا؟ فقال ابن عباس: يغسل رأسه، وقال المسور: لا يغسل رأسه، فأرادا أن يحكم في ذلك أبو أيوب الأنصاري لعلمهما بأنه يعلم شيئًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبعثا إليه ابن جبير فسأله أبو أيوب. فقال ابن جبير: أرسلني إليك ابن عباس، قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو وضع شيء مقابل شيء، ولف عليهما ثوبًا ليستره وهو
(1)
أخرجه الشافعي في "الأم"(2/ 225)، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر: (تعال أماقلك في الماء أينا أطول نفسًا، ونحن محرمان). وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. انظر: "إرواء الغليل"(1021).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(901)، وأخرجه البخاري (1840)، ومسلم (2860).
يغتسل، فجاء إليه الرسول فبلغه الرسالة؛ فما كان منه إلا أن أراه ذلك تطبيقًا عمليًّا، إذ أخرج رأسه من الثوب وهو معني قوله: تطأطأ أي: مال حتى ظهر له رأسه ليرى كيف يصنع في غسل رأسه، وأمر الذي يصب عليه الماء وهو خادمه أن يصب، فدلك رأسه وهو محرم فبين له كيف يغسل ذلك، وهذا حجة للجمهور، وليس ذلك في غسل الجنابة كما علل البعض
(1)
.
إذًا؟ أبو أيوب رأى ذلك الفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرم، ثم في النهاية بيَّن له ذلك، ووضَّحه تطبيقًا عمليًّا أن هذا هو غسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والسنة إما نقلت إلينا قولًا، أو فعلًا، أو تقريرًا، ومعلوم أنَّ عددًا من الصحابة رضي الله عنهم كعثمان
(2)
، وعلي
(3)
رووا لنا وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا فهذا الذي مضى من أبي أيوب مما ورد إلينا فعلًا، ويلزم أن رأى ذلك من رسول صلى الله عليه وسلم ونقله.
* قوله: (وَكَانَ عُمَرُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَقُولُ: "مَا يَزِيدُهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ)
(4)
.
(1)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 19)، قال: ويحمل حديث أبي أيوب عند مالك: أنه ربما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه من الجنابة محرمًا، فلا يكون عليه فيه حجة، وعند غيره يحمله على العموم والظاهر؛ لأنه لم يجر في الحديث لواحد منهم ذكر الجنابة. ومحال أن يختلف عالمان في غسل المحرم وغير المحرم رأسه من الجنابة.
(2)
وأخرجه البخاري (159)، ومسلم (458).
(3)
وأخرجه أبو داود (111)، عن عبد خير، قال: أتانا علي رضي الله عنه، وقد صلى فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور، وقد صلى ما يريد، إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثًا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثًا، فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثًا، وغسل يده اليمنى ثلاثًا، وغسل يده الشمال ثلاثًا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثًا، ورجله الشمال ثلاثًا، ثم قال: من سرَّه أن يعلم وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو هذا. وقال الألباني: إسناده صحيح. انظر: "صحيح أبي داود"(100).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(902)، وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"(1020).
هذا هو حجة الذين يقولون: بأنَّ المحرم لا يغسل رأسه؛ لأن المحرم مطالبٌ بألا يكون متنعمًا أشعث أغبر هذا هو المراد؛ لأن الإنسان عندما يغسل رأسه، وينظف نفسه فإنه بذلك يكون كغير المحرم، والغاية من الإحرام أن يكون المحرم على صفة لا يكون عليها غير المحرم؛ لأنَّ المحرم إنما هو في سفر وفي جهاد، فينبغي أن يكون على حالة هو فيها إلى المسافر أقرب منه إلى الحاضر، لكننا إذا ألقينا نظرة واسعة إلى عموم ما في هذه الشريعة من التوسعة؛ لوجدنا أنَّ المحرم يتلذذ بهذه الطيبات فهو يأكل ما يشتهي من الفواكه، ومن الخضروات، ومن اللحوم، وغيرها، مما لم يمن عليه من الصيد فذلك كله من الترفه، وعلَّل العلماء
(1)
بأنَّ المنع من الأخذ من حلق شعر الرأس، وكذلك التطييب، وكذلك تقليم الأظفار؛ لأن فيه ترفعًا وتنعمًا، لكن هذه جاءت فيها نصوص، والذي لم يرد فيه نص ألحق بغيره؛ لوجود علة تجمع بينهما ومعلوم أنه قد يكون الملحق وهو الفرع أقوى من الأصل؛ أي: تكون العلة الموجودة في الفرع أقوى من وجودها في الأصل، وقد تكون مساوية، وقد تكون دون ذلك، ومعلوم أنَّ القياس
(2)
المعتبر إنما هو قياس العلة
(3)
؛ أما قياس
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 324)، قال: إذ حلقه يؤذن بالرفاهية، وهو ينافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر، وقيس على الحلق النتف والقلع؛ لأنهما في معناه.
(2)
القياس: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما، وقيل: إثبات مثل الحكم في غير محله لمقتض مشترك، وقيل: تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره بجامع مشترك، ومعانيها متقاربة، وقيل غير ما ذكر.
ويقسم بعدة اعتبارات: باعتبار قوته وضعفه: ويقسمه إلى جليٍّ وخفيٍّ.
وباعتبار ذكر العلة فيه وعدم ذكرها، ويقسمه إلى: علة، ودلالة، ومعنى.
وباعتبار درجة الجامع في الفرع، ويقسمه إلى: كون الجامع في الفرع أقوى منه في الأصل، وكون الجامع في الفرع مساويًا له في الأصل، وكون الجامع في الفرع أدون منه في الأصل. يُنظر:"شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 218)، و"البحر المحيط في أصول الفقه" للزركشي (7/ 48).
(3)
قياس العلة: وهو أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علق الحكم عليها في الشرع، ويُسمَّى: قياس المعنى، وينقسم إلى: جلي وخفي. يُنظر: "البحر المحيط في أصول الفقه" للزركشي (4/ 33).
الشبه
(1)
، وقياس الاعتبار فهما ضعيفان.
وهذا الأثر صحيح رواه الإمام مالك
(2)
، ورواه مسلم، ورواه الجماعة
(3)
إلا البخاري.
* قوله: (وَحَمَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ).
حديث أبي أيوب
(4)
فيما يتعلَّق بغسل رأس المحرم لا في الاغتسال من الجنابة كما حمله الإمام مالك، فالاغتسال من الجنابة ليس محل خلاف بين العلماء؛ بل هو إجماع
(5)
، ومتعين، ولذلك جاء في مقدمة القصة". أنهما اختلفا فيما يتعلَّق بغسل المحرم لرأسه، ونص على الرأس؛ لأنه هو الأهم، وربما الذي يتساقط منه الشعر هو بقية البدن، وأما الرأس فإنه لا يتساقط نتيجة الغسل في الغالب.
* قوله: (وَالْحُجَّةُ لَهُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِ
(1)
قياس الشبه: قيل: إلحاق الفرع المتردد بين أصلين بما هو أشبه منهما؛ كالعبد المتردد بين الحر والبهيمة، والمذي المتردد بين البول والمني. يُنظر:"شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 424).
(2)
تقدَّم ذكره، وتصحيح الألباني له.
(3)
لم يروه مسلم، ولا الجماعة، وإنما رواه مالك في "الموطأ"، والشافعي في "مسنده"(1/ 309)(802).
(4)
أخرجه البخاري (1840)، ومسلم (2860)، لمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد اللَّه بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني عبد اللَّه بن العباس إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد اللَّه بن حنين، أرسلني إليك عبد اللَّه بن العباس، أسألك كيف كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.
(5)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 67)، قال: وأجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة.
الْقَمْلِ وَنَتْفِ الشَّعَرِ وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ -وَهُوَ الْوَسَخُ-)
(1)
.
هذه مسألة طال فيها الكلام بين العلماء: لو أنَّ إنسانًا عليه شعر كثير، وفيه قمل، وتضرر من هذا القمل فإنه يحلق رأسه
(2)
؛ لكن لو قتل القمل؛ بأن أخذ دواءً فقتله في رأسه، أو جاء بالأمشاط الجديدة الآن التي تسقط القمل وبسبب ذلك؛ قلّ القمل بين الناس؛ ولكن قد يوجد من بين الناس من يعيش مثلًا في مناطق معينة يكثر فيه القمل وهو موجود، وإن كان الناس الآن يعتنون بشعورهم ثم يندر أن تجد إنسانًا فيه القمل؛
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 64، 65، 68)، قال: وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من: الجماع، وقتل الصيد، والطيب، وبعض اللباس، وأخذ الشعر، وتقليم الأظفار.
وقال: وأجمعوا على أن الْمُحرم ممنوع من: حلق رأسه، وجزه، وإتلافه بِجز، أو نورة، أو غير ذلك.
وقال: وأجمعوا أن للْمُحرم دخول الحمام، وانفرد مالك، فقال: إن ذلك الوسخ افتداء.
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 557 - 558)، قال:(وإن طيب أو حلق) أو لبس (بعذر) خير إن شاء (ذبح) في الحرم (أو تصدق بثلاثة أصوع طعام على ستة مساكين) أين شاء، (أو صام ثلاثة أيام) ولو متفرقة.
قال ابن عابدين: (قوله: بعذر). . .، جميع محظورات الإحرام إذا كان بعذر ففيه الخيارات الثلاثة. . .، ومن الأعذار الحمى والبرد والجرح والقرح والصدع والشقيقة والقمل، ولا يشترط دوام العلة ولا أداؤها إلى التلف، بل وجودها مع تعب ومشقة يبيح ذلك.
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 64)، قال:(و) قتل (قملة) واحدة (أو قملات) عشرة فدون حفنة، ولإماطة الأذى فدية كأن زادت عن عشرة (وطرحها)؛ أي: القملة.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 510)، قال:(فرع. وإن حلق لأذى قمل أو جراحة) أو نحوهما كحر ووسخ (جاز) للعذر (وفدى) لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الآية. قال الإسنوي: وكذا كل محرم أبيح للحاجة تجب فيه الفدية.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 324)(وإن حصل أذى بغير شعر كمرض وحر وقمل وصداع وقرع أزاله)؛ أي: الشعر، (وفدى).
لكنه موجود، فهل يجوز له أن يقتله أو يقتل بعضه؟ ولو قتله هل فيه شيء؟
الصحيح أنه ليس فيه فدية؛ لكن العلماء يختلفون
(1)
فيما لو أخذ قملة، أو قملتين وقتلهما.
بعضهم يقول: يخرج عن القملة تمرة، وبعضهم يقول: يخرج حفنة من طعام، وبعضهم يقول: يخرج ملء الكف.
وسبب اختلافهم: أنه لم يرد فيها نص صريح؛ إلا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أَذِن لكعبٍ
(2)
أن يحلق رأسه؛ إنما أمره بأن يفدي مقابل حلق الرأس لا مقابل ذلك القمل الذي زال، وربما بعضه مات أثناء حلق الرأس.
* قوله: (وَالْغَاسِلُ رَأْسَهُ هُوَ إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذِهِ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ غَسْلِهِ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ).
الخطمي: هو ما يعرف عند الفقهاء شبيه (بالسدر)، وهو الآن مثل الصابون، والشامبو، إذ تغيرت الأحوال وكثرت الأُمور التي ينظف بها
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 491)، قال:(قوله: يتصدق بشيء)؛ أي: كتمرة وكسرة خبز (قوله: وفي الثلاث)؛ أي: من الشعر والقمل.
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 64)(و) قتل (قملة) واحدة (أو قملات) عشرة فدون حفنة.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 179)، قال: مؤذ يندب قتله كنمر ونسر وكالقمل، نعم يكره التعرض لقمل شعر اللحية والرأس خوف الانتتاف ويسن فداء الواحدة ولو بلقمة.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 343)، قال:(ويحرم) على محرم. . . (ب) سبب (إحرام، لاب) سبب (حرمة، قتل قمل وصئبان) من رأسه أو بدنه أو ثوبه، (ولو بزئبق، و) يحرم (رميه)؛ لما فيه من الترفه بإزالته، أشبه قطع الشعر، (ولا جزاء فيه)؛ أي: القمل؛ لأنه لا قيمة له، ولأنه ليس بصيد، ولا يحرم قتل براغيث، ودلم وبق، ونحوها من الحشرات المؤذية.
(2)
تقدَّم تخريجه.
الإنسان بدنه، وكما سبق أن ما فيه عطر أصلًا؛ لا ينبغي للمسلم أن يقربه كمثل:(الصابون والشامبو المعطر) لكن هذه الأُمور التي تنقي الرأس، وتنقي البدن، هل يجوز للإنسان أن يغتسل بها؟
العلماء نصوا على الخطمي، وبعضهم أضاف إليه ورق السدر، والسدر: هو ورق شجر معروف، يستخرج منه نوع صغير يؤكل، وهو معروف حتى وقتنا هذا.
والخطمي بالفتح أو بالكسر للخاء هو: نبات كان يجففه الناس قديمًا حتى إذا ما جفَّ سحقوه ثم وضعوه في ماء. قالوا: فإذا غُسل به الرأس، والبدن؛ فإنه ينقي البدن، وينظفه، ويرفع الوسخ عنه، وربما قتل القمل فهو يستخدم في الترفع فهل يجوز أستعماله أم لا؟ والسدر بعض العلماء يلحقه بالخطمي؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نص بالنسبة للسدر بجوازه فقال في قصة الذي وقصته دابته:"ولا تمسوه طيبًا؛ اغسلوه بماء وسدر"
(1)
، فإنه نص على أنه يغسّل بماء وسدر، ولذلك اقتصر بعضهم عليه؛ أما الخطمي فلا؛ لأنَّ فيه ترفعًا.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ افْتَدَى، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ).
اختلف الفقهاء في استعمال الخطمي للمحرم:
1 -
ذهب الإمام (مالك
(2)
، وأبو حنيفة
(3)
، ورواية عند
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (351/ 2) قال: (ص) إلا غسل يديه بمزيله (ش)؛ أي: من غير طيب كحرض بضمتين آخره ضاد سند وهو الغاسول والأشنان والصابون وكل ما ينقي الزفر ويقطع ريحه، أو خطمي وهو بزر الخبيزي سند. . .، وأخرج بيديه رأسه ففي غسله بما ذكر الفدية. وانظر: المدونة (1/ 413).
(3)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 349)، قال:(قوله وغسلهما بالخطمي)؛ أي: وليجتنب غسل رأسه ولحيته بالخطمي. . .، ووجوب اجتنابه متفق عليه، لكن يجب عليه دم، إذا لم يجتنبه عنده؛ لأنه نوع طيب، وعندهما صدقة؛ لأنه يقتل الهوام، =
أحمد
(1)
) إلى المنع، وإذا فعله ففيه فدية.
2 -
وذهب (أبو ثور
(2)
، والشافعي
(3)
، والرواية الأُخرى للإمام أحمد
(4)
) إلى أنه لا ينبغي أن يفعله؛ لكن لو فعله لا فدية فيه.
وعلى ذلك الأشياء المنظفة للبدن؛ الأَولى بالمسلم أن يجتنبها. إذ لو أخذنا بهدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحج كل واحد منا متمتعًا لا تحتاج إلى مثل هذه الأمور؛ لأن الإنسان سيحرم من الميقات، فإذا وصل إلى مكة كل ذلك سيقضيه في يوم، أو في ساعات قليلة سيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقصر أو يحلق، ويفعل ما يفعله المحل حتى مجامعته أهله فإذا ما جاء اليوم الثامن؛ يحرم من مكة ويخرج إلى منى فيبقى اليوم الثامن، واليوم التاسع، وفي اليوم العاشر يتحلل التحلل الأول، ثم بعد ذلك يلبس ملابسه ويصبح حلالًا، لا يبقى عليه إلا النساء فإذا طاف بالبيت تحلل من كل شيء. فاللَّه سبحانه وتعالى لا يأمرنا بأمور فيها مشقة؛ إنما يأمرنا بعبادة، وأن المشقة قد رفعت، وأن اليسر مصاحب لها، وأن الحرج قد
= ويلين الشعر، وليس بطيب. . .، وقيد بالخطمي؛ لأنه لو غسل رأسه بالحرض والصابون لا شيء عليه باتفاقهم.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 460)، قال: (يجوز له غسل رأسه بسدر أو خطمي. . .، وذكر جماعة: يكره، وجزم به صاحب المستوعب، والمصنف في المغني، والشارح، وابن رزين في شرحه، وعنه: يحرم ويفدي .. . .، وعلى القول بالكراهة: حكى صاحب المستوعب، والمصنف، وغيرهما في الفدية: روايتين، وقدموا مذهب الوجوب. وقيل: الروايتان على القول بتحريم ذلك، فإن قلنا: يحرم فدى، وإلا فلا. قلت: وهو الصواب.
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 270)، قال: وكان مالك وأبو حنيفة يريان الفدية على المحرم إذا غسل رأسه بالخطمي، وقال أبو ثور: لا شيء عليه إذا فعل ذلك.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 296)، قال:(ولا يكره غسل بدنه ورأسه بخطمي)، ونحوه كسدر من غير نتف شعر؛ لأن ذلك لإزالة الوسخ، لا للتزين والتنمية، لكن الأولى تركه. . .).
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 460)، قال:(يجوز له غسل رأسه بسدر أو خطمي على الصحيح من المذهب. . .).
رفع عن هذه الأمة الذي كان موضوعًا على غيرها من الأمم، قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَمَّامِ فَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّ عَلَى مَنْ دَخَلَهُ الْفِدْيَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ).
ليس المتوهم من هذا هو تعليم دخول الحمام، بل القصد استخدام الحمام ليغتسل، إذ هناك مكان يعد للغاية وهو قضاء الحاجة، وهناك أماكن تعد فقط للاغتسال، وللوضوء، ومن هنا لا يأتي الخلاف إذ يختلف الوضع في ذكر اللَّه في هذه وفي هذه؛ فهل للإنسان أن يدخل الحمام؟
الجواب: ليس دخول الحمام محرمًا، ولا مكروهًا.
وهنا ذكر المحل وأريد الحال أي ذكر الحمام، وأراد الاغتسال. فهل يكره للإنسان أن يدخل الحمام ويغتسل؟
أكثر العلماء قالوا: لا، وبعضهم منع ذلك وكرهه:
1 -
فذهب الإمام (مالك) إلى: كراهة ذلك وفيه الفدية
(1)
؛ لأن فيه ترفعًا وهذا ينافي الشعث المطلوب من الحاج.
(1)
يُنظر: "حاشية على الشرح الكبير" للدسوقي (2/ 65)، قال:(قوله: ومجرد حمام)، أي: ومجرد صب ماء على جسده في حمام والمراد: ماء حار، وأما لو صب فيه ماءً باردًا فإنه لا شيء عليه، كما أنه لو دخله من غير غسل، بل للتدفي فلا شيء عليه كما في ح.
وحاصله: أن المحرم إذا دخل حمامًا وجلس فيه وعرق، ثم صب على جسده ماء حارًّا فإنه يلزمه الفدية؛ لأنه مظنة إزالة الوسخ سواء تدلك أم لا أنقى الوسخ أم لا، وهذه إحدى روايات ثلاث حكاها اللخمي واختار منها هذه الرواية، والثانية: يلزمه الفدية إن تدلك، والثالثة: إن تدلك وأنقى الوسخ، وهذه ظاهر المدونة. (قوله: والمعتمد مذهب المدونة) وإنما عدل المصنف عنه لاختيار عدة من الأشياء لما اختاره اللخمي لا لما فيها كذا قال بهرام.
2 -
بينما ذهب (الإمام أبو حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، والثوري
(3)
، وداود
(4)
، وأحمد
(5)
)، وجماهير العلماء: على أنه ليس فيه شيء، إذ لا دليل صريح عليه؛ فيبقى على الأصل وهو ألا شيء عليه.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُخُولُ الْحَمَامِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ).
روي ذلك عنه: "أنه كان في الجحفة فدخل الحمام وقال: ما يعبأ اللَّه بأوساخكم"
(6)
؛ أي: ما الذي سيفيده سبحانه وتعالى أن يبقى بدنك عليه أوساخ!!؟ وروي هذا من عدة طرق بعضهم ضعفها
(7)
، ولكن رواه الشافعي مرة عن سفيان
(8)
، وقال عنه ثقة. فهذا دليل للذين يقولون بالجواز.
(1)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 490)، قال:(قوله: لا يتقي الاستحمام إلخ) شروع في مباحات الإحرام وفي شرح اللباب: ويستحب أن لا يزيل الوسخ، بأي ماء كان، بل يقصد الطهارة أو رفع الغبار والحرارة (قوله لحديث البيهقي. . . إلخ) ذكر النووي أنه ضعيف جدًّا، وقال ابن حجر في شرح الشمائل: موضوع باتفاق الحفاظ، ولم يعرف الحمام ببلادهم إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
(2)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص: 92)، قال: ولا يكره غسل بدنه ورأسه بخطمي.
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 247)، قال: وإبراهيم النخعي قالا: لا بأس بدخول المحرم الحمام،. . . وسفيان الثوري.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 11)، قال: وكان الثوري والأوزاعي. .، وداود لا يرون بدخول المحرم بأسًا.
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 538)، قال:(ويباح) لمحرم (غسل شعره بسدر ونحوه) نصًّا في حمام وغيره بلا تسريح، واحتج في رواية أبي داود بالمحرم الذي وقصته راحلته، ولأنَّ القصد منه الخظافة وإزالة الوسخ كالأشنان، وله أيضًا حك بدنه ورأسه برفق، ما لم يقطع شعره. . .).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 550)(15016).
(7)
قال النووي في "المجموع"(7/ 352): فهذا ضعيف؛ لأنه من رواية (ابن أبي يحيى)، وهو ضعيف عند المحدثين.
(8)
أخرجه الشافعي في "الأم"(2/ 225)، (قال الشافعي): ولا بأس أن يدخل المحرم الحمام، أخبرنا الثقة -إما سفيان، وإما غيره- عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس أنه دخل حمام الجحفة وهو محرم.
ونقل أيضًا في الجحفة: "أنه جرى حديث بين عبد اللَّه بن عباس، وعمر بن الخطاب في الغطس في الماء للمحرم"
(1)
.
ومن هنا يأتي خلاف العلماء فيمن غاص في الماء وهو محرم، هل يعتبر ستر الماء تغطية لبدنه أم لا؟
والجواب: لا.
وهذا موجود في زمننا هذا وهو عندما تكون هناك بركة كبيرة، أو مسبح، أو في بئر، أو نهر، فيأتي فلان فيقول: ننزل في الماء أينا يستطيع أن يبقى داخل الماء أكثر؟ بمعنى: يتحمل ولا ينقطع نفسه، وهذه من الأُمور المباحة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون مثل هذه الأُمور، وليست هذه من الأُمور المخالفة، بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقًّا
(2)
، وكان يسابق صلى الله عليه وسلم، وسابق عائشة رضي الله عنها وسبقته في أول الأمر، فلما زاد لحمها سبقها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"هذه بتلك"
(3)
، فدين اللَّه يسر، ولن يشادَّ الدِّين أحدٌ إلا غلبه.
* قوله: (وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكْرَهَ دُخُولَهُ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ إِلْقَاءِ التَّفَثِ).
(1)
أخرجه الشافعي في "الأم"(2/ 225)، (قال الشافعي): أخبرنا سفيان عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر: (تعال أماقلك في الماء أينا أطول نفسًا، ونحن محرمان). وقال الألباني: إسناد صحيح على شرط الشيخين. انظر: "إرواء الغليل"(1021).
(2)
أخرجه الترمذي (1990)، عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول اللَّه، إنك تداعبنا، قال:"إني لا أقول إلا حقًّا". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديت الصحيحة"(1726).
(3)
أخرجه أبو داود (2578)، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال:"هذه بتلك السبقة". قال الألباني: إسناده صحيح، وصححه ابن حبان. انظر:"صحيح أبي داود"(2323).
يري المؤلف أنَّ الأولى والأحسن أن يتجنب المسلم دخول الحمام خروجًا من الخلاف، ونحن نقول: ما دام فيه خلاف، فلنبتعد عن مواضع الخلاف "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(1)
، وللقاعدة المشهورة:"الخروج من الخلاف مستحب"
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا الْمَحْظُورُ الْخَامِسُ فَهُوَ الِاصْطِيَادُ).
هذا هو المحظور السادس على حسب الطريقة التي بيناها وهو: الاصطياد. قصد المؤلف هنا بالصيد: هو قتل الصيد وهو محرم؛ لأن المحرم إما أن يصيد الصيد بنفسه، وإما أن يساعد علي صيده، فهناك قتل الصيد إذ قد يصيد المحرم بنفسه، وقد لا يصيد بنفسه لكن يعاون غيره؛ بأن يناوله سهمًا، أو نصلًا، أو رصاصة من الرصاصات ليطلقها على هذا الصيد، أو يعطيه رمحًا، أو قوسًا، أو غير ذلك من الأشياء التي يصيد بها، أو ربما يقول: يا فلان انظر إلى الصيد فهو هنا يرشده إليه هل يأكل في هذه الحالات أم لا؟
لقد أجمل المؤلف هنا ولم يفصّل؛ لأنَّ الإنسان قد يصيد مأكولًا، وقد يصيد غير مأكول؛ أي: قد يصيد مباحًا للأكل قبل الإحرام، وقد يصيد حيوانًا لا يأكل، كما لو صاد مثلًا ذئبًا، أو أسدًا، أو هِرًّا، أو غير ذلك، من الحيوانات التي لا تأكل.
فعلى ذلك ينقسم الصيد إلى قسمين:
الأول: ما يؤكل من الصيد.
(1)
أخرجه الترمذي (2518)، عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة". قال: وهذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).
(2)
يُنظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 253، وما بعدها)، و"الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 111 - 113)، و"المنثور في القواعد الفقهية" للزركشي (2/ 128)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 136).
الثاني: ما لا يؤكل منه.
فأما الذي لا يؤكل فقد قسمه العلماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جاء الأمر نصًّا بجواز قتله عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في الحديث المتفق عليه: "خمسٌ من الدواب كلهن فواسقٌ يُقتلن في الحلِّ والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور"
(1)
.
إذًا يقتلهن المحرم وغير المحرم، في الحرم وفي غير الحرم.
فهذه أُمور تختلف مع الناس، وأضرارها معروفة، وتندس بين الناس فيترتب عليها ضرر، إذ جاء الأمر بقتلها فيلحق بها أمثالها مثل الذئب وهو أشد ضررًا من الكلب، والأسد، والنمر، وكل حيوان يصول على الإنسان، كالحمار الوحشي مثلًا لو صال على إنسان فإنه يقتله، بل إنَّ الإنسان يدفع الإنسان الصائل عليه، فهذا لا إشكال عليه إذ جاء نصٌّ بقتله.
القسم الثاني: صيد نهي عن قتله الرسول صلى الله عليه وسلم: "نهى عن قتل الصُّرَدِ، وقتل النمل، وقتل الهدهد، وقتل الضفدع، وقتل النحلة"
(2)
، كما في صحيح مسلم
(3)
.
وهذه كلها حيوانات معروفة (النحلة) التي يؤخذ منها العسل (والنملة) هو هذا الحيوان الصغير جدًّا (والهدهد) معروف وصورته أكبر من العصفور بقليل يختلف عنه؛ بأن منقاره أحمر، هذه حيوانات نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها فيحرم.
(1)
أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (2833).
(2)
أخرجه أبو داود (5267)، عن ابن عباس، قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد". قال الألباني: إسناد صحيح على شرط الشيخين. انظر: "إرواء الغليل"(2490).
قال ابن الأثير: "أنه نهى المحرم عن قتل الصرد" هو: طائر ضخم الرأس، والمنقار، له ريش عظيم نصفه أبيض، ونصفه أسود. انظر:"النهاية في غريب الحديث"(3/ 21).
(3)
لم يخرجه مسلم.
القسم الثالث: حيوانات سكت عنها الشرع، مثل: الصراصير، وهي التي نجدها في المراحيض، وتدخل بيوت الناس، والخنفسة، والجعلان، والذباب، وغيره هل له أن يقتلها أم لا؟
والجواب: أن ما كان مؤذيًا من هذا يلحق بالقسم الأول الذي له ضرر وأذى، وما لا ضرر منه فلا يجوز قتله.
هذه مقدمة لم يتكلم عنها المؤلف، وإنما تكلم فقط عن الحيوان الذي يصاد ويؤكل حكمه؟
فيه اختلاف بين العلماء:
1 -
فمن العلماء من حرم الصيد على المحرم مطلقًا؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقال أيضًا في الآية الأُخرى، وفي نفس سورة المائدة:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
وفي قصة أبي قتادة: "أنه أهدى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما صاد"
(1)
.
2 -
ومن العلماء من أحل أكل الصيد مطلقًا.
3 -
ومنهم من أجازه مطلقًا لكن بشروط.
4 -
ومنهم من قال: يجوز إذا لم يصده هو، أو لم يُصدْ له، أو
(1)
أخرجه البخاري (1821)، ومسلم (2825)، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، قال: انطلق أبي عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم يحرم، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم أن عدوًّا يغزوه، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا مع أصحابه، يضحك بعضهم إلى بعض، فنظرت، فإذا أنا بحمار وحش، فحملت عليه، فطعنته، فأثبته، واستعنت بهم، فأبوا أن يعينوني، فأكلنا من لحمه، وخشينا أن نقتطع، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم، أرفع فرسي شأوًا وأسير شأوًا، فلقيت رجلًا من بني غفار في جوف الليل، قلت: أين تركت النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: تركته بتعهن، وهو قايل السفيا، فقلت: يا رسول اللَّه، إن أهلك يقرؤون عليك السلام ورحمة اللَّه، إنهم قد خشوا أن يقتطعوا دونك، فانتظرهم، قلت: يا رسول اللَّه، أصبت حمار وحش، وعندي منه فاضلة؟ فقال للقوم:"كلوا، وهم محرمون. . . ".
لم يُعِنْ عليه، ويستدل أصحاب هذا الرأي بحديث:"صيد البر حلالًا لكم ما لم تصيدوه، أو يصد لكم"
(1)
، فإذا صاد الصيد غير المحرم، ولم يكن المحرم قد أعان على صيده، أو أشار إليه، أو صيد لأجله؛ فإنه في هذه الحالة يجوز له أكله؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم" لما أهدي له الحمار الوحشي توقف عن أخذه فلما رأى تغيُّرًا أي: تأثرًا في وجه الصحابي بيَّن له العلة وقال: إنا لم نرده عليه إلا أنني محرمٌ"
(2)
؛ أي: أن العلة؛ لأننا محرمون، وفي الحديث الآخر: "أن الصحابي طلب ممن معه أن يناوله سهمًا فأعطوه فصاد فتوقفوا فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل لهم في الأكل
(3)
.
* قوله: (وَذَلِكَ أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]).
إذًا؛ هذان نصان في كتاب اللَّه يحرِّمان على المُحرم أنْ يصيد صيدًا.
(1)
أخرجه أبو داود (1851)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه، أو يصد لكم". قال الألباني: إسناده ضعيف؛ لانقطاعه. انظر: "ضعيف أبي داود"(320).
(2)
أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (2816)، عن عبد اللَّه بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا، وهو بالأبواء، أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم.
(3)
أخرجه البخاري (5492)، ومسلم (2822)، عن أبي قتادة، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين مكة والمدينة وهم محرمون، وأنا رجل حل على فرس، وكنت رقاء على الجبال، فبينا أنا على ذلك، إذ رأيت الناس متشوفين لشيء، فذهبت انظر، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، قلت: هو حمار وحشي، فقالوا: هو ما رأيت، وكنت نسيت سوطي، فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت فأخذته، ثم ضربت في أثره، فلم يكن إلا ذاك حتى عقرته، فأتيت إليهم، فقلت لهم: قوموا فاحتملوا، قالوا: لا نمسه، فحملته حتى جئتهم به، فأبى بعضهم، وأكل بعضهم، فقلت: أنا أستوقف لكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركته، فحدثته الحديث، فقال لي:"أبقي معكم شيء منه؟ " قلت: نعم، فقال:"كلوا، فهو طعم أطعمكموه اللَّه".
* قوله: (وَأَجْمَعُوا
(1)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ صَيْدُهُ وَلَا أَكْلُ مَا صَادَ هُوَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا صَادَهُ حَلَالٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. . .).
بعض العلماء
(2)
يرى أنَّ الصيد الذي يصيده المحرم يعتبر بمثابة الميتة.
ومعنى لو صاده حلالًا: أي: لو أن إنسانًا محرمًا مرَّ بقرية من القرى كما مر الرسول صلى الله عليه وسلم بوجدان، أو مر بالأبواء التي وردت في الحديث فصيد لهم الصيد فلم يأخذها صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وعلى ذلك فقد تأتي وأنت محرم فتمر بحلال قد صاد صيدًا؛ فإن لم يكن هذا الصيد قد صيد له، ولم تكن لك يد في صيده؛ ففي هذه الحالة يجوز لك أن تأكل منه، وإن كنت قد صدته لنفسك، أو لغيرك، أو أنك أعنت عليه، أو أرشدت إليه؛ فلا يجوز لك أن تأكل منه.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 64)، قال:(وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من: الجماع، وقتل الصيد،. . .)، وقال -أيضًا- (ص: 73): وأجمعوا على أن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام.
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 108)، قال:(وما صاده محرم) أو من في الحرم بسهمه أو بكلبه أو بغير ذلك، (أو صيد له)؛ أي: صاده حلال لأجله، فمات بسبب اصطياده، (أو ذبحه) المحرم حال إحرامه وإن اصطاده حلال لنفسه أو بعد أن صاده هو أو صيد له، (أو أمر بذبحه أو صيده) فمات بالاصطياد، أو ذبحه حلال ليضيفه به، (أو دلَّ) المحرم (عليه) حلالًا فصاده فمات بذلك، (فميتة) لا يحل لأحد تناوله وجلده نجس كسائر أجزائه.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 352)، قال: ومذبوح المحرم من الصيد ميتة فلا يحل له وإن تحلل ولا لغيره إن كان حلالًا كصيد حرمي ذبحه حلال فيكون ميتة؛ لأنَّ كلًّا منهما ممنوع من الذبح لمعنى فيه كالمجوسي.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 544)، قال: وما قتله المحرم ثم أكله ضمنه لقتله لا لأكله نصًّا لأنه ميتة وهي لا تضمن.
(3)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (قَوْلٍ: إِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَهوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(2)
، وَالزُّبَيْرِ
(3)
، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(4)
، وَعَلِيٍّ
(5)
، وَابْنِ عُمَرَ
(6)
، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِ الْمُحْرِمِ أَوْ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ مُحْرِمِينَ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِ الْمُحْرِمِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ).
والتقى الإمام أحمد
(7)
مع الإمام مالك
(8)
في قوله وهو: ما لم
(1)
الهداية في شرح بداية المبتدي (1/ 169)، قال: ولا بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه ولا أمره بصيده.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 462)، قال: عن أبي هريرة، يقول: لما قدمت من البحرين لقيني قوم من أهل العراق، فسألوني عن الحلال يصيد الصيد فيأكله الحرام؟ فأفتيتهم بأكله، فقدمت على عمر فسألته عن ذلك؟ فقال: لو أفتيتهم بغيره ما أفتيت أحدًا أبدًا.
وقال -أيضًا- عن الحسن؛ أن عمر بن الخطاب كان لا يرى بأسًا بلحم الطير إذا صيد لغيره، يعني: في الإحرام.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 462)، قال: عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أن الزبير بن العوام كان يتزوَّد صفيف الوحش وهو محرم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق فى "المصنف"(4/ 428)، قال: عن ابن عباس: "أنه كان يكره لحم الصيد للمحرم".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 427)، قال: إن عليًّا "كره لحم الصيد وهو محرم" وتلا هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96].
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 464)، قال: عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كره طري الصيد وقديده للمحرم.
(7)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 544)، قال:
…
، (حرم أكله)؛ أي: المحرم (من ذلك كله)؛ أي: ما صاده أو دل أو أعان عليه أو أشار إليه ونحوه لمفهوم حديث أبي قتادة (وكذا ما ذبح) للمحرم (أو صيد لأجله). . .، وقال:(وما حرم عليه)؛ أي: المحرم (لدلالة) عليه أو إعانة عليه (أو صيد أو ذبح له)؛ أي: المحرم (لا يحرم على محرم غيره كـ) ما لا يحرم (على حلال).
(8)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 108، 110)، قال:(وما صاده محرم) أو من في =
يُصد من أجل المحرم، أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صِيد من أجل المحرم فهو حرام، وهو القول الذي تلتقي عنده الأدلة، ولذلك فإن الأخذ بجميع الأدلة أولى من أن نأخذ ببعضها ونترك البعض.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ. فَأَحَدُهَا: مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ من "حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ تَخَلَّفُ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ"
(1)
).
هذا حديث في الصحيحين أيضًا
(2)
.
والحمار الوحشي: هو الذي يشبه الحمار الأهلي لكن في ظهره خطوط.
الصحابي الجليل أبو قتادة كان مع نفر تخلف؛ أي: كانوا خلف
= الحرم بسهمه أو بكلبه أو بغير ذلك، (أو صيد له)؛ أي: صاده حلال لأجله، فمات بسبب اصطياده، (أو ذبحه) المحرم حال إحرامه، وإن اصطاده حلال لنفسه أو بعد أن صاده هو أو صيد له، (أو أمر بذبحه أو صيده) فمات بالاصطياد، أو ذبحه حلال ليضيفه به، (أو دلَّ) المحرم (عليه) حلالًا فصاده فمات بذلك، (فميتة) لا يحل لأحد تناوله وجلده نجس كسائر أجزائه. . .، وقال:(وجاز) للمحرم (أكل ما)؛ أي: صيد (صاده حل لحل): لنفسه أو لغيره.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1005).
(2)
أخرجه البخاري (2570)، ومسلم (2822).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمون، وهو غير محرم فرأي حمارًا وحشيًّا (وفي بعض الروايات)
(1)
: أنه كان مشغولًا عنه وتمنَّى لو أنهم أرشدوه لكنهم ما تكلموا خشية أن يقعوا في المحظور، (وفي بعض الروايات)
(2)
: أنه رآه فاستوى؛ أي: فصعد فرسه وعلاه ثم طلب من أحدهم أن يناوله سوطًا فأبى، فسألهم رمحًا فأبوا أيضًا فأخذه ثم شدَّ عليه فقتله لنفسه، فأكل منه بعضهم، وتوقف بعض الصحابة من الأكل حتى سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقرهم على جواز ذلك بقوله:"إنما هي طعمة أطعمكموها اللَّه".
ونفع اللَّه على عبادة أكثر من تحصى، ولذلك ورد مثل هذا لقصر الصلاة في السفر إذ سأل الصحابي يعلى بن أمية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} فقال: لقد زال الخوف وأمن الناس!! فقال عمر: واللَّه لقد عجبتُ مما عجبتَ منه. فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"
(3)
، أو هذه طعمة أطعمها اللَّه لهؤلاء النفر من الصحابة فما عليهم إلا أن يأكلوا منها، وذلك من فضل اللَّه سبحانه وتعالى عليهم.
وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد مع الإمام مالك في جواز الأكل من الصيد ولكن بشروط وهي: ما لم يُصد من أجل المحرم، أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صِيد من أجل المحرم فهو حرام على المحرم.
* قوله: (وَجَاءَ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ التَّمِيمِيَّ قَالَ: "كنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ
(1)
أخرجها البخاري (2570).
(2)
أخرجها البخاري (2914)، ومسلم (2823).
(3)
أخرجه مسلم (1519).
مُحْرِمُونَ، فَأُهْدِيَ لَهُ ظَبْيٌ وَهُوَ رَاقِدٌ، فَأَكَلَ بَعْضُنَا، فَاسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ فَوَافَقَ عَلَى أَكْلِهِ وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
وهذا دليل آخر ساقه المجيزون ذكره الإمام مسلم في صحيحه
(1)
، والنسائي في سننه
(2)
: بأنَّ قومًا كانوا مع طلحة وهم محرمون فأهدي له ظبي
(3)
وهو راقد فأكل بعض أصحابه، فلما استيقظ وافقهم على أكله وقال لهم: أكلناه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فعلي ذلك: إذا صِيد الصيد، ولم يكن لأجل المحرم، ولم تكن له يدٌ في صيده فلا بأس بأكله.
* قوله: (وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَّجَهُ أَيْضًا مَالِكٌ
(4)
: "أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ").
هذا حديث ابن عباس يرويه عن الصعب بن جثامة الليثي وهو في (الصحيحين)
(5)
أيضًا:
"أنه أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا والرسول بقرية تُعرف -بالأبواء- قريبة من الجحفة، أو بودان، وليست المسافة بين القريتين بعيدة، فأمر برده صلى الله عليه وسلم إليه، فتأثر الصحابي الجليل كيف يقدم هذه الهدية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا يقبلها؟ وكما هو معلوم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حريص على أمته وهو رحيم بهم ورؤوف لا يريد أن ينال منهم ولو مجرد أثر يلحق
(1)
أخرجه مسلم (2831)، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أبيه، قال: كنا مع طلحة بن عبيد اللَّه ونحن حرم فأهدي له طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع، فلما استيقظ طلحة وفق من أكله، وقال: أكلناه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه النسائي (2837).
(3)
لم أقف على لفظ (ظبي)، وهو عند مسلم، والنسائي بلفظ:(فأهدي له طير).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1015).
(5)
تقدَّم تخريجه.
بنفسه، فلما رأى بعض التغير في وجه الرجل أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد دبّ إليه الألم عن رد هذه الهدية فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم: بأنَّ الأمر ليس في رد هديك؛ إنما هذا محظور شرعي فقال له: إنا لم نردّه عليك إلا أنا حُرُمٌ. ومعنى هذا أنه لو لم يكونوا محرمين؛ لأخذوا ذلك وأكلوه، وتقبلوا هذه الهدية والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل:"تهادوا تحابوا"
(1)
، ولكن الهدية لا ينبغي أن يكون وراءها غرض دنيوي؛ أي: لا تُهدي الهدية لإنسان لتصل إلى أمر من الأُمور المحرمة شرعًا؛ بل إذا أهديت فاهد لأجل اللَّه سبحانه وتعالى لتكن نابعة من المحبة في اللَّه فمن أحب في اللَّه، وأبغض في اللَّه، وأعاد في اللَّه فإنما يناول ولاية اللَّه في ذلك، فإذا أهديت فاهد نتيجة محبةٍ وودٍّ بأخيك المسلم؛ أما أن تعطي هدية لتتوصل بها إلى غرض من أغراض الدنيا؛ فهذه من الأُمور التي لا تنبغي، ولذلك نجد أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد العاملين على الزكاة إذ ذهب ليجيع الزكاة فأهدي إليه شيء منها؛ فلما جاء قال: هذا لكم، وهذا لي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فما بال أحدكم يأتي فيقول: هذا لكم، وهذا لي. فهلا جلس في بيت أبيه وأمه ينظر أن يُهدى إليه أم لا؟!!
(2)
.
أي: لو أنَّ الرجل جلس في بيت أبيه وأمه فهل يُهدى إليه شيء من ذلك؟!! فهذه شبهة ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وخطب الناس وبيَّن لهم الطريق السوي، وأرشدهم إلى طريق الخير، وأنَّ الهدية التي جاءت بها الشريعة بإباحتها، والحث عليها والترغيب فيها؛ إنما هي الهدية التي لا يكون من وراءها غرض من أغراض الدنيا، أو مصلحةٌ من المصالح التي يريد الإنسان أن يصل إليها، وأن يجعلها جسرًا يعبر إليه ليبلغ غايته، وقد تكون هذه الغاية غير محمودة ليستعين بها على ظلم مسلم.
* قوله: (وَلِلِاخْتِلَافِ سَبَبٌ آخَرُ: وَهُوَ هَلْ يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ
(1)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(594)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"تهادوا تحابوا"، وحسن إسناده الألباني في "إرواء الغليل"(1601).
(2)
أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (4768).
بِشَرْطِ الْقَتْلِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّهْيُ عَنْ الِانْفِرَادِ؟ فَمَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ مَعَ الْقَتْلِ، وَمَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ).
هذه الثمرة تظهر فيما لو صاد المحرم صيدًا، فهل يعتبر ميتة؟ كما هو رأي كثير
(1)
من العلماء، أو يعتبر بمثابة الذبيحة التي مرت بنا في كتاب الذبائح؟
1 -
ذهب ابن المنذر
(2)
، وغيره
(3)
أنها كمثل السارق لو سرق شاة فذبحها، أو رجل غصبها أنها بمثابة هذه فيجوز لغير المحرم أن يأكل.
2 -
وجمهور العلماء وفيهم الأئمة الأربعة يمنعون ذلك.
* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ قَالَ: إِمَّا بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَإِمَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
على طالب العلم إذا وجد مجموعة من النصوص اثنان فأكثر وظاهرهما التعارض؛ فأول طريق ينبغي أن يسلكه هو المحاولة أن يوفق بين هذه النصوص وهذا ما نعرفه في علم الحديث الجمع بين الحديثين، أو بين النصين، وكلما أمكن الجمع بين الأدلة؛ فإن ذلك هو الأولى؛ لأننا إذا جمعنا بين الأدلة أخذنا بها مجتمعة، وإذا قدمنا بعضها على بعض مع صحتها ودلالتها، نكون قد أخذنا ببعضها وتركنا البعض الآخر، والعمل بجميع النصوص أولى من العمل ببعضها وتعطيل البعض الآخر.
(1)
تقدَّم ذكر أقوالهم.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 140)، قال: قال ابن المنذر: وهو بمنزلة ذبيحة السارق.
(3)
يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 197)، قال:(وذهب الحسن وسفيان، وأبو ثور، والحكم في آخرين أنه يؤكل بمنزلة ذبيحة السارق).
* قوله: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ. قَالُوا: وَالْجَمْعُ أَوْلَى، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ"
(1)
).
هذا الحديث رواه الخمسة وهم: أصحاب السنن
(2)
، ورواه أحمد
(3)
، والبيهقي
(4)
، وغيرهم
(5)
، وهذا الحديث اختلف فيه العلماء صحة وضعفًا؛ لكن له عدة طرق وصل بعضها إلى درجة الاحتجاج، وهو أيضًا يؤيد الحديث الصحيح الذي رويناه وهو حديث متفق عليه، وبذلك يكون هذا الحديث مبينًا لذلك الحديث الآخر وهو أيضًا يقوي مسألة الجمع بين الأدلة فيؤخذ به.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُضْطَرِّ هَلْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَصِيدُ فِي الْحَرَمِ؟).
تطرق المؤلف إلى مسألة أُخرى وهي: المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم؟
(1)
قال النووي: (قال أصحابنا: يجب الجمع بين هذه الأحاديث، وحديث جابر هذا صريح في الفرق وهو ظاهر في الدلالة للشافعي وموافقيه ورد لما قاله أهل المذهبين الآخرين ويحمل حديث أبي قتادة على أنه لم يقصدهم باصطياده وحديث الصعب أنه قصدهم باصطياده، وتحمل الآية الكريمة على الاصطياد، وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المذكورة المبينة للمراد من الآية، وأما قولهم في حديث الصعب أنه صلى الله عليه وسلم علل بأنه محرم فلا يمنع كونه صيد له؛ لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أنه محرم فبين الشرط الذي يحرم به قوله صلى الله عليه وسلم). "شرح مسلم" للنووي (8/ 106).
(2)
أخرجه أبو داود (1851)، والترمذي (846)، والنسائي (2848)، ولم أقف عليه عند ابن ماجه، وقال الألباني: إسناده ضعيف. انظر: "ضعيف أبي داود"(320).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(23/ 171)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 318).
(5)
أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(4/ 180)، وابن حبان في "صحيحه"(9/ 283)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 622).
قال اللَّه سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145] فإذا اضطر الإنسان إلى أكل الميتة، أو إلى أكل الصيد، والاضطرار إليه، والقصد به أن يخشى على نفسه من الهلاك؛ فإذا كنت في الصحراء، وقد أوشكت على الموت، ولا تجد طعامًا حلالًا بين يديك، ولا تجد أحدًا يسعفك أو يناولك الطعام، ووجدت شاة ميتة، أو أمامك بعير قد نفق، فهل تأكل من هذه الميتة، أو تلقي بنفسك على الأرض تنظر الموت؟ الأولى لك أن تأكل من الميتة؛ لأن مهجة المسلم لا ينبغي له أن يضيعها. والقاعدة تقول:"الأبدان ثم الأديان".
ومثل ذلك في قصة غزوة ذات السلاسل في قصة الرجل الذي جُرح فسأل أصحابه أيتيمم وهو جنب؟ فأمروه بأن يغتسل فمات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"قتلوه قتلهم اللَّه"
(1)
، إن آفة العلم الجهل فإذا كان الإنسان لا يعرف الحكم فيسأل غيره لمعرفته، ولذلك نجد أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما كان في ليلة باردة صلى بأصحابه وهو جنب وكان قائدًا في غزوة فأنكر عليه أصحابه، فلما عادوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبروه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أفعلت ذلك يا عمرو؟ " قال: نعم. فقال: "ولمَ؟ " قال أليس اللَّه تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فابتسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُقِرًّا له
(2)
.
فإذا كان الأمر يتعلَّق بحياة المرء فليأكل الميتة، وليدفع الغص بكأس من الخمر؛ ولكن يعلم بأن "الضرورة تقدر بقدرها" فلا يزيد على مقدار ما يبقيه علي قدر الحياة فإن زاد وقع في الإثم؛ لأن ذلك الفعل ضرورة فإذا انتهت الضرورة رجع إلى ما كان عليه من الحرمة.
(1)
أخرجه أبو داود (336)، وحسَّنه الألباني. انظر:"صحيح أبي داود"(365).
(2)
أخرجه أبو داود (334)، وصححه الألباني. انظر:"صحيح أبي داود"(361).
إذن الحرمة في هذه الحالة أصبح اللجوء إليها اضطرارًا، وإذا خاف الإنسان على نفسه، وطُلِب منه أن يعلن الكفر أو أن يقتل بالسيف، فقد أباح اللَّه النطق بها ضرورة مع اطمئنان قلبه بالإيمان، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] " فالذي يُكره وينطق بكلمة الكفر شريطة أن يكون قلبه قد اطمأن واستقر الإيمان في قلبه؛ أي: يقول ذلك بلسانه فقط.
فالضرورة لها أحكام، وليست على إطلاقها، فلو جاء إنسانٌ لإنسان وقال له: إما أن تزني فى هذه المرة، وإما قتلناك؟ ليس له ذلك؛ وكذلك لو قيل له: إما أن تقتل فلانًا وإلا قتلك؟ ليس له أن يقتله؛ لأنَّ الضرر المترتب على الزنى والقتل أكبر مما اضطر إليه فلا اضطرار في ذلك.
عودٌ على بدءٍ، فلو أن إنسانًا أمامه صيد، وأمامه ميتة فأيهما يأكل منه في حالة الاضطرار؟ إذ هو منهي عن أكل الميتة؛ لأنها محرمة، وهو أيضًا منهي عن قتل الصيد، وعن أكله وهو محرم عليه أيضًا، ففي هذه الحالة ماذا يفعل؟
ذهب أكثر العلماء إلى أنه يجوز له أن يأكل من الميتة؛ لأنَّ الميتة محرمة لذاتها، وهي تحل له أن يأكل منها في حالة الاضطرار، فهنا مانع واحد وهو تحريم الميتة؛ أما الصيد فيحرم عليه في هذه الحالة، وعليه جزاؤه إن صاد.
إذن اجتمعت علتان في الصيد، وهناك علة واحدة في الأكل من الميتة فيأكل من الميتة.
وعللوا أيضًا: بأنَّ الصيد الذي يبطل المحرم يكون ميتًا فيكون قد ساوى الميتة في هذا الوصف وزاد عليها في وصف آخر وهو الصيد، فنقول: لو قُدّر أنَّ إنسانًا وقع في ذلك يستفتي نفسه: "استفت نفسك وإن أفتوك وإن أفتوك"
(1)
، كما جاء في الأثر، كأن يجد صعوبة ونفسه لا ترتاح
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(29/ 533)، عن وابصة الأسدي، وفيه: قال له صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك" ثلاث مرات، "البر ما اطمأنت إليه النفس، =
إلى الميتة؛ فيأكل من الصيد وعليه فدية، ولو فعل الأُخرى فأكل من الميتة مضطرًّا؛ فإن ذلك قد أباحه اللَّه سبحانه وتعالى في هذه الحالة.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَزُفَرُ، وَجَمَاعَةٌ: إِذَا اضْطُرَّ أَكَلَ الْمَيْتَةِ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ دُونَ الصَّيْدِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَصِيدُ وَيَأْكُلُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِلذَّرِيعَةِ).
ذهب الإمام (أبو حنيفة
(1)
، ومالك
(2)
، والثوري
(3)
، وزفر
(4)
،
= والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 39)، قال: واختلفت العبارات فيما إذا اضطر المحرم هل يذبح الصيد فيأكله أو يأكل الميتة؟
ففي المبسوط أنه يتناول من الصيد ويؤدي الجزاء، ولا يأكل الميتة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛. . .، وفي فتاوى قاضي خان: المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى، في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف والحسن: يذبح الصيد، ولو كان الصيد مذبوحًا فالصيد أولى عند الكل، ولو وجد لحم صيد، ولحم آدمي كان ذبح الصيد أولى،. . .
والذي يظهر ترجيح ما في الفتاوى لما أن في أكل الصيد ارتكاب حرمتين الأكل والقتل، وفي أكل الميتة ارتكاب حرمة واحدة، وهي الأكل، وكون الحرمة ترتفع لا يوجب التخفيف؛ ولهذا قال في المجمع: والميتة أولى من الصيد للمضطر، ويجيزه له مكفرًا، وذكر في المحيط: أنَّ رواية تقديم الميتة رواية المنتقى. . .).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 116)، قال:(صيد لمحرم)؛ أي: صاده محرم أو عان عليه ووجده حيًّا بدليل قوله: إلا لحمه، وهذا إن كان المضطر محرمًا فإن كان حلالًا قدَّم صيد المحرم على الميتة، قال الباجي: من وجد ميتة وصيدًا، وهو محرم أكل الميتة، ولم يذكِ الصيد (لا لحمه)؛ أي: لا يقدِّم المحرم المضطر الميتة على لحم صيد صاده محرم آخر، أو صيد له بأن وجده بعد ما ذبح بل يقدِّم لحم الصيد على الميتة (و) لا يقدم الميتة على (طعام غير) بل يقدِّم ندبًا طعام الغير على الميتة (إن لم يخف القطع) أو الضرب أو الأذى وإلا قدَّم الميتة.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 140)، قال: إذا اضطر المحرم، فوجد صيدًا وميتة، أكل الميتة، وبهذا قال الحسن، والثوري، ومالك.
(4)
يُنظر: "النهر الفائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (2/ 142)، قال زفر: يأكل الميتة كذا في (المبسوط).
وأحمد
(1)
، وجماعة
(2)
إلى: أنه إذا اضطر إلى الأكل؛ أكل الميتة، ولحم الخنزير دون الصيد، ولحم الخنزير هذا عند المالكية
(3)
.
بينما ذهب أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة إلى: أنه يصيد ويأكل من صيده وعليه الجزاء
(4)
.
والراجح الأول سدًّا للذريعة وهو الأكل من الميتة؛ لأنَّ اللَّه أباح لنا الأكل منها في حالة الضرورة فقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 413)، قال:(أو) وجد مضطر محرمًا (ميتة وصيدًا حيًّا أو) وجد ميتة و (بيض صيد سليمًا)؛ أي: البيض (وهو محرم قدم الميتة) لأنَّ فيها جناية واحدة وهي منصوص عليها (ويقدم) مضطر (عليها)؛ أي: الميتة (لحم صيد ذبحه محرم) خلافًا لأبي الخطاب لأنَّ كلًّا منهما جناية واحدة، ويتميز ذبح المحرم بالاختلاف في كونه مذكًّى.
(2)
وهو قول: (عطاء، وسفيان الثوري، والحسن البصري)، قال عطاء:"إذا اضطر المحرم إلى الصيد، فإنه يصطاد ولا جزاء عليه، وإذا وجد الميتة، فإنه يبدأ بالميتة، ويدع الصيد". انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (4/ 429).
وسئل الثوري، عن المحرم يضطر فيجد الميتة، ولحم الخنزير، ولحم الصيد أيه يأكل؟ فقال:"يأكل الخنزير، والميتة". انظر: المصدر السابق.
وعن الحسن، قال: كان يقول فيمن اضطر إلى ميتة وصيد: يأكل الميتة، ولا يأكل الصيد، ولا يعرض له، يعني: المحرم. "المصنف" لابن أبي شيبة (8/ 531).
(3)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 184)، قال:(و) إذا وجد من المحرم ميتة وخنزيرًا وصيدًا صاده محرم (قدم الميتة على خنزير وصيد محرم) حي بدليل ما بعده وأولى الاصطياد، (لا) يقدم (على لحمه)؛ أي: لحم الصيد إذا وجده مقتولًا أو مذبوحًا، بل يقدم لحم الصيد على الميتة أي: أن المضطر إذا وجد ميتة وصيد المحرم حيًّا قدَّم الميتة على ذبح الصيد، فإن وجده مذبوحًا قدَّمه على الميتة؛ لأنَّ حرمته عارضة للمحرم، وحرمةُ الميتة أصليةٌ.
(4)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 39)، قال: ففي المبسوط: أنه يتناول من الصيد ويؤدي الجزاء، ولا يأكل الميتة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنَّ حرمة الميتة أغلظ؛ لأنَّ حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام أو الحرم فهي مؤقتة به بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما، والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة ترتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء.
ومعنى قوله: (أحسن للذريعة) هذا ترجيح المؤلف؛ لأننا لو قلنا: إن الصيد أولى من الأكل من الميتة؛ ربما تكون هذه ذريعة لإعفاء النفوس يصطاد في الحرم ويقول -أنا جائع مضطر- إلى هذا الصيد فيأكل منه فتكون هذا ذريعة ينفذ عن طريقها إلى قتل الصيد المحرم.
ومسألة سد الذرائع من المسائل الأُصولية، وهي معتبرة شرعًا، فأحيانًا قد يفعل إنسان أمرًا من الأُمور ليحرم آخر منه؛ فمن باب سد الذرائع يعامل بالنقيض، فيغلق هذا الباب حتى لا يكون مدخلًا ومنفذًا يعبر منه الذين يستخفون بأُمور الدِّين، ويتساهلون بها فيسابقون إلى الصيد ويقول: أنا مضطر إلى الأكل بحجة التحايل على الدِّين، هذا ما يرنو إليه المؤلف.
* قوله: (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْيَسُ، لِأَنَّ تِلْكَ مُحَرَّمَة لِعَيْنِهَا وَالصَّيْدُ مُحَرَّمٌ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَمَا حُرِّمَ لِعِلَّةٍ أَخَفُّ مِمَّا حُرِّمَ لِعَيْنِهِ، وَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ أَغْلَظُ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ).
أقيس هذه، على قول من لا يرى أنَّ الصيد ميتًا، أما إذا قلنا بأنَّ المحرم إذا صاد وقتل يكون ميتًا فهو يتساوى مع الميتة في هذه الحالة.
وذهب أيضًا إلى ذلك القول: (الحنابلة
(1)
، والشافعية
(2)
، ومع أنهم
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (27/ 243)، قال: قوله: فإنْ وجد طعامًا لا يعرف مالكه، وميتة، أو صيدًا، وهو محرم. . .، ثم قال: ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد، إذا لم تقبل نفسه الميتة. . . .، وقال في "الكافي": الميتة أولى، إن طابت نفسه، وإلا أكل الطعام؛ لأنه مضطر. وفي "مختصر ابن رزين": يقدم الطعام ولو بقتاله، ثم الصيد، ثم الميتة.
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (9/ 48)، قال: وإن وجد صيدًا وميتةً فله طريقان. . .:
أحدهما: أن المحرم إذا ذبح صيدًا هل يصير ميتة؟ فيحرم على جميع الناس أم لا يكون ميتة؟ فلا يحرم على غيره (والأصح) أنه يصير ميتة (فإن قلنا): يصير ميتة أكل الميتة وإلا فالصيد. =
يقولون بالأكل من الميتة إلا أنهم قالوا: ربما نفس المؤمن لا تقبل الميتة، أو يعجز الإنسان أن يأكل منها، فلا مانع أن يأكل من الصيد.
وحجتهم في ذلك: "أنَّ الميتة محرمة لعينها إذ ورد النص بذلك لنجاسة عينها، والصيد محرم لغرض من الأغراض وهو الإحرام، وما حُرم لعلة وغرض؛ أخفُّ مما حرم لعينه؛ لأنَّ ما حُرم لعينه أغلظ".
المحظور السادس: (عقد النكاح).
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ فَإِنْ نَكَحَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْكِحَ الْمُحْرِمُ أَوْ أَنْ يُنْكِحَ).
انتقل المؤلف إلي مسألة وهي مما اختلف فيها الفقهاء: هل يَنكح المحرم؟ بمعنى يعقد له على النكاح، أو هل له هو أن يعقد لغيره؟ فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم
(1)
، وغيره
(2)
: "لا يَنكح المحرم -لا يتزوج- ولا يُنكح -لا يعقد أو يزوج غيره-".
= والطريق الثاني: إن قلنا: يصير ميتة أكل الميتة، وإلا فأيهما يأكل فيه قولان. . .، ومن الأصحاب من حكى في المسألة ثلاثة أقوال أو أوجه (أصحها) يلزمه أن يأكل الميتة، (والثاني) يلزمه أكل الصيد، (والثالث) يتخير، وحكاه الدارمي عن أبي علي ابن أبي هريرة، والصحيح على الجملة وجوب أكل الميتة.
(1)
أخرجه مسلم (3429)، عن نبيه بن وهب، أنَّ عمر بن عبيد اللَّه، أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير، فأرسل إلى إبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج، فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب".
(2)
أخرجه أبو داود (1841)، والترمذي (840)، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه. انظر:"صحيح أبي داود"(1614).
ذهب الإمام (مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
، والليث
(4)
، والأوزاعي
(5)
، وهو قول عمر
(6)
، وعلي
(7)
، وابن عمر
(8)
، وزيد بن ثابت
(9)
) إلى: أنه لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، فإن نكح فالنكاح باطل.
واستدلوا علي ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم -لا يتزوج- ولا يُنكح -لا يعقد أو يزوج غيره- ولا يخطب"
(10)
.
مرَّت أُمور من محظورات الإحرام من "تغطية الرأس، ولبس
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 46)، قال:(قوله: وحل به)؛ أي: وجاز بسببه ما بقي أي: مما كان ممنوعًا منه. (قوله: من نساء)؛ أي: من قربان النساء بوطء ومقدماته ومن عقد عليهن.
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 513)، قال:(ونكاح المحرم، وإنكاحه) محرم (لا ينعقد) لخبر مسلم: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح. . . ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 547)، قال:(السابع: عقد النكاح) فيحرم ولا يصح من محرم فلو تزوج محرم، أو زوج، أو كان وليًّا، أو وكيلًا فيه لم يصح نصًّا تعمده أو لا لحديث مسلم عن عثمان مرفوعًا:"لا ينكح المحرم ولا ينكح. . . ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار"(4/ 118)، قال: واختلف الفقهاء في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح فإن فعل فالنكاح باطل.
(5)
المصدر السابق.
(6)
أخرجه مالك في "الموطأ"(998)، قال: عن أبي غطفان بن طريف المري أنه أخبره أن أباه طريفًا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نكاح. . . قال الألباني: صحيح. انظر: "إرواء الغليل"(4/ 228)(1038).
(7)
أخرجه مالك في "الموطأ"(999)، قال: عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم فإن نكح رد نكاحه. قال الألباني: صحيح. انظر: "إرواء الغليل"(4/ 228)(1038).
(8)
أخرجه مالك في "الموطأ"(999)، قال: عن نافع أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه كان يقول: لا ينكح المحرم ولا يخطب على نفسه ولا على غيره. قال الألباني: وسنده صحيح. انظر: "إرواء الغليل"(4/ 228)(1038).
(9)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 106)، قال: عن شوذب مولى لزيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(10)
تقدَّم تخريجه.
المخيط، والتطيب، وحلق الشعر، وتقليم الأظافر" هذه الأُمور لو فعلها الإنسان وهو محرم إما أنْ يذبح شاة، أو أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاعٍ من بُر.
أما مسألة أن ينكح المحرم، أو يُنكح هل لها فدية؟
الجواب: لا، على الرأي الصحيح
(1)
.
أي: لو أنَّ إنسانًا عقد لإنسان وهو محرم؛ فالعقد فاسد، ولو أنَّ العقد له؛ فالعقد غير صحيح.
محظورات الإحرام السابقة التي وردت في الآية فيها الفدية المذكورة في الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، أما عقد النكاح له، أو لغيره؛ ليس فيه فدية، أما الجماع إن كان قبل التحلل الأول ففيه بدنة، وإن كان بعده ففيه تفصيل.
بينما ذهب الإمام أبو حنيفة
(2)
، والثوري
(3)
: إلى أنه لا بأس أن يَنكح المحرم، أو أن يُنكح.
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"(1/ 507)، قال:(وجميع محظورات الإحرام فيها الكفارة إلا في مسائل منها: عقد النكاح. . .).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 547 - 548)، قال:(السابع: عقد النكاح) فيحرم ولا يصح من محرم. . .، (ولا فدية فيه) لأنه عقد فاسد للإحرام كشراء الصيد، وسواء كان الإحرام صحيحًا أو فاسدًا (وتعتبر حالته)، أي: العقد، لا حالة توكيل.
(2)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 47)، قال: وحاصله أن لا ينكح إن كان المراد به الوطء فالنهي للتحريم، وهذا قطعي لا شبهة فيه أو العقد فالنهي للكراهية، وما ذكره من الوجه لا يقتضي كرافة التحريم، وإلا حرم تجارة المحرم في الإماء، فإنَّ فيه أيضًا شغل القلب وتنبيه النفس للجماع، ويؤيده قوله: وهذا محمل قوله: ولا يخطب على أنه قد صرح في شرح درر البحار بأنَّ النهي للتنزيه. وقول الكنز: وحل تزوج الكتابية والصابئة والمحرمة صريح في ذلك فإنَّ المكروه تحريمًا لا يحل فافهم.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 119)، قال: قال عبد الرزاق: قال الثوري: لا =
واستدلوا على ذلك بحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكَحَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ"
(1)
.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ فَأَحَدُهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ"
(2)
. وَالْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكَحَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ").
اختلاف الآثار في ذلك أدَّت إلى اختلافهم إلى ما ذهبوا إليه:
دليل الفريق الأول: فاستدل الفريق الأول بحديث عثمان
(3)
: "لا يَنكح المحرم، لا يعقد النكاح لغيره، ولا يُنكح"؛ أي: لا يعقد لنفسه، ولا يخطب أي: وليس له أن يخطب امرأة وهو متلبس بالإحرام".
دليل الفريق الثاني: واستدل الفريق الثاني بحديث معارض وهو حديث ابن عباس "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم"
(4)
.
فهذه المسألةُ تدور حول قضية زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من ميمونة هل تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ أم في حلٍّ؟
سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة هو اختلاف الأحاديث فيها،
= يلتفت إلى أهل المدينة حجة الكوفيين في جواز نكاح المحرم حديث ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم.
(1)
أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (3434)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(997).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
فحديث ابن عباس وهو حديث متفق عليه
(1)
: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم"، وميمونة هي خالة ابن عباس، لكن صاحبة القصة ميمونة ذكرت أنَّ رسول للَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال
(2)
، وأبو رافع وهو الواسطة بينهما؛ أي: الساعي بينهما في الزواج ذكر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال.
فالتي وقع منها الزواج وهي (ميمونة)، والساعي بينهما وهو (أبو رافع) بيّنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. وابن عباس يذكر أن الرسول تزوجها وهو محرم، ومن هنا وقع الخلاف.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة منها:
1 -
أنَّ ابن عباس كان صغيرًا، ولم يعلم أنَّ الرسول تزوج ميمونة إلا بعد أن أحرم؛ فظن أنه تزوجها وهو محرم، ولا شكَّ أنَّ صاحب البيت أدرى بما فيه فصاحبت القصة أعلم بنفسها، والذي يسعى بينهما وتوسط بينهما في الموضوع وهو الخاطب أيضًا يؤيد رأي صاحبة القصة، وكل ذلك فيه أحاديث صحيحة فهذا هو الأولى.
2 -
ومنهم من يقول: بأنَّ هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لكنَّ دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، ونعلم أنَّ هناك أحكامًا اختص بها اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم لكنَّ دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل، ثم لا نلجأ إلى التخصيص مع إمكان الترجيح، والترجيح هنا واضحٌ وقويٌّ؛ لأنَّ صاحبة القصة ومن توسط بين الرسول وبينها يذهبان إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان حلالًا.
* قوله: (خَرَّجَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ، إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَتْهُ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. "عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ". رُوَيَتْ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ مَوْلَاهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (3437)، عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي، وخالة ابن عباس.
الْأَصَمِّ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْوَاحِدُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَالثَّانِي عَلَى الْجَوَازِ).
الحقيقة لا يُحمل الأول على الكراهة، والثاني علي الجواز؛ لأن حديث عثمان بن عفان يدل على منع ذلك "لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب" وأقرب شيء أن نقول: بأن ابن عباس أخبر بما وصل إليه علمه؛ أي: أن ما علم بالواقع إلا بعد أن أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر ما علمه، أمَّا صاحبة القصة السيدة ميمونة، ومعها أبو رافع، وسليمان بن يسار، وهم الأكثر، ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال وهذا هو الأرجح.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَأَمَّا مَتَى يَحِلُّ فَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ ذَكْرِنَا أَفْعَالَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَحِلُّ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاجِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَإِذْ قَدْ قُلْنَا فِي تُرُوكِ الْمُحْرِمِ فَلْنَقُلْ فِي أَفْعَالِهِ).
بقيت قضية أُخرى يذكرها بعض الفقهاء: وهي المباشرة فمن الفقهاء من يضيفه محظورًا تاسعًا إلى ما سبق.
والمباشرة قد تكون باليد، أو بالتقبيل، والوضع يختلف بين الإنزال وغيره، فإذا لم ينزل فلا شيء عليه، وإنْ أنزل وقع الخلاف بين الفقهاء؛ إن كان قبل التحلل الأول ففيه بدنة وإن كان بعده ففيه (شاة)
(1)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 68)، قال:(وإلا) بأن وقع قبلهما بعد يوم النحر، أو بعد أحدهما في يوم النحر (فهدي) واجب ولا فساد في الصور الثلاث (كإنزال ابتداء)؛ أي: بمجرد نظر، أو فكر من غير إدامة فعليه الهدي، وأما إن خرج بلا لذة أو غير معتادة، فلا شيء عليه (وإمذائه) وإن بمجرد نظر فيه الهدي (وقبلته) فيها الهدي إن كانت بفم وإلا فكالملامسة لا شيء فيها إلا إذا أمذى أو كثرت (ووقوعه)؛ أي: المني، أو الجماع (بعد) تمام (سعي) وقبل الحلاق (في عمرته) فالهدي (وإلا) بأن حصل قبل تمام السعي ولو بشرط (فسدت) ووجب القضاء والهدي.
فمسألة الجماع بعض العلماء ينص عليها ويعتبرها محظورًا تاسعًا من محظورات الإحرام، وبعضهم لا يذكرها، لذلك لم يذكرها المؤلف، ولعل المالكية
(1)
لم يذكروها. أما الفقهاء الآخرون: كالحنابلة
(2)
، والشافعية
(3)
، يذكرون ذلك، وينبغي أيضًا للمسلم وهو متلبس بهذا النسك؛ ألا يكون قريبًا من النساء؛ لأنَّ الإنسان ربما لا يملك إربه فربما يقع في الجماع أو يحصل منه أمر من الأُمور المحظورة.
[الْقَوْلُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالْمُحْرِمُونَ إِمَّا مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ مُحْرِمٌ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ).
المحرمون على أنواع:
1 -
إما محرم بعمرة مفردة وهذا في غير ما يتعلَّق بالحج، وربما يحرم بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج وهو الذي نعرفه بالمتمتع.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 68)، قال:(و) حرم عليهما (الجماع ومقدماته) ولو علمت السلامة من مني، أو مذي.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 549)، قال:(الثامن: وطء يوجب الغسل) وهو تغييب حشفة أصلية في فرِج أصلي، قبلًا كان أو دبرًا من آدمي أو غيره لقوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197]. قال ابن عباس: هو الجماع لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187](وهو)؛ أي: الوطء (يفسد النسك قبل تحلل أول) حكاه ابن المنذر إجماعًا، ولو بعد وقوف نصًّا؛ لأن بعض الصحابة قضوا بفساد الحج ولم يستفصلوا.
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (4/ 174)، قال:(الرابع) من المحرمات على الذكر وغيره (الجماع) ولو في دبر بهيمة ولو بحائل إجماعًا ويحرم على الحليلة الحلال تمكينه؛ لأنَّ فيه إعانة على معصية، وعلى الزوج الحلال مباشرة محرمة يمتنع عليه تحليلها، وتحرم أيضًا مقدماته كقبلة ونظر ولمس بشهوة ولو مع عدم إنزال أو بحائل لكن لا دم مع انتفاء المباشرة، وإن أنزل ويجب بها، وإن لم ينزل.
2 -
أو بحج مفردًا.
والذي يحرم بالعمرة إذا جاء الميقات المكاني؛ فإنه يغتسل، ويتنظف، ويزيل ما يحتاج إلى إزالته من بدنه من شعر وظفر وغيره، حتى لا يحتاج إليه بعد ذلك، ثم يدخل في النسك أي: ينوي النسك، والحج فإنه إذا نوى الدخول بالنسك وكان متمتعًا فيقول:"لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج"؛ أي: يحرم بالعمرة فإذا ما جاء إلي بيت اللَّه طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وحلق أو قصر، ثم يحل فيكون حلالًا كغيره حتي يأتي اليوم الذي يحرم فيه من مكة بالحج.
أما الإفراد: فهو أنْ يحرم بالحج مفردًا فإذا ما جاء إلى مكة؛ فإنه يطوف، وله أن يسعي، وله أنْ يأخر السعي.
أما القارن: فهو الذي يحرم بالحج والعمرة معًا فيقول: "لبيك حجًّا وعمرة" إلا أنَّ هذا عليه ذبح، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللَّه.
* قوله: (أَوْ جَامِعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ).
لا حرج على المسلم فهو في سعةٍ من أمره من أن يحرم بالحج مفردًا، وله أن يحرم متمتعًا، وله أن يحرم قارنًا، وكل ذلك قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
، وغيرهما
(3)
. قالت: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي رواية -حجننا- مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنَّا من أهلَّ بحجِّ، ومنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحج وعمرة، ثم قالت: وأهلَّ رسول صلى الله عليه وسلم بالحج" والمشهور المعروف أن رسول صلى الله عليه وسلم حج قارنًا ومع ذلك قالت عائشة: وأهلَّ أي: أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج.
(1)
أخرجه البخاري (1562).
(2)
أخرجه مسلم (2888).
(3)
أخرجه أبو داود (1779).
وقد أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة، منها:
أنها قالت: أهلَّ بالحج يعني: كان فعله فعل المفرد، لكنه حقيقةً إنما كان متمتعًا من حيث الحكم.
أو أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة
(1)
.
* قوله: (وَهَذَانِ ضَرْبَانِ: إِمَّا مُتَمَتِّعٌ، وَإِمَّا قَارِنٌ).
أراد المؤلف بقوله هذا: أنَّ الذي يجمع بين الحج والعمرة ينقسم إلى قسمين:
الأول: المتمتع
(2)
وهو: أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحل منها في أشهر الحج ويحرم بالحج في عامه.
الثاني: القارن
(3)
وهو: أنْ يُحرم بالعمرة في أشهر الحجِّ، ولا يحل منها.
فالمتمتع إذا فرغ من أحكام العمرة حلَّ منها؛ أي: أصبح حلالًا يتمتع بكل الأمور التي يفعلها غير المحرم إلا الصيد يمنع أن يصيد في
(1)
قال ابن حجر: (والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، بمعنى أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهل به مفردًا، لا أنه أول ما أهل أحرم بالحج والعمرة معًا. . .). انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 427 - 432).
(2)
التمتع بالحج: هو أن يكون قد أحرم في أشهر الحج بعمرة، فإذا وصل إلى البيت وأراد أن يحل ويستعمل ما حرم عليه، فسبيله أنْ يطوف ويسعى ويحل، ويقيم حلالًا إلى يوم الحج، ثم يحرم من مكة بالحج إحرامًا جديدًا، ويقف بعرفة ثم يطوف ويسعى ويحل من الحج، فيكون قد تمتع بالعمرة في أيام الحج: أي: انتفع؛ لأنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، فأجازها الإسلام. انظر:"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 292).
(3)
قرن بين الحج والعمرة؛ أي: جمع بينهما بنية واحدة، وتلبيةٍ واحدة، وإحرامٍ واحد، وطوافٍ واحد، وسعيٍ واحد، فيقول: لبيك بحجة وعمرة. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 52).
الحرم؛ بخلاف القارن إذا فرغ من أحكام العمرة لم يحل من إحرامه حتى يحج.
* قوله: (فَيَنْبَغِي أَوَّلًا أَنْ نُجَرِّدَ أَصْنَافَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ الثَّلَاثَ، ثُمَّ نَقُولُ مَا يَفْعَلُ الْمُحْرِمُ فِي كُلِّهَا، وَمَا يَخُصُّ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهَا إِنْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَخُصُّ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ فِيمَا بَعْدَ الإِحْرَامُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
الْقَوْلُ فِي شَرْحِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ:
فَنَقُولُ: إِنَّ الإِفْرَادَ هُوَ مَا يَتَعَرَّى عَنْ صِفَاتِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ).
سيبدأ المؤلف بالدخول في شرح المناسك الثلاثة وما يخص واحدًا واحدًا.
فشرع في شرح أنواع هذه المناسك وبدأ بالإفراد فقال:
الإفراد: هو
(1)
ما عدا التمتع، والقِران؛ أي: الذي يفرد بالحج وحده فيقول: (لبيك حجًّا).
* قوله: (لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ التَّمَتُّعِ، ثُمَّ نُرْدِفُ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ. الْقَوْلُ فِي التَّمَتُّعِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا
(2)
عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّسُكِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]).
(1)
الإفراد أن يقول: لبيك بحجة؛ لأنه أفردها، ولم يقرن بها عمرة. "حلية الفقهاء" لابن فارس (ص: 116).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 283)، قال: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ من دخل بعمرة في أشهر الحج، وهو يريد المقام بها، ثم أنشأ الحج أنه متمتع. . .، ولا خلاف بين العلماء أنه المتمتع المراد في الآية في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . وانظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 70).
بدأ المؤلف بتفصيل القوله بأشهر هذه المناسك وهي التمتع ثم بعدها يردف القول بصفة القِران.
التمتع: ذهب العلماء إلى أنَّ التمتع هو الذي أشارت إليه الآية والتي أشار إليها المؤلف، وهي قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
فلورود التمتع الذي ذكره اللَّه عز وجل في كتابه أخذ بعض العلماء
(1)
ذلك دليلًا على أنَّ التمتع أفضل الأنساك الثلاثة، أفخحل من الإفراد، والقِران.
* قوله: (هُوَ أَنْ يُهِلَّ الرَّجُلُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَسْكَنُهُ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ).
صفة التمتع: هي أن يهلّ بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج، وذلك في أشهر الحج من الميقات.
أي: يذهب الحاج ويحرم من الميقات الذي يعرف الآن (بأبيار علي) وهو الذي كان يُسمَّى (بذي الحليفة) فيما مضى، فإذا ما دخل الإنسان في ذلك المكان، ويحسن أن يكون بعد فريضة، أو بعد صلاة تطوع، أو أن يتوضأ ويصلي سنة الوضوء ثم يحرم؛ فإذا دخل في النسك يقول:(لبيك عمرة) ثم ينطلق ملبيًا حتى يأتي البيت فيطوف بالبيت سبعًا، وسيأتي الكلام عن الطواف مفصلًا إن شاء اللَّه تعالى، ثم يذهب فيصعد على الصفا
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 529)، قال:(تمتع، وهو أفضلها) نصًّا قال: لأنه آخر ما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم،. . .، وتأسف بقوله:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم" ولا ينقل أصحابه إلا إلى الأفضل ولا يتأسف إلا عليه.
وقال -أيضًا-: (. . . ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب اللَّه، ولإتيانه بأفعالهما كاملة على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك وهو الدم). انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 410).
فيسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ذهابه واحد، ورجوعه آخر، وهكذا حتى يتم السبعة، ثم يَحلق إن كان هناك وقت بينه وبين الحج لينبت شعره وإن كان الوقت ضيقًا؛ فيحسن به أن يقصر حتى يظل شعره قائمًا؛ لأنه سيحتاج إليه بعد ذلك ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من مكة لا يذهب إلى الميقات وإنما من موضعه الذي هو فيه كما فعل الصحابة رضي الله عنهم.
(ثُمَّ يَأْتِي حَتَّى يَصِلَ الْبَيْتَ فَيَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا).
اشترط العلماء في المتمتع شروطًا ثلاثة
(1)
:
(1)
مذهب الأحناف، ثنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 535)، قال:(. . .، ذكر في اللباب أن شرائط التمتع أحد عشر، الأول: أن يطوف للعمرة كله أو أكثره في أشهر الحج. الثاني: أن يقدم إحرام العمرة على الحج. الثالث: أن يطوف للعمرة كله أو أكثر قبل إحرام الحج. الرابع: أن يكون طواف العمرة كله أو أكثره والحج في سفر واحد. . . الخامس: أداؤهما في سنة واحدة. . .) إلخ. بتصرف.
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 29)، قال:(تمتع) وفسره بقوله (بأن) يحرم بعمرة، ثم يحل منها في أشهر الحج، ثم (يحج بعدها) بإفراد بل (وإن بقران) فيصير متمتعًا قارنًا، ولزمه هديان لتمتعه وقرانه وسمي المتمتع متمتعًا؛ لأنه تمتع بإسقاط أحد سفرين أو لأنه تمتع من عمرته بالنساء والطيب.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 287)، قال:(الثالث: التمتع) ويحصل (بأن يحرم بالعمرة) في أشهر الحج (من ميقات بلده) أو غيره (ويفرغ منها ثم ينشئ حجًّا من مكة) أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، أو من مثل مسافته، أو ميقات أقرب منه.
تنبيه: علم مما تقرر أنَّ قوله: من بلده ومن مكة للتمثيل لا للتقييد، وسُمِّي الآتي بذلك متمتعًا لتمتعه بمحظورات الإحرام بين النسكين.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 530)، قال:(و) صفة (التمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج) نصًّا قال الأصحاب: ويفرغ منها.
وفي المستوعب: ويتحلل (و) يحرم (به)؛ أي: الحج (في عامه مطلقًا)؛ أي: من مكة أو قربها أو بعيد منها (بعد فراغه منها)؛ أي: العمرة، فلو كان أحرم بها قبل أشهر الحج لم يكن متمتعًا ولو أتم أفعالها في أشهره، وإن أدخل الحج على العمرة صار قارنًا. . .).
1 -
أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
2 -
ويؤدي العمرة في أشهر الحج.
3 -
ثم يحج في نفس هذا العام؛ أي: لو أنَّ إنسانًا ذهب إلى مكة فاعتمر في أشهر الحج وفرغ من العمرة في وقت من أوقات أشهر الحج ثم يحج هذا العام، هذا هو المتمتع الذي جاء ذكره في كتاب اللَّه عز وجل وهو الذي حض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يفسخوا حجه، وأن يجعلوه عمرة، وأكدَّ عليهم ذلك وسيأتي البيان إن شاء اللَّه.
(ثُمَّ يُحِلَّ بِمَكَّةَ).
معنى يحل بمكة؛ أي: يصبح حِلّا؛ أي: يرجع إلى ما كان عليه قبل الإحرام، فيلبس ملابسه، ويتمتع بكل شيء إلا ما يحظر عليه من الصيد مثلًا، إنما له أن يأخذ من شعره، وأن يقلم أظفاره، وأن يتطيب، وأن يلبس ما شاء من اللباس، وأن يغطي رأسه، وأن يجامع أهله، وله أن يتزوج، وأن يعقد لنفسه أو لغيره، كل هذه الأُمور يتمتع فيها كغيره.
* قوله: (ثُمَّ يُنْشِئُ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ العَامِ بِعَيْنِهِ وَفِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ).
ذكر المؤلف بأن يُهلّ المعتمر بالحج في عامه، ومن مكة.
واختلف العلماء فيما لو انصرف المعتمر بعد عمرته إلى بلده:
مثال ذلك: لو أنَّ إنسانًا أدى العمرة في وقتها، وفرغ منها، ثم سافر:
ذهب بعض العلماء: إلى أنه لو سافر إلى غير أهله لا ينقطع تمتعه
(1)
.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 391)، قال: ثم إنَّ وجوب الدم إذا لم يرجع إلى أهله قال في اللباب: ولو حلق لم يتحلل من إحرامه ولزمه دم وإن بدا له أن =
أي: لو قُدِّر أنَّ أهله في المدينة، فسافر إلى الطائف، أو إلى الرياض، أو إلى بلد آخر، لا ينقطع تمتعه.
ومنهم من قال: من كان سفره دون مسافة القصر؛ فلا ينقطع تمتعه
(1)
.
ومنهم من قال بذلك مطلقًا؛ أي: ينقطع تمتعه إذا انصرف إلى بلده
(2)
.
والقصد هنا هل هذا الذي انصرف إلى أهله، أو إلى غير أهله على القول بأن تمتعه قد انقطع، هل يلزمه هدي أم لا؟
(3)
.
= لا يحج صنع بهديه ما شاء ولا شيء عليه، ولو أراد أن يذبح هديه ويحج لم يكن له ذلك، وإن نحره ثم رجع بعد الحلق إلى أهله ثم حجَّ لا شيء عليه أي؛ لأنه غير متمتع ولو رجع إلى غير أهله ثم حج من الآفاق يكون متمتعًا وعليه هديان هدي التمتع وهدي الحلق قبل الوقت. اهـ.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 531)، قال:(وأن لا يسافر بينهما)؛ أي: العمرة والحج (مسافة قصر فإن فعل)؛ أي: سافر بينهما المسافة (فأحرم) بالحج (فلا دم) نصًّا.
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 38)، قال:(و) شرط (للتمتع) زيادة الشرطين المتقدمين: (عدم عوده)؛ أي: رجوعه بعد أن حلَّ من عمرته في أشهر الحج (لبلده أو مثله) في البعد (ولو) كان بلده أو مثله (بالحجاز)؛ كالمدينة مثلًا. فمن كان من أهل المدينة، أو ميقات من المواقيت المتقدمة كرابغ، واعتمر في أشهر الحج، ثم رجع لبلده بعد أن حل من عمرته ثم رجع لمكة وحج من عامه فلا هدي عليه.
(3)
المذهب المالكي، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 97)، قال: ولا هدي في القران أو التمتع الفاسد كما أشار له بقوله: (لا) يجب (دم قران ومتعة) الواو بمعنى أو (للفائت)؛ لأنه آل أمره إلى عمرة، ولم يتم القران أو التمتع.
المذهب الحنبلي، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 531)، قال:(ويشترط في وجوب دم متمتع وحده)؛ أي: دون القارن زيادة عما تقدم ستة شروط: (أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج). . .، (وأن لا يسافر بينهما)؛ أي: العمرة والحج (مسافة قصر فإن فعل)؛ أي: سافر بينهما المسافة (فأحرم) بالحج (فلا دم).
الأحوط والأَولى أنه يهدي، فالمقصود إنما هو الدم الذي يذبحه عن التمتع.
* قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ
(1)
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ وَلَمْ يَحُجَّ، أَيْ: عَلَيْهِ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]).
والمقصود بالحسن: "الحسن البصري" أحد أكابر علماء التابعين.
والمشهور عن عمر
(2)
، وابنه
(3)
عبد اللَّه رضي الله عنهما أنَّ من حصل له مثل ذلك فسافر إلى غير أهله؛ فإنه متمتع، وهذا هو أولى الأقوال، وأرجحها.
مثال ذلك: لو أنَّ إنسانًا أتى من الشام، أو من غيرها، ثم أدى العمرة بمكة وانتهى منها، ثم ذهب إلى المدينة، وبعدها عاد إلي مكة للحج؛ فهذا ليس مسافرًا إلى أهله، ويعتبر متمتعًا، ويذبح الهدي.
هذا هو المشهور الذي عرف عن عمر، وعن ابنه عبد اللَّه رضي الله عنهما.
أما هذا الذي نقل عن الحسن البصري؛ فهو بعيدٌ، إذ إنَّ مراده: أنك إذا أديت العمرة في أشهر الحج، ولم تحج في هذا العام ثم جئت في عام قادم فإنك لا تزال متمتعًا، فذلك بعيد المراد.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 102)، عن الحسن، قال: عليه الهدي أقام، أو لم يقم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 101)، قال: قال عمر: إذا اعتمر فى أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن رجع فليس بمتمتع.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8/ 100)، عن ابن عمر قال: من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع فليس بمتمتع ذاك من أقام ولم يرجع.
* قوله: (لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عُمْرَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةٌ، وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجَّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَإِنَّهُ مُتَمَتِّعٌ)
(1)
.
المواقيت الزمانية: هي شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة، أو الشهر كاملًا على اختلاف بين العلماء
(2)
، فلو أنَّ إنسانًا أحرم قبل أشهر الحج بالعمرة ثم أداها قبل أشهر الحج، أو أحرم بها قبل أشهر الحج؛ كأن يحرم في رمضان، ويؤديها في شوال الذي هو أحد أشهر ذي الحجة هل يكون متمتعًا أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك؛ وأكثرهم على أنه لا يكون متمتعًا، فلا يلزمه هدي المتمتع.
* قوله: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهوَ مُتَمَتِّعٌ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "المحلَّى" لابن حزم (7/ 162) قول طاوس: إن من اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع وإن لم يحج من عامه ذلك.
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 396)، قال:(قوله: وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة)؛ أي: أشهر الحج المرادة في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وهو مروي عن العبادلة الثلاثة،. . .).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 21)، قال:(ووقته)؛ أي: ابتداء وقته بالنسبة (للحج شوال) لفجر يوم النحر ويمتد زمن الإحلال منه (لآخر الحجة).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 223)، قال:(باب المواقيت وقت إحرام الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، وفي ليلة النحر وجه).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 527)، قال:(وهي) أي أشهر الحج (شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) منها يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر. . .).
(3)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 70)، قال: وأجمعوا على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها، فأقام بِها فحج من عامه أنه متمة، وعليه الْهَديُ إذا وجد، وإلا فالصيام.
اتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع، أي يلزمه دم؛ لأن اللَّه تعالى قال:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وليس مراد المؤلف أنَّ العلماء اتفقوا على أن أهل مكة أو من يقوم بمكة لا يحجون متمتعين، ولا قارنين.
وهذه مسألة فيها خلاف سنشير إليها -إن شاء اللَّه- فيما بعد.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكِّيِّ هَلْ يَقَعُ مِنْهُ التَّمَتُّعُ؟ أَمْ لَا يَقَعُ؟).
أراد المؤلف أن يقول: إنَّ الآية نص في أنَّ أهل مكة سواء كانوا من يقطنون مكة مقيمين من أهلها، أو ممن يقيم فيها، سواء كانت إقامته دائمة، أو من يقيم فيها لوقت؛ كأن يكون متعلمًا، أو موظفًا فيها، أو عاملًا جاء في مهمة مستقلة.
فهل أهل مكة يتمتعون كما يتمتع غيرهم، أو يقرنون الحج والعمرة، مع أن اللَّه نص أن ذلك لغير حاضري المسجد الحرام؟
1 -
يقول الأئمة الثلاثة مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
: بأنَّ أهل
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 57) قال: (وشرط دمهما)؛ أي: القران والتمتع (عدم إقامة) للمتمتع أو القارن (بمكة، أو ذي طوى) مثلث الطاء المهملة: مكان معروف بقرب مكة (وقت فعلهما)؛ أي: وقت الإحرام بهما قال تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] واسم الإشارة عائد على الهدي؛ فغير المقيم بمكة أو ذي طوى يلزمه الهدي (وإن) وإن أصله من مكة و (انقطع بغيرها). كما أنَّ من انقطع بمكة؛ أي: أقام بها بنيَّة الدوام بها وأصله من غيرها، لا دم عليه، بخلاف من نيته الانتقال أو لا نية له.
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 463)، قال:(وعلى القارن) إذا كان من (غير حاضري المسجد الحرام دم كالتمتع)؛ أي: كالدم اللازم في صفته وبدله عن العجز عنه لترفهه بترك أحد العملين فهو أشد ترفها من المتمتع التارك لأحد الميقاتين،. . . أما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه؛ لأن دم القران فرع دم التمتع؛ لأنه وجب بالقياس عليه، ودم التمتع لا يجب على الحاضر ففرعه أولى.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 530 - 531)، قال: ويجب على متمتع دم =
مكة ليس لهم ذلك فإن كانوا متمتعين يحرمون بعد ذلك بالحج وهم يختلفون عن الآفاق وهو الذي يأتي من خارج مكة، أو من خارج الميقات، فإن كان متمتعًا، أو قارنًا، يلزمه دم، فالفرق بينهم وبين غيرهم ممن يرد على مكة لغير أهلها: إن الذين يردون إليها من المتمتعين، أو القارنين يلزمهم هدي، وهؤلاء لا يلزمهم.
2 -
بينما ذهب الإمام (أبو حنيفة)
(1)
: إلى أنه يُكره لأهل مكة أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج، أو أن يقرنوا بينهما، ولو قدر أن ذلك قد حصل منهم؛ يلزمهم في هذه الحالة أن يذبحوا الهدي كغيرهم، ويستدل بالآية:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فيقول: إنَّ الآية عامة فيمن تمتع، ثم استثنوا ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن حاضر المسجد الحرام لا دليل عليهم؛
= إجماعًا. . .، (و) ولجب (على قارن دم) لأنه ترفه بسقوط أحد السفرين كالتمتع وهو دم (نسك) لا دم جبران. . . (بشرط أن لا يكون)؛ أي: المتمتع والقارن (من حاضري المسجد الحرام) لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] "، وهذا في التمتع، والقران مقيس عليه (وهم)؛ أي: حاضرو المسجد الحرام (أهل الحرم ومن هو منه) دون (مسافة قصر) لأنَّ حاضري الشيء من حل فيه أو قرب منه أو جاوره بدليل رخص السفر فإن كان له منزلان قريب وبعيد فلا دم (فلو استوطن أفقي) ليس من أهل الحرم (مكة فحاضر) لا دم عليه لدخوله في العموم.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 392)، قال:(قوله: ولا تمتع ولا قران لمكي ومن حولها) لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. . .، ثم ظاهر الكتب متونًا وشروحًا وفتاوى أنه لا يصح منهم تمتع ولا قران لقولهم: وإذا عاد المتمتع إلى أهله ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه. . .، لكن صرح في التحفة بأنه يصح تمتعهم وقرانهم فإنه نقل في غاية البيان عنها أنهم لو تمتعوا جاز، وأساؤوا ولجب عليهم دم الجبر، وهكذا ذكر الإسبيجابي ثم قال: ولا يباح لهم الأكل من ذلك الدم ولا يجزئهم الصوم إن كانوا معسرين فتعين أن يكون المراد بالنفي في قولهم: لا تمتع ولا قران لمكي نفي الحل لا نفي الصحة، ولذا وجب دم جبر لو فعلوا. . .
لكن لو فعلوا كما يفعل الذي يأتي من خارج مكة ينطبق في حقهم الحكم.
وقول الجمهور هو الأولى والأرجح، إذ أنه يلتقي مع مفهوم الآية، وظاهرها، ومع الأحاديث الواردة في الموضوع.
* قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ فَقَالَ مَالِكٌ: حَاضِرُو الْمَسْحِدِ الْحَرَامٍ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوَى، وَمَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفةَ: هُمْ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ، فَمَنْ دُونَهُمْ إِلَى مَكَّةَ).
قال اللَّه تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، بينت الآية الكريمة أنَّ من كان من حاضري المسجد الحرام؛ فلا دم عليه؛ أي: لا يلزمه دم التمتع.
لكن من هم حاضري المسجد الحرام الذين أشارت إليهم الآية؟ هل هو أهل مكة؟ إذ إنَّ مكة قد يكون بعضها خارج الحرم، وقد يكون بعضها أيضًا قاصرًا على نهاية الحرم، أو هو الحرم نفسه؛ أي: المكان الذي حرم فيه الصيد ونحوه؟ أو كما قال الإمام مالك: أهل مكة، وأهل طوى: وهو وادٍ قريب من مكة
(1)
؟
أو هم الذين يكونون إلى مكة دون مسافة القصر؟ أو هم الذين لو قام إنسان من مكة إلى منازلهم لكانت المسافة لا تقصر فيها الصلاة؟ وهذا
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 29)، قال:(. . .، فالمقيم لا دم عليه إن كانت إقامته أصليًّا بل (وإن) كانت (بانقطاع)؛ أي: بسبب انقطاع (بها)؛ أي: بمكة، أو ذي طوى.
هو قول الإمامين (الشافعي
(1)
، وأحمد)
(2)
يعني: مسافة القصر وهي ثلاثة فراسخ، والفرسخ أربعة برد، والبرد ستة عشر فرسخًا وهو ثمانية وعشرون ميلًا، هذه المسافة التي تقصر فيها الصلاة وهي: ما بين الخمسة والسبعين والثمانين كيلو، قد جاء تحديدها عن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما
(3)
، قال: ما بين مكة، وجدة، وما بين مكة وعسفان؛ هذه المسافة تقصر فيها الصلاة، فنقل عن الإمامين الشافعي وأحمد: أنَّ حاضري المسجد الحرام هم: الذين يقطنون دون مسافة القصر، فهم قريبون من الحرم، ومن كان بعد ذلك فلا.
فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وذهب أبو حنيفة: إلى أنَّ حاضري المسجد الحرام: من كانوا من أهل المواقيت، أو دون المواقيت، أما من كان بعد المواقيت كأهل المدينة مثلًا فليسوا من حاضري المسجد الحرام.
ويظهر -واللَّه أعلم- أنَّ أقربها إلى الصواب - هو قول من يقول: بأنَّ حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة والحرم، إذ أن مكة قد اتسعت وامتدت، فنجد أنَّ بعض أطرافها قد تجاوزت الحرم من جهة التنعيم وربما
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 463)، قال:(أما حاضرو المسجد الحرام فلا دم عليهم وهم من دون مسافة القصر من الحرم) وذلك لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] أي: قريبة منه. . .).
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 308)، قال:(وهم)؛ أي: حاضرو المسجد الحرام: (أهل الحرم، ومن هو منه دون مسافة قصر)؛ لأن حاضر الشيء من حل فيه، أو قرب منه، أو جاوره، بدليل رخص السفر، فإن كان له منزلان قريب وبعيد، فلا دم.
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(398) قال: إنه بلغه أنَّ عبد اللَّه بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد، وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة.
تجاوزت بعضها أكثر من ذلك، فالأولى أن يقال: إنَّ حاضري المسجد الحرام أهل مكة والحرم وهذا هو أقربها إلى الصواب؛ لأن اللَّه قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، والحاضر في لغة العرب يطلق على القريب.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ لَيْلَتَانِ، وَهُوَ أَكمَلُ الْمَوَاقِيتِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: مَنْ كانَ سَاكِنَ الْحَرَمِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَطْ).
مذهب الشافعي، وكذلك أحمد كما ذكرنا: أنَّ من كان دون مسافة القصر فهم من حاضر المسجد الحرام؛ لأن ليلتين هي مسافة قصر عند الجمهور
(1)
، وعند أبي حنيفة
(2)
مسيرة ثلاثة أيام.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 474)، قال:(أربعة برد) متعلق بمسافر، برد بضم الموحدة والراء: جمع بريد بفتح الموحدة، والبريد أربعة فراسخ وثلاثة أميال، فمسافة القصر ستة عشر فرسخًا وثمانية وأربعون ميلًا، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة على الصحيح، وقيل: ألفا ذراع، وهي باعتبار الزمن مرحلتان؛ أي: سير يومين معتدلين، أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة. معتبرة (ذهابًا) بفتح الذال المعجمة (ولو ببحر).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (23811)، قال:(. . .، أنها ثمانية وأربعون ميلًا هو الشائع ونصَّ عليه الشافعي ونصَّ أيضًا على أنها ستة وأربعون وعلى أنها أربعون ولا منافاة، فإنه أراد بالأول الجميع، وبالثاني غير الأول والآخر، وبالثالث الأميال الأموية (وهو)؛ أي: السفر الطويل بالفراسخ (ستة عشر فرسخًا، وهي أربعة برد، وهي سير يومين)، أو ليلتين، أو يوم وليلة (معتدلين) مع المعتاد من النزول، والاستراحة، والأكل، والصلاة ونحوها.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 292)، قال:(يبلغ)، أي: السفر (ستة عشر فرسخًا تقريبًا) لا تحديدًا (برًا، أو بحرًا) للعمومات (وهي)، أي: الستة عشر فرسخًا (يومان قاصدان)؛ أي: مسيرة يومين معتدلين بسير الأثقال ودبيب الأقدام (أربعة برد) جمع بريد.
(2)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 122)، قال:
…
(مسيرة ثلاثة أيام ولياليها) من أقصر أيام السنة ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل بل إلى الزوال ولا اعتبار =
قال أهل الظاهر
(1)
: من كان ساكن الحرم فقط، وقد نقلوا ذلك عن بعض السلف، كطاوس، وغيره.
وقال الثوري: هم أهل مكة فقط
(2)
.
* قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ التَّمَتُّعُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ).
يرى أبو حنيفة كما أشرنا: أنه لا ينبغي لأهل مكة أن يتمتعوا، أو أن يقرنوا، وإن حصل منهم ذلك فعليهم دمٌ كالمتمتعين، فهو يخالف بذلك ظاهر الآية. وأما الجمهور (الأئمة الثلاثة): فيرون أنه يجوز لهم أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج، أو أن يقرنوا الحج مع العمرة، وليس عليهم في هذه الحالة دم.
* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: اخْتِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ حَاضِرِي الْمَسْحِدِ الْحَرَامِ بِالْأَقَلِّ وَالأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُشَكُّ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمْ من حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
لا شكَّ أنَّ أهل مكة هم حاضرو المسجد الحرام، وأهل الحرم كذلك فهذه (مني)، وهي إحدى المشاعر، بل أكثر ما يمكث فيها الناس في الحج (اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، أو بعضه لمن لم يتعجل) داخلة في الحرم؛ أما عرفات، فليست داخلة في الحرم.
= بالفراسخ على المذهب (بالسير الوسط مع الاستراحات المعتادة) حتى لو أسرع فوصل في يومين قصر؛ ولو لموضع طريقان؛ أحدهما: مدة السفر، والآخر: أقل قصر في الأول لا الثاني.
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 146)، قال:(. . .، وقال سفيان، وداود: هم أهل دور مكة فقط، وصح عن نافع مولى ابن عمر، وعن الأعرج، وروينا عن عطاء، وطاوس أنهم أهل مكة. . .).
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 146)، قال: وقال سفيان، وداود: هم أهل دور مكة فقط.
ومن هنا يعلل العلماء ويقولون: لماذا يحرم الحاج بالحج من مكة، وفي العمرة يحرم من خارج مكة؟
الجواب: وذلك لأنَّ الإنسان إذا أحرم بالحج من مكة، فإنه سينتقل فيه بين المشاعر إلى عرفات، وهي ليست من الحرم، ويجمع بين الحل والحرم، أما الذي يحرم بالعمرة من مكة؛ سيقضي العمرة بمكة، فكأنه قضاها في الحرم فما جمع بين الحل والحرم.
يقول العلماء: عليه دم، وعليه أن يخرج خارج مكة، ويُحرم من أي مكان من غير الحرم، ثم يأتي إلى مكة، كما فعلت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما خرج أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر لتحرم من هناك وتؤدي العمرة بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (كَمَا لَا يُشَكُّ أَنَّ مَنْ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَهَذَا هُوَ نَوْعُ التَّمَتُّعِ الْمَشْهُورُ، وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: أَنَّهُ تَمَتُّعٌ بِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَسُقُوطُ السَّفَرِ عَنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى النُّسُكِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْحَجُّ).
ما سبق هو النوع المشهور من التمتع وسُمِّي متمتعًا؛ لأنه تمتع بتحلله من الإحرام بين النسكين، وسقط عنه السفر مرة ثانية إلى النسك الثاني وهو الحج". يقال: تمتع بغذائه، وبملبسه؛ لأنه تحلل مما كان مانعًا له من ارتكاب بعض المحظورات التي عرفناها سابقًا.
* قوله: (وَهُنا نَوْعَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا، أَحَدُهُمَا: فَسْخُ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ، وَهُوَ تَحْوِيلُ النِّيَّةَ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ).
وهذا هو التمتع المقصود، وهو الذي أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إليه، وليس هو النوع الآخر الذي ذكره المؤلف.
* قوله: (فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ في الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَار).
أراد المؤلف بقوله هذا: أنَّ التمتع الذي هو فسخ الحج إلى عمرة
كَرِهه الصدر الأول، ولعله يُشير إلى ما أثر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما يريان أنَّ الإفراد أفضل.
* قوله: (وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ).
أما ابن عباس فالمعروف عنه: أنه يقول بوجوب التمتع
(1)
.
إذًا؛ فلا خلاف بين العلماء
(2)
في أنَّ من حجَّ مفردًا، أو قارنًا، أو متمتعًا، فإنه قد أدى النسك، ولم يقل أحدٌ بوجوب الإفراد، ولا بوجوب القران؛ وإنما قيل: بوجوب التمتع، وهو قول لابن عباس
(3)
، وأخذ به بعض العلماء المحققين من المتأخرين.
والحقيقة أنَّ ابن عباس ذهب إلى إيجاب التمتع؛ لأنه لما قيل له: كيف تقول بوجوب التمتع، وأبو بكر وعمر يقولان: بأن الإفراد أفضل، وهما اللذان قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذَّين من بعدي أبي بكر وعمر"
(4)
، فقال: أقول لكم: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء
(5)
.
(1)
سيأتي بيانه.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 253)، قال: وفي حديث أبي الأسود عن عروة عن عائشة، وحديث القاسم عنهما في إفراد النبي عليه السلام فيه: إفراد الحج وإباحة التمتع والقران، ولا خلاف في ذلك، وهو جمع الحج مع العمرة، واختلفوا في الأفضل، وفيما كان به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم محرمًا في خاصته في حجة الوداع.
(3)
جاء في صحيح البخاري (4396)، عطاء، عن ابن عباس؛ إذا طاف بالبيت فقد حل، فقلت: من أين؟ قال: هذا ابن عباس؟ قال: من قول اللَّه تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد.
(4)
أخرجه الترمذي (3662)، عن حذيفة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر، وعمر". وقال الألباني: إسناده حسن. انظر: "السلسلة الصحيحة"(1233).
(5)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن أخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 228)، قال: عن =
فابن عباس يرى: تأكيد التمتع، وأنه هو الذي ينبغي أن نفعله؛ لكننا لا نقول بالوجوب، وإنما نرى أنَّ التمتع أفضل من غيره.
* قوله: (وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ عَامَ حَجَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً")
(1)
.
اتفق العلماء
(2)
على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى مكة جمع أصحابه ومنهم من كان متمتعًا، ومنهم من كان مفردًا بالحج، ومنهم من كان قارنًا، والذين قرنوا الحج منهم من ساق الهدي، ومنهم من لم يسقه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي بأن يفسخوا ذلك، وأن يجعلوها عمرة، ولقد توقف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الأمر ورأوا أنَّ في ذلك مشقة، كيف نسمي الحج ثم نحوله إلى العمرة؟
فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ما أمرتكم به إني أعلمكم باللَّه، وأتقاكم له". والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمرهم إلا بما فيه خير.
ولقد أشكل ذلك على بعضهم فقالوا: يا رسول اللَّه! أنخرج إلى منًى، وذكر أحدنا أنه يجامع أهله إذا حل منه؛ أي: أنه سار متمتعًا حينئذٍ سيصبح حلالًا فيفعل ما يفعله المحل؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ما
= ابن عباس، قال:"تمتع النبي صلى الله عليه وسلم"، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر. قال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
(1)
أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (2915).
(2)
لم أقف عليه صريحًا إلا ما قاله ابن قدامة في المغني (5/ 253)، قال: ولنا، أنه قد صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا، أن يحلوا كلهم، ويجعلوها عمرة، إلا من كان معه الهدي، وثبت ذلك في أحاديث كثيرة، متفق عليهن، بحيث يقرب من التواتر والقطع، ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من أهل العلم علمناه.
أمرتكم به، واللَّه تعالى يقول:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، ويقول سبحانه:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 55] ".
ولا شكَّ أن الصحابة من أسرع الناس استجابة لأوامر وتوجيهات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكنه أشكل عليهم الأمر فأرادوا أن يتبينوا، وأن يستفصلوا الحكم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنهم تلبسوا بالحج سواء كانوا قارنين، أو مفردين، وأنهم سيتحولون من عبادة إلى عبادة أُخرى ففي ذلك تغيير في النية، ونقل لما سموه إلى غيره.
فبيَّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك هو الطريق السوي، وأنه يأمرهم بما فيه الخير لهم، وأنَّ عليهم أن يمتثلوا لأوامر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فما كان منهم إلا أن استجابوا له، ونزلوا إلى حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وامتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم.
أليس ذلك يدل على أهمية التمتع؟ وأنه رغب فيه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"
(1)
؛ أي: لأحرمت بالعمرة، بل إنه أمر الذين قرنوا الحج بالعمرة، أو العمرة بالحج دون أن يسوقوا الهدي، أمرهم بأن يفسخوا ذلك إلى العمرة، وهو صلى الله عليه وسلم قد ساق هديه.
* قوله: (وَأَمْرُهُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخَ إِهْلَالَهُ فِي الْعُمْرَةِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ).
هو قول أهل الظاهر
(2)
، وقول ابن عباس
(3)
، واختاره الإمام
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 99)، قال:(. . .، فإن كان لا هدي معه -وهذا هو الأفضل- ففرض عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولا بد، لا يجوز له غير ذلك، فإن أحرم بحج، أو بقران حج وعمرة ففرض عليه أن يفسخ إهلاله ذلك بعمرة يحل إذا أتمها لا يجزئه غير ذلك).
(3)
وقد تقدَّم ذكر قوله في حديث البخاري، وأيضًا عند مسلم (2992) عن قتادة، قال: =
أحمد
(1)
؛ بل هو القول الذي عليه كثير من المحققين من العلماء؛ لكنهم فضلوا القِران على التمتع إذا كان القارن قد ساق الهدي؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اختار ذلك، واللَّه تعالى يختار لنبيه ما هو أفضل وخير.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَسْخٌ لنَا خَاصَّةً؟ أَمْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لنَا خَاصَّةً")
(2)
.
ذهب الجمهور من العلماء
(3)
: أن ذلك خاص بالصحابة -رضوان اللَّه عليهم- فقالوا:
= سمعت أبا حسان الأعرج، قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت، أو تشغبت بالناس، أنَّ من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 532)، قال:(وسن لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج) نصًّا لأنه عليه الصلاة والسلام "أمر أصحابه الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي" متفق عليه. وقال سلمة بن شبيب لأحمد: كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة، قال: ما هي؟ قال: تقول: بفسخ الحج، قال: كنت أرى أنَّ لك عقلًا، عندي ثمانية عشر حديثا صحاحًا جيادًا، كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ وليس الفسخ إبطالًا للإحرام من أصله بل نقله بالحج إلى العمرة.
(2)
أخرجه أبو داود (1808)، وضعف إسناده الأَلْبَاني في "ضعيف أبي داود"(315).
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 502)، قال:(ثم سكن بمكة محرمًا) بالحج ولا يجوز فسخ الحج بالعمرة عندنا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 462)، قال: وأما الصحابة فكانوا ثلاثة أقسام: قسم أحرموا بحج وعمرة، أو بحج ومعهم هدي، وقسم بعمرة ففرغوا منها، ثم أحرموا بحج، وقسم بحج، ولا هدي معهم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقلبوه عمرة، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة، وهو خاص بالصحابة أمرهم به صلى الله عليه وسلم لبيان مخالفة ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واعتقادهم أنَّ إيقاعها فيه من أفجر الفجور.
إنَّ الذي كان مطلوبًا من الصحابة إيجاب ذلك، بدليل أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم غضب وأنكر عليهم لما وقفوا، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يغضب في أمر إلا أن يكون أمرًا منهيًّا عنه، وتركوا أمرًا واجبًا لا بدَّ منه.
فالتمتع كان واجبًا في حق الصحابة، ولذلك لما سئل أبو ذر رضي الله عنه:"ألنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: "بل لنا خاصة"
(1)
.
ففسروا ذلك بأن المراد إنما هو الإيجاب، وأما أن العمرة أو التمتع فيه شيء؛ فيرده ما جاء في حديث جابر بن عبد اللَّه الذي أخرجه مسلم في صحيحه
(2)
، وغيره
(3)
: "أن سراقة بن مالك سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، فالأولى أن يورد المؤلف هذا الحديث بجانب الحديث المذكور، وهو أن سراقة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم هل العمرة خاصة بهذا العام أم للأبد؟ فقال:"بل للأبد". وفي رواية
(4)
: "بل لأبد الأبد"؛ وأكمل تأكيدًا للحكم بأنها دخلت في الحج إلى يوم القيامة.
والذين قالوا: إن الرسول أمرهم بالإلزام؛ لأنَّ المشركين لم يروا أن العمرة في أشهر الحج؛ بل كانوا يرون ذلك من الفجور ومن فِعْل المنكر، فأكد لهم ذلك صلى الله عليه وسلم وأمر به ليبطل مزاعم المشركين، وليبين فسادها، وأنهم ليسوا على حق في ذلك.
* قوله: (وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ صِحَّةً يُعَارَضُ بِهَا الْعَمَلُ الْمُتَقَدِّمُ).
إذا لم يصح هذا؛ فقد صح حديث سراقة الذي أخرج في صحيح
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن أخرجه مسلم (1224)، قال: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة".
(2)
أخرجه مسلم (2915).
(3)
أخرجه البخاري (1785).
(4)
أخرجها أبو داود (1905)، وابن ماجه (2980).
مسلم، وهو حجة للذين يرون أن التمتع ثابت، وليس مفضولًا.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ")
(1)
.
لقد ثبت عن عمر
(2)
ما يخالف ذلك بقوله: "لو حَجَجْتُ لتمتعت".
ولما سئل عن النهي عن التمتع بالعمرة إلى الحج قال: "أبعد كتاب اللَّه شيء!!؟ "
(3)
، كيف يقال بأنه نهي عنها، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
ولا خلاف بين العلماء
(4)
بأنَّ المراد بالتمتع هنا: هو التمتع بالحج.
إذا قد ثبت عن عمر ما يخالف ذلك.
والرد علي ما أوردوه:
1 -
ربما أن عمر رضي الله عنه رأى أنَّ الناس قد اعتقد بعضهم في وجوب التمتع فقال ذلك.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 171)(806)، قال عمر: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنهى عنهما، وأعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8/ 274)(13881)، عن ابن عباس، قال: سمعت عمر يقول: لو اعتمرت، ثم اعتمرت، ثم حججت، لتمتعت.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8946)، قال: قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكني أردت كثرة زيارة البيت، قال: فقال علي رضي الله عنه: من أفرد الحج فحسن، ومن تمتع فقد أخذ بكتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 283)، قال: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ من دخل بعمرة في أشهر الحج وهو يريد المقام بها ثم أنشأ الحج أنه متمتع. . .
ولا خلاف بين العلماء أنه المتمتع المراد في الآية في قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} .
2 -
أو ربما كان يرى أنَّ الإفراد أفضل في حالة من الحالات.
وهذا سنبينه إن شاء اللَّه تعالى.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الحَجِّ كَانَتْ لنَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ
(1)
، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا كَانَ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَفْسَخُهُ فِي عُمْرَةٍ
(2)
هَذَا كُلُّهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]).
ردّ الفريق الآخر على هذا: بأن ذلك كان واجبًا عليهم؛ لرد المزاعم، والافتراءات التي كان يعتقدها أهل الجاهلية.
* قوله: (وَالظَّاهِرِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ).
ذهب أهل الظاهر على خلاف ما ذهب إليه الجمهور: بأنه لا يكون خاصًّا؛ إلا إذا دل عليه كتاب، أو سنَّة.
ومعلوم أن فعل الصحابة رضي الله عنهم مبني على أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو الذي أمرهم بأن يحلوا، وهو الذي غضب عندما حصل منهم توقف، وعندما وجههم إلى حقيقة الأمر عندما قالوا:"ويخرج أحدنا إلى منى"، وأكد بأن
(1)
أخرجه بهذأ اللفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار (3615) عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن متعة الحج، فقال: كانت لنا ليست لكم.
وأخرجه مسلم (2934)، قال عبد اللَّه بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي: كلمة، ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 194)، قال: عن أبي ذر قال: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة.
وأخرجه مسلم (2937)، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.
واجبهم في هذا المقام أن يسمعوا ويطيعوا؛ فدل ذلك علي خصوصه بثبوته عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ هَلْ فِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ؟ أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ").
كما سبق أنَّ من العلماء من حمله على الخصوص إيجابًا عليهم.
* قوله: (وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّمَتُّعِ فَهوَ مَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ تَمَتُّعُ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا فَحَبَسَهُ عَدُوٌّ أَوْ أَمْرٌ تَعَذَّرَ بِهِ عَلَيْهِ الْحَجُّ حَتَّى تَذْهَبَ أَيَّامُ الْحَجِّ، فَيَأْتِي الْبَيْتَ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُحِلُّ، ثُمَّ يَتَمَتَّعُ بِحَلِّهِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ يَحُجُّ وَيَهْدِيَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ يَكُونُ التَّمَتُّعُ الْمَشْهُورُ إِجْمَاعًا).
لقد تكلَّم العلماء فيما إذا أحرم الإنسان من الميقات أي: دخل في النسك هل له أن يقول: إن حبسني حابس؛ فمحلي حيثما حبسني؛
1 -
بعضهم يقول: لا يقول ذلك.
2 -
وبعضهم يقول: له أن يقول ذلك مطلقًا.
3 -
وبعضهم يقول: إن وجد في نفسه ضعفًا، أو كانت معه دابته أو سيارته ويخشى من توقفها وعدم الوصول.
والفائدة من ذلك: أنه لو قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني؛ لا يلزمه هدي أي: فدية.
ومعنى ذلك: لو قدر أنه قال هذه الكلمة ثم حبس عن الحج وما استطاع أن يصل إليه، فلا يلزمه أن يذبح دمًا، وإن لم يقلها فعليه هدي يذبحه ويفرقه في المكان الذي هو فيه، فإن لم يجد ينقله إلى مكان فيه فقراء.
وليس الحابس هنا هو العدو فقط؛ بل قد يكون عدوًّا، أو مرضًا، أو خوفًا، أو أن تتعطل به الراحلة التي يسافر عليها وغيرها، مما يمنعه من الوصول إلى الحرم.
وهذا القول ليس هو المراد بالتمتع؛ وإنما مراده ما تكلمنا عنه سابقًا.
* قوله: (وشَذَّ طَاوُسٌ أَيْضًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا تَمَتَّعَ مِنْ بَلَدٍ غَيْرِ مَكَّةَ كَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ).
شذَّ الإمام طاوس
(1)
عن الجمهور فقال ما فحواه: إنّ المكيَّ إذا انتقل إلى بلد آخر، كأن انتقل إلى المدينة فأقام بها؛ فإنَّ حكمه حكم المقيمين بهذه البلد فينطبق عليه حكمها، أما إذا انتقل مثلًا إلى بلدٍ لزيارة، أو لعلاج، أو إلى أمرٍ من الأمور؛ فبلدته مكة لقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؛ أي: أهله يسكنون أو يقيمون في مكة.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَنْشَأَ عُمْرَةً فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ عَمِلَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي حَلَّ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ حَلَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَبِقَرِيبٍ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ).
اختلف الفقهاء لو أن إنسانًا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج كأن تكون في رمضان ثم أداها في أشهر الحج سواء كان في شوال، أو في ذي القعدة، أو حتى ذي الحجة:
(1)
يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (8/ 752)(15941)، قال: عن طاوس، قال: ليس على أهل مكة متعة، ثم قرأ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، فإن فعلوا ثم حجوا فعليهم مثل ما على الناس.
فنسب للإمام (مالك) وقريب منه قال أبو حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
، والثوري: لو أنَّ إنسانًا مثلًا أحرم بالعمرة في رمضان ثم طاف وسعى وقصَّر، أو حلق في شهر شوال؛ يكون بذلك قد أدى العمرة في أشهر الحج، أما لو أدى بعضها في غير أشهر الحج فطاف مثلًا في رمضان، ثم سعى وحلق في شوال؛ فهذا هو الذي اختلف فيه العلماء.
والكلام هنا فيما يتعلَّق بالدم هل عليه دم أم لا؟
* قوله: (إِلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ اشْتَرَطَ أَنْ يُوقِعَ طَوَافَهُ كُلَّهُ فِي شَوَّالٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ، وَأَرْبَعَةً فِي شَوَّالٍ - كَانَ مُتَمَتِّعًا، وإِنْ كَانَ عَكْسَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ وَثَلَاثَةً فِي شَوَّالٍ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا دَخَلَ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَسَوَاءٌ طَافَ لَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ - لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ:
(1)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 390)، قال:(وهو أن يحرم بعمرة من الميقات. . .) فقوله: من الميقات للاحتراز عن مكة، فإنه ليس لأهلها تمتع ولا قران، لا للاحتراز عن دويرة أهله أو غيرها كما بيَّناه في القران، ولم يقيد إحرامها بأشهر الحج؛ لأنه ليس بشرط لكن أداء أكثر طوافها فيها شرط فلو طاف الأقل في رمضان مثلًا ثم طاف الباقي في شوال ثم حج من عامه كان متمتعًا، وإنما لم يقيد الطواف به لما يصرح به في هذا الباب، وإنما ذكر الحلق لبيان تمام أفعال العمرة لا؛ لأنه شرط في التمتع.
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 463)، قال:(فصل والتمتع) المطلق (وهو أن يحرم) الشخص (بالعمرة) ويتمها، ثم يحج، وأما التمتع الموجب للدم فهو أن يحرم بها ومن لم يكن من حاضري المسجد الحرام (من الميقات في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من مكة في عامه، ولو كان أجيرًا فيهما لشخصين) لما نقله ابن المنذر من الإجماع على أنه إذا فعل ذلك كان متمتعًا.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 530)، قال:(و) صفة (التمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج) نصًّا قال الأصحاب: ويفرغ منها.
هَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِإِيقَاعِ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ؟ أَمْ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ؟ ثُمَّ إِنْ كَانَ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ فَهَلْ بِإِيقَاعِهِ كُلِّهِ؟ أَمْ أَكْثَرِهِ؟ فَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولُ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلَّا بِإِيقَاعِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ بِالْإِحْرَامٍ تَنْعَقِدُ الْعُمْرَةُ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الطَّوَافُ هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بِهِ مُتَمَتِّعًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَعَ بَعْضَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَنْ أَوْقَعَهَا كُلَّهَا).
اشترط الثوري أن يوقع الطواف كلَّه في أشهر الحج، وبه قال الشافعي. وحجته: أنَّ الطواف هو أعظم أركان العمرة.
أما أبو حنيفة: فإنه يأخذ بالأغلب.
وحجته: أن من أوقع بعضها في أشهر الحج؛ كمن أوقعها كلها.
بينما قال أبو ثور: إذا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج؛ لا يكون متمتعًا بحالٍ.
وحجته: لأنَّ بالإحرام تنعقد العمرة.
والكلام كله يتعلَّق بإيجاب الدم عليه؛ فمن قال هو مؤدٍّ لها في أشهر الحج يلزمه دم، ومن قال: لا، فلا يلزمه دم.
* قوله: (وَشُرُوطُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ مَالِكٍ سِتَّةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَالرَّابعُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُنْشِئَ الْحَجَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَإِحْلَالِهِ مِنْهَا. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ وَطَنُهُ غَيْرَ مَكَّةَ. فَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ التَّمَتُّعِ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَشْهُورِ فِيهِ وَالِاتِّفَاقُ).
هذه الشروط عند مالك
(1)
وغيره وهي كالآتي:
1 -
أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد، وأن يكون هذا الشهر قريبًا من الشروط التي ذكرنا.
2 -
أن يكون ذلك في عامٍ واحدٍ.
3 -
أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: شوال، وذي القعدة، وذي الحجة.
4 -
أن تكون العمرة سابقة للحج لا أن يحج مفردًا.
وهنا سؤال: هل الذي يحج مفردًا يلزمه أن يعتمر بعد ذلك؟
الجواب: لا يلزمه، لكن إن لم يكن قد اعتمر فينبغي له أن يعتمر؛ لأن العمرة واجبة عليه، لا لأنه حج مفردًا؛ وإنما لأنه لم يعتمر سابقًا.
5 -
أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها؛ أي: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجِّ، وأن يفرخ منها، وأن يحجَّ في نفس العام الذي اعتمر فيه. هذه هي الشروط المتفق عليها، وهي التي تؤخذ من الآية ومن الأحاديث.
6 -
أن يكون وطنه غير مكة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 29)، قال:(. . . تمتع، وفسره بقوله (بأن) يحرم بعمرة، ثم يحل منها في أشهر الحج، ثم (يحج بعدها) بإفراد بل (وإن بقران) فيصير متمتعًا قارنًا ولزمه هديان لتمتعه. . .، (وشرط) وجوب (دمهما)؛ أي: التمتع والقران (عدم إقامة) للمتمتع، أو القارن (بمكة، أو ذي طوى)،. . . (و) شرط لتمتعه (فعل بعض ركنها)؛ أي: العمرة (في وقته)؛ أي: الحج ويدخل بغروب الشمس من آخر رمضان فإن حل منها الغروب، ثم أحرم بالحج بعده لم يكن متمتعًا.
(وفي شرط كونهما)؛ أي: الحج والعمرة (عن) شخص (واحد) -فلو كانا عن اثنين كأن اعتمر عن نفسه وحج عن غيره، أو عكسه أو اعتمر عن زيد وحج عن عمرو فلا دم-، وعدم شرطه فيجب الدم وهو الراجح.
(النوع الثاني: القِران)
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْقَوْلُ فِي الْقَارِنِ: وَأَمَّا الْقِرَانُ فَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالنُّسُكَيْنِ مَعًا، أَوْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُرْدِفَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ).
دخل المؤلف في النوع الثاني من أنواع الحج وهو: القران: وهو الذي يحرم بالحج والعمرة معًا؛ أي: يقوله عند دخوله في النسك: "لبيك اللهم حجًّا وعمرة".
أو أن يُهلّ بالعمرة في أشهر الحج ثم بعد ذلك يدخل عليها الحج، كما فعلت عائشة رضي الله عنها "أنها أهلت بالعمرة فلما حاضت أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تلبي بالحج" فكانت قارنة، ولذلك أراد الرسول صلى الله عليه وسلم تطييب خاطرها بعد الحج، فأرسل معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر لتُحْرِمَ من التنعيم فتؤدي العمرة.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِيهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ شَوْطًا وَاحِدًا).
وهذا هو رأي جماهير العلماء؛ وهو أنك تدخل الحج على العمرة؛ ما لم تشرع في أحكام العمرة؛ أي: ما لم يشرع في الطواف ولو شوطًا، فلو أحرمت بالعمرة متى وصلت إلى مكة تكون قارنًا فتدخل عليها الحج فلا مانع، ولكن قبل أن تدخل في أحكام العمرة.
* قوله: (وَقِيلَ: مَا لَمْ يَطُفْ وَيَرْكَعْ، وَيُكْرَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ).
قصد الصلاة عند المقام قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} والذي يتفق حوله العلماء: أنَّ الإنسان له أن يدخل الحج على العمرة؛ إذ هو إدخال الأكبر على الأصغر وهذا ليس فيه خلاف.
أما الخلاف في إدخال العمرة على الحج، أكثر العلماء يجيز ذلك، وبعضهم يمنع ذلك كالحنابلة، والظاهر كما في حديث أتاني جبريل "قال له: ارفع صوتك بالتلبية في هذا الوادي، وقل: عمرة في حجة".
* قوله: (وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ طَوَافٍ أَوْ سَعْيٍ مَا خَلَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ إِلَّا الْحِلَاقُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَارِنٍ).
الأولى أنَّ الإنسان إذا جاء إلى مكة وبدا له أن يكون قارنًا فإن لم يشرع بعدُ في أعمال العمرة؛ فإنَّ له أن يُدخل الحج على العمرة، أمَّا إن كان قد شرع؛ فلا ينبغي له ذلك، وقد قلنا: أنَّ الأولى له ألَّا يُدخل ذلك.
وهنا أراد بالحِلَاق الحلق.
* قوله: (وَالْقَارِنُ الَّذِي يَلْزَمُهُ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْقَارِنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ).
وكذلك أيضًا عن أبي حنيفة في من قرن العمرة بالحج من أهل مكة؛ فإنه يلزمه الدم، وإن كان يُكره أصلُ هذه المسألة.
(النوع الثالث: الإفراد)
* قوله: (وَأَمَّا الْإِفْرَادُ: فَهُوَ مَا تَعَرَّى مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا، بَلْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَقَطْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيٌّ أَفْضَلُ؟ هَلِ الْإِفْرَادُ؟ أَوِ الْقِرَانُ؟ أَوِ التَّمَتُّعُ؟).
تعريف الإفراد: وهو ما خلا من صفات التمتع، ومن صفات القران.
وتجرَّد بمعني تعرَّى، إذ تقول: تعرَّى الإنسان من ملابسه أي: خلعها وتجرَّد منها.
وهو: أن يلبي للحجِّ وحده فيقول: (لبيك حجًّا).
ثم تكلم عما هو أفضلها، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
1 -
من العلماء من يفضّل القِران مطلقًا وهم: الحنفية.
2 -
ومنهم من يرى أن التَّمتع هو الأفضل مطلقًا وهم: الحنابلة.
3 -
وهناك من يرى أنَّ الإفرَاد هو الأفضل مطلقًا وهم: المالكية والشافعية.
فهذه مسألة خلافية تارةً يكون القران هو الأفضل، وتارةً يكون التمتع هو الأفضل، وتارةً يكون الإفراد هو الأفضل.
فمن هذا نستطيع أن نقول: إنه من حيث الجملة فلا شكَّ أنَّ التمتع هو الأفضل عندي.
أما من حيث التفصيل:
فمتى يكون القران هو الأفضل؟
يكون القران أفضل في حقِّ من ساق الهدي من المكان الذي أحرم به؛ لأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حج قارنًا"؛ أي: جمع بين الحج والعمرة في نسك واحد، فكان أفضلًا؛ لأنَّ هذا هو الذي اختاره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه كما جاء في حديث جبريل "أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم:"قل: عمرة في حجة"
(1)
.
ومتى يكون التمتع هو الأفضل؟
يكون التمتع أفضل في حقِّ من لم يسقِ الهدي، والدليل عليه:"أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تمناه، ولا يتمنى إلا ما فيه الخير" وبيَّن أنَّ الذي حال بينه وبين التمتع؛ أنه ساق الهدي.
ومما يدل على أفضليته، وأهميته أيضًا: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه
(1)
أخرجه البخاري (1534).
بأن يحلوا من الحج إلى العمرة؛ أي: أن يفسخوا حجهم إلى عمرة، وقال لهم:"لو استقبلت من الأمر ما استدبرت؛ لما سُقت الهدي ولجعلتها عمرة"، ولما توقف الصحابة وترددوا وأشكل عليه ذلك، أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أمرًا جازمًا:"افعلوا ما أمرتكم به"
(1)
.
ومتى يكون الإفراد هو الأفضل؟
يكون الإفراد هو الأفضل: في حقِّ من أحرم بالعمرة في غير أشهر الحجِّ وفرغ منها، كأن يكون محرمًا بالعمرة في رمضان، وبقي بمكة للحج، فهنا إنَّما جاء بنسكين مستقلين.
وبعض العلماء يرى: أنَّ الإفراد أفضل في حق من جاء فأدى العمرة، ثم سافر، ثم أحرم بالحج، فيكون الإفراد هو الأفضل.
وبذلك نكون قد قرَّبنا بين هذه الأقوال، ولا تعارض بينها، فالتفاضل بينهم نسبي، وكل واحد منهم له وقت يتفضل فيه عن غيره.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا وَرُوِيَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا. فَاخْتَارَ مَالِكٌ الْإِفْرَادَ).
لقد بدا أنه كان مفردًا في حديث عائشة المتفق عليه حين قالت: "حججنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنَّا من أهلَّ بحج، ومنا من أهلَّ بعمرة متمتعًا، ومنا من أهلَّ بحج وعمرة، وأهلَّ رسول صلى الله عليه وسلم بالحج".
لكن الأحاديث التي في الصحيحين وفي روايتها تثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائلًا، فكيف نوفق بينها وبين قول عائشة في حديث صحيح:"وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج"؟.
(1)
تقدَّم تخريجه.
قال العلماء: أهلَّ بالحج من حيث الفعل؛ لأنَّ أفعال القارن كأفعال المفرد عندما يصل إلى مكة يطوف، وله أن يسعى، وله أن يؤخر سعي الحج، فالتقيا في العمل من هذه الناحية.
ومنهم من قال: "أحرم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج أولًا فأتاه جبريل وقال له: يا محمد! صلِّ في هذا الوادي، وقل: حجًّا وعمرة، أو حجة في عمرة، فجمع بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم"، وبذلك يمكن الجمع بين النصوص جميعًا.
والرَّاجح: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّ قارنًا.
فاختار مالك والشافعي الإفراد.
* قوله: (وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ"
(1)
، وَرَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ الْإِفْرَادُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى مُتَوَاتِرَةٍ صِحَاحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ
(2)
وَعَائِشَةَ
(3)
، وَجَابِر).
حديث جابر بن عبد اللَّه خرَّجه الإمام مسلم في صحيحه
(4)
، وهو أطول حديث جاء في الحج وقد اشتمل على أهمِّ مناسك الحج، وبيَّن لنا المناسك التي سار عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابتداءً من دخوله في النسك، حتى نهاية الحج، ولكنه أتى به هنا مجملًا.
(1)
أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (2888).
(2)
يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (8/ 429)، قال: عن ابن سيرين، قال: أفرد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحج بعده أربعين سنة، وهم كانوا لسنته أشد اتباعًا: أبو بكر وعمر وعثمان.
(3)
أخرجه مسلم (2892)، عن عائشة رضي الله عنها:"أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج".
(4)
أخرجه مسلم (2922).
* قوله: (وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابِ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ" وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ)
(1)
.
وهذا حديث متفق عليه
(2)
، وأحيانًا يطلق على القِران أنه تمتع فهنا سمّى القران تمتعًا بدليل: أنَّ كل واحد منهما يذبح هديه، فقالوا: يجوز على القارن اسم المتمتع لشبهه به، لكونه أدَّى عمرة وحجًّا في وقت واحد.
* قوله: (وَاخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ
(3)
. وَاعْتَمَدَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَارِنًا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، مِنْهَا:
حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِوَادِي الْعَقِيقِ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: أَهِلَّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَة فِي حَجَّةٍ" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
(4)
.
(1)
يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (8/ 275)، قال: عن أبي معنٍ، قال: سمعت ابن عمر وابن الزبير، وجابر بن زيد، وأبا العالية، والحسن يأمرون بمتعة الحج.
(2)
أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (2954).
(3)
تقدِّم ذكر قولها في الإفراد، وأخرج البخاري (1692)، ومسلم (2955)، عن عروة، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا أخرج البخاري (7229)، ومسلم (2903)، عن عروة أن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولحللت مع الناس حين حلوا".
(4)
أخرجه البخاري (1534).
وَحَدِيثُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: "شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعُثْمَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
).
عثمان رضي الله عنه هو الخليفة الثاني، وعليٌّ رضي الله عنه هو الخليفة الرابع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أقضاكم علي"
(2)
.
فعثمان كان ينهى عن المتعة فلما سمع علي ذلك حجَّ متمتعًا لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهَ عنها، بل يرى بعضهم: وجوبها، ولعلمه أنها سنة عنه.
* قوله: (وَحَدِيثُ أَنَسٍ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً"
(3)
.
وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا"
(4)
وَاحْتَجُّوا، فَقَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم هَدْيٌ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِرَانِ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَيَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ وَلَا يَكُونَ قَارِنًا.
وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابن عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى
(1)
أخرجه البخاري (1563).
(2)
أخرجه ابن ماجه (154)، وقال الألباني: إسناد صحيح على شرص الشيخين. انظر: "السلسلة الصحيحة"(1224).
(3)
أخرجه البخاري (4353)، مسلم (3003).
(4)
أخرجه البخاري (1556)، مسلم (2881).
أَنْحَرَ هَدْيِي"
(1)
.
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَشُكُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إِلَيَّ
(2)
.
وَاحْتَجَّ فِي اخْتِيَارِهِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً"
(3)
.
وَاحْتَجَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِفْرَادَ الْأَفْضَلُ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ رُخْصَةٌ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِمَا الدَّمُ.
وَإِذْ قُلْنَا فِي وُجُوبِ هَذَا النُّسُكِ، وَعَلَى مَنْ يَجِبُ، وَمَا شُرُوطُ وُجُوبِهِ، وَمَتَى يَجِبُ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَجِبُ، وَمِنْ أَيِّ مَكَانٍ يَجِبُ - قُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ قُلْنَا أَيْضًا فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ، يَجِبُ أَنْ نَقُولَ فِي أَوَّلِ أَفْعَالِ الْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ).
وهذا ما قد سبق بيانه من اختلاف الفقهاء في أفضلية أحدِ هذه الأنواع، بسبب اختلاف الأحاديث الواردة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل فريق متمَسكه ودليله.
(1)
أخرجه البخاري (1566)، مسلم (2956).
(2)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد" لابنه صالح (2/ 143) قال: قلت: الحج أيُّ ذلك أحبُّ إليك الإفراد أم القران؟ قال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرد، وروي عنه أنه قرن، وروي عنه أنه خرج من المدينة ينتظر القضاء ولم يذكر لا حجًّا ولا عمرةً، فلما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا وقال:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولم أسق الهدى، ولحللت كما تحلون"، وهذا بعد أن قدم مكة، وهو آخر الأمرين منه، وقال هذا القول وهو بمكة:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى"، فالذي يختار المتعة لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجمع الحج والعمرة جميعًا، ويعمل لكل واحد منهما على حدة. وانظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 530).
(3)
تقدَّم تخريجه.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(القَوْلُ فِي الإِحْرَامِ
وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ سُنَّةٌ
(1)
، وَأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ المُحْرِمِ حَتَّى قَالَ ابْنُ نَوَّارٍ
(2)
: إِنَّ هَذَا الغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الجُمُعَةِ).
وهذا الغسل قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه تجرَّد في ذي الحليفة
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 8)، حيث قال:" (وإذا أردت أن تحرم، فتوضأ، والغسل أفضل)؛ لما روى زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه. . . وإنما كان الغسل أفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 38)، حيث قال:" (و) ندب الغسل (لدخول غير حائض) ونفساء (مكة)؛ لأن الغسل في الحقيقة للطواف، فلا يُؤْمر به إلا مَنْ يصح منه الطواف".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 269)، حيث قال:" (ويُسَن الغسل للإحرام)؛ أي: عند إرادته بحج أو عمرة أو بهما أو مطلقًا، ولو صبيًّا أو امرأةً وحائضًا أو نفساء، وإنما لم يجب؛ لأنه غسل لمستقبل كغسل الجمعة والعيد، ولكره تركه وإحرامه جنبًا، ولغسل الولي غير المميز؛ لأن حكمة هذا الغسل التنظيف، ولهذا سن للحائض والنفساء".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 406)، حيث قال:" (ولسن لمريده)؛ أي: الإحرام (أن يغتسل؛ ذكرًا كان أو أنثى ولو حائضًا ونفساء) لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر أسماء بنت عُمَيس وهي نفساء أن تغتسل"، رواه مسلم "وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض"، (فإن رجتا)؛ أي: الحائض والنفساء (الطهر قبل الخروج من الميقات استحب) لهما (تأخير) الغسل (حتى تطهرا)؛ ليكون أكمل لهما".
(2)
لعل هذا الاسم مصحف، وقَدْ ذكر هذا النقل ابن عبد البر عن خويز منداد. يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 6)، حيث قال:"وقال ابن خويز منداد: الغسل عند الإهلال عند مالكٍ أوكد من غسل الجمعة".
واغتسل
(1)
، ولما نفستْ أسماء بنت عُمَيس بمحمد بن أبي بكر، أرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال: "اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي
(2)
بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي"
(3)
، فالاغتسال مسنونٌ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، لكنه ليس بواجب
(4)
، فلو أن إنسانًا ذهب ولم يغتسل لا يُعتبر مقصرًا، ولا إثم عليه، لكن الأَوْلَى في حقه أن يغتسلَ، ولا يشترط أن يكون الغسل من الميقات.
* قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ)
(5)
.
أمَّا أهل الظاهر، فَدليلُهُم ليس بالقويِّ، وهم يرون أيضًا أنَّ غسلَ الجُمُعة واجب
(6)
، وقد مر بنا ذلك
(7)
، والصَّحيح أنَّ الاغتسال للإحرام ليس بِوَاجِبٍ، وإنَّما هو سنةٌ
(8)
.
(1)
أخرجه الترمذي (830)، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أنه "رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل"، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(149).
(2)
يُنظر: "مختار الصحاح" للرازي (49)، حيث قال:" (ثفر) الدابة سير مؤخرتها. و (أثفرها) شد عليها الثفر. و (استثفر) بثوبه رد طرفه بين رجليه إلى حجزته".
(3)
جزء من حديث أخرجه مسلم (1218).
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 252)، حيث قال:"وأَجْمَعوا أنَّ الاغتسال غير واجب إلا ما رُوِيَ عن الحسن البصري، فإنه قال: إذا نسى الغسل عند إحرامه، فإنه يغتسلً إذا ذكره، وعن عطاء فيه القولان، قال: يكفي منه الوضوء، وقال غير ذلك، والمستحب منه الاغتسال عند الإحرام، وليس بواجب".
(5)
نقل هذا ابن عبد البر، لكن الذي وقفت عليه أنهم قالوا: هو سُنَّة. يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 22)، حيث قال:"ونستحب الغسل عند الإحرام للرجال والنساء، وليس فرضًا إلا على النفساء. . . ".
(6)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 255)، حيث قال:"مسألة: وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغٍ من الرجال والنساء، وكذلك الطيب والسواك".
(7)
عند قول المصنف: "المسألة الأولى: اختلفوا في طهر الجمعة، فَذَهب الجمهور إلى أنه سُنَّة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرضٌ، ولا خلاف -فيما أعلم- أنه ليس شرطًا في صحة الصلاة".
(8)
وتقدم نقل الإجماع عليه.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ مِنْهُ الوُضُوءُ)
(2)
.
فلَوْ لم يغتسل، أجزأه الوضوء، وهذا عند عامة العلماء.
* قوله: (وَحُجَّةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُرْسَلُ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالبَيْدَاءِ)
(3)
.
و"البيداء": هو مكان بذي الحليفة
(4)
، وهو الذي ورد في حديث جابر في "صحيح مسلم"
(5)
.
* قوله: (فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
وفي رِوَايةٍ أُخرى
(6)
: أنها أرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا المرسل الذي ذكر المؤلف وَصَله غيرُ مَالِكٍ
(7)
، إذًا، هو حديث متصل، وحجة في
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 8)، حيث قال:" (وإذا أردتَ أن تحرم، فتوضأ والغسل أفضل)؛ لما روى زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه. . . وإنما كان الغسل أفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره".
(2)
نقل قول الثوري ابن عبد البر، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 6)، حيث قال:"وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري: يُجْزئه الوضوء، وهو قول إبراهيم".
(3)
أخرجه مالك (3/ 464)، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن أسماء بنت عُمَيس؛ أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"مُرْها فَلْتَغْتسل، ثم لتهلل"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2555).
(4)
يُنظر: "معجم البلدان" للحموي (1/ 523)، حيث قال:"اسمٌ لأرض ملساء بين مكة والمدينة، وهي إلى مكة أقرب، تعدُّ من الشرف أمام ذي الحليفة، وفي قول بعضهم: إنَّ قومًا كانوا يغزون البيت، فنزلوا بالبيداء، فبعث اللَّه عز وجل جبرائيل فقال: "يا بيداء أبيديهم" وكل مفازة لا شيء بها فهي بيداء".
(5)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عُمَيس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع. . . ".
(6)
وهو حديث مسلم كما تقدَّم.
(7)
يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (6/ 132) فِي ذِكْرِ من وصله: "رواه مسلم متصلًا من حديث عبيد اللَّه بن عمر العمري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة"، وهذه الرواية أخرجها مسلم (1209/ 109)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نفست =
هذا المقام
(1)
.
* قوله: (فَقَالَ: "مُرْهَا، فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتُهِلَّ"، وَالأَمْرُ عِنْدَهُمْ عَلَى الوُجُوبِ).
والقَصْدُ بالإهلال
(2)
هنا إنَّما هو التلبية.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ الوُجُوبُ بِأَمْرٍ لَا مَدْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ
(3)
، وَمَالِكٌ يَرَى هَذِهِ الِاغْتِسَالَاتِ الثَّلاثَ مِنْ أَفْعَالِ المُحْرِمِ)
(4)
.
فلَيْس الغُسْلُ واجبًا عندهم؛ لعَدم وُرُود نصٍّ صريحٍ يوجبه.
= أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر، يأمرها أن تغتسل وتهل".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 4)، "والمعنى فيه صحيح عند جماعة العلماء في أن الحائض والنفساء تغتسلان وتُهلَّان بالحج، وإن شاءتا بالعمرة ثم تحرمان، وإن شاءتا فلتعملا عمل الحج كله إلا الطواف بالبيت".
(2)
يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 271)، حيث قال:"يقال: أهلَّ المحرم بالحج يهلّ إهلالًا، إذا لبَّى ورفع صوته".
(3)
أخرجه مالك (3/ 465)، عن نافع أن عبدَ اللَّه بن عمر كان يَغْتسل لإحرامه قبل أن يُحْرم، ولدخوله مكة، ولوُقُوفه عشية عرفة.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 38، 39): " (والسنة) لمريد الإحرام بحجٍّ، أو عمرة ولو صبيًّا، أو حائضًا، أو نفساء أربع: أوَّلها (غسل متصل) بالإحرام كغسل الجُمُعة، وهو من تمام السُّنة، فلو اغتسل غدوةً، وأحرم وقت الظهر، لم يجزه، ولا يضر الفصل بشد رحاله، وإصلاح جهازه (ولا دم) في تركه ولو عمدًا وقَدْ أساء. . . (و) ندب الغسل الدخول غير حائض)، ونفساء (مكة)؛ لأن الغسل في الحقيقة للطواف، فلا يؤمر به إلا مَنْ يصح منه الطواف. . . (و) ندب أيضًا (للوقوف) بعرفة ولو لحائضٍ ونفساء ووقته بعد الزوال، ويتدلك فيهما على الراجح تدليكًا خفيفًا".
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِحْرَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنِيَّةٍ).
والنِّيَّة أَمْرها عظيمٌ، وبها يُميَّزُ بين العادة والعبادة، وبين العبادة الواجبة وغير الواجبة، ولذلك نجد أن الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قد افتتح "صحيحه" بالحديث المتفق عليه:"إنَّما الأعْمَال بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ نوى"
(1)
، فالدخول في النُّسُك ليس بكلمة:"لبيك اللهم لبيك"، وإنما أن تنوي بقَلْبك الدخول في ذلك النسك
(2)
، لكن في هذا المقام، وفي هذه الشعيرة تتلفَّظ فتَقُول: إن كنت معتمرًا: "لبيك عمرة"، وإِنْ كنت مفردًا:"لبيك حجًّا"، وإن كنت متمتعًا:"لبيك عمرة"، ولك أن تكون متمتعًا بها إلى الحج، وَإِنْ كنتَ قارنًا تقول:"لبيك حجًّا وعمرة"، وَإنْ كان في صلاة فريضة، فيَحْسن أن يكون ذلك بعده، لكن هل يحتاج إلى أن ينشئ صلاة جديدة؟ ليس هناك دليل صريح على ذلك
(3)
، وإنما
(1)
أخرجه البخاري (1).
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 437)، حيث قال:" (وإذا لبى فقد أحرم) يعني: إذا نوى؛ لأن العبادة لا تتأدَّى إلا بالنية إلا أنه لم يذكرها لتقديم الإشارة إليها في قوله: "اللَّهمَّ إنِّي أريد الحج"، (ولا يصير شارعًا في الإحرام بمجرَّد النية ما لم يأتِ بالتلبية) ".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 21)، حيث قال:" (وركنهما)، أي: الحج والعمرة، ثلاثة، ولختص الحج برابع، وهو الوقوف بعرفة، الأول (الإحرام) وهو نية أحد النسكين مع قول أو فعل متعلقين به كالتلبية، والتجرد من المخيط كما يأتي، والراجح النية فقط".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 50، 51)، حيث قال:(الإحرام) يُطْلق على نية الدخول في النسك، وبهذا الاعتبار يعدُّ ركنًا، وعلى نفس الدخول فيه بالنية لاقتضائه دخول الحرم".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 521)، حيث قال:"أركان الحج). . . (والإحرام وهو النية)؛ أي: نية النسك، وَإنْ لم يتجرد من ثيابه المحرمة على المحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيَّات".
(3)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 9)، حيث قال:" (وصل ركعتين) يعني: بعد اللبس والتطيب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام "صلى ركعتين"، رواه مسلم والبخاري، ولا يُصلِّي في الوقت المكروه، وتُجْزئه المكتوبة كتحية المسجد، =
ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بعد صلاةٍ
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تُجْزِئُ النِّيَّةَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ).
نَعَمْ، تُجْزئ، وهَذَا هو القول الصحيح، ومُرَاد المؤلف، فلو أن إنسانًا نوى الدخول في النسك بقلبه، ولم ينطق بلسانه فيقول:"لبيك حجًّا"، صحَّ ذلك، لكنه أخذ بالمفضول وترك الأفضل، والأَوْلَى التلفُّظ بالنسك اقتداءً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام
(2)
، أما غير الحج فليس للمسلم أن يتلفظ، فإذا جاء المسلمُ مريدًا الصلاة أو الصيام، فإنَّه لا ينطق
= وعن أنسٍ أنه عليه الصلاة والسلام "صلى الظهر ثم ركب على راحلته".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 39)، حيث قال:" (ثم) رابع السنن لمريد الإحرام، (ركعتان والفرض مجز) عنهما، وَفَاته الأفضل".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 60)، حيث قال:" (ويُصلِّي ركعتين) ينوي بهما سُنَّة الإحرام للاتباع، متفق عليه، يقرأ سرًّا ليلًا ونهارًا، خلافًا لمَنْ زعم الجهر فيهما ليلًا، كسُنَّة الطواف في الأولى بعد الفاتحة الكافرون، وفي الثانية الإخلاص، ويُغْني عنهما غيرهما كسُنَّة تحية المسجد في تفصيلها السابق؛ لأنَّ القصد وُقُوع الإحرام إثر صَلَاةٍ كما أفاده نص البويطي أي: بحيث لا يطول الزمن بينهما عرفًا نظير ما مرَّ في نحو سنة الوضوء، ويُحْرمان وقت الكراهة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 407، 408)، حيث قال:" (ثم يحرم عقب صلاة مكتوبة أو) صلاة (نفل) ركعتين (ندبًا) نص عليه لأنه صلى الله عليه وسلم "أهلَّ في دبر صلاة"، رواه النسائي (وهو)؛ أي: إحرامه عقب الصلاة (أَوْلَى)؛ لحديث ابن عباس، قال: إني لأعلم الناس بذلك، خرج حاجًّا، فلمَّا صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين، أهلَّ بالحج حين فرغ منهما. رواه أحمد وأبو داود، وظاهر كلامهم في "المبدع"، و"المنتهى"، وغيرهما: أنه عقب صلاة فرض أو ركعتين نفلًا سواء".
(1)
أخرجه البخاري (1554)، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما "إذا أراد الخروج إلى مكة ادَّهن بدهنٍ ليس له رائحةٌ طيبةً، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي، ثم يركب، وإذا أستوت به راحلته قائمة، أحرم"، ثمَّ قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعل.
(2)
أخرجه البخاري (1570)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: قدمنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج، "فأمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعلناها عمرةً".
بذلك، بل يَنْوي في قلبه، ولو أن إنسانًا نطق بلسانه وهو يعتقد في قلبه خلاف ذلك، فإن ذلك لا ينفعه
(1)
.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: تُجْزِئُ النِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ).
(1)
اتفق الفقهاء على أن الأصلَ أن ينوي بقلبه، فإن تلفظ بها، فلا بأس شريطة أن يوافق لفظه ما في قلبه.
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 25)، حيث قال:"ومحلها القلب، والتلفُّظ بها مستحب، كذا في "السراج الوهاج".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 234)، حيث قال:"والأَوْلَى ألَّا يتلفظ؛ لأن النية محلها القلب، ولا مدخل للسان فيها (وإن) تلفظ و (تخالفا)، أي: خالف لفظه نيته (فالعقد)؛ أي: النية بالقلب هو المعتبر لا اللفظ إن وقع ذلك سهوًا، وأما عمدًا فمتلاعب تبطل صلاته".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 167)، حيث قال:"وَمَحلها القلب، والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة؛ كالجلوس للاعتكاف تارةً، وللاستراحة أُخرى، أو تمييز رتبتها كالصلاة تكون للفرض تارةً وللنفل أُخرى، وشرطها: إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنويِّ، وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكمًا، وألَّا تكون معلقةً، فلو قال: إن شاء اللَّه تعالى، فإن قصد التعليق أو أطلق لم تصح، وإن قصد التبرك صحت".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 86)، حيث قال:" (ومحلها)، أي: النية (القلب)؛ لأنها من عمله (فلا يضر سبق لسانه بخلاف قصده) ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 21)، حيث قال:" (وركنهما)؛ أي: الحج والعمرة ثلاثة، ويختص الحج برابع وهو الوقوف بعرفة، الأول (الإحرام) وهو نية أحد النسكين مع قول أو فعل متعلقين به كالتلبية، والتجرد من المخيط كما يأتي، والراجح النية فقط".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 55): "المحرم؛ أي: مريد الإحرام (ينوي) بقلبه وجوبًا بالخبر: "إنما الأعمال بالنيات"، ولسانه ندبًا للاتباع (و) عقبهما (يلبي) ندبًا، فيقول: نويت الحج، وأحرمت به للَّه تعالى، لبيك اللهم. . . إلخ. ولا تجب نية الفرضية جزمًا؛ لأنه لو نوى النفل، وقع عن الفرض، ولا عبرة بما في لفظه بخلاف مَا في قلبه، ويُسَن الاستقبال عند النية (فإن لبَّى بلا نية، لم ينعقد إحرامه) كما لو غسل أعضاءه من غير قصد (وإنْ نوى ولم يلبِّ، انعقَد علَى الصحيح) ".
وأحمد كذلك
(1)
، وقولهم هو الحقُّ في هذه المسألة، فلو اقتصر على النيَّة وترك التلبية، صَحَّ حجُّه، لكنه ترك الأَوْلَى.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: التَّلْبِيَةُ فِي الحَجِّ كَالتَّكْبِيرَةِ فِي الإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَهُ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ).
فَالتَّلبية عنده بمثَابة تَكْبيرة الإحرام في الصلاة، وتَكْبيرةُ الإحرام ركنٌ، فَهُوَ يَقيس عليها، لكن أبا حنيفة يتوسَّع في هذا الأمر، فلا يَشْترط أن تقول:"لبَّيك اللهم لبَّيك"، ولو قلت: اللَّه أكبر، أو لبيك وسعديك، أو سبحان ربي العظيم، أو نحو ذلك من الألفاظ التي بها ذِكْرٌ، فإنَّ ذَلكَ يجزئ كالحال في تكبيرة الإحرام، فإنَّه عند الحنفية لو قال الإنسان: اللَّه أكبر، واللَّه العزيز، اللَّه العزيز والقوي، لجاز ذلك
(3)
، لكن الأَوْلَى هو
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 408)، حيث قال:" (ولا ينعقد الإحرام إلا بالنية). . (فهي)؛ أي: النية (شرط فيه). . . (ويستحب التلفظ بما أحرم). . . (ونية النسك كافية، فلا يحتاج معها إلى تلبية، ولا سوق هدي). . . (وإِنْ لبى أو ساق هديًا من غير نية، لم ينعقد إحرامه) للخبر (ولو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة، فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس) بأن ينوي الحج، فيسبق لسانه إلى العمرة (انعقد) إحرامه (بما نواه دون ما لفظه) ".
(2)
يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (4/ 177)، حيث قال:"م: (ولا يصير شارعًا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأتِ بالتلبية) ش: بدون النية. . . في "الإيضاح" لا يصير داخلًا في الإحرام بمجرد النية حتى يضم إليها سَوْق الهدي أو التلبية. . . م: (لأنه) ش: أي لأن الحج م: (عقد على الأداء) ش: أَيْ على عبادةٍ تَشْتمل على أركانٍ مختلفةٍ، وكلما كان كذلك م: (فلا بد من ذكر) ش: يقصد به التعظيم، م: (كما في تحريمة الصلاة) ش: حيث اشترط الذكر في الابتداء وهو التكبير، م: (ويصير شارعًا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية؛ فارسيةً كانت أو عربيةً) ".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 161): "وهذا على أصل أبي حنيفة، ومحمد في باب الصلاة أنه يصير شارعًا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص للَّه تعالى يُرَاد به تعظيمه، لا غير، وهو ظاهر الرِّواية عن أبي يُوسُف ههنا".
الأخذ بمذهب جمهور العلماء، وهو أن الإنسان يُلبِّي، وأنه لو نسي التلبية، فإنَّ ذَلكَ لا يؤثر على حجه؛ لأن النيَّة هي الأساس في هذا العمل.
* قوله: (وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ")
(1)
.
ونجد أن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه ذكر أنه عندما استوى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عندما استقل راحلته، فكان على البيداء، أهلَّ بكلمة التوحيد، ثم فسر لنا كلمة التوحيد، فقال:"لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك"
(2)
.
هَذِهِ كلمة التوحيد؛ لأنَّها جَمعَتْ أنواع التوحيد الثلاثة، ففيها إشارةٌ إلى توحيد الربوبية، وفيها إشارةٌ إلى توحيد العبودية، وفيها دلالة على توحيد الأسماء والصفات
(3)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 254)، حيث قال:"وأجمع العلماء على القول بتلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لا شريك لك لبَّيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك لبيك، لبَّيك وسَعْديك، والخير بين يديك، لبَّيك والرَّغباء إليك والعمل".
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابرٍ:". . . فصلى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثمَّ ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه، من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك".
(3)
يُنظر: "شرح الطحاوية" لابن أبي العز (1/ 24)، حيث قال: "فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:
أحدها: الكَلَام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن اللَّه وَحْده خالق كل شيءٍ.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه اللَّه، أن يُعْبَد وحده لا شريك له".
وكلمة "لبيك"
(1)
، معناها: إجابة؛ أي: إجابة بعد إجابة، وهي كما يَقُول علماء اللغة: من ألب بالمكان أي: أقام به، فكأنَّ المسلمَ عندما يقول:"لبَّيك اللهم لبَّيك"، كأنه يقول: يا ربِّ، قد أَجبتُ دعوتك وأنا مقيمٌ على طاعتك، مجيبٌ لندائك:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27]، قَدْ أسلمت نفسي لك، ووَجَّهت وجهي إليك، وفَوَّضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
* قوله: (وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ؟ أَمْ لَا؟).
هل نقتصر على اللفظ الذي مرَّ بنا، أو نزيد كما جاء في بعض الآثار عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لبيك وسعديك، والرغباء إليك"
(3)
؟ إِنْ زدنَاه، فذَلكَ دعاءٌ حسنٌ.
* قوله: (فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 222)، حيث قال:"في حديث الإهلال بالحج: "لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك"، هو من التلبية، وهي إجابة المنادي: أي إجابتي لك يا رب، وهو مأخوذٌ من لب بالمكان وألب به إذا أقام به، وألب على كذا، إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير: أي إجابة بعد إجابة".
(2)
أخرجه مالك (3/ 479)، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر أن تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك لا شريك لك".
قَالَ: وكان عبد اللَّه بن عمر يزيد فيها: "لبَّيك لبَّيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك، والرغباء إليك، والعمل".
(3)
هذه الزيادة من ابن عمر كما أخرجها مسلم (1184)، وغيره.
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 81)، حيث قال:"وهو فرض -ولو مرة- وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك".
ودَعْوى الوُجُوب هذه غير مُسلَّمٍ بها؛ لأنه جاء في حديث جابر الطويل الذي وصف لنا حجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "فمنَّا من أهلَّ بالتلبية، ومنا من أهلَّ بالتكبير"
(1)
، فلا مانعَ أن يكبر الإنسان اللَّه، وأن يذكر اللَّه سبحانه وتعالى، وأن يحمده، لكن الأَوْلَى هو هذه التلبية.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ فِي تَبْدِيلِهِ
(2)
، وَأَوْجَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ)
(3)
.
ولَا شكَّ أن رَفْعَ الصوت بها إنما هو شيءٌ عظيمٌ، وربما يقول قائل: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة لما كبروا ورفعوا أصواتهم بالتكبير:
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 346)، حيث قال:" (قوله: وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك). . . (قَوْله: وَزِدْ فيها ولا تنقص)؛ أي: في التلبية، ولا تنقص منها، والزيادة مثل: "لبَّيك وسَعْديك والخير بيديك، والرغباء إليك، والعمل لبَّيك".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 42)، حيث قال:"وندب (اقتصار على تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم) وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك"، وكره مالك الزيادة عليها".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 238)، حيث قال:"ولفظها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. . .، ولا تُكْرَه الزيادة عليها".
ولمَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 420)، حيث قال:" (وصفة التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). . . (ولا تُسْتحب الزيادة عليها). . . لأنه صلى الله عليه وسلم لَزِمَ تَلْبيته، فكَرَّرها ولم يزد عليها (ولا يكره) ".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 81)، حيث قال:"ونستحب أن يكثر من التلبية من حين الإحرام فما بعده دائمًا في حال الركوب، والمشي، والنزول، وعلى كلِّ حالٍ، ويرفع الرجل والمرأة صوتهما بها ولا بد".
"ارْبَعُوا
(1)
على أنفسكم، فإنَّكمْ لا تدعون أصمَّ، ولا غائبًا، إنَّما تدعون سميعًا بصيرًا، إنَّ الذي تدعون أقرب إلى أَحدكُمْ من عُنُق راحلته"
(2)
؛ ولذلك جاء قول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، لكن الحديث إنَّما هو في التكبير عمومًا، أما بالنسبة للتلبية فإنه قد جَاءَ في ذلك الحديث الصحيح الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"أتاني جبريل. . وأمَره أن يأمر أصحابه بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية"
(3)
، فلَا شكَّ أنَّ رَفْعَ الصوت بالتلبية مطلوبٌ، وكان الصحابة رضي الله عنهم من شدة رفعهم لأصواتهم إذا بلغوا الروح، كانت تُبَحُّ أصواتهم
(4)
.
* قوله: (وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الجُمْهُورِ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "غريب الحديث" لابن الجوزيِّ (1/ 375)، حيث قال:"وقال عليه السلام: "اربعوا على أنفسكم"، أَيْ: ارفقوا".
(2)
أخرجه البخاري (6384)، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: كنَّا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فكنَّا إذا علونا كبَّرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا".
(3)
أخرجه أبو داود (1814)، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن آمر أصحابي ومَنْ معى أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال" أو قال: "بالتلبية"، يريد أحدهما، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2549).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (3723)، عن يعقوب بن زيد قال:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبحَّ أصواتهم من شدة تلبيتهم"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "مناسك الحج والعمرة"(16).
(5)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2)، حيث قال:" (وأكثر التلبية متى صليت أو علوت شرفًا أو هبطت واديًا أو لقيت ركبًا وبالأسحار رافعًا صوتك بها). . . وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها، ولا يجهد نفسه زيادةً على طاقته كَيْ لا يتضرر بذلك، ولا يتركه؛ لأنه سُنَّة، فإن تركه يكون مسيئًا، ولا شيء عليه".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 40)، حيث قال:" (و) ندب (توسط في علو صوته و) ندب توسط (فيها)؛ أي: في التلبية، فلا يكثر جدًّا حتى يلحقه الضجر، ولا يقلل حتى تفوته الشعيرة".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 273)، حيث قال: =
بَلْ مستحبٌّ عن الأئمة الأربعة، وعند غيرهم
(1)
.
* قوله: (لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ وَبِالإِهْلَالِ")
(2)
.
وَهَذا الحديثُ روَاه مالكٌ في "الموطإ"، وغَيره.
* قوله: (وَأَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ تَلْبِيَةَ المَرْأَةِ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ هُوَ أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا بِالقَوْلِ)
(3)
.
وليس القصد من ذلك هو كون صَوْتها عورةً
(4)
، ولكن المرأة موضع
= " (ويستحب). . . (ورفع صوته)؛ أي: الذكر (بها) رفعًا لا يضر بنفسه (في دوام إحرامه). . . أما رفع صوته بها في ابتداء الإحرام، فلا يُسَن بل يسمع نفسه فقط، والمرأة ومثلها الخنثى تسمع نفسها فقط، فَإن جهرت كره حيث يكره جهرها في الصلاة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 419)، حيث قال:"سن (رفع الصوت بها) لقول أنسٍ: "سمعتهم يصرخون بها صراخًا"، رواه البخاري (ولكن لا يجهد نفسه في رفعه زيادة عن الطاقة) خشية ضرر يصيبه".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 57)، حيث قال:"وقال أبو حنيفة والثوري وأصحابهما والشافعي: يرفع المحرم صوته بالتلبية عند اصطدام الرفاق والإشراف والهبوط واستقبال الليل في المساجد كلها".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الإجماع" لابن القطان (1/ 255)، حيث قال:"وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية إلا قدر ما تسمع نفسها، فهي خارجةٌ من ظَاهر الحديث".
(4)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(1/ 406)، حيث قال:" (قوله: وصوتها) معطوف على المستثنى يعني: أنه ليس بعَوْرةٍ (قوله: على الراجح) عبارة "البحر" عن "الحلية" أنه الأشبه".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 95)، حيث قال: " (قوله: فلا يصح من امرأة)؛ أي: لحرمة أذانها، وأما قول اللخمي وسند والقرافي يكره أذانها فينبغي أن تُحْمل الكراهة في كلامهم على المنع، إِذْ ليس ما ذَكَروه من الكراهة بظاهرٍ؛ لأن صوتها عورةٌ. . . وقَدْ يُقَال: إن صوت المرأة ليس عورةً حقيقةً بدليل رواية الحديث =
فتنة، فكما تُنْهى عن الخروج والتزيُّن بالأسواق والتعطُّر
(1)
، فكذلك منهية عن أن ترفع صوتها؛ لأنه مولد الفتنة، ولذلك تلبي بصوتٍ منخفضٍ تُسْمع نفسها، كَمَا ذكر المؤلف، أو تسمع مَنْ معها من المُلَاصقات لها، السائرات معها.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْفَعُ المُحْرِمُ صَوْتَهُ فِي مَسَاجِدِ الجَمَاعَةِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ إِلَّا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ مِنًى، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا)
(2)
.
وَهَذا التعليل إنَّما ذكر عن بعض السلف
(3)
، لكن الذي ورد هو الإطلاق، وهو أن الإنسانَ يرفع صوتَه في كلِّ مكانٍ.
= عن النساء الصحابيات، وإنما هو كالعورة في حرمة التلذُّذ بكل، وَحِينَئذٍ فحمل الكراهة على ظاهرها وجيهٌ. . تأمل".
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 120)، حيث قال:"وصوت المرأة ليس بعورة، ويجوز الإصغاء إليه عند أَمْن الفتنة، وندب تشويهه إذا قرع بابها، فلا تجيب بصوتٍ رخيمٍ، بل تغلظ صوتها بظهر كفِّها على الفم".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 627)، حيث قال:" (وصوت الأجنبية ليس بعورةٍ، ويحرم تلذذ بسماعه)؛ أي: صوت المرأة غير زوجة".
(1)
أخرجه أبو داود (4173)، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استعطرت المرأة، فمرت على القوم ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا"، قال قولًا شديدًا، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(323).
(2)
يُنظر: "الموطأ"(1/ 334)، حيث قال:"قال مالكٌ: "لا يرفع المحرم صوته بالإهلال في مساجد الجماعات ليسمع نفسه ومَنْ يليه إلا في المسجد الحرام، ومسجد منى، فإنه يرفع صوته فيهما".
(3)
ذَكَره مَالكٌ في "الموطإ"(1/ 334)، قال:"لا يرفع المحرم صوته بالإهلال في مساجد الجماعات ليسمع نفسه ومَنْ يليه إلا في المسجد الحرام ومسجد منى، فإنه يرفع صوته فيهما".
وذكر القاضي عياض التعليل، فقال: لئلا يشهر نفسه بين أهل المسجد بأنه حاجٌّ ويخاف فتنته، وهذا مأمون في المسجدين؛ لأن جميع مَنْ فيهما بتلك الصفة. انظر:"إكمال المعلم"(4/ 326).
* قوله: (وَاسْتَحَبَّ الجُمْهُورُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الرِّفَاقِ)
(1)
.
فعندما يرى المسلم مجموعةً من المسلمين يُلبُّون، فينبغي أن يُبَادلهم التَّلبية.
* قوله: (وَعِنْدَ الإِطْلَالِ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ)
(2)
.
أَيْ: يُلبِّي عندما يهبط في وادٍ، في منخفضٍ، وعندما يرتفع على مكانٍ.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ)
(3)
.
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 14)، حيث قال:" (وأكثر التلبية متى صليت أو علوت شرفًا أو هبطت واديًا أو لقيت ركبًا، وبالأسحار رافعًا صوتك بها)، وكذا إذا استيقظ من نومه أو استعطف راحلته وعند كل ركوب ونزول".
ولمَذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 39)، حيث قال:" (وجددت) ندبًا (لتغير حال) كقيام وقعود وصعود وهبوط وركوب ومُلَاقاة رفاف (وخلف صلاة) ولو نَافلةً".
ولمَذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 237، 238)، حيث قال:"ويُسْتحبُّ إكثار التلبية، ورفع صوته بها في دوام إحرامه، وخاصةً عند تغاير الأحوال كركوبٍ ونزولٍ وصعودٍ وهبوطٍ واختلاطِ رفقةٍ".
ولمَذْهَب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 421)، حيث قال:" (ويتأكد استحبابها إذا علا نشزًا أو هبط واديًا، وفي دبر الصلوات المكتوبات ولو في غير جماعة) وعند (إقبال الليل) وإقبال (النهار وبالأسحار وإذا الْتقَت الرفاق وإذا سمع ملبيًا أو أتى محظورًا ناسيًا إذا ذكره، أو ركب دابته أو أنزل عنهما أو رأى البيت) ".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 255)، حيث قال:"وَجَميع العلماء يستحبُّون التلبية في دبر كل صلاةٍ، وعلى كل شرفٍ، وأَجْمَعوا بالتلبية بالليل والنهار، وعلى الآكام، وفي الصحاري، وعلى كل شرفٍ، وفي كل وادٍ، وعند الركوب، وإذا استوى به البعير قائمًا، إلا مالك فإنه كره له ذلك إلا في المسجد الحرام".
(3)
يُنظر: "معرفة السنن" للبيهقي (7/ 132)، حيث قال:"ومشهورٌ عن أبي حازمٍ، أنه قال: كان أَصْحَابُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا يبلغون الرَّوحاء حتى تبح حُلُوقهم من التلبية".
و"الرَّوْحاءُ": مكان معروف على الطريق الذي بين مكة وجدَّة
(1)
.
* قوله: (وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى التَّلْبِيَةَ مِنْ أَرْكَانِ الحَجِّ، وَيَرَى عَلَى تَارِكهَا دَمًا، وَكَانَ غَيْرُهُ يَرَاهَا مِنْ أَرْكَانِهِ)
(2)
.
أما جمهور العلماء فلا يرون أن فيها دمًا
(3)
.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً أَنَّ أَفْعَالَهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "معجم ما استعجم" للبكري (2/ 681)، حيث قال:"قرية جامعة لمزينة على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون ميلًا".
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 28، 29)، حيث قال:" (و) وجب على المحرم المكلف، ذكرًا أو أنثى: (تلبية) (و) وجب (وصلها به)؛ أي: بالإحرام، فمَنْ تركَها رأسًا، أو فصل بينها وبينه بفصلٍ طويلٍ، فعليه دمٌ".
(3)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 162)، حيث قال:"لا خلاف في أنه إذا نوَى، وقرن النية بقولٍ وفعلٍ هو من خصائص الإحرام أو دلائله أنه يصير محرمًا بأن لبى ناويًا به الحج إن أراد به الإفراد بالحج أو العمرة. . . ولو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظيم اللَّه تعالى مقرونًا بالنية، يصير محرمًا".
ولمَذْهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 233)، حيث قال:" (وَإِنْ نوَى ولم يلبِّ، انعقد على الصحيح) كسائر العبادات، والثاني: لا ينعقد لإطباق الأمة عليها عند الإحرام؛ كالصلاة لا تنعقد إلا بالنية والتكبير".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 419)، حيث قال:" (والتلبية سنة)، لفعله، صلى الله عليه وسلم، وأمره بها، وهي ذكر فيه، فلم تجب كسائر الأذكار (ويُسَن ابتداؤها)؛ أي: التلبية (عقب إحرامه) على الأصح، وقيل: إذا استوى على راحلته، وجزم به في "المقنع" وغيره، وتبعهم في "المختصر" (و) يسن (ذكر نسكه فيها) ".
(4)
يُنظر: "إرشاد الفحول" للشَّوكانيِّ (1/ 104، 105)، حيث قال:"الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانًا كقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، و"خذوا عني مناسككم"، وكالقطع من الكوع بيانًا لآية السرقة، فلا خلاف أنه دليل في حقنا، وواجب علينا، وإن ورد بيانًا لمجمل، كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوبٍ وندبٍ، كأفعال الحج وأفعال العمرة، وصلاة الفرض وصلاة الكسوف". ويُنظر: "المستصفى" للغزالي (273).
لَكن جَابرًا بَيَّنَ أنَّ منهم مَنْ كان يُلبِّي، ومنهم مَنْ كان يُكبِّر
(1)
.
* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"
(2)
).
وَهَذا الحديث عمدةٌ في أحكام الحجِّ، والرسول صلى الله عليه وسلم حرص كلَّ الحرص أن يحج معه عددٌ كبيرٌ من المسلمين، فحج وكان معه عدد غفير من المؤمنين، وحرص الصحابة رضي الله عنهم على أن يأخذوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كل أمرٍ من الأمور.
* قوله: (وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ لَفْظَهُ فِيهَا فَقَطْ، وَمَنْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ لَفْظِهِ، فَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ:"أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"، فَذَكَرَ التَّلْبِيَة الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ:"وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ: لَبَّيْكَ ذَا المَعَارجِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ يَسْمَعُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا"
(3)
، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ
(4)
، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
(5)
، وَعَنْ
(1)
أخرجه مسلم (1284)، عَنْ عَبْد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، قال:"غَدَونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من منًى إلى عرفات، منا الملبِّي، ومنَّا المُكبِّر".
(2)
أخرجه مسلم (1297)، عن جابرٍ، يَقُول: رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:"لتأخُذُوا مَنَاسككم، فَإنِّي لا أَدْري لعَلِّي لا أحجُّ بعد حَجَّتي هَذِهِ".
(3)
أَخْرَجه أبو داود (1813)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أَهلَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر، قال: والتاس يَزيدُون "ذا المعارج"، ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئًا. . وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" الأم (1591).
(4)
أخرجه مسلم (1184)، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، قَالَ: وكان عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: "لبَّيك لبَّيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل".
(5)
أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8/ 214)، عن المسور بن مخرمة، قَالَ: كانت تلبية عمر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبَّيك، مرغوبًا ومرهوبًا إليك، لبَّيك ذا النَّعماء والفضل الحسن.
أَنَسٍ
(1)
وَغَيْرِهِ
(2)
، وَاسْتَحَبَّ العُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ المُحْرِمِ بِالتَّلْبِيَةِ بِأَثَرِ صَلَاةٍ يُصَلِّيهَا)
(3)
.
ومُرَاد المؤلف هنا ابتداؤه بالتلبية بعد أن يدخل في النُّسُك، ومن العلماء مَنْ يرى أن الدُّخولَ في النسك ينبغي أن يكون بعد صلاة، وهذا أمرٌ ليس محلَّ خِلَافٍ عندهم إِنْ كانت هناك فريضة، لَكن هل له أن يُنْشئ صلاةً ليدخل في النُّسُك بعدها؟ لا يوجد نصٌّ صريح في هذه المسألة، لكن هل يلبي بعد الدُّخُول في النسك مباشرةً أو بعد أن يصعد على راحلتِهِ؟ هذه كلُّها أقوالٌ وَرَدتْ عن العلماء، فمنهم مَنْ ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهلَّ عندما استوت الراحلة كما ورد في حديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه أنه سمعه عندما استوى على راحلته، ومنهم مَنْ قال: عقب فريضة، ومنهم مَنْ ذكر أنه أهلَّ لما صعد على البيداء كما في حديث جابر، وابن عباس
(4)
.
* قوله: (فَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ بِأَثَرِ نَافِلَةٍ
(5)
؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ مُرْسَلِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ")
(6)
.
(1)
أخرجه البزار في"مسنده"(13/ 266)، عن ابن سيرين، عن أخيه يحيى بن سيرين، قال: كانت تلبية أنسٍ: لبَّيك حجًّا حقًّا تعبُّدًا ورقًا. وربما قال: كان يقول ذلك إذا فرغ من تلبيته. قال البوصيري: "رواه مسدد، ورواته ثقات". انظر: "إتحاف الخيرة"(3/ 177).
(2)
أخرج ابن سعد في "الطبقات"(1/ 283)، عن مسلم بن أبي مسلم، قال: سَمعت الحسن بن علي يزيد في التلبية: "لبيك يا ذا النعماء والفضل الحسن".
(3)
تقدَّم مفصلًا.
(4)
سيأتي بيانه.
(5)
يُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 522)، حيث قال:" (ويحرم الحاج أو المعتمر بإثر) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وفتحهما (صلاة فريضة أو نافلة يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك) ".
(6)
أخرجه مالك (1/ 332)، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان:"يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين. فإذا استوت به راحلته أهلَّ".
ولَا نزاعَ في استحبابها بعد الفريضة، لكن هل ينشئ صلاةً؟ هذَا الَّذي اختلَف فيه العلماء، فَبَعْضهم قال: يفعل ذَلكَ، وبَعْضهم قَالَ: ليس فيه نصٌّ
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفَتِ الآثَارُ فِي المَوْضِعِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
ومرادُ المؤلف الموضعُ الذي أهلَّ منه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية.
* قوله: (. . . بِحَجَّتِهِ مِنْ أَقْطَارِ ذِي الحُلَيْفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ
(2)
: مِنْ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِ)
(3)
.
يَعْني أنَّه لبَّى صلى الله عليه وسلم بعد أن صلَّى بمسجد ذي الحُلَيفة، كَمَا في "سنن النسائي"
(4)
، وغيره
(5)
.
(1)
تقدَّم مفصلًا.
(2)
وهم الحنفية والحنابلة، ويُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 9)، حيث قال:" (ولب دبر صلاتك تنوي بها الحج)؛ أي: لب عقيب الصلاة، وأنت تنوي الحج بالتلبية، لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام "صلى ركعتين بذي الحليفة، وأوجب في مجلسه أي: التلبية".
ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 407، 408)، حيث قال:" (وهو)؛ أي: إحرامه عقب الصلاة (أولى)؛ لحديث ابن عباس قال: إني لأعلم الناس بذلك، خرج حاجًّا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين، أهلَّ بالحج حين فرغ منهما. . رواه أحمد وأبو داود".
(3)
أخرجه البخاري (1542)، عن سالم بن عبد اللَّه أنه سمع أباه يقول:"ما أهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد"، يعني: مَسْجد ذي الحُلَيفة.
(4)
أَخْرَجه النسائي (2757)، عن سالم، أنه سمع أباه يقول: بَيْداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، "ما أهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَّا من مسجد ذي الحُلَيفة"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1097).
(5)
البخاري (1542)، ومسلم (1184)، ولفظ البخاري، عن سالم بن عبد اللَّه، أنه سمع أباه، يقول:"ما أَهلَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد"، يعني: مسجد ذي الحليفة.
* قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَحْرَمَ حِينَ أَطَلَّ عَلَى البَيْدَاءِ)
(1)
.
كَمَا جَاء في حَديث جَابِرٍ الذي في "صحيح مسلم"
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ)
(3)
.
كَمَا جاء في حديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه
(4)
.
* قوله: (وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كُلٌّ حَدَّثَ عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالِهِ عليه الصلاة والسلام، بَلْ عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالٍ سَمِعَهُ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 49)، حيث قال:"وقال آخرون: إنما أحرم حين أطل على البيداء، وأشرف عليها".
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتَّى إذا استوت به ناقتُهُ على البيداء. . . فأَهلَّ بالتوحيد. . . "، وقد تقدم.
(3)
وهم المالكية والشافعية، ويُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 39)، حيث قال:" (يحرم الراكب إذا استوى) على ظهر دابته، ولا يتوقف على مَشْيها (والماشي إذا مشى)، ولا ينتظر الخروج إلى البيداء".
ويُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 237)، حيث قال:" (ثم الأفضل أن يحرم) الشخص إن كان راكبًا (إذا انبعثت)؛ أي: استوت (به راحلته) أَيْ: دابته كما في "المحرر" قائمة إلى طريق مكة للاتباع، رواه الشيخان (أو) يُحْرم إذا (توجه لطريقه) حال كونه (ماشيًا). . . (وفي قولٍ: يَحْرم عقب الصلاة) جالسًا للاتباع، رواه الترمذي، وقال: إنه حسنٌ صحيحٌ".
(4)
أخرجه البخاري (1552)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"أَهلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمةً"، ومسلم (1184)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما وتقدم.
(5)
أخرجه أبو داود (1770)، عَنْ سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد اللَّه بن عباس: يا أبا العباس، عَجبتُ لاختلاف أصحاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أوجب، فقال:". . . فأهلَّ بالحج حين فَرَغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلَّت به ناقته أهلَّ. . . فقالوا: إنما أهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين استقلَّت به ناقته. . . فلمَّا علَا على شرف البيداء أهل. . . فقالوا: إنما أهلَّ حين علا على شرف البيداء. . . "، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف أبي داود - الأم"(312).
وابن عباس أرَاد أن يجمع بين هذه الأقوال الثلاثة، وأنه ليس هناك تعارض بينها، فالذي سمع تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الدخول في النسك لم يسمع تلبيتَه بعد أن عَلَا واستقر وثبت على راحلته، ومنهم مَنْ سمع ذلك عندما علا على البيداء.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مُتَسَابِقِينَ).
وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حجَّ معه جمعٌ غفيرٌ من المؤمنين، وربما لَمْ يسمع تلبيتَه إلا مَنْ كان قريبًا منه، فالَّذي كان قريبًا منه، فَسَمعها في أوَّل الأمر، ذكر ذلك، ثمَّ ذكرها غَيره، وهكذا، ونقول: لو أنه لبَّى بعد الدخول في النسك مباشرة، فذلك مشروع، ولو أخَّره قليلًا فمشروع أيضًا، ولو أخَّره حتى يسير بسيارته، فذلك جائزٌ.
* قوله: (فَعَلَى هَذَا، لَا يَكُونُ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَيَكُونُ الإِهْلَالُ إِثْرَ الصَّلَاةِ).
أَيْ: يَأْتُون مسرعين ليأخذوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مناسكهم.
* قوله: (وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ المَكِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ الإِهْلَالُ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى؛ لِيَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الحَجِّ)
(1)
.
وَمُرَادُ المؤلِّف أنه يُهِلُّ كغيره يوم التَّروية
(2)
، فلا يَلْزمه الإهلال من
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 537)، حيث قال:" (قوله يوم التروية)؛ لأنه يوم إحرام أهل مكة، وإلا فلو أحرم يوم عرفة، جاز".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 21)، حيث قال:"والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول الحجة على المعتمد، وقبل يوم التروية".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (7/ 210)، حيث قال:"وينبغي أن يكون إحرام المكي عند إرادته التوجه إلى منى".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 489)، حيث قال:" (يستحب لمتمتع حلَّ من عمرته ولغيره من المحلين بمكة) وقربها (الإحرام بالحج يوم التروية) ".
(2)
يُنظر: "المطلع" للبعلي (232)، حيث قال:"قوله: "يومَ التَّرْوِيَةِ" سمي بذلك؛ لأن =
أوَّل الشهر، كَمَا هو رَأي البعض
(1)
، وإنَّما المكي، أَيْ: الذي يسكن مكَّة، أَو المقيم فيها، أو الَّذي جَاء واستقرَّ فيها قبل الحج، فإنَّ هذا يهلُّ في اليوم الثامن، ومن العلماء مَنْ يرى أنه يهلُّ بالحج من أول الشهر حتى يناله شيءٌ من الشعث
(2)
، وكذلك المشقَّة التي تلحق الأفقي
(3)
الذي يأْتِي من مكانٍ بعيدٍ
(4)
، لكن الصَّواب أنه يهلُّ كغيره في اليوم الثامن
(5)
.
* قوله: (وَعُمْدَتُهُمْ: "مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ هُنَا أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا يَفْعَلُهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا: وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الهِلَالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ إِلَى يَوْم التَّرْوِيَةِ! فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا الإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ"
(6)
).
= الناس كانوا يَرْتَوون فيه من الماء لما بعد. وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام أصبح يتروى في أمر الرؤيا. . قاله الأزهري".
(1)
ورد عن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن الزبير، وسيأتي.
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 161)، حيث قال:"والشعث: المغبر الرأس، المنتتف الشعر، الحاف الذي لم يدهن. والتشعث: التفرق والتنكث، كما يتشعث رأس المسواك. وتشعيث الشيء: تفريقه".
(3)
يُنظر: "مختار الصحاح" للرازي (19)، حيث قال:" (الآفاق) النواحي الواحد (أفق) و (أفق) مثل: عسر وعسر. ورجل (أفقي) بفتح الهمزة والفاء إذا كان من (آفاق) الأرض، وبعضهم يقول: (أفقي) بضمهما، وهو القياس".
(4)
أخرجه مالك (1/ 339)، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال:"يا أهل مكة، ما شأن الناس يأتون شعثًا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال"، ويُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 76)، حيث قال:"قال أبو عمر: ما جاء عن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن الزبير في إهلال أهل مكة اختيار واستحباب ليس على الإلزام والإيجاب؛ لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل به عمله في الحج لا على غيره؛ لأنه ليس من السُّنة أن يقيم المحرم في أهله".
(5)
تقدَّم مفصلًا.
(6)
أخرجه مالك (1/ 333)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" الأم (1554).
وَكَانَ المُؤْمنون يقتدون به، ولم يَرِدْ فرقٌ بين المكِّيِّ وغيره، وَهَذا حديث متفقٌ عليه
(1)
.
* قوله: (يُرِيدُ حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الحَجِّ).
بمَعْنى أنه لو أَحْرَم في أول الشهر، أو في اليوم الثاني، أو في الثالث، أو حتى في السابع، لا يكون هناك اتصالٌ، فإذا أحرم في اليوم الثامن، فإنَّه يَكُون قد دَخَل في النُّسك، فيذهب إلى منًى ضحًى، فيصلي فيها الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والفجرَ في اليوم الثاني، وبعد الشمس يذهب إلى عرفة.
* قوله: (وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يُهِلُّوا إِذَا رَأَوا الهِلَالَ
(2)
، وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ المَكِّيَّ لَا يُهِلُّ إِلَّا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ إِذَا كَانَ حَاجًّا)
(3)
.
ومراد المؤلف أن المكِّيَّ إنَّما يُحْرم كما جاء في الحديث: "حتَّى أهل مكة من مكة"
(4)
، وهُمْ بذلك سيجمعون بين الحل والحرم؛ لأنهم سيَذْهبون إلى عرفات، وعرفات خارج الحرم
(5)
، أما المعتمر المكيُّ إذا
(1)
أخرجه البخاري (166)، ومسلم (1187).
(2)
تقدَّم قريبًا.
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 249)، حيث قال:"واتفقوا على أن ذا الحُلَيفة لأهل المدينة، و (الجحفة) لأهل المغرب، وقرنًا لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، والمسجد الحرام لأهل مكة، مواقيت للإحرام للحج والعمرة حاشا العمرة لأهل مكة فقط".
(4)
أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1181)، عن ابن عباس، قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هُنَّ لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة".
(5)
انظر: "الإشارات إلى معرفة الزيارات"، لأبي الحسن الهروي (ص 74)، حيث قال:"جبل عرفات المعظَّم: وأرضها بها قبر عبد اللَّه بن عامر، وقد عفى. المأزمين وادٍ يفضي آخره إلى عرفة، وليست عرفات من الحرم".
أراد أن يعتمر، فلا بدَّ أن يخرج خارج الحرم من التنعيم أو غيره.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُعْتَمِرًا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الحِلِّ، ثُمَّ يُحْرِمَ مِنْهُ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الحِلِّ وَالحَرَمِ، كَمَا يَجْمَعُ الحَاجُّ، أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ وَهُوَ حِلٌّ، وَبِالجُمْلَةِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ المُعْتَمِرِ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَجْزِيهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَابْنُ القَاسِمِ
(3)
. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَشْهَبَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 250)، حيث قال:"وأما إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الجعرانة بعمرة، فذلك مُنْصرفه من حنين إلى مكة. والعمرة لا ميقاتَ لها إلا الحل؛ قَرُب أو بَعُد، هذا ما لا خلاف فيه".
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 343)، حيث قال:"قوله: (وللمكي الحرم للحج والحل للعمرة)؛ أي: ميقات المكي إذا أراد الحج الحرم، فإن أحرم له من الحل، لزمه دم، وإذا أرادَ العمرة الحل، فإذا أحرم بها من الحرم، لزمه دم".
وهو مذهب الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 229)، حيث قال:" (ومن) هو (بالحرم. . (يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة). . . (فإن لم يخرج) إلى أدنى الحل (وأتى بأفعال العمرة). . . (أجزأته) هذه العمرة عن عمرته (في الأظهر) لانعقاد إحرامه هاتيانه بعده بالواجبات (و) لكن (عليه دم) ".
وهو مذهب الحنابلة، ويُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 401)، حيث قال:" (فإن أحرموا)؛ أي: أهل مكة وحرمها (وحرمها من مكة أو من الحرم انعقد) إحرامهم بالعمرة لأهليتهم له، ومخالفة الميقات لا تمنع الانعقاد كمَنْ أحرم بعد الميقات (وفيه دم) لمخالفة الميقات كمن جاوز الميقات بلا إحرام".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 79)، وسيأتي نصه.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 79)، حيث قال:"واختلفوا فيمن أهل بالعمرة من مكة، فقالت طائفةٌ: يخرج إلى الميقات أو إلى الحلِّ فيحرم منه بعمرة، وإن لم يخرج وطاف وسعى، فعليه دم لتَرْكه الخروج إلى الحلِّ، هذا قول ابن القاسم وأبي ثورٍ، وقول آخر أنه لا يجزئه، وعليه الخروج إلى الحل والإهلال منه بالعمرة وغيرها، وهو قول الثوري وأشهب والمغيرة". =
فلَوْ أن إنسانًا اعتمر من مكة، وطاف وسعى، فإنَّ من العلماء مَنْ أوجب عليه دمًا؛ لأنه قصر في النسك، وكان عليه أن يخرج ليجمع بين الحلِّ والحَرم، ومنهم مَنْ لم يوجب عليه
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا مَتَى يَقْطَعُ المُحْرِمُ التَّلْبِيَةَ).
وهُنَاك مَوْضعان يقطع فِيهِما المُحْرم التلبيةَ، ولعلَّ المؤلفَ هنا يريد مَنْ أحرمَ بعُمْرةٍ، وَسَيأتِي مَرَّةً أُخرى: متَى يقطع الحاجُّ التلبية؟ هَلْ هي في عرفات كَمَا هو مذهب مالك، أو عند رَمْي أول حصى عند رمي الجمرة الأُولى كما هو مذهب جمهور العلماء؟
(2)
، لَكن الكَلام هنا بالنسبة لمَنْ حجَّ متمتعًا، والصحيح أنه يقطع التلبية إذا أراد الشروع بالطواف.
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ).
وَالمؤلِّف قَد انتقل إلى حال الحاج، فلَمْ ينظر إلى التمتُّع فقط، وإنما نظر إلى ما يجمع الأنساك الثلاثة، أَيْ: إذا أحرم بالحج؛ سواء كان مفردًا
= وهو مذهب المالكية، ويُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 19)، حيث قال:" (وصح) الإحرام لها، وللقران (بالحرم) وإن لم يجز ابتداءً، (وخرج) وجوبًا للحل للجمع في إحرامه بين الحل والحرم، (وإلا) يخرج للحل - وقد طاف لها وسعى (أعاد طوافه وسعيه) لفسادهما (بعده)؛ أي: بعد الخروج للحل، ولا فدية عليه إذا لم يكن حلق قبل خروجه، (وافتدى إن حلق قبله)؛ أي: الخروج؛ لأن حلقه وقع حال إحرامه؛ لعدم الاعتداد بالطواف والسعي قبل الخروج، فإن لم يكن قدم الطواف والسعي قبل خروجه طاف وسعى للعمرة بعده، ولا شيء عليه كما تقدم".
وتقدم تفصيل مذاهب الأئمة في ذلك.
(1)
أَيْ: لم يوجب عليه دمًا، وقال بلزوم إعادة ما قام به بعد أن يُحْرم من الحلِّ كما سبق.
(2)
سيأتي مفصلًا.
أو قارنًا أو متمتعًا
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ بِبَلَدِنَا)
(2)
.
يعني: الزهري.
* قوله: (وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَتِ الأَئِمَّةُ (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ) يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ
(3)
. وَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ وَأَهْلُ الحَدِيثِ (أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ): إِنَّ المُحْرِمَ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبَةِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 411)، حيث قال: " (وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة). . . (في أشهر الحج). . . (ويفرغ منها). . . (ثم يحرم. . .).
(و) صفة (الإفراد: أن يحرم بالحج مفردًا، فإذا فرغ منه)؛ أي: من الحج (اعتمر عمرة الإسلام إن كانت باقية عليه) بأن لم يكن أتى به قبل.
(و) صفة (القران: أن يُحْرم بهما جميعًا). . . (أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الشروع في طوافها) لمَا روت عائشة قالت: "أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج".
(2)
يُنظر: "الموطأ"(1/ 338)، حيث قال:"عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علي بن أبي طالب كان "يلبي في الحج، حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية"، قال يحيى: قال مالك: "وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 73)، حيث قال:"قال ابن شهاب: كانت الأئمة (أبو بكر وعثمان وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب) يقطعون التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة. قال أبو عمر: أما عثمان وعائشة فقد روي عنهما غير ذلك، وَكَذلك سعيد بن المسيب".
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 256)، حيث قال: "وفيه قول: يلبي أبدًا حتى يرمي =
يَعْني: عندما يريد أن يرمي جمرة العقبة، أما بعد الرمي، فهَذَا هو قول ابن حَزْمٍ الظَّاهري
(1)
، وهو القول الظاهر الذي تَشْهد له الأدلَّة، ومهما نقل الإمام مالكٌ وغيره عن الصَّحابة، فنَحْن في هذا المقام نأخُذُ عن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، نَعَمْ نأخُذُ بأَقْوَال الصَّحابة، ونجلها ما لم يرد نصٌّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقَدْ جاء في حديث الفضل بن عباس الذي لم يورد المؤلف روايته، وهو حديث متفق عليه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة
= جمرة العقبة يوم النحر، وثبت ذلك عن النبي عليه السلام، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث". ويُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 72)، حيث قال:"وفيها قول رابع أن المحرم بالحج يلبي أبدًا حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثَبتَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عمر وعبد اللَّه بن مسعود وابن عباس وميمونة، وبه قال عطاء بن رباح وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث، منهم سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والحسن بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد".
وهو مذهب الحنفية، ويُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 371)، حيث قال:" (قوله: واقطع التلبية بأولها)؛ أي: مع أول حصاةٍ ترميها. . . ".
والشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 268)، حيث قال:" (ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل ملبيًا حتى رماها".
والحنابلة، ويُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 150)، حيث قال:" (ويقطع التلبية مع رَمْي أول حصاةٍ منها)؛ لما تقدم من حديث الفضل بن العباس، وفي بعض ألفاظِهِ: "حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاةٍ"، رواه حنبل في مناسكه.
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 40)، حيث قال:" (ومحرم مكة) من أهلها أو مقيم بها، ولا يكون إلا بحج مفردًا كما مرَّ في قوله: ومكانه له للمقيم مكة (يلبي بالمسجد)؛ أي: ابتداء تلبيته المسجد، وانتهاؤها إلى مصلى عرفة كغيره".
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 135)، حيث قال:"قال أبو محمد: إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا: يقطع التلبية مع أول حصاةٍ يرميها في الجمرة؛ وليس كذلك بل مع آخر حصاة من الجمرة؛ لأنه نص فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما "حكى ابن عباس وأسامة أنه عليه السلام لبَّى حتى رمى جمرة العقبة".
العقبة
(1)
؛ أي: حتى بدأ برَمْي جَمْرَة العقبة، فإن الحاجَّ لا يزال يُلبِّي ويستمر بالذِّكر حتى يكون يوم النحر، وَيَصل إلى منًى، فإذا أخذ معه الحَصَيات السبع، وأراد أن يَرْمي جمرة العقبة، فإنه يتوقَّف عن التلبية، هذا هو المقطع الذي يقطع فيه الحاج تلبيته، أمَّا قبل ذلك، فلا دليل، ونحن نأخذ بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بقوله:"خذوا عني مناسككم"
(2)
.
* قوله: (لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ
(3)
، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَتَى يَقْطَعُهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا رَمَاهَا بِأَسْرِهَا)
(4)
.
لَمْ يَزلْ يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة حتى مطلع الفجر؛ لأنه سينتقل إلى ذِكْرٍ آخَر.
إذن نقول: وَهَذا هو رأي جمهور العلماء، وهُوَ عندما يصل إلى جمرة العقبة، فإذَا ما رَفَع يده حِينَئذٍ يتوقَّف عن التلبية، ويقول: اللَّه أكبر! وقال قومٌ: إذا رَمَاها بأثرها، وهذا نقل عن ابن حزم
(5)
، ويحتاج إلى دَلِيلٍ، وهو فَهِمَ ذلك من النَّصِّ.
* قوله: (لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي آخِرِ حَصَاةٍ)
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (1683)، ومسلم (1218)، واللفظ له، عن عطاء: أخبرني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضلَ من جمعٍ، قال: فأخبرني ابن عباس أن الفضل أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم قريبًا.
(4)
وهو قول ابن حزم، وتقدَّم نصه.
(5)
تقدَّم نصه قريبًا.
(6)
تقدَّم نصه قريبًا، وليس كما ذكره المصنف.
والحديث المتفق عليه
(1)
هو أنه لا يزال يلبي حتى رمى جمرة العقبة؛ أي: عند رميها.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَقْطَعُهَا فِي أَوَّلِ جَمْرَةٍ يُلْقِيهَا)
(2)
.
وَهَذا هُوَ رأي الأكثر، وَهُوَ الأَقْرَب والأَوْلَى.
* قوله: (رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
(3)
. وَرُوِيَ فِي وَقْتِ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ)
(4)
.
وهذا من الأُمور اليسيرة التي لا يَنْبغى أن تشوش على الحاج، ولا أن يشغل ذهنه فيها، فإذا جاء إلى جمرة العقبة وهو يلبي، فإنه يتوقف، ففي كل حصاةٍ يلبى: اللَّه أكبر، اقتداءً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
(5)
.
* قوله: (إِلَّا أَنَّ القَوْلَيْنِ هَذَيْنِ هُمَا المَشْهُورَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى
(1)
تقدَّم قريبًا.
(2)
تقدَّم مفصلًا.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 258)، عن أبي وائلٍ، عن عبد اللَّه، "أنه لبَّى حتى رمى جمرة العقبة".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 72)، حيث قال:"وهو موضع اختلف فيه السلف والخلف، فرُوِيَ عن أنس بن مالك في "الموطإ"، وعن ابن عمر في غير "الموطإ" مثله مرفوعًا، وعن أنس بن مالك، وقد ذكرناه في "التمهيد"، قالوا: وإن أخَّر، قطع التلبية إلى زوال الشمس بعرفة فحسن، ليس به بأس. . . وقال آخرون: لا تقطع التلبية إلا عند زوال الشمس بعرفة. . . وفي المسألة قول ثالث، وهو أن التلبية لا يقطعها الحاج حتى يروح من عرفة إلى الموقف وذلك بعد جَمْعه بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر، وهو قريبٌ من القول الذي قبله. . . وفيها قولٌ رابعٌ أن المحرم بالحج يلبي أبدًا حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر".
(5)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابرٍ:". . . حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. . . ".
الحَرَمِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ).
وهُوَ قَوْل أحمد أيضًا
(4)
، وهذا هو الأَوْلَى، إلا أن مالكًا ربما علل أنه سيكون في ذِكْرٍ؛ لأنه عندما يصل إلى المسجد الحرام يسمِّي ويصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك يقول:"اللَّهمَّ افتح لي أبوابَ رَحْمتك"
(5)
، وهُنَاك من العلماء مَنْ يرى دعاءً عند دخول المسجد
(6)
، والصحيح أن قطعَ التلبية عند بدء الطواف كما هو الحال عند رمي الجمرة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 40)، " (ومعتمر الميقات) من أهل الآفاق (وفائت الحج)، أي: المعتمر لفوات الحج بأن أحرم بحجٍّ ولم يتماد عليه بل فاته بحصرٍ، أو مرض فتحلل منه بعمرة يلبي كل منهما (للحرم)؛ أي: إليه لا إلى رؤية البيوت. (و) المعتمر (من الجعرانة والتنعيم) يلبي (للبيوت)، أيمما: إلى دخول بيوت مكة لقرب المسافة".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 371)، حيث قال:" (قوله: واقطع التلبية بأولها)؛ أي: مع أول حصاة ترميها؛ لأن المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الحجر؛ لأن الطواف ركن في العمرة، فيقطع التلبية قبل الشروع فيها. . . ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 268): "وأما المعتمر فيقطع التلبية إذا افتتح الطواف؛ لأنه من أسباب تحللها".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 489)، حيث قال:" (ومن كان متمتعًا أو معتمرًا، قطع التلبية إذا شرع في الطواف). . . ولشروعه في التحلل، كالحاج يقطعها إذا شرع في رمي جمرة العقبة، (ولا بأس بها في طواف القدوم) نص عليه (سرًّا)، ومعنى كلام القاضي يُكْره؛ أي: الجهر بها فيه، وكذا السعي بعده: يتوجه أن حكمه كذلك وهو مراد أصحابنا؛ لأنه تبع له قاله في "الفروع".
(5)
أخرجه مسلم (713)، عن أبي حميد، أو عن أبي أسيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
(6)
ذكره الحنفية، ويُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 15)، حيث قال:"فإذا وقع بصره على البيت المطهر، كَبَّر وهَلَّل ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحَيِّنا ربنا بالسلام، اللهم زد بيتك هذا تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً، وَزِدْ من شرفه وعظمه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا وبرًّا، رويمما ذلك عن عمر رضي الله عنه ويدعو بما بدَا له".
والشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 241)، حيث قال: "ويَقُول إذا =
* قوله: (وَسَلَفُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ
(1)
، وَعُرْوَةُ)
(2)
.
يعني: عروة بن الزبير.
* قوله: (وَعُمْدَة الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّلْبِيَةَ مَعْنَاهَا إِجَابَةٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، فَلَا تَنْقَطِعُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي العَمَلِ، وَسَبَبُ الخِلَافِ مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِفِعْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ)
(3)
.
وَقَد انتهى المؤلف من هذه المسألة، وسينتقل إلى غيرها.
* قوله: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ -كَمَا قُلْنَا- مُتَّفِقُونَ عَلَى إِدْخَالِ المُحْرِمِ الحَجَّ عَلَى العُمْرَةِ)
(4)
.
= أبصر البيت: اللهم زِدْ هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شَرَفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًّا، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحَينا ربنا بالسلام، ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة".
والحنابلة، وبنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 476)، ويُنظر:" (فإذا رأى البيت رفع يديه). . . (وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حَيِّنا ربنا بالسلام). . . (اللهم زد هذا البيت تعظيمًا). . . (وتشريفًا). . . (وتكريمًا ومهابةً). . . (وبرًّا). . . ".
وأنكره مالك؛ خشية اعتقاد وجوبه، ويُنظر "الدر الثمين" لميارة (511)، حيث قال:"قال ابن حبيب: ويُسْتحب إذا وقع بصره على البيت أن يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحَيِّنا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابةً وتكريمًا"، وأنكر ذلك مالك خوف اعتقاد وجوبه، واللَّه أعلم".
(1)
أخرجه في "الموطإ"(1/ 338)، أن عبد اللَّه بن عمر كان "يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منًى إلى عرفة، فإذا غدا ترك التلبية، وكان يَتْرك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم"، وَذَكره الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1099)، وظاهر كلامه القول بصحته.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 260)، عن هشام، عن أبيه قال:"كان يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم".
(3)
كابن عمر، وتقدَّم قوله.
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 254)، حيث قال:"وأجمعوا أن لمن أهلَّ بالعمرة في أشهر الحج إدخال الحج عليها، ما لم يفتتح الطواف بالبيت".
بمَعْنى: أَنْ تكونَ قارنًا، فهَلْ لك أن تدخل عليها الحج؟ يقولون: هذا جائز ومتفق عليه؛ لأنَّ إدخال الأَكْبَر على الأصغر غير مَمْنوع، وعائشة قَدْ فَعلَتْ ذلك عندما حاضت؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أمَرها أن تُهِلَّ إلَّا بالحج، فكانت قارنةً
(1)
.
* قوله: (وَيَخْتَلِفُونَ فِي إِدْخَالِ العُمْرَةِ عَلَى الحَجِّ)
(2)
.
وَقَد اختلفوا؛ لأن في ذلك إدخالًا للأصغر على الأكْبَر، فالأَكْبَر هو الحجُّ، وكونك تضيف العُمْرة إليه، فإنَّك قَدْ أدخلت الأصغر على الأَكْبَر، والحنابلة يَرَون أنَّ ذلك لا يجوز
(3)
، وَفيه خلافٌ في المَذْهب
(4)
، لكن
(1)
أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211)، عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرةٍ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كان معه هديٌ، فليهلَّ بالحج مع العمرة، ثمَّ لا يحل حتى يحل منهما جميعًا"، فقدمت مكة وأنا حائضٌ، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"انقضي رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج، ودعي العمرة".
(2)
وهو جائز عند الحنفية خلافًا للمالكية والشافعية والحنابلة.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 530)، حيث قال:" (والقرانُ) لغةً الجمعُ بين شيئين. وشرعًا (أن يهل)؛ أي: يرفع صوته بالتلبية (بحجة وعمرة معًا) حقيقة، أو حكمًا بأن يحرم بالعمرة أولًا، ثم بالحج قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، أو عكسه بأن يدخل إحرام العمرة على الحج قبل أن يطوف للقدوم".
لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدسوقي (2/ 27)، حيث قال:" (ولغا عمرة) لغا -بفتح اللام والغين المحجمة- كرمى فعل لازم بمعنى بطل وعمرة فاعله، أي: وبطلت عمرة أردفت (عليه)؛ أي: على الحج لضعفها وقوته".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 323): " (ولا يجوز عكسه) وهو إدخال العمرة على الحج (في الجديد)؛ لأنه لا يستفيد به شيئًا بخلاف الأول يستفيد به الوقوف والرمي والمبيت؛ ولأنه يمتنع إدخال الضعيف على القوي".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (1/ 350)، حيث قال:"وإن أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يصح إحرامه بها، ولم يصر قارنًا".
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 167)، حيث قال:"وقيل: يجوز إدخال العمرة على الحج ضرورة".
الصحيح أن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم جَاء عنه ما يدلُّ علَى جواز ذلك؛ لأنه جَاء في حديث عائشة المتفق عليه أنها قالت: "حججنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(1)
، وفي روايةٍ:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمنَّا مَنْ أهلَّ بحجٍّ، ومنَّا مَنْ أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا مَنْ أهلَّ بحجِّ وعمرةٍ، وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج"
(2)
.
وَمن العُلَماء مَنْ قال: أهلَّ بالحج فعلًا لا حكمًا؛ لأن فعلَه كفِعْلِ المفرد، وإلَّا فهو قارنٌ
(3)
، ومنهم مَنْ قال: إنه أهلَّ بالحج أولًا، ثم أتاه جبريل، فَقَال له:"صَلِّ في هَذَا الوادي، وقُلْ: عمرة في حجَّة، أو عمرة وحجَّة"
(4)
، فأدخل العمرة على الحج.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَدْخُلُ حَجٌّ عَلَى عُمْرَةٍ، وَلَا عُمْرَةٌ عَلَى حَجٍّ)
(5)
.
وهذا قولٌ ضعيفٌ.
(1)
لم نقف على هذه الرواية.
(2)
أخرجها البخاري (319)، ومسلم (112 - 1112)، ومراد الشارح أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا للحج، وأدخل عليه العمرة. وينظر:"شرح النووي على مسلم" حيث قال: "وطريق الجمع بينها ما ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان أولًا مفردًا، ثم صار قارنًا، فمَنْ روى الإفراد هو الأصل، ومن روى القران اعتمد آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللُّغوي وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقران كارتفاق المتمتع، وزيادة في الاقتصار على فعل واحد، وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها".
(3)
وهذا على قول من نفى حج النبي مفردًا، فإنه تأول قول عائشة:"وأهلَّ رسول اللَّه بالحج" على أن المقصود بهذا الفعل لا الحكم، وإلا فقد ثبت عنه أنه ما حج إلا قارنًا، وتقدَّم قبل قليل.
(4)
أخرجه البخاري (7343)، حدثني عكرمة، قال: حدثني ابن عباس، أن عمر رضي الله عنه حدثه قال: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني الليلة آتٍ من ربي، وهو بالعقيق، أَنْ صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة وحجة"، وقال هارون بن إسماعيل: حدثنا علي: "عمرة في حجة".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 64)، حيث قال:"وقال أبو ثور: إذا أحرم بحجة، فليس له أن يضم إليها أُخرى، وإذا أهلَّ بعمرة فلا يدخل عليها حجة، ولا يدخل إحرام على إحرام، كما لا تدخل صلاةٌ على صلاةٍ".
* قوله: (كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ، فَهَذِهِ هِيَ أَفْعَالُ المُحْرِمِ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ أَوَّلُ أَفْعَالِ الحَجِّ، وَأَمَّا الفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، فَهُوَ الطَّوَافُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، فَلْنَقُلْ فِي الطَّوَافِ).
لَكن الأَوْلَى أن نقتدي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلَوْ أنه أحرم بالحجِّ، أو أحرم بالحجِّ والعمرة، فالأَوْلَى في حقه أنه إذا وصل إلى مكَّة يفسخ الحج إلى عمرةٍ، فيطوف بالبيت العتيق، ويَسْعى بين الصفا والمروة، ويحلق أو يقصر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابَه بذلك
(1)
، ولو بقي على حجِّه، فَهَذا أمر جائز، وليس فيه شيءٌ، ولا يظن البعض أن الإنسان إذا حج مفردًا أو قارنًا أن حجَّه يلحقه نقصٌّ
(2)
.
[القَوْلُ فِي الطَّوَافِ بِالبَيْتِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالكَلَامُ فِي الطَّوَافِ، فِي صِفَتِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَحُكْمِهِ فِي الوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَفِي أَعْدَادِهِ القول في الصفة وَالجُمْهُورُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ صِفَةَ كُلِّ طَوَافٍ؛ وَاجِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1216)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: أنه حجَّ مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلُّوا بالحج مفردًا، فقال لهم:"أحلُّوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصَّفا والمروة، وقصِّروا، ثم أقيموا حلالًا حتى إذا كان يوم التروية فأهلُّوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة"، فقالوا: كيف نجعلها متعةً وقد سمَّينا الحج؟ فقال: "افعلوا ما أمرتكم، فلولا أنِّي سقت الهدي لفَعَلتُ مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 253)، حيث قال:"وفي حديث أبي الأسود عن عروة عن عائشة، وحديث القاسم عنهما في إفراد النبي صلى الله عليه وسلم فيه إفراد الحج، وإباحة التمتُّع والقران، ولا خلاف في ذلك، وهو جمع الحج مع العمرة، واختلفوا في الأفضل، وفيما كَانَ به رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم محرمًا في خاصَّته في حجة الوداع".
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 271)، حيث قال: "وجماعة الفقهاء بالحجاز، =
وهذا لا خلاف فيه؛ سواء كان هذا الطواف في حجٍّ أو في عُمْرةٍ، وسواء كان الحج مفردًا، أو كان متمتعًا، أو قارنًا، فَهَذا لا يختلف في أيِّ شيءٍ، وإنما يأتي الفرق في طواف القدوم.
* قوله: (فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُقَبِّلَهُ، قَبَّلَهُ، أَوْ يَلْمِسَهُ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلَهَا إِنْ أَمْكَنَهُ).
وَمُرَاد المُؤلِّف هنا أن الإنسانَ إذا دخَل، فإنَّه يقطع التلبية، وأول عملٍ يَقُوم به أن يذهب صوبَ الحجر الأسود إنْ تمكَّن، لكن في مثل هذا الوقت يجد صعوبةً، ثم بعد ذلك يمسحه بيده، فَإِنْ لَمْ يستطع التقبيلَ، ولا المسحَ واستلمه، فإنَّه يُشير إليه بيده اليمنى
(1)
، وهَلْ يُشير إليه، وَهُوَ سائرٌ في طريقه؟ لا، الأَوْلَى أن يتجه نحو الركن الذي فيه الحجر الأسود الذي يقَع في الجهة الشرقية، يَعْني: في الرُّكن الشرقيِّ الجنوبيِّ، ويبدأ عمل الطائف، فإنَّه يَسْتلم الحجر، ثمَّ يجعل البيت عن يساره، ثم يبدأ بعد ذلك في الطواف، وهو لا يستلم من الأركان إلا ركنين (الركن اليماني
(2)
، والركن الذي فيه الحجر الأسود)، لكن إذَا لَمْ يستطع أن يستلم الركن اليماني، فلَا يُشير إليه، وقَدْ يسأل سائلٌ فيَقُول: ألم يستلم مُعَاويةُ رضي الله عنه الأركان الأربعة عندما جاء إلى مكة؟ نقول: نعم، حدث منه ذلك
(3)
،
= والعراق، من أئمة الفتوى، وأتباعهم، وهُمُ الحُجَّة على مَنْ شذَّ عنهم، على فعل ابن عمر، كان إذا قدم مكة، رمل بالبيت ثم طاف إذا أحرم من مكة لم يرمل بالبيت، وابتدأ الطواف من الحجر، ولا خلاف فيه".
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 273): "ولا خلاف في أن تقبيل الحجر الأسود في الطواف من سنن الحج لمَنْ قدر عليه، ومَنْ لم يقدر وضع يده على فيه، ثم وضعها عليه مُسلِّمًا، ورفعها إلى فيه، فإن لم يفعل فلا إثم عليه".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 273): "ولَا خلاف أن الركنين جميعًا يستلمان: الأسود واليماني، وإنما الفرق بينهما أن الأسودَ يقبل، وأن اليماني لا يُقبَّل، والمعروف تقبيل الحجر الأسود، ووَضْع الوجه عليه، وما أعلم أحدًا من أهل الفقه يَقُولُ بتقبيل غيره".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 366)، عَنْ يحيى بن عباد بن عبد اللَّه، عن أبيه أنه =
وَلَكن عَبْد اللَّه بن عباس اعترض علَيه في هذا المقام
(1)
، فسأله مُعَاوية: لماذا؟ قال: أليس اللَّه تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، قال: بلَى. قال: ورسول اللَّه لَمْ يستلم إلا الركنين، قال: صدقت؛ لأن معاوية علل وقال: ليس من البيت شيء مهجور
(2)
، وعلل العلماء عدم استلام الركنين الباقيين (الشمالي والغربي)، فقالوا: السبب في ذلك أنهما خارجان من البيت؛ لأن قريشًا لمَّا أعادت بناء الكعبة، نقصت النفقة، وقد أخذوا على أنفسهم ألا ينفقَ على بناء البيت إلا من مالٍ حلالٍ، أما أيُّ مالٍ فيه شكٌّ أو فيه ريبةٌ، فاجتنبوه، فنقصت بهم النفقة، فَتَركوا تلكم المساحة الموجودة في الجهة الشمالية، وَهُوَ الذي يُسمِّية الناس بحجر إسماعيل، وهذه التَّسمية لا أَصْلَ لهَا؛ لأنَّ هذا وُجِدَ بعد إسماعيل.
* قوله: (ثُمَّ يَجْعَلَ البَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ).
يجعل البيتَ عن يده اليسرى، ثم يبدأ من هذا المكان حتى ينتهي إليه في كل مرة.
* قوله: (وَيَمْضِي عَلَى يَمِينِهِ، فَيَطُوفَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَرْمُلُ فِي الثَّلاثَةِ الأَشْوَاطِ الأُوَلِ)
(3)
.
= رأى معاوية يطوف بالبيت، واستلم الأركان كلها، وقال:"إنه ليس منه شيءٌ مهجورٌ".
(1)
أخرجه البخاري (1608)، عن أبي الشعثاء أنه قال:"ومَنْ يتقي شيئًا من البيت؟ "، وكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّه لا يُسْتلَم هذان الركنان، فقال:"ليس شي: من البيت مهجورًا"، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما يستلمهن كلهن.
(2)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن"(7/ 209)، عن مُحمَّد بن كعب القرظي أن ابن عباس كان "يمسح على الركن اليماني والحجر الأسود"، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها، ويقول:"لا ينبغي لبيت اللَّه إن يكون شيء منه مهجورًا"، وكان ابن عباس يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 272)، حيث قال:"والواجب أن يطوف سبعًا، ولا أعلم في ذلك يرمل في ثلاثة، ويسعى في أربعة".
وَالرَّمل
(1)
هُوَ أَنْ تمشي مسرعًا مقاربًا خُطَاك، ليس هو الجري كما يظن بعض الناس، ولا أن تمدد رجليك، لا، تمشي تقارب بين الخطى ومسرعًا، يعني: تحث نفسك، والرَّمَلُ له سببٌ؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما قدم هو وأصحابه مكة، قال المشركون: يَقْدم عليكم أقوامٌ من أهل يثرب وَهَنتهم حمى يثرب
(2)
، وكانت تشتهر بالحمى، والرسول صلى الله عليه وسلم قَدْ دعا لهذه المدينة بالبركة، بأن يبارك اللَّه في مُدِّها وصاعها، وأن ينقل حماها إلى الجحفة فانتقل
(3)
.
* قوله: (ثُمَّ يَمْشِيَ فِي الأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ فِي طَوَافِ القُدُومِ عَلَى مَكَّةَ).
يَعْني: أنَّه يرمل في الأشواط الثلاثة الأُول، وإن قدر أنه نسي شوطًا، فلا ينتقل إلى الرابع، أو نسي شوطين فلا ينقلهما إلى ما بعدهما، فأي شوطٍ نسيه أو لم يفعله، فلا يَنْقله إلى غيره؛ لأنَّ الرَّمَل إنما هو خاصٌّ بالأشواط الثلاثة الأُول، فلَا ينتقل إلى غيره، وَذَلك في طواف القدوم على مكَّة.
* قوله: (وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ وَالمُعْتَمِرِ دُونَ المُتَمَتِّعِ)
(4)
.
(1)
قال الجوهري: الرمل، بالتحريك: الهرولةُ. ينظر: "الصحاح"(4/ 1713).
(2)
أخرجه مسلم (1266)، عن ابن عباس، قال: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين؛ ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس:"ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم".
(3)
أخرجه البخاري (6372)، ومسلم (1376)، واللفظ له، عن عائشة قالت: قدمنا المدينة وهي وَبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه، قال:"اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصَحِّحها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وحول حماها إلى الجحفة".
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 273)، حيث قال: "وأجمعوا أنه لا رمل على مَنْ =
وذَلكَ للحاج الذي يأتي إلى الحج، وَهُوَ الذي يقصد به المفرد أو القارن، وَكَذَلك المتمتع في أداء عمرته عندما يأتي فإنه يبدأ بمناسك العمرة، أما بعد أن يُحْرم بالحج في اليوم الثاني، ويأتي ليطوف طواف الإفاضة، والذي أشَار اللَّه بقوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فإنَّ ذلك الطواف ليس فيه رَملٌ.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ
(1)
، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ اليَمَانِيَّ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى قُطْرِ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ)؛ لأنَّ النساء طولبن دائمًا بالسكينة والوقار، وأن تحافظ على عورتها في مِشْيَتِهَا، كَذَلك شرع استلام الركن اليماني، واليَمَانِيُّ نسبةً إلى اليمن؛ لأنَّه يقعُ في جهة اليمن، هذا يستلمه، فإنْ لَمْ يتمكَّن فلا يُشير إليه؛ كالحجر الأسود.
* قوله: (لِثبوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم).
كما جاء في حديث جابرٍ
(2)
، وحديث عبد اللَّه بن عمر
(3)
، وغيرهما
(4)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الرَّمَلِ فِي الثَّلَاثَةِ الأَشْوَاطِ الأُوَلِ
= أحرم بالحج من مكة من غير أهلها، وهم المتمتعون؛ لأنهم قد رملوا في حين دخولهم في طواف القدوم".
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 273)، حيث قال:"ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت، ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة"، وسيأتي مفصلًا عند قول المصنف:"واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم هل هو سنةٌ أو فضيلةٌ؟ ".
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام. . . ".
(3)
أخرجه البخاري (1604)، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سَعَى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط، ومشى أربعةً في الحج والعمرة.
(4)
تقدَّمت رواية ابن عباس، أخرجها مسلم (1266).
لِلْقَادِمِ، هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ سُنَّةٌ)
(1)
.
مُرَاد المؤلف أن يُفرِّق بين السُّنَّة والفضيلة ليبيِّن أن الفضيلة دودن السُّنَّة
(2)
، فقال ابن عباس: هو سُنَّة.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَإِسْحَاقُ
(5)
، وَأَحْمَدُ
(6)
(1)
والمشهور عنه خلاف ذلك، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 193)، حيث قال:"وقال آخرون: ليس الرمل بسُنَّة، ومن شاء فعله، ومن شاء لم يفعله، رُوِيَ ذلك عن جماعةٍ من التابعين: منهم، عطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وسالم، والقاسم، وَسَعيد بن جبير، وَهوَ الأشهر عن ابن عباس، وقد روي عنه مثل قول عمر ومن تابعه".
(2)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 126)، حيث قال:"الفضيلة كل فعلٍ له فضلٌ وفيه أجرٌ من غير أن يستحق الذم بتَرْكه، ولا التأثيم، وهذا الفرق بينه وبين الواجب، وأما الفرق بينه وبين السُّنة، فإن قلنا باحد المذهبين أن من السُّنن ما يكون واجبًا، فالفرق بينهما بَيِّنٌ، وإن قلنا بالمذهب الآخر أن السنن لا يكون منها واجب، فالفرق بين السُّنة والفضيلة: زيادة الأجر ونقصانه، وكثرة تحضيض صاحب الشرع، فكل ما حض عليه وأكد أمره، وعظم قَدْره، سميناه سنةً كالوتر، وما في معناها، وكل ما تسهل في تركه، وخفف أمره، سمَّيناه فضيلةً؛ ليشعر المكلف بمقدار الأجور في الأفعال، فتقدم الأَوْلَى فالأَوْلَى، وتعلم قدر ما يتقرب به، وهذه نكتة يجب أن تتدبرها".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 481)، حيث قال في سنن الطواف:" (السادسة الرمل) بفتح الراء والميم (للذَّكَر)، ولو صبيًّا بخلاف الأنثى والخنثى حذرًا من تكشفهما. . . (في) الأطواف (الثلاثة الأول) مستوعبًا به البيت، وعطف على الرمل قوله: (والمشي)؛ أي: على الهينة (في الأربعة) ".
(4)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 386)، حيث قال:"والسُّنة أن يرمل في كل طواف بعده سعي".
(5)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(5/ 2127، 2128)، وفيها قال:"قلت: مَنْ ترك الرمل، ما عليه؟ قال: ليس عليه شيء. قال إسحاق: كما قال".
(6)
يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 394)، حيث قال:" (وسن أن يرمل ماشٍ غير حامل معذور، و) غير نساء، وغير (محرم من مكة أو) من (قربها)، فلا يسنُّ لهم الرمل، فالرمل هو أن (يسرع المشي، ويقارب الخطى في ثلاث طوفات أول من غير وثبٍ) ".
وَأَبُو ثَوْرٍ
(1)
).
وَهَذا هو قول جماهير العلماء.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَأَصحَابِهِ
(2)
، وَالفَرْقُ بَيْنَ القَوْلَيْنِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ سُنَّةً، أَوْجَبَ فِي تَرْكِهِ الدَّمَ)
(3)
.
أما إيجاب الدم، فالأئمة الأربعة كلُّهم متفقون على أنه لا دمَ فيه؛ لأنه سُنَّة، والسُّنَّة هي التي يُثَاب فاعلها، ولا يُعَاقب تاركها، والدَّم إنَّما يجب على تَرْك واجب، وأمَّا الذين قالوا بوجوب الدم على مَنْ ترك الرمل، فإنهم نقلوا ذلك عن الحسن البصري، والثوري، وعن بعض العلماء
(4)
،
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 273)، حيث قال:"وكان عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر: يرملون من الحجر إلى الحجر. وبه قال ابن الزبير، وعروة، والنخعي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، والنعمان، ويعقوب، ومحمد".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 192)، حيث قال:"واختلف قول مالك وأصحابه فيمَنْ ترك الرمل في الطواف بالبيت طواف الدخول. . . واختلف قوله أيضًا: هل عليه دم إن أبعده؟ فقال مرة: لا شيء عليه، ومرة قال: عليه دم. وقال ابن القاسم: وهو خفيف، ولا أرى فيه شيئًا، وكذلك روى ابن وهب عن مالك في "موطئه": أنه استخفه قال: ولم ير فيه شيئًا، وروى معن بن عيسى عن مالك أن عليه دمًا".
ومشهور المذهب أنه سنة، ولا دم على مَنْ تركه ولو عمدًا. انظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 326)، حيث قال:"هذه هي السُّنة الرابعة من سنن الطواف، يعني: أن من أحرم من الرجال من الميقات بحج أو عمرة، يُسَن في حقه الرمل في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم، أو من طواف العمرة الركني، ولا دمَ على تاركه، ولو عمدًا على المشهور".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 192)، حيث قال:"إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل، هل هو سُنَّة من سنن الحج لا يجوز تركها، أم ليس بسنةٍ واجبةٍ؛ لأنه كان لعلةٍ ذهبت وزالت، فمن شاء فعليه اختيارًا".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 195)، حيث قال:"وروى معن بن عيسى عن مالك: أن عليه دمًا، وهو قول الحسن البصري وسفيان الثوري، وقال ابن القاسم: رجع عن ذلك مالكٌ، وذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، وابن القاسم أن عليه في قليل ذلك وكثيره دمًا".
واستدلُّوا بأثر ابن عباس: "مَنْ ترك نسكًا، فعليه دم"
(1)
، أما الأئمة الأربعة وجماهير العلماء فيرون أنه لا دمَ في ذلك
(2)
.
* قوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّةً، لَمْ يُوجِبْ فِي تَرْكِهِ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الرَّمَلَ سُنَّةً بِحَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
وَهَذا الحديثُ أخرجه مسلم في "صحيحه"
(3)
، وأخرجه غيره
(4)
أيضًا.
* قوله: ("قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَافَ بِالبَيْتِ، رَمَلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قَالَ: قُلْتُ: مَا صَدَقُوا، وَمَا كَذَبُوا؟ قَالَ: صَدَقُوا، رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طَافَ بِالبَيْتِ، وَكَذَبُوا، لَيْسَ بِسُنَّةٍ).
"صَدَقُوا"؛ لأنه جَاء في هذا أثرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رَمَل.
وقوله: "كَذَبوا"؛ لأنه لا يكون سُنَّةً، لكن بعد أنْ فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمُسْلمون معه أصبح سُنَّةً، نعم هذا الرمل سببه أنه لما قدم رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة إلى مكة، كَانَت المدينة تَشْتهر بالحمَّى، وأنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم دَعَا بنَقْلها إلى الجُحْفة
(5)
، فلمَّا قدم الرسول ومَنْ معه، جَلَس المُشْركون ناحية الحجر، فأَخَذوا يَنْظرون إلى المؤمنين، ويقولون: يقدم عليكم قومٌ أو أناسٌ وَهَنتهم حمى يثرب، فبلغ ذلك
(1)
أخرجه مالك (1/ 419)، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس قال:"مَنْ نسي من نسكه شيئًا، أو تركه فليهرق دمًا". قال أيوب: لا أدري قال: ترك أو نسي. قال مالك: "ما كان من ذلك هديًا، فلا يكون إلا بمكة، وما كان من ذلك نسكًا، فهو يكون حيث أحب صاحب النسك"، وصححه الأَلْبَانيُّ موقوفًا في "الإرواء"(1100).
(2)
تقدَّم تفصيله.
(3)
أخرجه مسلم (1264).
(4)
أخرجه أبو داود (1885).
(5)
تقدَّم تخريجه.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، فأمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأُول، ولما رأوا ذلك من المسلمين، فقالوا: إننا وجدنا قومًا فيهم قوة
(1)
، وفي روايةٍ: إنهم كالغزلان
(2)
، فأبطل اللَّه سبحانه وتعالى كَيْدَ المشركين، وفعل ذَلكَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ردًّا لمقالتِهِ.
* قوله: (إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، قَالُوا: إِنَّ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ هَزْلًا، وَقَعَدُوا عَلَى قُعَيْقِعَانَ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابِهِ).
وَ"قُعَيْقعان": مكان مرتفع يقع في الجهة التي فيها الحجر، يَعْني: في الجهة الشمالية
(3)
.
* قوله: (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْمُلُوا، أَرُوهُمْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّةً، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُلُ مِنَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ إِلَى اليَمَانِيِّ، فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ مَشَى"
(4)
، وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ حَدِيثُ جَابِرٍ)
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (1266)، وتقدَّم لفظه.
(2)
أخرجها أبو داود (1889)، وسيأتي لفظه.
(3)
يُنظر: "معجم البلدان" للحموي (4/ 379)، حيث قال:"بالضم ثم الفتح، بلفظ تصغير. وهو اسم جبل بمكة، قيل: إنما سمي بذلك؛ لأن قطوراء وجرهم لما تحاربوا، قعقعة الأسلحة فيه، وعن السُّدِّيِّ أنه قال: سُمِّي الجبل الذي بمكة قعيقعان؛ لأن جرهم كانت تجعل فيه قسيَّها وجعابها ودرقها، فكانت تقعقع فيه. قال عرَّام: ومن قعيقعان إلى مكة اثنا عشر ميلًا على طريق الحوف إلى اليمن".
(4)
أخرجه أبو داود (1889)، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم "اضطبع فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش، مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون، تقول قريش: كأنهم الغزلان"، قال ابن عباس: فكانت سُنَّة. وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1650)، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 180) من حديث فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس. وينظر:"الهداية" للغماري (5/ 366، 367).
(5)
أخرجه مسلم (1218/ 150).
وَحَديثُ جَابِرٍ هو الحَديث الطَّويل الذي وصف لنا حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الأَشْوَاطِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَمَشَى أَرْبَعًا. وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ
(1)
، وَغَيْرِهِ
(2)
. قَالُوا: وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ
(3)
، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الأُولَى
(4)
، وَعَلَى أُصُولِ الظَّاهِرِيَّةِ يَجِبُ الرَّمَلُ؛ لِقَوْلِهِ:"خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ"
(5)
، وَهُوَ قَوْلُهُمْ، أَوْ قَوْلُ بَعْضِهِمُ الآنَ فِيمَا أَظُنُّ
(6)
، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ).
يُشِيرُ المؤلِّف إلى الخلَاف الذي وَقَع بين العلماء في الرمل، وَهُوَ: هَلْ ينتهى عند الركن اليماني أو عند الحجر الأسود؟ بمعنى أنه يَسْتوعب الشوط كلَّه؟
(1)
أخرجه مالك (1/ 364)، عن جابر بن عبد اللَّه أنه قال: رأيتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم "رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف"، قال مالكٌ:"وَذَلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا"، وبنحوه أخرجه مسلم (1263).
(2)
أخرِجه الترمذي (857)، وغيره، عن جابرٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثَا، ومشى أربعًا. . وصححه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(3802).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(23802)، عن عبيد اللَّه بن أبي زياد، قال: سمعت أبا الطفيل، يحدث:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر"، وحسنه الأرناؤوط.
(4)
تقدَّمت، والتي فيها أنه صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الركن.
(5)
تقدَّم.
(6)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 84)، حيث قال:"قال أبو محمد: لا خلاف فيما ذكرنا إلا في أشياء نبينها إن شاء اللَّه عز وجل، وهي: وجوب الخبب في الطواف. . . برهان صحة قولنا ما حدثناه. . . عن ابن عباس قال: "لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال المشركون: إنه يَقْدم عليكم قومٌ وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرًّا، فأطلع اللَّه عز وجل نبيه عليه السلام على ذلك، فأمر أصحابه أن يرملوا، وأن يمشوا ما بين الركنين"، فهذا أمرٌ واجبٌ".
* قوله: (عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَهُمُ المُتَمَتِّعُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ رَمَلُوا فِي حِينِ دُخُولِهِمْ حِينَ طَافُوا لِلْقُدُومِ)
(1)
.
فالَّذي يُحْرم من مكة؛ سوَاء كان من أهل مكة أو ممَّن كان متمتعًا، فليسَ عليه رمل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ، هَلْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَجُّوا رَمَلٌ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: كُلُّ طَوَافٍ قَبْلَ عَرَفَةَ مِمَّا يُوصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْيِ، فَإِنَّهُ يُرْمَلُ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ
(3)
، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى عَلَيْهِمْ رَمَلًا
(4)
).
وَكَذلك أحمد لا يرى عليهم رملًا
(5)
، وهذا هو رأي الأكثر
(6)
.
(1)
تقدَّم ذكره.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 250، 251)، حيث قال:" (ويختص الرمل) ويُسمَّى خببًا (بطواف يعقبه سعي) مشروع بأن يكون بعد طواف قدوم أو ركن (وفي قول) يختص (بطواف القدوم). . . والحاج من مكة يرمل في طوافه على الأول دون الثاني، وإذا طاف للقدوم وسعى عقبه، ولم يرمل فيه، لا يقضيه في طواف الإفاضة، ولو طاف ورمل ولم يسعَ، رمك في طواف الإفاضة لبقاء السعي عليه".
(3)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 49)، حيث قال:"ومحل استنان الرمل فيها: (إن أحرم) بحج أو عمرة أو بهما (من الميقات)، بأن كان آفاقيًّا أو من أهله".
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 386)، حيث قال:"والسُّنَّة أن يرمل في كل طواف بعده سعيٌ".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 277)، عن نافع قال:"كان ابن عمر لا يرمل إذا أهلَّ من مكة".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 480)، حيث قال:" (غير راكب و) غير (حامل معذور و) غير (نفساء و) غير (محرم من مكة أو من قربها، فلا يسن هو)؛ أي: الرمل (ولا الاضطباع لهم)؟ لعَدَم وُجُود المعنى الذي لأجله شرع الرمل، وهو إظهار الجلد والقوة لأهل البلد. وكان ابن عمر إذا أحرمَ من مكة، لم يَرْمل".
(6)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 378)، حيث قال: "فقالت طائفةٌ: يَرْمل مَنْ قدم مكة وقد أحرم من المواقيت، أو من خارج الحرم، وإذا أحرم من مكة، لم يرمل. كان ابن عمر: إذا أهلَّ من مكة لم يرمل. =
* قوله: (إِذَا طَافُوا بِالبَيْتِ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ
(1)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ الرَّمَلُ كَانَ لِعِلَّةٍ؟ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ؟ وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالمُسَافِرِ؟ أَمْ لَا؟).
ولا شكَّ أن الرمل كان في أول الأمر لهذه العلة، ولذلك لما طرح عمر سؤالًا، وأجاب عنه: أنه توقف
(2)
، كانت هناك علةٌ، وقد زالت العلَّة، فهل يبقى الحكم أو لا؟ نعم؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَعلَ ذلك في حَجَة الوداع
(3)
.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عليه الصلاة والسلام حِينَ رَمَلَ وَارِدًا عَلَى مَكَّةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ الأَسْوَدِ وَاليَمَانِيِّ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
(4)
، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَلَمُ الأَرْكَانُ كُلُّهَا؟ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ
(5)
إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ فَقَطْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ).
= وقال ابن عباس: ليس على أهل مكة رمل، وهذا مذهب أحمد، وإسحاق. وقال عطاء وعروة بن الزبير: لا رمل يوم النحر.
(1)
أخرجه مالك (1/ 365)، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر كان "إذا أحرم من مكَّة، لم يطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منًى، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت، إذا أحرم من مكة".
(2)
أخرجه أبو داود (1887)، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سَمعتُ عمر بن الخطاب يقول: "فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب، وقد أطأ اللَّه الإسلام، ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1649).
(3)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا. . . ".
(4)
يُنظر: "الإجماع" لابن القطان (1/ 273)، حيث قال:"وكانت عائشة رضي الله عنها تقول للنساء: إذا وجدتن فرجةً، فاستلمن وإلا فكبرن وامضين، وعليه جماعة الفقهاء".
(5)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 355)، حيث قال: "ولَمْ يذكر المصنف استلام غير الحجر؛ لأنه لا يستلم الركن العراقي والشامي، وأما اليماني =
وَهنا مسألةٌ، وَهي أنَّ الذي ورد في حديث جابر وابن عمر وغيرهما من الأحاديث الصحيحة أنَّ الذي يُسْتلم إنما هو الركن الذي فيه الحجر، وكذلك الركن اليماني، أما الركنان الآخران الشمالي والغربي فلا يُسْتَلمان، وقد حصلت قضية في زمن معاوية رضي الله عنه، فإنه استلمهما وقال:"ليس من البيت شيء مهجور"، فأنكر ذلك عبد اللَّه بن عباس، وأورد قول اللَّه سبحانه وتعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، فقال معاوية رضي الله عنه: صدقتَ
(1)
.
وهذا هو شأن الصحابة رضي الله عنهم، وشأن كل إنسانٍ يريد الوصول إلى الحق من أقرب طريقٍ، وأهدى سبيلٍ، فإنه إذا تبين له، ينزل عنده، ويسلم له {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51].
= فيُسْتحب أن يستلمه ولا يقبله، وعند محمد: هو سُنَّة، وتقبيله مثل الحجر الأسود، والدلائل تَشْهد له".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(2/ 49)، حيث قال:"وأما تقبيل الحجر واستلام اليماني في باقي الأشواط، فمندوب كما يأتي. وأما الثامي والعراقي فيُكْرَه استلامهما في سائر الأشواط".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 83 - 85)، حيث قال:" (ويستلم الحجر) الأسود. . . (ولا يقبل الركنين الشاميين، ولا يستلمهما)، للاتباع، متفق عليه (ويستلم) الركن (اليماني)، للخبر المذكور بيده اليمنى فاليسرى فما في اليمنى فاليسرى، ثم يقبِّل ما استلم به، فإن عجز، أشار إليه بما ذكر بتَرْتيبه، ثمَّ قبَّل ما أشار به على الأوجه، (ولا يقبِّله)؛ لأنه لم ينقل، وخص ركن الحجر بنحو التقبيل".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 479)، حيث قال:"ولا يستلم ولا يقبِّل الركنين الآخرين)؛ أي: الشامي والغربي؛ لقول ابن عمر: "لم أرَ النبي صلى الله عليه وسلم يمسح من الأركان إلا اليمانيين"، متفق عليه".
(1)
أخرجه أحمد (3/ 369)، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه طاف مع مُعَاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس:"لِمَ تستلم هذين الركنين؟ ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستلمهما، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]، فقال معاوية: صدقت"، وبنحوه أخرجه البخاري (1608)، عن أبي الشعثاء.
* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ فَقَطْ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْتَلِمُ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ فَقَطْ).
وحديث ابن عمر متفق عليه
(1)
.
* قوله: (وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى اسْتِلَامَ جَمِيعِهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا نَرَى إِذَا طُفْنَا أَنْ نَسْتَلِمَ الأَرْكَانَ كُلَّهَا
(2)
، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يُحِبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَيْنِ إِلَّا فِي الوِتْرِ مِنَ الأَشْوَاطِ"
(3)
).
لكن حديث جابر الطويل ليمس فيه إلا استلام الركنين
(4)
، كحديث ابن عمر
(5)
وغيره
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267)، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه رضي الله عنهما قال:"لَمْ أرَ النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين".
(2)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 183)، عن جابر بن عبد اللَّه قال:"كُنَّا نَسْتلم الأركان كلها".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 199، 200)، حيث قال: "قال الطبري: واحتج مَنْ رأى الاستلام في الأركان كلها بما حدثناه بن حميد، قال: حدثني يحيى بن وضاح، قال: حدثني الحسين بن واقد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنَّا نُؤْمر إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها. قال أبو الزبير: ورأيت عبد اللَّه بن الزُّبير يفعله.
(3)
وينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 200)، حيث قال:"وقَدْ كان جماعةٌ من السلف لا يستلمون الركن إلا في الوتر من الطواف، منهم مجاهد، وطاوس".
وينظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 248)، حيث قال:" (ويُرَاعى ذلك)؛ أي: الاستلام وما بَعْده (في كل طوفة). . .؛ ولأنه يصير مستلمًا في افتتاحه واختتامه، وهو أكثر عدد".
(4)
أخرجه مسلم (1218).
(5)
أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267).
(6)
كحديث ابن عباس، أخرجه البخاري (1608)، وتقدم لفظه.
* قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ تَقْبِيلَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ خَاصَّةً مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ إِنْ قَدَرَ)
(1)
.
ولا شك؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ فعل ذلك، وهو القائل:"خذوا عني مناسككم"
(2)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبَّل الحجر الأسود
(3)
، ومسحه بيده الشريفة
(4)
، وَكَذلك استلم الركن اليماني
(5)
، لكنه لا يقبل، ولا يُشَار إليه
(6)
في حالة عدَم الوصول إلى استلامه، وقصة عمر رضي الله عنه مشهورة في
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 273)، حيث قال:"ولا خلاف في أن تقبيل الحجر الأسود في الطواف من سنن الحج لمَنْ قدر عليه، ومَنْ لم يقدر وضع يده على فيه، ثم وضعها عليه مسلمًا ورفعها إلى فيه، فإن لم يفعل فلا إثم عليه. . . والمعروف تقبيل الحجر الأسود، ووضع الوجه عليه، وما أعلم أحدًا من أهل الفقه يقول بتقبيل غيره".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1597)، عن عُمَرَ رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فَقَال:"إني أعلم أنك حجرٌ، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك".
(4)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(8/ 175)، حيث قال:"وأما قوله: استلم الركن، فمعناه: مَسَحه بيده، وهو سُنَّةٌ في كل طواف".
(5)
أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267).
(6)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 355)، حيث قال:"ولم يذكر المصنف استلام غير الحجر؛ لأنه لا يستلم الركن العراقي والشامي، وأما اليماني فيستحب أن يستلمه ولا يقبله، وعند محمد: هو سُنَّة، وتقبيله مثل الحجر الأسود".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على شرح الخرشي"(2/ 325)، حيث قال:"ويُسَن استلام اليماني بيده أوله ويضعها على فيه من غير تقبيلٍ، ويندب تقبيل الحجر فيما بعد الأول، ولمس اليماني بيده بعد الأول، والمس بالعود خاص بالحجر، فإن لم يقدر على استلام اليماني بِيَدِهِ، كَبَّر فقط".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 83 - 85)، حيث قال: " (ويستلم الحجر) الأسود. . . (ولا يقبل الركنين الشاميين ولا يستلمهما)؛ للاتباع، متفق عليه (ويستلم) الركن (اليماني)؛ للخبر المذكور بيده اليمنى فاليسرى، فما في اليمنى فاليسرى، ثم يقبل ما استلم به، فإن عجز أشار إليه بما ذكر بترتيبه، ثم قبَّل =
ذلك، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:"اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الحَجَرَ وَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ وَضَعَ شفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، فَالتَفَتَ، فَإِذَا عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: "يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ"
(1)
.
وهذه مواقفُ عظيمةٌ ينبغي أن يستفيد المسلم منها، وأن يَتَّعظ منها ليميل قلبه، ويَنْبغي أن يعاهدَ اللَّه سبحانه وتعالى ألَّا يعود لما قد كان بَدَر منه من أخطاءٍ أو تقصيرٍ في حق اللَّه سبحانه وتعالى.
* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهِ قَبَّلَ يَدَهُ).
أي: يَسْتلمه إنْ لم يستطع تقبيله، ثم يُقبِّل يديه.
* قوله: (وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ)
(2)
.
رواه مالكٌ وغيره
(3)
.
* قوله: (أَنَّهُ قَالَ وَهوَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ حِينَ بَلَغَ الحَجَرَ الأَسْوَدَ:
= ما أشار به على الأوجه (ولا يقبله)؛ لأنه لم ينقل، وخص ركن الحجر بنحو التقبيل".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 479)، حيث قال:" (ثمَّ اليماني جهة اليمن، فإذا أتى عليه)؛ أي: على الركن اليماني (استلمَه، ولَمْ يُقبِّله) ".
(1)
أخرجه ابن ماجه (2945)، عن ابن عمر، قال: استقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحجر، ثم وضَع شفتيه عليه، يبكي طويلًا، ثم التفت، فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي، فقال:"يا عمر، هاهنا تسكب العبرات"، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1111).
(2)
أخرجه مالك (1/ 367)، عن هشام بن عروة عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال وهو يَطُوف بالبيت للركن الأسود: إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبَّلك، ما قبَّلتك، ثم قبَّله. قال مالكٌ: سَمعتً بعض أهل العلم "يستحب إذا رفع الذي يطوف بالبيت يده عن الركن اليماني أن يضعها على فيه".
(3)
أخرجه البخاري (1597)، عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فقال:"إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك".
"إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ").
فهَذا عُمَر بن الخطاب الذي عاش شطرًا من حياته في الجاهلية، وكان كغيره قَدْ وقع فيما وقِع فيه المشركون، وقصةُ إسلامِهِ معروفةٌ، وبعد إسلامه تغيَّر حالُهُ، فبعد أنْ كان عابدًا لصنمٍ، مطيعًا لغير اللَّه، راكعًا ساجدًا للأصنام والأوثان، أصبح عابدًا لربه، مخلصًا له حتى صار القرآن ينزل موافقًا لرأيه أحيانًا
(1)
، يقف عند الحجر الأسود، ويَقُول:"واللَّه، إنِّي لأَعْلَم أنَّك حَجز لا تنفع ولا تضرُّ، ولولا أنِّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك".
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ: رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الطَّوَافِ)
(2)
.
فبعد أن ينتهي المسلم من طوافه، يذهب إلى المكان المُعدِّ للصلاة بعد الطواف، والذي أشار اللَّه إليه سبحانه وتعالى، بقوله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وهذا المكان قد اختُلِفَ فيه، هل هو مقام إبراهيم أو أن مقام إبراهيم كان بجوار البيت ثم أُخِّر لوجود الزحام أو غير ذلك
(3)
؟ مهما يكن من أمرٍ، فهذا المكان يُصلَّى فيه، ولو لم يستطع
(1)
أخرجه البخاري (402)، عن أنس بن مَالِكٍ، قال: قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، "وافقت ربي في ثلاثٍ، فقلت: يا رسول اللَّه، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وآية الحجاب، قلت: يا رسول اللَّه، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يُكلِّمهن البَر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، فنزلت هذه الآية".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 271)، حيث قال:"ولا خلاف أن الركعتين لا تكونان إلا بعد السبعة الأشواط".
(3)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 169)، حيث قال: "كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أَخَّره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق =
الإنسان، فإنه يصلي في أي مكان في الحرم، فإن عمر رضي الله عنه أخَّر ركعتي الطواف؛ أي: اللتين يصليهما عند المقام؛ لكونه طاف بعد الصبح
(1)
، وكان لا يرى التنفُّل بعد الصبح مطلقًا
(2)
، وكذلك فعلمت أمُّ سلمة عندما استأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخروج ولم تكن طافت بالبيت، فأَمَرها الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ تطوف على بعيرها والناس يصلُّون الصبح، ففعلت ذلك، ولم تصلِّ حتى خرجت من الحرم
(3)
، لَكن الأفضل أن يُصلِّيهما الإنسان في المكان المُعدِّ، فإن لم يستطع، فليس عليه حرجٌ أن يرجع، وليُصلِّ في أيِّ مكانٍ يستطيع، ولا يرمي بنفسه بالزحام، ولا في مضايقة المسلمين، وإلحاق الضرر بهم
(4)
.
* قوله: (وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا الطَّائِفُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ أُسْبُوعٍ إِنْ طَافَ أَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ)
(5)
.
= في "مصنفه" بسند صحيح عن عطاء، وغيره، وعن مجاهد أيضًا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسندٍ قويٍّ، ولفظه: أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أَخَّره عمر.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 650)، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال:"صلى عمر رضي الله عنه الصبح بمكة، ثم طاف سبعًا، ثمَّ خرج وهو يريد المدينة، فلما كان بذي طوى وطلعت الشمس، صلى ركعتين"، وكذلك رواه الحميدي، عن سفيان، والصحيح عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن.
(2)
أخرجه مالك (1/ 221)، عَنْ عبد اللَّه بن عمر، أن عمر بن الخطاب كان يقول:"لا تَحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإن الشيطان يطلع قرناه مع طلوع الشمس، ويغربان مع غروبها، وكان يضرب الناس على تلك الصلاة".
(3)
أخرجه البخاري (1626)، عن أُمِّ سلَمة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة، وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، وأرادت الخروج، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا أُقِيمَتْ صَلَاة الصُّبح، فطوفي على بعيرك والناس يُصلُّون"، ففعلت ذلك، فلم تُصلِّ حتى خرجت.
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 271)، حيث قال:"وأجمعوا على أن الطائفَ يصلِّي الركعتين حيث شاء من المسجد، وحيث أمكنه، ولا شيء عليه إذا لم يُصلِّ عند المقام". وينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 204).
(5)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 271)، حيث قال: "والاختيار المجتمع عليه: اتباع =
ويَقْصد بالأسبوع الأشواط السبع، فالأصل أن الإنسان إذا طاف أشواطًا سبعةً، يذهب فيصلي ركعتين خلف المقام، لكن قد يرى الإنسان أن يطوف أسباعًا يعني: يطوف سبعة أشواط يعقبها سبعة أشواط أُخرى، وهكذا، فهل له مثلًا لو أنه طاف سبعًا، أو ثلاثًا، أو أربعةً، يؤجل الصلاة، فيصلي على السبع ركعتين فركعتين، وعن الثلاثة ركعتين فركعتين، وهكذا، أو أنه كلما انتهى من السبع يتجه إلى المقام ويصلي ركعتين؟ العلماء مختلفون في ذلك
(1)
، ولا شكَّ أن الأفضلَ والأكملَ والأَوْلَى هو أنه بعد أن يفرغ من طوافه، يذهب فيصلي ركعتين؛ لأن هذا هو الذي فَعَله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَأَجَازَ بَعْضُ السَّلَفِ أَلَّا يُفَرّقَ بَيْنَ الأَسَابِيعِ، وَأَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِرُكُوعٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ لِكُلِّ أُسْبُوعَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ الأَسَابِيعِ)
(2)
.
هذا مرويٌّ عن عائشة، ومرويٌّ أيضًا عن المِسْوَر بن مخرمة، وعن عطاء من التابعين، وعن أحمد أي: رواية للإمام أحمد، وعن إسحاق بن راهويه، وقال به جمعٌ من العلماء
(3)
، لكن أكثر العلماء من الأئمة وغيرهم يَرَون أن الأَوْلَى هو أنه يصلي كلما فرغ من طواف ركعتين.
= كل أسبوع ركعتين، "طاف النبي عليه السلام سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وقال: "خذوا عني مناسككم".
(1)
سيأتي.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 204): "قد كان بعض السلف يقرن بين الأسابيع، منهم عائشة أم المؤمنين، والمسور بن مخرمة، ومجاهد، ذكر ابن عيينة قال: حدثني محمد بن السائب، عن أبيه: أن عائشة كانت تطوف ثلاثة أسابيع تفرق بينها، وتركع لكل أسبوعٍ ركعتين".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 348)، حيث قال:"ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع، فإذا فرغ منها، ركع لكل أسبوعٍ ركعتين، فعل ذلك عائشة، والمسور بن مخرمة. وبه قال عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وإسحاق. . . ".
* قوله: (ثُمَّ تَرْكَعُ سِتَّ رَكَعَاتٍ. وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"
(1)
).
وَالآخَرون يقولون: لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ يطف عدة مرات؛ ولذلك لم يفعل
(2)
، لكننا نقول: هَذَا هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال:"خُذُوا عني مناسككم"
(3)
، ولو كان ذلك أفضل، لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(4)
.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الجَمْعَ أَنَّهُ قَالَ: المَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ
(1)
تقدَّم.
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 498، 499)، حيث قال:" (وختم الطواف باستلام الحجر استنانًا، ثم صلى شفعًا. . . (بعد كل أسبوعٍ عند المقام). . . (قوله: بعد كل أسبوعٍ)؛ أي: على التراخي ما لم يرد أن يطوف أسبوعًا آخر، فَعَلى الفور".
ولمذهب المالكيَّة، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 115)، حيث قال:"لم يصرح المصنف وكثير من أهل المذهب ببيان حكم جميع الأسابيع، وحكمه الكراهة، قال في "الجلاب": ويُكْره أن يطوف المرء أسابيع، ويجمع ركوعها حتى يركعها في موضع واحد، ويركع عقب كل أسبوعٍ رَكْعَتين. انتهى".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوَهَّاج" للدميري (3/ 495)، حيث قال:"فَإِنْ طاف أسبوعين أو أكثر، ثمَّ صلى لكل طوافٍ ركعتيه، جاز؛ لما روى العقيلي وابن شاهين وابن أبي حاتم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قَرَن بين ثلاثة أسابيع، ثم صلى لكل أسبوعٍ ركعتين)، لكن فيه ضعف، فلذلك كان فاعله تاركًا للأفضل، ولا يُكْره ذلك؛ لوروده عن عائشة والمسوَر بن مَخرمة رضي الله عنهما".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 484)، حيث قال:" (وله جمع أسابيع) من الطواف (فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين)؛ لفعل عائشة والمسور بن مخرمة (والأَوْلَى) أن يصلي (لكل أسبوع عقبه)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم".
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 204)، حيث قال:"قال أبو عمر: الحجة لمَنْ كره ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وقال: "خذوا عني مناسككم"، فينبغي الاقتداء به، والانتهاء إلى ما سَنَّه صلى الله عليه وسلم".
رَكْعَتَانِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، وَلَا الرَّكْعَتَانِ المَسْنُونَتَانِ بَعْدَهُ، فَجَازَ الجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِأَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ مَنْ يَرَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ).
فلَوْ أن إنسانًا فعل ذلك، لا يكون قد ارتكب منكرًا، لكنه ترك الأَوْلَى.
* قوله: (لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ).
أَيْ: بعد أن طاف مرةً واحدةً؛ لأن الوترَ أقله واحدٌ.
* قوله: (وَمَنْ طَافَ أَسَابِيعَ غَيْرَ وِتْرٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا - لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ)
(1)
.
(القَوْلُ فِي شُرُوطِهِ
وَأَمَّا شُرُوطُهُ، فَإِنَّ مِنْهَا حَدَّ مَوْضِعِهِ، وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الحِجْرَ مِنَ البَيْتِ).
وهنا بيان وتحديد الموضع الذي يُطَاف حوله، وهناك بناءٌ على شكل قوسٍ، وبينه وبين الكعبة حجر إسماعيل مع أنه بُنِيَ بعد إسماعيل عليه السلام، وهذا الجزء الذي بني وتركت فتحة يمرُّ منها لا يجوز للمسلم أن يدخل من تلك الفتحة ويَطُوف، بَل الواجب عليه أن يطوفَ حول الكعبة، وبعد هذا البناء، كما أنه لا يَجُوز له أن يطوف على جدار الحجر، كذلك لا يجوز
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 204): "وأما كراهة مجاهد: الجمع بين السبعين، وإجازته ثلاثة أسابيع، فإنما ذلك -واللَّه أعلم- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انصرف إلى الركعتين بعد وترٍ من طوافه، ومَنْ طاف أسبوعين، لم ينصرف على وترٍ، فلذلك أجاز أن يطوف ثلاثة أسابيع وخمسة وسبعة، ولم يجز اثنين".
له أن يَطُوف على محيط الكعبة؛ لأن أكثرَ العلماء على أنه جزءٌ من الكعبة
(1)
، واللَّه تعالى يقول:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
(2)
، أي: بجميع البيت لا ببعضه
(3)
، فالواجب على كلِّ طائفٍ أن يطوف حول البيت، وإن لم يفعل يكون قَدْ قصر في الطواف، فلا يصحُّ طوافه.
* قوله: (وَأَنَّ مَنْ طَافَ بِالبَيْتِ، لَزِمَهُ إِدْخَالُ الحِجْرِ فِيهِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الإِفَاضَةِ
(4)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:
(1)
لما رواه مسلم (405 - 1333)، عن عائشة، قالت: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو؟ قال:"نَعمْ"، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومكِ قصرت بهم النفقة"، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: "فَعَل ذَلكَ قومكِ ليدخلوا مَنْ شاؤوا، ويمنعوا مَنْ شاؤوا، ولولا أن قَوْمكِ حديثٌ عَهْدهم في الجاهلية، فأخاف أن تُنْكر قلوبهم، لَنظرتُ أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض".
(2)
يُنظر: "تفسير ابن كثير"(5/ 418)، حيث قال:"وقوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: فيه مستدلٌّ لمَنْ ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بنَاه إبراهيم، وَإِنْ كانت قريشٌ قد أخرجوه من البيت حين قَصرت بهم النفقة؛ ولهَذَا طاف رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجرَ من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة".
(3)
فالباء هنا للإلزاق، لا للتبعيض.
انظر في مذهب المالكية: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (1/ 26)، حيث قال:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، الذي لا يجوز الاقتصار فيه على بعض الطواف؛ ولأن الباء إنما دخلت للإلصاق".
وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 176)، وفيه قال:"والباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غيره، كما في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} تكون للإلصاق".
وانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 513)، وفيه قال:"الطواف سبعًا، فإن ترك منها شيئًا وإن قل؛ لم يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعًا، فيكون تفسيرًا لمجمل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ".
(4)
لمذهب الحنفية، ينظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 16)، حيث قال:" (وطف مضطبعًا وراء الحطيم آخذًا عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط). . . وأما طوافه وراء الحطيم؛ فلأن الحطيم من البيت". =
هُوَ سُنَّةٌ
(1)
، وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ).
وَفِي الحقيقة هو واجبٌ وليس بسُنَّةٍ كَمَا نسب إلى أبي حنيفةَ، وَصَاحباه قَدْ خالفوه في هذا الأمر
(2)
، وقصَّةُ ذلك معروفةٌ، فإن المشركين لما أرادوا بناء البيت ضاقت بهم النفقة، وهُمْ قَدْ وضعوا شرطًا في بناء هذا البيت: ألا يبنى إلا من مالٍ طيبٍ لم يخالطه حرامٌ، وليس فيه شبهةٌ، وليس فيه محرم، فوجدوا أن ما قد جمعوه من المال غير كافٍ لبناء البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام، فاهتدَوا إلى أن يتركوا جُزءًا من البيت، ولقد
= ولمذهب المالكية، ينظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 31)، حيث قال:" (و) خروج كل البدن أيضًا عن مقدار (ستة أذرع من الحجر). . . والراجح أنه لا بدَّ من الخروج عن جميع الحجر، ولا يعتد بالطواف داخله".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 245)، حيث قال:"وأما الحجر، فلأنه صلى الله عليه وسلم إنما طاف خارجه، وقال "خذوا عني مناسككم"، ولخبر مسلم عن عائشة -رضي اللَّه تعالى عنها- سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الجدر: أمن البيت هو؟ قال: "نعم. . . "، وظاهر الخبر أن الحجر جميعه من البيت. . . لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل بالبيت".
ولمَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 482)، حيث قال:" (أو) طاف (على جدار الحجر). . . لم يجزئه؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، والحِجر منه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: "هو من البيت"، رواه مسلم".
(1)
مشهور مذهب الحنفية: أن إدخال الحِجْرِ في البيت واجبٌ، وأن مَنْ طاف الطواف الواجب في جوف الحِجر أعاد إن كان بمكة، فإن رجع إلى أهله ولم يعده عليه دمٌ. يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 495، 496)، حيث قال:" (قوله: لم يجز). . . بمعنى الحل لا. . . قال القاري في "شرح النقاية": ولو طاف من الفرجة لا يجزيه في تحقيق كماله، ولا بد من إعادة الطواف كله لتحققه، وإن أعاد من الحطيم وحده، أجزأه بأن يأخذ على يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخره، ثم يدخل الحجر من الفرجة، ويخرج من الجانب الآخر، أو لا يدخل الحجر، وهو أفضل بأن يرجع ويبتدئ من أول الحجر، هكذا يفعل سبع مرات، ويقضي صفته من رملٍ وغيره، ولو لم يعد، صح طوافه، ووجب عليه دم".
(2)
لم نقف على القول بالسُّنية عند أبي حنيفة وخلاف صاحبيه، ومشهور المذهب ما قدمناه.
كان ذلكم الذي اهتدوا إليه هو الطريق السوي؛ لأنه لا يمكن أن يُتْرك شيءٌ من جهة الحجر الأسود، ولو تُرِكَ من الجهَة الغربية لأمكنَ، لكن يصبح البيت مستطيلًا، والآن هو أقرب إلى الترجيح، فتركوا تلكم الجهة؛ لأن النفقة قَدْ ضاقت بهم، فلما جاء عبد اللَّه بن الزبير وقد استولى على مكة مدةً من الزمن، وصار هو الخليفة فيها، أعاد بناء البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام، ثم أمر عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي بهَدْم ذلك، وإعادته على البناء الذي هو عليه الآن، وفي عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد فكَّر في إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، فاستشار العلماء في ذلك، فأشاروا عليه ألا يتخذ البيت وسيلةً للتغير للبناء والهدم، فترك ذلك، وظل على حالته التي نراه عليه اليوم
(1)
.
* قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، وَلَصَيَّرْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ).
وفي روايةٍ: "لولا قومك حديثو عهد بالكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها -أو: لأقمتها- على قواعد إبراهيم"
(2)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم خَشِيَ أَنْ لو غيَّر في البيت والناس لا يَزَالون في أول إسلامهم أن يحصل أمرٌ أو شيءٌ في نفوس بعضهم، فَرَأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجاء بعده أبو بكرٍ رضي الله عنه، ولم يفعل شيئًا، وعمر وعثمان وعلي كذلك، فانقرض عهد الخلفاء الراشدين
(1)
أخرجها مسلم (1333)، عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أَمْره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم -أو يحربهم- على أهل الشام، فلما صدر الناس، قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها؟ أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأيٌ فيها، أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أسلمَ النَّاس عليها، وبعث علَيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير:"لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخيرٌ ربي ثلاثًا، ثم عازم على أمري"، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. . . الحديث.
(2)
أخرجها ابن ماجه (2955)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1106).
الَّذين قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم: "عَلَيكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين، عَضُّوا علَيها بالنواجذ"
(1)
.
وفي حقِّ أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما: "اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبى بكرٍ وعمر"
(2)
.
وقال في شأن أبي بكرٍ: "سدُّوا عليَّ هذه الخوخة
(3)
إلا خوخة أبي بكر"
(4)
.
وقال: "لَوْ كُنْتُ متخذًا من البَشر خليلًا، لاتَّخذت أبا بَكْرٍ خليلًا"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4607)، عن العرباض: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائلٌ: يا رسول اللَّه، كأن هذه موعظة مودعٍ، فماذا تعهد إلينا؟ فقال "أُوصيكُمْ بتَقْوى اللَّه، والسَّمع والطَّاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه مَنْ يعش منكم بعدي، فَسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأُمور، فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(165).
(2)
أخرجه ابن حبان (6902)، عن حُذَيفة، قال: كنَّا عند رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"إني لا أرى بقائي فيكم إلا قليلًا، فاقتدوا باللَّذين من بعدي -وأشار إلى أبي بَكْرٍ وعُمَر- واهتدوا بهَدْي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(1233).
(3)
يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 86)، حيث قال:"الخوخة: باب صغير كالنافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين ينصب عليها باب".
(4)
أخرجه البخاري (467)، ومسلم (2382)، واللفظ له، عن أبي سعيدٍ. . . قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في مالِهِ وصحبتِهِ أبو بكرٍ، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أُخوَّة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر".
(5)
أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382)، ولفظ البخاري عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن اللَّه خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند اللَّه"، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يُبْكي هذا الشيخ إنْ يكن اللَّه خَيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند اللَّه، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا. قال:"يا أبا بكرٍ، لا تَبْك، إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكرٍ، ولكن أُخوَّة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر".
وللَّه في ذلك حكمة، فربما لو أنه ترك على الوضع الذي فكر في بنائه، وجُعِلَ بابٌ للدخول، وبابٌ للخروج، فكيف للملايين التي تدخله الآن؟ وكم سيَتَرتب من الضرر على الناس، وربما تُزْهق أرواحٌ، وتموت نفوسٌ!
* قوله: (فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، ضَاقَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ وَالخَشَبُ
(1)
)
(2)
.
والمُشْركون يعترفون بأن هناك ربًّا واحدًا خالقًا رازقًا محييًا مميتًا، وهو ما يُعْرف بتوحيد الربوبية، لكنهم لمَّا جاؤوا إلى توحيد الأُلُوهية أَيْ: العبادة، خرجوا، فَجَعلوا وسطاءَ وشركاءَ يعبدونهم مع اللَّه سبحانه وتعالى، فأفسدوا جميعَ أعمالهم في ذلك، فدخلوا ضمن قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، وَاللَّهُ تَعالَى يَقُول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116].
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، ثُمَّ يَقُولُ:"طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ الحِجْرِ"
(3)
، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الآيَةِ
(4)
،
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 351)، حيث قال:"خشب: الخشبة: ما غلظ من العيدان، والجمع خشب، مثل شجرة وشجر، وخشب وخشب وخشبان".
(2)
أخرجه ابن خزيمة (3022) عن ابن الزبير: أن عائشة أخبرتني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْلا حَداثة قَوْمكِ بالكفر لهدمت الكعبة، فإنهم تركوا منها سبعة أذرعٍ في الحجر، ضاقت بهم النفقة والخشب". وقال الأعظمي: إسناده صحيح.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 146)، عن ابن عباس، قال:"الحجر من البيت؛ لأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت من ورائه، قال اللَّه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ".
(4)
وظاهر الآية عندهم أن مَنْ طاف أكثر الأشواط، فقد أتى بفرض الطواف، ويُنظر:"التجريد" للقدوري (4/ 1867)، حيث قال: "قلنا: أما الآية فتقتضي وجوب شوطٍ =
وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِهِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: إِجَازَةُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ، وَمَنْعُهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالغُرُوبِ).
أي: بعد طلوع الشمس وبعد غروبها، وهناك أوقاتٌ ينهى عن الصلاة فيها، ويقصد بذلك الصلوات غير الواجبة، أما الصلاة الواجبة فلو نام إنسانٌ عن صلاةٍ أو نَسيهَا، فإنَّ واجبه أن يؤديها في الوقت الذي استيقظ فيه، أو ذَكَرها فيه؛ لأنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُول:"مَنْ نامَ عن صَلَاةٍ أو نَسيها، فليُصلِّها متى ذَكَرها، فإنه لا كفَّارة له إلا ذلك"
(1)
، لكن غير الواجبة هل تصلى بعد صلاة الصبح؟ والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يَقُول:"لَا صلَاة بعد صلَاة الصُّبح حتى تطلع الشمس"، وبعد العصر:"لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس"
(2)
، فهل تؤدى وقت طلوع الشمس أو وقت الزوال أو وقت الغروب؟
جاء في حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه مسلم
(3)
، وغيره
(4)
قَالَ: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ".
وقَدْ جَاءت أحاديثُ كثيرةٌ في ذلك، وجاء: "الطَّوافُ بالبيت صلاةٌ
= أوجبناه بالإجماع، فلم نسلم أن فعله بيان، ولو سلمنا ذلك، اقتضى وجوب الأشواط السبعة، وكذلك نقول، وليس في الوجوب ما يدلُّ على أنها ركنٌ، وكذلك الجواب عن قوله:"خُذُوا عنِّي مَنَاسكَكم"، فأكثر الأحوال أن يدل على وجوب الأشواط، وليس ما كان واجبًا كان ركنًا".
(1)
أخرجه مسلم (684)، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نسي صلاةً، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها".
(2)
أخرجه البخاري (588)، ومسلم (827)، ولفظ مسلم عن سعيد الخدري، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس".
(3)
أخرجه مسلم (831).
(4)
أخرجه أحمد (28/ 608).
إلا أن اللَّهَ أباح الكلام فيه"
(1)
، فهل الخلافُ فِي أدَاء الطَّوَاف في الأوقات التي نُهِيَ عن الصلاة فيها يشمل الطواف أو لا؟ هذا الذي يريد أن يُشير إليه المؤلف.
* قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
(2)
وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ
(3)
، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ
(5)
. وَالقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهِيَتُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ، وَمَنْعُهُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالغُرُوبِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
(6)
، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ
(7)
. وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي
(1)
أخرجه النسائي (2922)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(121).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5/ 63) عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أخبره أنه "طاف مع عمر بعد صلاة الصبح بالكعبة، فلَمَّا فرغ عمر من طوافه نظر، فلم يرَ الشمس فركب، ولم يسبح حتى أناخ بذي طوى، فسبح ركعتين على طوافه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5/ 63)، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال: قدم أبو سعيدٍ الخدريُّ حاجًّا أو معتمرًا، فَطَاف بعد الصبح، فَقَال:"انظروا كيف يصنع، فلما فرغ من سبعه قعد، فلما طلعت الشمس صلى ركعتين".
(4)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (2/ 272)، حيث قال:" (و) ندب (ركوعه للطواف). . . (بعد) صلاة (المغرب) ومصب الندب كون ركوعه (قبل تنفُّله). . . (و) ندب لمن طاف بعد الصبح ركوعه للطواف (بعد طلوع الشمس) قبل تنفُّله وتأخير دخول مكة حتى تطلع الشمس، قاله الإمام مالك رضي اللَّه تعالى عنه، فإن دخل قبله، طاف حين دخوله، وأخَّرهما لطلوع الشمس ولَوْ على القول بوجوبهما مراعاةً لسُنتيهما، وعلم مما هنا أن الطواف ولو فرضًا أو واجبًا كصلاة النفل في كراهته بعد الصبح وفرض العصر إلى أن ترتفع قيد رمح وتصلي المغرب".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 208)، حيث قال:"للمسألة في هذا الباب ثلاثة أقوال، أحدها: إجازة الطواف بعد الصبح، وبعد العصر، وتأخير الركعتين حتى تطلع الشمس، أو تغرب، وهو مذهب عمر بن الخطاب، ومعاذ بن عفراء، وجماعة، وهو قول مالك وأصحابه".
(6)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5/ 59)، عن عبد الكريم الجزري قال: سألت سعيد بن جبير عن الطواف بعد العصر قال: فقال: "إن شئت ركعت إذا غابت الشمس، وإن شئت كفتك المكتوبة، وإن شئت ركعتهما بعد المكتوبة".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 208)، حيث قال: "والقول الثاني كراهة =
هَذِهِ الأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ)
(1)
.
وَجَماهير العلماء يذهبون إلى أنه للإنسان أن يطوف في أيِّ وقتٍ شاءَ؛ سواء كان ذلك في وقتِ نهيٍ أو في غير وقت نهيٍ
(2)
، فلو وصل ودخل المسجد الحرام بعد صلاة الصبح، فإنه يطوف، وبعد العصر يطوف، ووقت الزوال، ووقت الغروب، ووقت طلوع الشمس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"يا بني عبد مناف -أَوْ: يا بني عبد المطلب- لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت أي ساعة من ليلٍ أو نهارٍ"، والحديث قَدْ أخرجه الخمسة
(3)
، وأحمد
(4)
، وغيرهم
(5)
، وهو حديثٌ صحيحٌ
(6)
، وقد أطلق هذا الحديث أن للإنسان أن يطوفَ في أيِّ وَقْتٍ من هذه الأوقات، أما بالنسبة
= الطواف، وكراهة الركوع له بعد الصبح وبعد العصر، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 208): "والثالث إباحة ذلك كله، وجوازه بعد الصبح وبعد العصر، وبه قال الشافعي وجماعة غيره".
(2)
لمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"(1/ 387)، حيث قال:"وقد تنتفي الكراهة للمكان كما أشار إليه بقوله: (وإلا) في (حرم مكة على الصحيح) لخبر: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليلٍ أو نهارٍ"، ولما فيه من زيادة فضل الصلاة، فلا تُكْره بحال".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 452)، حيث قال:" (و) يجوز (فعل ركعتي طواف، فرضًا كان) الطواف (أو نفلًا) في كل وقت منها؛ لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى فيه في أية ساعة شاء من ليلٍ أو نهارٍ"، رواه الأثرم والترمذي وقال: صحيح، وهذا إذن منه صلى الله عليه وسلم في فعلهما في جميع أوقات النهي؛ ولأن الطواف جائز في كل وقت مع كونه صلاة، كذلك ركعتاه تبعًا له".
(3)
أخرجه الترمذي (868)، والنسائي (585)، وأبو داود (1894)، وأحمد (16736)، وابن ماجه (1254).
(4)
أخرجه أحمد (16736)، عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا بني عبد منافٍ، لا تَمْنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلَّى أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ".
(5)
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 149).
(6)
صَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(1045).
للصلوات، فقَدْ جَاءَت العلل في النَّهي عن الصلاة في تلك الأوقات
(1)
.
* قوله: (وَأُصُولُ أَدِلَّتِهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ أَوْ إِبَاحَتِهَا).
فالذين منعوا ذلك إنما ألحقوا الطواف بالصلاة، والذين أجازوا ذلك في أي وقتٍ، استدلوا بالحديث الذي مرَّ، وسيورده المؤلف.
* قوله: (أَمَّا وَقْتُ الطُّلُوعِ، فَالآثارُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَالطَّوَافُ هَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّلَاةِ؟ فِي ذَلِكَ الخِلَافُ، وَمِمَّا احْتَجَّتْ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إِنْ وَليتُمْ مِنْ هَذَا الأَمْرِ شَيْئًا، فَلَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا البَيْتِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ"، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ)
(2)
.
رواه الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو حديثٌ بجمع طرقه صحيحٌ
(3)
.
* قوله: (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الطَّوَافِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ الطَّهَارَةَ).
وهذه مسألة أُخرى، والطهارة نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس، والطهارة من الحدث إما أن تكون طهارةً من الحدث الأصغر، وإما أن تكون طهارةً من الحدث الأكبر، واللَّه تعالى يقول:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وفي الآية الأُخرى:
(1)
أخرجه مسلم (828)، عن ابن عمر، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بقرني الشيطان".
(2)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 57).
(3)
تقدَّم تخريجه مفصلًا.
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
ولا شك أن ما في الآية إشارة إلى أنه تطهير البيت من النجاسة؛ سواء كانت النجاسة الحسية التي نعرفها، أو تطهير البيت -وقد طهر بحمد اللَّه- من الأصنام منذ زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما هدم الأصنام
(1)
، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
وقَد اختلف العلماء، هل يجوز طواف المحدث أو لا
(2)
؟
نَقُولُ: لا يَنْبغي للمسلم أن يطوفَ إلا وهو على طَهَارةٍ؛ سواء كان ذلك الحدث حدثًا أصغر أو أَكْبَر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الطَّوافُ بالبيت صلاةٌ إلَّا أنَّ اللَّه أباحَ الكلام فيه"
(3)
، وَاختلفَ العُلَماء في هذا الحديث وقفًا ورفعًا
(4)
، ولذلك جاء اختلافهم في قضية اشتراط الطهارة من عدَمه، والرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَدْ قال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت:"افعلي ما يفعل الحاج غير ألَّا تطوفي بالبيت"
(5)
، وقال مثل ذلك
(1)
يُنظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 418)، حيث قال:"قال الحسن البصري: قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، قال: أمرهما اللَّه أن يُطهِّراه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيءٌ. . . وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}، قال: من الأوثان. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عُبَيد بن عمير، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء وقتادة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ}؛ أي: بِلَا إلَهَ إلا اللَّه، من الشرك".
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
تقدَّم قريبًا.
(4)
يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 359)، حيث قال:"واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر، فإن عطاء بن السائب صدوق، وإذا روي عنه الحديث مرفوعًا تارة، وموقوفًا أُخرى، فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع. . . ".
(5)
أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211)، ولفظ البخاري عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثتُ، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا =
لأسماء
(1)
، والأحاديث في ذلك متعددة.
لكن، هَلْ هناك فرقٌ بين الحدث الأصغر والأكبر، أو هناك فرق بين الحائض والنفساء وبين غيرهما، وهل العلة في المنع من طواف الحائض هي الطهارة أو خشية أن تُلوِّث المسجد؟ هذه أقوال استرسل العلماء فيها، وتحدثوا عنها
(2)
.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا يُجْزِئُ طَوَافٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ).
= أبكي، فقال:"ما يبكيكِ؟ "، قلت: لَوَددت -واللَّه- أنِّي لم أحج العام، قال:"لعلكِ نفستِ؟ "، قلت: نعم، قال:"فَإنَّ ذلك شيءٌ كَتَبه اللَّه على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري".
(1)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحُلَيفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسوق اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. . . ".
(2)
يُشْترط لصحة الطواف الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر عند الجمهور، كما سيأتي، وعند الحنفية واجب يُجْبر بدمٍ.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 550)، حيث قال:" (أو طاف للقدوم) لوجوبه بالشروع (أو للصدر جنبًا) أَوْ حائضًا (أو للفرض محدثًا ولو جنبًا، فبدنة إن) لم يعده، والأصح وجوبها في الجنابة، وندبها في الحدث".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 53)، حيث قال:"وحاصله أن المرأة. . . حاضت، أو نفست قبل أن تطوف طواف الإفاضة، فإن كريها ووليها يجبران على الإقامة معها بمقدار حيضها واستظهارها أو مقدار نفاسها، فإذا زال المانع بعد مُضِيِّ زمن الحيض والاستظهار، أو بعد مُضيِّ أمد النفاس طافت".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 74)، حيث قال:"ولو طرأ حيضها قبل طواف الركن، ولم يمكنها التخلُّف لنحو فَقْد نفقةٍ، أو خوف على نفسها، رحلت إن شاءت، ثم إذا وصلت لمحلٍّ يتعذر عليها الرجوع منه إلى مكة، تتحلل كالمحصر، ولبقى الطواف في ذمتها".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 482، 483)، حيث قال:"طاف (محدثًا ولو حائضًا). . . لا يجزئه".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 30، 31)، حيث قال:" (ثم الطواف سبعًا). . . (بالطهرين)؛ أي: طهارة الحدث والخبث. . . فإن شك في الأثناء، ثم بان الطهر، لم يعد كما في الصلاة. . . (وبطل بحدثٍ) حصل أثناءه ولو سهوًا. . . ".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 72)، حيث قال: " (وطهارة الحدث) الأكبر =
وأحمد في المشهور عنه
(1)
.
* قوله: (لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا).
فهُمْ لا يُفرِّقون بين العمد والسهو، والإكراه والسهو والجهل يعتبر في بعض الأحكام، لكنه لا يُعْتبر في بعضها، فمثلًا الأركان لا يُعْذر فيها الإنسان بجهلٍ ولا نسيانٍ، فلو أنَّ إنسانًا ترك ركنًا من أركان الصلاة ساهيًا، لا يسقط عنه، بَلْ يرتفع عنه الإثم، لكن مَنْ يترك ذلك متعمدًا، يأثم، وَيَجب عليه أن يأتي به، أمَّا النَّاسي أو السَّاهي فإنَّه يسقط عنه الإثم، ويَلْزمه الإتيان به، فَهَل الطهارة شرطٌ أو لا؟ مَنْ يرى أنها شرطٌ، يرى أن الطوافَ بدونها لا يصحُّ.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الإِعَادَةُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ
(2)
. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ إِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ
(3)
. وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ طَهَارَةَ ثَوْبِ الطَّائِفِ كَاشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِلْمُصَلِّي)
(4)
.
= والأصغر (والنجس) في الثوب، والبدن، والمكان بتفصيلها السابق في الصلاة؛ لأن الطوافَ صلاةٌ كما صح به الخبر".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 485)، حيث قال:"ويُشْتَرط لصحة الطواف ثلاثة عشر شيئًا: (الإسلام والعقل والنية) كسائر العبادات (وستر العورة) لما تقدم (وطهارة الحدث)؛ لأنه صلاة".
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(2/ 517)، حيث قال عن طواف الزيارة:"وشرائط صحته: الإسلام وتقديم الإحرام، والوقوف، والنية، وإتيان أكثره، والزمان، وهو يوم النحر وما بعده، والمكان وهو حول البيت داخل المسجد، وكونه بنفسه ولو محمولًا، فلا تجوز النيابة إلا لمُغمًى عليه. وواجباته: المشي للقادر، والتيامن وإتمام السبعة والطهارة عن الحدث وستر العورة وفعله أيام النحر".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 206)، حيث قال:"وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوءٍ، أو في ثوبه بول، أو قذر، أو دم كثيرًا، فأخشى وهو يعلم لم يجزه ذلك، وإن كان لا يعلم أجزاه طوافه".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 72)، حيث قال في واجبات الطواف:" (وطهارة الحدث) الأكبر والأصغر (والنجس) في الثوب، والبدن، والمكان".
وَمثلُهُ أَحْمَد
(1)
.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ شَرَطَ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْحَائِضِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: "اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالبَيْتِ")
(2)
.
وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ وغيره، وكان الأَوْلَى أن يرد المؤلف حديث عائشة المتفق عليه عندما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حاضت:"افْعَلي ما يفعل الحاجُّ غير ألَّا تطوفي بالبيت"
(3)
، وحديث أسماء والحديث الآخر:"الطواف بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أباح الكلام فيه"
(4)
.
والصلاةُ لا تجوز بغير طهارة؛ سواء كان الحدث حدثًا أصغر أو أكبر؛ لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يَقْبل اللَّه صَلاةً بغَير طهورٍ، ولَا صَدقةً من غُلُولٍ"
(5)
.
ويَقُولُ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبل اللَّه صلاةَ أَحدكُمْ إذا أحدَثَ حتَّى يَتوضَّأ"
(6)
.
ويقول اللَّه سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 485)، حيث قال:"ويُشْتَرط لصحة الطواف. . . (وطهارة الخبث)، وظاهره: حتى للطفل".
(2)
أخرجه النسائي (2664)، عن أبي بكر، أنه خرج حاجًّا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجَّة الوداع، ومعه امرأته أسماء بنت عُمَيس الخثعمية، فلما كانوا بذي الحليفة، ولدت أسماء محمد بن أبي بكر، فأتى أبو بكرٍ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، "فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرها أن تغتسل، ثم تهل بالحج، وتصنع ما يصنع الناس إلا أنها لا تطوف بالبيت". وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1531).
(3)
أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211)، وتقدم لفظه.
(4)
تقدَّم.
(5)
أخرجه مسلم (224).
(6)
أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225).
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
* قوله: (وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ يَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَلَا يُنْطَقُ إِلَّا بِخَيْرٍ")
(1)
.
المؤلِّف لَمْ يعرض المسألة كما ينبغي، فالذين قالوا: إنه لا يصح أن يطوف بغير طهارةٍ؛ سواء كانت هذه الطهارة من حدث أصغر أو أكبر، أو غير ذَلكَ، ولا بُدَّ أن يَكُونَ الطائفُ متطهرًا، استدلُّوا بحديث عائشة:"فَافْعَلي ما يَفْعل الحائض"
(2)
، وبالحديث الآخر:"اصْنَعي ما يصنع الحاج"
(3)
، وبحديث:"الطَّواف بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أباح الكلام فيه"
(4)
.
أمَّا الذين أجازوا ذلك، وهو أبو حنيفة، وهو رأيٌ لبعض المحققين من العلماء
(5)
، يَقُولون: نَحْن عندما نُوَازن بين الطَّواف بالبيت، وبين الصلاة، نجد فرقًا كبيرًا شاسعًا، فالطواف يُتكلَّم فيه، ويشرب الإنسان فيه، ويأكل، وليس فيه ركوعٌ ولا سجودٌ ولا قيامٌ؛ لأنه يجوز للإنسان أن يطوف وهو راكعٌ، ويجوز للإنسان أن يطوف في حالة عجزه وهو محمولٌ،
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (26/ 123)، حيث قال:"لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، ولَا نَهَى المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرًا، لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف. وقَدْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، فالصلاة التي أوجب لها الطهارة ما كان يفتتح بالتكبير، ويختم بالتسليم؛ كالصلاة التي فيها ركوع وسجود؛ كصلاة الجنازة، وسجدتي السهو، وأما الطواف وسجود التلاوة، فليسا من هذا".
كَذَلك ليس فيه جلوسٌ للتشهُّد، إذًا هناك فروقٌ كبيرةٌ، وهذه الفروق تجعل تشبيهه بالصلاة غير قويٍّ من هذا الجانب.
الجانب الآخر: أنهم قالوا: الصحيح أن هذا الحديث موقوف على عبد اللَّه بن عباس
(1)
، وقد أُجِيبَ عن هذا، حتى وإن وقف عليه أن يكون رأيًا لصحابيٍّ، فأجابوا بأن هناك مَنْ خالفه، أما حديث:"افعلي ما يفعل الحاج" أو: "اصنعي ما يصنع الحاج"
(2)
، فقالوا: ليس المقصود بذلك الطهارة من الحدث، وإنما المقصود بذَلكَ هو الحفاظ على المسجد حتى لا يُلوَّث
(3)
، ومهما يكن من أمرٍ، فلا يَنْبغي للمسلم وهو قادرٌ أن يطوف إلا وهو على طهارةٍ، أما في حالة الضرورات حينئذٍ يُسْتفتى العلماء في وقتها.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ إِجْمَاعُ العُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ)
(4)
.
أجمع العلماء على الجواز مع أن بعضهم يرى كراهة ذلك، ومن العلماء مَنْ يرى أن السعي ينبغي أن يكون على طهارةٍ، لكنها ليست شرطًا كما الحال بالنسبة للطواف
(5)
.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطُّهْرُ مِنَ الحَيْضِ مِنْ شَرْطِهَا الطُّهْرُ مِنَ الحَدَثِ. أَصْلُهُ الصَّوْمُ).
(1)
تقدَّم بيانه.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (21/ 280)، حيث قال:" (وأما الحائض: فقد قيل: إنما منعت من الطواف لأجل المسجد، كما تمنع من الاعتكاف لأجل المسجد، والمسجد الحرام أفضل المساجد، وقد قال تعالى لإبراهيم: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، فأمر بتطهيره، فتمنع منه الحائض من الطواف وغير الطواف، وهذا من سر قول مَنْ يجعل الطهارة واجبةً فيه".
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 168)، حيث قال:"ولا أعلم من اشترط الطهارة في السعي بين الصفا والمروة إلا الحسن البصري، فإنه قال: إن سعى على غير طهارةٍ، وذكر قبل أن يحل أعاد، وإن ذكر بعدما أحلَّ، فلا شيء عليه".
(5)
وهو قول الحسن البصري، كما تقدم.
والمُؤلِّف يريد أن يقول: ليس كلُّ عبادة يشترط فيها الطهارة من الحيض يُشْترط لها الطهارة من الحدث؛ كالصوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحيض:"تَقْضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة"
(1)
، أما لو قُدِّر أن إنسانًا أحدث حدثًا أكْبَر، وقام وعليه جنابةٌ، وأَدْرَكه الفجر، فإنَّ صيامَه يعتبر صحيحًا، لكنه في هذه الحالة يلزمه أن يتطهَّر لأجل الصلاة
(2)
.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(القَوْلُ فِي أَعْدَادِهِ وَأَحْكَامِهِ
وَأَمَّا أَعْدَادُهُ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ ثَلَاثَةٌ: طَوَافُ القُدُومِ عَلَى مَكَّةَ، وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَطَوَافُ الوَدَاعِ).
الطَّواف أنواعٌ ثلاثةٌ:
أوَّلها: طواف القدوم، وهذا ليس واجبًا.
الثَّانِي: طواف الإفاضة، وهذا ركنٌ من أركان الحج، لا يَجُوز الحج بدونه بإجماع العلماء.
الثالث: طواف الوداع، وطواف الوداع مختلفٌ فيه بين العلماء، وَسَيأتي الكلام عن ذلك كلِّه.
(1)
أخرجه مسلم (335)، عن معاذة، قالت: سألتُ عائشة فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحروريةٌ أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت:"كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 237)، حيث قال:"وجماعة الفقهاء على حديث عائشة وأُمِّ سلمة: "أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُصْبح جُنُبًا من جماعٍ غير احتلامٍ في رمضان، ثم يصوم"، والآثارُ متفقةٌ عنها، وعن غيرهما، ولا أَعْلَم فيه خلافًا إلا ما ذُكِرَ عن أبي هريرة، فأحال على غيره".
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الوَاجِبَ مِنْهَا الَّذِي يَفُوتُ الحَجُّ بِفَوَاتِهِ هُوَ طَوَافُ الإِفَاضَةِ
(1)
، وَأَنَّهُ المَعْنِيُّ
(2)
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]).
{وَلْيَطَّوَّفُوا} ، هَذا فعلٌ مضارعٌ، لكنه اقترن بلام الأمر، ومن صِيَغِ الأمر المضارع إذا اقترنت به لام الأمر، فهذا يدلُّ على وجوب طواف الإفاضة إلى جانب أن الرسول صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك، وجاء إجماع الأمة عليه، ويَكُون يوم النحر أي: يوم العاشر، وللإنسان أن يُؤخِّره، فلو أن إنسانًا أخَّره وطاف مع طواف الوداع، لكفى طواف الواحد عنهما، لَكن بشَرط أن ينوي طواف الإفاضة، أو أن ينوي إدخال طواف القدوم ضده
(3)
، لكن لو أنك نويت طواف الوداع، وأدخلت فيه طواف الزيارة أو طواف الإفاضة
(4)
، لم يصحَّ ذلك؛ لأن هذا ركن، وهذا واجب، أو سُنَّة عند البعض
(5)
.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ دَمٌ).
لأنَّه ركنٌ من أركان الحج، ولو قُدِّر أن إنسانًا فاته طواف الإفاضة، فعليه أن يعود ويطوف ولو حتى بعد زمنٍ قليلٍ.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 281)، حيث قال:"واتفقوا أن الطواف الأخير المسمى طواف الإفاضة بالبيت، والوقوف بعرفة فرض".
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 281)، حيث قال:"والطواف بالبيت واجبٌ؛ لقوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}، وأَجْمَع المسلمون أن هذا الطواف هو طواف الإفاضة".
(3)
سيأتي مفصلًا.
(4)
طواف الإفاضة: هو طواف الزيارة. يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (4/ 192)، وفيه قال:"ويُسمَّى طواف الإفاضة؛ أي: الإفاضة من عرفات، ويُسمَّى طواف الصدر، يَعْني: حين يصدر الناس من منًى، ويُسمَّى طواف الزيارة لزيارتهم البيت بعد فراقهم له، ويُسمَّى طواف الفرض؛ لأنه ركنٌ مفروضٌ لا يتمُّ الحج إلا به".
(5)
سيأتي، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
* قوله: (وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ طَوَافُ القُدُومِ عَلَى مَكَّةَ عَنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ إِذَا نَسِيَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ؛ لِكَوْنِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ)
(1)
.
مراد المؤلف: لَوْ جاء قادمًا إلى مكة، فهذا لا يكفيه عن طواف الإفاضة.
* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّ طَوَافَ القُدُومِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ)
(2)
.
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 524)، حيث قال:" (قوله: فلو طاف. . . إلخ) الحاصل كما في "الفتح" وغيره أن مَنْ طاف طوافًا في وقته، وَقَع عنه، نواه بعينه أولًا، أو نوى طوافًا آخر، ومن فروعه لو قدم معتمرًا وطاف وقع عن العمرة، أو حاجًّا وطاف قبل يوم النحر وقع للقدوم، أو قارنًا وطاف طوافين؛ وقع الأول عن العمرة، والثاني للقدوم، ولَوْ كان في يوم النحر وقع للزيارة".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 30)، حيث قال:" (ثم الطواف) عطف على الإحرام أي: وركنهما الطواف، فقوله: (لهما) مستغنًى عنه وللطواف".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 289)، حيث قال:"فلو كان عليه طواف إفاضة، أو نذر ولو لم يتعين زمنه، ودخل وقت ما عليه، فَنوَى غيره عن غيره، أو عن نفسه تطوعًا، أو قدومًا، أو وداعًا، وقع عن طواف الإفاضة، أو النذر كما في وَاجبَات الحج والعمرة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 588)، حيث قال:" (ويعينه)؛ أي: طواف الزيارة (بالنية)؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وكالصلاة، ويكون بعد وقوفُهُ بعرفة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف كَذَلك، وقال لنا: "خُذُوا عنِّي مَنَاسككم"، (وهو)؛ أي: طواف الزيارة (ركنٌ لا يتمُّ الحج إلا به) إجماعًا".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 173)، حيث قال:"وأما قوله في حديث ابن عمر: ثم نفذ حتى جاء البيت، فطاف به طوافًا واحدًا، ورأى أن ذلك مجزٍ عنه، وأهدى، ففيه حجة لمالكٍ في قوله: إن طواف الدخول إذا وصل بالسعي، يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلًا أو ناسيًا، ولم يؤده حتى رجع إلى بلده، وعليه الهدي، ولا أعلم أحدًا قاله غير مَالِكٍ، وَمَن اتبعه من أصحابه، واللَّه أعلم".
والمُؤلِّف لا يقصد طوافَ القدوم الَّذي يأتيه من بلده، وإنَّما الذي يأتيه من منًى قادمًا على مكة.
* قوله: (كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ طَوَافٌ وَاحِدٌ. وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الوَدَاعِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ)
(1)
.
وهَذِهِ مسألةٌ مهمةٌ؛ لأنه ربما يظنُّ البعض أن طوافَ الوداع يكفي عن طواف الإفاضة، ولا بدَّ أولًا أن نعرفَ ما هو طواف الإفاضة، وما هو طواف الوداع، فطَوافُ الإفَاضة هو ركن من أركان الحج، والرُّكن لا يَسْقط سهوًا ولا عمدًا، وأنه لا بدَّ من الإتيان به، وأنه لا يمكن أن يقوم غيره مقامه.
وطواف الإفاضة يُسمَّى طواف الزيارة، وسُمِّي طواف الإفاضة؛ لأنك تفيض من منًى إلى مكة، وسُمِّي طواف الزيارة؛ لأنك تزور مكة في هذا المقام قادمًا من منى، أما طواف الوداع الذي بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يكون
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (4/ 114)، حيث قال:"وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت، فلا يكون محصرًا، ولكنه يبقى محرمًا إلى أن يصل إلى البيت، فيطوف طواف الزيارة وطواف الصدر، ويحلق أو يقصر، وعليه دمٌ لتَرْك الوقوف بمزدلفة، ولرمي الجمار دم، ولتأخير الطواف دم".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 70)، حيث قال:" (وتأدى) طواف الوداع (بالإفاضة، و) طواف (العمرة)، وحصل له ثوابه إن نَوَاه بهما؛ كتحية المسجد تُؤدَّى بالفرض، ويحصل ثوابها إنْ نَوَاها به".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 280)، حيث قال:"ولا يدخل تحت غيره من الأطوفة، بل لا بُدَّ من طوافٍ يخصُّهُ حتى لو أخَّر طواف الإفاضة وفعله بعد أيام منى، وأراد الخروج عقبه، لم يكف كما ذَكَره الرافعي في أثناء تعليله".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 513)، حيث قال:" (وإن أخَّر طواف الزيارة) ونصه (أو القدوم، فطافه عند الخروج كفاه) ذلك الطواف (عنهما)؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وقد فعل. . . فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى".
آخر عهد المسلم بالبيت الطاهر
(1)
، وأنه واجبٌ على القول الصحيح
(2)
، وفرقٌ بين الركن والواجب، فلو أن إنسانًا ترك واجبًا، جَبَره بِدَمٍ، لكن لو تركَ ركنًا، فإنَّ الدَّم لا يُغْنيه في هذا المقام، ومن هنا نُنوِّع هذه المسألةَ على أنواعٍ ثلاثة: فلو أن إنسانًا أخَّر طوافَ الإفاضة إلى ما بعد يوم النحر إلى اليوم الذي يُغَادر فيه مكةَ، فإن جاء قاصدًا طوافَ الإفاضة، وكان آخر عهده بالبيت، فإنَّ ذلك يكفيه عن طواف الوداع حتى ولو لم ينوِ طواف الوداع معه؛ لأن القصدَ أن يكون آخر عهدك بالبيت إنما هو طواف الوداع، فيكون داخلًا فيه، وهذا جائز، لكن أن تأتي وتنوي طواف القدوم كما يفعله بعض الناس، ويغفل عن طواف الإفاضة، فهذا لا يجزئ.
* قوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ بِالبَيْتِ مَعْمُولٌ فِي وَقْتِ طَوَافِ الوُجُوبِ الَّذِي هُوَ طَوَافُ الإِفَاضَةِ)
(3)
.
ومُرَاد المؤلف أنه أخَّر طواف الإفاضة، فبعد أن يطوف طواف الإفاضة، سيكون هذا آخر عهده بالبيت، فلا مانعَ أن يصلي فريضةً؛ فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم طاف وصلى صلاة الفجر.
* قوله: (بِخِلَافِ طَوَافِ القُدُومِ الَّذِي هُوَ قَبْلَ وَقْتِ طَوَافِ الإِفَاضَةِ. وَأَجْمَعُوا فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ أَنَّ طَوَافَ القُدُومِ وَالوَدَاعِ مِنْ سُنَّةِ الحَاجِّ إِلَّا لِخَائِفٍ فَوَاتَ الحَجِّ)
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2002)، عن ابن عباس، قال: كان الناس يَنْصرفون في كلِّ وجهٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1747).
(2)
تقدَّم بيانه.
(3)
خلافًا للحنابلة، فلا بدَّ من تعيينه بالنية، وتقدَّم بيان ذلك.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَرِّ (4/ 216)، حيث قال:"وقد اتفق العلماء: على أن المراهق وهو الخائف لما ذكرنا، يسقط عنه طواف الدخول، كما يسقط عن المكي، ولا يَرَون في ذلك دمًا، ولا غيره، فإذا طاف المكي أو المراهق بالبيت بعد رمي الجمرة، وصل طوافه ذلك بالسعي بين الصفا والمروة".
وَالمُؤلِّف إنَّما يتكلم عن مذهب مَالِكٍ رحمه الله، فَطَوافُ القدوم سُنَّة، ومَنْ يقدم مكة معتمرًا، فيطوف، فإنه يُغْنيه عن طواف القدوم، أما طواف الوَدَاع فهو واجبٌ
(1)
.
* قوله: (فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ طَوَافُ الإِفَاضَةِ).
فلو أنَّ إنسَانًا جاء في وقتٍ متأخرٍ، ويخشى لو أنه عرج على البيت العتيق، فَطَاف بالبيت، ربما يَفُوته الوقوف بعرفة، والوقوف بعرفة على القول الصحيح يبدأ من زَوَال شمس اليوم التاسع إلى فجر ليلة العاشر، يعني: ليلة النَّحر
(2)
، فإنَّ هذا لا يضرُّ، ويكفي عنه -كما ذكر المؤلف- طواف الإفاضة.
* قوله: (وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ هَذَا أَنْ يَرْمُلَ فِي الأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ)
(3)
.
والرَّمل في الحقيقة لا يكون في طواف الإفاضة، وإنما يكون في طواف القدوم؛ لأن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة، وفعل المسلمين.
* قوله: (عَلَى سُنَّةِ طَوَافِ القُدُومِ مِنَ الرَّمَلِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ المَكِّيَّ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافُ الإِفَاضَةِ)
(4)
؛ لأنَّ المكيَّ ليس عليه إلا طواف الإفاضة؛ لأنه أحرم بالحج.
(1)
تقدَّم.
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 360)، حيث قال:"وذكر عبد الرزاق. . . قال: وأخبرنا معمر عن طاوس، عن أبيه، قال: لا يرمل الرجل إذا أفاض إلا إذا لم يطف قبل ذلك".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 78)، حيث قال: "وأهل العلم كلهم قائمون به لا يرون على المكي طوافًا إلا الطواف المفترض، وهو طواف الإفاضة عند أهل الحجاز، ويُسمِّيه أهل العراق الطواف. =
* قوله: (كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى المُعْتَمِرِ إِلَّا طَوَافُ القُدُومِ
(1)
، وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ: طَوَافًا لِلْعُمْرَةِ لِحِلِّهِ مِنْهَا، وَطَوَافًا لِلْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ المَشْهُورِ
(2)
).
أما القارن وكذلك المفرد، فعليهما طوافٌ واحدٌ.
* قوله: (وَأَمَّا المُفْرِدُ لِلْحَجِّ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافٌ وَاحِدٌ -كَمَا قُلْنَا- يَوْمَ النَّحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي القَارِنِ).
فيه خلافٌ، ولكن الأَوْلَى أنه كالمفرد، يكفيه طوافٌ واحدٌ.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
،. . . . . . .
= وأما الطواف الأول، وهو طواف الدخول، فساقط عن المكي، وساقط عن المراهق الذي يخاف فوت الوقوف قبل الفجر من ليلة النحر، ويصل المكي والمراهق طواف الإفاضة بالسعي بين الصفا والمروة؛ لأن الطواف الأول هو الموصول به السعي لمَنْ قدم مكة ودخلها ساعيًا أو معتمرًا".
ويُنظر: "الإجماع" لابن القطان (1/ 272)، حيث قال:"وجمهور العلماء على أن طوافَ القُدُوم لا يُجْزئ عن طواف الإفاضة، ويسقط عن المكِّيِّ والمراهق".
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 286)، حيث قال:"وأجمعَ العُلَماء أنه لا يصنع المعتمر عمل الحج كله، وإنما عليه أن يتم عمل عُمْرته، وذَلكَ الطواف والسعي والحلاق".
(2)
أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211)، عَنْ عَائِشَةَ. . . قالت: فَطَاف الَّذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 28)، حيث قال:" (ثم) يلي الإفراد في الفضل (قران)؛ لأنَّ القارن في عمله كالمفرد، والمشابه للأفضل يعقبه في الفضل". وانظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 480).
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 286)، حيث قال: " (الثاني القران)، والأكمل يحصل (بأن يحرم بهما) معًا في أشهر الحج (من الميقات) للحج، وغير الأكمل أن =
وَأَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: يُجْزِئُ القَارِنَ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ).
وَهَذا هو الذي دلَّت عليه الأدلة؛ لأنَّ الطوافَ الأولَ بالنسبة للتمتع إنما هو للعمرة، والعمرة إنما هي ركنٌ مستقلٌّ عن الحج.
* قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
(3)
وَجَابِرٍ
(4)
، وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ المُتَقَدِّمِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَى القَارِنِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ)
(6)
.
أمَّا بالنسبة للسعي، فَهو في حقِّ القارن والمفرد واجبٌ إنْ لم يكن قد سعى عندما قدم إلى مكة، فإن كان قَدْ سعى، فيَكْفيه ذلك، وإذا أفاض يكتفي
= يُحْرم بهما من دون الميقات، دان لزمه دمٌ، فتقييده بالميقات؛ لكونه أكمل لا لكون الثاني لا يُسمَّى قرانًا (ويعمل عمل الحج) فقط؛ لأنَّ عمل الحج أكثر (فيحصلان)، ويدخل عمل العمرة في عمل الحج، فيكفيه طواف واحد، وسعي واحد".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 418)، حيث قال:(وعمل القارن كالمفرد في الإجزاء)، نقله الجماعة".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 368)، حيث قال:"فقال مالك، والشافعي، وأصحابهما وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد، وسعي واحد".
(3)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(3899)، عن نافع، أن ابن عمر قرن الحج والعمرة، "وطاف طوافًا واحدًا، وقال: هكذا رأيتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(2744).
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 368)، حيث قال:"يجزئ القارن طواف واحد، وسعي واحد، وهو مذهب عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وطاوس"، وأخرجه الترمذي عن جابر مرفوعًا (947).
(5)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 149)، حيث قال:"وَإِنْ كان قارنًا، فإنه يطوف طَوَافين، ويسعى سعيين عندنا. . . وهذا بناءً على أن القارن عندنا محرم بإحرامين؛ بإحرام العمرة، وإحرام الحج، ولا يدخل إحرام العمرة في إحرام الحج".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 368)، حيث قال:"وقال الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والحسن بن صالح: على القارن طوافان وسعيان، ورُوِيَ هذا القول عن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وبه قال الشعبي، وجابر بن زيد".
بطواف الإفاضة ولا سعي عليه، أما المتمتع فيجب عليه أن يطوفَ ويَسْعى.
* قوله: (وَرَوَوْا هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ، مِنْ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ كَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَا، فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي وُجُوبِ هَذَا الفِعْلِ وَصِفَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَعَدَدِهِ وَوَقْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَالَّذِي يَتْلُو هَذَا الفِعْلَ مِنْ أَفْعَالِ الحَجِّ، أَعْنِي: طَوَافَ القُدُومِ -هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ-، وَهُوَ الفِعْلُ الثَّالِثُ لِلْإِحْرَامِ، فَلْنَقُلْ فِيهِ).
إذًا، النسك الثاني بعد أن يفرغ الحاج وكذلك المعتمر من طوافه: الصلاة ركعتين عند المقام، ثم يعود إلى الحجر فيستلمه إن أمكنَ، وإن لم يتمكن فَلْيُشِرْ إليه، ثم بعد ذلك يتجه إلى موضع السعي، يتجه إلى الصفا كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه اتجه إلى ذاك المكان، وقرأ قول اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، وقال صلى الله عليه وسلم:"نَبْدأ بما بدَأ اللَّه به"
(1)
، والذي بدأ اللَّه سبحانه وتعالى به إنما هو الصفا، ويَحْسن بالمسلمِ أن يصعد على جبل الصفا، وهو معروفٌ، وليس ذلك جُزءًا من السعي، لكن الأفضل أن يصعد عليه؛ لأنَّ مكانَ السعي له بدايةٌ محددةٌ، وقدوتنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقَدْ أُمِرْنا بأن نقتدي به، وقد اتَّجه نحو البيت حتى رَأَى الكعبةَ، ولمَّا رَآها رفَع يديه صلى الله عليه وسلم، وكَبَّر ثلاثًا، أي قال: اللَّه أكبر، ثلاث مرات، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك الدعاء المشهور:"لَا إلَه إلَّا اللَّه وَحْده لا شريك له، له الملك، وله الحَمد، وهو علَى كل شيءٍ قدير، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجزَ وَعْده، ونَصر عَبْده، وَهَزم الأحزاب بعده"
(2)
، يقول ذلك مرةً
(1)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]: "أبدأ بما بدأ اللَّه به"، فبدَأ بالصفا. . . ".
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . بدأ بالصفا، فَرَقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد اللَّه وكبَّره، وقال: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له =
ثم يتوقف، فيختار ما يشاء من الدُّعاء الذي يُقرِّبه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ثمَّ بعد ذلك يبدأ في سَعْيه.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(القَوْلُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ
وَالقَوْلُ فِي السَّعْيِ وَحُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِي تَرْتِيبِهِ
القَوْلُ فِي حُكْمِهِ:
أَمَّا حُكْمُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: هُوَ وَاجِبٌ).
ومُرَاد المؤلف بالواجب هنا: الركن؛ لأنَّ ظاهرَ كلامه وتعليقه كون الحاج إذا لم يسعَ، لا يتمُّ حجُّه دليلٌ على أنه ركنٌ، وهذا القول قال به المالكية والشافعية، وهي أيضًا الرواية المشهورة عن الإمام أحمد بن حنبل
(3)
.
= الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثمَّ دَعَا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا. . . ".
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 39)، حيث قال:"الركن (الثاني) من أركان الحج: (السعي بين الصفا والمروة) أشواطًا (سبعًا منه)؛ أي: الصفا (البدء مرة، والعود) إليه من المروة مرة (أُخرى)، فيبدأ بالصفا، ويختم بالمروة".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (3/ 321)، حيث قال:(أركان الحج خمسة). . . (و) رابعها (السعي) بين الصفا والمروة؛ لخبر أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في السعي وقال: "يا أيها الناس، اسعوا، فإن السعي قد كُتِبَ عليكم".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 351، 352)، حيث قال:"واختلفت الرواية في السعي، فرُوِيَ عن أحمد أنه ركنٌ، لا يتم الحج إلا به. . . ورُوِيَ عن أحمد أنه سُنَّة، لا يجب بتَرْكه دمٌ".
إذًا، جُمْهورُ العلماء يَرَون أن السَّعيَ ركنٌ كما أن الطواف ركنٌ، ونعني بالطَّواف طوَاف الإفاضة.
* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَسْعَ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(1)
، وَإِسْحَاقُ
(2)
. وَقَالَ الكُوفِيُّون: هُوَ سُنَّةٌ
(3)
، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَمْ يَسْعَ، كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ
(4)
. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَطَوُّعٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ)
(5)
.
أمَّا الذين قالوا بأنه واجبٌ، أو ركنٌ، استدلُّوا بما جاء عن عائشة رضي الله عنها في رواياتٍ متعددةٍ في "الصحيحين"، وَمنها أنها قالت:"واللَّه، لا أتمَّ اللَّه حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بينهما"
(6)
، يعني: لم يسعَ بين الصَّفا والمروة.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 521)، حيث قال:" (فصل أركان الحج) أربعة. . . (والسعي) بين الصفا والمروة، لمَا تقدَّم في موضوعه. . . ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 222)، حيث قال:"وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول عائشة رضي الله عنها أن السَّعي بين الصفا والمروة فرض. وبه قال مالك والشافعي ومَنْ ذكَرنا معهم". اذكر قول إسحاق من مسائل أحمد.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 222)، حيث قال:"وقال ابن عباس، وأنس، وعبد اللَّه بن الزبير: هو تطوعٌ، وبه قال الكوفيون، وهو قول الحسن وابن سيرين. قال أبو عمر: قول سفيان والكوفيين في إيجابهم الدم يحتمل أن يكون عندهم تطوعًا، ويحتمل أن يكون عندهم سُنَّة، وهو الأظهر في إيجابهم الدم".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 134)، حيث قال:"وإذا كان واجبًا، فإن تركه لعذر فلا شيء عليه، وَإِنْ تَرَكه لغير عذرٍ، لزمه دم".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 222)، حيث قال:"ورُوِيَ عن الحسن أنه قال: لا شيء عليه، رواه يحيى القطان، عن الأشعث، عن الحسن في الرجل ينسى السعي بين الصفا والمروة، قال: ليس عليه شيءٌ".
(6)
أخرجه البخاري (1790)، ومسلم (1277)، ولفظ مسلم: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: قلت لها: إني لأظن رجلًا لو لم يطف بين الصفا والمروة، ما ضره؟ قالت:"لم؟ "، قلت: لأن اللَّه تعالى يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] إلى آخر الآية، فقالت:"ما أَتمَّ اللَّه حجَّ امرئٍ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة. . . ".
وفي حديثٍ آخَرَ: "إنَّ اللَّهَ كَتبَ عَلَيكم السَّعي فَاسْعوا"
(1)
، وَهَذا الحَديثُ فيه كَلامٌ
(2)
، لكنه بتتبُّع طُرُقه صالحٌ للاحتجاج به
(3)
، أمَّا حديث عائشة فهو في "الصَّحيحَين"، وبعض ألفاظه في مسلم، وبعض ألفاظه في غيره
(4)
، وفيه: أنها أقسمت أنه "لا أتم اللَّه حج مَنْ لم يسعَ بين الصفا والمروة"، فهذه حجة الذين قالوا بأنه ركنٌ.
ثمَّ إنه ينبغي علينا أن نحرص كُلَّ الحرص ألا نفرط في أمرٍ من الأُمور، وأن كل مسألة نجد فيها خلافًا، فينبغي أن نأخذ بما هو الأحوط لنا في ديننا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"
(5)
، وَنَحن نجد أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَدْ سعى وقال:"خُذُوا عني مَنَاسككم"
(6)
.
* قوله: (فَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْعَى وَيَقُولُ: "اسْعَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ"، رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُؤَمِّلِ).
(1)
أخرجه أحمد (45/ 455)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1072).
(2)
يُنظر: "نصب الراية" للزيلعي (3/ 55)، حيث قال:". . . وأعلَّه ابن عديٍّ في "الكامل" بابن المؤمل، وأسند تضعيفه عن أحمد، والنسائي، وابن معين، ووافقهم، ومن طريق أحمد، الطبراني في "معجمه"، ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني، ثم البيهقي في "سننيهما". . . ".
(3)
صححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1072).
(4)
أخرجه الترمذي (2965)، عن عروة، قال: قلت لعائشة: ما أرى على أحدٍ لَمْ يطف بين الصفا والمروة شيئًا، وما أبالي ألا أطوف بينهما، فقالت: بئس ما قلت يابن أختي، "طاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، ولو كانت كما تَقُولُ لكانت: فلا جناح عليه ألَّا يطوف بهما. . "، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1071).
(5)
رواه النسائي (2518)، وَصَححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2773).
(6)
تقدَّم.
رواه الشافعي
(1)
، وأحمد
(2)
، والحاكم وصححه
(3)
، وقلنا: هو صحيح بتتبع طرقه
(4)
.
* قوله: (وَأَيْضًا، فَإِنَّ الأَصْلَ أَنَّ أَفْعَالَهُ عليه الصلاة والسلام فِي هَذِهِ العِبَادَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الوُجُوبِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ مِنْ سَمَاعٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ أَصْحَابِ القِيَاسِ).
وأَفْعَالُهُ صلى الله عليه وسلم محمولةٌ على الوجوب؛ لأنها أيدت بالقول، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"خذوا"، وهذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، وطالما لم يدلَّ دليلٌ آخر على عدم وجوبه، فينبغي أن يبقى واجبًا.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]).
فلَا حَرَج عليه، لكن هذه الآية لها مناسبةٌ، وهي أن بعضَ المسلمين تحرَّج من السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه كَانَ يوجد بهما صَنَمان، واحد على الصفا، وآخر على المروة، فكانوا يتذكرون هذين الصنمين، فوجدوا في ذلك حرجًا، فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]؛ أي: ألا
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 231)، حيث قال:"أخبرنا عبد اللَّه بن المؤمل العابدي، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: "دخلت مع نسوة من قريش دار ابن أبي الحسين ننظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإنَّ مئزره لَيَدور من شدة السعي حتى إني لأقول: إني لا أرى ركبتيه، وسمعته يقول:"اسعوا؛ فإن اللَّه كَتَب عليكم السعي".
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه الحاكم في "المستتدرك"(4/ 79).
(4)
تقدَّم.
يطوف بهما؛ ولذلك نَجد أنَّ اللَّهَ قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، إذًا، هُمَا شَعيرَتان من شعائر اللَّه، وإذا كانتا كذلك، فَهُما نسكٌ من المَنَاسك، وعبادةٌ من العبَادَات، فيَنْبغي أن نُحَافظَ عليها، وقَدْ جَاء عملُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيانًا لذَلكَ، وما ورَد عن عائشة رضي الله عنها، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ كتبَ عَليكم السَّعي، فَاسْعُوا"
(1)
.
* قوله: (قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ {أَلَّا يَطُوفَ}، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، مَعْنَاهُ أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا).
فاللَّه سبحانه وتعالى يقول: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ؛ أي: يُبيِّن لنا؛ لئلَّا نضل، يُبيِّن اللَّه لنا طريقَ السعادة وطريقَ النجاة، إذًا هناك لام التعليل محذوفة أي: مقدرة (لئلا تضلوا).
* قوله: (وَضَعَّفُوا حَدِيثَ ابْنِ المُؤَمِّلِ
(2)
. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ).
وهذا الكتاب لا يستوعب الأدلَّة، وقَدْ أشرنا إلى شيءٍ منها.
* قوله: (تَحَرَّجُوا أَنْ يَسْعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ عَلَى مَا كَانُوا يَسْعَوْنَ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ)
(3)
.
فَكَانوا يعرفون أن هذا المكان تُقَام فيه الأصنام، فوجدوا حرجًا في أن يطوفوا فيه، فَبيَّن اللَّهُ سبحانه وتعالى لهم بأنَّ ذلك وقت قد ولَّى وأدبر، وأنه قد جاء الحقُّ، وزهق الباطل، وأن الباطل كان زهوقًا، واللَّه سبحانه وتعالى قد مسح الجاهلية، وأزَال معالمها وأبطلها، وأقام مَقَامها هذه الشريعة الإسلامية الخالدة الباقية التي لا تفنى لكثرة ما ينفق منها، ولا تبلى بتعدُّد ما يُؤْخذ
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدم، وينظر:"نصب الراية" للزيلعي (3/ 54 - 57).
(3)
تقدَّم.
منها، شريعة اللَّه الخالدة المستقيمة التي قد حَوَتْ جميع ما يحتاج إليه الناس في هذه الحياة الدُّنيا، وما يوصلهم إلى جَنَّةٍ عَرْضها السماوات والأرض، لمَنْ سلك طريق هذه الشريعة، واستجاب لقول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].
* قوله: (لِأَنَّهُ كَانَ مَوْضِعَ ذَبَائِحِ المُشْرِكِينَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِبَعْضِ الأَصْنَامِ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُبِيحَةً لَهُمْ، وإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الحَجِّ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الآثَارُ، أَعْنِي: وَصْلَ السَّعْيِ بِالطَّوَافِ
(1)
. القَوْلُ فِي صِفَتِهِ، وَأَمَّا صِفَتُهُ فَإِنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ أَنْ يَنْحَدِرَ الرَّاقِي عَلَى الصَّفَا بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ).
والإنسان عندما يصعد على حجرٍ، ثم ينزل فيمشي، فإذا جاء إلى المكان الذي كان واديًا، أسرع فيه، ثم يمشي، ثم يصعد على المروة، فَيَقول كما قال على الصفا، وهو ما أشرنا إليه، ثم ينزل ماشيًا، فإذا ما جاء إلى ذلك المكان الذي بين العَلَمين أسرع، وإنما يفعل هذه الأفعال تعبُّدًا للَّه سبحانه وتعالى بها
(2)
، ونحن مأمورون بأن نستجيب لأوامر اللَّه، وأن نستجيب أيضًا لأوامر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن نَتَجنَّب ما جاء النهي عنه في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدلُّ دليلٍ على هذا ما جاء عن عمر رضي الله عنه عندما وقف عند الحجر الأسود، وكيف كَانَ حال عمر في الجاهلية، وعمر بن الخطاب في الإسلام الرجل العظيم الذي إذا سلك طريقًا، سلكَ الشيطانُ طريقًا آخر غير طريقه، كان عمر رضي الله عنه يقول للحجر:
(1)
كما في حديث جابر، أخرجه مسلم (1218).
(2)
تقدَّم.
"إني لأعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضر، ولولا أنِّي رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك، ما قبَّلتك"
(1)
، وَيَقف خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُقبِّل الحجر ودموعه صلى الله عليه وسلم تَذْرف وتسيل من عينيه، وهو كذلك يبكي وراءه
(2)
، إنَّ ذلك دليل رقَّة القلب والخشوع والاستجابة والإخلاص الذي استقرَّ في هذه القلوب، فأنار لها طريق الخير والرشاد.
وهَذَا يُذكِّرنا بقصة أُمِّ إسماعيل
(3)
عندما أتَى بها إبراهيم أبو الأنبياء، فَوَضعها في هذا المكان القحل الذي لا ماء فيه، ولا مرعى، ولا إنس، ليسَ معهما إلا سقاءٌ فيه ماءٌ، وجرابٌ فيه شيء من التمر، ثم يرجع ويتركهما في هذا المكان الموحش، ثم إنَّ هاجر تسير خلف إبراهيم تسأله: لمَنْ تتركنا؟ فلا يرد عليها ثلاث مرات، ثم تسير وراءه، فلما لم يردَّ عليها في بعض الروايات قالت: اللَّه أَمَرك بذلك؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. . لا يُضيِّعنا ما دام هذا بأمرٍ من اللَّه سبحانه وتعالى، وبتوجيهٍ منه، وهو الذي هداك إلى هذا الطريق، وأرشدك أن تحملنا، وتأتي بنا، فتضعنا في هذا المكان، وهذا ما حصل حقًّا؛ لأن اللَّه تَعالَى لا يضيع أولياءه، ولا يغفل عنهم سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، ثم تعود المرأة وتظل تشرب من هذا الماء، وتأكل من هذه التمرات، وتُرْضع ولدها من ثديها، وتمضي الأيام وهي ليست بكَثِيرةٍ، وينتهي الماء، وكذلك التمر، فماذا تفعل بعدما أصبحت ترى ابنها يَتَلوَّى؛ لأن ثَدْيها قد جفَّ، فلا يوجد فيه لبنٌ كي ترضعه، هذه الأم التي نسيت نفسها، لا يهمها أن تموت إنما تفكر في حالة هذا الطفل الرضيع الذي أصبح يتلوَّى ويضربها من شدة الجوع، فما كان منها وهي
(1)
أخرجه البخاري (1597)، عن عابس بن ربيعة، عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقَبَّله، فقال:"إني أعلم أنك حجر، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجها البخاري (3364).
الأم العطوف الحنون إلا أن انطلقت إلى أقرب موضعٍ لها وهو الصفا، فصعدت عليه، فلم تجد أحدًا يسعفها في هذا المقام بشيءٍ، ثمَّ نزلت من هذا المكان، فإذا مَا مرَّت ببطن الوادي الذي هو مكان السعي الآن، أسرعت؛ لأنها عندما تنزل لا ترى ابنها فلذة كبدها، فَتُسْرع، ثمَّ تذهب إلى المروة، وتفعل وتتحسس، وتمضي الأشواط السبعة حتى إذا كانت في آخر شوطٍ منها وهي على المروة، سمعت صوتًا، فأخذت تخاطب نفسها وتقول: صه وصه، كأنها تقول لنفسها: اسكتي، وإذا به جبريل عليه السلام، يَنْزل فيضرب بعقبه أو بجناحه الأرض، فيخرج ماء زمزم، فتأتي إليه، فيَنْشرح صَدْرها، ويَطْمئن فؤادها، وتعود إليها البهجة، وأَخذتْ تجمع هذا الماء خشية أن ينتهي، ثم يُبشِّىرها بأن اللَّه سبحانه وتعالى لن يضيعهما في هذا المقام، وأن هذا الابن سيكون مع والده يبنيان بيت اللَّه في هذا المقام، وتمضي الأيام، ويبدأ هذا الطفل الرضيع يشب عن الطوق، ويكبر شيئًا فشيئًا، وتأتي جماعةٌ من قبيلة جرهم، فَيَرون الطيورَ تُحلِّق حول الماء، فاستغربوا ذلك؛ لأنَّ هذه أرضٌ مقفرةٌ، ليس فيها نباتٌ، ولا ماءٌ، فكيفَ تُحلِّق هذه الطُّيور في هذا المكان؟ فما كان منهم إلا أن جاء بعضهم ليتأكد، فَوَجدوا الماء، فنزلوا عندها، وتمرُّ الأيام، ويَكْبر إسماعيل عليه السلام، ويتزوج من هذه القبيلة، ويأتي والدُهُ بعد فترة بعد أن تزوج ولا يجده في مكانه، ويسأل عنه، ويجد امرأته فيسألها عن حالهما، فتقول: نحن في كربٍ، وفي شدةٍ، وفي ضيقٍ، ثم يحملها رسالةً لتبلغها زوجها، فيأتي إسماعيل من الصيد، فيسألها: أجاء أحدٌ؟ فقالت: جاء رجلٌ وَصْفه كذا وكذا، قال: وهل أبلغكِ شيئًا أو حمَّلكِ أمانةً؟ قالت: نعم، فذكرت أنه سألها عن حالتهم، فذكرت له، فقالت: أوصاني بأن أقول لك: غَيِّر عتبة بابك، فقال: أنتِ عتبة بابي، فطلَّقها، ثم تزوَّج أُخرى وبعد فترةٍ من الزمن يعود ولا يجد ابنه، وَيَجد تلكم المرأة الطيبة الصالحة، فيسألها عن حَالِهِما، فتقول: نحن في خيرٍ، وفي نعمةٍ، وفي سعادةٍ، وتصف له من الأوصاف الكثيرة، فيسألها: وما طعامكما؟ قالت: الماء واللحم؟ لأنه لا يوجد نبت في هذا المكان، إنما هي طيورٌ تُصَاد؛ حيوان أو ماء يُشْرب، فذكرت لَه
ذَلكَ، فأوصاها، قال: إذا جاء زوجكِ فقولي كذا، وأمريه أن يُمْسك عتبةَ بابه، ثمَّ بعد ذلك يجيء بعد فترةٍ، ويجده يَبْري له نبلًا للصيد، فيخبره بأن اللَّه سبحانه وتعالى قد أمرهما ببناء هذا البيت، فيقول له: أطع ربك، واللَّه تعالى يقول:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127].
* قوله: (فَيَمْشِي عَلَى جِبِلَّتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ بَطْنَ المَسِيلِ، فَيَرْمُلُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَهُ إِلَى مَا يَلِي المَرْوَةَ).
فبَعْد أن يذكر الدعاء، يستقبل البيت، ويرفع يديه، ويكبر ثلاثًا، ثم يقول:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وَهُوَ على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم بعد ذلك يدعو
(1)
، وعليه أن يختار لنفسه الدعاء النافع؛ إنْ كان قد حَصَلتْ منك هفواتٌ أو تقصيرٌ في جنب اللَّه، فيَسْأل اللَّه الهدايةَ والتوبةَ النصوحَ، وأن يعقد العزمَ، ثم بعد ذلك ينزل، فإذا ما جاء بين العلمين، وهو المكان الذي كانت تُسْرع فيه هاجر أم إسماعيل، فعليه أن يسرع اقتداءً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يُسْرع في هذا المقام حيث جاء في أحد الأحاديث ما نصُّهُ:"أن إزاره كان يدور"
(2)
، يعني: من شدة سرعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكنه يسرع إن وجد مكانًا، أما مع كثرة الزحام واختلاط الناس إن لم يستطع فلا يفعل.
* قوله: (فَيَرْمُلُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَهُ إِلَى مَا يَلِي المَرْوَةَ).
فإذَا جاء إلى المروة، صعد عليها، وقال كما قال على الصفا،
(1)
أخرجه مسلم (1218)، وتقدَّم.
(2)
أخرجه أحمد (45/ 363)، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: دَخَلنا دار أبي حسين في نِسْوةٍ من قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، قالت: وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه:"اسعوا؛ فإنَّ اللَّه كَتبَ عليكم السعي"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1072).
ومشى كما مشى، ذهابه من الصفا إلى المروة، وهذا شوطٌ، ومن المروة إلى الصفا شوطٌ آخر، وهكذا يبدأ بالصفا، وينتهي بالمروة.
* قوله: (فَإِذَا قَطَعَ ذَلِكَ وَجَاوَزَهُ، مَشَى عَلَى سَجِيَّتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ المَرْوَةَ، فَيَرْقَى عَلَيْهَا حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ البَيْتُ).
فعليه أن يمشي مِشْيَته المعتادة، فإن كان من الذين يسرعون طويلًا فَلْيسرع، وإن كان من الذين يمشون برفقٍ، فليفعل.
* قوله: (ثُمَّ يَقُولُ عَلَيْهَا نَحْوًا مِمَّا قَالَهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الصَّفَا، وَإِنْ وَقَفَ أَسْفَلَ المَرْوَةِ، أَجْزَأَهُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ
(1)
، ثُمَّ يَنْزِلُ عَنِ المَرْوَةِ).
ومراد المؤلف أن الصعودَ على الصفا والمروة ليس شرطًا، لكن الأَوْلَى والأفضل أن يصعد كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذه حَسَناتٌ تتوارد على المسلم، وتأتيه تَتْرى، فلماذا لا يغتنم الفرصة ويختطفها ليجدها مسجلةً له في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون عندما يقول اللَّه تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]، واللَّه تعالى لا يظلم أحدًا:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
* قوله: (فَيَمْشِي عَلَى سَجِيَّتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى بَطْنِ المَسِيلِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ، رَمَلَ حَتَّى يَقْطَعَهُ إِلَى الجَانِبِ الَّذِي يَلِي الصَّفَا).
وهُمْ يريدون بالسعي الإسراعَ في الطواف، بمَعْنى أنه يرمل، ولا مانع؛ لأن حقيقة القصد هنا يختلف هناك، فالرَّمَل هناك إنما هو مقاربة الخطى مع الإسراع، لكن القصد هنا الجري يعني: الإسراع؛ ولذلك فإن
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 266)، حيث قال:"وأجمعوا أن مَنْ لم يفعل ووقف في أصل الصفا، أجزأه".
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسرع، حتى في وصفه:"أنه يدور بإزاره حتى رأوا بعض ساقه"
(1)
.
* قوله: (يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، يَبْدَأُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالمَرْوَةِ).
وَهَاجر عليها السلام أيضًا قَدْ فَعَلتْ ذلك سبع مرات، إذًا هذه عبادةٌ شَرَعها اللَّه سبحانه وتعالى ليبتلينا، وعلينا أن نَسْتَجيبَ ونقومَ بهذه العبادة، فَإِنْ فَعَلنا، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى سيُثيبُنَا على ذلك، وَإنْ شَكَرنا سَيَزيدنا سبحانه وتعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
* قوله: (فَإِنْ بَدَأَ بِالمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا، أُلْغِيَ ذَلِكَ الشَّوْطُ)
(2)
.
فلو أن إنسانًا أخطأ، فبدأ بالمروة، لا يُحْسب له هذا الشوط، إنما الذي يُحْسب له الذي بدأه من الصفا، كما لو أن إنسانًا طاف الشوط الأول معكسًا بمعنى أنه بدل أن يجعل الكعبة عن يساره، جعلها عن يمينه، كذلك لا يجوز، أو أن إنسانًا طاف حول الكعبة ولم يستوعب الحجر الذي نبَّهنا عليه، لم يجز ذلك.
* قوله: (لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، نَبْدَأُ بِالصَّفَا"
(3)
، يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ جَهِلَ، فَبَدَأَ بِالمَرْوَةِ، أَجْزَأَ عَنْهُ)
(4)
.
والصَّحيح أنه لا يجزئ، ولا يُعْذر في هذا المقام.
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 267)، حيث قال:"وأجمعوا أن من سُنَّة السعي بينهما أن يرمل في بطن المسيل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يليه، هكذا حتى يتم سبع مرات بين الصفا والمروة، ومَنْ بدأ بالمروة، ألغى شوطًا".
(3)
أخرجه مسلم (1218)، وتقدَّم.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 220)، حيث قال:"وقد رُوِيَ عن عطاء أنه إن جهل أجزأه، ورُوِيَ عنه أنه لا يعتدُّ بهذا الشوط كما قال سائر العلماء".
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ السَّعْيِ قَوْلٌ مَحْدُودٌ؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ دُعَاءٍ)
(1)
.
ومُرَاد المؤلف أنه ليس له دعاء مخصوص، وقد جاء في مواضع:"ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً"
(2)
بين الركنين، وجاء:"اللَّهمَّ أنتَ السلام، ومنك السلام، حيِّنا ربنا بالسَّلام"
(3)
، أول ما يبدأ،، لَكن الغالبَ أنه لا يوجد دعاءٌ مخصوصٌ، وإنَّما يختار لنفسه الدعاء الذي يحتاج إليه في هذا المقَام، وليتخيَّر من الأدعية، وَلْيكثر من ذِكْرِ اللَّه، ومن طلب الهداية والاستقامة على دين اللَّه، وليسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يعفو عنه؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا كُنْتُ أَسْأَلُ رَبِّي وَأَدْعُو بِهِ؟ قال:"قُولِي: اللَّهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فَاعْف عنِّي"
(4)
.
ولا بدَّ من الإخلاص، وصدق النيَّة، والإقبال على اللَّه حتى يظفر بخيري الدُّنيا والآخرة، وَيَكُون قَدْ رجع بتجارةٍ لن تبور؛ ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى في عُمَّار بيته: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 267)، حيث قال:"وكراهية الحديث في السعي عليه جماعة العلماء في كراهية الكلام بغير ذكر اللَّه في الطواف والسعي إلا فيما لا بدَّ منه؛ لأنه موضع دعاءٍ".
(2)
أخرجه أبو داود (1892)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1653).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 118). . . عن مكحول قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت، رفع يديه وكبر، وقال:"اللَّهمَّ أنتَ السلام، ومنك السلام، فحَيِّنا ربنا بالسلام، اللهم زِدْ هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، ومهابةً، وزد مَنْ حجه أو اعتمره تكريمًا وتشريفًا وتعظيمًا وبرًّا".
ويُنظر: "مناسك الحج والعمرة" للأَلْبَانيِّ (26)، حيث قال:"ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا دعاء خاص، فيدعو بما تيسر له، وإن دعا بدعاء عمر: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحَيِّنا ربنا بالسلام"، فحسن؛ لثبوته عنه رضي الله عنه".
(4)
رواه أحمد (42/ 236)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2091).
وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37]، وَلذَا كَانَت النتيجة {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 38].
* قوله: (وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(1)
.
فأنت حينما تقول: لا إله إلا اللَّه؛ أي: لا معبود بحقٍّ إلا اللَّه، "لا إله" تنفي عبادة أي معبود إلا اللَّه، وهذه هي التي من أجلها أَرْسَل اللَّه سبحانه وتعالى الرسلَ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].
ويَقُولُ تَعالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
ويَقُولُ تَعالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
إنَّها السعادة، إنه الفوز والظفر بخَيْري الدنيا والآخرة، أن تَلْقى اللَّه تعالى وأنت على عقيدة صحيحة، أعظم شيءٍ في هذه الحياة أن نصلح عقائدنا، وأن تكون عقيدتُنَا على منهج كتاب اللَّه عز وجل، وعلى سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
ولمَّا جَاءَ رجلٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال: يا رسول اللَّه، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل قول اللَّه تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 126]، فاللَّه سبحانه وتعالى يغضب إنْ تركتَ سؤاله، أما الإنسان فإنه يملُّ منك، واللَّه تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
(1)
أخرجه مسلم (1218)، وتقدَّم.
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]، ولنتحين المواضع التي يُسْتجاب فيها الدعاء، عند السجود مثلًا، فأَقْرَب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
(1)
، وعندما يبقى ثلث الليل الآخر، فإن اللَّه سبحانه وتعالى ينزل كل لَيْلةٍ نزولًا يليق بجلالِهِ وعظمتِهِ، فيقول: هل من سَائِلٍ فأُعْطيه؟ هل من مُسْتَغْفرٍ فأغفر له؟ هل من تَائِبٍ فأتوب عليه؟
(2)
، يَقُول اللَّه سبحانه وتعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 138].
وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا} [آل عمران: 133 - 135]، والإنسان قَدْ تحصل منه خطايا، وقَدْ تحصل منه ذنوبٌ، وقد يَقْترف أمورًا في جنب اللَّه؛ ولذلك قَدْ فتح لنا أبواب التوبة:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"لَوْ لَمْ تُذْنبوا، لَذَهب اللَّه بكُمْ، وَلَجاء بقومٍ يُذْنبون ثمَّ يَسْتغفرون، فيغفر اللَّه لهم"
(3)
، لكن ليس معنى ذلك أننا نُوَاصل الذُّنوبَ، فَالإنسَانُ لا يضمن نفسه، قد يذنب فيتوب، فيتوب اللَّه عليه، فربما يعود إلى ذنبه، فتأتيه المنية فلا يجد فرصةً.
* قوله: (يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى المَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (482)، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
(2)
أخرجه البخاري (7494)، ومسلم (758)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأعطيه، مَنْ يستغفرني فأغفر له".
(3)
أخرجه مسلم (2749)، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تُذْنبوا لَذَهب اللَّه بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون اللَّه، فيغفر لهم".
(4)
تقدَّم.
وَبِهَذَا يَنْتهي كلام المؤلف عن صفتِهِ.
* قوله: (القَوْلُ فِي شُرُوطِهِ: وَأَمَّا شُرُوطُهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الطَّهَارَةَ مِنَ الحَيْضِ كَالطَّوَافِ سَوَاءٌ
(1)
، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ:"افْعَلِي كُلَّ مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالبَيْتِ").
هذا الذي ذكره المؤلف غير مُسلَّمٍ في الحقيقة؛ لأنه فرق بين الطواف وبين السعي، فالطواف لا خلاف أن الطهارة شرطٌ فيه، ولكنهم اختلفوا في الحدث الأصغر، هل يُشْترط أو لا؟ وكذلك أيضًا اختلفوا في الحائض إذا كانت هناك حالة ضرورة، هل تعتصب بثوبٍ وتطوف؟ هل العلة لأجل الطهارة أو لأجل ألَّا يُلوَّث المسجد؟ أمَّا بالنِّسبة للسعي، فلا شك أن الأَوْلَى والأكمل ألَّا يسعى الإنسان إلا وهو على طهارةٍ، لكن لو فعل ذلك، فهذا جائزٌ، وليسَ فيه شيءٌ، وأمَّا هَذِهِ الزِّيادة، فهي لَيْست في حديث عائشة في "الصحيحين":"افْعَلِي ما يفعل الحاجُّ غير ألَّا تَطوفِي بالبَيْت"
(2)
، وَفيها كلامٌ للعُلَماء
(3)
.
ثمَّ إنَّ السعيَ مختلفٌ فيه بين العلماء، فبَعْضُ العلماء يرى أنه ركنٌ كالطواف، وبناءً عليه لو تركه الإنسان، فَسد حجُّهُ، وبعضهم يرى أنه واجب، وعلى قول مَنْ يرى أنه واجبٌ كأبي حنيفة يَجْبره دمٌ، وهناك قول:
(1)
وليس كما قال، ويُنظر:"الإقناع" لابن القطان (1/ 268)، حيث قال:"ولا أعلم مَن اشترط الطهارة في السعي بين الصفا والمروة إلا الحسن البصري، فإنه قال: إنْ سعى على غير طهارة، وذكر قبل أن يحل أعاد، وإن ذكر بعدما أحل فلا شيء عليه".
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 504)، حيث قال:"قال ابن عبد البر: لم يقله أحدٌ عن مالك إلا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري. قلت: فإن كان يحيى حفظه، فلَا يدلُّ على اشتراط الوضوء؛ لأن السعي يتوقف على تقدُّم طوافٍ قبله، فإذا كان الطواف ممتنعًا، امتنع لذلك، لا لاشتراط الطهارة له".
إنه سُنَّة، وهذا قول ضعيف، لَكن القولين القويين: الركنية والوجوب
(1)
.
* قوله: (وَلَا تَسْعَيْ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ"، انْفَرَدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، دُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الحَدِيثُ)
(2)
.
لكن رواية "الصحيحين": "افْعَلِي ما يفعل الحاج غير ألَّا تَطُوفِي بالبيت"
(3)
، وفي حديث أسماء:"اصْنَعي ما يصنع الحاج إلا أن تطوفي بالبيت"، وهو في "صحيح مسلم"
(4)
.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِهِ إِلَّا الحَسَنَ، فَإِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالطَّوَافِ)
(5)
.
وَبِهَذَا ينتهي الكلام عن شُرُوطه.
* قوله: (القَوْلُ فِي تَرْتِيبِهِ: وَأَمَّا تَرْتِيبُهُ، فَإِنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَأَنَّ مَنْ سَعَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ، يَرْجِعُ فَيَطُوفُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَكَّةَ)
(6)
.
فَلَوْ أن إنسانًا سعى قبل أن يطوف، وفرقٌ بين السعي للعمرة وبين
(1)
تقدَّم مفصلًا.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 369)، حيث قال:"أما قوله في هذا الحديث: ولا بين الصفا والمروة، فلم يقله من رواة "الموطإ"، ولا غيرهم إلا يحيى بن يحيى في هذا الحديث".
(3)
تقدَّم.
(4)
حديث أسماء بنت عُمَيس، أخرجه النسائي (2664)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1531)، وتقدَّم لفظه.
(5)
ويُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 268)، حيث قال:"ولا أَعْلَم مَن اشترط الطهارة في السعي بين الصفا والمروة إلا الحسن البصري، فإنه قال: إن سعى على غير طهارةٍ، وذكر قبل أن يحل، أعَاد، وإن ذكر بعدما أحلَّ، فلا شيء عليه".
(6)
ويُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 268): "ولا خلاف أن الطواف قبل السعي، وبه جاءت الآثار، واختلف فيمن سَعَى قبل طوافه، وأجمعوا أن سُنَّة السعي أن يكون موصولًا بالطواف".
السعي للحج، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله: سعيتُ قبل أن أطوف؟ قال: "لا حرج"
(1)
، لكن هذا قد ورد في الحج، وليس معنى هذا أننا نتمسك به، فلا بدَّ أن نتجنَّب الخلاف، أما بالنسبة للعمرة فلا ينبغي بأيِّ حَالٍ من الأحوال أن يُقدَّم السَّعي على الطواف، وَإنْ فعل فإنه يُلْغى السعي، وَعَليه أن يَسْعى بعد الطواف.
* قوله: (فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ النِّسَاءَ فِي العُمْرَةِ أَوْ فِي الحَجِّ، كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ وَالهَدْيُ، أَوْ عُمْرَةٌ أُخْرَى
(2)
. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
(3)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي حُكْمِ السَّعْيِ وَصِفَتِهِ وَشُرُوطِهِ المَشْهُورَةِ وَتَرْتِيبِهِ).
(1)
أخرجه أبو داود (2015)، عن أُسَامة بن شريك، قال:"خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمَنْ قال: يا رسول اللَّه، سعيتُ قبل أن أطوف أو قدمت شيئًا أو أخرت شيئًا، فكان يقول: "لا حَرجَ، لا حَرجَ"، إلا على رجلٍ اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذَلكَ الذي حرج وهلك"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1759).
(2)
لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 34)، حيث قال:"الركن الثالث (السعي) لهما، (سبعًا بين الصفا والمروة منه. . . (وصحته)؛ أي: شرط صحته في الحجِّ والعمرة كائنة (بتقدُّم طواف) أي طواف كان، ولو نفلًا".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 97، 98)، حيث قال:" (وشرطه) ليقع عن الركن. . . (وأن يسعى بعد طواف ركن أو قدوم) ".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 488)، حيث قال:" (ويُشْترط تقدُّم الطواف عليه ولو) كان الطواف الذي تقدم عليه (مسنونًا كطواف القدوم)؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما سَعَى بعد الطواف، وقال: "لتأخُذُوا عني مَنَاسككم".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 232)، حيث قال:"وذكر عبد الرزاق قال: سألت الثوري عن رجلٍ بدأ بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت، فقال: أخبرني ابن جريج، عن عطاء: يطوَف بالبيت، وقد جزى عنه".
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 470)، حيث قال: "ومن الواجبات كون الطواف وراء الحطيم، وكون السعي بعد طواف معتد به، وتوقيت الحلق بالمكان =
فمَنْ يقول: عليه دمٌ، يرى أنه واجب، وهناك مَنْ يرى أنه ليس عليه شيء؛ لأنه يراه سُنَّة، وَجُمْهور العلماء يرون أنه ركنٌ، ولذلك يجب أدَاؤه كالحال بالنسبة لطواف الإفاضة.
انتهى المؤلف من الكلام على السعي، وسينتقل إلى الحديث عن يوم التروية.
[الخُرُوجُ إِلَى عَرَفَةَ]
وهو في الحقيقة الخروج إلى منى؛ لأن منى قبل عرفات، ولعله خطأٌ.
قال المصنف رحمه الله رحمةً واسعةً: (وَأَمَّا الفِعْلُ الَّذِي يَلِي هَذَا الفِعْلَ لِلْحَاجِّ، فَهوَ الخُرُوجُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى).
فبَعْد الفراغ من النُّسُك الأول وهو العمرة، يَأْتِي الخُرُوجُ إلى منًى.
* قوله: (وَالمَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ).
وسُمِّيتْ منًى؛ لكثرة ما يُسَال فيها من الدماء، لكن المبيت في منى ليلة التاسع ليست واجبةً، وإنما هي سُنَّة باتفاق العلماء جميعًا
(1)
، بل إن الخروج إلى منًى، وأداء الصلوات الخمسة فيها، والمبيت فيها، كل ذلك سُنَّة فَعلَها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(2)
، وَفَعلها الصحابة مِنْ بعده، فلو أن إنسانًا خرج إلى عرفات مباشرةً لما فاته واجبٌ من واجبات الحج، وإنما يكون تَرَك سُنَّةً من السنن، والأَوْلَى بالمسلم وهو يؤدي هذَا المنسكَ العظيم،
= والزمان، وترك المحظور كالجماع بعد الوقوف، ولبس المخيط، وتغطية الرأس والوجه، والضابط أن كل ما يجب بتَرْكه دم، فهو واجب".
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منًى، فأهلُّوا بالحج، وركب رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس. . . ".
الركنَ الخامس من أركان الإسلام ألا يفرط في أيِّ فضيلةٍ تجمع له الحسنات، فإنه بأَمسِّ الحاجة إليها.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ بِهَا مَقْصُورَةً).
يصلي الإمام أو مَنْ يُنيبُهُ الإمام.
* قوله: (إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الفِعْلَ ليْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الحَجِّ لِمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الوَقْتُ)
(1)
.
ومُرَاد المؤلف أنَّ الخروجَ إلى منًى، والبقاء فيها، والمبيت ليلة التاسع ليس من شروط الحج، ولا من واجباته، وإنما هو من سنن الحج التي إِنْ فعلها أثيب عليها، وَإِنْ ترَكها فلا إثمَ عليه، لكنه ترك أمرًا فاضلًا، هو ليس شرطًا في صحة الحج في حقِّ مَنْ ضاق عليه وقتٌ، ومن لم يضق عليه الوقت.
* قوله: (ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَشَى الإِمَامُ مَعَ النَّاسِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ وَوَقَفُوا بِهَا).
وانتقلَ المُؤلِّف إلى الحديث عن يوم عرفة، وكان الأَوْلَى به أن يُشير إلى نمرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من منًى متجهًا إلى عرفات إنما ضُربَت له قبة بنَمرة، ونَمرة قريبة من عرفة، بل هي ملاصقةٌ لها، وهناك من العلماء مَنْ يرى أنها من عرفة، والرسول صلى الله عليه وسلم ضُربَت له القبة، ومكث بها حتى زالت الشمس
(2)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 274)، حيث قال:"وحُكِيَ عن ابن عمرَ أنه كان يصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والصبح بمنى، ثم يَغْدو إذا طلعت الشمس إلى عرفة، وهي سُنَةٌ معمولٌ بها مستحبةٌ بإجماع، فعلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شيء عندهم على تاركها إذا وقف بعرفة".
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر: ". . . وأمر بقُبَّةٍ من شعر تُضْرب له بنمرة، فسار =
ويقال: إن نمرة يجد الإنسانُ فيها راحةً في بقائه بها، إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك، لكن هل هذا نسك أو غير نسك؟
العُلَماءُ مُخْتلفون فيه، والظاهرُ أنَّ هذا نسكٌ؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أقَام بها هذه الفترة، وليس شرطًا أن يبقى بها الإنسان، فلو بقي في عرفة، كفاه ذلك ولا حاجة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ضُربَت له القبة؛ أي: الخيمة، وأقام فيها، وأقام المسلمون، فلما زالت الشمس رَكبَ ناقته القصواء، وذهب إلى عرفات.
* قوله: (الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: وَالقَوْلُ فِي هَذَا الفِعْلِ يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ. . .).
وَالحجُّ إنَّما يبدأ فعلًا من عرفات؛ أي: أفعال الحج، لكن سبق ذلك نيَّة الدخول في النُّسُك، وهذه النية إنما هي ركنٌ في الحج، وَهي كذلك ركنٌ في العمرة، وليس معنى هذا أنَّ لبس الإحرام إنما هو الدخول في النسك
(1)
؛ لأنَّ الدخولَ في النُّسُك هو أن تلبس الإزار والرداء، وأن تنوي بقلبك أيْ: تَقْصد الحج أو العمرة، وأن تتلفَّظ بذلك استحبابًا، فتقول: لبيك حجًّا، لكن أفعال الحاج وأعماله إنما تبدأ بالوقوف بعرفة.
والوقوفُ بعرفة ركنٌ من أركان الحج، ومتى فاته الإنسان يكون قد فاته الحج، فلا يمكن تعويضه، ولا يمكن الرجوع إليه بعد وقته، فوقتُهُ محددٌ بالإجماع من وقت زَوَال شمس اليوم التاسع إلى طلوع فجر ليلة يوم النحر، وَهناك مِنَ العلماء مَنْ يرى أن الوقتَ يطلع من بعد طلوع الفجر
(2)
، لَكن المُجْمع عليه هو من وَقْت الزوال إلى وقت طلوع الفجر
= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربَت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له. . . ".
(1)
تقدَّم.
(2)
سيأتي بيانه.
من ليلة يوم النحر؛ أي: ليلة العاشر
(1)
، هَذا هو وقته، والوقوف في هذا الوقت حتى ولو مارًّا أو حتى نائمًا واقفًا على أي حالة يعد وقوفًا
(2)
، لكن لو بقي الإنسان بنمرة، ومنها انطلق إلى المزدلفة، لا يكون قد وقف بعرفة، وفاته الحجُّ، فلننتبه حتى لا نضيع أعمالنا، ولا نكون كالتي نقضت غَزْلها.
* قوله: (. . . وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، أَمَّا حُكْمُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الحَجِّ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 276)، حيث قال:"وأجمعوا أن مَنْ وقَف بها يوم عرفة قبل الزوال، وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتدُّ بها، وإن لم يرجع فيقف (بعده) أو في ليلته تلك قبل الفجر: فقد فاته الحج"، وسيأتي مذهب الحنابلة.
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 506)، حيث قال:" (قوله: لأنَّ الشرط الكينونة فيه)؛ أي: في محل الوقوف المعلوم من المقام. . . والمراد بالكينونة: الحصول فيه على أي وجهٍ كان ولو نائمًا، أو جاهلًا بكونه عرفة، أو غير صاح، أو مكرهًا، أو جنبًا، أو مارًّا مسرعًا".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 37)، حيث قال:" (ولو مر)، أي: كان مارًّا بشرطين أفاد الأول بقوله: (إن نواه). . . فكأنه قال: إن نوى الوقوف، وعلم بأن المار عليه هو عرفة، ولكن عليه دمٌ، فالاستقرار مطمئنًا واجب (أو) كان متلبسًا (بإغماءٍ) حاصل (قبل الزوال)، وأَوْلَى بعده حتى طلع الفجر، ولا دَمَ عليه".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 487)، حيث قال:"مَنْ حصل في عرفة بنية الوقوف أو) بنية (غيره من طلب غريم أو ضائع أو) حصل فيها (مارًّا أو جاهلًا) بها، ولو ظنها غيرها (أجزأه) لخبر مسلم: "وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف"، (ويجزئ النائم) حصوله فيهما ولو استغرق الوقت بالنوم كما في الصوم (لا المغمى عليه والسكران والمجنون) ".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 494)، حيث قال:" (فمن حصل بعرفة في هذا الوقت ولو لحظة، ولو مازا بها أو نائمًا أو جاهلًا بها)؛ أي: بأنها عرفة (وهو من أهل الوقوف) بأن يكون مسلمًا عاقلًا محرمًا بالحج (صح حجه) ".
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 275 - 277)، حيث قال:"والوقوف بعَرَفة فرضٌ مجمعٌ عليه في موضعٍ معينٍ. . . وأجمعوا أَنْ لا حج لمَنْ فاته الوقوف بعرفة".
وَالرُّكن لا يسقط سهوًا، ولا عمدًا، فلو أن إنسانًا جهل حدود عرفة، لا يُعْذر بجهله، ولو أنه أخطأ فلا ينفعه، لكن لو أخطأ المسلمون جميعًا، فالصورة هنا تختلف، كما لو ظنوا أنه اليوم التاسع فتبين أنه العاشر، أو تبين أنه الثامن إلى آخره، هذه مسألة أُخرى.
* قوله: (وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ).
"حجٌّ قابلٌ"، يعني: في سنة قابلة؛ لأنه هنا لم يَسْتفد من حجِّه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الحَجُّ عَرفَة"
(1)
.
* قوله: (وَالهَدْيُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الحَجُّ عَرَفَةُ").
وقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: "عَرفةُ كلُّها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة"
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا صِفَتُهُ: فَهُوَ أَنْ يَصِلَ الإِمَامُ إِلَى عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ النَّاسَ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما زالت الشمس، ركبط ناقته، وذَهب إلى عرفات، ولمَّا وصل إلى المسجد، خطب الناس
(3)
.
* قوله: (ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ).
إذًا، الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة الظهر والعصر جمعًا يعني:
(1)
أخرجه الترمذي (889)، عن عبد الرحمن بن يعمر، أن ناسًا من أهل نجد أتوا رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا، فنادى:"الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمَنْ تعجل في يومين، فلا إثم عليه، ومَنْ تأخر فلا إثم عليه"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2714).
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر، في حديثه ذلك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "نَحرتُ هَاهنا، ومنًى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وَعَرفة كلُّها موقفٌ، ووقفت هاهنا، وجمع كلها موقف".
(3)
سيأتي.
جمعَ تَقْديمٍ، وكان ذلك في وقت الظهر، وكان ذَلكَ أيضًا في يوم جُمُعة. وقَالَ العلماء: لا تُصلَّى الجُمُعة هناك بالنسبة للحجاج؛ لأنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم خَطَب أولًا، ثمَّ بعد ذلك أذَّن المؤذن، فأُقيمَت الصلَاة، فصلَّى بالناس صلاة الظهر، ثمَّ أُقيمَت الصلاة، فصلى بالناس صلاة العصر، وهذه مسألةٌ سيأتي الخلاف فيها، متى يُؤذَّن لهذه الصلاة؟ هل يكون أثناء الخطبة، أو بعد الفراغ منها؟
* قوله: (ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ)
(1)
.
والمُؤلِّف هنا قد اختصرَ، فَالإمَامُ يَخْطب الناس، وَفِي هذه الخطبة يُبيِّن لهم مَناسك الحجِّ؛ لأنَّ الناس أو غالبهم أو السواد الأعظم إنما يحتاجون إلى معرفة مناسك الحج؛ اقتداءً برَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يُبيِّن الخطيب لهم ما يَحْتاجون إليه من مناسكِهِ، حكمَ الوقوف بعرفة، أين يقف المسلمون، هل هو في كل مكانٍ؟ ما هي الأدعية التي يَنْبغي أن يفعلوها؟
ونحن نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أُوتِيَ جوامع الكلم كما جاء في الأحاديث الصحيحة: "أُعْطيت خمسًا لم يُعْطهنَّ أحد من قبلي. . . "
(2)
، وذكر منها أنه أُعْطي جوامع الكلم، يأتي بالكلام القليل الذي يحمل المعاني العظيمة بمعنى أنه يضع أسسًا وقواعد؛ ولذلك رأينا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وضع أسسًا وقواعدَ من قواعد الإسلام، ومما تكلم عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف العظيم: الربا، وحذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فأتى بطن الوادي، فخطب الناس. . . ثم أذن، ثم أقام فَصلَّى الظهر، ثمَّ أقام فصلى العصر، ولم يُصلِّ بينهما شيئًا، ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس. . . ".
(2)
أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523)، ولفظه، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فُضِّلتُ على الأنبياء بِسِتٍّ: أُعْطيت جَوَامع الكلم، ونُصِرْت بالرعب، وأُحلَّت لي الغنائم، وجُعلَت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأُرْسلتُ إلى الخَلْق كافَّة، وخُتِمَ بي النَّبيُّون".
وبَيَّن خطورتَه على المجتمع، وقَدْ جاء في كتاب اللَّه عز وجل من التَّحذير والتَّهديد من التعامل بالربا، وأنَّ مَنْ يفعل ذلك فإنه يَأْذن بحربٍ من اللَّه ورسوله، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا مُحَاباةَ في دين اللَّه، ولذلك قال:"إنَّ أوَّل ربا أضعه إنَّما هو ربا العباس"
(1)
، والعباس هو عمُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بأقرب الناس إليه، وهو عمه، ونجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما تكلم عن السرقة في قصة المخزومية التي كانت تَسْتعير الحلي فأخفتها؛ أي: سرقتها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
(2)
، وهي ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولها من المكانة العظيمة عنده ما لها، وحاشاها أن تسرق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن هذا هو دين اللَّه، ودين اللَّه لا يختلف الناس فيه في المعاملة، فهو حقٌّ وعدلٌ، واللَّه تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58].
هَذِهِ هي أحكامُ الشَّريعة الإسلامية، وهي الَّتي يحتاج المسلمون إلى تطبيقها في كلِّ مكانٍ، لا في بلدٍ واحدٍ، أَوْ في بعض البلاد، والبلاد التي تُطبَّق شريعة اللَّه فيها من الرخاء والأمن والاستقرار ما فيها، وهذا كله بفضل اللَّه سبحانه وتعالى، وبفضل تطبيق هذه الشريعة الإسلامية.
إذًا، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد وضع لنا أسسًا وقواعدَ حتى نسير عليها في تعاملنا فيما بيننا، وفيما ينظم علاقاتنا مع ربنا سبحانه وتعالى، كذلك بَيَّن الرسولُ صلى الله عليه وسلم حُرْمةَ الدين، وحُرْمةَ عِرْضِ المسلم، وأنَّه لا يجوز للمسلم أن يتكلَّم بحقِّ أخيه المسلم بغير حقٍّ.
(1)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. . . وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب. . . ".
(2)
أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم).
كَمَا جاء في حديث جابرٍ الطويل وغيره، فإنه وصف لنا حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ إِقَامَةَ الحَجِّ هِيَ لِلسُّلْطَانِ الأَعْظَمِ).
هذا هو الأصل، وله أن ينيبَ مَنْ يشاء.
* قوله: (أَوْ لِمَنْ يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ الأَعْظَمُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَهُ؛ بَرًّا كَانَ السُّلْطَانُ، أَوْ فَاجِرًا، أَوْ مُبْتَدِعًا)
(2)
.
وهذه قاعدة جديدة من قواعد الإسلام، وأن الإسلام إنما جاء بجمع الكلمة، ومعلومٌ الحالة التي كان عليها العرب في الجاهلية، كانت كلمتُهُم متفرقةً، لا يَلْتقون عند كلمةٍ، ولا يَجْمعهم حدٌّ؛ ولذلك ذكر اللَّه سبحانه وتعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]، أما المسلمون فإن كلمتهم واحدة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] كما قال اللَّه تعالى.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد"
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 60)، حيث قال:"أجمعوا على أن كل مَنْ وَلِيَ شيئًا من أمورهم -عن رضا أو غلبة- واشتدت وطأته من بَرٍّ وَفَاجرٍ، لا يلزمهم الخروج عليهم بالسيف، جاروا أو عدلوا، وأجمعوا على أن يُغْزِى معهم العدو، وُلحَج معهم البيت، وتُدْفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، وتُصلَّى معهم الجُمَع والأعياد".
(3)
أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنما المُسْلم للمُسْلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا"
(1)
.
وَاللَّهُ تَعالَى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
إذًا، بهذا يَتَميَّز المسلمون بعضهم عن بعضٍ، فالمَيْزة التي يرتفع بها بعضهم عن بعض إنما هي تقوى اللَّه سبحانه وتعالى وطاعته، هذا هو المنهج السوي الذي وَضَعه الإسلام، فَالإسلَام يجمع كلمةَ المسلمين، واللَّهُ تَعالَى يُحذِّرنا من الخلاف والتنازع:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
* قوله: (وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ المَسْجِدَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، خَطَبَ النَّاسَ -كَمَا قُلْنَا- وَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْر
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ أَذَانِ المُؤَذِّن بِعَرَفَةَ لِلظَّهْرِ وَالعَصْرِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: يَخْطُبُ الإِمَامُ حَتَّى يَمْضِيَ صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْضُهَا)
(3)
.
يعني: جزءًا كبيرًا منها.
* قوله: (ثُمَّ يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ وَهُوَ يَخْطُبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: يُؤَذِّنُ
(1)
أخرجه مسلم (2585)، عن أبي موسى، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمن للمُؤْمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا".
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 44)، حيث قال:" (قوله: ثمَّ بعد فراغه. . . إلخ) فيه نظر، ولفظ "المدونة": متى يؤذن المؤذن يوم عرفة، أبعد فراغ الإمام من خطبته، أو وهو يخطبها، قال: ذلك واسع إن شاء اللَّه، والإمام يخطب، وان شاء بعدما يفرغ من خطبته. فقول المصنف: "ثم أذن"، يُحْمل على أن المراد: ثمَّ بعد الشروع في الخطبة أذن، وبعد الشروع فيها صادق بكون الأذان في الخطبة أو بعدها".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (3/ 296)، حيث قال: "وحين يَقُوم إلى الخطبة الثانية =
إِذَا أَخَذَ الإِمَامُ فِي الخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: إِذَا صَعِدَ الإِمَامُ المِنْبَرَ أَمَرَ المُؤَذِّنَ بِالأَذَانِ، فَأَذَّنَ كَالحَالِ فِي الجُمُعَةِ، فَإِذَا فَرَغَ المُؤَذِّنُ، قَامَ الإِمَامُ يَخْطُبُ، ثُمَّ يَنْزِلُ وَيُقِيمُ المُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(2)
تَشْبِيهًا بِالجُمُعَةِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ نَافِعِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الأَذَانُ بِعَرَفَةَ بَعْدَ جُلُوسِ الإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ)
(3)
.
والأقرب من هذا كله أن المؤذِّن إنما يؤذن بعد فراغ الإمام من الخطبة.
* قوله: (وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَاغَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِالقَصْوَاءِ، فَرُحِّلَتْ لَهُ، وَأَتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ).
هذا نصٌّ جاء في حديث جابر رضي الله عنه، وقَدْ حكى لنا وصفًا دقيقًا للمنسك الذي كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنه عندما جاء خطب الناس، ثم بعد ذلك قام المؤذدن فأذن، ثم أقام، قال:"قُمْ يا بلال فأَذِّنْ"، ثمَّ أمر بإقامة الصلاة، فَصلَّى بالناس الظهر، ثمَّ أُقيمَت العصر فصلَّى
(4)
، وهذا
= يؤذن للظهر، فيفرغ من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الأذان للاتباع: رواه الشافعي".
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 22) حيث قال: " (قوله: فيجلس بينهما)؛ أي: جلسة خفيفة. قال أبو حنيفة: يبتدئ الخطبة إذا فرغ المؤذن من الأذان بين يديه كخطبة الجمعة. وقال أبو يُوسُف: يخطب الإمام قبل الأذان، فإذا مَضَى صدرٌ من خطبته، أذن المؤذنون".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 325)، حيث قال:"وقال أبو حنيفة، وأبو يُوسُف، ومحمد: إذا صعد الإمام المنبر، أَخَذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ الإمام، قام المؤذن فخطب، ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة، وَبِهِ قَالَ أبو ثورٍ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 325)، حيث قال:"وَحَكى عنه ابن نافع أنه قال: الأذان إذا قام بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة".
(4)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر:". . . فخطب الناس. . . ثمَّ أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. . . ".
مذهب أحمد، ومَعَه جماعةٌ، وهو الذي يلتقي مع الأحاديث
(1)
.
فَيَنْبغي أن نقفَ عنده، وأن نُقدِّمه، لَكن لَو حصلَ غير ذلك، فهو جائز ولا يؤثر، لكن الأَوْلَى أن يكون بعد الفراغ من الخطبة كما في حَدِيثِ جَابِرٍ
(2)
.
* قوله: (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَاحَ إِلَى المَوْقِفِ")
(3)
.
ومراد المؤلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتطوع بينهما، فهل الإنسان في مثل هذه الحالة يتطوع؟ كذلك سيأتي في مزدلفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء جمعَ تَأْخِيرٍ
(4)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ، أَوْ بِأَذَانِ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانَيْنِ وإِقَامَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(6)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(7)
، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ،
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 491)، حيث قال:" (فإذا فرغ من خطبته، نزل فصلى الظهر والعصر جمعًا، إن جاز له) الجمع كالمسافر سفر قصر. . . (بأذان) للأولى (وإقامتي) ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 365)، حيث قال:"وقال أبو ثَوْرٍ: يُؤذِّن المؤذن إذا صَعد الإمام المنجر فجلس، فإذا فرغ المؤذن، قام الإمام فخطب. وقيل: يؤذن في آخر خطبة الإمام. وحديث جابر يدلُّ على أنه أذن بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، وكَيْفما فَعَل فَحَسنٌ".
(3)
تقدَّم.
(4)
عند قول المصنف: "القول في أفعال المزدلفة".
(5)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 44)، حيث قال:" (وجمع) استنانًا (بين الظهرين) جمع تقديم (إثر الزوال) بأذانٍ وإقامةٍ للعصر من غير تَنفُّلٍ بينهما. . . (قوله: بأذانٍ، وإقامةٍ للعصر)؛ أي: بأذانٍ ثانٍ كما هو مذهب المدونة. . . وهو الأشهر".
(6)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 320)، حيث قال:"ولو جمع جمع تقديمٍ أو جمع تأخيرٍ، وَالَى فيه، وبدأ بصاحبة الوقت، أذن للأولى في الصورتين دون الثانية بلا خلاف، وإن بدأ بغير صاحبة الوقت، وَوَالَى بينهما، لم يؤذن للثانية بلا خِلَافٍ، وفي الأولى الخلاف السابق، فيؤذن لها على الراجح ويقيم للثانية فقط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جَمَع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذانٍ وإقَامَتين"، رَوَاه الشيخان، من رواية جابر".
(7)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 24)، حيث قال: (ثم صل بعد الزوال الظهر =
وَجَمَاعَةٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ)
(1)
.
وهذا هو مذهب أحمد
(2)
، وهو مذهب جمهور العلماء
(3)
، وهو الذي جاء في حديث جابرٍ وغيره.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ
(4)
، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ)
(5)
.
والمعروف في مذهب أحمد أنه يجمع بينهما بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، مثل الجمهور
(6)
.
* قوله: (وَالحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ).
= والعصر بأذانٍ وإقَامَتين بشرط الإمام والإحرام)؛ لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام "صلَّاهما بأذانٍ وإقَامَتين".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 326)، حيث قال:"واختلف العلماء في الأذان للجمع بين الصلاتين بعرفة، فقال مالكٌ: يُصلِّيهما بأذانين وإقامتين. وقال الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وأبو عبيد، والطبري: يجمع بينهما بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، بإقامة لكل صلاةٍ. وقد روي عن مالك مثل ذلك، والمشهور عنه وتحصيل مذهبه ما قدمناه".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 491)، حيث قال:" (فإذا فرغ من خطبته، نزل فصلى الظهر والعصر جمعًا إنا جاز له)، الجمع كالمسافر سفر قصر. (وتقدم) في الجمع (بأذانٍ) للأولى (وإقامتين) لكل صلاةٍ إقامة".
(3)
الحنفية والشافعية والحنابلة، وتقدَّم.
(4)
ينظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 44)، حيث قال:" (وجمع) أستنانًا (بين الظهرين) جمعَ تقديمٍ (إثر الزوال) بأذَانٍ وإقَامةٍ للعصر من غير تَنفُّلٍ بينهما، ومَنْ فَاتَه الجمع مع الإمام جمع في رحله. . . (قوله: بأذانٍ وإقامةٍ للعصر)؛ أي: بأذانٍ ثانٍ".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 491)، حيث قال:" (فإذا فرغ من خطبته، نزل فصلى الظهر والعصر جمعًا إن جاز له) الجمع كالمسافر سفر قصر. (وتقدم) في الجمع (بأذانٍ) للأولى (وإقامتين) لكل صلاةٍ إقامة".
(6)
تقدَّم.
يعني: حُجَّة الشافعي وجمهور العلماء حديثُ جَابِرٍ فيه الذي وصف حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
* قوله: (فِي صِفَةِ حَجِّهِ عليه الصلاة والسلام وَفِيهِ "أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَاِقَامَتَيْنِ"
(2)
، كَمَا قُلْنَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ)
(3)
.
وَهَذا موقوفٌ على ابن مسعودٍ، ولكن الأَوْلَى أن نأخذ بما رفع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الذي جاء في حديث جابرٍ الطَّويل، وأن الأصلَ أن تنفرد كلُّ صلاة بأذانٍ وإقامةٍ، لكن هنا جمع بينهما، وفِعْلُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بيانًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عنِّي مَناسكَكم"
(4)
، وهَذَا هو منسك رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَنْبغي أن نفعلَه.
* قوله: (وَحُجَّتُهُ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنْ تُفْرَدَ كُلُّ صَلَاةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ العُلَمَاءِ أَنَّ الإِمَامَ لَوْ لَمْ يَخْطُبْ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَة بِخِلَافِ الجُمُعَةِ)
(5)
.
ومراد المؤلف أنه لو لم يخطب للصلاة، يعني: فأذَّن للصلاة، فَصلَّى الظهر، ثم أقيمت الصلاة؛ أي: صلاة الظهر، ثم بعد ذلك أقيم لصلاة العصر فصلاها، فهذا جائز، لكنه خلاف سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 326)، حيث قال:"وحجة مالك، ومَنْ قال بقوله في ذلك: ما رواه إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن حميد أبي قدامة: أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصلاتين بأذانين، وإقامتين، وَعَن ابن مسعود مثل ذلك بالمزدلفة". ويُنظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 363).
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 277)، حيث قال:"وأجمعوا أن الإمام إِنْ صلَّى بغير خطبةٍ، أَجْزَأه، وأنه يسرُّ القراءة، ويقصر إن كان مسافرًا".
لأن الحكمةَ من ذلك أن هذه الخطبة إنما هي دروسٌ ومواعظُ، وفيها رسمٌ للطَّريق السوي الذي ينبغي أَنْ يسيرَ عليه الحجاج في أدَاء مَنَاسكهم.
* قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّ القِرَاءَةَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سِرًّا
(1)
، وَأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ إِذَا كَانَ الإِمَامُ مُسَافِرًا
(2)
، وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الإِمَامُ مَكِّيًّا، هَلْ يَقْصُرُ بِمِنًى الصَّلَاةَ يَوْمَ التَّرْوِبَةِ، وَبِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَبِالمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ المَوَاضِعِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ
(4)
: سُنَّةُ هَذِهِ المَوَاضِعِ التَّقْصِيرُ سَوَاءً أَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ المَوَاضِعِ)
(5)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 44)، حيث قال:" (وجمع) الحاج العشاءين استنانًا (وقصر) العشاء (إلا أهلها)؛ أي: المزدلفة، فيُتمُّون (كمنى وعرفة)؛ أي: أَهْلهما يتمُّون، ويقصر غيرهم للسُّنَّة".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 336)، حيث قال:"قال أبو عمر: وبما ذهب إليه مالكٌ في هذا الباب، قال الأوزاعي: ومن حجتهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُصلُّوا في تلك المساجد كلها إلا ركعتين، وسائر الأمراء لا يصلون هناك إلا ركعتين، فعلم أن ذلك سنة الموضع؛ لأن من الأمراء مكيًّا وغير مكيٍّ وأن عبد اللَّه بن عمر كان إذا جاوز بمكة، أتم، فإذا خرج إلى منى قصر، وبه قال القاسم وسالم وإسحاق بن راهويه".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 336)، حيث قال:"قال أبو حنيفة، والثوري، وأصحابهما، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود، والطبري: مَنْ كان من أهل مكة، صلى بمنى وعرفة أربعًا، لا يجوز له غير ذلك، وحجتهم أن مَنْ كان مقيمًا، لا يجوز له أن يصلي ركعتين، وكذلك مَنْ لم يكن سفره سفرًا تقصر في مثله الصلاة، فحكمُهُ حكمُ المقيم".
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 505)، حيث قال: "وأطلق =
وَهذِهِ مَسْأَلةٌ ذَكرنَاهَا
(1)
.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ أَحَدًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم، أَعْنِي: بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْهَا. وَحُجَّةُ الفَرِيقِ الثَّانِي البَقَاءُ عَلَى الأَصْلِ المَعْرُوفِ أَنَّ القَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُسَافِرِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ وَمِنًى، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَا تَجِبُ الجُمُعَةُ بِعَرَفَةَ وَلَا بِمِنًى إِلَّا
(3)
أَيَّامَ الحَجِّ، لَا لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا لِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
مِثْلَ
= الإمام، فشمل المقيم والمسافر، لكن لو كان مقيمًا كإمام مكة، صلَّى بهم صلاة المقيمين، ولا يَجُوز له القصر، ولا للحجاج الاقتداء".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 260)، حيث قال:" (ثم) بعد الفراغ من الخطبتين (يُصلِّي بالناس الظهر والعصر جمعًا) تقديمًا للاتباع في ذلك، رواه مسلم، ويقصرهما أيضًا، والقصر والجمع هنا، وفيما يأتي بالمُزْدلفة للسفر لا للنُّسُك، فيختصان بسفر القصر كما مرَّ في باب الجمع بين الصلاتين".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 491)، حيث قال:" (ويفتتحها بالتكبير يعلم الناس فيها مناسكهم من الوقوف ووقته، والدفع من عرفات والمبيت بمزدلفة وغير ذلك) من الحلق والنحر (فإذا فرغ من خطبته، نزل فصلى الظهر والعصر جمعًا إن جاز له) الجمع كالمسافر سفر قصر".
(1)
ذكرناه مفصلًا.
(2)
يُنظر: "شرح الخرشي"(2/ 331)، حيث قال:"وجمع بين الظهرين أثر الزوال (ش)؛ أي: ثم إذا أذن بعد الخطبة يوم عرفة، يجمع بين الظهرين أي: الظهر والعصر بعرفة جمع تقديمٍ بأذانٍ ثانٍ وإقامةٍ للعصر. . . ولا ينبغي لأحدٍ ترك جمع الصلاتين بعرفة، ويصلي الظهر ولو وَافَق جمعة". ويُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 482).
(3)
في جميع النسخ بثبوت أداة الاستثناء "إلا"، والمعنى يستقيم بدونها، وهذا ما أفاده محقق المطبوع.
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 259)، حيث قال: "فإن كان يوم جمعة، خَرَج بهم قبل الفجر؛ لأن السفر يومها بعد الفجر، وقبل الزوال حرام، فمحلُّه فيمَنْ تلزمه الجمعة ولم يمكنه إقامتها بمنًى، فإن حدث فيها قرية واستوطنها أربعون كاملون، =
ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الجُمُعَةِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا العَدَدِ فِي الجُمُعَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: إِذَا كَانَ أَمِيرُ الحَجِّ مِمَّنْ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِمِنًى وَلَا بِعَرَفَةَ، صَلَّى بِهِمْ فِيهَا الجُمُعَةَ إِذَا صَادَفَهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ
(2)
: إِذَا كَانَ وَالِي مَكَّةَ يَجْمَعُ بِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ)
(3)
.
أَيْ: إذا تَوفَّرتْ شُرُوطُ الجُمُعة، يؤدُّون الجُمُعة، وَكَذلك الحال بالنِّسبة لعَرفَة.
* قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُهُ، فَهُوَ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ).
= صلَّوا فيها الجمعة لتَمكُّنهم من إقامتها، وإن حرم البناء ثَمَّ، ويجوز خُرُوجُهم بعد الفجر، ولم يُصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم الجُمُعة بعرفة، مع أنه قد ثبت في "الصحيحين" أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جُمُعة".
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(2/ 143)، حيث قال:" (وجازت) الجمعة (بمنًى في الموسم) فقط (لـ) وجود (الخليفة) أو أمير الحجاز أو العراق أو مكة، ووجود الأسواق والسكك، وكذا كل أبنيةٍ نزل بها الخليفة، وعدم التعييد بمنى للتخفيف (لا) تجوز (لأمير الموسم)، لقصور ولايته على أُمور الحج حتى لو أذن له جاز (ولا بعرفات)؛ لأنها مفازة".
(2)
يُنظر: "مسائل أحمد" لأبي داود السجستاني (182)، حيث قال:"سَمعتُ أحمدَ سُئِلَ عن الجمعة بمنًى، فقال: لا جمعة بمنًى، قلت: فكانت الجمعة يوم التروية؟ قال: إذا كان والي مكة بمكة، يجمع بهم. قيل لأحمد: يركب من منى، فيجيء إلى مكة، فيجمع بهم؟ قال: لا، إذا كان بعد هو بمكة".
ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 23)، حيث قال:" (ولم ينوِ استيطانًا لزمته بغيره)؛ لعموم الآية والأخبار (ولا يؤم فيها)؛ أي: الجمعة (مَنْ لزمته بغيره)؛ لعدم الاستيطان، ولئلا يصير التابع متبوعًا، (ولا جمعة بمنى وعرفة نضًّا)؛ لأنه لم ينقل فِعْلها هناك، وللسفر".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 328، 329)، حيث قال:"واختلفوا في وجوب الجُمُعة بعرفة ومنًى. . . وقال أبو ثور: إذا كان الإمام من أهل مكة، جمع يوم الجمعة بعرفة. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان والي مكة بمكة، جمع بها. وقال عطاء: يجمع بمكة إمامهم ويخطب".
نأتي إلى الأفعال التي يفعلها الحاج في يوم عرفة، وَعَلى هذه الساحة العظيمة، وهذه الأرض المنبسطة التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى مشعرًا من مشاعر الإسلام، وجعل الحج الأكبر فيها، فالمسلمون الذين جاؤوا لأداء هذا النسك إنما يجتمعون كلهم على صعيد عرفة، فانظر إلى هذه الأجناس المختلفة، وهذه الألوان، لو أن الانسان أنفق مالًا كثيرًا، وبذل ذوب قلبه، وغاية جهده، وضرب الأرض شرقًا وغربًا، لَمَا استطاع أن يظفرَ بهذا العدد، وقَدْ جاؤوا راغبين مقبلين؛ لأنهم أَجَابوا دعاء اللَّه؛ دعاء إبراهيم عليه السلام:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27]، فَنَجد أن أرض عرفات تموج بهذا الجمع الغفير من المؤمنين، وكُلُّهمْ جاؤوا طاعةً للَّه سبحانه وتعالى، جاؤوا تَارِكِين وراءهم كُلَّ ما يَشْغلهم من هَذِهِ الحياة الدنيا، فَمَا أوقفتهم تجارةٌ، ولا بنون، ولا زوجاتٌ، ولا آباءٌ، ولا إخوانٌ، ولا أصدقاءٌ، كل ذلك نَسَوه أو تَناسَوه، وجاؤوا إلى هذا المكان مطيعين لربهم، منيبين إليه، وفي هذا المقام تُسْكب العبرات، وتسيل الدموع على الوجنات؛ لذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"خَيْر الدُّعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلتُهُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وَحْده لا شريكَ له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير"
(1)
.
إنَّ اللَّه تعالى في ذلك الموقف العظيم يباهي بذاك الجمع الكبير العظيم ملائكته، فيقول:"انظُرُوا إلى عبَادي، أَتَوْنِي شعثًا غبرًا، أشْهدكُمْ أني قد غفرت لهم"
(2)
، فلا بدَّ أن نستغلَّ ذلكم الموقف، وأن نتَّجه فيه
(1)
أخرجه الترمذي (3585)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2598).
(2)
أخرجه ابن حبان (3853)، عن أبي الزبير عن جابرٍ، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من أيامٍ أفضل عند اللَّه من أيام عشر ذي الحجة"، قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه، هن أفضل أم عدتهن جهادًا في سبيل اللَّه؟ قال:"هُنَّ أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل اللَّه، وما من يوم أفضل عند اللَّه من يوم عرفة، ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض اهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين، جاؤوا من كل فجٍّ عميقٍ يرجون رحمتي، ولم يَرَوا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة"، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "الضعيفة"(679).
إلى اللَّه بقلوب صادقة، ونخلع عنَّا كل الأسباب التي وتُبَاعد بيننا وبين اللَّه، وأن نزيل كل واسطةٍ تقف في طريقنا مما يوصلنا إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وأن نسأل اللَّه سبحانه وتعالى في هذا الموقف الجليل ما نحن بأَمَسِّ الحاجة إليه، فيجب أن نحرص كل الحرص على ألا نضيع ساعةً أو دقائقَ أو لحظاتٍ فيما لا ينفع، فَلَا يَنْبغي أن نشغل أنفسنا بالقيل والقال، ولا بالأَحَاديث التي نضيع بها أوقاتنا، ونُمْضيها، فليس الوقتُ في هذا المقام وقتَ تسليةٍ، ينبغي أن نتفرغ لذلك كما فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم، فبعد أن فرغ من صلاته، ركب على ناقته، وذهب إلى الصخرات قرب القبلة، ودعا اللَّه سبحانه وتعالى
(1)
، فلنكثر من الدعاء، ولنطرح بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى، ولنسلم أنفسنا له سبحانه وتعالى، فإنَّ مقاليد الملك بيده سبحانه وتعالى، ولنتوجه بقلوبنا إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ولنفوض أمورنا كلها إليه سبحانه وتعالى، ونحن نعلم علم اليقين أنه لا ملجأ لنا، ولا مناص، ولا مفرَّ من اللَّه إلا إليه.
هذه مواسمُ عظيمةٌ، ومواقفُ كريمةٌ، ربما لا تتكرر في حياة المسلم، ولا يكفي في هذا المقام أن تسيلَ دموعنا، وأن تتألم قلوبنا، وربما قد تذوب أفئدتنا شوقًا إلى الآخرة، وإلى ما يقربنا إلى اللَّه سبحانه وتعالى، بل ينبغي أن نأخذ من ذلك درسًا أننا عندما نُنقِّي أنفسنا ونطهرها في هذا المقام، ونعود إلى اللَّه، ونتوب إليه توبةً نصوحًا، ينبغي أن نعقد العزم ألا نرجع إلى ما كنا نفعله إن كنا قد ارتكبنا سيئةً في حق اللَّه، أو أخطاءً في حقِّ خَلْقه، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف قال:"إنَّ دمَاءَكم وأموَالكم وأعْرَاضكم حرائم علَيكم كحُرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكلم هذا، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، اللهم هل بلغت"
(2)
.
كان صلى الله عليه وسلم يرفع سبَّابته إلى السماء، فيرد عليه أصحابه رضي الله عنهم: نعم، اللَّهمَّ فاشهد، اللَّهمَّ فاشهد، نعم نشهد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أتمَّ اللَّه
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
أخرجه مسلم (1218)، وتقدَّم.
به الدين، وأتم به النعمة، وأن اللَّه سبحانه وتعالى رضي لنا هذا الإسلام دينًا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قَدْ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في اللَّه حق جهاده، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ حَجَّ فلم يرفث، ولم يَفْسق، رَجَع من ذُنُوبه كيوم وَلَدته أُمُّه"
(1)
، واللَّهُ تَعالَى يقول:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} [البقرة: 197]، إن كان هناك جدال، فينبغي أن يكون في الحق، وإن كان هناك كلام، فليكن في ذكر اللَّه سبحانه وتعالى عملًا بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} .
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفِ العُلَمَاءُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ بِعَرَفَةَ، ارْتَفَعَ، فَوَقَفَ بِجِبَالِهَا دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوَقَفَ مَعَهُ كُلُّ مَنْ حَضَرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ).
والرسول صلى الله عليه وسلم ركب بعيره، ووقف عليه، فيشرع الآن أن نجلس على السيارات، وإن فعلنا ذلك فذاك شيء طيب، وإن وقفنا دون أن نتأذى بذلك، فلا مانعَ، وَإن جلسنا، فلا مانعَ حتى لو كان الإنسان مستلقيًا أو متكئًا، فكل ذلك جائز، واللَّه سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صورنا، وإنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، وما يهمُّ في هذا الموقف أن يحسن القصد والعمل للَّه سبحانه وتعالى، وأن يلحَّ في الدعاء.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَنَ غُرُوبَهَا، وَبَانَ لَهُ ذَلِكَ، دَفَعَ مِنْهَا إِلَى المُزْدَلِفَةِ"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350).
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابر: حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقَدْ شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى:"أيها الناس، السكينة السكينة"، كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة".
ومن العلماء مَنْ يقول: إن الوقوف يبدأ من فجر يوم التاسع، وهذا قول عند الحنابلة
(1)
، ولكن القول المشهور الذي أجمع عليه العلماء
(2)
: أن الوقوف يبدأ من وقت الزوال (زوال يوم التاسع) إلى فجر اليوم العاشر، هذا هو وقت الوقوف بعرفة، فمَنْ وقف -كما جاء في الحديث- أيِّ ساعة من ليلٍ أو نهارٍ، فقَدْ أدرك الوقوف
(3)
، وليست القضية قضية مرور، فعلينا أن نقف في هذه الأماكن الطيبة المباركة التي يباهي اللَّه بنا ملائكته، ولنتجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى حتى نخرج بغنائمَ عَظيمَةٍ من هذا الموقف.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ سُنَّةُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
(4)
، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَفَاضَ مِنْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ - أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ)
(5)
.
وَهَذَا معروفٌ عند الحنابلة، لكنه قول ضعيف، وقول جمهور العلماء هو الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وأنه من وقت الزوال، ولا مانع أن يأتي الإنسان قبل الزوال، لكن لا ينبغي أن ينصرف، والوقوف
(1)
وهو المشهور عندهم، ويُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 494)، حيث قال:" (ووقت الوقوف: من طلوع الفجر يوم عرفة)؛ لحديث عروة بن مضرس. . . ".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 273).
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
أخرجه أبو داود (1950)، عن عروة بن مضرس الطائي، قال: أتيت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع، قلت: جئت يا رسول اللَّه من جبل طيئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، واللَّه ما تركت من حبلٍ إلا وقفت عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أدرَك معَنا هذه الصَّلاة، وأتى عَرَفات فبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه، وقَضَى تفثه"، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1704).
(4)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 276)، حيث قال. "وأجمعوا أنَّ مَنْ وقف بها يوم عرفة قبل الزوال، وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتدُّ بها، وإن لم يرجع فيقف (بعده) أو في ليلته تلك قبل الفجر: فقَدْ فاته الحج".
(5)
تقدَّم مذهب الحنابلة، وهم يُصحِّحون الوقوف قبل الزوال.
المشروع الصحيح الذي نقتدي فيه برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو من بعد الزوال إلى غروب الشمس.
* قوله: (وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، فَيَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ يَقِفْ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ)
(1)
.
فلو قدر أن إنسانًا وقف بعرفة قبل الغروب بدقائق، فَهو لا يَخْلو من واحدٍ من أمرين: إما أن يعود فيقف إلى الغروب، وهذا لا شيء عليه، وإما أن يستمرَّ في خروجه متجهًا إلى المزدلفة، ويكون قَدْ ترك واجبًا، فيلزمه دمٌ
(2)
، وَعَلينا أن نستنَّ بسُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولنقتدي بمنسكه الذي قال:"خُذُوا عنِّي مَنَاسككم"
(3)
، أما أصحاب الأعذار، فَهَؤُلَاء مَعْذورون.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ الدِّيلِيِّ).
والصَّحيح أنه: يعمر.
* قوله: (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ"، وَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ)
(4)
.
ليس معنى أنه مُجْمعٌ عليه أنه في "الصحيحين"، بل إنه مجمع على صحته، فهو حديث صحيح؛ ولذلك أخذ به العلماء، وأجمعوا على هذا الأمر.
(1)
تقدَّم خلاف الحنابلة في ذلك.
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
تقدَّم.
(4)
أخرجه الترمذي (2975)، عن عبد الرحمن بن يعمر، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفات، الحجٍ عرفات، الحج عرفات، أيام منى ثلاث {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، ومن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك الحج"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(2714).
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الفَجْرِ).
هذا فيه تشبيهٌ، ولكن الصحيح أنه ليس عليه حجٌّ قابلٌ، وإنما هو مخيرٌ بين أمرين: إما أن يرجع ولا شيءَ عليه، وإمَّا أن يذبح كبشًا، وهناك شروطٌ معروفةٌ في الذبيحة.
* قوله: (وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ الإِمَامِ، وَبَعْدَ الغَيْبُوبَةِ، أَجْزَأَهُ
(2)
، وَبِالجُمْلَةِ: فَشَرْطُ صِحَّةِ الوُقُوفِ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يَقِفَ لَيْلًا. وَقَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَحَجُّهُ تَامٌّ، وِإنْ دَفَعَ قَبْلَ الغُرُوبِ
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 37)، حيث قال:" (قوله: وأما الوقوف نهارًا، فواجبٌ ينجبر بالدم)؛ أي: تركه عمدًا لغير عذرٍ لا إن كان الترك لعذرٍ، كما لو كان مراهقًا فلا دم. وما ذَكَره من أن الوقوف نهارًا واجب ينجبر بالدم بخلاف الوقوف ساعة بعد الغروب، فركن، لا يَنْجبر بالدم، هو مذهب مالك، وهو خلاف ما عليه الجمهور. قال ابن عبد السلام: والحاصل أن زمنَ الوُقُوف موسعٌ، وآخره طلوع الفجر. واختلفوا في مبدئِهِ، فالجمهور أن مبدَأه من صلاة الظهر، ومالك يَقُولُ من الغروب، ووافق الجمهور اللخمي، وابن العربي، ومال إليه ابن عبد البَر". ويُنظر: "الاستذكار"(4/ 81).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (4/ 81)، حيث قال:"فقال مالكٌ: إن دفع منها قبل أن تغيب الشمس، فعليه الحج قابلًا، وإن دفع منها بعد غروب الشمس قبل الإمام، فلا شيء عليه، وعند مالك: أنَّ مَنْ دفع من عرفة قبل غروب الشمس، ثم عاد إليها قبل الفجر، أنه لا دَمَ عليه".
وينظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 37)، حيث قال:"وأما الوقوف نهارًا، فواجب ينجبر بالدم، ويدخل وقته بالزوال، ويكفي فيه أي جزءٍ منه، هذا إذا استقر بعرفة، بل (ولو مر)؛ أي: كان مارًّا بشرطين، أفاد الأول بقوله: (إن نواه)، وأفاد الثاني بمفهوم قوله الآتي: "لا الجاهل"، فكأنه قال: إن نوى الوقوف وعلم بأن المارَّ عليه هو عرفة، ولكن عليه دم، فالاستقرار مطمئنًا واجب".
إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ
(1)
، وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ، وَهُوَ حَدِيث مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم
(2)
ما ترك جبلًا إلا وقد مرَّ به مع ما عندهم من نقصٍ في المال، ونقصٍ في الركب، وما يجدونه من عناءٍ ومشقةٍ، واللَّه سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر، وعندما فرض علينا هذه العبادات وغيرها لم يشق علينا، وإنما ليعلم المحسن من المسيء، والمطيع من غير المطيع:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فلنتسابق إلى جنات عدن، فإنها منازلنا الأولى، وَفيها المُخيَّم، هذه الأمَاكن التي يُمْكن أن يَتنَافس فيها المتنافسون، ويتسابق المتسابقون، ويسارعون إلى مغفرةٍ من ربِّهم، هذه الأماكن التي ينبغي أن يقدم المسلم
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 37)، حيث قال:" (ومَنْ وقف بعرفة ساعةً من الزوال إلى فجر النحر، فقد تمَّ حجُّه ولو جاهلًا أو نائمًا أو مغمًى عليه)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام "وقف بعد الزوال"، وهذا بيان أول الوقت، وقال: "مَنْ أدرَك عرفة بلَيْلٍ، فقَدْ أدرك الحجَّ، ومن فَاتَه عرفة بلَيْلٍ، فقد فاته الحج"، وهذا بيان آخر الوقت، ولم يفصل بين أن يكون عالمًا بعرفة أو لم يكن، فيُشْترط فيه الحصول فقط".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 111)، حيث قال:" (فلو) (وقف نهارًا، ثم فارق عرفة قبل الغروب ولم يعد) إليها قبل فجر النحر، أو ليلًا فقط (أراق دمًا)، وهو دم الترتيب والتقدير (استحبابًا)؛ لخبر: "فقد تم حجه"، ولو وجب الدم لنقص حجه، واحتاج للجبر (وفي قول يجب)؛ لأنه ترك نسكًا (وإن عاد فكان بها عند الغروب فلا دم)؛ لأنه جمع بين الليل والنهار (وكذا إن عاد ليلًا في الأصح) ".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 521)، حيث قال في واجبات الحج:" (والوقوف بعرفة إلى الليل) على مَنْ وقف نهارًا. . . (ومن ترك واجبًا) لحجٍّ أو عمرةٍ (ولو سهوًا، فعليه دمٌ) ".
(2)
لعله يقصد: عروة بن مضرس.
فيها ذوب قلبه وفؤاده، ويُقْبل على اللَّه سبحانه وتعالى معرضًا عن كل ما سواه، هذه هي المواضع التي فيها التجارة التي لا يخسر مَنْ يقدم صفقة فيها، أليس اللَّه سبحانه وتعالى قال في شأن المجاهدين:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111]، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].
* قوله: (قَالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بجَمْعٍ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا، وَوَقَفَ هَذَا المَوْقِفَ حَتَّى نُفِيضَ (أَوْ أَفَاضَ) قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ"
(1)
، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الحَدِيثِ نَهَارًا أَنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ)
(2)
.
وليست قضية إجماع؛ لأنها غير مسلم بها، فَهي رواية الحنابلة، لكن نحن نقول: هذا هو القول الصحيح الذي تَلْتقي حوله الأدلة، فَلَك أن تأتي من بعد الفجر، لَكن القصد ألا تنصرف؛ لأنك لو انصرفتَ قبل الزوال، فأكثر العلماء يَرَون أنَّ حجَّك غير صحيحٍ، لكن لو حصل انصرافٌ بعد الزوال، فإنه يلزمك دمٌ، ويبقى الخلاف على الرواية في مذهب مالك، رحم اللَّه الجميع
(3)
.
* قوله: (وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّيْلَ، احْتَجَّ بِوُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَرَبَتِ
(1)
تقدَّم قريبًا.
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 276)، حيث قال:"وأجمعوا أن مَنْ وقف بها يوم عرفة قبل الزوال، وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بها، وإن لم يرجع فيقف (بعده) أو في ليلته تلك قبل الفجر، فقد فاته الحج"، وتقدَّم مذهب أحمد في ذلك.
(3)
تقدَّم.
الشَّمْسُ
(1)
، لَكِنْ لِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ وُقُوفَهُ بِعَرَفَةَ إِلَى المَغِيبِ قَدْ نَبَّأَ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الأَفْضَلِ؛ إِذْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ:"عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَمَبِيتٌ").
هَذَا الحديث سيعلق المؤلف عليه.
* قوله: (عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ).
وَهَذا جاء في "صحيح مسلم"
(2)
: "وَارْتَفعوا عن بطن عُرَنة"، هذا صحيح، لكن ليس في "صحيح مسلم"
(3)
.
* قوله: (وَالمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ).
وهذا الذي في "صحيح مسلم".
* قوله: (إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ).
وهذا جاء من حديث جبير بن مطعم، وغيره
(4)
، وهو صحيح، لكن ليس في "صحيح مسلم".
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه مسلم (1218)، عن جابرٍ في حديثه ذلك أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا، وجمع كلها موقف".
(3)
سيأتي.
(4)
أخرجه ابن ماجه (3012)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل عَرَفة موقفٌ، وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف، وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منًى منحر إلا ما وراء العقبة"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(4006).
* قوله: (مِنًى كلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَمَبِيتٌ"
(1)
.
فالأصل أن الإنسانَ ينحر هديه بمنًى، وله أن ينحره بمكة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن منًى كلها منحر.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ بِعُرَنَةَ، فَقِيلَ: حَجُّهُ تَامٌّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ)
(2)
.
وهذا قولٌ ضعَّفه العُلَماء، وَجَماهيرُ العلماء يَرَون أن حَجَّه لم يصح؛ لأنه لم يقف بعَرَفة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"وَارْفَعوا عن بَطْن عُرَنة"
(3)
، وحتى وإن جاء هذا عن الإمام مالكٍ، فلنتجنب ذلك؛ لأن مالكًا يَقُول بصحة حجِّه، وغيره يقول بأن حجه قد فسد.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا حَجَّ لَهُ).
(1)
أخرجه أحمد (27/ 316)، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ عَرَفات موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنة، وكل مُزْدلفة موقف، وَارْفَعوا عن محسر، وكل فجاج منًى منحر، وكل أيام التَّشريق ذبح"، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(1534).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 38)، حيث قال:"فليست عُرَنة بالنون من عرفة، بل ولا من الحرم (وأجزأ) الوقوف (بمسجدها)؛ أي: عرنة بالنون؛ لأنه من عرفة بالفاء، ونسب لذات النون؛ لأنه لو سقط حائطه القلبي الذي من جهة مكة لسقط في عرنة بالنون".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 275).
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (3/ 298)، حيث قال:" (وواجب الوقوف) بعرفة (حضوره)؛ أي: المحرم أدنى لحظة بعد زوال يوم عرفة (بجزء من أرض عرفات)؛ لخبر: "وَقَفْتُ ههنا، وَعرفة كلُّها موقفٌ"، رَوَاه مسلمٌ، وحُدُود عرفة معروفةٌ، وليس منها نمرةٌ، ولا عرنة".
قاله الشافعي، وأحمد
(1)
وجماهير العلماء
(2)
.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَبْطَلَ الحَجَّ: النَّهْيُ الوَارِدُ عَنْ ذَلِكَ فِي الحَدِيثِ، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُبْطِلْهُ أَنَّ الأَصْلَ أَنَّ الوُقُوفَ بِكُلِّ عَرَفَةَ جَائِزٌ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَالُوا: وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ تَلْزَمُ بِهِ الحُجَّةُ وَالخُرُوجُ عَنِ الأَصْلِ).
بل الصحيح أنه جاء من طرقٍ متعددةٍ صحيحةٍ تلزم به الحجة، وليس كما قال المؤلف.
وحديث: "وارفعوا عن بطن عرنة"
(3)
قد صح، وإذا صح الحديث، فيجب الأخذ به، وهذا هو منهج الأئمة بما فيهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد.
* قوله: (فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي السُّنَنِ الَّتِي فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الفِعْلُ الَّذِي يَلِي الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مِنْ أَفْعَالِ الحَجِّ، فَهُوَ النُّهُوضُ إِلَى المُزْدَلِفَةِ بَعْدَ غَيْبَةِ الشَّمْسِ، وَمَا يُفْعَلُ بِهَا، فَلْنَقُلْ فِيهِ).
وعندما نقف في عَرَفات، ونرى الجمع الغفير، ينبغي أن نتذكر المحشر، لنتذكر أننا غدًا سنُعْرض بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِ نْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 18]، وأنَّ الناس يُعْرضون في ذلك اليوم حفاةً
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 498)، حيث قال:" (ثمَّ يأتي موقف عرفة ويغتسل له)؛ أي: للوقوف استحبابًا؛ لفعل ابن مسعود، ويُرْوى عن عليٍّ، وتقدَّم، (وكلها)، أي: عرفة (موقف إلا بطن عرنة، فإنه لا يُجْزئه الوقوف به)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقف بعرنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة"، رواه ابن ماجه".
(2)
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 508)، حيث قال:" (قوله: أو ببطن عرنة)؛ أي: الذي قرب عرفات كما مرَّ (قوله: لم يجز)؛ أي: لم يصح الأوَّل عن وقوف مزدلفة الواجب، ولا الثاني عن وقوف عرفات الركن (قوله: على المشهور)؛ أي: خلافًا لما في "البدائع" من جَوَازه فيهما".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 275).
(3)
تقدَّم.
عراةً غرلًا، وأن كل إنسان سيُسْأل عمَّا قدم؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]، واللَّه تعالى لا يظلم أحدًا:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة، فإنه لا يخفى على اللَّه سبحانه وتعالى، وقَدْ يخفي أحدنا أعماله عن أعين الناس؛ لأنهم سيُنْكرون فعلَه، لكنه إذا خلا بنفسه إن كان صائمًا وشرب، فالمُطَّلع عليه إنما هو اللَّه سبحانه وتعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]، فينبغي علينا أن نمسح تلك الأُمور التي سجلت بصحائفنا لنُبيِّضها، وأن نعود كما ولدتنا أمهاتنا، هذه فرصة لا يَنْبغي أَنْ تضيع.
[القَوْلُ فِي أَفْعَالِ المُزْدَلِفَةِ]
قلنا سابقًا: إن هذا الجمع الغفير للناس والاجتماع في هذا المكان يذكرنا باجتماع كل الخلق يوم القيامة عندما يحشر اللَّه سبحانه وتعالى الناس.
ولننظر إلى سبب اجتماع الناس في هذا المكان، وما الذي يجمعهم جميعًا؟
بل ما الذي يجمعنا الآن في هذه الحلقة، وفي هذا المسجد الكبير العظيم؟
أليس الذي يجمعنا: هو عبادة اللَّه سبحانه وتعالى؟!
إذن؛ هناك رباط وثيق يربط بيننا؛ وهذا الرباط: هو الإسلام.
وما أحسن قول القائل
(1)
:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا ما افتخروا بقيس أو تميم
(1)
هو نهار بن توسعة، من بكر بن وائل (ت 83 هـ). انظر:"الشعر والشعراء"، لابن قتيبة (3/ 132)، وغيره.
وقال اللَّه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
فهذا هو الذي يجمع بيننا، وهو الذي جاء بالمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، من أمريكا، ومن أوروبا، ومن أقصى إفريقيا، ومن أواسطها، ومن آسيا، ومن كل جزء في هذه الدنيا إلى هذه الأماكن، والتقوا جميعًا على طاعة اللَّه سبحانه وتعالى.
فينبغي أن يكون تفرقنا أيضًا على طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، وينبغي أن تتفرق أجسامنا وتبقى قلوبنا متصلة؛ كما كان السلف الصالح رضي الله عنهم، ويأتي في مقدمة ذلك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَالقَوْلُ الجُمْلِيُّ أَيْضًا فِي هَذَا المَوْضِعِ).
يقصد المؤلف رحمه الله بـ (القول الجملي): القول المجمل.
* قوله: (يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي وَقْتِهِ؛ فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الفِعْلِ مِنْ أَرْكانِ الحَجِّ، فَالأَصْلُ فِيهِ).
نحن نعيش -بحمد اللَّه- في ذِكر اللَّه سبحانه وتعالى؛ منذ أن نلف الإزار على صدورنا، ونطرح الرداء على أكتافنا، ونغطي به بقية البدن؛ من بطن، وصدر، وظهر؛ فننتقل من طاعة إلى طاعة، ومن ذكر إلى ذكر.
فإننا نقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك"
(1)
؛ حيث نستمر نكرر هذه الكلمات.
وفي عرفات نردد أيضًا قول: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له"
(2)
. وقبل ذلك ونحن على الصفا، وعلى المروة أيضًا.
(1)
أخرجه البخاري (1549)، ومسلم (2781)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما: أن تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
(2)
أخرجه الترمذي (3585) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". قال الألباني: "حسن غريب" في "صحيح الترغيب"(2/ 226).
وعندما نقطع هذه التلبية نستبدلها بذكر اللَّه أيضًا؛ حيث نقول عند رمي كل جمرة: "اللَّه أكبر"
(1)
. . . وهكذا نستمر في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى فعلًا وقولًا وعملًا.
فعلينا أن نأخذ الدروس العظيمة من هذا، وأن نكرر هذا الذكر؛ فربما تكون فرصة العمر؛ فلا يدري أحدنا هل يعيش إلى قابل أو لا؟ وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. فالحياة والموت بيد اللَّه سبحانه وتعالى.
وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى أيضًا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].
كل واحد منا سيموت مهما طال أجله، ومهما امتدت به هذا الحياة فإنه حتمًا سيموت؛ لكن أحسننا:"من طال عمره، وحسن عمله"؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
(2)
، وإنما الأعمال بالخواتيم
(3)
؛ فلتكن أعمالنا دائمًا طيبة، وفي طاعة اللَّه سبحانه وتعالى حتى نختم بذلك أعمالنا؛ لأنه قد تهاجمنا المنية
(4)
.
وما أجمل أن يكون الإنسان في هذا الحج فهو به في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن الحج جهاد.
ودليل ذلك: ما جاء في الحديث أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما
(1)
أخرجه مسلم (2922)، من حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:"حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. . . ".
(2)
أخرجه الترمذي (2329) عن عبد اللَّه بن بسر: أن أعرابيًّا قال: يا رسول اللَّه من خير الناس؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله". وقال الألباني: "إسناده صحيح" في "السلسلة الصحيحة"(1836).
(3)
أخرجه البخاري (6493) عن سهل بن سعد الساعدي، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها".
(4)
المنية وهي: الموت. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (4/ 368).
سَألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة"
(1)
.
فالحج جهاد؛ فأنت تجاهد نفسك وتلزمها هذه الطاعة، لا لأجل أحد من الخلق؛ وإنما استجابة لدعوة اللَّه سبحانه وتعالى.
فقد أمرنا بذكره في قوله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
* قوله: (قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]).
بداية هذه الآية: هي كما قال اللَّه سبحانه وتعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 198، 199].
فحن نذكر اللَّه سبحانه وتعالى؛ فقد هيأ لنا الوقوف بعرفات، وجمعنا على محبته، على هذا الصعيد الطيب، ووفقنا أيضًا بأن أتم علينا هذا الوقوف، ويسر لنا سبحانه وتعالى أن نصل إلى هذا الجمع.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاتَ بِالمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ مَعَ الإِمَامِ، وَوَقَفَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى الإِسْفَارِ بَعْدَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2901)، وصحح إسناده الألباني في "الإرواء"(981).
وأخرجه البخاري (2876) عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: سأله نساؤه عن الجهاد، فقال:"نِعْمَ الجهاد الحج".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 39)، قال: "قد أجمعوا على أن من وقف بالمزدلفة ليلًا، ودفع منها قبل الصبح أن حجه تام، وكذلك من بات بها ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام.
نعلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توقف بعد خروجه مفيضًا إلى المزدلفة، وأنه صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من عرفات كانت الشمس قد غربت
(1)
.
ونعلم أيضًا: أن دخول وقت المغرب إنما يبدأ بعد غروب الشمس
(2)
؛ فإذا غربت الشمس فهذه هي بداية صلاة المغرب.
ومع ذلك نرى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سار بسكينة، وكان يحض الناس على ذلك؛ فيقول:"أيها الناس، عليكم السكينة! "
(3)
.
فهذا هو قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والذي هو أسوتنا وقدوتنا، والذي يجب أن تكون أعمالنا على وقق منهجه صلى الله عليه وسلم؛ امتثالًا لأمر اللَّه سبحانه وتعالى؛ حيث قال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].
ثم وصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة، والمزدلفة
(4)
: تُسمَّى أيضًا بالمشعر الحرام، وهي المقر الثاني، أو المشعر الثاني من أعمال الحج؛ فالحاج يبدأ بعرفات، ثم بعد ذلك يحث رحله إلى المزدلفة أو المشعر
(1)
قال أبو عمر: "أجمع العلماء أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة في حجته بعدما غربت الشمس يوم عرفة أخَّر صلاة المغرب ذلك الوقت فلم يصلها حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، جمع بينهما بعدما غاب الشفق". انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 150).
(2)
أخرجه البخاري (560)، ومسلم (1404)، من حديث جابر بن عبد اللَّه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت. . . ".
(3)
أخرجه البخاري (1671)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال:"أيها الناس، عليكم بالسكينة؟ فإن البر ليس بالإيضاع".
(4)
المزدلفة: هي جمع، تُسمَّى بهما جميعًا، وهي علم على البقعة لا يدخلها ألف ولام إلا لمحًا للصفة في الأصل كدخولها في الحسن، وسُمِّيت مزدلفة لازدلاف الناس فيها إلى عرفة بعد الإقامة، والازدلاف الاقتراب. انظر:"تفسير غريب ما في الصحيحين"، للحميدي (ص 385)، "تهذيب اللغة"، للأزهري (1/ 267)، "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 254).
الحرام أو جمع؛ فكل هذه الأسماء الثلاثة: تطلق على مكان واحد.
ولما وصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليها صلى بالناس صلاة المغرب، وبعد أن فرغ حط الناس رحالهم
(1)
؛ أي: أنزلوا ما على رحالهم
(2)
، ونعلم أن الرحال في ذلك الوقت إنما كانت الإبل والجمال، ولم يكن يوجد شيء مما يسره اللَّه سبحانه وتعالى لنا الآن من سيارات وقاطرات - ثم صلى بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء
(3)
.
وقد جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين بين المغرب والعشاء جمع تأخير
(4)
.
ونعلم أن صلاة المغرب لا تقصر، وكذلك صلاة الفجر
(5)
، إنما الصلوات الذي تقصر هي صلاة العشاء، وكذلك صلاتي الظهر والعصر
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (1669)، ومسلم (3080) عن أسامة بن زيد: كيف صنعتم حين ردفت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب، فأناخ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ناقته وبال -وما قال: أهراق الماء- ثم دعا بالوضوء، فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ، فقلت: يا رسول اللَّه، الصلاة، فقال:"الصلاة أمامك"؛ فركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة، فصلى، ثم حلوا، قلت: فكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس، وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي.
(2)
الرحل: ما يوضع على البعير للركوب والجمع رحال. انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (29/ 55).
(3)
الحديث السابق.
(4)
أخرجه البخاري (1673)، ومسلم (3092) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما".
(5)
يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 379)، قال:"وأجمعوا على ألا تقصر في صلاة المغرب وصلاة الصبح".
(6)
يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 379)، قال:"أجمع أهل العلم على أن لمن سافر سفرًا يقصر في مثله الصلاة، وكان سفره في حج أو عمرة أو جهاد أن يقصر الظهر والعصر والعشاء، فيصلي كل واحد منها ركعتين ركعتين".
ثم بعد ذلك بات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
، وليس ذلك المبيت شرطًا؛ فلو قضى إنسان ليلته في ذكر اللَّه سبحانه وتعالى وفيما ينفع؛ فإنه بذلك لم يقع في مخالفة.
لكن الأولى -والحاج في عبادة تلو عبادة- ينبغي أن يجلس وينام؛ حتى يقوى على القيام مبكرًا؛ ليصلي صلاة الفجر في أول وقتها في ذلك الموضع من المزدلفة كما هو المشروع.
وقد اختلف العلماء في المفاضلة بين صلاة الفجر لغلس -يعني: لظلمة-، أو يسفر بها؟
(2)
.
ولا شك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الفجر في عموم الأحوال بغلس
(3)
؛
(1)
أخرجه مسلم (2922)، عن جابر قال:"حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر. . . ".
(2)
لمذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 260)، قال:"قوله: وندب تأخير الفجر). . . أطلقه فشمل الابتداء والانتهاء، فيستحب البداءة بالإسفار والختم به. . . وقالوا: يسفر بها بحيث لو ظهر فساد صلاته يمكنه أن يعيدها في الوقت بقراءة مستحبة. وقيل: يؤخرها جدًّا؛ لأن الفساد موهوم فلا يترك المستحب لأجله، وهو ظاهر إطلاق الكتاب، لكن لا يؤخرها بحيث يقع الشك في طلوع الشمس. . . ولا يخفى أن الحاج بمزدلفة لا يؤخرها. . . ".
لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (1/ 127)، قال:" (وأفضل الوقت أوله مطلقًا، إلا الظهر لجماعة فلربع القامة، ويزاد لشدة الحر لنصفها)؛ أي: إن أفضل الوقت مطلقًا لظهر أو غيرها -لفذ أو جماعة- أوله".
لمذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين"، للنووي (21)، قال:"ويسن تعجيل الصلاة لأول الوقت".
لمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي، (1/ 143 - 144)، قال:". . . (وتعجيلها)؛ أي: الفجر (مطلقًا)؛ أي: صيفًا وشتاء (أفضل)؛ قال ابن عبد البر: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم: أنهم كانوا يغسلون بالفجر، ومحال أن يتركوا الأفضل وهم النهاية في إتيان الفضائل".
(3)
الغَلَسُ: ظَلامُ آخر اللَّيل. انظر: "العين"، للخليل (4/ 378).
أي: بظلمة
(1)
، وأسفر
(2)
بها أيضًا كذلك
(3)
.
لكن كان آخر الأمرين من حال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو التغليس بها؛ كما جاء في الحديث
(4)
.
أما في المشعر الحرام هنا: فينبغي المبادرة بصلاة الفجر في أول وقتها
(5)
.
فإذا ما صلى الناس صلاة الصبح جلسوا حتى وقت الإسفار، فإذا ما أسفر الجو جدًّا وبان النور وأصبح الإنسان يرى ما أمامه وما خلفه وما عن يمينه وما عن يساره - فحينئذٍ ينطلقون متجهين إلى منى، وهي التي يقيم فيها الحجاج أكثر مدة إقامتهم.
(1)
أخرجه البخاري (560)، ومسلم (1404) عن جابر بن عبد اللَّه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانًا وأحيانًا، إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر، والصبح كانوا، أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس".
(2)
الإسفار: فهما إسفاران:
أحدهما: أن ينير خيط الصبح وينتشر بياضه في الأفق حتى لا يشك من رآه أنه الصبح الصادق.
والإسفار الثاني: أن ينجاب الظلام كله ويظهر الشخوص. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، للأزهري (ص 52).
(3)
أخرجه أبو داود (394) عن أبي مسعود الأنصاري، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "نزل جبريل عليه السلام فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه. . . " ثم قال: وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أُخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر.
قال الألباني: "إسناده حسن، وهو على شرط مسلم". انظر: "صحيح أبي داود"(418).
(4)
الحديث السابق، وفيه:"ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر".
(5)
أخرجه أبو داود (1934) عن ابن مسعود، قال:"ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها، إلا بجمع؛ فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها". قال الألباني: "إسناده صحيح على شرط البخاري". انظر: "صحيح أبي داود"(1690).
ويشرع أيضًا كذلك الوقوف عند المشعر الحرام؛ وذلك لأن اللَّه سبحانه وتعالى قال في الآية الكريمة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} يعني: إثمًا.
وقد مر بنا -في تفسير الجناح-: أنه كان من المسلمين من تحرج من الطواف بين الصفا والمروة، يوم أن كان يوجد بها صنم؛ فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
فقوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} يعني: ألا يطوف بهما
(1)
.
وبخصوص قوله سبحانه وتعالى هنا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} : فقد فهم البعض منه
(2)
: أنه لا تقام أسواق، ولا تحصل هناك تجارة، ولا نحو ذلك؛ فبين اللَّه سبحانه وتعالى أن هذا الموسم وإن كان القصد منه العبادة، لكن ليس هناك ما يمنع من البيع والشراء وتبادل هذه الأمور؟ فأنزل عز وجل هذه الآية:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى عن صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10].
(1)
نَفَت عائشة رضي الله عنها هذا التفسير، أخرج البخاريُّ (1643): قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، فواللَّه ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار. . . ".
(2)
أخرج البخاري (1770) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان ذو المجاز، وعكاظ، متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج".
فقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ؛ يعني: خرجتم منها -فالإفاضة: هي الانتقال-، واتجهتم إلى المزدلفة فينبغي أن تكونوا كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} .
ومعنى ذلك: أي: اذكروه اللَّه سبحانه وتعالى؛ فهو الذي هدانا فجعلنا مسلمين، وهذه نعمة عظيمة؛ بل هي أعظم نعمة على الإطلاق؛ فينبغي أن يرفع المسلم بها رأسه، وأن يمد بها صوته فيسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يختم له بصالح الأعمال.
فنعمة الهداية للإسلام لا تفوقها نعمة قط.
وإذا دخل المسلم الجنة فإنه يرى أنه لا سعادة بعد سعادته بدخولها؛ فتعقبها سعادة أعظم؛ وهي النظر إلى وجه اللَّه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].
وقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ؛ أي: للقيام بهذه المناسك؛ فهو عز وجل الذي هدانا إلى معرفة هذه المناسك، وهو الذي أرشدنا إليها، وهو الذي وفقنا للوصول إلى هذه الأماكن الطاهرة، وهو سبحانه وتعالى الذي سيوفقنا بإذنه ومشيئته إلى أن نتم هذه المناسك براحة وطمأنينة وخشوع وذل واستسلام للَّه سبحانه وتعالى.
فينبغي أن تكون أعمالنا كلها على وَفق أعمال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأعمال أصحابه الكرام، والسابقين من هذه الأمة.
وينبغي أن نكون مخلصين على مدار هذا النسك العظيم حتى نظفر
(1)
بخيري الدنيا والآخرة؛ فنعود إلى أوطاننا بتجارة لن تبور، فهذا هو المكسب، وهذه هي السعادة.
ولنحذر كل الحذر من الرياء أو التباهي بالحج أو بالعمرة! فبعض
(1)
الظفر: الفلج والفوز بالشيء. انظر: "مقاييس اللغة"، لابن فارس (3/ 466).
الناس لما يرجع لبلده، يكتب على دكانه: الحاج فلان! يتفاخر بذلك ويتباهى بأنه حج!
فهذا مما لا ينبغي؛ بل ينبغي أن نشكر اللَّه سبحانه وتعالى، ولا نفتخر بأعمالنا؛ فإن الافتخار بها نوع من الرياء.
فالواجب منا إذا عملنا عملًا: أن نخلص فيه لوجه اللَّه سبحانه وتعالى، ولا نطلب الجزاء عليه إلا منه، ولا نسأل المغفرة إلا منه سبحانه وتعالى، ولا نطلب التوبة إلا منه عز وجل.
ونحن نرى أن اللَّه سبحانه وتعالى ندما يمتن علينا بنعمة من النعم العظيمة يذكرنا بالتوبة والاستغفار؛ فهاهو يقول في هذه الآية الكريمة: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 198، 199].
فالمسلم مهما قام به من أعمال، ومهما أحسن فيها صنعًا، ومهما أتبع النوافل بالنوافل والطاعات بالطاعات - فلن يصل إلى مُدٍّ مما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا إلى معشاره، مع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ كما قال اللَّه عز وجل:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]؛ ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل يصلي؛ كما جاء في الحديث: فقيل له: يا رسول اللَّه، أليس اللَّه قد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ فيقول:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"
(1)
.
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول: إذا كان اللَّه سبحانه وتعالى قد غفر لي، وجعلني خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل أمتي أفضل الأمم جميعًا، وجعلني صاحب الحوض المورود، وصاحب الشهادة للأمة؛ أفلا أشكر اللَّه سبحانه وتعالى على هذا النعيم، وعلى هذا الفضل العظيم، وعلى هذا الجزاء الكبير؟! والشكر يأتي عن طريق هذه العبادة وهي قيام الليل التي يظهر فيها الخضوع والذل.
(1)
أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (7228).
وقد كان صلى الله عليه وسلم أسعد ما يكون بإطلاق وصف العبودية على نفسه؛ لذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في موضع الثناء عليه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]. ففي هذه المعجزة الخارقة للعادات التي كانت معروفة؟ يُسري
(1)
اللَّه سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ثم يعرج به إلى السماء.
وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ} ؛ أي: تنزه تعالى وتقدس.
وقوله سبحانه: {بِعَبْدِهِ} ؛ أي: بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم"، يعني: عيسى ابن مريم "إنما أنا عبد" فقير؛ "فقولوا: عبد اللَّه ورسوله"
(2)
.
فينبغي: أن ننزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المنزلة التى تليق به، وأن نحبه أكثر من أن نحب آباءنا وأبناءنا؛ بل وأنفسنا أيضًا.
فقد جاء في الحديث: أن عمر رضي الله عنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: واللَّه إنك لأحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر"، فقال عمر: واللَّه الآن إنك لأحب إليَّ من نفسي! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"
(3)
(4)
.
(1)
(أسرى)؛ أي: سار ليلًا، وبالألف لغة أهل الحجاز وجاء القرآن بهما جميع. انظر:"مختار الصحاح"، للرازي (ص 147).
(2)
أخرجه البخاري (3445).
(3)
أخرجه البخاري (6632).
(4)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (11/ 528)؛ حيث قال: "قال الداودي: وقوف عمر أول مرة واستثناؤه نفسه إنما اتفق حتى لا يبلغ ذلك منه فيحلف باللَّه كاذبًا؛ فلما قال له ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه فحلف. كذا قال.
وقال الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه.
قلت: فعلى هذا؛ فجواب عمر أولًا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال =
وهذا لعظيم حقه علينا، فبه هدانا اللَّه سبحانه وتعالى من الضلالة، وبه فتح اللَّه قلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وهو الذي سلك بنا طريق الرشاد، وأخذ بأيدينا إلى طريق النجاة طريق الجنة؛ والتي أعدها اللَّه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.
فهذه بعض الدروس المستفادة من أداء الحج، فلا ينبغي أن نفرط فيها.
نقول: فلا ينبغي بعد أن نرجع لبلادنا بعد أن وفقنا اللَّه سبحانه وتعالى وهيأ لنا أداء هذا النسك أن نرجع مفتخرين مباهين؛ فيقول الواحد: أنا أديت الحج! كلا؛ بل ينبغي أن يقول بدل ذلك: الحمد للَّه الذي وفقني لأداء هذه النسك، وأن أسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يجعلني من المقبولين، وأن يرفعني به درجات عليا عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم.
* قوله: (وَأَنَّ ذَلِكَ الصِّفَةُ الَّتِي فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاخْتَلَفُوا: هَلِ الوُقُوفُ بِهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَالمَبِيتُ بِهَا مَنْ سُنَنِ الحَجِّ؟ أَوْ مِنْ فُرُوضِهِ؟).
اختلف العلماء في المبيت بالمزدلفة
(1)
:
= أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأُخرى فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عمر". أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب".
(1)
لمذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 511)، قال:"قوله: (ثم وقف) هذا الوقوف واجب عندنا لا سنة، والبيتوتة بمزدلفة سنة مؤكدة إلى الفجر، لا واجبة".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (2/ 44)، قال:" (و) ندب (بياته بها)؛ أي: بمزدلفة، وأما النزول بقدر حط الرحال -وإن لم تحط بالفعل- فواجب يجبر بالدم؛ ولذا قال: (وإن لم ينزل) بقدر حط الرحال حتى طلع الفجر (فالدم) واجب عليه، إلا لعذر". =
فبعضهم يقول: إنه ركن
(1)
.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولًا: من القرآن:
قول اللَّه سبحانه وتعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ} [البقرة: 198].
وجه الاستدلال: هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
ثانيًا: من السُّنة:
حديث ابن مضرس؛ والذي بين فيه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك جبلًا إلا وقف عثده، وأنه مر بعرفة. . . إلى آخره، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من وقف معنا، وصلى صلاتنا هذه، وكان قد وقف من قبل بعرفات ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجه"
(2)
.
= ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 264)، قال:" (فصل) في المبيت بالمزدلفة، والدفع منها، وفيما يذكر معها (ويبيتون بمزدلفة) بعد دفعهم من عرفة؛ للاتباع. . . وهو واجب، وليس بركن على الأصح فيهما، خلافًا للرافعي في قوله: إنه مندوب".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 582)، قال:" (ثم يبيت بها)؛ أي: بمزدلفة وجوبًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم"، وليس بركن لحديث: "الحج عرفة" فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه؛ أي: جاء عرفة".
(1)
قال النووي في "المجموع"(8/ 150): "وقال خمسة من أئمة التابعين: هو ركن لا يصح الحج إلا به؛ كالوقوف بعرفات، هذا قول علقمة، والأسود، والشعبي، والنخعي، والحسن البصري، وبه قال من أصحابنا ابن بنت الشافعي، وأبو بكر ابن خزيمة".
(2)
أخرجه أبو داود (1950) عن عروة بن مضرس الطائي، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع قلت: جئت يا رسول اللَّه من جبل طيئ، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، واللَّه ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات، قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تفثه". قال الألباني: "إسناده صحيح". انظر: "صحيح أبي داود"(1704).
لكن من العلماء: من رأي أن المبيت بالمزدلفة واجب، وليس بركن
(1)
.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
قالوا: لأنه على القول بأنه ركن يعتبر حجُّ من لم يمر بها ولم يبت بها فاسدًا، مع أن هناك من العلماء من يقول: إن حجه سليم
(2)
.
ونحن نقول: خير الأُمور الوسط، والذي تدل عليه الأحاديث: أنه واجب، ومن تركه: جبره بذلك.
لكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رخص لأصحاب الأعذار كالنساء، والعجزة، والسقاة في عدم المبيت
(3)
.
فنرى الآن رجال الشرطة، وأصحاب المستشفيات الذي يقومون بخدمة الناس، كرجال الهلال الأحمر، ورجال الإطفاء، وغير ذلك؛ فهؤلاء جميعًا: أصحاب أعذار.
وذلك لأنهم يقيمون على خدمة المسلمين، وتهيئة الجو المناسب لهم؛ فمثل هؤلاء يعذرون.
لكن لو بات الإنسان إلى نصف الليل فهذا ليس عليه شيء، لكن الأولى والأحسن والأفضل اتباع سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يبيت بها مطمئنًّا، ثم يستيقظ، ويصلي الفجر، ثم يدعو اللَّه سبحانه وتعالى عند المشعر الحرام؛ وإلا فكل مزدلفة مشعر، ثم إذا أسفر ينطلق مفيضا إلى منى.
* قوله: (فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ
(4)
: هُوَ مِنْ
(1)
تقدَّم ذكر أقوالهم.
(2)
كالأحناف، والمالكية، وقد تقدَّم قولهم.
(3)
كما سيأتي ذكره وأدلته.
(4)
يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (9/ 272)، قال: "وقال علقمة وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري: من لم ينزل بالمزدلفة وفاته الوقوف بها فقد فاته الحج، ويجعلها عمرة. وهو قول عبد اللَّه بن الزبير، وبه قال الأوزاعي: إن الوقوف بالمزدلفة =
فُرُوضِ الحَجِّ، وَمَنْ فَاتَهُ، كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ، وَالهَدْيُ).
قصدهم بالفرض هنا: الركن؛ لا الواجب المعروف.
* قوله: (وَفُقَهَاءُ الأَمْصَارِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الحَجِّ، وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بِالمُزْدَلِفَةِ، وَالمَبِيتُ بِهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ)
(1)
.
هذا القول في الحقيقة هو الألطف والأرأف، وهو الذي فيه مراعاة لأحوال الحجاج، وأما قولهم: عليه دم؛ فإن الأدلة لا تؤيد هذا القول!
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ)
(2)
: إِنْ دَفَعَ مِنْهَا إِلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ وَلَمْ يُصَلِّ بِهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ).
= فرض واجب يفوت الحج بفواته. . . وروي عن حماد بن أبي سليمان أنه قال: من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، ثم يحج قابلًا".
(1)
لمذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 332)، قال:"وواجباته -أعني: التي يلزم بترك وأحد منها دم-: إنشاء الإحرام من الميقات، ومد الوقوف بعرفة إلى الغروب، والوقوف بالمزدلفة. . . ".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 57)، قال:" (ووجب نزوله بها)؛ أي: بالمزدلفة، بقدر حط الرحال، وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل فيها أو شرب، فإن لم ينزل فدم".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين"، للنووي (89)، قال:"ويبيتون بمزدلفة، ومن دفع منها بعد نصف الليل، أو قبله وعاد قبل الفجر فلا شيء عليه، ومن لم يكن بها في النصف الثاني أراق دمًا".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 417)، قال:" (ثم يبيت بها)؛ أي: بمزدلفة (وجوبًا لنصف ليل). . . (وفيه)؛ أي: الدفع من مزدلفة (قبله)؛ أي: نصف الليل (مطلقًا) سواء كان عالمًا بالحكم أو جاهلًا، عامدًا أو ناسيًا (على غير رعاة، و) غير (سقاة) زمزم (دم)؛ لتركه نسكًا واجبًا. . . ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 264)، قال:" (ومن دفع منها)؛ أي: من مزدلفة (بعد نصف الليل) ولم يعد (أو قبله) ولو لغير عذر (وعاد) إليها (قبل الفجر فلا شيء عليه)؛ أي: لا دم عليه. أما في الحالة الأولى، فلما في "الصحيحين" عن عائشة: أن سودة وأم سلمة. . . وأما في الثانية: فكما لو دفع من عرفة قبل الغروب، ثم عاد إليها قبل الفجر (ومن لم يكن بها في النصف الثاني) سواء أكان بها في النصف الأول أم لا (أراق دمًا) ".
يرى الحنابلة
(1)
: أنَّ له أنْ ينصرف بعد نصف الليل، ولا دم عليه.
فنحن نعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رخص لبعض الناس في ذلك
(2)
، ومن هنا أخذ بعض العلماء أنه -بعد أن يمضي نصف الليل- لا مانع من الانصراف.
لكن الأولى: أن يبقى؛ خروجًا من الخلاف.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُور: مَا صَحَّ عَنْهُ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ لَيْلًا؛ فَلَمْ يُشَاهِدُوا مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِهَا")
(3)
.
المراد من قوله: "ضعفة أهله": النساء، وابن عباس رضي الله عنهما، وأم سلمة رضي الله عنها؛ فقد ذهبت، ورمت، وطافت؛ وهذا كله واضح.
ورخص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيضًا للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
(4)
، وهو كما نعلم عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه كان القائم على سقاية الحجاج، وهو لا يأخذ منهم شيئًا مقابل ذلك؛ بل كانوا يرون في ذلك شرفًا عظيمًا بأن يقدموا للحجاج ذلك.
والآن نرى في وقتنا الحاضر هذا بحمد اللَّه سبحانه وتعالى: الدولة قد يسَّرت كل شيء للحجاج، من الخدمات التي تصل إلى الإنسان، في كل مكان، ونسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يثيب كل من قدم عملًا للإسلام في أيِّ مكان.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ
(5)
: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (11/ 582)، قال:" (وله)؛ أي: الحاج (الدفع) من مزدلفة (قبل الإمام بعد نصف الليل) لحديث ابن عباس: "كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى". متفق عليه. . . ".
(2)
كما سيأتي ذكرهم.
(3)
أخرجه البخاري (1678)، ومسلم (3105) عن ابن عباس يقول:"أنا ممن قدَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله".
(4)
أخرجه البخاري (1745)، ومسلم (3156) عن ابن عمر رضي الله عنه:"أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له".
(5)
أي: الذين قالوا: إنه ركن، وقد تقدم ذكرهم.
المُضَرِّسٍ وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ: "مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ"؛ يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ بِجَمْعٍ، "وَكَانَ قَدْ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ
(1)
"
(2)
).
سبق أن قلنا: إنه ليس قصد المؤلف رحمه الله بقوله: "وهو حديث متفق على صحته" أن الحديث في "الصحيحين"؛ لكن مراده أن العلماء اتفقوا على أنه حديث صحيح، وهذا يكفي.
* قوله: (وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]).
سبق أن بيَّنا أن الحاج يظل طول حجه في ذكر للَّه سبحانه وتعالى، فالمسلم منذ أن يلبس الإحرام -الإزار والرداء- وهو في ذكر اللَّه سبحانه وتعالى؛ في تهليل، وفي تسبيح، وفي تكبير، وفي قراءة للقرآن، وفي دعاء؛ فلا ينبغي للمسلم: أن ينفك عن ذلك؛ لأن الدعاء هو العبادة؛ كما جاء في الحديث
(3)
، فلو أخلص العبد فيه؛ فإنه بذلك ينال أجرًا عظيمًا.
* قوله: (وَمِنْ حُجَّةِ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: أَنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الأَخْذِ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الحَدِيثِ).
الزعم بأن المسلمين قد أجمعوا على ترك الأخذ بجميع ما في هذا الحديث - أمر غير مسلَّم؛ وذلك من وجهين:
الوجه الأول: هذا الحديث اشتمل على الوقوف بعرفة، وهو أمر
(1)
التفث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق الرأس والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن وأشباه ذلك. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 274).
(2)
أخرجه أبو داود (1950)، وصحح إسناده الألباني في "صحيح أبي داود"(1704).
(3)
أخرجه أبو داود (1479) عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء هو العبادة {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ". وقال الألباني: "إسناده صحيح" في "صحيح أبي داود"(1329).
متعين، وتشهد له الأحاديث الأُخرى؛ كالحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة"
(1)
.
الوجه الثاني: وأما الوقوف بالمزدلفة؛ فقد وقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها، وقال:"لتأخذوا عني مناسككم"
(2)
، وفي لفظ:"خذوا"
(3)
.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِالمُزْدَلِفَةِ لَيْلًا، وَدَفَعَ مِنْهَا إِلَى قَبْلِ الصُّبْحِ، أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ
(4)
").
نعم هذا قول أكثر العلماء
(5)
: أنه لو بات أكثر الليل فإن ذلك يكفيه.
(1)
أخرجه الترمذي (889) عن عبد الرحمن بن يعمر: أن ناسًا من أهل نجد أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا فنادى:"الحج عرفة. . . ". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(4/ 256).
(2)
أخرجه مسلم (3115)، عن جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: "لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
(3)
أخرجه النسائي (3085)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(4/ 271).
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 39)، قال:"وقد أجمعوا على أن من وقف بالمزدلفة ليلًا ودفع منها قبل الصبح أن حجه تام. . . ثم قال: الإجماع منعقد على أنه لو وقف بالمزدلفة أو بات فيها بعض الليل ولم يذكر اللَّه على أن حجه تام، فدل على أن الذكر بها مندوب إليه، وإذا لم يكن الذكر المنصوص عليه من إتمام الحج، فالمبيت والوقوف أحرى بذلك إن شاء اللَّه".
(5)
لمذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 368)، قال:"ولم يذكر البيتوتة بمزدلفة وهي سنة لا شيء عليه لو تركها، كما لو وفف بعدما أفاض الإمام قبل الشمس؛ لأن البيتوتة شرعت للتأهب للوقوف، ولم تشرع نسكًا".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (2/ 44)، قال:" (و) ندب (بياته بها)؛ أي: بمزدلفة، وأما النزول بقدر حط الرحال -وإن لم تحط بالفعل- فواجب يجبر بالدم، ولذا قال: (وإن لم ينزل) بقدر حط الرحال حتى طلع الفجر (فالدم) واجب عليه إلا لعذر".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 264)، قال: " (ويبيتون بمزدلفة) بعد دفعهم من عرفة. . . وهو واجب، ويكفي في المبيت بها الحصول بها لحظة؛ كالوقوف بعرفة، فيكفي المرور بها وإن لم يمكث، ووقته بعد =
وكذلك الحال بالنسبة للمبيت بمنى -كما سيأتي-، وإن كان المبيت بمنى أخف من المبيت بالمزدلفة؛ لأنه ما قال أحد من العلماء بأن المبيت بها ركن
(1)
، وإنما منهم من قال بأنه واجب
(2)
، ومنهم من قال بأنه سنة
(3)
.
* قوله: (وَكَذَلِكَ: مَنْ بَاتَ فِيهَا، وَنَامَ عَنِ الصلَاةِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا
(4)
عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِالمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يُضْعِفُ احْتِجَاجَهُمْ بِظَاهِرِ الآيَةِ).
مراد المؤلف رحمه الله بذلك: أن مجرد الوقوف بالمزدلفة -وإن لم يذكر الإنسان فيه ربه سبحانه وتعالى، أو حتى لو نام عن الصلاة فإن هذا يكفيه، ويكون حَجُّهُ تَامًّا، وهو بذلك يكون قد وقف بها، ولكن من فعل هذا يفوِّت على نفسه الثواب والفضل، والمسلم حريص على أن يجني ثمار هذا الموقف.
= نصف الليل، كما نص عليه في "الأم"، وإنما اشترط معظم الليل في مبيت منى لورود التعبير بالمبيت ثَمَّ بخلافه هنا. . . ".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 417)، قال:" (ثم يبيت بها)؛ أي: بمزدلفة (وجوبًا لنصف ليل) والأفضل أن يبقى بها إلى الصباح. . . وليس بركن لحديث: "الحج عرفة"، فمن جاء قبل ليلة جمع، فقد تم حجه؛ أي: جاء عرفة (وله)؛ أي: الحاج (الدفع منها)؛ أي: مزدلفة (قبل الإمام أو نائبه بعده)؛ أي: بعد نصف الليل".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (4/ 113)، قال:"وقيل: ركن، وعليه كثيرون، واختاره السبكي".
(2)
الشافعية والحنابلة، وتقدم النقل عنهما في الحاشية السابقة، وقال الهيتمي في "تحفة المحتاج" (4/ 113):"وقيل سنة،: ورجحه الرافعي".
(3)
الأحناف والمالكية، وتقدَّم النقل عنهما.
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (4/ 285)، قال:"وأما احتجاجهم بقول اللَّه عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، وقولهم: إن هذه الآية تدل على أن عرفات، والمزدلفة جميعًا من فروض الحج فليس بشيء؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لو وقف بالمزدلفة، أو بات فيها بعض الليل ولم يذكر اللَّه على أن حجه تام، فدل على أن الذكر بها مندوب إليه، وإذا لم يكن الذكر المنصوص عليه من أيام الحج فالمبيت والوقوف أحرى بذلك إن شاء اللَّه".
* قوله: (وَالمُزْدَلِفَةُ وَجَمْعٌ: هُمَا اسْمَانِ لِهَذَا المَوْضِعِ).
يعني: يقال لها: المزدلفة، ويقال لها أيضًا: جَمْع، ويقال لها أيضًا: المشعر الحرام.
* قوله: (وَسُنَّةُ الحَجِّ فِيهَا كَمَا قُلْنَا: أَنْ يَبِيتَ النَّاسُ بِهَا، وَيَجْمَعُوا بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ العِشَاءِ، وَيُغَلِّسُوا بِالصُّبْحِ فِيهَا).
إن علة الجمع بين المغرب والعشاء في أول وقت العشاء: أن ينام الناس ويرتاحوا، ويقوموا مبكرين لأداء صلاة الصبح، ثم يتفرغوا بعد ذلك لدعاء اللَّه سبحانه وتعالى وذكره عند المشعر الحرام؛ استجابة منهم لقوله عز وجل:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .
[القَوْلُ فِي رَمْيِ الجِمَارِ]
المؤلف رحمه الله قفز؛ فلم يبين لنا غير قوله سبحانه وتعالى: {. . . فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 198، 199].
فهناك إفاضة أُخرى من المزدلفة إلى عرفة، وهي في مكان يعرف بوادي محسِّر
(1)
.
ولما وصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن معه، إلى هذا الوادي حض المسلمين على الإسراع
(2)
، وقد اختلف العلماء في سبب ذلك على أقوال؟
(1)
وادي محسر -بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر السين المهملة المشددة، وراء-: موضع فاصل بين مزدلفة ومنى، وسمي به لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه. انظر:"مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 267).
(2)
أخرج مسلم (2922) عن جابر قال: ". . . فحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده من الشق =
القول الأول
(1)
: أن الوادي كان رقيقًا.
ونحن نعلم أنه عندما يكون المكان رمليًّا فإن الإنسان يشد على الدواب، بل حتى السيارات تحتاج أيضًا إلى سرعة حتى لا تتوقف وتتعطل في الرمال.
القول الثاني
(2)
: من العلماء من قال: بل إن السبب في ذلك أن هذا الوادي هو الذي عذب اللَّه سبحانه وتعالى فيه أصحاب الفيل، وهم الذين أرادوا هدم الكعبة وحمل حجارتها -كما هو معلوم-؛ وقد قال اللَّه عز وجل عن عذابهم:{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 3 - 5]؛ قالوا: فهذا موضع العذاب، والمسلم ينبغي إذا مر بمثل هذه الأماكن أن يسرع؛ كما جاء في الحديث الأمر بذلك أيضًا عند المرور ببلاد ثمود؛ فالإنسان المسلم لا يدخلها إلا باكيًا
(3)
؛ يعني: من خشية اللَّه سبحانه وتعالى لأن هؤلاء أقوام قد عذبهم اللَّه سبحانه وتعالى.
فالإنسان يأخذ الدرس من هذه المواقف؛ فلا ينبغي أن يكون في هذه الأماكن ضاحكًا أو مستهزئًا، لا يخاف من اللَّه سبحانه وتعالى، مغترًّا بأن اللَّه سبحانه وتعالى رؤوف رحيم!
= الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر يَنْظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلًا".
(1)
يُنظر: "عمدة القاري"، للعيني (10/ 16)، قال:"وقيل: سمي به؛ لأنه يحسر سالكه، ويتعبهم".
(2)
يُنظر: "شرح صحيح مسلم"، للنووي (8/ 190)، قال:"سمي بذلك؛ لأن فيل أصحاب الفيل حصر فيه. أي: أعيا فيه، وكلَّ".
وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 368)، "الشرح الكبير"، للدردير (2/ 45)، "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 267).
(3)
أخرجه البخاري (3381)، ومسلم (7573) عن عبد اللَّه بن عمر، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
فبعض الناس نسمعه يقول: اللَّه سبحانه وتعالى رؤوف رحيم، ويستقر هذا في قلبه؟
فنقول له: لكن لا يعني هذا أنك لا تخاف منه! بل لا تنسى أنه عز وجل شديد العقاب أيضًا.
وقد جمع اللَّه سبحانه وتعالى بين الأمرين في قوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 3].
فمردُّ الأُمور ومصيرها إلى اللَّه سبحانه وتعالى؛ فينبغي أن يكون سير المسلم، في خطين متوازيين بين الخوف وبين الرجاء، فلا يغلب الخوف فيضعف جانب الرجاء، ولا الرجاءَ فيتساهل في الخوف فيقع في الذنوب!
فعلى المسلم دائمًا أن يُحسن، ولا ييأس من رحمة اللَّه سبحانه وتعالى فقد قال عز وجل:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} [الحجر: 56].
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا الفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا، فَهُوَ رَمْيُ الجِمَارِ).
إذا ما انتهى الإنسان مما سبق فعليه أن يصل بعد ذلك إلى منى، وقد سميت منى بذلك لكثرة ما يمنى فيها من الدماء؛ أي: يسفك فيها من الدماء
(1)
.
لكن هذه الدماء التي تسفك وتُسال هنا إنما هي طاعة للَّه سبحانه وتعالى، وقربة إليه، وهي من أحب الأعمال إلى اللَّه عز وجل؛ كما جاء في الحديث:"ما من عمل أحب إلى اللَّه سبحانه وتعالى: من أن يسفك المسلم فيه دمًا من الدماء المباحة"
(2)
.
(1)
قال الأزهري: "منى -مقصور-: موضع معروف بمكة، سُمِّيت منى لما يمنى بها من الدم؛ أي: يراق. يعني دماء النسك". انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (15/ 381)، و"المطلع"، للبعلي (27).
(2)
أخرجه الترمذي (1493)، لكن بلفظ مختلف، عن عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى اللَّه من إهراق الدم، إنه ليأتي يوم =
فالتقرب إلى اللَّه تعالى بهذه الدماء هو من أجَلِّ القربات.
ولو أن إنسانًا ذبح كبشًا، يتقرب به إلى غير اللَّه سبحانه وتعالى لَكَفر بذلك.
ونعلم قصة الذين قالوا للرجل: "قرِّب ولو ذبابة؟ "
(1)
ونتيجة ذلك!
فلنحذر أن نقع في أمر من هذه الأُمور المحرمة؛ فنجد أحدهم يتوسل بالولي فلان! أو بالبدوي أو الرفاعي أو غير هؤلاء!
نقول: ليس في هذه الدنيا إلا رب واحد؛ وهو اللَّه سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم؛ كما قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
فاللَّه سبحانه وتعالى قيوم السموات والأرض، وهو كما قال عنه نفسه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
وقبلك أيها المؤمن -كما جاء في الحديث-: "بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء"
(2)
.
= القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من اللَّه بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسًا". وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1/ 336).
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(17/ 538) عن سلمان، قال:"دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار في ذباب، مر رجلان على قوم قد عكفوا على صنم لهم وقالوا: لا يمر علينا اليوم أحد إلا قدم شيئًا، فقالوا لأحدهما: قدم شيئًا، فأبى فقتل، وقالوا: للآخر: قدم شيئًا، قال: ليس عندي شيء، فقالوا: قدم ولو ذبابًا، فقال: وأيش ذباب، فقدم ذبابًا فدخل النار، فقال سلمان: فهذا دخل الجنة في ذباب، ودخل هذا النار في ذباب". قال الألباني: "فالحديث صحيح موقوفًا على سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ إلا أنه يظهر لي أنه من الإسرائيليات التي كان تلقاها عن أسياده حينما كان نصرانيًّا". انظر: "السلسلة الضعيفة"(5829).
(2)
أخرجه مسلم (6844) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، يقول: إنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".
فلنحذر غضب اللَّه سبحانه وتعالى، ولنقبل عليه بقلوب خاشعة، ذليلة، مستسلمة، مستكينة لقضاء اللَّه سبحانه وتعالى، ولنكن كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4].
فقوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني: يرفعهم اللَّه سبحانه وتعالى درجات في الجنة، ويضاعف لهم الحسنات، ويكفر أيضًا عنهم ذنوبهم وسيئاتهم.
وقوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني: في هذه الدنيا، وسعادة ونجاة في الآخرة.
فلنحرص كل الحرص ألا نضيع أوقاتنا فيما يغضب اللَّه سبحانه وتعالى، وكثير منا قد لاح الشيب بعارضيه! فينبغي أن نخشى اللَّه سبحانه وتعالى، فقد مدح اللَّه عز وجل من يخشاه بقوله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
وقال سبحانه وتعالى في حق عباده المؤمنين أيضًا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 173، 174].
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "وَقَفَ بِالمَشْعَرِ الحَرَامِ (وَهِيَ المُزْدَلِفَةُ) بَعْدَمَا صَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى مِنًى
(1)
، وَأَنَّهُ فِي هَذَا اليَوْمِ (وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ) رَمَى
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 57)، قال:"وأجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام بعدما صلى الفجر، ثم دفع قبل طلوع الشمس".
جَمْرَةَ العَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ"
(1)
).
المسلم إذا وصل إلى منى فإن أول عمل يقوم به هو رمي جمرة العقبة المعروفة، وسميت جمرة العقبة
(2)
بهذا الاسم لوجود عقبة فيها وهي جبل.
وقد كان هذا المكان موضع ازدحام، ويتأثر المسلمون به، وربما سقط بعض الناس فيه، وقد تذهب أنفس أيضًا؛ فلأجل مَنْع ذلك قام القائمون على أمر هذه الدولة -جزاهم اللَّه سبحانه وتعالى خيرًا- على تهيئة الأمر، وصار الرمي من بطن الوادي، ومن أعلى.
وكان عمر رضي الله عنه
(3)
قد رمى كذلك من الأعلى؛ فكانت سُنَّة.
ولكن الأفضل
(4)
أن تكون مكة عن يسار الرامي، ومنى عن يمينه؛
(1)
أخرجه مسلم (3119) عن جابر قال: "رمى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس".
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى يوم النحر جمرة العقبة بعد طلوع الشمس". وانظر: "الإجماع"، لابن المنذر (71).
(2)
انظر: "البناية شرح الهداية"، لبدر الدين العيني (4/ 239)، قال:"فيبتدئ بجمرة العقبة -الجمرة- الحجر الصغير، وجمعها الجمار، وبها سُمِّيت المواضع التي يرمى جمار أو حجار أو حجرات لما بينهما من الملابسة. وقيل: لجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا اجتمعوا، وسميت جمرة العقبة لأنها جبل في طريق منى". وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (1/ 292)، و"المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (199)، وتهذيب اللغة (1/ 185)، و"المغني"، لابن قدامة (5/ 291).
(3)
يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 326)، قال:"وقد روينا عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها".
(4)
أخرج البخاري (1748)، ومسلم (3112) عن عبد اللَّه رضي الله عنه:"أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم".
فيكون ذلك من بطن الوادي؛ فإن هذا هو الأفضل
(1)
، لكن لو رمي من أي مكان تيسر له فلا حرج.
ورمي جمرة العقبة يكون بسبع حصيات كحصى الخذف
(2)
؛ يعني أن تكون الحصاة أكبر من الحِمِّص -وكلنا نعرف الحمص- وأصغر من البندق -ونحن نعرف البندق أيضًا-؛ يعني: أن تكون الحصاة بينهما.
وينبغي أن تكون الحصيات معتدلات.
وينبغي أن تكون: من الحجارة؛ فلا يأخذ خشبة ويرمي بها! أو قطعة قماش، أو غير ذلك من الأمور!
ولو وجد قطعة من بلاط مثلًا وفيها حصى، أو قطعة من إسفنج وفيها حصى فلا حرج من أن يعتد بذلك في الرمي.
وينبغي أن يكون مقر هذه الحصيات هو الحوض؛ فلو ضرب الشخص بحصاة وخرجت إلى الخارج فلا تعتبر هذه واحدة.
ولا ينبغي لك أن تأخذها وتلقيها بيدك؛ بل ترمي بها اقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كما في الحديث: "كان يرفع يده؛ حتى يُرى بياض إبطيه -يعني: إبطه الأيمن- وهو يرمي"
(3)
.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبي حين يأتي عند جمرة العقبة.
(1)
أخرج البخاري (1750)، ومسلم (3110)، عن عبد اللَّه رضي الله عنه حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي، حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم قال:"من هاهنا والذي لا إله غيره، قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم".
(2)
أخرجه مسلم (3067) عن الفضل بن عباس وكان رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: حتى دخل محسرًا، وهو من منى قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة".
(3)
لم أقف عليه من فعله صلى الله عليه وسلم في الحج عند الرمي، وإنما هذا ما استحبه العلماء عند الرمي ليكون عونًا له على الرمي.
وكان يكبِّر كلما رمى حصاة؛ قائلًا: "اللَّه أكبر"
(1)
.
ورمي جمرة العقبة يكون في اليوم الأول من أيام العيد؛ وهو يوم النحر.
ثم بعد ذلك ينحر الحاج إن كان متمتعًا أو قارنًا، ثم يحلق شعره أو يقصره.
ثم في ضحى ذلك اليوم يفيض إلى مكة؛ أي: ينزل، فيطوف طواف الإفاضة، والذي هو ركن من أركان الحج، ولا يسقط بتركه سهوًا ولا عمدًا.
وفي اليوم الثاني يبدأ الحاج الرمي من بعد الزوال؛ فيرمي الجمرات الثلاث.
ولا يبدأ من العقبة؛ بل يبدأ من الصورة التي تلي مسجد الخيم، فيرميها بسمبع حصيات -وهي التي وصفنا سابقًا-.
ثم يتأخر قليلًا، ويقف فترة؛ فيدع اللَّه سبحانه وتعالى، ويسأله الهداية.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى الجمرة الوسطى؛ فيرميها أيضًا بسبع حصيات.
ثم بعد ذلك يذهب إلى جمرة العقبة، فيرميها.
وكذلك الأمر بالنسبة لليوم الثالث فيرمي على هذا النسق، بعد الزوال؛ فإن لم يتمكن فله أن يرمي بعد العصر، فإن لم يستطع فله أن يرمي في الليل أيضًا.
وقد خالف بعض العلماء في
(2)
جواز الرمي في الليل، وقالوا: بل يؤخره إلى اليوم الثاني، ولا يرمي بالليل.
نقول: لا يوجد هناك دليل صريح على المنع.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
وهم الحنابلة، وقد تقدم ذكره.
وينبغي أن نحذر من أن نرمي قبل الزوال، -وإن خالف الحنفية في ذلك
(1)
-؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم رمى في وقت معين
(2)
، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأمته:"خذوا عني مناسككم"
(3)
.
وقال النبى صلى الله عليه وسلم أيضًا: "إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
وقوله: "إنما جعل الطواف بالبيت"، يعني: بالبيت العتيق، وهو الكعبة.
وقوله: "الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة"؛ أي: السعي بين الصفا والمروة.
وقوله: "لإقامة ذكر اللَّه سبحانه وتعالى": فهذه المشاعر طُلب منا أن نقوم بها؛ لنقيم ذكر اللَّه سبحانه وتعالى، ولنحافظ عليه.
وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر اللَّه"
(5)
.
فلو أردت أن تكون دائمًا على الطاعة فلتعود لسانك ذكر اللَّه عز وجل، وأكثر من ذلك، وكرره.
ونضرب لذلك مثالا فنقول: قال اللَّه سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا
(1)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 374)، قال:"وأشار بقوله: (بعد الزوال) إلى أول وقته في ثاني النحر وثالثه، حتى لو رمى قبل الزوال لا يجوز، ولم يذكر آخره وهو ممتد إلى طلوع الشمس من الغد، فلو رمى ليلًا صح وكره".
(2)
أخرج مسلم (3119)، عن جابر، قال:"رمى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (1888)، وقال الألباني:"إسناده ضعيف. . . وقد اضطرب في إسناده؛ فرواه تارةً مرفوعًا، وتارةً موقوفًا، وهو الصواب الذي رواه الثقات". انظر: "ضعيف أبي داود"(257).
(5)
أخرجه الترمذي (3375)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2/ 203).
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]؛ فإذا لم يتعجل الإنسان فلا مانع من أن يتأخر، ويبقى لليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ لأنه يكون في ذكر اللَّه وطاعته.
أما لو أنه قد غربت عليه شمس اليوم الثاني من أيام التشريق -والذي هو ثالث أيام العيد، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة- فإنه يلزمه أن يبيت في اليوم الثاني.
وكل مناسك الحج -كما قلنا سابقًا- تشتمل على ذكر اللَّه عز وجل؛ من التهليل والتكبير، وغير ذلك.
وقوله تعالى: {لِمَنِ أتَقَى} مهو هي دعوة لأن نحقق التقوى، وكلنا نريد ذلك.
* قوله: (وَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ
(1)
أَنَّ مَنْ رَمَاهَا فِي هَذَا اليَوْمِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ -أَعْنِي: بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا- فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتِهَا).
ننبه إلى أن المبيت في منى مطلوب.
والعلماء مختلفون فيه:
- فمنهم
(2)
من يرى أنه واجب.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 59)، قال:"وأجمعوا على أن من رماها ذلك اليوم بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها". وانظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 278).
(2)
وهو مذهب الجمهور:
فلمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (2/ 49)، قال:" (وعاد) وجوبًا بعد الإفاضة يوم النحر (للمبيت بمنى). . . ويلزمه الدم إن ترك البيات جل ليلة. . . (قوله: فأكثر) أشار بذلك إلى أنه إذا ترك المبيت بمنى ليلة كاملة، أو الثلاث ليالي فاللازم دم واحد، ولا يتعدد".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 274)، قال: " (فصل) في =
- ومنهم
(1)
من يرى أنه سنة.
والذين يرون أنه واجب دليلهم أقوى؛ وذلك لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال عليه الصلاة والسلام:"لتأخذوا عني مناسككم"
(2)
.
ومن لم يبت بمنى أصلًا فإن عليه دمًا، أما لو بات بها ليلة وترك ليلة فهذا يقدم أيَّ شيء للَّه سبحانه وتعالى، واللَّه يغفر له إن شاء.
لكن قد يسأل سائل فيقول: قد امتلأت منى فأين أبيت؟
نقول: إذا انتهت منى فيبقى امتدادها؛ فقف في المكان الذي تصل إليه، وابقَ، ولا تكون مخالفًا بذلك.
وللحاج أن ينتقل، وأن يجلس أيضًا فترة من الليل؛ حتى يخرج من الخلاف في هذه المسألة.
فهذه أُمور ميسرة للحاج وللَّه الحمد، وليست شديدة، فلو بقي من جهة وادي محسر، أو من جهة مكة فلا حرج.
لكن لا يقول الإنسان: واللَّه منى زحمة لن أذهب لهناك! ويجلس
= المبيت بمنى ليالي أيام التشريق (إذا عاد إلى منى) بعد الطواف والسعي إن لم يكن سعى بعد قدوم (بات بها) حتمًا (ليلتي) يومي (التشريق) والثالثة -أيضًا- للاتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة مع خبر: "خذوا عني مناسككم" والواجب معظم الليل.
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 596)، قال:" (وواجباته)؛ أي: الحج ثمانية. . . (و) الرابع: (المبيت بمنى) ليالي أيام التشريق؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وأمره به".
(1)
هو مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 519)، قال:" (ثم أتى منى). . . فيبيت بها للرمي، (قوله: فيبيت بها للرمي)؛ أي: ليالي أيام الرمي، هو السنة فلو بات بغيرها كره، ولا يلزمه شيء".
ومذهب الظاهرية، يُنظر:"المحلى"، لابن حزم (7/ 184)، قال:"وبات عليه السلام بمنى، ولم يأمر بالمبيت بها؛ فالمبيت بها سنة وليس فرضًا؛ لأن الفرض إنما هو أمره صلى الله عليه وسلم فقط".
(2)
تقدَّم تخريجه.
عند المكيفات، ويرتاح بمكة، أو الطائف، أو في قرية من القرى، ثم يأتي بعد ذلك لرمي الجمرات!
نقول: القضية ليست مجرد نسك يؤدى فقط؛ بل القضية عبادة ينبغي أن تؤدى كما أداها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ ولذلك نرى أن من العلماء مَن قال: من أهل مكة؛ حتى يلحقهم ما يلحق المسافر من المشقة، ومن الشعث.
ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذا الأشعث: "رب أشعث أغبر لو تمنَّى على اللَّه سبحانه وتعالى لأبره"
(1)
.
فالعبرة عند اللَّه سبحانه وتعالى ليس بمقياس الدنيا؛ بل إنه عز وجل ينظر إلى قلوبنا، وقد قال سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ فقد نجد إنسانًا عنده من المال الشيء الكثير، ومن الصحة، ومن السلطة، وغيرها؛ لكنه لا يمشي في طاعة اللَّه تعالى، ونجد إنسانًا ضعيف البنية، فقيرًا، قد يحقره الناس إذا رأوه؛ لكنه كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رب أشعث أغبر لو تمنَّى على اللَّه تعالى لأبرَّه"
(2)
، يعني: لو طلب من اللَّه شيئًا، وأقسم على اللَّه تعالى لَبَرَّ اللَّه سبحانه وتعالى قسمه؛ لأنه وقف حياته في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى وفي مرضاة اللَّه عز وجل.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا
(3)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمِ يَوْمَ النَّحْرِ، مِنَ الجَمَرَاتِ غَيْرَهَا).
نعم، لم يرم صلى الله عليه وسلم يوم النحر غيرها، وهذا هو المطلوب منا.
والمطلوب منا في هذا اليوم أربعة أعمال -وليس عملًا واحدًا-؛ وهي:
(1)
أخرجه مسلم (6775) عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبره". ولم أقف عليه بلفظ: (لو تمنى).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 59)، قال:"وأجمعوا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها".
العمل الأول: رمي جمرة العقبة الأُولى.
العمل الثاني: الهدي؛ يعني: ذبح الهدي، وذلك في حق من وجب عليه.
العمل الثالث: كذلك الحلق للشعر، أو التقصير.
العمل الرابع: كذلك أيضًا طواف الإفاضة.
وللحاج أن يؤخر هذه الأشياء؛ وذلك لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما سُئل عن شيء في الحج؟ إلا قال: "افعل ولا حرج"
(1)
. وهذا من تيسير اللَّه سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وللَّه الحمد.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، فَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الفَجْرِ أَعَادَهَا).
نقول: قد ثبت في الحديث: "أن أم المؤمنين أم سلمة زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمت، ثم عادت فصلت"
(3)
، لكن هل هذا خاص بالضعفة -يعني: العاجزين الذين تلحقهم مضرة-.
(1)
أخرجه البخاري (1736)، ومسلم (3134) عن عبد اللَّه بن عمرو: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال:"اذبح ولا حرج"، فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال:"ارم ولا حرج"، فما سئل يومئذ عن شيء قدَّم ولا أخَّر إلا قال:"افعل ولا حرج".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 45)، قال:" (قوله: حين وصوله) هذا مصب الندب، وأما رميها في حد ذاته فهو واجب. واعلم أن محل ندب رميها حين وصوله، إذا وصل لمنى بعد طلوع الشمس، فإن وصل قبل الطلوع؛ كالذي يرخص له في التقديم من مزدلفة لمنى فإنه يدخل منى قبل الفجر، ولا يصح رميه حينئذ، فينتظر طلوع الفجر، ويستحب له أن يؤخر الرمي حتى تطلع الشمس. . . أن وقتها يدخل بطلوع الفجر ويمتد وقت أدائها إلى الغروب، وأن تأخيرها للطلوع مندوب وأن الليل وقت لقضائها؛ فإن أخَّر إليه قدم".
(3)
أخرجه أبو داود (1942) عن عائشة، أنها قالت: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة =
نقول: بل ثبت هذا من حيث الأصل؛ ولذا قال بعض العلماء بالجواز
(1)
، لكن الأولى والأفضل -على القول بالجواز- هو أن ترمي بعد طلوع الشمس.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَسُفْيَانُ
(3)
، وَأَحْمَدُ).
الإمام أحمد قال ذلك في رواية
(4)
، لكن المشهور عن الإمام أحمد أنه يجوز
(5)
.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ المُسْتَحَبُّ هُوَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ).
= النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم، الذي يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ تعني: عندها". وقال الألباني: "إسناده فيه ضعف" في "ضعيف أبي داود" (334).
(1)
كالشافعية، وسيأتي ذكرهم.
(2)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 371)، قال: "ولم يبين وقته، وله أوقات أربعة: وقت الجواز، ووقت الاستحباب، ووقت الإباحة، ووقت الكراهة.
فالأول: ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر، وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني، حتى لو أَخَّره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، ولو رمى قبل طلوع فجر يوم النحر لم يصح اتفاقًا. . . ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 60)، قال:"وقال سفيان الثوري: لا يجوز لأحد أن يرمي قبل طلوع الشمس".
(4)
يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (9/ 202)، قال:"قوله: ويرمي بعد طلوع الشمس. . . وعنه لا يجزئ إلا بعد الفجر، وقال ابن عقيل: نصه، للرعاة خاصة الرمي ليلًا. نقله ابن منصور".
(5)
يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (9/ 201)، قال: قوله: "ويرمي بعد طلوع الشمس بلا نزاع. وهو الوقت المستحب للرمي؛ فإن رمى بعد نصف الليل أجزأه. وهو الصحيح من المذهب مطلقًا، وعليه جماهير الأصحاب". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 584).
هذا قول الإمام الشافعي
(1)
، والإمام أحمد في الرواية الأُخرى، وهي الرواية المشهورة
(2)
.
فللحاج أن يرمي جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، بناءً على هذا القول، لكنه يكون بذلك: قد ترك الأفضل.
ولسنا بحاجة لأنْ نقع في الخلاف؛ بل علينا أن نتجنب كل موضع فيه اختلاف؛ فالحج صفقة العمر -كما يقولون-.
فالإنسان عندما يغامر في قضية تجارة، فربما يكسب فيها ربحًا عظيمًا؛ فيقول: هذه صفقة العمر؛ فالحج كذلك بل فوق ذلك؛ فهو صفقة العمر التي لا تنتهي، لكونه يتعلَّق بمصير العبد في الدنيا وفي الآخرة أيضًا؛ فلا ينبغي التساهل فيه، واللَّه أعلم.
* قوله: (فَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ: فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْلِهِ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"
(3)
، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وَقَالَ:"لَا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ"
(4)
، وَعُمْدَةُ مَنْ جَوَّزَ رَمْيَهَا قَبْلَ الفَجْرِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ. . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ).
بالفعل رواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح
(5)
.
(1)
ينظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 271)، قال:" (وهذا) الذي يفعل يوم النحر من أعمال الحج أربعة، وهي: (الرمي، و. . . (ويدخل وقتها) إلا ذبح الهدي (بنصف ليلة النحر) لمن وقف قبله. . .، وقيس بالرمي الآخران بجامع أن كلًّا من أسباب التحلل، ووجهة الدلالة من الخبر بأنه صلى الله عليه وسلم علق الرمي بما قبل الفجر، وهو صالح لجميع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطًا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله، ولأنه وقت للدفع من مزدلفة، ولأذان الصبح، فكان وقتًا للرمي كما بعد الفجر، وشمن تأخيرها إلى بعد طلوع الشمس للاتباع".
(2)
تقدَّم ذكرها.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
أخرجه أبو داود (1942)، والدارقطني في "سننه"، (2689)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 641)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(7/ 317). قال الحاكم =
* قوله: (وَهُوَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ "أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأُمِّ سَلَمَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، وَمَضَتْ، فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا". وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ: "أَنَّهَا رَمَتِ الجَمْرَةَ بِلَيْلٍ، وَقَالَتْ: إِنَّا كُنَّا نَصْنَعُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم").
هذا الحديث أيضًا صح عنه؛ فقد جاء بسند صحيح عند بعض أصحاب السنن، وفي غيرها
(1)
.
إذن؛ فقد ثبت هذا الأمر، وذاك أيضًا، فلا نتعمق في الإنكار على المخالف.
* قوله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(2)
: أَنَّ الوَقْتَ المُسْتَحَبَّ لِرَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ هُوَ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَأَنَّهُ إِنْ رَمَاهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، أَجْزَأَ عَنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
(3)
؛ إِلَّا مَالِكًا،
= في "المستدرك"(1/ 641): "صحيح على شرطهما، لم يخرجاه"، وقال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (4/ 127):"هذا إسناد صحيح لا غبار عليه"، وقال ابن حجر في "البلوغ" (294):"إسناده على شرط مسلم".
(1)
أخرجه أبو داود (1943)، وابن حبان في "صحيحه"(4/ 280)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 126)، وقال الألباني في "صحيح أبي داود":"حديث صحيح، وأخرجه الشيخان بنحوه".
(2)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 278) قال:"وأجمعوا أنه عليه السلام رمى يوم النحر في حجته جمرة العقبة بمنى بعد طلوع الشمس، وأن من رماها من هذا الوقت إلى الزوال فقد رماها في وقتها".
(3)
يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (7/ 268)، قال:"وأجمعوا أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها، وإن لم يكن ذلك مستحسنًا له".
لمذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 371)، قال: "ولم يبين وقته، وله أوقات أربعة: وقت الجواز، ووقت الاستحباب، ووقت الإباحة، ووقت الكراهة.
فالأول: ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر، وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني، حتى لو أَخَّره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة، خلافًا لهما. . . =
فَإِنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُرِيقَ دَمًا)
(1)
.
هذا القول للإمام مالك ليس عليه دليل في حقيقة الأمر!
ونحن نرى الآن كثرة المسلمين، والزحام، ونرى الناس يتجمعون في مثل هذه الأوقات، وكذلك وقت الزوال؛ فالذي يتأخر بالنسبة للأيام يجد سعة من الوقت، وقس على هذا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: فِيمَنْ لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَرَمَاهَا مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مِنَ الغَدِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ دَمٌ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنْ رَمَى مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إِلَى الغَدِ فَعَلَيْهِ دَمٌ).
= والثالث: من الزوال إلى الغروب".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 272)، قال:"فيكون لرميه ثلاثة أوقات: وقت فضيلة إلى الزوال، ووقت اختيار إلى الغروب، ووقت جواز إلى آخر أيام التشريق".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 584)، قال:" (وندب) الرمي (بعد الشرق). . . (وإذا غربت) شمس يوم النحر قبل الرمي (فـ) إنه يرمي تلك الجمرة (من غده بعد الزوال) لقول ابن عمر: "من فاته الرمى حتى تغيب الشمس فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد"".
(1)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(7/ 268): "واختلفوا فيمن أخَّر رميها حتى غربت الشمس من يوم النحر؛ فذكر ابن القاسم أن مالكًا رحمه الله كان يقول مرة: عليه دم، ومرة لا يرى عليه شيئًا".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير (2/ 47)، قال:" (رمي كل حصاة) من العقبة، أو غيرها. . . (الجميع)؛ أي: جميع الحصيات عن وقت الأداء، وهو النهار (لليل)، وهو وقت القضاء، فأولى لو فات الوقتان فدم واحد؛ لتأخير حصاة، أو أكثر إن كان لكبير يحسن الرمي، بل (وإن) كان التأخير (لصغير لا يحسن الرمي)، أو مجنون أخَّره وليهما، والدم على الولي (أو عاجز) ".
(3)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 371)، قال: "وله أوقات أربعة: وقت الجواز، ووقت الاستحباب، ووقت الإباحة، ووقت الكراهة.
فالأول: ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر، وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني، حتى لو أَخَّره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة، خلافًا لهما. . . ".
وكذلك الإمام أحمد
(1)
يقول بهذا، وهذا هو الصحيح.
فلو أخرَّها إلى الليل، أو حتى رماها من الغد فلا شيء عليه.
ونحن نعلم أن هذه الشريعة بنيت على أُصول؛ منها: رفع الحرج، والتيسير على الناس
(2)
؛ وهذا من التيسير على الناس ولا سيما في هذه المواقف؛ فلا تخفى الآن كثرة الحجاج، وتواردهم، وازدحامهم في هذه المواقف؛ فينبغي أن نأخذ بما جاء في هذه الشريعة من تيسير.
ولا نعني بهذا أن نأخذ بالتيسير في كل أمر من الأمور؛ حتى تلك التي لا نجد فيها مشقة؛ بل نأخذ بالتيسير عند الضرورة، وعند الحاجة، واللَّه أعلم.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ أَخَّرَهَا إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ إِلَى الغَدِ).
وهذا القول -إن شاء اللَّه سبحانه وتعالى هو الصواب، وهو الأرجح، وهو الذي يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية.
(1)
أنه لا شيء عليه مع أنه يقول: لا يرمي ليلًا، بل يرميها من الغد. يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 584)، قال:" (وإذا غربت) شمس يوم النحر قبل الرمي (فـ) إنه يرمي تلك الجمرة (من غده بعد الزوال) ".
(2)
يُنظر: "التحبير شرح التحرير"، للمرداوي (8/ 3847)؛ حيث قال:"من القواعد: أن المشقة تجلب التيسير، ودليله: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إشارة إلى ما خفف عن هذه الأمة من التشديد على غيرهم، من الإصر ونحوه، وما لهم من تخفيفات أخَّر دفعًا للمشقة".
وقال السيوطي في "الأشباه والنظائر"(ص 77): "قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته".
(3)
يُنظر: "رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 515)، قال:" (قوله: ووقته)؛ أي: وقت جوازه: أداء من الفجر؛ أي: فجر النحر إلى فجر اليوم الثاني، قال في "البحر": حتى لو أخَّره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عنده، خلافًا لهما".
(4)
تقدَّم قولهم: ووقت جواز إلى آخر أيام التشريق.
* قوله: (وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرُعَاةِ الإِبِلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ
(1)
، أَعْنِي: أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا).
نحن نعلم أن الرعاة وكذلك السقاة قد رُخص لهم في ذلك؛ وذلك لأن السقاة يخدمون الحجاج، والرعاة يقومون على رعاية الإبل، فلم تكن وقتها سيارات، وليست السيارات بحاجة لذلك.
لكن لو وجدن نظائر لهؤلاء هم بحاجة للتيسير عنهم؛ فلا حرج في عدم مبيتهم في منى أو المزدلفة.
وهؤلاء -كما قلنا- أمثال الذين يقومون على خدمة الحجاج، ويتابعون أمرهم؛ كبعض العاملين في الأوقاف، وفي الشرطة، وفي النجدة، وفي الهلال الأحمر، والكشافة، وغير ذلك.
* قوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ السَّائِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ لَهُ:"لَا حَرَجَ"
(2)
).
هذا يدل على سماحة هذه الشريعة ويسرها، وأنها بُنيت على التخفيف؛ فكثيرًا ما يذكر اللَّه سبحانه وتعالى حكمًا ثم يتبعه بقوله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].
وبقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185].
وقال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقال اللَّه عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].
(1)
أخرجه البزار في "مسنده"(12/ 153) عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل". وحسنه الألباني بمجموع طرقه في "السلسلة الصحيحة"(5/ 623).
(2)
أخرجه البخاري (1723).
وهذا من رحمة اللَّه سبحانه وتعالى بنا.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ المُتَّفَق عَلَيْهِ الَّذِي رَمَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ السُّنَّةُ، وَمَنْ خَالَفَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الحَجِّ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخَذَ بِهِ الجُمْهُورُ).
مراده بأثر عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما هذا هو قوله: "من ترك نسكًا فعليه دم"، وفي رواية:"أنه يريق دمًا"
(1)
. يعني: يذبح. وهو أثر موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما؛ أي: هو قول له، وأما الحديث المرفوع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك فضعيف
(2)
.
فدليل هذه المسألة إذن هذا القول لهذا الصحابي؛ فهل نأخذ به؟
نقول: نعم، نأخذ به؛ لأننا ما وجدنا مَن خالفه من الصحابة رضي الله عنهم، والصحابي لا يُقْدِم على قول مثل هذه الأقوال إلا وهو متأكد منه، فهذا القول لابن عباس رضي الله عنهما قد أخذ به العلماء، وقضوا به في كثير من مسائل الحج؛ فالذي لا يبيت بمنى عليه دم بالاستناد لهذا الأثر، وكذلك الذي يترك المبيت بالمزدلفة. . . وهكذا.
فكثيرة هي الأحكام التي جعل العلماء أصلها وقاعدتها هذا الأثر.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 559)، قال:"عن عبد اللَّه بن عباس قال: "من نسي من نسكه شيئًا، أو تركه، فليهرق دمًا". قال أيوب: لا أدري قال: ترك أو نسي".
وكذا جاء عند البيهقي والدارقطني بهذا اللفظ، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (4/ 299):"ضعيف مرفوعًا، وثبت موقوفًا".
(2)
قال ابن الملقن في "البدر المنير"(6/ 91): "هذا الحديث لا أعلم من رواه مرفوعًا بعد البحث عنه، ووقفه عليه هو الذي نعرفه عن ابن عباس رضي الله عنه".
وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 229): "وأما المرفوع فرواه ابن حزم من طريق علي بن الجعد عن بن عيينة عن أيوب به، وأعله بالراوي عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي، فقال: إنه مجهول، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي، قال: هما مجهولان". اهـ.
ولم أقف عليه في "المحلى"، لابن حزم.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ لِلرُّعَاةِ: إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا مَضَى يَوْمُ النَّحْرِ، وَرَمَوْا جَمْرَةَ العَقَبَةِ، ثُمَّ كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ؛ وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ النَّفْرِ).
ينبغي أن نحمل العام من النصوص على عمومه، ونحمل المقيد منها على التقييد.
الحقيقة: أن ما جاء هنا هو عام، أما الرعاة فلهم حكم خاص بهم؛ لقيامهم على خدمة إبل الحجاج من الأكل والرعي، لكن إن توفر للإبل طعامها الذي تأكله، وهي في مكانها فينتهي الأمر، ولا تبقى الرخصة للرعاة؛ فالرخصة مقيدة بالضرورة والحاجة فقط.
* قوله: (فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُوا فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لَهُ وَللْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ؛ فَإِنْ نَفَرُوا
(2)
، فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الغَدِ، رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الأَخِيرِ، وَنَفَرُوا، وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ لِلرُّعَاةِ عِنْدَ جَمَاعَةِ العُلَمَاءِ
(3)
: هُوَ جَمْعُ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا يُجْمَعُ عِنْدَهُ مَا وَجَبَ؛ مِثْلُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الثَّالِثِ فَيَرْمِي عَنِ الثَّانِي
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 189)، قال:" (ورخص لراع بعد العقبة أن ينصرف ويأتي الثالث فيرمي لليومين) مالك: وأرخص لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر العقبة ثم يخرجون، فإذا كان اليوم الثاني من أيام منى نفر المتعجل أتوا فرموا الجمار لليوم الماضي ولليوم، ثم لهم أن يتعجلوا فإن أقاموا رموا للغد مع الناس".
(2)
النفر والنفرة -بسكون الفاء فيهما-، ويقال: يوم النفر وليلة النفر لليوم الذي ينفر الناس من منى وهو بعد يوم القر، ولقال له أيضًا: يوم النَّفَر -بفتح الفاء-. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (ص 316).
(3)
تقدَّم ذكره. وانظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (17/ 253)، قال:"ومالك لا يرى لهم التقديم، إنما يرى لهم تأخير رمي اليوم الثاني إلى الثالث، ثم يرمون في الثالث ليومين؛ لأنه لا يقضي عنده شيء من ذلك حتى يجب".
وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى عِنْدَهُ إِلَّا مَا وَجَبَ. وَرَخَّصَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ
(1)
فِي جَمْعِ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ؛ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَلَمْ يُشَبِّهُوهُ بِالقَضَاءِ).
الأكثر في ذلك أن يتأخر؛ فالإنسان إذا لم يرمِ يوم الحادي عشر مثلًا من شهر ذي الحجة فيؤخره إلى اليوم الثالث عشر؛ لكن لا ينبغي أن نتساهل في ذلك، وأن نفتي به عند عدم الحاجة؛ فلو وقع ذلك الأمر من إنسان لحاجة فذاك شأن، أما أن يتخذ هذا التأخير قاعدة وسنة فذاك شأن آخر ولا ينبغي.
(1)
هو مذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق"، لابن نجيم (2/ 374)، قال:"ولو أراد أن ينفر في هذا اليوم له أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز قبل الزوال لمن لا يريد النفر فمحمول على غير ظاهر الرواية؛ فإن ظاهر الرواية: أنه لا يدخل وقته في اليومين إلا بعد الزوال مطلقًا وفي المحيط لو أخَّر رمي الجمار كلها إلى اليوم الرابع رماها على التأليف؛ لأن أيام التشريق كلها وقت رمي فيقضي مرتبًا كالمسنون وعليه دم واحد عند أبي حنيفة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (4/ 128)، قال:" (جاز) إن كان بات الليلتين قبله، أو تركهما للعذر (وسقط مبيت الليلة الثالثة ورمي يومها) ولا دم عليه لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، والأصل فيما لا إثم فيه عدم الدم، لكن التأخير أفضل لاسيما للإمام، إلا لعذر كخوف، أو غلاء وذلك للاتباع بل في "المجموع" عن الماوردي ما يقتضي حرمته عليه أما إذا لم يبتهما ولا عذر له أو نفر قبل الزوال أو بعده، وقبل الرمي فلا يجوز له النفر ولا يسقط عنه مبيت الثالثة ولا رمي يومها على المعتمد. . . "
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 434)، قال:" (ولغير الإمام المقيم للمناسك التعجيل في) اليوم (الثاني) من أيام التشريق بعد الزوال والرمي وقبل الغروب (وهو النفر الأول) لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ولحديث: "وأيام منى ثلاثة"، ولأنه دفع من مكان فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كالدفع من عرفة ومزدلفة (فإن غربت) الشمس (وهو)؛ أي: مريد التعجيل (بها)؛ أي: منى (لزمه مبيت ورمي من غد) بعد الزوال. . . (ويسقط رمي اليوم الثالث عن متعجل) نصًّا لظاهر الآية والخبر، وكذا مبيت الثالثة".
* قوله: (وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى فِي حَجَّتِهِ الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ نَحَرَ بُدْنَهُ).
نحن نعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثًا وستين
(1)
.
وبعد ذلك ترك ما نذر منها -أي: ما بقي- لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتم نحره.
ونعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ من كل جزور دُفَعًا، فطُبِخت، فشرب من مَرَقِها، وأكل منها
(2)
، فيستحب للإنسان أن يأكل من ذبيحته، أما إذا لم يأكل أو لم يتيسر له ذلك فليس عليه شيء.
أما كيفية تقسيم الهدي فنقول: حالها كحال الأضحية: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث. وإن تركها كلها ولم يأخذ منها شيئًا لنفسه فذلك شيء طيب؛ فالهدي شبيه بالأضاحي.
وينبغي للمسلم أن يتقي اللَّه سبحانه وتعالى في اختيار الهدي، كالحال في الأضحية
(3)
؛ فلا يختار:
- المريضة البيِّن مرضها.
(1)
أخرجه مسلم (2922) من حديث جابر، وفيه:"ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها".
(2)
كل هذه الأُمور سبق ذكرها في الحديث السابق.
(3)
أخرجه أبو داود (2802) عن البراء بن عازب قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله فقال:"أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بيِّن عورها، والمريضة بيِّن مرضها، والعرجاء بين ظلعها، والكسير التي لا تنقي"، قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال:"ما كرهت فدعه، ولا تحرمه على أحد". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(4/ 361).
- ولا العوراء البيِّن عورها.
- ولا العرجاء البيِّن عرجها.
- ولا الضعيفة الهزيلة.
وإنما هذا موضع ينبغي أن يختار فيه الطيب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا"
(1)
.
فالحاج يقدم هذا العمل للَّه سبحانه وتعالى، ويريد جزاءه، وسينال عليه أضعافًا مضاعفة من الأجر؛ فليكن ما يقدمه من الهدي مناسبًا، ليس فيه عيب ولا نقص.
فالإنسان إذا أراد أن يهدي إلى كبير من الناس؛ فإنه سيختار له أحسن ما يليق به! وهنا الحاج يقدم هذا الهدي إلى مالك السموات والأرض سبحانه وتعالى، المهيمن على كل شيء، فكان لا بدَّ أن يختار ما يناسب المقام، وهو بذلك أيضًا ينفذ قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويلتزم بما أمره به.
* قوله: (ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ).
لا شك أن الحلق أفضل في هذا المقام؛ وذلك لما يلي:
- لأن الإنسان قد أدَّى عمرته.
- ولأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة؛ كما جاء في الحديث
(2)
.
ونحن -كما قلنا مرارًا- نحاول أن نكسب أعلى الدرجات، لتتضاعف حسناتنا وتزداد، لشدة حاجتنا لذلك.
(1)
أخرجه مسلم (2309).
(2)
أخرجه البخاري (1728)، ومسلم (3126) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: وللمقصرين، قال:"اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: وللمقصرين، قالها ثلاثًا، قال:"وللمقصرين".
* قوله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(1)
عَلَى أَنَّ هَذَا سُنَّةُ الحَجِّ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ مَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِالعَكْسِ؟).
يعني: هذه الأُمور الأربعة لو قدم الحاج فيها أو أخَّر؛ وذلك كأن يحلق مثلًا قبل أن يرمي، أو يرمي مثلًا قبل أن ينحر، أو يطوف مثلًا قبل أن يحلق، وهكذا، فهل عليه من شيء؟
الجواب: لا؛ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لما سُئل عن ذلك: "افعل ولا حرج"
(2)
.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبَةِ، فَعَلَيْهِ الفِدْيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 321)، قال:"وأجمع العلماء أن هذه سنة الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم ينحر هديًا -إن كان معه- ثم يحلق رأسه".
(2)
أخرجه البخاري (1737)، ومسلم (3134) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"، للدسوقي (2/ 48)، قال:" (وتقديم الحلق). . . أي: إن تقديم الحلق على رمي العقبة فيه الدم؛ أي: الفدية".
(4)
يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 492)، قال:" (فصل أعمال يوم النحر) في الحج (أربعة: رمي الجمرة)؛ أي: جمرة العقبة، (والذبح للهدي، والحلق)، أو التقصير، (والطواف). . . (وترتيبها) على ما ذكر (سنة)؛ للاتباع، (فلو حلق) أو قصر (أولًا)؛ أي: قبل الثلاثة الأُخر (فلا فدية) عليه، وإنما لم يجب ترتيبها، لخبر "الصحيحين" عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 587)، قال:" (أو قدم الحلق على الرمي، أو قدم الحلق على النحر أو نحر) قبل رميه (أو طاف) للإفاضة (قبل رميه) جمرة العقبة فلا شيء عليه".
(6)
يُنظر: "المغنى"، لابن قدامة (5/ 320)، قال:"فإن أخل بترتيبها، ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها، فلا شيء عليه، في قول كثير من أهل العلم، منهم. . . وأبو ثور، وداود".
هذا القول الأخير لهؤلاء الأئمة: هو الصحيح، وهو الذي تؤيده أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَعُمْدَتُهُمْ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ).
بل هو من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
(1)
.
* قوله: (أَنَّهُ قَالَ: "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ بِمِنًى، وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "انْحَرْ وَلَا حَرَجَ"، ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "ارْمِ وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ"
(2)
).
الرسول صلى الله عليه وسلم يقف هذا الموقف، وهو كما نعلم قد قطع الفيافي
(3)
، وجاء من أماكن بعيدة، وتحمل المشاق، ومع ذلك نجده صلى الله عليه وسلم يقف بصدر رحب، وبنفس مطمئنة، يبين للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام والعلم؛ فهو بذلك يطبق قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وهو صلى الله عليه وسلم القائل: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه"
(4)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
الفيفاء: الصحراء الملساء، والجمع الفيافي. انظر:"الصحاح"، للجوهري (4/ 1413).
(4)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده"(28/ 410)، وصحح إسناده الأرناؤوط.
فقد فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدره للناس يومئذ، وبيَّن لهم ما يحتاجون إليه من مناسكهم -كما هو حاله في كل موقف- فقال هنا لكل سائل:"افعل ولا حرج"
(1)
.
وهذا دليل على سماحة هذه الشريعة، وعلى يسر هذه الشريعة الخالدة، والتي جعل اللَّه سبحانه وتعالى فيها حياة الناس وسعادتهم.
إن أولئك الذين يتهمون هذه الشريعة الإسلامية بالتشدد، وبتهمون ما فيها بالقسوة والغلظة أيضًا. . . إلخ، نقول: لو نُقل لأولئك الإسلام - كما جاء في كتاب اللَّه عز وجل طريًّا، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقلت لهم أفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما في هذا الدِّين العظيم من السماحة، ومن اليسر، ومن المحبة، ومن الألفة، ومن إرادة الخير للناس جميعًا -ولو أردنا أن نتكلم في هذا لطال المقام-؛ لأقبل الناس جميعًا عليه؛ كما أقبلوا عليه في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الصحابة رضي الله عنهم.
فالصحابة رضي الله عنهم فتحوا البلاد بالقرآن
(2)
قبل أن يفتحوها بالسيف، فكانوا قبل أن يقاتلوا الناس يعرضون عليهم هدي القرآن، وكان الناس يرونهم على هذا المنهج القويم، حتى كان الواحد منهم كأنه قرآن يمشي على الأرض
(3)
، فلما رآهم الناس مطبقين لتعاليم الإسلام تطبيقًا عظيمًا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى المدينة لتعليم الناس القرآن، وغيرهما كثير.
أخرج البخاري (3925)، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانوا يقرئون الناس. . . ".
(3)
ينبغي أن نقول: "كان خُلُقُه القرآن" كما قالت عائشة رضي الله عنها، والقرآن كلام اللَّه وليس بمخلوق ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر مخلوق، ولا ينبغي أن نقول مثل هذا الكلام؛ لأننا حاربنا المعتزلة وغيرهم في قولهم القرآن مخلوق، فكيف نقول مثل هذا الكلام؟! نقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُطَبِّق القرآن، كانت أخلاقه مستمدّة من القرآن، كان خُلُقُه القرآن، يعمل به، ويعتقد ما فيه، رحم اللَّه هذا الإمام الشارح، وإنما بينَّا مثل ذلك؛ لكوننا نعلم أن هذا هو الذي يُرضيه.
دقيقًا أقبل الناس أفواجًا على هذا الدِّين الإسلامي؛ وذلك لأن الإسلام إنما يغزو القلوب بطبيعته وقوته.
لكن مصيبة بعض المسلمين الآن أنهم لم يطبقوا الإسلام بحق، فنجد أن أكثر بلاد المسلمين اليوم لا تطبق شريعة اللَّه سبحانه وتعالى التي فيها العدل، وفيها اليسر، وفيها الخير للناس جميعًا.
ففرق بين أن تحكم بحكم أنزله علام الغيوب وبين أن تحكم بأحكام متناقضة، تُقَر اليوم، وتُزال غدًا، وتُستبدل بغيرها! فنحن بحاجة إلى تطبيق الإسلام كما طبقه صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليعيد اللَّه سبحانه وتعالى لنا مجدنا الضائع.
* قوله: (وَرَوَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
هذا موافق لأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ومنها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
(2)
.
- وما ورد في الحديث: "أنه ما خير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا فتراه أبعد الناس عنه"
(3)
.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "بشروا ولا تنفروا"
(4)
.
فهذا هو منهج الإسلام الذي طبقه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وعمل به المسلمون.
(1)
أخرجه البخاري (1735)، ومسلم (3142)، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول:"لا حرج"، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال:"اذبح ولا حرج"، وقال: رميت بعد ما أمسيت، فقال:"لا حرج".
(2)
أخرجه البخاري (220).
(3)
أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (6118) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه البخاري (69)، ومسلم (4549) عن أنس رضي الله عنه.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ عَلَى مَنْ حَلَقَ قَبْلَ مَحَلِّهِ مِنْ ضَرُورَةٍ بِالفِدْيَةِ؛ فَكَيْفَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؟).
هذا -في حقيقة الأمر- قياس مع الفارق!
والمؤلف رحمه الله يُشير هنا إلى حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: لما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حالته وقد تناثر من رأسه وعلى وجهه وعلى بقية جسمه هوام كالقمل؛ فقال: "ما علمت -أو: ظننت- أن الوجع قد بلغ بك ما بلغ! " ثم أمره صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره، وأن يقدم فدية مقابل ذلك، فيجبر ذلك بدم، وإذا لم يجد فإنه يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، يختار واحدًا منها
(1)
.
* قوله: (مَعَ أَنَّ الحَدِيثَ لَمْ يُذْكرْ فِيهِ حَلْقُ الرَّأْسِ قَبْلَ رَمْيِ الجِمَارِ).
نقول: بل جاء في الأحاديث ما يخالف ما زعمه المؤلف رحمه الله، وهو ما كان من غير ضرورة.
وورد في هذه المسألة أيضًا حديث عبد اللَّه بن عمر
(2)
رضي الله عنهما المتفق عليه في "الصحيحين"
(3)
.
* قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: إِنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ
(1)
أخرجه البخاري (1817)، ومسلم (2852) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رآه، وأنه يسقط على وجهه، فقال:"أيؤذيك هوامك؟ " قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل اللَّه الفدية، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يطعم فَرَقًا بين ستة، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.
(2)
هو عبد اللَّه بن عمرو.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (3/ 25 - 28)، قال: " (قوله: أو حلق في الحل)؛ =
أَوْ يَرْمِيَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا، فَعَلَيْهِ دَمَانِ. وَقَالَ زُفَرُ
(1)
: عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ: دَمُ القِرَانِ، وَدَمَان لِلْحَلْقِ قَبْلَ النَّحْرِ، وَقَبْلَ الرَّمْيِ).
قول الإمام أبي حنيفة والإمام هذا زُفَر من باب التشديد! ودين اللَّه يسر؛ كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث، "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"
(2)
.
فهذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حرج"، فينبغي أن نقول نحن كذلك.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا
(3)
عَلَى أَنَّ مَنْ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ).
نقول باختصار: من قدم واحدًا من هذه الأُمور، أو بعضها على بعض: فلا شيء عليه، وهذا هو الصواب -إن شاء اللَّه تعالى-.
* قوله: (لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
= أي: تجب شاة بتأخير النسك عن مكانه (قوله: ودمان لو حلق القارن قبل الذبح)؛ أي: يجب دمان عند أبي حنيفة بتقديم القارن أو المتمتع الحلق على الذبح، وعندهما يلزمه دم واحد، وقد نص ضابط المذهب محمد بن الحسن في "الجامع الصغير" على أن أحد الدمين دم القران والآخر لتأخير النسك عن وقته، وأن عندهما يلزم دم القران. . . ".
(1)
يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (7/ 278)، وقال:"زفر: على القارن إذا حلق قبل أن ينحر ثلاثة دماء: دم للقران ودمان للحلق قبل النحر".
(2)
أخرجه البخاري (39) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة".
(3)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 293)، قال:" (ولا نعلم خلافًا أنه لا شيء على من نحر قبل أن يرمي. . . ".
و"المجموع"، للنووي (8/ 217)، قال:"وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي لا شيء عليه".
يَقُولُ: مَنْ قَدَّمَ مِنْ حَجِّهِ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا)
(1)
.
قال: "من ترك نسكًا فعليه دم".
* قوله: (وَأَنَّهُ مَنْ قَدَّمَ الإِفَاضَةَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالحَلْقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الطَّوَافِ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
وَمَنْ تَابَعَهُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِذَا طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبَةِ، ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ، أَرَاقَ دَمًا)
(4)
.
عاد المؤلف رحمه الله إلى مسألة: بِمَ يحصل التحلل الثاني؟
ونحن نعلم أن التحلل يحصل بواحد من أمرين: برمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 559)، والدارقطني في "السنن" (2/ 244) عن عبد اللَّه بن عباس قال:"من نسي من نسكه شيئًا، أو تركه، فليهرق دمًا". وقال الألباني في "الإرواء"(4/ 299): ضعيف مرفوعًا، وثبت موقوفًا".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 62)، قال:"كأن قدم الإفاضة أو الحلق على الرمي): تشبيه في وجوب الدم؛ ففي تقديم الإفاضة على الرمي دم أي هدي، وفي تقديم الحلق على الرمي دم أي فدية؛ لأنه من إزالة الأذى أو الترفه قبل التحللين، فإن قدمهما معًا على الرمي فهدي وفدية (وأعاد الإفاضة) ما دام بمكة تداركًا للواجب، وسقط عنه الدم إن أعاده قبل المحرم".
(3)
مذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين"، للنووي (ص 89)، قال:"وهذا الرمي والذبح والحلق والطواف يسن ترتيبها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"(2/ 426 - 427)، قال:" (أو قدمه)؛ أي: الحلق (على رمي، أو) قدمه على (نحر) أو نحر قبل رميه (أو طاف) للإفاضة (قبل رمي) جمرة العقبة، فلا شيء عليه. . . ثم قال: (ولو) كان (عالمًا) لإطلاق حديث ابن عباس، وبعض طرق حديث ابن عمر، وقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا حرج" يدل على أنه لا إثم ولا دم فيه، (لكن السنة تقديم رمي فنحر فحلق فطواف) خروجًا من الخلاف".
(4)
انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (13/ 326)، قال:"وقال الأوزاعي: إنما طاف للإفاضة قبل أن يرمي حجرة العقبة ثم واقع أهله، أهراق دمًا".
وبعضهم يقول: يكتفى برمي جمرة العقبة فقط.
لكن الأحوط أن يجمع بينهما.
أما التحلل الثاني -والذي به تحل مجامعة النساء- فهو فريضة.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا: عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَرْمِيهِ الحَاجُّ سَبْعُونَ حَصَاةً).
هذا إذا لم يتعجل؛ فإن تعجل: فتسعة وأربعون حصاة، وهي: سبع في اليوم الأول، وإحدى وعشرون في اليوم الثاني؛ فيكون مجموعهما ثمانية وعشرين حصاة، ثم واحد وعشرون؛ فيكون المجموع النهائي تسعة وأربعين حصاة.
* قوله: (مِنْهَا: فِي يَوْمِ النَّحْرِ: جَمْرَةُ العَقَبَةِ بِسَبْعٍ، وَأَنَّ رَمْيَ هَذِهِ الجَمْرَةِ مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنَ العَقَبَةِ مِنْ أَسْفَلِهَا، أَوْ مِنْ أَعْلَاهَا، أَوْ مِنْ وَسَطِهَا).
كل ذلك سبق بفضل اللَّه سبحانه وتعالى.
* قوله: (كُلُّ ذَلِكَ وَاسعٌ).
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من أحرص الناس- رفع ورماها من أعلاها
(1)
.
* قوله: (وَالمَوْضِعُ المُخْتَارُ مِنْهَا بَطْنُ الوَادِي؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ).
هذا الحديث متفق عليه
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (1750)، ومسلم (3109) عن عبد الرحمن بن يزيد:"أنه كان مع ابن مسعود رضي الله عنه حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي، حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم قال: من هاهنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم".
* قوله: ("أَنَّهُ اسْتَبْطَنَ الوَادِيَ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، رَأَيْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ يَرْمِي").
يقصد ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "الذي أنزلت عليه سورة البقرة" رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الرَّمْيَ إِذَا لَمْ تَقَعِ الحَصَاةُ فِي العَقَبَةِ)
(2)
.
وذلك لأن القصد أن تقع الحَصَاةُ في موضعها الصحيح؛ فبعض الناس يرى مكانًا وقف فيه الشيخ الفلاني، فيأتي متحمسًا ومندفعًا ويرمي فيه!
نقول: هذا مشعر من مشاعر الحج، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر اللَّه سبحانه وتعالى"
(3)
.
فما شرع رمي الجمار إلا لإقامة ذكر اللَّه سبحانه وتعالى، ثم للاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم الاستجابة لأمر اللَّه تعالى.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الرَّمْيَ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْحَصَاةُ فِي الْعَقَبَةِ) (
(4)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 279)، قال:"وأجمعوا أن من رماها فوق الوادي وأسفله أو أمامه فقد أجزأه، وان وقعت الحصاة في العقبة أجزأه، وإن لم تقع فيها ولا قريبًا منها أعاد ولم يجزئه". وانظر: "الإجماع"، لابن المنذر (71).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 279)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن من رماها فوق الوادي وأسفله أو أمامه فقد أجزأه، وان وقعت الحصاة في العقبة أجزأه، وإن لم تَقَعْ فيها ولا قريبًا منها أعاد ولم يجزئه".
لا يجزئه الرَّمي إلا أن يقَعَ الحَصى في المَرْمى، فإن وَقَع دُونه، لم يُجزئه. في قولهم جميعًا؛ لأنه مأمور بالرَّمي ولم يرْم.
* قوله: (وَأَنَّهُ يَرْمِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَ جِمَارٍ بِوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ حَصَاةً، كُلُّ جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعٍ)
(1)
.
جملةُ ما يَرْمي به الحاج سبعون حصاة، سبعة منها يَرْمِيها يوم النَّحر، بعد طلوع الشمس.
وسائرها في أيام التشريق الثلاثة، بعد زوال الشمس، كل يوم إحدى وعشرين حصاة، لثلاث جمرات.
* قوله: (وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَيَنْفِرَ فِي الثَّالِثِ؛ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]).
في ليلة الثاني عشَر: يَبِيتُ الحجاج في مِنًى، وعرفتم أن البَيتُوتَةَ في مِنًى واجبة، وأنه لا يجوز التهاون بها، وفي اليوم الثاني عشر نَرمِي الجَمرِات كما رمَيْناهَا في الحادي عشر، ثم من أراد أن يتعَجَّلَ فلينْصَرِفْ من مِنًى ومن أراد أن يتأخَّرِ فليبْقَ؛ لأن اللَّه خير، فقال:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وأيهما أفضل؟ التأخير أفضل؛ لأن اللَّه أثْنى على المتأخرين فقال: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} ، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تأخر، والتأسِّي به خَيرٌ، ولأن في التأخر زيادة عَملٍ صالح كالبَيتُوتَةِ ورَمي الجمرات.
* قوله: (وَقَدْرُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ
(2)
؛ لِمَا
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 398)؛ حيث قال: "كل يوم إحدى وعشرين حصاة، لثلاث جمرات،. . . ويرمِيها بسَبعِ حَصيات،. . . ويستقبل القبلة، ويَرْمِيها بسبع حصيات، ولا نعلم في جميع ما ذكرنا خلافًا".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن القطان (ص: 44)؛ حيث قال: "وأجمعوا أنَّ من رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل الزوال بسبع حصيات كحصى الخذف فقد رمى".
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَمَى الْجِمَارَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ"
(1)
).
* قوله: (وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ الْأُولَى فَيَقِفَ عِنْدَهَا وَيَدْعُوَ، وَكَذَلِكَ الثَّانِيَة وَيُطِيلَ الْمَقَامَ، ثُمَّ يَرْمِيَ الثَّالِثَةَ، وَلَا يَقِفَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رَمْيِهِ"، وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ رَمْيِ كُلِّ جَمْرَةٍ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْهُ عليه الصلاة والسلام)
(2)
.
يبتدئ بالجمرة الأولى، وهي أبعدُ الجَمراتِ من مكَّة، وتَلِي مسجد الخِيفِ، فيجعلها عن يسارِهِ، ويستقبل القِبلَةَ، ويَرْمِيهَا بسبعِ حَصياتٍ، كما
(1)
أخرج مسلم (1299) عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجَمرة بمثلِ حَصى الخَذْفِ".
وأخرج مسلم (1282): عن أبي سعيد، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس وكان رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: "عليكم بالسكينة" وهو كاف ناقته، حتى دخل محسرًا وهو من منى قال:"عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة" وقال: لم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبي، حتى رمى الجمرة.
(2)
أخرج البخاري (1750) عن عبد الرحمن بن يزيد، أنه كان مع ابن مسعود رضي الله عنه حين رَمَى جمرة العقبة، فاستَبْطَنَ الوادِي حتى إذا حاذى بالشجرة اعتَرَضَها، فرمى بسبع حَصياتٍ يُكَبِّرُ مع كل حصاة ثم قال:"من هاهنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم".
وأخرج مسلم (1218): عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد اللَّه، وفيه:". . . فحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر يَنْظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده. . . ".
وصَفْنَا في جمرة العقبة، ثم يتقدم عنها إلى موضعٍ لا يُصيبُهُ الحَصَي، فيقف طويلًا يدعو اللَّه تعالى، رافعًا يديه، ثم يتقدَّم إلى الوسطى فيَجْعَلها عن يَمينِهِ، ويستقبل القِبلَةَ، ويرمِيها بسبعِ حَصياتٍ، ويفعل من الوقوف والدعاء كما فَعَل في الأُولى، ثم يرْمِي جمرةَ العقبةِ بسبعِ حَصياتٍ، ويستبطن الوادي، ويستقبل القبلة، ولا يقف عندها.
* قوله: (وَأَجْمَعوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ رَمْي الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ
(1)
، وَاخْتَلَفَوا إِذَا رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاءِ
(2)
: مَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 279)؛ حيث قال: "ولا ترمى الجمار في أيام التشريق إلا بعد الزوال، وهي سنة عند الجميع لا خلاف فيها".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الدُّر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 515)؛ حيث قال: "ووقته من الفجر إلى الفجر، ويُسن من طلوع ذكاء لزَوالها، ويباح لغُروبها، ويُكره للفجر".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(2/ 52)؛ حيث قال: " (و) ندب (رمي العقبة أول يوم طلوع الشمس)؛ أي: بعد طلوعها إلى الزوال حيث لا عُذْر له، وإلا استحب عقبه، (وإلا) يكن الرمي أول يوم بل ما بعده ندب (إثر الزوال قبل) صلاة (الظهر)، فمصَبُّ الندب قبل الظهر فلا ينافي أن دخول الزوال شرط صحة فيها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 276)؛ حيث قال: " (ويدخل رمي) كل يوم من أيام (التشريق بزوال الشمس) من ذلك اليوم للاتباع،. . . (ويخرج)؛ أي: وقته اختياري (بغروبها) من كل يوم، أما وقت الجواز فلا يخرج بذلك كما علم مما مر ومما سيأتي من أن الأظهر أنه لا يخرج إلا بغروبها من آخر أيام التشريق (وقيل يبقى إلى الفجر)؛ كالوقوف بعرفة، ومَحِلُّ هذا الوجه في غير اليوم الثالث، أما هو فيخرج وقت رميه بغروب شمسه جزمًا لخروج وقت المناسك بغروب شمسه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 200)؛ حيث قال: " (وإن غربت الشمس) قبل رمي الجمرة (فـ) إنه يرميها (بعد الزوال من الغد) لقول ابن عمر: "من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد".
رَمْيَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَمْيُ الْجِمَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا)
(1)
.
السنة أنه لا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، فإن رمى قبل الزوال فهل يُعيد؟
القول الأول، قال أبو حنيفَةَ ومالك والشافعي وأحمد: إنه لو رمى قبل الزوال أعاد.
إلا أن الأحناف رخَّصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلا بعد الزوال
(2)
.
القول الثاني: يرمي قبل الزوال، وينفِرُ قبْلَه.
والصواب هو قول الجمهور لما يلي:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بعد الزوال؛ لقول عائشة: "يرمي الجمرة إذا زالت الشمس"
(3)
.
2 -
وقول جابر، في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم:"رأيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يرْمِي الجَمرةَ ضُحى يومَ النَّحر، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس"
(4)
.
وأي وقت رَمَى بعد الزوال أجزأه، إلا أن المستَحَبَّ المبادرةُ إليها حين الزوال.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 353)؛ حيث قال: "وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها".
(2)
يُنظر: النفل السابق، المتعلق بمذهب الأحناف.
(3)
أخرج أبو داود (1973): عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"أفاض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة، إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها".
(4)
أخرج أبو داود (1971) عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال:"رأيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضُحى، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس".
وقال ابن عباس: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجِمارَ إذا زالت الشمس، قدر ما إذا فرَغَ من رَمْيه صلَّى الظُّهر"
(1)
.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْمِ الْجِمَارَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِهَا أَنَّهُ لَا يَرْمِيهَا بَعْدُ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْكَفَّارَةِ).
من ترك الرمي من غير عذر، تجب عليه الكفارة، فإن ترك أقلَّ من جَمرة، فما الحكم؟
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: إِنَّ مَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا، أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ).
مذهب مالك: أن في كل حصاة دمًا؛ لأن ابن عباس، قال:"من تَرَكَ شيئًا من مناسكِهِ فعليهِ دَمٌ".
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: إِنْ تَرَكَ كُلَّهَا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ، وإِنْ تَرَكَ جَمْرَةً وَاحِدَةً فَصَاعِدًا كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ جَمْرَةٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ
(1)
أخرج ابن ماجه (3054)، عن ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار، إذا زالت الشمس، قدر ما إذا فرغ من رميه، صلى الظهر".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 279)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن من لم يرْم الجمارَ أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد، وأنه يَجْبُرُ ذلك بالدَّم أو الطعام على حسب اختلافهم فيها".
(3)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب (1/ 233)؛ حيث قال: "ومن ترك رمي الجمار في يوم من أيام مِنًى أو في جميعها، فعليها دم بَدَنَة أو بقَرَةٌ أو شاة إن لم يجد البدنة ولا البقرة. وإن ذبح شاة مع وجود البدنة أو البقرة أجزأه والاختيار ما ذكرناه".
(4)
يُنظر: "بداية المبتدي" للمرغيناني (ص: 51)؛ حيث قال: "ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها فعليه دم، ويَكفيه دَمٌ واحد، وإن ترك رمي يوم واحد فعليه دم، ومن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث فعليه الصدقة، وإن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم".
حِنْطَةً، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ دَمًا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ، إِلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ).
قال أبو حنيفة: إن ترك جَمرَة العقبةِ أو الجمار كلها فعليه دَمٌ، وإن ترك غير ذلك فعليه في كل حصاة نصف صاع، إلى أن يبلغ دمًا.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: عَلَيْهِ فِي الْحَصَاةِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّانِ، وَفِي ثَلَاثٍ دَمٌ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي الرَّابِعَةِ الدَّمُ).
مذهب الشافعي: في الثلاثة دم، وفيما دون ذلك، في كل حصاة مُدٌّ.
* قوله: (وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا شَيْئًا، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ، فَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسَبْعٍ، وَبَعْضُنَا يَقُولُ: رَمَيْتُ بِسِتٍّ، فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ")
(2)
.
(1)
يُنظر: "المهذب في فقه الإِمَامِ الشافعي" للشيرازي (1/ 419)؛ حيث قال: "ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم لزِمَهُ دمٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تَرك نُسكُا فعليه دم" فإن ترك ثلاثَ حَصياتٍ فعليه دَمٌ لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق، فصار كما لو ترك الجميع، وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: يجِبُ عليه ثُلثُ دَم، والثاني: مد، والثالث: دِرهم، وإن ترك حَصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثا دم، وفي الثاني مدان، وفي الثالث درهمان، وإن ترك الرمي في أيام التشريق، وقُلنا بالقول المشهور إن الأيام كاليوم الواحد لزمه دَمٌ كاليوم الواحد، فإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت لزِمَه ثلاثة دماء، وإن تَرك رَمْي يوم النحر وأيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد، وإن قلنا: إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان، وإن قلنا: إن رمي كل يوم موقت بيومه لزِمَه أربعة دماء".
(2)
أخرجه النسائي (3077)، وقال الألباني:"صحيح الإسناد".
* قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
: لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ).
والظاهر أيضًا عن أحمد
(2)
أنه لا شيء عليه، في حصاة، ولا في حصاتين.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ (مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ): هِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ)
(3)
.
ليس من أركان الحج رمي جمرة العقبة؛ لأنه مُجَرَّدُ نُسُك بمِنًى، وليس وجوبه كوجوب الأركان؛ كالمَبيتِ والحِلاق، بل هو رمي جمار كسائر الجمار، ونُسكٌ يفعله الحاجُّ في غير مكَّة بعد الإحرام، ولا يتعلَّق فواتُ الحجِّ بفواته بالضبط كالمبيت بمزدلفة.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ جُمْلَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ إِلَى أَنْ يُحِلَّ، وَالتَّحَلُّلُ تَحَلُّلَانِ: تَحَلُّل أَكْبَرُ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَتَحَلُّلٌ أَصْغَرُ، وَهُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِي هَذَا مِنَ الِاختِلَافِ).
سيأتي شرح ذلك إن شاء اللَّه.
(1)
قال ابن حزم مستنكرًا للأقوال المذكورة ونحوها في "المحلى"(5/ 132): "قال أبو محمد: وهذه الأقوال المذكورة كلها ليمس شيء منها جاء به نص، ولا رِواية فاسدة، ولا قول صاحب، ولا تابع، ولا قياس، ولا قال بشيء منها أحد نَعلَمُه قبل القائل بكل قول ذكرناه عمن ذكرناه عنه؟ ".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (1/ 528)، حيث قال:"وإن ترك حصاة أو اثنتين، فعلى الرواية الأُولى لا شيء عليه".
(3)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 518)؛ حيث قال: "وليس من أركانه رمي جمرة العقبة خلافًا لعبد الملك؛ لأنه نسك بمِنَى، فلم يكن وجوبه وجوب الأركان كالمبيت والحلاق، ولأنه رمي كسائر الجمار، ولأنه نسك يفعل بغير مكة بعد الإحرام لا يتعلَّق فوات الحج بفواته كالمبيت بمزدلفة".
[الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّالِثِ]
[الْقَوْلُ فِي الْإِحْصَارِ في الحج]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّالِثِ وَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ فِي الْأَحْكَامِ
وَقَدْ بَقِيَ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْحَجِّ. وَأَعْظَمُهَا فِي حُكْمِ مَنْ شَرَعَ فِي الْحَجِّ فَمُنِعَهُ بِمَرْضٍ أَوْ بِعَدُوٍّ، أَوْ فَاتَهُ وَقْتُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ، أَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِإِتْيَانِهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلْحَجِّ، أَوْ لِلأفْعَالِ الَّتِي هِيَ تُرُوكٌ أَوْ أَفْعَالٌ، فَلْنَبْتَدِئْ مِنْ هَذِهِ بِمَا هُوَ نَصٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ حُكْمُ الْمُحْصَرِ، وَحُكْمُ قَاتِلِ الصَّيْدِ، وَحُكْمُ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ، وإلْقَائِهِ التَّفَثَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ، وَحُكْمُ الْقَارِن عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ فِي هَذِهِ هُوَ لِمَكَان الرُّخْصَةِ).
هذه مقدِّمة يشرح فيها المؤلِّفُ ترتيبَ عَملِهِ.
* قوله: (الْقَوْلُ فِي الْإِحْصَارِ، وَأَمَّا الْإِحْصَارُ
(1)
فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ -سُبْحَانه-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، إِلَى قَوْلِهِ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]).
الإحصارُ: أن يُحبس الحاجَّ عن بُلوغ المنَاسِك بسبب المَرَض أو العَدُوِّ، كما سيأتي.
(1)
يُنظر: "العين" للخليل (3/ 113)؛ حيث قال: "الإحصارُ: أن يَحصُرَ الحاجَّ عن بُلوغ المنَاسِك مَرَضٌ أو عَدُوٌّ".
* قوله: (فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَهوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ بِعَدُوٍّ، فَأَوَّلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلِ الْمُحْصَرُ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ؟ أَوِ الْمُحْصَرُ بِالْمَرَضِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُحْصَرُ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُحْصَرُ بِالْمَرَضِ).
اختلف أهل التأويل في الإحصار الذي جعل اللَّه على من ابتُلِي به في حَجِّه، وعُمرته ما استَيْسَرَ من الهدْي.
* قوله: (فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَرَ هَاهُنَا هُوَ الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْمَرَضِ بَعْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَهَذِهِ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ).
قالوا: معنى قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، فإن حَبَسَكُم عَدَوٌّ عن الوصول إلى البيتِ، أو حابس قاهر من بَنِي آدَم.
قالوا: فأما العِللُ العارِضة في الأبدان كالمرض، والجراح، وما أشبهها، فإن ذلك غيرُ داخل في قوله:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ، وعِلَّةُ من قال هذه المقالة -أعني: من قال: إن هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت-، فأمر اللَّه نَبِيَّه ومن معه بنحْرِ هَداياهم والإحلال.
قالوا: فإنما أنزل اللَّه هذه الآية في حصر العدو، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلت فيه.
* قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْمُحْصَرِ بِالْمَرَضِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمُحْصَرَ هُوَ مَنْ أُحْصِرَ، وَلَا يُقَالُ: أُحْصِرَ فِي الْعَدُوِّ،
وإنَّمَا يُقَالُ: حَصَرَهُ الْعَدُوُّ، وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مُحْصِرٌ، وَصِنْفٌ غَيْرُ مُحْصِرٍ. وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196]، مَعْنَاهُ مِنَ الْمَرَضِ).
علة من قال بهذه المقالة أن الإحصار معناه في كلام العرب: مَنْع العِلَّة من المَرض، وأشباهه غير القَهر، والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة عِلَّة من مرض، أو لَدْغ، أو جِراحة، أو ذَهاب نَفقة، أو كسْر راحلة.
فأما منع العدو، وحبس حابس في سِجْن، وغلبة غالب حائل بينَ المُحْرِمِ والوصول إلى البيت من سُلطانِ، أو إنسان قاهرٌ مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب حصرًا لا إحصارًا. قالوا: ومما يدل على ذلك قول اللَّه -جل ثناؤه-: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] يعني به: حاصرًا، أي: حابسًا. قالوا: ولو كان حبسُ القاهِرِ الغالبِ من غير العِلَلِ التي وصفنا يُسمَّى إحصارًا لوجب أن يقال: قد أحصر العدو. قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على "حوصِرَ العَدو" و"العدو محاصر"، دون "أحصر العدو" و"هم محصرون"، و"أحصر الرجل" بالعِلَّةِ من المَرض والخوف أكبر الدَّلالَةِ على أن اللَّه -جل ثناؤه- إنما عنى بقوله:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] بمرض، أو خوف، أو علة مانعة. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى حصر المَرَضِ قِياسًا على ما جعل اللَّه -جل ثناؤه- من ذلك للمريض الذي منعه المَرضُ من الوصولِ إلى البَيتِ، لا بِدَلالةِ ظاهِرِ قوله:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] إذ كان حبس العَدُوِّ والسلطان، والقاهر علة مانِعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
* قوله: (وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَقَالُوا عَكْسَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ "أَفْعَلَ" أَبَدًا و"فَعَلَ" فِي الشَّيءِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يَأْتِي لِمَعْنِيَينَ: أَمَّا "فَعَلَ" فَإِذَا أَوْقَعَ بِغَيْرِهِ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا "أَفْعَلَ" فَإِذَا عَرَّضَهُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِهِ. يُقَالُ: قَتَلَهُ إِذَا فَعَلَ بِهِ فِعْلَ الْقَتْلِ. وَأَقْتَلَهُ إِذَا عَرَّضَهُ لِلْقَتْلِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا
هَكَذَا فَأَحْصَرَ أَحَقُّ بِالْعَدُوِّ، وَحَصَرَ أَحَقُّ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا عَرَّضَ لِلْإِحْصارِ، وَالْمَرَضُ فَهُوَ فَاعِلُ الْإِحْصَارِ، وَقَالُوا: لَا يُطْلَقُ الأَمْنُ إِلَّا فِي ارْتِفَاعِ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِنْ قِيلَ فِي المَرَضِ فَبِاسْتِعَارَةٍ، وَلَا يُصَارُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ إِلَّا لأَمْرٍ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَكَذَلِكَ ذِكرُ حُكْمِ الْمَرِيضِ بَعْدَ الْحَصْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ أَنَّ الْمُحْصَرَ غَيْرُ الْمَرِيضِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
(1)
. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
،
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 173)؛ حيث قال: "فلم أسمع ممَّن حَفِظت عنه من أهل العلم بالتفسير مخالِفًا في أن هذه الآية نزلت بالحُدَيبِيَةِ حين أحْصِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فحال المشركون بينه وبين البيتِ، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحَرَ بالحُديبية وحَلَق ورجع حلالًا، ولم يَصِلْ إلى البيتِ ولا أصحابه إلا عثمان بن عفان وحده، وسنذكر قِصَّتَهُ وظاهر الآية أن أمر اللَّه عز وجل إياهم أن لا يحْلِقُوا حتى يبلغ الهَدي محله وأمرَهُ ومن كان به أذًى من رأسه بفدية سماها، وقال عز وجل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، وما بعدها يشبه واللَّه أعلم أن لا يكون على المُحْصرِ بعدُؤ قضاء لأن اللَّه تعالى لم يذكر عليه قضاء وذكر فرائض في الإحرام بعد ذكر أمره (قال): والذي أعقل في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت من ظاهر الآية، وذلك أنا قد علمنا في متواطئ أحاديثهم أن قد كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية رجال يعرفون بأسمائهم، ثم اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمرة القَضِيَّة وتخلف بعضهم بالحديبية من غير ضرورة في نفس ولا مال علمته، ولو لزمهم القضاء لأمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن شاء اللَّه تعالى أن لا يتخلفوا عنه، وما تخلفوا عن أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي تواطؤ أخبر أهل المغازي وما وصفت من تخلف بعض من أحصر بالحديبية، والحديبية موضع من الأرض منه ما هو في الحل، ومنه ما هو في الحرَمِ، فإنما نجر الهدي عندنا في الحل وفيه مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي بويع فيه تحت الشجرة، فأنزل اللَّه عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] فبهذا كله نقول، فنقول: من أحصِرَ بعَدُوٍّ حلَّ حيث يحبس في حل كان أو حرم ونحر أو ذبح هديًا".
(2)
يُنظر: "أقرب المسالك" للدردير (2/ 133)؛ حيث قال: " (وإن وقف) بعرفة (وحصر عن البيت) بعدو أو مرض أو حبس ولو بحق (ففد أدرك الحج، ولا يحل بالإفاضة ولو بعد سنين)، وذكر الثالث وهو ما إذا حصر عن البيت وعرفة معًا بقوله:(وإن حصر عنهما بعدو) صده عنهما معًا، (أوحبس) لا بحق بل (ظُلمًا فله التحلل متى =
وَأَبِي حَنِيفَةَ)
(1)
.
من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوفُ عدو، أو مرض، أو عِلَّة عن الوصول إلى البيت؛ أي: صيركم خوفكم، أو مرضكم تحصرون أنفْسَكُم، فتَحْبِسُونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحج، والعمرة. فلذا قيل:"أحصرتم" لما أسقط ذكر الخَوفِ والمرض، يقال منه: أحصَرَني خَوفي من فلان عن لقائك، ومرَضِي عن فلان، يراد به: جعلني أحبس نَفْسي عن ذلِكَ. فأما إذا كان الحابس الرجل والإنسان، قيل: حصرني فلان عن لقائك، بمعنى حبسني عنه. فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قولِهِ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] فإن حبَسَكُم حابِسٌ من العدُوِّ عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حصرتم. ومما يبين صحة ما ذكروا من أنَّ المراد بها إحصار غير العدو، وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو، قوله:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، والأمن إنما يكون بزوال الخوف.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى اللَّه في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمْن.
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن حبس الحابس الذي ليس مع حبسه خوف على النفس من حَبسِهِ داخلًا في حكم الآية بظاهرها المتلو، وإن
= شاء) وهو الأفضل (بالنية، ولو دخل مكة) أو قاربها، وليس عليه التحلل بفعل عمرة، وله البقاء على إحرامه حتى يتمكن من البيت فيحل بعمرة أو لقابل حتى يقف ويتم حَجَّه، ومثل من صدَّ عنهما معًا بما ذكر من صدَّ عن الوقوف فقط، بمكان بعيد عن مكة، أي فلَهُ التحلل بالنية كما صرحوا به".
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 574)؛ حيث قال: " (والإحصار من العدو، والمرض سواء)؛ لقول اللَّه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، وقال أهل اللغة: يقال: أحصره المرض، وحصَرَهُ العَدُوُّ، فالذي في لفظ الآية: الإحصار من المرض، ومن جهة السُّنَّةِ: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كُسِرَ أو عرج، فقد حَلَّ، وعليه الحج من قابل"، ولأن المعنى الذي من أجله جاز له الإحلال في الإحصار من العدو، هو موجود في المرض، وهو الحبس".
كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمِهِ من وجه القياس من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالد، وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنع عن الشُّخوصِ لعمَلِ الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام، غير داخل في ظاهر قوله:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] لما وصفنا من أن معناه: فإن أحصركم خوف عدو، بدلالة قوله:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وقد بيَّن الخَبر الذي ذكرنا آنفًا عن ابن عباس أنه قال: الحَصرُ: حصرُ العَدُوِّ. وإذ كان ذلك التفسير أولى بالآية، وكان ذلك منْعًا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمُحْصَرُ هَاهُنَا الْمَمْنُوعُ مِنَ الْحَجِّ بِأَيِّ نَوْعٍ امْتَنَعَ؛ إِمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ بِعَدُوٍّ، أَوْ بِخَطَأٍ فِي الْعَدَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ).
قال بعضهم: هو كل مانِعٍ، أو حابس منع المحرم، وحبسَهُ عن العمل الذي فرضه اللَّه عليه في إحرامه ووصوله إلى البيتِ الحرَامِ.
* قوله: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَنِ الْحَجِّ ضَرْبَانِ: إِمَّا مُحْصَرٌ بِمَرَضٍ، وَإِمَّا مَحْصَرٌ بِعَدُوٍّ. فَأَمَّا الْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ فَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ
(1)
عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ أَوْ حَجِّهِ حَيْثُ أُحْصِرَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
(2)
: لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ).
العلماء قد اتفقوا على أن المحرم الذي قد حصره العدو، فمُنع
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 326)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين، أو غيرهم، فمنعوه الوصول إلى البيت، ولم يجد طريقًا آمنًا، فله التحلل".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 172)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد: ليس ذلك له ولا يتحلل دون يوم النحر، وهو قول الثوري والحسن بن صالح".
الوصول إلى البيت، ولم يجد أيَّ طريقٍ آمنٍ يمرُّ من خلاله، فله حينئذٍ أن يتحلَّل.
والدليل:
1 -
أنه قد نص اللَّه تعالى عليه بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
2 -
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم حُصِرُوا في الحديبية أن ينحروا، ويحْلِقوا، ويحلوا
(1)
.
* قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: يَتَحَلَّلُ حَيْثُ أُحْصِرَ. اخْتَلَفُوا فِي إيجَابِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ نَحْرِهِ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ، وَفي إِعَادَةِ مَا حُصِرَ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ حَيْثُ حَلَّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(3)
إِلَى الجَابِ الْهَدْيِ
(1)
أخرجه الطحاوي في "معرفة السنن والآثار"(8782).
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 398)؛ حيث فيها: "قلت لابن القاسم: أكان مالك يأمر بالهَدْي إذا أحصر بعدو أن ينحر هديه الذي هو معه؟ قال: نعم. قال: وقلت لمالك: فإن كان المحصور بعدو ضرورة أيجزئه ذلك من حجة الإسلام؟ قال: لا يجزئه وعليه حجة الإسلام من قابل. قلت لابن القاسم: أرأيت هذا المحصور بعدو إن كان قد قضى حجة الإسلام ثم أحصر فصد عن البيت، أيكون عليه قضاء هذه الحجة التي صد عنها؟ قال: لا. قلت: وكذلك إن صد عن العمرة بعدو حصره؟ قال: نعم لا قضاء عليه. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن أحصر بعدو قبل أن تمضي أيام الحج ويفوت الحج؟ قال: لا يكون محصورًا وإن حصره العدو حتى يفوته الحج. قلت: فإن أحصر فصار إن حل لم يدرك الحج فيما بقي من الأيام، أيكون محصورًا أو يحل مكانه ولا ينتظر ذهاب الحج؟ قال: نعم هو الآن محصور. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: ما أدري، أوقفته عليه وهو رأيي".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 175)؛ حيث قال: "وعليه الهدي لإحصاره سوى ما وجب قبل أن يحصر من هدي وجب عليه بكل حال، ولو وجب عليه هدي في فوره ذلك فلم يكن معه كان له أن يشتريه ويذبحه مكانه".
عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
(1)
. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
ذَبْحَهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: حَيْثُمَا حَلَّ).
إذا قدر المحصر على الهدي، فليس له الحل قبل ذبحه، فإن كان معه هَدْي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شِراؤه إن أمكنه، ويُجزئه أدْنى الهَدْي، وهو شاة، أو سُبع بدنة؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
* قوله: (وَأَمَّا الْإِعَادَةُ فَإِنَّ مَالِكًا
(4)
يَرَى أنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (5/ 605)؛ حيث قال: "وقال أشهب في المحصر بعدو: إنه يهدي".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 574)؛ حيث قال: "وثبت على إحرامه حتى ينحر عنه هدي في الحرم)؛ وذلك لقول اللَّه تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، فدل على معنيين؛ أحدهما: أنه لا يجوز الإحلال إلا بعد ذبح الهدي. والثاني: أن يكون الذبح في الحرم، وذلك لأن قوله: "حتى": غاية، ولو كان موضع الإحصار موضع ذبح الهدي، لم يكن يشرط فيه بلوغ غاية هي المحل، ويدل عليه قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ}: يعني من المحصَرِين؛ لأن الكناية راجعة إليهم، {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، ولو جاز له أن يحل في الحل بذبح الهدي فيم موضعه، لما صح فيه هذا الحكم. ومعنى قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}: أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي للتطوع، فجعله للإحصار، فلم يبلغ المحل الذي له ساقه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بدنةَ ناجِيةَ بنِ جُندب الأسلمي رضي الله عنه حتى أخذ بها في الشعاب والأودية، فنحرها في الحرم".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 173)؛ حيث قال: "أما السُّنة فتدل على أن محله في هذا الموضع نحره؛ لأن "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر في الحل"، فإن قال فقد قال اللَّه عز وجل في البُدن: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، قيل ذلك إذا قدر على أن ينحَرَهَا عند البيت العتيق فهو محلها".
(4)
يُنظر: "المدونة"(1/ 398)؛ حيث فيها: "قلت لابن القاسم: أرأيت هذا المحصور بعدو إن كان قد قضى حَجَّة الإسلام ثم أحصر فصد عن البيت، أيكون عليه قضاء هذه الحَجَّة التي صُدَّ عنها؟ قال: لا. قلت: وكذلك إن صُدَّ عن العمرة بعدو حصره؟ قال: نعم، لا قضاء عليه. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن أحصر بعدو قبل أن تمضي أيام الحج ويفوت الحج؟ قال: لا يكون محصورًا وإن حصره العدو حتى يفوته الحج".
قَوْمٌ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَتَانِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا قَضَى عُمْرَتَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تَقْصِيرٌ، وَاخْتَارَ أَبُو يُوسُفَ تَقْصِيرَهُ)
(2)
).
قال مالك ومن تَبِعَهُ: كانت قضاء عن العمرة الأولى وعُدَّتْ عمرة الحديبية في العمر؛ لثبوت الأجر فيها لا لأنها كَمُلَت، وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه.
وعن أبي حنيفة عكسه.
(وَعُمْدَةُ مَالِكٍ فِي أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَّقُوا رُؤوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ"
(3)
. ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَعُودَ لِشَيْءٍ).
فحجة الجمهور: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(وَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي
(1)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لأبي الفضل الحنفي (1/ 169)؛ حيث قال: "وإذا تحلل المحصر بالحج فعليه حجة وعمرة، وعلى القارن حجة وعمرتان، وعلى المعتمر عمرة".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 107)؛ حيث قال: "ثم إذا بعث الهدي إلى الحرم فذبح عنه فليس عليه حَلْقٌ، ولا تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه تعالى خلافًا لأبي يوسف".
(3)
سبق ذكره، وتخريجه.
الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةَ قَضَاءً لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ"
(1)
. وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ. وإجْمَاعُهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ)
(2)
.
حُجَّة من أوجبها ما وقع للصحابة فإنهم نحروا الهَدْي حيث صُدُّوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدي وقد روى أبو داود من طريق أبي حاضِر قال: اعتمرت فأحصرت فنحرت الهدي وتحللت ثم رجعت العام المقبل فقال لي ابن عباس: "ابذلِ الهَدْى فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك".
وحجة من لم يوجِبْها أن تَحَللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهَدْي بل أمر من معه هَدْي أن ينحَرَهُ، ومن ليس معه هدي أن يحلِقَ، واستدل الكل بظاهر أحاديث من أوجبهما.
وحجة أبي حَنِيفة: أن العُمرَةَ تَلزمُ بالشُّروع، فإذا أحصِرَ جاز له تأخيرُها، فإذا زال الحصرُ أتى بها ولا يلْزَمْ مِنَ التَّحلل بين الإحرامَيْنِ سقوطُ القضاءِ.
قال ابن إسحاق
(3)
: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذِي القَعدَةِ مثل الشهر الذي صُدَّ فيه المشركون معتمرًا عُمرةَ القَضاء مكان عمرته التي صدوه عنها.
وكذلك ذكروا: أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى عُمرةِ القضاء في ذي القَعدةِ.
(1)
أخرج البخاري (1809) عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا".
(2)
يُفهم هذا الإجماع من نصوص الفقهاء المذكورة آنفًا، ولم أقف على من نصَّ عليه.
(3)
يُنظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 370)؛ حيث قال: "قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر، أقام بها شَهْرَي ربيع وجَماديين ورجبًا وشعبان ورمضان وشوالًا، يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه صلى الله عليه وسلم ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرًا عُمرةَ القضاء، مكان عُمرته التي صَدُّوهُ عَنْهَا".
* قوله: (فَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ هَلْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَمْ يَقْضِ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِالْقِيَاسِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ ثَانِ غَيْرِ أَمْرِ الْأَدَاءِ)
(1)
.
عمرة القضاء سُمِّيت بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قريشًا عليها، أو لأنه قضى العمرة.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيَ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا عَامَّة؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ فِيهَا نَصٌّ، وَقَدِ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِنَحْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابِهِ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرُوا
(2)
. وَأَجَابَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ هَدْيَ تَحَلُّلٍ، وَإِنَّمَا كَانَ هَدْيًا سَبَقَ ابْتِدَاءً. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ).
هذا هو الأصلُ عندهم، فلا هَدْي حتى يقوم الدليل فنقول بالهدي.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَكَان الْهَدْيِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ فَالْأَصْلُ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَحْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ
(1)
يُنظر: "الروض الأنف" للسهيلي (7/ 157)؛ حيث قال: "وسُمِّيت عُمرة القضاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قُريشًا عليها، لا لأنه قضى العمرة التي صد عن البيت فيها، فإنها لم تك فسدت بصَدِّهم عن البيت، بل كانت عمرة تامة متقَبَّلة، حتى إنهم حين حلَقُوا رؤوسهم بالحل احتملتها الريح فألقتها في الحرم، فهي معدودة في عُمَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهي أربع: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجِعرانة، والعمرة التي قرنها مع حَجِّه في حجة الوداع، فهو أصح القولين أنه كان قارنًا في تلك الحجة".
(2)
سبق ذكره قريبًا من كلام ابن عباس رضي الله عنهما.
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ عَنِ الْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ حَجًّا وَعُمْرَةً، لِأَنَّ الْمُحْصَرَ قَدْ فَسَخَ الْحَجَّ فِي عُمْرَةٍ، وَلَمْ يُتِمَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ).
وهذا -واللَّه أعلم- في من كان حَصرُهُ خاصًّا، وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد؛ لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحِلِّ، لتعذُّرِ وصول الهدي إلى مَحِلِّه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية، وهي من الحل.
قال البخاري: قال مالك وغيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حَلَقُوا، وحلوا من كل شيء، قبل الطواف، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت. ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أن يقضي شيئًا، ولا أن يعودوا له.
وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْرَ هدْيَهُ عند الشجرة التي كانت تحتَها بَيعَةُ الرُّضوان، وهي من الحِل باتفاق أهل السِّيرَةِ والنَّقْلِ، قال اللَّه تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، ولأنه موضعُ حِلِّه، فكان موضع نحرِهِ، كالحرَمِ، وسائر الهدايا يجوز للمُحْصَرِ نحرها في موضع تحلُّلِه، فإن قيل: فقد قالَ اللَّه تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، ولأنه ذبْحٌ يتعلَّقُ بالإحرام، فلم يَجُزْ في غيرِ الحرم، كدَمِ الطِّيب واللباس. قلنا: الآية في حقِّ غيرِ المُحْصَرِ، ولا يمكن قياس المحَصر عليه؛ لأن تحلل المُحصر في الحل، وتحلل غيرُه في الحرم، فكل منهما ينْحَرُ في موضِعِ تحَلُّله. وقيل في قوله:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]؛ أي: حتى يذبَحَ، وذبْحُهُ في حقِّ المُحصَرِ في موضع حِلِّه، اقتداءً بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَأَمَّا الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ فَإِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ
(1)
وَأَهْلَ
(1)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص: 93)، حيث قال: "من أحصر تحلل وقيل: =
الْحِجَازِ أَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَنَّهُ بِالْجُمْلَةِ يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ بِطُولِ مَرَضِهِ انْقَلَبَ عُمْرَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ
(1)
، وَعَائِشَةَ
(2)
، وَابْنِ عَبَّاسٍ)
(3)
.
من يتعذر عليه الوصول إلى البيتِ بغيرِ حَصْرِ العدُوِّ، من مرض، أو عَرَجٍ، أو ذَهابِ نفَقَةٍ، ونحوه، أنه لا يجوز له التحلل بذلك.
وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في مشهور مذهبه.
* قوله: (وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا: يَحِلُّ مَكَانَهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ، أَعْنِي: أَنْ يُرْسِلَ هَدْيَهُ، وَيُقَدِّرَ يَوْمَ نَحْرِهِ، وَيَحِلَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ)
(4)
.
هذا مذهب الأحناف
(5)
.
= لا تَتَحلَّل الشِّرذَمة ولا تحلل بالمرض، فإن شَرطه تحَلَّل به على المشهور ومن تحلل ذبحَ شاة حيث أحصر. قلت: إنما يحصُل التَّحَلُّلُ بالذبح ونية التحلُّل، وكذا الحلق إن جعلناه نُسُكًا، فإن فقد الدم فالأظهر أن له بدلًا، وأنه طعام بقيمة الشاة، فإن عجز صام عن كل مُدٍّ يومًا وله التحلُّل في الحال في الأظهر واللَّه أعلم، وإذا أحرم العبدُ بلا إذن فلسيِّدِهِ تحليله وللزوج تحليلها من حج تطوع لم يأذن فيه، وكذا من الفرض في الأظهر ولا قضاء على المحصر المتطوع، فإن كان فرضًا مستقرًّا بقي في ذمته أو غير مستقر اعتبرت الاستطاعة بعد، ومن فاتَه الوقوف تحلل بطواف وسَعَي وحَلَق وفيهما قول وعليه دم والقضاء".
(1)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 361): عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال: "المحصر بمَرَضٍ لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بدَّ له منها، أو الدواء، صنع ذلك وافتدى".
(2)
أخرج البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(7/ 493) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ:"الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ".
(3)
ذكره البخاري معلقًا.
(4)
أخرج ابن أبي شيبة (13866): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "إِذَا نُحِرَ هَدْيُهُ حَلَّ".
(5)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 2131)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: لا يجوز ذبْحُ هدي الإحصار إلا في الحرم".
* قوله: (وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرو الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أُخْرَى"
(1)
. وَبِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِعَدُوٍّ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ إِحْلَالِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ
(2)
).
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أُخْرَى".
ولأنه محصر يدخل في عُمومِ قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
يحققه: أن لفْظَ الإحصار إنما هو للمَرَضِ ونحوه، يقال: أحصره المرض إحصارًا، فهو محصرٌ، وحصرَهُ العَدُوُّ، حصرًا، فهو محصور، فيكون اللفظ صريحًا في محل النزاع، وحصر العَدو مقيس عليه. ولأنه مصدود عن البيت، أشبه من صده عدو.
ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله، ولا التخلص من الأذى الذي به، بخلاف حصر العدو، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ضُباعَة بنتِ الزُّبَيرِ، فقالت: إني أريد الحج، وأنا شاكية. فقال:"حجِّي، واشْتَرِطي أن مَحِلِّي حيث حَبَسْتَنِي".
فلو كان المرض يبيح الحل، ما احتاجت إلى شرط، وحديثهم متروك الظاهر، فإن مجرد الكَسْر والعرج لا يصير به حلالًا، فإن حملوه على أنه يبيح التحلل، حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك، على أن في حديثهم كلامًا، فإنه يرويه ابن عباس، ومذهبه خلافه.
(1)
أخرجه أبو داود (1862)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح".
(2)
يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (2/ 255)؛ حيث قال: "تلك الأشياء من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، قد صد عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله".
فإن قلنا: يتحلل. فحكمه حكم من أحصر بعَدُوٍّ على ما مضى. وإن قلنا: لا يتحلل. فإنه يقيم على إحرامه، ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة، وليس له نحره في مكانه؛ لأنه لم يتحَلَّل. فإن فاته الحج، تحلل بعُمرة، كغير المريض.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ عَلَيْهِ الْهَدْيُ
(1)
، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ
(2)
: لَا هَدْيَ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْمُحْصَرِ، وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْمُحْصَرِ هُوَ حَصْرُ الْعَدُوِّ).
ذهب الجمهور إلى وُجوب الهَدْي، وهو ظاهر الأحاديث الثابِتَةِ عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في الحُدَيبِيَةِ.
واستدلوا بالحديثِ الذي جاء عن سالمٍ، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "أليس حَسْبُكم سنَّة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج، طاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء، حتى يحج عامًا قابِلًا، فيهدي أو يصوم إن لم يجِدْ هَدْيًا"
(3)
.
لأنَّ قوله: "فيهدي"، فيه دليلٌ على وُجوب الهدي على المحصر، ولكن الإحصار الذي وقع في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا وقع في العمرة فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارِقِ.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ)
(4)
.
وجوب القضاء على المُحصر بمرض.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 178)؛ حيث قال: "وهو قول جمهور العلماء".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 178)؛ حيث قال: "وشذت طائفة قالت: من أحصر بمرض أو كسر أو عرج فقد حل بالموضع الذي عرض له هذا فيه ولا هدي عليه وعليه القضاء، وممن قال بهذا أبو ثور وداود".
(3)
أخرجه البخاري (1810).
(4)
هذا مفهوم من النصوص المذكورة آنفًا، ولم أقف على من نصَّ عليه.
* قوله: (وَكُلُّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِخَطَأٍ مِنَ الْعَدَدِ فِي الْأَيَّامِ، أَوْ بِخَفَاءِ الْهِلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
.
لو فاته الوقوف بغير عدو كمرض أو خطا عدد، أو حُبس بحق لم يحل إن شاء التحلل إلا بفعل عمرة بلا إحرام.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِعُذْرٍ غَيْرَ الْمَرَضِ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ).
إذا فاته الحج فإنه يتحلل بعمل العُمرة، عند أبي حنيفة.
* قوله: (وَالْمَكِّيُّ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
كَغَيْرِ الْمَكِّيِّ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَإِعَادَةُ الْحَجِّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
(4)
: لَا بُدَّ أَنْ يَقِفَ
(1)
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 591)؛ حيث قال: " (أو فاته الوقوف بغير) أي غير ما سبق من عدو وما معه (كمرض أو خطا عدد)، ولو لجميع أهل الموسم بعاشر أو خفاء هلال لغير الجميع بعاشر، (أو حبس بحق)، ومنه حبس مدين لم يثبت عسره (لم يحل) في ذلك كله إن شاء التحلُّل، (ألا بفعل عمرة بلا) تجديدًا (إحرام) بالمعنى السابق فلا ينافي أنه لا بدَّ من نية التحلُّل بها، وكان حقه أن يأتي هنا بقوله فيما مر وكره إبقاء إحرامه أن قارب مكة أو دخلها فإن هذا محله كما مر".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 578)؛ حيث قال: "ومن فاته الحج تحلل بعمل عمرة".
(3)
يُنظر: "المدونة"(1/ 402)؛ حيث فيها: "قلت لابن القاسم: ما قول مالك في مكي أحرم من مكة بالحج فحصر بمرض، أو رجل دخل مكة معتمرًا، ففرغ من عمرته، ثم أحرم بالحج من مكة فحصر فبقيا محصورين حتى فرخ الناس من حجهم؟ قال: قال مالك: يخرجان إلى الحل فيلبيان من الحل، ويفعلان ما يفعل المعتمر ودحلان وعليهما الحج من قابل والهدي مع حجهما قابلًا".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 182)؛ حيث قال: "وقال ابن شهاب الزهري فيمن أُحْصِرَ في مكة من أهلها: لا بدَّ له من أن يقف بعرفة".
بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ [نُعِشَ نَعْشًا]
(1)
).
المكِّي عند مالك كغيره، فإنه يحل بعمرة، ويجب عليه الهدي، ثُمَّ يجب عليه إعادة الحج.
* قوله: (وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ إِنْ بَقِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَتَّى يَحُجَّ حَجَّةَ الْقَضَاءِ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ هَدْيُ الْمُحْصَرِ، لِأَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ-:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُحْصَرِ
(2)
، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّ عَلَيْهِ هَدْيَيْنِ: هَدْيًا لِحَلْقِهِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ نَحْرِهِ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ، وَهَدْيًا لِتَمَتعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنْ حَلَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْعُمْرَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ هَدْيُ التَّمَتُّعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ نُسُكِ الْحَجِّ).
قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ، اختلفوا في معناها، ومراد المؤلف أنَّ بعضهم قال: إن شفيتم من المرض الذي حلَّ بكم وأحصركم عن الحج.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ رحمه الله فَكَانَ يَتَأَوَّلُ؛ لِمَكَانِ هَذَا أَنَّ الْمُحْصَرَ إِنَّمَا عَلَيْةِ هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْهَدْيَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هُوَ بِعَيْنِهِ الْهَدْيُ الَّذِي في قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
(1)
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري"(4/ 464): "وقال الزهريُّ: إذا أحصر المكيُّ فلا بدَّ له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بعساء".
(2)
يُنظر: "تفسير الطبري"؛ حيث قال: "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم، أو عمرتكم".
الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وَفِيهِ بُعْدٌ فِي التَّأوِيلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ-:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، أَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ بَلْ هُوَ فِي التَّمَتُّعِ الْحَقِيقِيِّ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ، لَكِنْ تَمَتَّعْتُمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
(1)
. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأوِيلِ قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وَالْمُحْصَرُ يَسْتَوِي فِيهِ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعٍ)
(2)
.
العلماء أجمعوا أنَّ الذي قد أحرم في شهور الحج بالعمرة، ثم حل منها، وليس هو من حاضري المسجد الحرام، ثم أقام بمكة حلالا، ثم حج من عامه، أنه متمتع، عليه دم. لأن اللَّه -سبحانه- يقول:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(3/ 411)؛ حيث قال: "حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196]، قال: "إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه" وهذا القول أشبه بتأويل الآية؛ لأن الأمن هو خلاف الخوف، لا خلاف المرض، إلا أن يكون مرضًا مخوفًا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد. وإنما قلنا: إن معناه الخوف من العدو؛ لأن هذه الآيات نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية، وأصحابه من العدو خائفون، فعرَّفهم اللَّه بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 416)؛ حيث قال: "أجمع العلماء على أن من أحرم في أشهر الحج بعمرة، وحل منها، ولم يكن من حاضري المسجد الحرام، ثم أقام بمكة حلالًا، ثم حج من عامِهِ، أنه متمتع، عليه دم، وقال القاضي: إذا تجاوز الميقات، حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر، فأحرم منه، فلا دم عليه للمتعة؛ لأنه من حاضري المسجد الحرام، وليس هذا بجيد؛ فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به، وهذا لم يحصل منه الإقامة، ولا نِيَّتها، ولأن اللَّه تعالى قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ".
* قوله: (وَقَدْ قُلْنَا فِي أَحْكَامِ الْمُحْصَرِ الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلْنَقُلْ فِي أَحْكَامِ القَاتِلِ لِلصَّيْدِ).
سينتقل إلى نوعٍ آخر من الأحكام، وهي أحكام الصيد.
[الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ جَزَاءِ الصَّيْدِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْله -تَعَالَى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] هِيَ آيةٌ مُحْكَمَةٌ)
(1)
.
أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الجملة، ونص اللَّه تعالى عليه بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِ أَحْكَامِهَا، وَفِيمَا يُقَاسُ عَلَى مَفْهُومِهَا مِمَّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلِ الْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثلُ
(2)
، وَذَهَبَ
(1)
لم يذكر أحدٌ من المفسرين خلافًا في كونها مُحكمة، انظر:"تفسير الطبري"(8/ 673)، قال ابن المنذر:"وأجمعوا على أن المحرم إذا قتل صيدًا عامدًا لقتله ذاكرًا لإحرامه أن عليه الجزاء""الإجماع"(ص 53).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد"(ص: 387)، حيث قال: " (ومن أصاب)؛ أي: قتل (صيدًا) بَرِّيًّا مأكول اللحم أو غير مأكوله غير ما نص عليه الشارع، سواء كان القاتل محرِمًا بأحد النسكين، أو كان بالحرم ولو لم يكن محرِمًا، وسواء كان حرًّا أو عبدا ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا كان القتل عَمْدًا أو خطأ أو نسيانًا مباشرة، أو تسببًا تكرر ذلك منه أو لم يتكرر (فعليه) =
أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيمَةِ -أَعْنِي: قِيمَةَ الصَّيْدِ-، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْمِثْلَ).
معنى قول الجمهور بالمثلية: جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم. هذا قول أكثر أهل العلم؛ منهم الشافعي، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة ويجوز فيها المثل؛ لأن الصيد ليس بمثلي.
والصواب: قول الجمهور؛ لقول اللَّه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشًا.
= وجوبًا (جزاء مثل ما قتل من النعم)، والمثلية تكون في الصورة والمساواة في القدر أو القرب، فعلى من قتل فِيلًا بدنة خراسانية ذات سنامين، وعلى من قتل بقرة وحشية أو حمارًا وحشيا أو ظبية بقرة إنسية، وعلى من قتل نعامة بدنة؛ لأنها تقاربها في القدر والصورة وعلى من قتل ضبُعًا أو ثعلبًا أو حمامًا من حمام مكة والحرم ويمامهما شاة، وفي غير حمام مكة والحرم حكومة؛ أي: فمن قتل حَمامًا في الحل فإنه يلزمه قيمته طعامًا؛ أي: حين الإتلاف وأدنى ما يجزئ في جزاء الصيد الجذع من الضأن والثني مما سواه؛ لأن اللَّه تعالى سماه هديًا فيشترط فيه ما يشترط في الهدي، ولما كان وجوب جزاء المثل لا يكتفى فيه بمعرفة نفسه".
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 560)؛ حيث قال: " (فإن قتل محرم صيدًا)؛ أي: حيوانًا برِّيًّا متوحشًا بأصل خلقته (أو دل عليه قاتله). . . (بدءًا أو عودًا، سهوًا أو عمدًا)، مباحًا أو مملوكًا (فعليه جزاؤه ولو سبعًا غير صائل). . . (و) الجزاء (هو ما قومه عدلان)، وقيل: الواحد ولو القاتل يكفي (في مقتله أو في أقرب مكان منه) إن لم يكن في مقتله قيمة، فأو للتوزيع لا للتخيير، (و) الجزاء في (سبع)؛ أي: حيوان لا يؤكل ولو خنزيرًا أو فيلًا (لا يزاد على) قيمة (شاة، وإن كان) السبع (أكبر منها) لأن الفساد في غير المأكول ليس إلا بإراقة الدم، فلا يجب فيه إلا دم؛ وكذا لو قتل مُعَلَّما ضمنه لحق اللَّه غير معلم ولمالكه معلمًا، (ثم له)، أي: للقاتل (أن يشتري به هدايا ويذبحه بمكة أو طعامًا ويتصدق) أين شاء (على كل مسكين) ولو ذميًّا (نصف صاع من بر أو صاعًا من تمر أو شعير) كالفطرة، (لا) يجزئه (أقل) أو أكثر (منه) بل يكون تطوعًا (أو صام عن طعام كل مسكين يومًا، وإن فضل عن طعام مسكين) أو كان الواجب ابتداء أقل منه (تصدق به أو صام يومًا) بدله".
* قوله: (وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ حُكْمِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَعَامَةً فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ تَشْبِيهًا بِهَا، وَمَنْ قَتَلَ غَزَالًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَمَنْ قَتَلَ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ إِنْسِيَّةٌ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَأْنِفُ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِهِ
(1)
. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِن اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ مِمَّا حَكَمُوا فِيهِ جَازَ).
قال أبو حنيفة ومالك: يستأنف الحكم فيه؛ لأن اللَّه تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أصحابي كالنجوم، بأيِّهِمُ اقتَدَيتُم اهتَدَيتُمْ"، وقال:"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر".
والصحابة أقرب إلى الصواب، وأبصر بالعلم، فكان حكمهم حُجَّة
(1)
"الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 493)؛ حيث قال: "مسألة: إذا تكرر من المحرم قتل الصيد لزمه الجزاء لكل مرة، خلافًا لداود في قوله: لا يلزمه إلا المرة الأولى، لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}، ولم يفصل بين الصيد الأول والثاني؛ ولأنه حيوان مضمون بالتكفير، فوجب أن تتكرر الكفارة بتكرير قتل جنسه كالآدمي، والاعتبار بأول مرة بعلة أنه صيد أتلفه وهو محرم".
(2)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 571)؛ حيث قال: " (وكلما قتل صيدًا حكم عليه كما ذكرنا)؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ}، ولم يفرق بين أول مرة وما بعدها. وقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} لا ينفي وجوب الجزاء؛ لأن أول الآية يوجبه، وآخرها يوجب الوعيد، ولا يمتنع اجتماع الوعيد والجزاء".
(3)
"بحر المذهب" للروياني (4/ 38)؛ حيث قال: "وكل دابة من الصيد لم يسمها ففداؤها قياسًا على ما سميا فداءه الصيد الذي له مثل على ضربين، فما حكمت فيه الصحابة بالمثل لا يعدل عنه إلى غيره؛ لأن حكم الصحابة والرجوع إلى قولهم أولى من غيرهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فهم أعلم من غيرهم، وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى أقرب الثلاثة للأجناس من النعم شبهًا بالصيد المقتول فأوجبناه".
على غيرهم، كالعالم مع العامي، والذي بلغنا قضاؤهم في الضبُعِ كبشٌ. قضى به عمر، وعلي، وجابر، وابن عباس.
وعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم:"جعل في الضبُعِ يَصِيدُها المُحرِمُ كبشًا".
* قوله: (وَمِنْهَا هَلِ الْآيَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ؟ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، يُرِيدُ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يُخَيِّرَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ زُفْرُ
(3)
: هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ).
اختلفوا في معنى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} .
فقال أبو حنيفة، ومالك: معنى ذلك أن القاتل وهو مُحرِم صيدًا عمدًا، لا يخلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر اللَّه تعالى من مثل المقتول هديًا بالغ الكعبة، أو طعام مسكين كفارة لما فعل، أو عدل ذلك صيامًا؛ لأنه مخير في أي ذلك شاء فعل، وأنه بأيها كان كفَّر فقد أدى الواجب عليه، وإنما ذلك إعلام من اللَّه تعالى عباده أنَّ قاتل ذلك كما وصف لن يخرج حكمه من إحدى الخلال الثلاثة.
قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول
(1)
يُنظر: "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب (2/ 329)؛ حيث قال: "ووجب أن يعلما أن الواجب عليه بقتل الصيد إن كان مما له مثل من النعم ثلاثة أشياء: إما مثله من النَّعَم، وهو جزاء. أو إطعام: وهو قيمة الصيد المتلف طعام. أو الصيام بدل كل مُدٍّ يومًا. وإنه خير في ذلك، ثم يُنظر فما اختار أن يحكما به عليه حكمًا بذلك الذي يختاره، وإن كان مما لا مثل له حكمًا عليه بقيمته. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن كفارة الصيد على التخيير دون الترتيب".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 198)؛ حيث قال: "فالقاتل بالخيار إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام، وإن لم يبلغ قيمته ثمن هدي فهو بالخيار بين الطعام والصيام، سواء كان الصيد مما له نظِيرَ، أو كان مما لا نظير له. وهذا قول أبي حنيفة".
(3)
لم أقف عليه.
من النعم، لا يجزيه غير ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا، أو لم يكن للمقتول مثل من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين.
وقال زفر: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم الخيار بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي الجزاء بمثله من النَّعَم، والطعام، والصوم.
قالوا: وإنما تأويل قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، فعليه أن يجزي بمِثلِهِ من النَّعَم، أو يكفر بإطعام مساكين أو بعدل الطعام من الصيام.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ أَوِ الْمِثْلُ إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ إِنْ وَجَبَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، فَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ طَعَامًا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يُقَوَّمُ الصَّيْدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: يُقَوَّمُ الْمِثْلُ).
اختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 444)؛ حيث فيها: "سألنا مالكًا عن الرجل يصيب الصيد وهو محرِم فيريد أن يحكم عليه بالطعام، أيُقَوَّمُ الصيد دراهم أم طعامًا؟ قال: الصواب من ذلك أن يقوم طعامًا ولا يقوم دراهم".
(2)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (4/ 37)؛ حيث قال: "الصيد على ضربين ضرب له مِثل وضرب لا مثل له، فما له مثل من النعم يضمن بمثله، وذلك مثل النعامة مثلها بدنة وحمار الوحش بقرة والضبع مثلها شاة ونحو ذلك. وما لا مثل له كالعصافير ونحوها يضمن بالقيمة فيجري ضمان الصيد مجرى ضمان الآدميين ما له مثل يضمن بالمثل، وما لا مثل له يضمن بالقيمة، فإذا قتل صيدًا له مثل، فإنه مخير بين ثلاثة أشياء إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل دراهم يشتري بالدراهم طعامًا، ويتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يومًا، وإن كان مما لا مثل له يخير بين شيئين بين أن يقوم الصيد بدراهم في الموضع الذي أصيب فيه، والدراهم طعامًا بمكة، ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يومًا، ولا يجوز إخراج القيمة، ووافقنا مالك في جميع ذلك إلا في فصل واحد، وهو أن عندنا إذا أراد إخراج الطعام، يقوم المثل دراهم، والدراهم طعامًا وعنده يقوم الصيد، ويقوم تلك القيمة طعامًا".
في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم إذا اختار الكفارة بأحدهما دون الهدي:
فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك فإن الواجب عليه أن يقوم المثل من النَّعَم طعامًا، ثم يصوم مكان كل مد يومًا.
وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يُقوِّم الصيد المقتول طعامًا، ثم يتصدق بالطعام إن اختار الصدقة، وإن اختار الصوم صام.
* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَقْدِيرِ الصِّيَامِ بِالطَّعَامِ بِالْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ عِنْدَهُمْ كُلَّ مِسْكِينٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحِجَازِ
(2)
. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ
(3)
: يَصُومُ لِكُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ عِنْدَهُمْ).
ثم اختلفوا أيضًا في الصوم:
فقال بعضهم: يصوم لكل مُدٍّ يومًا.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 444)؛ حيث قال: "فإن أراد أن يصوم نظر كم ذلك الطعام من الإمداد فيصوم مكان كل مد يومًا".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 227)؛ حيث قال: "وإذا أراد الصيام صام عن كل مد يومًا".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بداية المبتدي" للمرغيناني (ص: 52)؛ حيث قال: "ثم يصوم عن كل نصف صاع من بُرٍّ أو صاع من تمر أو شعير يومًا، فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء تصدق به وإن شاء صام عنه يومًا كاملًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(8/ 259)؛ حيث قال: "قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: سئل سفيان: أرأيتَ إنْ كَانَ جَزاؤهُ مُدًّا أو نِصفًا؟ قال: يصومُ يومًا. قال أحْمَد: لا بدَّ من تمامِ يوم".
وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا.
وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ؟ أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ
(1)
عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ).
لا فرق عند الجمهور بين الخطأ والعمد في قتل الصيد في وجوب الجزاء، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد. قال الزهري: على المتعمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسُّنَّةِ.
وأدلتهم:
1 -
قول جابر: "جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشًا".
2 -
وقال عليه السلام: "في بيضِ النَّعام يصيبه المحرم: ثمنه"، ولم يُفرِّق.
3 -
ولأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كمال الآدمي.
والقول الثاني: لا كفارة في الخطأ. وهو قول ابن المنذر، وداود الظاهري -رحمهما اللَّه-؛ لأن اللَّه تعالى قال:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} . فدليل خطابه، أنه لا جزاء على الخاطئ؛ لأن الأصل براءة ذِمَّتِه، فلا
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 378)؛ حيث قال: "قال جمهور العلماء وجماعة الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار منهم مالك والليث والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: قتل الصيد عمدًا أو خطأ سواء".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 234)؛ حيث قال: "ومن تصيد صيدًا فقتله وهو محرم بعمرة أو بقران أو بحجَّة تمتع ما بين أول إحرامه إلى دخول وقت رمي جمرة العقبة، أو قتله محرم، أو محل في الحرم-: فإن فعل ذلك عامدًا لقتله غير ذاكر لإحرامه أو لأنه في الحرم، أو غير عامد لقتله -سواء كان ذاكرًا لإحرامه أو لم يكن-: فلا شيء عليه، لا كفارة ولا إثم؛ وذلك الصيد جيفة لا يحل أكله، فإن قتله عامدًا لقتله ذاكرًا لإحرامه، أو لأنه في الحرم فهو عاص للَّه تعالى، وحجه باطل وعمرته كذلك، وعليه ما نذكر بعد هذا إن شاء اللَّه عز وجل".
يشغلها إلا بدليل، ولأنه محظور للإحرام لا يفسده، فيجب التفريق بين خَطَئه وعمده، كاللُّبس والطيب.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَة مُحْرِمُونَ صَيْدًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ يَقْتُلُونَ الصَّيْدَ، وَبَيْنَ الْمُحِلِّينَ يَقْتُلُونَهُ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ جَزَاءٌ، وَعَلَى الْمُحِلِّينَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ).
لو اشترك جماعة في قتل صيد، فهل عليهم جزاء واحد؟
القول الأول، أن الواجب جزاء واحد: قول الشافعي، والصحيح عن أحمد.
وأدلتهم:
1 -
قول اللَّه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
2 -
والجماعة قد قتلوا صَيْدًا، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب، ومتى ثبت اتخاذ الجزاء في الهدي، وجب اتخاذه في الصيام؛ لأن اللَّه تعالى قال:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
(1)
"التفريع في فقه الإمام مالك" لابن الجَلَّاب المالكي (1/ 207)؛ حيث قال: "وإذا قتل جماعة صيدًا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 126)؛ حيث قال: "وبه قال الثوري والحسن بن حي وهو قول الحسن البصري والشعبي والنخعي ورواية عن عطاء".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 227)؛ حيث قال: "وإذا أصاب المحرمان أو الجماعة صيدا فعليهم كلهم جزاء واحد".
(4)
"التجريد" للقدوري (4/ 2099)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا اشترك محرمان أو أكثر في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم الجزاء".
3 -
والاتفاق حاصل أنه معدول بالقيمة، إما قيمة المتلف، وإما قيمة مثله، فإيجاب الزائد على عدل القيمة خلاف النص.
4 -
ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه، فكان واحدًا، كالدية، أو كما لو كان القاتل واحدًا، أو بدل المحل، فاتحدت باتحاده الدية، وكفارة الآدمي لنا فيها منع، ولا يتبعض في أبعاضه، ولا يختلف باختلافه، فلا يتبعض على الجماعة، بخلاف مسألتنا.
والقول الثاني، على كل واحد جزاء: وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ لأنها كفارة قتل يدخلها الصوم، أشبهت كفارة قتل الآدمي.
والثالث، -وهي رواية عن أحمد- إن كان صومًا صام كل واحد صومًا تامًّا، وإن كان غير ذلك فجزاء واحد، وإن كان أحدهما: هدي، والآخر: صوم، فعلى المهدي بحصته، وعلى الآخر صوم تام؛ لأن الجزاء ليس بكفارة، وإنما هو بدل، بدليل أن اللَّه تعالى عطف عليه الكفارة، فقال اللَّه تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. والصوم كفارة، ككفارة قتل الآدمي.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا).
اختلفوا في قاتل الصيد هل يكون أحد الحكمين أم لا؟
فعند أصحاب مالك لا يجوز أن يكون القاتل أحدهما.
واستدل مالك:
1 -
بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وذلك يقتضي أن يكونا غير المحكوم عليه.
2 -
ولأن الجزاء بدل المتلف فوجب أن لا يكون الرجوع فيه إلى أمانة المتلف، أصله تقويم المتلفات.
وقال الشافعي: يجوز ذلك.
واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين:
فقال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْإِطْعَامِ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ إِنْ كَانَ ثَمَّ طَعَامٌ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: حَيْثُمَا أَطْعَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ).
اختلفوا في موضع الإطعام.
فمذهب مالك: أن الإطعام في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثم طعام وإلا في أقرب المواضع إليه حيث الطعام.
وقال أبو حنيفة: يطعم إن شاء في الحرم وإن شاء في غيره.
وقال الشافعي: لا يطعم إلا مساكين مكة كما لا ينحر الهدي إلا بمكة.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 442)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت إن أراد أن يحكم عليه بالطعام في جزاء الصيد أو بالصيام؟ قال: قال مالك: يحكم عليه في جزاء الصيد في الموضع الذي أصاب فيه الصيد، قال: فقيل له: فإن حكم عليه في الموضع الذي أصاب فيه الصيد بالطعام فأراد أن يطعم في غير ذلك المكان؟ قال مالك: لا أرى ذلك، وقال: يحكم عليه بالطعام بالمدينة ويطعمه بمصر إنكارًا لمن يفعل ذلك، يريد بقوله: إن هذا ليس يجزئه إذا فعل هذا، وأما الصيام في جزاء الصيد فحيثما شاء من البلاد والنسك كذلك".
(2)
"المحيط البرهاني في الفقه النعماني" لابن مازه (2/ 455)؛ حيث قال: "فإن قتله حلال، فعليه جزاؤه؛ لأنه أتلف محلًّا أمنًا ويجوز فيه الإطعام".
(3)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 401)؛ حيث قال: "يدفع جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة".
* قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ؛ لِلنَّصِّ فِي ذَلِكَ)
(1)
.
أجمع أهل العلم على وجوبه؛ لأنَّ اللَّه نصَّ عليه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
(2)
: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ
(3)
: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ).
اتفق الفقهاء أن على من قتل صيدًا وهو حلال في الحرم الجزاء كما لو قتله مُحْرِمٌ.
وشذَّت فرقة وهم الظاهرية، فقالوا: لا جزاء على من قتل في الحرم شيئًا من الصيد إلا أن يكون محرمًا.
* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 53)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن المحرم إذا قتل صيدًا عامدًا لقتله ذاكرًا لإحرامه أن عليه الجزاء".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 296)، حيث قال:"والحلال يرمي الحرم فيه إجماع واختلاف، فالإجماع أن فيه الجزاء، واختلاف في التخيير في الهدي أو غيره".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 263)؛ حيث قال: "والجزاء واجب كما ذكرنا سواء فيما أصيب في حرم مكة، أو في حرم المدينة أصابه حلال، أو محرم؛ لقول اللَّه تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية".
(4)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 44)؛ حيث قال: "واتفقوا على أنه لا يحل للمحرم أن يتصيد فيقتل شيئًا مما يؤكل من الصيد البري في الحرم ولا ما دام محرمًا".
لا خلاف بين العلماء من السلف والخلف في تحريم الصيد بمكَّة من سائر الحرم وأنه حرم آمن كما قال اللَّه عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} .
وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} ، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه عز وجل حرَّم مكةَ ولم يُحرِّمها الناس".
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم حرم مكة".
وهذا معناه: أنه دعى في تحريمها فكان سبب ذلك فأضيف إليه على ما تعرفه العرب من كلامها.
* قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ وَذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]. وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ"
(1)
، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ وَأَكَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
(2)
. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
(3)
وَطَائِفَةٍ أَنَّ فِيهِ كَفَارَّتَيْنِ).
اختلفوا في المحرم يقتل الصيد ثم يأكل منه:
فقال الجمهور: ليس عليه إلا كفارة واحدة.
وقال عطاء: في قتله كفارتين.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ).
هذه هي عادة المؤلف، يذكر المسائل المشهورة التي يُبنى عليها ما سواها من المسائل.
(1)
أخرجه البخاري (4313).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 143)؛ حيث قال: "هذا مذاهب علماء الأمصار وجمهور العلماء".
(3)
أخرج عبد الرزاق (8362): عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "إِنْ ذَبَحَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ فَكَفَّارَتَانِ".
* قوله: (وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ القَتْلُ عَمْدًا فَحُجَّتُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمْدَ هُوَ المُوجِبُ لِلْعِقَابِ، وَالْكَفَّارَاتِ عِقَابٌ مَا).
نصٌّ في الآية؛ لأن اللَّه تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} .
فدليل خطابه، أنه لا جزاء على الخاطئ؛ لأن الأصل براءة ذمته، فلا يشغلها إلا بدليل. قالوا كذلك: أنَّ قتل الصيد هو مجرد محظور من محظورات الإحرام فلا يفسد الإحرام؛ وعليه فيجب التفريق بين خطئه وعمده؛ كاللبس والطيب.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَ الجَزَاءَ عِنْدَ إِتْلَافِ الصَّيْدِ بِإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تُضَمَّنُ خَطَأً وَنَسِيَانًا. لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا الْقِيَاسَ اشْتِرَاطُ الْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا -أَيِ الْعَمْدِ- إِنَّمَا اشْتَرَطَ؛ لِمَكَان تَعَلُّقِ الْعِقَابِ الْمَنْصوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]. وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَبَالَ الْمَذُوقَ هُوَ فِي الْغَرَامَةِ، فَسَوَاءٌ قَتَلَهُ مُخْطِئًا أَوْ مُتَعَمِّدًا قَدْ ذَاقَ الْوَبَالَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُعَاقَبٍ. وَأَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ هَذِهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنْ أَثْبَتَهَا عَلَى النَّاسِي إِلَّا الْقِيَاسُ).
استدلَّ الذين أوجبوا الجزاء في الخطأ، بما يلي:
1 -
قول جابر: "جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشًا".
2 -
وقال عليه الصلاة والسلام "في بيض النعام يصيبه المحرم: ثمنه"، ولم يُفرِّق.
3 -
وقالوا: لأنَّه ضمانُ إتلاف فاستوى عمدُه وخطؤه كمال الآدمي.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمِثْلِ: هَلْ هُوَ الشَّبِيهُ؟ أَوِ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ؟ فَإِنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمِثْلَ يُقَالُ عَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ، وَعَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنَّ حُجَّةَ مَنْ رَأَى أَنَّ الشَّبِيهَ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أَنَّ انْطِلَاقَ لَفْظِ الْمِثْلِ عَلَى الشَّبِيهِ فِي لِسَان الْعَرَبِ أَظْهَرُ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى الْمِثْلِ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنْ لِمَنْ حَمَلَ هَا هُنَا الْمِثْلَ عَلَى الْقِيمَةِ دَلَائِلُ حَرَّكتْهُ إِلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ، أَحَدُهَا أَنَّ الْمِثْلَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ).
ذكرنا اختلاف القائلين بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم إذا اختار الكفارة بأحدهما دون الهدي:
وأنَّ بعضهم قال: إذا اختار التكفيرَ بذلك فإنَّ الواجب عليه أن يُقوِّم الِمثْل من النِّعم طعامًا، ثم يصوم مكان كُلِّ مُدٍّ يومًا.
وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يُقوِّم الصيد المقتول طعامًا، ثم يتصدق بالطعام إن اختار الصَّدَقَة، وإن اخْتارَ الصَّومَ صام.
* قوله: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِثْلَ إِذَا حُمِلَ هَا هُنَا عَلَى التَّعْدِيلِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، فَإِنَّ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يُلْقَى لَهُ شَبِيهٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِثْلَ فِيمَا لَا يُوجَدُ لَهُ شَبِيهٌ هُوَ التَّعْدِيلُ، وَلَيْسَ يُوجَدُ لِلْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ فِي الْحَقِيقَةِ شَبِيهٌ إِلَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ أَنَّ الْمِثْلَ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي التَّعْدِيلِ وَالْقِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّبِيهِ قَدْ فُرغِ مِنْهُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّعْدِيلِ فَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَلِذَلِكَ هُوَ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا.
وَعَلَى هَذَا، يَأْتِي التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ بِمُشَابِهٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ عَدْلُ الْقِيمَةِ طَعَامًا، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ هَلِ الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ؟ أَوْ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ إِذَا قُدِّرَ بِالطَّعَامِ؟ فَمَنْ قَالَ: الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ - قَالَ: لِأَنَّهُ الَّذِي لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ رَجَعَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالطَّعَامِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْوَاجِبُ مِنَ النَّعَمِ - قَالَ: لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ قِيمَتُهُ إِذَا عُدِمَ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ، أَعْنِي: شَبِيهَةُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ - فَإِنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى حَرْفِ (أَوْ)؛ إِذْ كَانَ مُقْتَضَاهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ التَّخْيِيرَ. وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى تَرْتِيبِ الْكَفَّارَاتِ فِي ذَلِكَ فَشَبَهُهَا فِي الْكَفَّارَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّرْتِيبُ بِاتِّفَاقٍ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ).
اختلفوا في معنى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} ، وسبب الاختلاف، هو اختلافهم في:(أو).
فقال بعضهم: القاتل مخير في أي ذلك شاء فعل، وأنه بأيِّها كفَّر فقد أدَّى الواجب عليه، وإنما ذلك إعلامٌ من اللَّه تعالى لعباده أنَّ قاتل ذلك كما وصف لن يخرج حكمه من إحدى الخلال الثلاثة.
وقال آخرون: للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم الخيار بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي الصَّيْدِ الْوَاحِدِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - فَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ هَلِ الْحُكْمُ شَرْعِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؟ أَمْ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟ فَمَنْ قَالَ: هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى - قَالَ: مَا قَدْ حُكِمَ فِيهِ فَلَيْسَ يُوجَدُ شَيْءٌ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُ، مِثْلُ النَّعَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ أَشْبَهُ بِهَا مِنَ الْبَدَنَةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ الْحُكْمِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ عِبَادَةٌ، قَالَ: يُعَادُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ).
الصيد الواحد الذي وقع الحكم فيه من الصحابة، وهل الحكم معقول المعنى أو هو مجرَّد تعبُّد؟
هذا سبب اختلافهم.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْوَاحِدِ فَسَبَبُهُ هَلِ الْجَزَاءُ مُوجِبُهُ هُوَ التَّعَدِّي فَقَطْ؟ أَوِ التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ؟ فَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي فَقَطْ - أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْقَاتِلَةِ لِلصَّيْدِ جَزَاءً. وَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ - قَالَ: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ).
هل موجب الجزاء هو الصيد نفسُه أم الشخص المُتعدِّي؟!
* قوله: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِالْقِصَاصِ فِي النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَفِي الْقِصاصِ فِي الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْأَنْفُسِ. وَسَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
وهذا من سرعة بديهة المؤلف، وقدرته على إلحاق النظير بالنظير.
* قوله: (وَتَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُحْرِمِينَ الْقَاتِلِينَ فِي الْحَرَمِ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُحْرِمِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ جَزَاءً فَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ عَنْهُمُ الْجَزَاءُ جُمْلَةً لَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيدَ فِي الْحَرَمِ صَادَ فِي جَمَاعَةٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَزَاءَ هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْإِثمِ، فَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ إِثْمُ قَتْلِ الصَّيْدِ بِالِاشْتِرَاكِ فِيهِ، فَيَجِبُ أَلَّا يَتَبَعَّضَ الْجَزَاءُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ).
لو أسقط جزاء الصيد عن الجماعة لاتفق الجماعة واصطادوا؛ هربًا من الجزاء.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ فَالسَّبَبُ فِيهِ مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الظَّاهِرِ؛ لِمَفْهُومِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَكَمَيْنِ إِلَّا الْعَدَالَةَ، فَيَجِبُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ مِمَّنْ يُوجَدُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَاتِلَ الصَّيْدِ أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ. وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ).
المحكوم عليه لا يكون حاكمًا على نفسه؛ خوفًا من الجَوْر في الحكم لحقِّ نفسه.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ فَسَبَبُهُ الْإِطْلَاقُ، أَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ مَوْضِعٌ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالزَّكَاةِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ فَقَالَ: لَا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ بِمَسَاكِينِ مَكَّةَ قَالَ: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ. وَمَنِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْإِطْلَاقِ قَالَ: يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ).
كلُّ العلماء يدورون مع علة الدليل، ليصلوا إلى اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أوامر اللَّه عز وجل.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ هَلْ عَلَيْهِ كفَّارَةٌ؟ أَمْ لَا؟ فَسَبَبُهُ: هَلْ يُقَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ؟ وَهَلِ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ عِنْدَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؟ فَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَنْفُونَ قِيَاسَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِمَنْعِهِمُ الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ. وَيَحِقُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَنْعِهِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي تَعَلُّقِ الِاسْمِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}
[العنكبوت: 67]. وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"
(1)
).
أي: جعلها حرامًا.
(وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَتَلَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ: هَلْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؟ أَمْ جَزَاءَان؟ فَسَبَبُهُ هَلْ أَكَلُهُ تَعَدٍّ ثَانٍ عَلَيْهِ سِوَى تَعَدِّي الْقَتْلِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ فَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّعَدِّي الْأَوَّلِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ أَثِمَ).
لا خلاف أنه يأثم في المرة الثانية إثمًا يُعادل المرة الأُولى وربما زاد بإصراره، ولكن هل عليه جزاء لُكُلِّ مرة أم هو واحد؟!
* قوله: (وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الْجَزَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ، وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. وَكَانَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْمَصِيدَاتِ. وَالثَّانِي: مَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ. يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ).
هذا من حسن ترتيب المؤلف.
* قوله: (فَمِنْ أُصُولِ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَنَّهُ قَضَى فِي الضَّبُع بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعِنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ"
(2)
).
(1)
أخرجه ابن ماجه (3109)، وقال الأرناؤوط:"هذا إسناد حسن".
(2)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 414) عن أبي الزبير، أن عمر بن الخطاب "قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة".
الْيَرْبُوع: هو الفأر الوحشي، والجفرة: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، وقيل: منه ومن الضأن أيضًا.
(وَالْيَرْبُوعُ
(1)
: دُوَيْبةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ وَذَنَبٌ، تَجْتَرُّ كَمَا تَجْتَرُّ الشَّاةُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْكُرُوشِ، وَالْعَنْزُ
(2)
عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَعْزِ مَا قَدْ وُلِدَ أَوْ وُلِدَ مِثْلُهُ. وَالْجَفْرَةُ
(3)
، وَالْعِنَاقُ
(4)
مِنَ الْمَعْزِ، فَالْجَفْرَةُ مَا أَكَلَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرِّضَاعِ، وَالْعِنَاقُ قِيلَ: فَوْقَ الْجَفْرَةِ، وَقِيلَ: دُونَهَا. وَخَالَفَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ
(5)
: لَا يُقَوَّمَان إِلَّا بِمَا يَجُوزُ هَدْيًا وَأُضْحِيَةً، وَذَلِكَ الْجَذْعُ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْله -تَعَالَى-:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]).
(1)
يُنظر: "العين" للخليل (2/ 342)؛ حيث قال: "يَرْبُوع: دُوَيْبةٌ فوقَ الجُرَذ، الذكر والأنثى فيه سواء".
(2)
يُنظر: "العين" للخليل (1/ 356)؛ حيث قال: "العَنْزُ: الأُنثى من المَعَز ومن الأوعال والظِّباء. والعَنْزُ: ضربٌ من السمك، يقال له: عَنْزُ الماءِ".
(3)
يُنظر: "العين" للخليل (6/ 110)؛ حيث قال: "الجفرة من أولاد الشَّاءِ ما قد استجفَرَ؛ أي: صار له بطنٌ وسَعَةٌ جَوفٍ وأقبل على الأكل".
(4)
يُنظر: "العين" للخليل (1/ 169)؛ حيث قال: "العَناقُ: الأُنْثَى من أولاد المعز".
(5)
"شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 566)؛ حيث قال: " (و) في (ضب وأرنب ويربوع وجميع الطير)؛ أي: طير الحل والحرم ولو بمكة غير حمام الحرم ويمامه، لأنه قدمهما وغير ما لحق بهط، ولو قال: وسائر لكان أنسب لأنه بمعنى باقي، وقد يرد بمعنى جميع (القيمة) حين الإتلاف (طعامًا) أو عدل الطعام صيامًا في الضب والأرنب ونحوهما من الدواب التي لا مثل لها يجزي ضحية، ويجوز أن يعوضها بهدي فما اقتضاه ظاهره من تعين القيمة طعامًا فيهما غير مراد، وأما في الطير غير حمام الحرم وما ألحق به فيتعين فيه القيمة طعامًا، فإن لم يقدر عليها أو لم يجدها فعالها صيامًا، وهذا التفصيل هو الصواب خلافًا لما يوهمه بعض الشراح، وعلم من المصنف حكم أربعة أقسام حمام الحرم، ويمامه، والمحلق بهما، الثاني: طير غير ذلك، الثالث: دواب لها مثل يجزي ضحية أو هديًا الرابع دواب لا مثل لها يجزي ضحية ولا هديًا كما أشار له بقوله وضب إلخ".
عند مالك: في الضب والأرنب واليربوع وجميع طير الحل والحرم القيمة.
* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْجَذَعِ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ
(1)
مَا سِوَاهُ. وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
مِثْلُ مَا فِي كبَارِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يُفْدَى صِغَارُ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ، وَكِبَارُ الصَّيْدِ بِالْكِبَارِ مِنْهَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(4)
. وَحُجَّتُهُ أَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمِثْلِ، فَعِنْدَهُ فِي النَّعَامَةِ الْكَبِيرَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الصَّغِيرَةِ فَصِيلٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ)
(5)
.
إذا ذبح في غير الحرم يجب عليه قِيمَتُه؛ لأن الإراقة تُعتَبَر فيه
(1)
يُنظر: "معجم لغة الفقهاء"(ص: 155)؛ حيث قال: "الثني: كل ما سقطت ثنيته من الحيوان، ج ثناء وثنيان، وهي ثنية ج ثنيات".
(2)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" للصقلي (5/ 729)؛ حيث قال: "وفي صغار الصيد مثل ما في كِبارِهِ، خلافًا للشافعي في قوله: إن في النعامة الكبيرة بدنة، وفي الصغيرة فَصيلًا، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخْلِه عجلًا".
(3)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (4/ 235)؛ حيث قال: "ويجب في صغار ما له مثل من النعم صغير مثله من النَّعَم".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 374)؛ حيث قال: "وهو معنى ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم في تأويل قول اللَّه عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ".
(5)
"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (2/ 65)؛ حيث قال: "وفيما إذا ذبح في غير الحرم يجب عليه قيمته؛ لأن الإراقة تعتبر فيه لما ذكرنا ويخرج عن العهدة بالتصدق لا غير، ولا يجوز في الهدايا إلا ما يجوز في الضحايا؛ لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه، وهو المذكور في قوله تعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] كما انصرف إليه هدي المتعة والقران المذكور في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وأوجب محمد والشافعي صغار النعم؛ لأن الصحابة أوجبوا جفرة وعناقًا قلنا: يجوز ذلك على سبيل الإطعام كالمذبوح في غير الحرم، وهو تأويل ما روي عنهم".
ويتصدَّق، وأوجب الشافعي صغارَ النَّعَم؛ لأن الصحابة أوجبوا جفرة وعَناقًا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: فِي حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ
(2)
فِي حَمَامِ الْحَرَمِ غَيْرِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَرَّةً: شَاةٌ كَحَمَامِ مَكَّةَ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكُومَةٌ كحَمَامِ الْحِلِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: فِي كُلِّ حَمَامٍ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ سِوَى الْحَرَمِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ
(4)
: كُلُّ شَيْءٍ لَا مِثْلَ لَهُ فِي الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ فِيهَا إِلَّا الْحَمَامُ فَإِنَّ فِيهِ شَاةً، وَلعَلَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ
(5)
. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ شَاةٌ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 450)، حيث فيها:"فما قول مالك في حمام الحرم يصيده المحرم؟ قال مالك: لم أزل أسمع أن في حمام مكة شاة شاة، قال مالك: وحمام الحرم بمنزلة حمام مكة فيها شاة شاة".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 450)؛ حيث فيها: "قلت: فما قول مالك في غير حمام مكة إذا أصابه المحرم؟ قال: حكومة، ولا يشبه حمام مكة ولا حمام الحرم. قال: وكان مالك يكره للمحرم أن يذبح الحمام إذا أحرم الوحشي وغير الوحشي؛ لأن أصل الحمام عنده طير يطير".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 216)، حيث قال:" (قال الشافعي): وقد ذهب ذاهب إلى أن في حمام مكة شاة، وما سواه من حمام غير حمام مكة وغيره من الطائر قيمته".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 146)، حيث قال:"وشذت فرقة منهم داود بن علي فقالوا: لا جزاء على من قتل في الحرم شيئًا من الصيد إلا أن يكون محرِمًا".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 146)؛ حيث قال: "وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر في حمام الحرم شاة في كل واحدة منها، ولم يخصوا محرِمًا من حلال ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد يوجد لداود سلف من التابعين".
(6)
أخرج ابن أبى شيبة (8281): عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: "فِي كُلِّ طَيْرٍ حَمَامَةٍ فَصَاعِدًا شَاةٌ شَاة، قَمَرِيٍّ أُوْ دُبْسِيٍّ، وَالْحَجَلَةِ، وَالْقَطَاةِ، وَالْحُبَارَى، يَعْنِي الْعُصْفُورَ وَالْكَرَوَانَ، =
وهذا يدلُّ على أنَّ أهل الظاهر قد يُخالفون الأمَّة في القياس، إلا أنَّ عندهم حرصٌ على الأثر، والعمل بأقوال الصحابة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: أَرَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ
(3)
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(4)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
: إِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، أَعْنِي: جَزَاءَ النَّعَامَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو ثَوْرٍ
(6)
فِي ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ.
= وَالْكُرْكِيَّ، وَابْنَ الْمَاءِ وَأَشْبَاهَ هَذَا مِنَ الطَّيْرِ شَاةٌ، قُلْتُ: أَسَمِعْتَهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا فِي الْحَمَامَةِ".
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" للصقلي (5/ 712)؛ حيث قال: "وفي بيض النَّعَامة عُشر ثمن البَدَنة".
(2)
يُنظر: "بداية المبتدي" للمرغيناني (ص: 53)؛ حيث قال: "ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 209)؛ حيث قال: "وفي بيض النعام قيمته؛ لأنه حيث يصاب من قبل أنه خارج مما له مثل من النعم، وداخل فيما له قيمة من الطير مثل الجرادة وغيرها قياسًا على الجرادة فإن فيها قيمتها".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 383)؛ حيث قال: "وقال أبو ثور فى بيض النعامة مثل قول أبي حنيفة".
(5)
يُنظر: "مختصحر القدوري"(ص: 73)؛ حيث قال: "ومن كسر بيضَ صيدٍ فعليه قيمته، فإن خرج من البيض فرخ فعليه قيمته كاملة، ومن كسر بيض صيد فعليه قيمته، فإن خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيًّا".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 383)؛ حيث قال: "وقال أبو ثور في بيض النعامة مثل قول أبي حنيفة وقال: إن كسر بيضة كان فيها فرخ فإن كان حيًّا ثم مات، فإن كان من بيض النعام ففيه بدنة، وإن كان من بيض الحمام ففيه شاة، وإن كان من غير ذلك ففيه ثمنه إن كان له ثمن، قال: وفيها قول آخر إن كان من الحمام فداه بجدي صغير أو جمل صغير، وذلك أنهم قالوا في الحمام شاة فلما كان فرخًا كان فيه من الشاء الصغير إذا كان صغيرًا، وإذا كان كبيرًا كان فيه شاة كبيرة، وكان في فرخ النعامة فصيل صغير".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
(1)
أَنَّهُ قَضَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِأَنْ يُرْسِلَ الْفَحْلُ عَلَى الْإِبِلِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سَمَّيْتَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْبَيْضِ. فَقُلْتُ: وَهَذَا هَدْيٌ. ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانُ مَا فَسَدَ مِنَ الْحَمْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ
(2)
: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِل فَالْقَوْلُ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَإِلَّا فِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: "فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمِ ثَمَنُهُ"
(3)
مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ
(4)
. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ
(5)
، وَقَالَ: وَفِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ).
وما ورد في القيمة فيما يتعلَّق ببيض النعام ضعيف، لا يقوى للاحتجاج.
* قوله: (وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يَجِبُ عَلَى
(1)
أخرج عبد الرزاق (8300): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَضَى عَلِيٌّ فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ، تُرْسِلُ الْفَحْلَ عَلَى إِبِلِكَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سُميتْ عَدَدَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْبَيْضِ"، فَقُلْتُ: هَذَا هَدْيٌ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانُ مَا فَسَدَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَلْ يَعْجَبُ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَجَبٍ، مَا هُوَ إِلَّا مَا بِيعَ بِهِ الْبَيْضُ فِي السُّوقِ، يُتَصَدَّقُ بِهِ".
(2)
أخرج البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(2/ 107): عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ:"إِنْ أَصَبْتَ بِيضَ نَعَامَةٍ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ غُرِّمْتَهَا تُعَظِّمُ بِذَلِكَ حُرُمَاتِ اللَّهِ".
(3)
وجدتُه عن عكرمة عن كعب في "مصنف عبد الرزاق"(8302): عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ كَعْبِ ابْنِ عُجْرَةَ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ بِثَمَنِهِ".
(4)
يُنظر: "الأحكام الوسطى" لابن الخراط (2/ 331)؛ حيث قال: "وعن حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى في بيض نعام أصابها محرم بقدر ثمنه". أبو المهزم وحسين ضعيفان، وأبو المهزم أكثر".
(5)
أخرج ابن أبي شيبة (15208): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ".
الْمُحْرِمِ فِيهِ الْجَزَاءُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ
(1)
رضي الله عنه: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(3)
: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ).
هذا القول مشهور في كتب الأحناف، وهو ينظرون في هذا إلى المعنى أكثر من غيره.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: فِي الْجَرَادِ قِيمَتُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(5)
إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ حَفْنَةِ طَعَامٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَهُوَ لَهُ قِيمَةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(6)
أَنَّ فِيهَا تَمْرَةً مِتْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ
(7)
: فِيهَا صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ فِيهَا شُوَيْهَةً، وَهُوَ أَيْضًا شَاذٌّ).
شويهة: تصغير شاة، والجمع شياه بالهاء.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 416): عن زيد بن أسلم، أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين. إني أصبت جرادات بسوطي وأنا محرم. فقال له عمر: "أطعم قبضة من طعام".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (3/ 337)؛ حيث قال: "قال ابن القاسم في الجراد قبضة من طعام".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 73)؛ حيث قال: "ومن قتل جَرادَةً تصَدَّقَ بما شاء وتمرة خير من جرادة".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 218)؛ حيث قال: قول عمر: "درهمان خير من مئة جرادة، يدل على أنه لا يرى في الجراد إلا قيمته".
(5)
لم أقف عليه.
(6)
أخرجه عبد الرزاق (8250): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَدْنَى مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ الْجَرَادُ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَهَا جَزَاءٌ، وَفِيهَا تَمْرَةٌ".
(7)
"المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (4/ 465)؛ حيث قال: "وقال رَبيعَة: في الجرادة صاعٌ من تمرٍ، وهو أهون الصَّيدِ، وأكثر العلماء على أنَّه عليه في الجرادة تمرةٌ، وقول رَبيعة لا يُلْتَفت إليه بوجهٍ؛ لأنَّه لم يَعْرِف الآثار الواردة في ذلك".
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَزَاءِ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الْجَزَاءُ فِيهِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْحَقُ بِهَا مِمَّا لَيْسَ يَلْحَقُ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالًا كُلَّهُ لِلْمُحْرِمِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]).
هذه مقدِّمة بين يدي الأحكام التالية.
* قوله: (وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَشْهُورَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ - فَنَقُولُ: ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ")
(1)
.
وفيه دليل على أن المحرم إذا قتلهن لم يلزمه الفداء في شيء منهن، وكل دابة لم تحرم بالحرم لم تحرم على المحرم بحال، ويدخل في معناهن: الحيات والهوام، ذوات السموم والضرر، ويدخل في معنى الكلب العقور: الذئاب، والنُّمور والأسد الضارية.
* قوله: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ قَتْلِ مَا تَضَمَّنَهُ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَوْصَافًا مَا).
أجمع العلماء على القول بجملة الحديث، إلا أنهم اختلفوا في
(1)
أخرجه البخاري (1828)، ومسلم (1198).
تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة: مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: ولم يَعْن بالكلب العقور الكلاب الإنسية، وإنما عنى بذلك كل سبع يعقر، كذلك فسره مالك وابن عُيينة وأهل اللغة. وقال الخليل: كل سبع عقور كلب.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا بَابٌ مِنَ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، أَوْ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ الْعَامُّ - اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ عَامٍّ أُرِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ سَبُعٍ عَادٍ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَادٍ مِنَ السِّبَاعِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ. وَلَمْ يَرَ قَتْلَ صِغَارِهَا الَّتِي لَا تَعْدُو، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا أَيْضًا لَا يَعْدُو. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْأَفْعَى وَالْأَسْوَدِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُقْتَلُ الْأَفْعَى وَالْأَسْوَدُ")
(2)
.
والمعنى في جواز قتل من ذكر؛ لأنهن مما لا يؤكل، وكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: لَا أَرَى قَتْلَ الْوَزَغِ، وَالْأَخْبَارَ بِقَتْلِهَا
(1)
"شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب (2/ 203)؛ حيث قال: "عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يقتل المحرم؟ قال له: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمى الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة والسبع العادي. وهذا نص في قتل كل سبع".
(2)
أخرج أحمد (11755): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ: الْأَفْعَى، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحِدَاءَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْفُويسِقَةَ"، قُلْتُ: مَا الْفُوَيْسِقَةُ؟ قَالَ: "الْفَأْرَةُ"، قُلْتُ: وَمَا شَأنُ الْفَأْرَةِ؟ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ، وَقَدْ أَخَذَتِ الْفَتِيلَةَ، فَصَعِدَتْ بِهَا إِلَى السَّقْفِ لِتُحَرِّقَ عَلَيْهِ.
(3)
"التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(3/ 99)؛ حيث قال: "وهل يقتل الوزغ؟ قال مالك: لا بأس بقتل الحلال الوزغ في الحرم. مالك: ولو تركت لكثرت وغلبت. الباجي: فجعل مالك رحمه الله أذاها في كثرتها؛ لأن لها أذى بإفساد ما تدخل فيه. =
مُتَوَاتِرَةً، لَكِنْ مُطْلَقًا لَا فِي الْحَرَمِ، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَالِكٌ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْكِلَابِ الْعَقُورَةِ إِلَّا الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ وَالذِّئْبُ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ
(2)
فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ).
شذت فرقة من أهل الحديث فقالوا: لا يقتل المحرم إلا الغراب الأبقع خاصة.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ فَهُوَ مَعْنِيٌّ فِي
= مالك: وسمعت أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وللمحرم أن يقتلها في الحل والحرم. الباجي: ومعنى ذلك أنه لا يكون غالبًا إلا في البيوت وحيث يقتله ويدفع مضرته الحلال ومدة الإحرام يسيرة. وحمل مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقتله على الحلال سواء كان في الحرم أو غيره. مالك: وإذ قتله المحرم أطعم كسائر الهوام".
(1)
"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (2/ 66)؛ حيث قال: " (ولا شيء بقتل غراب وحدأة وذئب وحية وعقرب وفارة وكلب عقور بعوض، ونمل وبرغوث وقراد وسلحفاة) لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب، والحِدَأة، والعقرب، والفارة، والكلب العقور" متفق عليه، والمراد بالكلب العقور: الذئب أو ثبت جواز قتله بدلالة النص؛ لأنه مثل الخمس في الابتداء بالأذى، والمراد بالغراب الأبقع: الذي يأكل الجيف أو يخلط، وأما العقعق: فلا يحل قتله للمحرم وإن قتله فعليه الجزاء؛ لأنه لا يُسمَّى غرابًا عرفًا ولا يبتدئ بالأذى، وعن أبي حنيفة أن الكلب العقور وغير العقور والمستأنس منه والمتوحش سواء، والفارة الأهلية والبرية سواء".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 158)؛ حيث قال: "وشذت فرقة أُخرى فقالت: لا يقتل من الغربان إلا الغراب الأبقع، واحتجوا بما حدثنا محمد بن إبراهيم، قال: حدثني محمد بن معاوية، قال: حدثني أحمد بن شعيب، قال: أخبرنا عمر بن علي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني شعبة، قال: حدثني قتادة، عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يَقتُلهن المحرم: الحيَّةُ، والفأرةُ، والحِدأةُ، والغراب والأبقع، والكلب العقور، قال أبو عمر: الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض وكذلك الكلب الأبقع أيضًا، وأما الأدرع: فهو الأسود، والغراب الأعصم: هو الأبيض الرجلين، وكذلك الوعل الأعصم عصمته بياض في رجليه".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 229)؛ حيث قال: "وما لا يؤكل لحمه من الصيد صنفان: =
الْخَمْسِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا أُحِلَّ لِلْحَلَالِ، وَأَنَّ الْمُبَاحَةَ الْأَكْلُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهَا بِإِجْمَاعٍ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَهَائِمِ
(1)
. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
فَلَمْ يَفْهَمْ مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ الْإِنْسِيَّ فَقَطْ، بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ كُلُّ ذِئْبٍ وَحْشِيٍّ).
هذا المذهب ظاهر من استقراء كتب الأحناف، وهذا يدل على ذكاء المؤلف.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الزُّنْبُورِ
(3)
فَبَعْضُهُمْ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ
(4)
،
= صنف عدو عاد، ففيه ضرر، وفيه أنه لا يؤكل فيقتله المحرم، وذلك مثل الأسد والذئب والنمر والغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، ويبدأ هذا المحرم ويقتل صغاره وكباره؛ لأنه صنف مباح ويبتدئه وإن لم يضره، وصنف لا يؤكل ولا ضرر له مثل البُغَاثَةِ والرخمة والحكاء والقطا والخنافس والجعلان، ولا أعلم في مثل هذا قضاء فآمره بابتدائه، وإن قتله فلا فدية عليه؛ لأنه ليس من الصيد، أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء قال:"لا يفدي المحرم من الصيد إلا ما يؤكل لحمه"(قال): وهذا موافق معنى القرآن والسنة".
(1)
أخرج البخاري (5514): عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبالْغُلَام مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ".
(2)
يُنظر: "النهر الفائق شرح كنز الدقائق"(2/ 139)؛ حيث قال: " (وذئب) بالهمز والجمع ذهب وذئاب، قيل: اشتقاقه من ذهبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ لما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر قال: "أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والحدأة والغراب" ورواه ابن أبي شيبة مقتصرًا على الذئب؛ لأنه يبتدئ بالأذى غالبًا، والغالب كالمتحقق وأن له الطحاوي منها. وعلى هذا فلا حاجة لما قيل المراد من الذئاب الكلب في الحديث أو أنه ألحق بالكلب دلالة بجامع الابتداء بالأذى".
(3)
الزُّنْبُورُ: طائرٌ يَلْسَعُ. والجميعُ: زَنابير. انظر: "العين" للخليل (7/ 400).
(4)
الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم المصري (3/ 36)؛ حيث قال: "ثم اعلم أن الكلام إنما هو في وجوب الجزاء بقتله، وأما حل القتل فما لا يؤذي لا يحل قتله فالكلب الأهلي إذا لم يكن مؤذيًا لا يحِلُّ قتله؛ لأن الأمر بقتل الكلاب نسخ فقيد القتل بوجوب الإيذاء. وأما البعوض، وما كان مثله من هوام =
وَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّهُ أَضْعَفُ نِكَايَةً مِنَ الْعَقْرَبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَاب الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ أَلْحَقَ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يُشْبِهُهُ إِنْ كَانَ لَهُ شَبَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ
(1)
. فَخَصَّصَتْ عُمُومَ الِاسْمِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ، فَذَكَرَ فِيهِنَّ: الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ"
(2)
. وَشَذَّ النَّخَعِيُّ
(3)
فَمَنَعَ الْمُحْرِمَ قَتْلَ الصَّيْدِ إِلَّا الْفَأْرَةَ).
واختلفوا في الزنبور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شيء.
= الأرض فلأنها ليست بصيود أصلًا، وإن كان بعضها يبتدئ بالأذى كالبرغوث، ودخل الزنبور والسرطان والذباب والبق والقنافذ والخنافس والوزغ والحلمة وصياح الليل وابن عرس، وينبغي أن يكون العقرَبُ والفأرة من هذا القسم؛ لأن حد الصيد لا يوجد فيهما والبعوض من صغار البق الواحدة بعوضة بالهاء واشتقاقها من البعض، لأنها كبعض البقة قال: اللَّه تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] ".
والمالكيَّة، يُنظر:"شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب (2/ 200)؛ حيث قال: "لا خلاف في أن للمحرم قتل الحية، والعقرب، والزنبور، والفأرة وما أشبه ذلك، والذئب، والكلب العقور".
والشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 341)؛ حيث قال: "ضربٌ لا جزاء في قتله إجماعًا، وذلك الهوام وحشرات الأرض، فالهوام كالحية والعقرب، والزنبور، والحشرات كالدود والخنافس والجعول".
والحنابلة، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(8/ 215)؛ حيث قال: "قال أبو داود: سمعت أحْمَد سئل عن المحرم يقتل الزنبور؟ قال: نعم، يقتل كل شيء يؤذيه". مسائل أبي داود (842).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 158)؛ حيث قال: "وشذت فرقة أُخرى، فقالت: لا يقتل من الغربان إلا الغراب الأبقع".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
لم أقف عليه.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّمَكَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا السَّمَكَ، وَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ فَلَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مَا كَانَ مُحْرِمًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُحِلُّ جَمِيعَ مَا فِي الْبَحْرِ فِي أَنَّ صَيْدَهُ حَلَالٌ
(2)
، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ يَعِيشُ فِي الْبِرِّ وَفِي الْمَاءِ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ يُلْحَقُ؟ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُلْحَقُ بِالَّذِي عَيْشُهُ فِيهِ غَالِبًا، وَهُوَ حَيْثُ يُولَدُ. وَالْجُمْهُورُ
(3)
) عَلَى أَنَّ طَيْرَ الْمَاءِ مَحْكُومٌ لَهُ بِحُكْمِ حَيَوَانِ الْبَرِّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
(4)
أَنَّهُ قَالَ فِي طَيْرِ الْمَاءِ: حَيْثُ يَكُونُ أَغْلَبُ عَيْشِهِ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ).
اختلفوا فيما عدا السمك، على ما ذكر المؤلف، وأخذ الجمهور بالقول بأن طير الماء حكمه حكم حيوان البر.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي نَبَاتِ الْحَرَمِ هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 44)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن له أن يتصيد في البحر ما شاء من سمكه".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 148)؛ حيث قال: "واتفقوا أن السمك المتصيد من البحر والأنهار والبرك والعيون إذا صيد حيًّا وذبح وتولى ذلك منه مسلم بالغ عاقل ليس سكران: أن أكله حلال".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 316)؛ حيث قال: "فأما طير الماء، كالبط ونحوه، فهو من صيد البر، في قول عامة أهل العلم. وفيه الجزاء. وحكي عن عطاء أنه قال: حيث يكون أكثر، فهو صيده. وقول عامة أهل العلم أولى؛ لأنه يَبِيض في البَرِّ، ويفرخ فيه، فكان من صيد البر، كسائر طيره، وإنما إقامته في البحر لطلب الرزق، والمعيشة منه، كالصياد. فإن كان جنس من الحيوان، نوع منه في البحر ونوع في البر، كالسلحفاة، فلكل نوع حكم نفسه، كالبقر، منها الوحشي محرم، والأهلي مباح".
(4)
أخرجه عبد الرزاق (8422) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَسَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ ابْنِ الْمَاءِ أَصَيْدُ بِرٍّ هُوَ أَمْ صَيْدُ بَحْرٍ؟ وَعَنْ أَشْبَاهِهِ قَالَ: "حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرُ فَهُوَ صَيْدُهُ".
مَالِكٌ
(1)
: لَا جَزَاءَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِثْمُ فَقَطْ، لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: فِيهِ الْجَزَاءُ، فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِيمَا دُونَهَا شَاةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَرْسِ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ نَابِتًا بِطَبْعِهِ فَفِيهِ قِيمَةٌ).
ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء جاز قطعه على الأصح.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يُقَاسُ النَّبَاتُ فِي هَذَا عَلَى الْحَيَوَانِ؛ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا"
(4)
).
فيه دلالة لمن يقول بتحريم جميع نبات الحرم من الشجر والكلأ سواء الشوك المؤذي وغيره.
* قوله: (فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي مَشْهُورِ مَسَائِلِ هَذَا الْجِنْسِ، فَلْنَقُلْ فِي حُكْمِ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ).
نقلَنا المؤلف إلى نوع آخر من المسائل.
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصِّقلي (5/ 687)؛ حيث قال: "يحرم قطع ما ينبت بنفسه من نبات الحرم، ولا جزاء فيه".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 313)؛ حيث قال: " (قال الشافعي) رضي الله عنه: وفي الشجرة الصغيرة شاء وفي الكبيرة بقرة، وذكروا هذا عن ابن الزبير وعطاء".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 210)؛ حيث قال: "نبات الحرم لا يخلو إما أن يكون مما لا ينبته الناس عادة، وإما أن يكون مما ينبته الناس عادة، فإن كان مما لا ينبته الناس عادة إذا نبت بنفسه وهو رطب فهو محظور القطع والقلع على المحرم والحلال جميعًا، نحو الحشيش الرطب والشجر الرطب إلا ما فيه ضرورة وهو الإذخر، فإن قلعه إنسان أو قطعه فعليه قيمته للَّه تعالى سواء كان محرمًا أو حلالًا بعد أن كان مخاطبًا بالشرائع".
(4)
أخرجه البخاري (1349).
[الْقَوْلُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى وَحُكْمُ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا فِدْيَةُ الْأَذَى فَمُجْمَعٌ أَيْضًا عَلَيْهَا
(1)
)، لِوُرُودِ الْكِتَابِ بِذَلِكَ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ -تَعَالَى-:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الثَّابِتُ "أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا، فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّام، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَتَ أَجْزَأَ عَنْكَ")
(2)
.
أهل العلم لم يختلفوا في المُحرم بالحج والعمرة، مِمَّنْ لم يحصر أنَّه إذا أصابه أذى في رأسه، أو أصابهُ مَرَضٌ أنَّه يحلقَ، وأنَّ عليه الفدية.
* قوله: (وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَعَلَى مَنْ لَا تَجِبُ. وَإِذَا وَجَبَتْ فَمَا هِيَ الْفِدْيَةُ الْوَاجِبَةُ؟ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ تجِبُ الْفِدْيَةُ؟ وَلِمَنْ تَجِبُ، وَمَتَى تَجِبُ، وَأَيْنَ تَجِبُ؟ فَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَمَاطَ الأَذَى مِنْ
(1)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (4/ 371)؛ حيث قال: "لم يختلف أهل العلم في المحرم بالحج والعمرة مِمَّنْ لم يحصر أنه إذا أصابه أذى في رأسه، أو أصابهُ مرض أنه يحلقَ وأن عليه الفدية المذكورة في الآية التى تليها، وأن القصد بها إلى المحصرين لا يمنع أن يدخل فيها من سواهم من المحرمين غير المحصرين".
(2)
أخرجه مالك (1/ 417)، وأحمد (18106)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
ضَرُورَةٍ لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَمَاطَهُ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا).
عند مالك: أنَّ الضرورةَ تُؤثِّر في رفع الإثم فقط، ولا تُؤثِّر في سقوط الفدية.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: إِنْ حَلَقَ دُونَ ضَرُورَةٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ دَمٌ فَقَطْ).
دون الضرورة، بأن احتاج إلى الحلق احتياجًا غير ضروري.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا؟ أَوِ النَّاسِي فِي ذَلِكَ وَالْمُتَعَمَّدُ سَوَاءٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
: الْعَامِدُ فِي ذَلِكَ وَالنَّاسِي وَاحِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ
(6)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
(7)
، وَأَهْلُ
(1)
سبق نقل الإجماع.
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 143)؛ حيث قال: "وتؤثِّر الضرورة في رفع الإثم فقط لا في سقوط الفدية".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 104)؛ حيث قال: "قال الشافعي رضي الله عنه: وإن احتاج إلى حلق رأسه فحلقه فعليه فدية".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 561)؛ حيث قال: "وإذا حلق رأسه من غير ضرورة: فعليه دم لا يجزئه غيره".
(5)
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 471)؛ حيث قال: "وحلق أو قصر وظاهره أنه لا فرق بين وقوع ذلك منه في هذه المسألة وفيما بعدها عمدًا أو سهوًا، وأنه لا يقضي النسك في العمد (وافتدى لحلقه) إن كان قد تحلل به أولًا ولا بد من حلقه ثانيًا؛ لأن حلقه لم يصادف محلًّا".
(6)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (2/ 240)؛ حيث قال: "وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث".
(7)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 453)؛ حيث قال: "وقوله: (عامدًا) راجع إلى الطيب لا إلى الحِلاق، فإن في الحلاق يستوي العمد والخطأ".
الظَّاهِرِ
(1)
: لَا فِدْيَةَ عَلَى النَّاسِي).
أخذ الظاهريَّة بعموم الأدلَّة في حقِّ الناسي.
* قوله: (فَمَنِ اشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ الضَّرُورَةَ فَدَلِيلُهُ النَّصُّ، وَمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُضْطَرِّ فَهِيَ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ أَوْجَبُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فَلِتَفْرِيقِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلعُمُومِ قَوْله -تَعَالَى-:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"
(2)
. وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَقِيَاسًا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ يُفَرِّقِ الشَّرْعُ فِيهَا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ).
وقد تجاوز اللَّه لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وهذا هو من ذلك الخَطأِ الذي تجاوز اللَّه عز وجل العباد عنه.
* قوله: (وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ عَلَى التَّخْيِيرِ: الصِّيَامُ، وَالْإِطْعَامُ، وَالنُّسُكُ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَأَنَّ النُّسُكَ أَقَلَّهُ شَاةٌ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَنَافِعٍ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِطْعَامُ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَالصِّيَامُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 385)؛ حيث قال: "وقال إسحاق وداود: لا فدية عليهم في شيء من ذلك إن صنعه ناسيًا".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2045)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
(3)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 44)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن من =
من حلق رأسه كله لعلة به فإن عليه فدية طعام لا يتجاوز عشرة مساكين، ولا يتجاوز صاعًا كل واحد ان لم يجد نسكًا، وتجزئه شاة أو صيام لا يكون أقل من ثلاثة أيام لمن لم يجد هديًا ولا طعامًا، ولا أكثر من عشرة أيام، فإن صامها متتابعة أجزأته باتفاق.
* قوله: (وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الثَّابِتُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الصِّيَامُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. فَقِيَاسًا عَلَى صِيَامِ التَّمَتُّعِ وَتَسْوِيَةِ الصِّيَامِ مَعَ الْإِطْعَامِ، وَلمَا وَرَدَ أَيْضًا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِه -سُبْحَانَهُ-: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]).
إن أصاب ما عدل شاة فصاعدًا أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مد يومًا يصومه.
* قوله: (وَأَمَّا كَمْ يُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ فِي الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَأَصْحَابُهُمُ: الْإِطْعَامُ فِي ذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ مِسْكِينٍ).
= حلق رأسه كله لعلة به فإن عليه فدية طعام لا يتجاوز عشرة مساكين ولا يتجاوز صاعًا كل واحد ان لم يجد نسكًا وتجزئه شاة أو صيام، لا يكون أقل من ثلاثة أيام لمن لم يجد هديًا ولا طعامًا، ولا أكثر من عشرة أيام فإن صامها متتابعة أجزأته باتفاق".
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 464)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت الطعام في فدية الأذى كم يكون عند مالك؟ قال: لستة مساكين مدين مدين لكل مسكين".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 231)؛ حيث قال: "وهو إطعام ثلاثة آصع ستة مساكين، لكل مسكين مدان، وهو أعلى الإطعام المنصوص عليه في الكفارات، وقد سماها الشافعي في الإملاء فدية تعبد".
(3)
يُنظر: "الحجة على أهل المدينة" للشيباني (2/ 366)؛ حيث قال: "جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الفدية مدين مدين لكل مسكين".
إطعام ثلاثة آصع ستة مساكين، لكل مسكين مدان، وهو أعلى الإطعام المنصوص عليه في الكفارات.
* قوله: (وَرُويَ عَنِ الثَّوْرِيِّ
(1)
أَنَّهُ قَالَ: "مِنَ الْبُرِّ نِصْفُ صَاِعٍ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ صَاعٌ". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ
(2)
، وَهُوَ أصْلُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ).
جعل أبو حنيفة في قولٍ آخر النصف من البر يعدل الصاع من التمر والشعير.
* قوله: (وَأَمَّا مَا تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِضَرُورَةِ مَرَضٍ أَوْ حَيَوَانِ يُؤْذِيهِ فِي رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(3)
: الْمَرَضُ أَنْ يَكُونَ بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ، وَالْأَذَى: الْقَمْلُ وَغَيْط. وَقَالَ عَطَاءٌ
(4)
: الْمَرَضُ الصُّدَاعُ، وَالْأَذَى: الْقَمْلُ وَغَيْرُهُ).
والأولى حمله على عموم أَذَى الرَّأس، من قُمَّل وصداع وغير ذلك.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ
(5)
عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا مُنِعَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ لِبَاسِ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 385)؛ حيث قال: "وروي عن الثوري أنه قال في الفدية من البر: نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع".
(2)
لم أقف عليه في كتب الأحناف، ولكن ذكره ابن عبد البر فقال في "الاستذكار"(4/ 385)، حيث قال:"وروي عن أبي حنيفة أيضًا مثله جعل نصفًا من بر يعدل صاعًا من تمر وشعير وهو أصله في الكفارات".
(3)
أخرج ابن جرير في "تفسيره"(3/ 380): عن ابن عباس، قوله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فمن اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم، فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك، ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك".
(4)
أخرج ابن جرير في "تفسيره"(3/ 378): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما أذى من رأسه؟ قال: "القمل وغيره، والصدع، وما كان في رأسه".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 390)؛ حيث قال: "قال مالك فيمن أراد أن يلبس شيئًا من الثياب التي لا ينبغي له أن يلبسها وهو محرم أو يقصر شعره أو يمس طيبًا من غير ضرورة ليسارة مؤنة الفدية عليه قال: لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك =
الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ، أَنَّهُ إِذَا اسْتَبَاحَهُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، أَيْ: دَمٌ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، أَوْ إِطْعَامٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الضَّرَرِ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ. وَقَالَ قَوْمٌ
(1)
: ليْسَ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ شَيْءٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: فِيهِ دَمٌ
(2)
. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ
(3)
أَنَّ مَنْعَ الْمُحْرِمِ قَصَّ الْأَظْفَارِ إِجْمَاعٌ).
أجمع أهل العلم على تحريم أن يأخذ الحرم من أظفاره.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخَذَ بَعْضَ أَظْفَارِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
وَأَبُو
= وإنما أرخص فيه للضرورة وعلى من فعل ذلك الفدية، قال أبو عمر: قد تقدم من مذهبه أن العامد وإن كان مسيئا في فعله ذلك فإنه مخير مع ذلك في الفدية التي وردت فيمن حلق لضرورة، وإن كان ذلك مكروهًا لمن فعله وتقدم قول غيره في ذلك بما لا وجه لإعادته، وأهل العلم مجمعون على كراهية ما كره مالك من ذلك".
(1)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 607)؛ حيث قال: "وإن قلَّم محرم أظفار حلال فلا بأس به، ولا ينبغي لمحرم أن يقلم أظفاره، فإن فعل ناسيًا أو جاهلًا افتدى، وإن قلمت له بأمره فعليه الفدية، وإن كان مكرهًا أو نائمًا فالفدية على الفاعل به ذلك من حلال أو حرام، وإن قلم ظفرًا واحدًا لإماطة أذى افتدى، وإن لم يمط [به] عنه أذى أطعم شيئًا من طعام، فإن انكسر ظفره فليقلمه ولا شيء عليه، وإن أصابت أصابعه قروح فاحتاج أن يداويها ولم يصل إلى ذلك إلا بقص أظفاره افتدى كفدية من أماط الشعر من الأذى".
(2)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 563)؛ حيث قال: " (وإن قص أظافره كلها: فعليه دم، كذلك إن قص أظافر يد أو رجل: فعليه جم)؛ وذلك لأنه قد أزال التَّفَث عن عضو، إذ الجميع من جنس واحد، فلا يجب في الكل إلا ما يجب في العضو، ألا ترى أنه لو لبس قميصًا وسراويل وخفين وعمامة، لم يجب عليه إلا دم واحد. (فإن قص خمسة أظافير من يدين أو رجلين، ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف عليه صدقة، وقال محمد: عليه دم)، لأبي حنيفة: أن المبتغى بقص الأظفار النفع والزينة جميعًا، وإنما حصل له النفع فيما قص من البدن دون الزينة، فلا يبلغ به دمًا. ومحمد اعتبر العدد".
(3)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 52)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 226)؛ حيث قال: " (قال الشافعي) رحمه الله: وليس للمحرم أن يقطع شيئًا من شعره ولا شيئًا من أظفاره، وإن انكسر ظفر من أظفاره فبقي متعلقًا =
ثَوْرٍ: إِنْ أَخَذَ وَاحِدًا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَخَذَ ظُفْرَيْنِ أَطْعَمَ مِسْكِينَيْنِ، وَإِنْ أَخَذَ ثَلَاثًا فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ
(1)
: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُصَّهَا كُلَّهَا. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ
(2)
: يَقُصُّ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَهُ وَشَارِبَهُ. وَهُوَ شُذُوذٌ، وَعِنْدَهُ أَنْ لَا فِدْيَةَ إِلَّا مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فَقَطْ لِلْعُذْرِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ).
= فلا بأس أن يقطع ما انكسر من الظفر وكان غير متصل ببقية الظفر، ولا خير في أن يقطع منه شيء متصل بالبقية؛ لأنه حينئذ ليس بثابت فيه، وإذا أخذ ظفرًا من أظفاره أو بعض ظفر أطعم مسكينًا وإن أخذ ظفرًا ثانيًا أطعم مسكينين، فإن أخذ ثلاثة في مقام واحد أهراق دمًا وإن أخذها متفرقة أطعم عن كل ظفر مُدًّا، وكذلك الشعر وسواء النسيان والعمد في الأظفار والشعر وقتل الصيد؛ لأنه شيء يذهب فلا يعود ولا بأس على المحرم أن يقطع أظفار المحل، وأن يحلق شعره وليس للمحل أن يقطع أظفار المحرم ولا يحلق شعره، فإن فعل بأمر المحرم فالفدية على المحرم، وإن فعله بغير أمر المحرم راقد أو مكره افتدى المحرم ورجع بالفدية على المحل".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 194)؛ حيث قال: "وأما قلم الظفر فنقول: لا يجوز للمحرم قلم أظفاره لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، وقلم الأظفار من قضاء التفث، رتب اللَّه تعالى قضاء التفث على الذبح؛ لأنه ذكره بكلمة موضوعة للترتيب مع التراخي بقوله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، فلا يجوز الذبح؛ ولأنه ارتفاق بمرافق المقيمين، والمحرم ممنوع عن ذلك؛ ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له كالنوع الآخر، وهو النبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم، فإن قلم أظافير يد أو رجل من غير عذر وضرورة فعليه دم؛ لأنه ارتفاق كامل فتكاملت الجناية فتجب كفارة كاملة. وإن قلم أقل من يد أو رجل فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع وهذا قول أصحابنا الثلاثة".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 278)؛ حيث قال: "وجائز للمحرم دخول الحمام، والتدلك، وغسل رأسه بالطين، والخطمي، والاكتحال، والتسويك، والنظر في المرآة، وشم الريحان، وغسل ثيابه، وقص أظفاره وشاربه، ونتف إبطه، والتنور، ولا حرج في شيء من ذلك، ولا شيء عليه فيه؛ لأنه لم يأتِ في منعه من كل ما ذكرنا قرآن، ولا سنة، ومدعي الإجماع في شيء من ذلك كاذب على جميع الأمة، قائل ما لا علم به، ومن أوجب في ذلك غرامة فقد أوجب شرعًا في الدِّين لم يأذن به اللَّه -تعالى-".
جائز للمحرم عند ابن حزم أن يدخل الحمام، وشم الريحان، وغسل ثيابه، وقص أظفاره وشاربه، ونتف إبطه، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يأت في المنع نصٌّ.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ حَلْقِ الرَّأْسِ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِي حَلْقِ الشَّعْرِ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ، فَالْجُمْهُورُ
(2)
عَلَى أَنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ
(3)
. وَقَالَ دَاوُدُ
(4)
: لَا فِدْيَةَ فِيهِ).
لو أزال أيَّ شعر من جسده فلا شيء عليه عند داود الظاهري.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَتَفَ مَنْ رَأَسَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ أَوْ مِنْ لَحْمِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
: لَيْسَ عَلَى مَنْ نَتَفَ الشِّعْرَ الْيَسِيرَ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَاطَ بِهِ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ
(6)
: فِي الشَّعْرَةِ مُدٌّ، وَفِي
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 52)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من: حلق رأسه، وجزِّه، وإتلافه بجزه، أو نورة، وغير ذلك".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 261)؛ حيث قال: "ولا خلاف بينهم أنه لا يجوز للمحرم أخذ شيء من شعر جسده وشعر رأسه من غير ضرورة ما دام محرمًا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 385)؛ حيث قال: "وجمهور العلماء يُوجِبون الفدية على المحرم إذا حلق شعر جسده أو اطّلى أو حلق موضع المحاجم، وبعضهم يجعل عليه في ذلك كله دمًا ولا يجيز إلا في الضرورة".
(4)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (2/ 240)؛ حيث قال: "وقال داود: لا شيء عليه في حلق شعر جسده".
(5)
يُنظر: "المدونة"(1/ 441)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت لو أن رجلًا حرامًا أخذ من شاربه ما يجب عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك: من نتف شعرة أو شعرات يسيرة فأرى عليه أن يطعم شيئًا من طعام ناسيًا كان أو جاهلًا، وإن نتف من شعره ما أماط به عنه الأذى فعليه الفدية".
(6)
أخرج ابن حزم في "المحلى بالآثار"(5/ 233): عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن الحسن، وعطاء قالا جميعًا:"في ثلاث شعرات للمحرم: دم، الناسي والعامد سواء".
الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّانِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ دَمٌ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
(3)
صَاحِبُ مَالِكٍ: فِيمَا قَلَّ مِنَ الشَّعْرِ إِطْعَامٌ، وَفِيمَا كَثُرَ فِدْيَةٌ).
هذا خلاف في كثير الشعر وكثيره، وهي اجتهادات لا نصَّ فيها.
* قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنْ مَنْعِ الْمُحْرِمِ حَلْقَ الشَّعْرِ أَنَّهُ عِبَادَةٌ سَوَّى بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَنْعَ النَّظَافَةِ وَالزَّيْنِ وَالِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي فِي حَلْقِهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأنَّ الْقَلِيلَ لَيْسَ فِي إِزَالَتِهِ زَوَالُ أَذًى).
هل الحكم للنظافة أو هو حكم تعبُّديٌّ؟
وعلى حسب النظر أو التعليل اختلف الحكم.
* قوله: (أَمَّا مَوْضِعُ الْفِدْيَةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ أَيْنَ شَاءَ، بِمَكَّةَ وَبِغَيْرِهَا، وَإِنْ شَاءَ بِبَلَدِهِ. وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ ذَبْحُ النُّسُكِ وَالْإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ
(5)
. وَالَّذِي عِنْدَ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 226)؛ حيث قال: "والفدية في الشعرة مد بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم من حنطة يتصدق به على مسكين وفي الاثنتين مدان على مسكينين وفي الثلاث فصاعدًا دم ولا يجاوز بشيء من الشعر وإن كثر دم".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 160)؛ حيث قال: "وقال الشافعي إذا قطع المحرم من رأسه أو جسده ثلاث شعرات أو نتفهن فعليه فدية، وان نتف شعرة فعليه مد، وإن نتف شعرتين فمدان، وبه قال أبو ثور".
(3)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 389)؛ حيث قال: "وقال عبد الملك:
…
، ومن نتف شعرة أو شعرتين لم يكن عليه شيء، ولو أطعم شيئًا ولو قبضة من طعام كان حسنًا وكل شيء خفيف من هذا الباب ففيه صدقة وليس فيه دم ولو قلم ظفرا واحدًا أو بعض ظفر أطعم مسكينًا واحدًا".
(4)
يُنظر: "المدونة"(1/ 442)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت الطعام في الأذى والصيام أيكون بغير مكة؟ قال: نعم حيث شاء من البلدان".
(5)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (2/ 240)؛ حيث قال: "فقال مالك يفعل ذلك أين شاء =
مَالِكٍ هَاهُنَا هُوَ نُسُكٌ وَلَيْسَ بِهَدْيٍ، فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: الدَّمُ وَالْإِطْعَامُ لَا يُجْزِيَانِ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ [ابْنُ عَبَّاسٍ:]
(3)
مَا كَانَ مِنْ دَمِهِ فَبِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ مِنْ إِطْعَامٍ وَصِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(4)
أَنَّ دَمَ الْإِطْعَامِ لَا يُجْزِئُ إِلَّا لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ).
اختلفوا في أي موضع تكون الفدية، بعضهم بحث عن إغناء مساكين الحرم، وبعضهم لن يقصر الأمر على مساكين الحرم، وجوَّز الفدية ولو في بلده.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ اسْتِعْمَالُ قِيَاسِ دَمِ النُّسُكِ عَلَى الْهَدْيِ؛
= إن شاء بمكة وإن شاء ببلده وذبح النسك، والإطعام والصيام عنده سواء يفعل ما شاء من ذلك أين شاء، وهو قول مجاهد".
(1)
"المبسوط" للشيباني (2/ 433)؛ حيث قال: "إلا النسك فإنه لا يجزي إلا بمكة وإذا فعله غير مضطر فعليه دم لا يجزيه غيره".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 202)؛ حيث قال: " (قال الشافعي): قال اللَّه تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (قال الشافعي): فلما كان كل ما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديًا كانت الأنعام كلها وكل ما أهدى فهو بمكة واللَّه أعلم، ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا ما انبغى -واللَّه أعلم- أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزى بشيء من النعم لا يجزئ فيه إلا أن يجزئ بمكة، فعلم أن مكة أعظم أرض اللَّه تعالى حرمة وأولاه أن تنزه عن الدماء لولا ما عقلنا من حكم اللَّه في أنه للمساكين الحاضرين بمكة، فإذا عقلنا هذا عن اللَّه عز وجل فكان جزاء الصيد بطعام لم يجز -واللَّه أعلم- إلا بمكة".
(3)
لم أر هذا عن ابن عباس، ويؤكِّدُ ذلك قول ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 389) -وهو مصدر المؤلف-:"وقال عطاء: ما كان من دم فبمكة وما كان من إطعام أو صيام فحيث شاء".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 202)؛ حيث قال: "لولا ما عقلنا من حكم اللَّه في أنه للمساكين الحاضرين بمكة، فإذا عقلنا هذا عن اللَّه عز وجل فكان جزاء الصيد بطعام لم يجز -واللَّه أعلم- إلا بمكة".
فَمَنْ قَاسَهُ عَلَى الْهَدْيِ أَوْجَبَ فِيهِ شُرُوطَ الْهَدْيِ مِنَ الذَّبْحِ فِي الْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ بِهِ، وَفِي مَسَاكِينِ الْحَرَمِ. وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنَّ الْهَدْيَ يَجُوزُ إِطْعَامُهُ لِغَيْرِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَالَّذِي يَجْمَعُ النُّسُكَ وَالْهَدْيَ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا مَنْفَعَةُ الْمَسَاكِينِ الْمُجَاوِرِينَ لِبَيْتِ اللَّهِ، وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ اسْمِهِمَا، فَسَمَّى أَحَدَهُمَا: نُسُكًا، وَسَمَّى الْآخَرَ: هَدْيًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا الْوَقْتُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِمَاطَةِ الْأَذَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْخِلَافُ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ إِمَاطَةِ الْأَذَى).
بعضهم قاس دم النسك على الهدي، فأوجب فيه شروط الهدي.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ هَلْ هُوَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ؟ أَوْ هُوَ مِمَّا يُتَحَلَّلُ بِهِ مِنْهُ؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّهُمَّ، ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ! " قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ، ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ! " قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ، ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ! " قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ"
(1)
. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِقْنَ، وَأَنَّ سَنَتَهُنَّ التَّقْصِيرُ)
(2)
.
كان عادة أكثر العرب اتخاذ الشعر على الرؤوس وتوفيرها وتزييتها، وكان التَّسْميت والحَلْقُ فيهم قليلًا، وكانوا يرون ذلك نَوعًا من الشهرة،
(1)
أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 292)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير".
وكان يشق عليهم الحلق، فمالوا إلى القصِّ والتقصير، فلما أمر صلى الله عليه وسلم من لا هَدْي معه بالإحلال في الحديث الذي تقدم ذكره، وجدوا من ذلك في أنفسهم، فقالوا: كيف نحل وقد سمينا الحج؟ وإنما الحلق بعد أن يبلغ الهدي محِلَّه، واستبطأهم في ذلك، وقال لهم:"افعلوا ما آمركم به"، وقال:"لولا أني لبدت رأسي وسقت معي الهدي لأحللت وحلقت"، فلما أحلوا كان منهم من حلق ومنهم من قصر، ولم يحلق لما يجد في نفسه منه، فمن أجل ذلك سمح لهم بالدعاء بالرحمة والمغفرة، وقصر بالآخرين إلى أن استعطف عليهم وسئل في أمرهم فعمهم بالدعاء بعد.
(وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ نُسُكٌ يجِبُ عَلَى الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَوْ لَا؟، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: الْحِلَاقُ نُسُكٌ لِلْحَاجِّ وَلِلْمُعْتَمِرِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَأُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ بِعُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا فِي الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
(2)
قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ حِلَاقٌ وَلَا تَقْصِيرٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ جَعَلَ الْحِلَاقَ أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكًا أَوْجَبَ فِي تَرْكِهِ الدَّمَ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنَ النُّسُكِ لَمْ يُوجِبْ فِيهِ شَيْئًا).
عند أبي حنيفة: لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل، أما إذا أحصر في الحرم يحلِقُ.
(1)
هذا إجماع إلا ما استثناه أبو حنيفة مما ذكره المؤلف؛ ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 292)؛ حيث قال: "والحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر وهو أفضل من التقصير، ويجب على كُلِّ من فاته الحج أو أحصر بعدو أو مرض، وعليه جماعة الفقهاء إلا في المُحصَر بعدد. قال مالك: لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه ولا ينحر قبل الفجر إلى آخره، وهذا لا خلاف فيه".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 72)؛ حيث قال: "عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه تعالى إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل، أما إذا أحصر في الحرم يحلق؛ لأن الحلق عندهما مؤقت بالحرم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما كان محصَرًا بالحديبية، وبعض الحديبية من الحرم على ما روي أن مضارب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم، وبه نقول".
[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْمُتَمَتِّعِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا كفَّارَةُ الْمُتَمَتِّع الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ، فَإنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا
(1)
، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُتَمَتِّعِ مَنْ هُوَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ).
من أهل بعمرة في أشهر الحج، وقدم مكة ففرغ منها، فأقام بها فحجَّ في نفس العام فهو متمتع، وعليه الهديُ إذا وَجَد، وإلا فالصيام.
* قوله: (وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى تِلْكَ الْأَجْنَاسِ بِعَيْنِهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ؟ وَمَا الْوَاجِبُ فِيهَا؟ وَمَتَى تَجِبُ؟ وَلِمَنْ تَجِبُ؟ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ تَجِبُ؟ فَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ فَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ بِاتِّفَاقٍ
(2)
، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمُتَمَتِّعِ مَنْ هُوَ).
سبق شيء من ذلك.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْعُلَمَاءِ
(3)
عَلَى أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هُوَ شَاةٌ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّاةِ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وَمَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ قَدْ يجِبُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 56)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن من أهَلَّ بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها، فأقام بها فحج من عامه أنه متمتع، وعليه الهديُ إذا وجد، وإلا فالصيام".
(2)
سبق نقل الإجماع عليه.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 267)؛ حيث قال: "وعليه جمهور أهل العلم وعليه تدور فتوى فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز فيما استيسر من الهدي".
شَاةٌ
(1)
، وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ
(2)
إِلَى أَنَّ اسْمَ الْهَدْى لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْله -تَعَالَى-:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]؛ أَيْ: بَقَرَةٌ أَدْوَنُ مِنْ بَقَرَةٍ، وَبَدَنَةٌ أَدْوَنُ مِنْ بَدَنَةٍ).
وهذا القول من ابن عمر رضي الله عنه خالفه فقهاء البلاد والأمصار.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يجِدِ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ
(3)
، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الزَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِانْقِضَائِهِ فَرْضُهُ مِنَ الْهَدْيِ إِلَى الصِّيَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: إِذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فَقَدِ انْتَقَلَ وَاجِبُهُ إِلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ. وَقَالَ أبُو حَنِيفَةَ
(5)
: إِنْ وَجَدَ الْهَدْيَ فِي صَوْمِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ لَزِمَهُ، وَإِنْ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 267)؛ حيث قال: "قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك لأن اللَّه تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، فمما يحكم به في الهدي شاة وقد سماها اللَّه هديًا، وذلك الذي لا اختلاف فيه عندنا، وكيف يشك أحد في ذلك وكل شيء لا يبلغ أن يحكم فيه ببعير أو بقرة، فالحكم فيه شاة وما لا يبلغ أن يحكم فيه بشاة فهو كفارة من صيام أو إطعام مساكين، قال أبو عمر: قد أحسن مالك في احتجاجه هذا وأتى بما لا مزيد لأحد فيه وجها حسنا في معناه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 267)؛ حيث قال: "وكان ابن عمر يقول: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة 196] بدنة دون بدنة، وبقرة دون بقرة، وقد روي عن عائشة مثل ذلك".
(3)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 56)؛ حيث قال: "وعليه الهديُ إذا وجد، وإلا فالصيام".
(4)
يُنظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب المالكي (1/ 464)؛ حيث قال: "إذا شرع المتمتع في الصوم بعد عدم الهدي ثم وجده، مضى على صومه، ولم يلزمه إخراجه".
(5)
يُنظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" لابن مازه (2/ 469)؛ حيث قال: "ولو =
وَجَدَهُ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ هَلْ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ هُوَ شَرْطٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا؟ وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَةَ الْأَيَّامِ هِيَ عِنْدَهُ بَدَلٌ مِنَ الْهَدْيِ، وَالسَّبْعَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ).
يقول أبو حنيفة رحمه الله: لو قدر على الهدي في خلال الصوم الثلاث أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدي، وسقط حكمه؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل؛ لأن المقصود هو التَّحَلُّل، ولم يحصل فسقط حكم البدل، كالمقيم إذا وجد الماء قبل الفراغِ من الصلاةِ، ولو وجد الهدي بعدما حلق قبل أن يصوم السبعة، فلا هدي عليه؛ لأن المقصود قد حصل بالحلق، وهو التحلل فيسقط حكم البدل.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَامَ ثَلَاثَةَ الْأَيَّامَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهَا فِي مَحِلِّهَا
(1)
؛ لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَشْرَ الْأَوَلِ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ)
(2)
.
هذا يكفيه حتى يرجع فيُكمل العشرة كاملة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَامَهَا فِي أَيَّامِ عَمَلِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ
= قدر على الهدي في خلال الصوم الثلاث أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدي، وسقط حكمه؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل؛ لأن المقصود هو التحلل، ولم يحصل فسقط حكم البدل، كالمقيم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة، ولو وجد الهدي بعدما حلق قبل أن يصوم السبعة، فلا هدي عليه؛ لأن المقصود قد حصل بالحلق، وهو التحلل فيسقط حكم البدل".
(1)
هذا مفهوم نصوص الفقهاء، ولم أر مَن نصَّ على هذا الإجماع.
(2)
هذا كسابقه.
بِالْحَجِّ، أَوْ صَامَهَا فِي أَيَّامِ مِنًى؛ فَأَجَازَ مَالِكٌ
(1)
صِيَامَهَا فِي أَيَّامِ مِنًى، وَمَنْعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَقَالَ: إِذَا فَاتَتْهُ الْأَيَّامُ الْأُولَى وَجَبَ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي عَمَلِ الْحَجِّ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ).
منع أبو حنيفة لأنه لا يعتبر هذه الأيام من أيام الحج، بخلاف وجهة نظر مالك.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَإِنِ انْطَلَقَ فَهَلْ مِنْ شَرْطِ الْكَفَّارَةِ أَلَّا تُجْزِئَ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ مُوجِبِهَا؟ فَمَنْ قَالَ: لَا تُجْزِي كَفَّارَةٌ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ مُوجِبِهَا، قَالَ: لَا يُجْزِي الصَّوْمُ إِلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ، وَمَنْ قَاسَهَا عَلَى كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ قَالَ: يُجْزِي).
هذا هو ما ذكرناه من سبب الخلاف، فبعضُهم لا يَعتبِرُ هذه الأيام داخلة في أيام الحج.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا صَامَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامَ فِي أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا صَامَهَا فِي الطَّرِيقِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: يُجْزِي الصَّوْمُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا يُجْزِي).
(1)
يُنظر: "الرسالة" للقيرواني (ص: 77)؛ حيث قال: "فمن قرن أو تمتع من غير أهل مكة فعليه هدي يذبحه أو ينحره بمنًى إن أوقفه بعرفة، وإن لم يوقفه بعرفة فلينحر بمكة بالمروة بعد أن يدخل به من الحل، فإن لم يجد هديًا فصيام ثلاثة أيام في الحج -يعني من وقت يحرم إلى يوم عرفة-، فإن فاته ذلك صام أيام منى وسبعة إذا رجع".
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1758)؛ حيث قال: "ولأن يوم السادس لا يسن الخروج إلى منى فيما يليه، فلم يستحب فيه ابتداء الصوم الثلاثة؛ أصله: ما قبله".
(3)
يُنظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 465)؛ حيث قال: "يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله، فإن صامها في الطريق أجزأه خلافًا للشافعي في أحد قوليه، لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، فوجب تعلقه بأول الرجوعين؛ لأن إضمار الرجوع إلى الحج أولى لأنه منطوق به، ولأنه قد فرغ من أفعال الحج كما لو رجع إلى أهله".
(4)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 406)؛ حيث قال: "واحتجوا بأن كل من لزمه =
لأنَّ الشافعيَّ لا يراه قد رجع إلى بلده، وقد اشترط اللَّه عز وجل الركوع.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فَإِنَّ اسْمَ الرَّاجِعِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ فَرَغَ مِنَ الرُّجُوعِ، وَعَلَى مَنْ هُوَ فِي الرُّجُوعِ نَفْسِهِ. فَهَذِهِ هِيَ الْكَفَّارَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالسَّمْعِ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا).
نعم، اسم الرجع ينطلق على منتهى الرجوع، وعلى من هو في طريق الرجوع.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِيهِ إِمَّا بِفَوْتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكانِهِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ غَلَطِهِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ جَهْلِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ، أَوْ إِتْيَانِهِ فِي الْحَجِّ فِعْلًا مُفْسِدًا لَهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ حَجًّا وَاجِبًا. وَهَلْ عَلَيْهِ هَدْيٌ مَعَ الْقَضَاءِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا
= صوم، وله أن يؤديه إذا رجع إلى وطنه، له أن يؤديه قبل ذلك لقضاء رمضان، وهذا غلط لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتمتع:"من كان معه هدي فليهده، ومن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحجِّ وسبعة إذا رجع إلى أهله". وهذا نص صريح، فإذا قلنا بالقول الصحيح، فالمراد بالوطن: موضع العزم على الاستيطان فيه سواء كان البلد الذي خرج منه، أو غيره حتى لو أقام بمكة كانت وطنه وصامها فيها، فعلى هذا وقت جواز فعلها حصوله في موضع الاستيطان، ولو صام قبل ذلك لم يجهزه لأنه لا يجوز أداء العبادة البدنية قبل دخول وقتها ولو أخَّر صيامها مع القدرة عن هذا الوقت كان مسيئًا وأجزأته، وإذا قلنا بقول "الإملاء" على اختيار أبي إسحاق يصومها إذا خرج من مكة، فإن صام قبله لا يجوز، ولو أخَّرها حتى رجع إلى أهلهِ كان مسيئًا وأجزأته. هكذا قال "الحاوي"، وقال سائر أصحابنا: أجزأته، وهل الأفضل له التأخير إلى الرجوع إلى أهله أم التقديم على ذلك؟ قولان؛ أحدهما: الأفضل له التقديم لأن تعجيل العبادة في أول وقتها أفضل عند القدرة. والثاني: التأخير أفضل.
فَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا؟ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ كلِّهِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْهَدْيَ؟ لِكَوْنِ النُّقْصَانِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ مُشْعِرًا بِوُجُوبِ الْهَدْيِ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: لَا هَدْيَ أَصْلًا، وَلَا قَضَاءَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَجٍّ وَاجِبٍ. وَمِمَّا يَخُصُّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ يَمْضِي فِيهِ الْمُفْسِدُ لَهُ، وَلَا يَقْطَعُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: هُوَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ قَوْله -تَعَالَى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فَالْجُمْهُورُ عَمَّمُوا، وَالْمُخَالِفُونَ خَصَّصُوا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهَا الْمُفْسِدَاتُ).
شرع في الحج ثم فاته بسبب جهله بالتوقيت أو العدد ونحو ذلك، فعليه القضاء قضاءً واجبًا، ولكن هل عليه هدي؟
هذا هو محلُّ الخلاف.
والجمهور أنَّ عليه هدي.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْحَجِّ إِمَّا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَتَرْكُ الْأَرْكانِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ -عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ رُكْنٌ مِمَّا لَيْسَ بِرُكْنٍ-، وَأَمَّا مِنَ التُّرُوكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ فَالْجِمَاعُ وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي إِذَا وَقَعَ فِيهِ الْجِمَاعُ كَانَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ).
هذه هي أنواع مفسدات الحج، أفعال وتروك.
[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا إِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِفْسَادِ الْجِمَاعِ لِلْحَجِّ فَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ
(1)
، وَكَذَلِكَ مَنْ وَطِئَ مِنَ الْمُعْتَمِرِينَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى
(2)
).
جماع النساء يفسخ الإحرام ويفسد الحج ما لم يقدم المعتمر مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة للحاج.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي فَسَادِ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَقَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: مَنْ وَطِئَ قَبْلَ رَمْي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالْقَضَاءُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
،
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 52)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن من جامع عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفه أن عليه حجَّ قابل والهدي".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 42)؛ حيث قال: "واتفقوا أن جماع النساء في فروجهن ذاكرًا لحجه يفسخ الإحرام ويفسد الحج، ما لم يقدم المعتمر مكة ولم يأتِ وقت الوقوف بعرفة للحاج، ثم اختلفوا فيه أيفسد بعد ذلك ما لم يتم جميع الحج وجميع العمرة أم لا".
(3)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (5/ 556)؛ حيث قال: "وتلخيص ما في غير المدونة من الاختلاف في ذلك: أنه إن وطئ قبلهما فسد حجُّه، وقيل: لا يفسد، وإن وطئ بعدهما فلا شيء عليه بإجماع، وإن وطئ بعد أحدهما وقبل الآخر فثلاثة أقوال: قيل: يفسد حجه، وقيل: عليه عمرة وهدي، وقيل: إنما عليه هدي".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 239)؛ حيث قال: "وإذا أهَلَّ الرجل بحج أو بحج وعمرة ثم أصاب أهله فيما بينه وبين أن يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ويطوف بالبيت، وإن لم يرم جمرة العقبة بعد عرفة فهو مفسد، والذي يفسد الحج الذي يوجب الحد من أن يغيِّب الحشفة، لا يفسد الحج شيء غير ذلك".
(5)
"البناية شرح الهداية" لبدر الدين العيني (4/ 352)؛ حيث قال: "ومن جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه، وعليه بدنة، خلافًا للشافعي رحمه الله فيما إذا جامع قبل الرمي".
وَالثَّوْرِيُّ
(1)
: عَلَيْهِ الْهَدْيُ بَدَنَةً، وَحَجُّهُ تَامٌّ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ
(2)
. وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: مَنْ وَطِئَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَحَجُّهُ تَامٌّ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَيَلْزَمُهُ عِنْدَهُمُ الْهَدْيُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ وَطِئَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
(4)
).
مالكٌ: ذهب إلى أن من وقع بأهله بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جَمرةِ العقبة فقد فسد حَجُّه، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة وحجه تام، وقال مالك: يجزئ الواطئ شاة كسائر الهدايا، وقال الشافعي: لا يجزئ الواطئ إلا بدنة أو سبع من الغنم، وقال مالك: الذي يفسد الحج والعمرة التقاء الختانين وإن لم يكن ماء دافق، قال: ولو قبَّل امرأته ولم يكن من ذلك ماء دافق لم تكن عليه في القبلة إلا الهدي.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ لِلْحَجِّ تَحَلُّلًا يُشْبِهُ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الْإِفَاضَةُ، وَتَحَلُّلًا أَصْغَرَ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِبَاحَةِ الْجِمَاعِ تَحَلُّلَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ التَّحَلُّلَ الْأَصْغَرَ الَّذِي هُوَ رَمْيُ الْجَمْرَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْحَاجُّ مِنْ كُلِّ شَيْءِ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 259)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة وحجه تام".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 549)؛ حيث قال: "ومن جامع يوم النحر بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يحلق فحجه تام وعليه هدي وعمرة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 265)؛ حيث قال: "قال أبو عمر: كان مالك رحمه الله قد سمع الاختلاف في ذلك وهو ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول مالك هذا: من وطئ بعد الجمرة قبل الإفاضة فعليه عمرة وهدي، وهو قول عكرمة، وبه قال ربيعة، وفيه رواية عن ابن عباس، وإليه ذهب أحمد بن حنبل فيما ذكر عنه الأثرم".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 265)؛ حيث قال: "والثالث: أن حجه فاسد وعليه حجة قابل والهدي، وهو قول ابن عمر".
حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ
(1)
أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَقِيلَ عَنْهُ: إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أَنَّهُ التَّحَلُّلُ الْأَكْبَرُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَقَ وَلَا قَصَّرَ؛ لِثُبُوتِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ الْحِلَاقِ، وَإِنْ جَامَعَ قَبْلَهُ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ).
من رمى جمرة العقبة يوم النحر، فقد حل له لبس الثياب وحلق الشعر وإزالة الشعث، وتقليم الأظافر، وإلقاء التفث، وهو ممنوع من الطيب والنساء، والصيد حتى يفيض، فإن تطيب فلا كفارة عليه، وإن صاد فعليه الجزاء، وإن وطئ فحجه تام، ويهدي ويعتمر، فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد حَلّ له جميع ما حرم بالإحرام عليه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْجِمَاعِ الَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ وَفِي مُقَدِّمَاتِهِ؛ فَالْجُمْهُورُ
(2)
عَلَى أَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَيَحْتَمِلُ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الطُّهْرِ الْإِنْزَالَ مَعَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ فِي الْحَجِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
:
(1)
"التفريع في فقه الإمام مالك" لابن الجَلَّاب (1/ 233)؛ حيث قال: "ومن رمى جمرة العقبة يوم النحر، فقد حل له لبس الثياب وحلق الشعر وإزالة الشعث، وتقليم الأظافر، وإلقاء التفث، وهو ممنوع من الطيب والنساء، والصيد حتى يفيض، فإن تطيَّب فلا كفارة عليه، وإن صاد فعليه الجزاء، وإن وطئ فحجُّه تام، ويهدي ويعتمر، فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد حَلَّ له جميع ما حرم بالإحرام عليه".
(2)
في نسبة هذا إلى الجمهور بإطلاقٍ نظر.
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 553)؛ حيث قال: " (وإذا قبَّل امرأته، =
لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ إِلَّا الْإِنْزَالُ فِي الْفَرْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ يُفْسِدُ الْحَجَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِنْزَالُ نَفْسُهُ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَكَذَلِكَ مُقَدِّمَاتُهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْقُبْلَةِ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرَجِ أَنْ يُهْدِيَ).
الصواب: أنَّ الذي يُفسد الحجَّ هو الذي يوجب الحد بأن يُغيِّب الحَشَفة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ مِرَارًا، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنْ كرَّرَ الْوَطْءَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَانَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ هَدْيٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(4)
: يُجْزِيهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَرَّرَ الْوَطْءَ مَا لَمْ يُهْدِ لِوَطْئِهِ الْأَوَّلِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ الْأَقْوَالُ
(5)
، إِلَّا أَنَّ الْأَشْهَرَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ).
= وأنزل أو لم ينزل: فعليه دم، ولا يفسد إحرامه)؛ وذلك لأن فساد الإحرام مخصوص بالجماع، والدليل عليه أن اللبس والطيب لا يفسدانه، وما كان مخصوصًا بالجماع، فإنما يتعلَّق الحكم فيه بالجماع في الفرج".
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 239)؛ حيث قال: "والذي يفسد الحج الذي يوجب الحد من أن يغيب الحشفة، لا يفسد الحج شيء غير ذلك".
(2)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 271)؛ حيث قال: "إذا وطئ مرارًا، لم يلزمه إِلَّا هدي واحد، سواء كفر عن الأوَّل قبل الثَّاني أم لا".
(3)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1989)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا وطئ ثم وطئ: فعليه في الثاني شاة".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 552)؛ حيث قال: " (ومن جامع في حجة مرارًا قبل وقوفه بعرفة، فإن كان ذلك في موطن واحد: فعليه دم واحد، وإن كان في مواطن كثيرة: فعليه لكل موطن دم. وقال محمد: عليه دم واحد ما لم يهدِ، فإن أهدى، ثم جامع: فعليه دم آخر) ".
(5)
يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص: 73)؛ حيث قال: "وإن تكرر منه الجماع ولم يكفر عن الأول كفاه عنهما كفارة واحدة في أحد الأقوال، وتلزمه بدنة في القول الثاني، وشاة في القول الثالث".
أي: كرَّر الجماع، وقول أبي حنيفة وجيه، لو كرر الوطء في مجلس فعليه هدي واحد، وفي مجالس تعدد الهدي بتعدُّد المجالس.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ نَاسِيًا، فَسَوَّى مَالِكٌ
(1)
فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ
(2)
: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ).
لم يُفرِّق مالك بين أن يتعمَّد الجماع أو أن يُجامع ناسيًا، وهذا مُخالفٌ لعموم الأدلة في رفع النسيان عن الأُمَّة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ هَدْيٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: إِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهَا هَدْيٌ، وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ هَدْيَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِ فِي الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(5)
عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا حَجَّا مِنْ قَابِلٍ تَفَرَّقَا، -أَعْنِي: الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ-، وَقِيلَ:
(1)
يُنظر: "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب (2/ 216)؛ حيث قال: "وإذا وَطِئ ناسيًا فسد حجَّه".
(2)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(7/ 343)؛ حيث قال: "إذا وطئ ناسيًا أو جاهلًا فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يفسد نسكه ولا كفارة".
(3)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (5/ 651)؛ حيث قال: "قال مالك: وإن أكره نساءه وهنَّ محرمات فوطئهن أحجَّهن وكفَّر عن كل واحدة منهن كفَّارة وإن بِنَّ مِنه ونكحن غيره، وأما إنْ طاوعنه فذلك عليهن دونه".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 240)؛ حيث قال: "ولو وطئ نساء كان واحدًا من قبل أنه أفسده مرة إلا أنهن إن كن محرمات فقد أفسد عليهن، وعليه أن يحجهن كلهن ثم ينحر عن كل واحدة منهن بدنة لأن إحرام كل واحدة منهن غير إحرام الأُخرى، وما تلذذ به من امرأته دون ما وصفت من شيء من أمر الدنيا فشاة تجزيه فيه، وإذا لم يجد المفسد بدنة ذبح بقرة، وإن لم يجد بقرة ذبح سبعًا من الغنم، وإذا كان معسرًا عن هذا كله قومت البدنة له دراهم بمكة والدراهم طعامًا ثم أطعم، وإن كان معسرًا عن الطعام صام عن كل مد يومًا، وهكذا كل ما وجب عليه فأعسر به مما لم يأت فيه نفسه نص".
(5)
فهمه المؤلف من استقراء كلام ابن عبد البر في "الاستذكار"(4/ 261).
لَا يَفْتَرِقَانِ. وَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا يَفْتَرِقَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ أَيْنَ يَفْتَرِقَانِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ أَفْسَدَا الْحَجَّ، وَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَا أَحْرَمَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ. فَمَنْ آخَذَهُمَا بِالِافْتِرَاقِ فَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَعُقُوبَةً، وَمَنْ لَمْ يُؤَاخِذْهُمَا بِهِ فَجَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا بِسَمَاعٍ).
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة سئلوا: عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج؟ فقالوا: "ينفذان يمضيان لوَجْههما حتى يقْضِيَا حجهما. ثم، عليهما حج قابل والهدي"، قال: وقال علي بن أبي طالب: "وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما"
(5)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِي الْجِمَاعِ مَا هُوَ؟ قَالَ
(1)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 381): أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة سُئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج؟ فقالوا: "ينفذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما. ثم عليهما حج قابل والهدي"، قال: وقال علي بن أبي طالب: "وإذا أهلَّا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما".
(2)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 550)؛ حيث قال: "ولا يفترقان؛ لأن الفرقة ليست بنسك في الابتداء قبل الجماع".
(3)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 393)؛ حيث قال: "وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطء؟ فيه وجهان؛ أحدهما: يجب لما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: يفترقان. ولأن اجتماعهما في ذلك الوقت يدعو إلى الوطء فمنع منه. والثاني: أنه لا يجب وهو الظاهر النص كما لا يجب في سائر الطريق، ويجب عليه بدنة".
(4)
يُنظر: "البيان والتحصيل"(17/ 623)؛ حيث قال: "ما ذهب إليه مالك من أنهما إذا أحرما بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما فلم يجتمعا في منزل".
(5)
أخرجه مالك في "الموطأ"(3/ 559).
مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: هُوَ شَاةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا تُجْزِئُهُ إِلَّا بَدَنَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَتِ الْبَدَنَةُ دَرَاهِمَ، وَقُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، قَالَ: وَالْإِطْعَامُ وَالْهَدْيُ لَا يُجْزِي إِلَّا بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى، وَالصَّوْمُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: كُلُّ نَقْصٍ دَخَلَ الْإِحْرَامَ مِنْ وَطْءٍ، أَوْ حَلْقِ شَعْرٍ، أَوْ إِحْصَارٍ - فَإِنَّ صَاحِبَهُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ، وَلَا يَدْخُلُ الْإِطْعَامُ فِيهِ. فَمَالِكٌ شَبَّهَ الدَّمَ اللَّازِمَ هَا هُنَا بِدَمِ الْمُتَمَتِّعِ، وَالشَّافِعِيُّ شَبَّهُهُ بِالدَّمِ الْوَاجِبِ فِي الْفِدْيَةِ. وَالْإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ إِزَالَةِ الْأَذَى. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ قَدْ وَقَعَا بَدَلَ الدَّمِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَلَمْ يَقَعْ بَدَلَهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. فَقِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْإِطْعَامِ أَوْلَى، فَهَذَا مَا يَخُصُّ الْفَسَادَ بِالْجِمَاعِ).
ما هو الهدي الذي يجب على من جامع زوجته في الحج؟
فقال بعضهم: شاة، وقال آخرون: بدنة.
وعلى من لم يجد صيام ثلاثة أيام في الحجِّ وسبعة بعد الحج.
(1)
يجب بدنة عند مالك، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 271)؛ حيث قال: "دم الفساد بدنة، وبه قال الشَّافعيُّ. وقال أبو حيفة: شاة".
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1980)، حيث قال:"قال أصحابنا: إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، وعليه شاة".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 239)؛ حيث قال: "وإذا أفسد رجل الحج مضى في حجه كما كان يمضي فيه لو لم يفسده، فإذا كان قابل حج وأهدى بدنة تجزي عنهما معًا".
(4)
"التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 549)، حيث قال:"ومن جامع يوم النحر بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يحلق فحجه تام وعليه هدي وعمرة، ينحر الهدي فيها وهديه بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة من الغنم، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع بعد ذلك، إن شاء فرق بينهن أو جمع؛ لأنه إنما يصومها بعد أيام منى إذا قضى عمرته".
[الْقَوْلُ فِي فَوَاتِ الْحَجِّ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا الْفَسَادُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنْ يَفُوتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَّا بِالطَّوَافِ بِالبَيْتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
(1)
. أَعْنِي: أَنَّهُ يَحِلُّ وَلَا بُدَّ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَّ عَلَيْهِ حَجَّ قَابِلٍ).
لم يختلفوا في هذا، واتفقوا على من لم يَبِت بها ليلة النحر دم، وأنه لا يسقط الدم عنه وقوفه بها ولا مروره عليها.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ عَلَيْهِ هَدْيٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ
(5)
، وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَعُمْدَتُهُمْ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ حَبَسَهُ مَرَضٌ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ أَنَّ عَلَيْهِ الْهَدْيَ. وَقَالَ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 275)؛ حيث قال: "ولم يختلفوا فيه ولا في أن على من لم يبت بها ليلة النحر دم، وأنه لا يسقط الدم عنه وقوفه بها ولا مروره عليها".
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 422)؛ حيث فيها: "وإن فاته أن يقف بعرفة قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج، فعليه الحج قابلًا وكذلك الهدي".
(3)
يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص: 80)؛ حيث قال: "ومن فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، ويتحلل بأفعال عمرة وهو الطواف والسعي والحلق، وعليه الفضاء ودم التمتع في الحال وقيل يجب الدم في القضاء".
(4)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(8/ 97)؛ حيث فيه: "ما يترتب على فوات الوقوف بعرفة، قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: مَنْ فاته الحجُّ؟ قال: يحل بعمرةٍ، وإن كان معه هديٌ نحرَه، ويحجُّ منْ قابلٍ، وعليه الهديُ، وإذا كان أهل بحجٍّ وعمرةٍ؛ فعليه قضاؤُهما وهَديٌ واحدٌ يجزئهِ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 263)؛ حيث قال: "وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور".
أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ، وَيَحُجُّ مِنْ قَابَلٍ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ. وَحُجَّةُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَدْيِ إِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْقَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ فَلَا هَدْيَ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ).
قال الجمهور: لو فاته أن يقف بعرفة قبل طلوع الفجر فقد فاته الحجُّ؛ وبالتالي عليه الحج في العام القادم، وعليه الهَدْي أيضًا.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَكَانَ قَارِنًا، هَلْ يَقْضِي حَجًّا مُفْرَدًا؟ أَوْ مَقْرُونًا بِعُمْرَةٍ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي قَارِنًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِفْرَادُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ،
(1)
يُنظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" للبراذعي (2/ 473)؛ حيث قال: "الفائت الحج من فاته الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بعرفة من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر على ما مرَّ، إذا لم يقف في شيء من هذا الوقت، فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة عندنا، يطوف ويسعى ويحلق، قال عليه السلام: "فائت الحج يحل بالعمرة"، ولا دم عليه عندنا، بخلاف المحصر؛ لأن الدم في حق المحصر إنما يجب للتحلل، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، فلا حاجة له إلى الدم، هذا إذا كان فائت الحج مفردًا بالحج".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 591)؛ حيث قال: "ومن أفرد الحج ففاته فلا يقضي قارنًا وليقض مفردًا".
(3)
"المجموع شرح المهذب" للشيرازي (8/ 289)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: وعليه القضاء قارنا ويلزمه ثلاثة دماء: دم للفوات، ودم للقران الفائت، ودم ثالث للقران الذي أتى به في القضاء، فإن قضاهما مفردًا أجزأه عن النُّسُكَينِ".
(4)
يُنظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" للبراذعي (2/ 473)؛ حيث قال: "الفائت الحج من فاته الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بعرفة من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر على ما مرَّ، إذا لم يقف في شيء من هذا الوقت، فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة عندنا، يطوف ويسعى ويحلق، قال عليه السلام: "فائت الحج يحل بالعمرة"، ولا دم عليه عندنا، بخلاف المحصر؛ لأن الدم في حق المحصر إنما يجب للتحلل، وفائت الحج يتحلل بأفعال =
فَلَيْسَ يَقْضِي إِلَّا مَا فَاتَهُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(1)
عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ ذَلِكَ إِلَى عَامٍ آخَرَ، وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُ الْهَدْيُ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ. وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مُحْرِمًا لَمْ يُجِزْ لِلَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ أَنْ يَبْقَى مُحْرِمًا إِلَى عَامٍ آخَرَ، وَمَنْ أَجَازَ الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ أَجَازَ لَهُ الْبَقَاءَ مُحْرِمًا).
هل يستمر الإحرام في غير أيام الحج؟
لو قلنا بذلك لقلنا بقول الشافعي في هذه المسألة.
* قوله: (قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ فِي الْحَجِّ، وَفِي صِفَةِ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ الْفَائِتِ وَالْفَاسِدِ، وَفِي صِفَةِ إِحْلَالِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَقُلْنَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَمَا أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْمُفْسِدِ حَجَّهُ. وَبَقِيَ أَنْ نَقُولَ فِي الْكَفَّارَاتِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا فِي تَرْكِ نُسُكٍ مِنْهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ).
ينقلك المؤلف إلى أحكام أُخرى.
= العمرة، فلا حاجة له إلى الدم، هذا إذا كان فائت الحج مفردًا بالحج. وإن كان قارنًا طاف للعمرة وسعى لها أولًا؛ لأن العمرة لا تفوت، ثم يطوف طوافًا آخر، ويسعى لفوات الحج ويحلق".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 262)؛ حيث قال: "لا أعلم خلافًا بين العلماء قديمًا ولا حديثًا أن من فاته الحج بفوت عرفة لا يكون يخرج من إحرامه إلا بالطواف والسعي بين الصفا والمروة إذا لم يَحُلْ بينه وبين ذلك حائل يمنعه من عَمَلِ العمرة".
[الْقَوْلُ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا في الحج]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (الْقَوْلُ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا. فَنَقُولُ: إِنَّ الْجُمْهُورَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النُّسُكَ ضَرْبَانِ: نَسُكٌّ هُوَ سُنَّةٌ مُوَكَّدَةٌ، وَنَسُكٌّ هُوَ مُرَغَّبٌ فِيهِ. فَالَّذِي هُوَ سُنَّةٌ يَجِبُ عَلَى تَارِكِهِ الدَّمُ، لِأنَّهُ حَجٌّ نَاقِصٌ أَصْلُهُ الْمُتَمَتِّعُ وَالْقَارِنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ مِنْ نُسُكِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ)
(1)
.
روي عن ابن عباس بلفظين: "من ترك"، والآخر:"من نسي".
* قوله: (وَأَمَّا الَّذِي هُوَ نَفْلٌ فَلَمْ يَرَوْا فِيهِ دَمًا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا فِي تَرْكِ نُسُكِ نُسُكٍ هَلْ فِيهِ دَمٌ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ؟ أَوْ نَفْلٌ؟ وَأَمَّا مَا كَانَ فَرْضًا فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْبَرَ بِالدَّمِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ نَفْسِهِ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ فَرْضٌ؟ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ دَمًا إِلَّا حَيْثُ وَرَدَ النَّصُّ؛ لِتَرْكِهِمُ الْقِيَاسَ، وَبِخَاصَّةٍ فِي الْعِبَادَاتِ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التُّرُوكِ مَسْنُونًا، فَفُعِلَ - فَفِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَمَا كَانَ مُرَغَّبًا فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ).
الذي هو سُنَّة اتفقوا على أنَّ على تاركه الدم، وبعض الأفعال يقوم خلافهم فيها على خلاف آخر، فيختلفون في فعل معين هل فيه الدم أم لا؟ بِناءً على اختلافهم هل هو سُنَّة أو فرض؟!
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكِ فِعْلٍ، لِاخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ؟ أَمْ لَا؟
(1)
أخرج مالك في: "الموطأ"(1/ 419): عن عبد اللَّه بن عباس قال: "من نَسِي من نُسكِهِ شيئا، أو تركه فليهرق دمًا". قال أيوب: "لا أدري قال: ترك أو نسي".
وَأَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إِلَّا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَشْهُورَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْكِ نُسُكِ نُسُكٍ، أَعْنِي: فِي وُجُوبِ الدَّمِ، أَوْ لَا وُجُوبِهِ مِنْ أَوَّلِ الْمَنَاسِكِ إِلَى آخِرِهَا، وَكَذَلِكَ فِي فِعْلِ مَحْظُورٍ مَحْظُورٍ).
أهل الظاهر يقفون لظاهر النصِّ دون قياس أو بُعد نظر، وهذا له تأثيرٌ كبيرٌ على غالب أحكامهم.
* قوله: (فَأَوَّلُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتِ فَلَمْ يُحْرِمْ هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَمَ عَلَيْهِ
(1)
. وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ الدَّمُ وَإِنْ رَجَعَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ
(2)
، وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(3)
،
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 41)؛ حيث قال: "لا شيء على من ترك الميقات هذا قول عطاء والنخعي".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 41)؛ حيث قال: "وهو قول أبي حنيفة وعبد اللَّه بن المبارك".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 151)؛ حيث قال: "عن طاوس قال: قال "ولم يسم عمرو القائل إلا أنا نراه ابن عباس" الرجل يُهِلُّ من أهله ومن بعدما يجاوز أين شاء، ولا يجاوز الميقات إلا محرِمًا، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس يَرُدُّ من جاوز الميقات غير محرم. (قال الشافعي): وبهذا نأخذ، وإذا أهل الرجل بالحج أو العمرة من دون ميقاته ثم رجع إلى ميقاته فهو محرم في رجوعه ذلك، فإن قال قائل: فكيف أمرته بالرجوع وقد ألزمته إحرامًا قد ابتدأه من دون ميقاته؟ أقلت ذلك اتباعًا لابن عباس أم خبرًا من غيره أو قياسا؟ قلت: هو وإن كان اتباعًا لابن عباس ففيه أنه في معنى السُّنَّةِ، فإن قال: فاذكر السنة التي هو في معناها، قلت: أرأيت إذ وقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المواقيت لمن أراد حجًّا أو عمرة، أليس المريد لهما مأمورًا أن يكون محرمًا من الميقات لا يحل إلا بإتيان البيت والطواف والعمل معه؟ قال: بلى. قلت: افتراه مأذونًا له قبل بلوغ الميقات أن يكون غير محرم؟ قال: بلى. قلت: أفتراه أن يكون مأذونًا له أن يكون بعض سفره حلالًا وبعضه حرامًا؟ قال: نعم. قلت أفرأيت إذا جاوز الميقات فأحرم أو لم يحرم =
وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ
(1)
، وَمَشْهُورُ قَوْلِ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: إِنْ رَجَعَ مُلَبِّيًا فَلَا دَمَ، وَإِنْ رَجَعَ غَيْرَ مُلَبٍّ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَقَالَ قَوْمٌ
(3)
: هُوَ فَرْضٌ، وَلَا يَجْبُرُهُ بِالدَّمِ).
جاوز أحدهم الميقات الذي يُحرم منه أهل بلده، ولكنَّه لم يُحرم، وأوسط هذه الأقوال قوله الشافعي رحمه الله: إن رجع فليس عليه دم، وإلا كان عليه الدم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ
(4)
، فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(6)
: يَفْتَدِي. وَقَالَ [الثَّوْرِيُّ] وَغَيْرُهُ
(7)
: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَرَأَى
= ثم رجع إلى الميقات فأحرم منه، أما أتى بما أمر به من أن يكون محرمًا من الميقات إلى أن يحل بالطواف بالبيت وعمل غيره؟ قال: بلى. ولكنه إذا دخل في إحرام بعد الميقات فقد لزمه إحرامه وليس بمبتدئ إحرامًا من الميقات".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 41)؛ حيث قال: "وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد: إذا رجع إلى الميقات فقد سقط عنه الدَّمُ لَبَّى أو لم يُلبِّ".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 516)؛ حيث قال: "ومن مر بميقات من هذه المواقيت، فجاوزه غير محرم، ثم رجع إلى وقتِ غيره، فأحرم منه قبل أن يقف بعرفة: سقط عنه الدم".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 41)؛ حيث قال: "وقول آخر: أنه لا بدَّ له أن يرجع إلى الميقات فإن لم يرجع حتى قضى حجه فلا حج له، هذا قول سعيد بن جبير".
(4)
الخِطْمي: بالكسر ويُفتح، نباتٌ ينفع الأمراض الصدرية ويُغسل به الرأسُ. "التعريفات الفقهية" (ص: 88).
(5)
يُنظر: "المدونة"(1/ 413)؛ حيث فيها: "قلت لابن القاسم: أرأيت من غسل رأسه بالخطمي وهو محرم أعليه الفدية في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فأي الفدية شاء؟ قال: نعم".
(6)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1831)؛ حيث قال: "قال أبو حنيفة: إذا غسل المحرم رأسه بالخطمي: فعليه الفدية".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 10)؛ حيث قال: "وقال أبو ثور لا شيء عليه =
مَالِكٌ أَنَّ فِي الْحَمَّامِ الْفِدْيَةَ، وَأَبَاحَهُ الْأَكْثَرُونَ
(1)
. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتٍ دُخُولُهُ
(2)
. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَفْتَدِي مَنْ لَبِسَ مِنَ الْمُحْرِمِينَ مَا نُهِيَ عَنْ لِبَاسِهِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ؛ لِعَدَمِ الْإِزَارِ هَلْ يَفْتَدِي؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: يَفْتَدِي. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
(5)
، وَأَحْمَدُ
(6)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَجِدُ
= إن فعل وكان عطاء وطاوس ومجاهد يرخصون للمحرم إذا كان قد لبَّد رأسه في الخطم ليلين، وروي عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 11)؛ حيث قال: "وكان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق وداود لا يرون بدخول المحرم بأسًا، وروي عن ابن عباس من وجه ثابت أنه كان يدخل الحمام وهو محرم".
(2)
أخرج الشافعي (ص: 365): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ وَهوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: "مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا".
(3)
يُنظر: "المدونة"(1/ 462)؛ حيث قال: "إذا احتاج الرجل المحرم إلى لبس الثياب فلبس خفين وقلنسوة وقميصًا وسراويل وما أشبه هذا من الثياب؟ قال: إن كانت حاجته إلى هذه الثياب جميعًا في فور واحد ثم لبسها واحدًا بعد واحد وكانت حاجته إليها قبل أن يلبسها احتاج إلى الخفين لضرورة، والقميص لضرورة، والقلنسوة لضرورة، وما أشبه هذا لضرورة، فلبسها في فور واحد فإنما عليه في هذه الثياب كلها كفارة واحدة، قال: فإن كانت حاجته إلى الخفين فلبس الخفين، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص فلبس القميص، فعليه للبس القميص كفارة أُخرى لأن حاجته إلى القميص إنما كانت بعدما وجبت عليه الكفارة في الخفين، وعلى هذا فقس جميع أمر اللباس".
(4)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1779)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا لم يجد المحرم إزازا، وأمكنه فَتْق السراويل وأن يتزر به: وجب فتقه، ولم يجُزْ لبسه كما هو، وإن كان إذا فتق لم يستر عورته: لبسه كما هو، وافتدى".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 16)؛ حيث قال: "وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود إذا لم يجد المحرم إزار لبس السراويل ولا شيء عليه".
(6)
يُنظر: "مختصر الخرقي"(ص: 55)؛ حيث قال: "فإن لم يجد الإزار لبس السراويل وإن لم يجد النعلين لبس الخفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه".
إِزَارًا، وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ: النَّهْيُ الْمُطْلَقُ، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ فِدْيَةً: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخُفُّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ"
(1)
).
بهذا يحتج أحمد أنها لا تقطع؛ لظاهر إباحة لبسهما في هذا الحديث كذلك، والكافة تجعل الأحاديث المتقدمة مفسرةً لهذا الإجمال، وأن لباسهما بعد قطعهما كما تقدم، وأن الزيادة التي حفظ ابن عمر من ذاك تحكم على حديث ابن عباس، وجابر، وذكر الجِعرانة، وقد اختلف فيها الحجازيون والعراقيون، أولئك يكسرون العَين ويشدِّدون الراء، وهؤلاء يُخَفِّفونهما.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلَانِ
(1)
أخرجه مسلم (1178).
(2)
يُنظر: "المدونة"(1/ 464)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت المحرم إذا لم يجد النعلين ووجد الخفين فقطعهما من أسفل الكعبين؟ قال: قال مالك: لا شيء عليه، قلت: فإن كان يجد النعلين واحتاج إلى لبس الخفين لضرورة بقدميه وقطعهما من أسفل الكعبين؟ قال: قال مالك: يلبسهما ويفتدي، قلت: لم جعل عليه في هذا إذا كان بقدميه ضرورة الفدية، وترك أن يجعل على الذي لا يجد فيه نعليه الفدية؟ قال: لأن هذا كان إنما يلبس الخفين لضرورة فإنما هذا يشبه الدواء، والذي لا يجد النعلين ليس بمتداوٍ وقد جاء في ذلك الأثر".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع"(2/ 186)؛ حيث قال: "وبيان هذه الجملة إذا لبس المخيط: من قميص، أو جبة، أو سراويل، أو عمامة، أو قلنسوة أو خفين، أو جوربين من غير عذر وضرورة يومًا كاملًا. فعليه الدم لا يجوز غيره؛ لأن لبس أحد هذه الأشياء يومًا كاملا ارتفاق كامل فيوجب كفارة كاملة وهي: الدم لا يجوز غيره؛ لأنه فعله من غير ضرورة، وإن لبس أقل من يوم لا دم عليه وعليه الصدقة، وكان أبو حنيفة يقول أولًا: إن لبس أكثر اليوم فعليه دم. وكذا روي عن أبي يوسف ثم رجع وقال: لا دم عليه حتى يلبس يومًا كاملًا، وروي عن محمد أنه إذا لبس أقل من يوم يحكم =
عَنِ الشَّافِعِيِّ)
(1)
.
ويفصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْخُفُّ لِمَنْ لَمْ يجِدِ النَّعْلَيْنِ".
(وَاخْتَلَفُوا فِي لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْقُفَّازَيْنِ هَلْ فِيهِ فِدْيَةٌ؟ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الأَحْكَامِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ التَّلْبِيَةَ: هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ؟ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ).
تقدَّم ذلك.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الطَّوَافَ، أَوْ نَسِيَ شَوْطًا مِنْ أَشْوَاطِهِ، أَنَّهُ يُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا إِذَا بَلَغَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ
= عليه بمقدار ما لبس من قيمة الشاة، إن لبس نصف يوم فعليه قيمة نصف شاة على هذا القياس، وهكذا روي عنه في الحلق".
(1)
"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (3/ 462)؛ حيث قال: "إذا لم يجد النعلين لبس المكعب أو قطع الخُفَّ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْب ولبسه، وهل يجوز لبس الخف المقطوع والمكعب مع وجود النعلين؟ فيه وجَهان؛ أحدهما: نعم؛ لشبهه بالنَّعْلِ ألا ترى أنه لا يجوز المَسْحُ عَلَيْهِ. وأصحهما: لا؛ لأن الإذن في الخَبَرِ بقيد شرط: أن لا يجد النَّعْلَيْنِ، وعلى هذا لو لبس الخف المقطوع لفقد النعلين ثم وجد النعلين نزع الخف، فلو لم يفعل افتدى، وإذا جاز لبس الخف المقطوع لم يضر استتار ظهر القدم مما بقي منه لحاجة الاستمساك، كما لا يضر استتاره بشراك النعل. فإن قلت: ما معنى عدم وجدان الإزار والنَّعْلِ. قلنا: المراد منه أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده في ذلك المَوْضِع، أو لعدم بذل المَالِك إيَّاه، أو لعجزه عن الثَّمَنِ إن باعه أو للأجرة إن أجَّره ولو بيع بغبن أو نسيئةٍ لم يلزمه شِرَاؤُه، ولو أعير منه وجب قبوله، ولو وهب لم يجب، ذكر هذه الصورة القاضي ابْنُ كِجٍّ وقد كتبنا نظائرها في المَاءِ للطَّهَارَةِ والثوب لستر العورة وباللَّه التوفيق".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 267)؛ حيث قال: "ومن نسي شيئًا من طوافه أو شك فيه فذكره في سعيه بين الصفا والمروة، فإنه يقطع سعيه ويتم طوافه على ما يستيقن ويركع [ركعتي الطواف] ثم يبتدئ، وهذا ما لا خلاف فيه أنه يبني. وليس عمل السعي وإن طال يوجب ابتداء الطواف".
مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: يُجْزِيهِ الدَّمُ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُعِيدُ، وَيَجْبُرُ مَا نَقَصَهُ، وَلَا يُجْزِيهِ الدَّمُ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ
(2)
فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ سُنَّةٌ؟ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ أَوْ تَقْبِيلُ يَدِهِ بَعْدَ وَضْعِهَا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَصِلِ الْحَجَرَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الدَّمَ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ إِذَا تَرَكهُ: فِيهِ دَمٌ).
لو نسي الطواف يُعيده إذا كان بمكة، فإذا سافر إلى أهله؟ يجزيه الدم كما قال أبو حنيفة.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَرْكَعُهُمَا مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَرْكَعُهُمَا حَيْثُ شَاءَ، وَالَّذِينَ قَالُوا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَهُ، وَلَمْ تَتَمَكَّنْ لَهُ الْعَوْدَةُ إِلَيْهِ هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَعُودَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ دَمٌ إِنْ لَمْ يَعُدْ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْمَوَاقِيتَ).
اختلفوا في طواف الوداع نفس اختلافهم في المسألة السابقة، وقول مالك أنه ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبًا، والصواب: أن عليه الدم كما قال أبو حنيفة.
(1)
يُنظر: "الدر المختار"(2/ 518)؛ حيث قال: " (فإن أخَّره عنها)؛ أي: أيام النحر ولياليها منها، (كره) تحريمًا (ووجب دم) لترك الواجب، وهذا عند الإمكان، فلو طهرت الحائض إن قدر أربعة أشواط ولم تفعل لزم دم وإلا لا".
(2)
الرَّمَل: هو المشي خببًا يشتد فيه دون الهرولة، وهيئته: أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه. "الاستذكار"(4/ 192).
* قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَرَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً: سُقُوطُهُ عَنِ الْمَكِّيِّ وَالْحَائِضِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي الطَّوَافِ أَعَادَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ خَرَجَ فَعَلَيْهِ دَمٌ).
لأنه سبق القول في السنَّة وأنَّ تاركها عليه دم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ الْمَشْيُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ شَرْطِهِ كَالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ عَجَزَ كَانَ كَصَلَاةِ الْقَاعِدِ، ويُعِيدُ عِنْدَهُ أَبَدًا، إِلَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الرُّكُوبُ فِي الطَّوَافِ جَائِزٌ؛ "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَشْرِفَ النَّاسُ إِلَيْهِ". وَمَنْ لَمْ يَرَ السَّعْيَ وَاجِبًا فَعَلَيْهِ فِيهِ دَمٌ إِذَا انْصَرَفَ إِلَى بَلَدِهِ. وَمَنْ رَآهُ تَطَوُّعًا لَمْ يُوجِبْ فِيهِ شَيْئًا).
عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت:"اشتكيت، فذَكَرْتُ ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "طوفي مِنْ وراء الناس وأنت راكِبَةٌ"، قالت: فطفت ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جانب البيت، ويقرأ: بـ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}
(1)
.
* قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافَهُمْ أَيْضًا فِيمَنْ قَدَّمَ السَّعْيَ عَلَى الطَّوَافِ، هَلْ فِيهِ دَمٌ إِذَا لَمْ يَعُدْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ؟ أَمْ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إِنْ عَادَ، فَدَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ الدَّمُ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَقَفَ مِنْ
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 370).
عَرَفَةَ بِعُرَنَةَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَجَّ لَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلِ النَّهْيُ عَنِ الْوُقُوفِ بِهَا مِنْ بَابِ الْحَظْرِ؟ أَوْ مِنْ بَابِ الْكَرَاهِيَةِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ أَفْعَالِ الْحَجِّ إِلَى انْقِضَائِهَا كَثِيرًا مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا فِي تَرْكِهِ دَمٌ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ يَقْتَضِي ذِكرَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْأَسْهَلُ ذِكْرُهُ هُنَالِكَ).
تقدَّمت هذه المسائل، فلا حاجة للوقوف عليها مرة أُخرى.
* قوله: (قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ قُلْنَا فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ وَشُرُوطِ وُجُوبِهَا، وَمَتَى تَجِبُ؟ وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْمُقَدِّمَاتِ لِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. وَقُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَان هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَكَانِهَا، وَمَحْظُورَاتِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنَ الْأَفْعَالِ فِي مَكَانٍ مَكَانٍ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَزَمَانِ زَمَانِ مِنْ أَزْمِنَتِهَا الْجُزْئِيَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ زَمَانِهَا. ثُمَّ قُلْنَا فِي أَحْكَامِ التَّحَلُّلِ الْوَاقِعِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَا يَقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ الْإِصْلَاحَ بِالْكَفَّارَاتِ، وَمَا لَا يَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بَلْ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ. وَقُلْنَا أَيْضًا فِي حُكْمِ الْإِعَادَةِ بِحَسَبِ مُوجِبَاتِهَا. وَفِي هَذَا الْبَابِ يَدْخُلُ مَنْ شَرَعَ فِيهَا، فَأُحْصرَ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالَّذِي بَقِيَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ الْقَوْلُ فِي الْهَدْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِبَادَاتِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَدَ بِالنَّظَرِ فَلْنَقُلْ فِيهِ).
ينتقل هنا إلى أحكام أُخرى.
[الْقَوْلُ فِي الْهَدْيِ]
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (فَنَقُولُ: إِنَّ النَّظَرَ فِي الْهَدْيِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِهِ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ جِنْسِهِ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ سِنِّهِ، وَكَيْفِيَّةِ
سَوْقِهِ، وَمِنْ أَيْنَ يُسَاقُ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَنْتَهِي بِسَوْقِهِ؟ وَهُوَ مَوْضِعُ نَحْرِهِ، وَحُكْمُ لَحْمِهِ بَعْدَ النَّحْرِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ الْمَسُوقَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَمِنْهُ تَطَوُّعٌ
(1)
؛ فَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ).
الواجب من الهدي قسمان:
أحدهما: وجب بالنذر في ذِمَّته.
والثاني: وجب بغيره؛ كدم التَّمتع، والقران، والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور.
* قوله: (فَأَمَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَهُوَ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ بِاتِّفَاقٍ وَهَدْيُ الْقَارِنِ بِاخْتِلَافٍ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ كَفَّارَةٌ فَهَدْيُ الْقَضَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِيهِ الْهَدْيَ، وَهَدْيُ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ، وَهَدْيُ إِلْقَاءِ الْأَذَى وَالتَّفَثِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي قَاسَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِخْلَالِ بِنُسُكٍ نُسُكٍ مِنْهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا جِنْسُ الْهَدْيِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ
(2)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْهَدْيُ إِلَّا مِنَ الْأَزْوَاج الثَّمَانِيَةِ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْهَدَايَا هِيَ الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْغَنَمُ، ثُمَّ الْمَعْزُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الضَّحَايَا).
(1)
لعل هذا يُفهم من قول ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 288): "واتفقوا أن الهدي إلى مكة حسن، وأجمعوا أن هدي القران واجب".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 288)؛ حيث قال: "ولم يختلفوا في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أنه شاة إلا ما رُوِي عن ابن عمر من أنه بدنة دون بدنة، وبقرة دون بقرة. ولا خلاف أن البدن في الهدايا أفضل من البقر والغنم، وإنما الخلاف في الضحايا.
وإجازة هدي ذكور الإبل مجتمع عليه عند الفقهاء. وإجماع أنه يجزئ (النشء) فما فوقه، وأنه لا يكون [إلا من الأزواج] الثمانية".
لا يُسنُّ الهدي إلا من بهيمة الأنعام؛ لقول اللَّه تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
وأفضله الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، لما روى أبو هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرَّب بدَنَة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقَرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرنَ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّبَ دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بَيضَة".
* قوله: (وَأَمَّا الْأَسْنَانُ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الثَّنِيَّ فَمَا فَوْقَهُ يُجْزِي مِنْهَا، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِي الْجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا
(1)
؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَبِي بُرْدَةَ: "تُجْزِي عَنْكَ، وَلَا تجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ")
(2)
.
ما لزم من الدماء، لا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثَّنِي من غيره، هذا في غير جزاء الصيد، فأما جزاء الصيد، فمنه جَفرة وعناق وجَدْي وصحيح ومعيب، وأما في غرِه، مثل هدي المتعة وغيره، فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو الذي له ستة أشهر، والثَّنِيُّ من غيره، وثني المعز ما له سَنَة، وثَنِيُّ البقر ما له سنتان، وثَنِيُّ الإبل ما له خمس سنين.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِجَوَازِهِ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
(3)
يَقُولُ: لَا يُجْزِي
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 289)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن الجذع من الإبل والبقر والغنم لا يجزئ في الهدايا ولا في الضحايا إلا الأوزاعي فإنه قال: يجزئ فيها".
(2)
أخرجه أحمد (22886)، وقال الأرناؤوط:"صحيح لغيره".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 218)؛ حيث قال: "المعروف من مذهب ابن عمر أنه كان لا يضحي إلا بالثني من الضأن والمعز والإبل والبقر في الهدايا والضحايا".
فِي الْهَدَايَا إِلَّا الثَّنِيُّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْهَدَايَا أَفْضَلُ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ، لَا يُهْدِيَنَّ أَحَدُكُمْ لِلَّهِ مِنَ الْهَدْيِ شَيْئًا يَسْتَحْيِي أَنْ يُهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ وَأَحَقُّ مَنِ اخْتِيرَ لَهُ
(1)
، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّقَاب، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا"
(2)
. وَلَيْسَ فِي عَدَدِ الْهَدْيِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَكانَ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِئَةً
(3)
).
قال ابن عمر: لا يجزئ إلا الثني من كل شيء. وقال عطاء، والأوزاعي: يجزئ الجذع من الكل، إلا المعز.
* قوله: (وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ سَوْقِ الْهَدْيِ فَهُوَ التَّقْلِيدُ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّهُ هَدْيٌ؛ "لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ"
(4)
، وَإِذَا كَانَ الْهَدْيُ مِنَ الْإِبِلِ وَالبَقَرِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُقَلَّدُ نَعْلًا أَوْ نَعْلَيْنِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النِّعَالَ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(6)
: لَا تُقَلَّدُ الْغَنَمُ.
(1)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 380): عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يقول لبنيه:"يا بني لا يهدين أحدكم من البدن شيئًا يستحيي أن يهديه لكريمه، فإن اللَّه أكرم الكرماء، وأحق من اختير له".
(2)
أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (14705)، وفيه:"فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِئَةً".
(4)
أخرج البخاري (1694) عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ قَالَا:"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبيَةِ مِنَ المَدِينَةِ فِي بضْعَ عَشْرَةَ مِئَةً مِنْ أَصْحَابهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ، وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالعُمْرَةِ".
(5)
يُنظر: "المدونة"(1/ 454)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت جزاء الصيد وما كان من الهدي عن جماع وهدي ما نقص من حجه أيشعره ويقلده؟ قال: نعم إلا الغنم، قال: وهذا قول مالك".
(6)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 2186)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: تقليد الغنم ليس بسنة".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَحْمَدُ
(2)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَدَاوُدُ: تُقَلَّدُ؛ لِحَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى إِلَى الْبَيْتِ مَرَّةً غَنَمًا، فَقَلَّدَهُ")
(4)
.
يسن تقليد الهدي، وهو أن يجعل في أعناقها النعال، وآذان القرب، وعراها، أو علاقة إداوة.
وسواء كانت إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يسن تقليد الغنم؛ لأنه لو كان سُنَّة لنقل كما نقل في الإبل.
وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تُقلَّد.
واستدلوا بحديث عائشة قالت: "كنت أفتِلُ القَلائدَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فيقلد الغنم، ويقيم في أهله حلالًا". وفي لفظ: "كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم"، رواه البخاري. ولأنه هَدْي، فيُسنُّ تقليدُه كالإبل، ولأنه إذا سَنَّ تقليد الإبل مع إمكان تعريفها بالإشعار، فالغنم، أولى، وليس التساوي في النقل شرطًا لصحَّة الحديث، ولأنه كان يهدي الإبل أكثر، فكثر نقله.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 373)؛ حيث قال: "فأما الغنم تراجع فيقلدها في أعناقها بنعل، أو قطعة من شن ولا يشعرها؛ لأنها تضعف عن احتماله".
(2)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(5/ 2291)؛ حيث قال: "قلت: يقلد الشاة؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مرة غنمًا فقلدها. قال إسحاق: سنة مسنونة تقليد الغنم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 245)؛ حيث قال: "وهو قول أبي ثور وأحمد وإسحاق وداود".
(4)
أخرجه ابن ماجه (3096): عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غَنَمًا إِلَى الْبَيْتِ فَقَلَّدَهَا".
* قوله: (وَاسْتَحَبُّوا تَوْجِيهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي حِينِ تَقْلِيدِهِ، وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ الْإِشْعَارَ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ
(1)
؛ لِمَا رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ، وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُوَجَّهٌ لِلْقِبْلَةِ
(2)
، يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ، وَيُشْعِرُهُ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ حَتَّى يُوقِفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا، وَإِذَا قَدِمَ مِنًى غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَكَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ يَصُفُّهُنَّ قِيَامًا، ويُوَجِّهُهُنَّ لِلْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ، وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(5)
، الْإِشْعَارَ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا مِنْ صَفْحَةِ سَنَامِهِا الْأَيْمَنِ، ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا، وَقَلَّدَهَا بِنَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ. فَلَمَّا
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 456)؛ حيث فيها: "والإشعار في الجانب الأيسر".
(2)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 379): عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان: "إذا أهدى هدْيًا من المدينة، قلَّده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو موجه للقبلة. يقلده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، فإذا قدم مِنًى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده، يصفهن قيامًا، ويوجههن إلى القبلة. ثم يأكل ويطعم".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 237)؛ حيث قال: "والاختيار في الهدي أن يتركه صاحبه مستقبل القبلة، ثم يقلده نعلين، ثم يشعره في الشق الأيمن".
(4)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(8/ 283)؛ حيث فيها: "موضع إشعار الهدي، قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: مِنْ أينَ يُشعرُ البُدْنَ؟ قال: صفحةُ سَنامِهِ الأيمنِ؛ حديثُ أبي حسان، عنْ ابن عباس رضي الله عنهما قال إسحاق: كما قال. "مسائل الكوسج" (1548). قال ابن هانئ: سمعت أبا عبد اللَّه قال: من أين أشعرت البدنة أجزأك، لحديث ابن عمر. "مسائل ابن هانئ" (799) ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 247)؛ حيث قال: "وممن استحب الإشعار في الجانب الأيمن الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور".
اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهلَّ بِالْحَجِّ")
(1)
.
يُسنُّ إشعار الإبل والبقر، وهو أن يَشقَّ صفْحة سَنَامها الأيمن حتى يدْمِيَها، في قول عامة أهل العلم.
لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "فَتَلْتُ قلائدَ هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم أشْعَرَها وقلَّدها".
وقد فعله الصحابة، فيجب تقديمه.
ولأنه إيلام لغرض صحيح فجاز؛ كالكي، والوسم، والفصد، والحجامة.
والغرض: أن لا تختلط بغيرها، وأن يتوقاها اللص، ولا يحصل ذلك بالتقليد؛ لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب.
(وَأَمَّا مِنْ أَيْنَ يُسَاقُ الْهَدْيُ؟ فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
يَرَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يُسَاقَ مِنَ الْحِلِّ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ مِنَ الْحِلِّ - أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَدْخَلَهُ مِنَ الْحِلِّ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقِفَهُ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
(3)
، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ)
(4)
.
وقف الهدي بعرفة عند مالك وأصحابه لمن اشترى الهدي بمكة ولم
(1)
أخرجه أبو داود (1752)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 503)؛ حيث قال: "ويقلد هدي تأخير الحلاق، ويشعره ويقف به بعرفة مع هدي تمتعه، فإن لم يقف به بعرفة مع هدي تمتعه لم يجزه إن اشتراه من الحرم، إلا أن يخرجه إلى الحل فيسوقه منه إلى مكة، ويصير منحه بمكة".
(3)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 379): أن عبد اللَّه بن عمر كان يقول: الهدي ما قلد، وأشعر، ووقف به بعرفة".
(4)
لم أقف عليه.
يدخله من الحل واجب؛ لا يجزئ عندهم غير ذلك، أخذًا من قول ابن عمر رضي الله عنه:"الهدي ما قُلِّد وأشْعِرَ ووقف به على عَرفة".
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: وُقُوفُ الْهَدْيِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقِفْهُ، كَانَ دَاخِلًا مِنَ الْحِلِّ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَيْسَ تَوْقِيفُ الْهَدْيِ بِعَرَفَةَ مِنَ السُّنَّةِ).
الشافعيُّ يقول: "إن شئت فعرِّف وإن شئت فلا تُعرِّف"، فعنده وقف الهدي بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي إِدْخَالِ الْهَدْيِ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَذَلِكَ فَعَلَ، وَقَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ")
(4)
.
(1)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(4/ 429)؛ حيث قال: " [مسألة لا يشترط خروج الهدي إلى عرفة]: ليس من شرط الهدي إيقافه بعرفات، وروي: أن ابن عمر كان لا يرى الهدي إلا ما عرف به، ووقف مع الناس، ولا يدفع به حتى يدفع الناس. وقال سعيد بن جبير: البدن والبقر لا يصلح ما لم يعرف. وقال مالك: (أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه دون ذلك مما يلي مكة فلا بأس بذلك بعد أن يقفه بعرفات). وقال في هدي المجامع: (إن لم يكن ساقه، فليشتره بمكة، ثم ليخرجه إلى الحل وليسُقْهُ منه إلى مكة، ولينحره بها). دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: (إن شئت فعرف، وإن شئت فلا تعرف)، ولأنه لا يشترط أن يطاف به، فلم يشترط أن يقف به بعرفة".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 248)؛ حيث قال: "وبه قال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 614)؛ حيث قال: " (ولا يجب تعريفه) بل يندب في دم الشكر، (قوله: ولا يجب تعريفه)؛ أي: الذهاب به إلى عرفات أو تشهيره بالتقليد ح عن البحر، (قوله: بل يندب)؛ أي: التعريف بمعنييه ح، لكن الشاة لا يندب تقليدها. وفي اللباب: ويسن تقليد بدن الشكر دون بدن الجبر، وحسن الذهاب بهدي الشكر إلى عرفة. اهـ. فعبر في الأول بالبدن ليخرج الشاة، وفي الثاني بالهدي ليدخلها فيه. وأفاد أيضًا أن الأول سنة والثانى مندوب".
(4)
أخرجه البيهقي (9524).
وجه استدلاله: أنَّ الهدي إذا وجب باتفاق فواجب أن لا يُجزئ إلا بمثل ذلك أو سنة توجب غير ذلك، والفعل منه صلى الله عليه وسلم عند المالكيين على الوجوب في مثل هذا.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّعْرِيفُ سُنَّة مِثْلُ التَّقْلِيدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ التَّعْرِيفُ بِسُنَّةٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ مَسْكَنَهُ كَانَ خَارِجَ الْحَرَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
(1)
التَّخْيِيرُ فِي تَعْرِيفِ الْهَدْيِ أَوْ لَا تَعْرِيفِهِ).
وأبو حنيفة يقول: ليس بسُنَّة؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما ساق الهدي من الحل؛ لأن مسكنه كان خارج الحَرمِ.
* قوله: (وَأَمَّا مَحِلُّهُ فَهُوَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، وَقَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]).
لأن هذا ذبح يتعلَّق بالإحرام، فلم يجز في غير الحرم.
* قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِيهَا ذَبْحٌ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
(2)
، وَأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]- أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّحْرَ بِمَكَّةَ إِحْسَانًا مِنْهُ لِمَسَاكِينِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ).
(1)
لم أقف إلا على ما أخرجه ابن أبي شيبة (14979): عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ:"أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا أَيُعَرَّفُ بِالْبَدَنَةِ؟ قَالَ: فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ أَيُشْعَرُ؟ قَالَ: فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتَ إِنَّمَا أُشْعِرَتْ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا بَدَنَةً".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 298)؛ حيث قال: "وأجمع العلماء على أن الكعبة هي البيت الحرام، وهي البيت العتيق، لا يجوز لأحد فيه ذبح ولا نحر، وكذلك المسجد الحرام".
أجمع العلماء على أن الكعبة هي البيت الحرام، وهي البيت العتيق، لا يجوز لأحد فيه ذبح ولا نحر، وكذلك المسجد الحرام.
* قوله: (وَكَانَ مَالِكٌ
(1)
يَقُولُ: إِنَّمَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] مَكَّةُ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ لِمَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ إِلَّا أَنْ يَنْحَرَهُ بِمَكَّةَ).
مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه لا يصح لمن نحر هديًا في الحرم أن ينحره في غير مكة.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنْ نَحَرَهُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ مِنَ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ).
خلافًا لمذهب مالك رحمه الله.
* قوله: (وَقَالَ الطَّبَرِيُّ
(4)
: يَجُوزُ نَحْرُ الْهَدْيِ حَيْثُ شَاءَ الْمُهْدِي
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (5/ 723)؛ حيث قال: "ويرسل من الحل إلى مكة ولنحر ولتصدق به فيها، وإنما قلنا: إن اختار المثل أن يكون هدْيًا لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 229)؛ حيث قال: "وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وإذا كان هكذا لم يَخْلُ حالها من أربعة أقسام: إما أن ينحرها في الحرم ويفرقها في الحرم، أو ينحرها في الحل ويفرقها في الحل، أو ينحرها في الحل ويفرقها في الحرم. والقسم الرابع: وهو أن ينحرها من الحل ويفرق لحمها من الحرم".
(3)
الاختيار لتعليل المختار (1/ 173)؛ حيث قال: " (ولا يذبح الجميع إلا في الحرم) قال تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وفي دم الإحصار: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، ولأن الهدي ما عرف قربة إلا في مكان معلوم وهو الحرم. قال عليه الصلاة والسلام: "مِنًى كلها منْحر، وفجاج مكة كلها منحر".
(4)
يُنظر: "تفسير الطبري"(8/ 705)؛ حيث قال: "والصواب من القول في ذلك عندنا: أن قاتل الصيد إذا جزاه بمثله من النعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق، وقدره في جسمه من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام، فإذ جزاه بالإطعام قومه قيمته بموضعه =
إِلَّا هَدْيَ الْقِرَانِ وَجَزَاءَ الصَّيْدِ فَإِنَّهُمَا لَا يُنْحَرَان إِلَّا بِالْحَرَمِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّحْرُ بِمِنًى إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِمَكَّةَ، إِلَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ نَحْرِ الْمُحْصَرِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ نَحَرَ لِلْحَجِّ بِمَكَّةَ، وَالْعُمْرَةِ بِمِنًى - أَجْزَأَهُ).
يرى الإمام الطبري رحمه الله أنه يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنه لا ينحره إلا في الحرم.
* قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّحْرُ بِالْحَرَمِ إِلَّا بِمَكَّةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ"
(1)
. وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ هَدْيَ الْفِدْيَةِ، فَأَجَازَ ذَبْحَهُ بِغَيْرِ مَكَّةَ).
* قوله: (وَأَمَّا مَتَى يُنْحَرُ فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
قَالَ: إِنْ ذَبَحَ هَدْيَ التَّمَتُّعِ أَوِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ. وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
فِي التَّطَوُّعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: يَجُوزُ فِي كِلَيْهِمَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ).
= الذي أصابه فيه؛ لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام، ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء؛ لأن اللَّه تعالى إنما شرط بلوغ الكعبة بالهَدْي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي بغير الهدي أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم".
(1)
أخرج أبو داود (1937): عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ"، قال الألباني:"حسن صحيح".
(2)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (5/ 578)؛ حيث قال: "ولا يُنحر حتى تذهب أيام منى وتحل العمرة".
(3)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (4/ 1737)؛ حيث قال: "فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم كان مُفردًا، والهدي تطوع، فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر. قلنا: هذا تطوع، لا تأثير له في المنع من التحلل بالاتفاق".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 238)؛ حيث قال: "وإذا ساق المتمتع الهدي معه أو =
قال مالك: إذا نحر هديَ التمتُّع أو الهدي التطوع قبل يوم النحر لم يجزه.
وقال أبو حنيفة في الهدي التمتع كقول مالك، وخالفه في التطوع فجوزه قبل يوم النحر.
وقال الشافعي: يُجزئ نحر الجميع قبل يوم النحر.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْجُمْهُورِ
(1)
أَنَّ مَا عُدِلَ مِنَ الْهَدْيِ بِالصِّيَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي ذَلِكَ لَا لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَلَا لِأَهْلِ مَكَّةَ).
ما عُدِل به الهدي من الصيام والصدقة فإنَّه يكون بغير مكة حيثُ أحبَّ صاحبه أن يفعله فَعَله، فلا خلاف في الصيام أن يصوم حيث شاء؛ لأنه لا منفعة في ذلك لأهل الحرم ولا لأهل مكة.
* قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الصَّدَقَةِ الْمَعْدُولَةِ عَنِ الْهَدْيِ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(2)
عَلَى أَنَّهَا لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ لَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: الْإِطْعَامُ كَالصِّيَامِ يَجُوزُ بِغَيْرِ مَكَّةَ).
= القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إليَّ، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأ عنه".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 272)؛ حيث قال: "لا خلاف في الصيام أن يصوم حيث شاء لأنه لا منفعة في ذلك لأهل الحرم ولا لأهل مكة".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"(4/ 272)؛ حيث قال: "وأما الصدقة فلا تكون عند الشافعي والكوفيين إذا كانت بدلًا من جزاء الصيد إلا بمكة لأهلها حيث يكون النحر، ومعلوم أن النحر في العمرة بمكة وفي الحج بمنًى وهما جميعًا حرم فالحرم كله منحر عندهم".
(3)
يُنظر: "موطأ مالك"(1/ 418): "قال مالك في فدية الأذى: إن الأمر فيه أن أحدًا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية، وإن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها، وأنه يضع فديته حيث ما شاء، النسك، أو الصيام، أو الصدقة بمكة، أو بغيرها من البلاد".
أما الصدقة، فلا تكون إذا كانت بدلًا من جزاء الصيد إلا بمكة لأهلها حيث يكون النحر، ومعلوم أن النحر في العمرة بمكة وفي الحج، بمِنًى وهما جميعًا حرم، فالحرم كله مَنْحَر عندهم.
وقوله مالك هذا مذكور في موطئه: أن الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة.
* قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ النَّحْرِ، فَالْجُمْهُورُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا زَكاةٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ مَعَ التَّسْمِيَةِ التَّكْبِيرَ)
(1)
.
يقول عند نحره: (بسم اللَّه، واللَّه أكبر) لقول اللَّه عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، فمن أهل العلم من يستحب التكبير مع التسمية، وعساه أن يكون امتثل قوله اللَّه عز وجل:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .
ومثهم: من كان يقوله التسمية تُجزي ولا يزيد على "بسم اللَّه"، وأحب إليَّ أن يقوله:"بسم اللَّه، اللَّه أكبر".
* قوله: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدِي أَنْ يَلِيَ نَحْرَ هَدْيِهِ بِيَدِهِ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ جَازَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَدْيِهِ. وَمِنْ سُنَّتِهَا: أَنْ تُنْحَرَ قِيَامًا؛ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي صِفَةِ النَّحْرِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ).
ويستحب للمهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هَدْيه بيده، وروي عن غَرَفَة بن الحارث الكندي، قال: "شهدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأتي بالبدن، فقال: ادع لي أبا الحسن.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 456)؛ حيث قال: "ويقول عند الذبح: بسم اللَّه، واللَّه أكبر. وإن نسي فلا يضره. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: "بسم اللَّه، واللَّه أكبر" وفي حديث أنس:"وسمَّى وكبَّر". وكذلك كان يقول ابن عمر. وبه يقول أصحاب الرأي، ولا نعلم في استحباب هذا خلافًا، ولا في أن التسمية مجزئة".
فدعي له علي، فقال له: خذ بأسفل الحربة. وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأعلاها، ثم طعنا بها البدن".
وإنما فعلا ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك عَلِيًّا في بُدنه.
وقال جابر: "نحر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بَدنَةً بيده، ثم أعطى علِيًّا فنحر ما غبر".
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بَدناتٍ، ثم قال:"من شاء اقتطع".
فإن لم يذبح بيده، فالمستَحَبُّ أن يشهد ذبحها؛ لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "احضُرِي أضْحِيَّتَكِ يغفر لك بأول قطرة من دَمِها".
ويستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه؛ لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من شاء اقتطع".
* قوله: (وَأَمَّا مَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْهَدْيِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَبِلَحْمِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَسَائِلَ مَشْهُورَةً، أَحَدُهَا: هَلْ يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ أَوِ التَّطَوُّعِ؟ فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
إِلَى أَنَّ رُكُوبَهُ جَائِزٌ مِنْ ضَرُورَةٍ وَمِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَكَرِهَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
(2)
رُكُوبَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 240)؛ حيث قال: "مذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة وغير ضرورة".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (4/ 492)، حيث قال:" (ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها) ".
ومذهب المالكيَّة، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 194)، حيث قال:" (وندب عدم ركوبها بلا عذر) ش: قال سند: وهو مقيد بشرط سلامتها، فإن تلفت بركوبه ضمنها قال: ولا يركبها بيحمل ولا يحمل عليها متاعا، وإنما يفعل من ذلك ما دعت الحاجة إليه، وقال ابن عبد السلام: ركوب الهدي لضرورة جائز، ولغير ضرورة المشهور كراهته، والقول الثاني: جوازه ما لم يكن ركوبا فادحًا". =
له ركوبه عند الحاجة، على وجه لا يضر به، ولا يركبه إلا عند الضرورة؛ "لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: اركبها بالمعروف إذا أُلْجِئتَ إليها، حتى تجد ظَهْرًا". ولأنه تعلق بها حق المساكين، فلم يجز ركوبها من غير ضرورة، كملكهم.
فأما مع عدم الحاجة، فلا يجوز، وقيل: يجوز؛ لما روى أبو هريرة، وأنس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنَةً، فقال:"اركبها". فقال: يا رسول اللَّه، إنها بدنة. فقال:"اركبها، ويلك". في الثانية أو في الثالثة.
* قوله: (وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا"
(1)
. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا قُصِدَ بِهِ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْعُهُ مَفْهُومٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ).
يقول: (اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظَهْرًا): فأباح عليه السلام ركوبها في حال الضرورة، فثبت أن حكم الهدى أن يرُكَبَ للضرورة.
* قوله: (وَحُجَّةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ:"ارْكَبْهَا"! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا هَدْيٌ! فَقَالَ:"ارْكَبْهَا. . . وَيْلَكَ" فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ
(2)
).
هذا القول يدل منه صلى الله عليه وسلم على أنَّ ركوب البدنَةِ عند الحاجة إليه
= مذهب الشافعية: الحاوي الكبير (4/ 376)؛ حيث قال: "قال الشافعي: ويركب الهدي إن اضطر إليه ركوبًا غير قادح ويحمل المضطر عليها لرواية ابن الزبير عن جابر قال سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ركوب الهدي فقال: "اركبها".
(1)
أخرجه مسلم (1324).
(2)
أخرجه البخاري (1689)، ومسلم (1322).
والضرورة فيه مباح، وإطلاقه الإذن له في ركوبها من غير شرط قرنه به، يدل على أنه لا يلزمه في ذلك غُرم، لما نقصها إن جَهَدها السير، وإلحاقه الوعيد بصاحب البدنة في تركه الركوب يؤكد هذا المعنى إذا كان لعلة، إنما امتنع من ركوبها شفقًا من إثم أو غرم فيها، فكان ظاهر الخبر أن لسائقها ركوبها على كل حال، إلا أن جابرًا روى فى هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اركبها بمعروف تجد ظهرًا"، فدل أنها إنما يباح ركوبها مع الحاجة والضرورة فيها.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا أَنَّ هَدْيَ التَّطَوُّعِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ صَاحِبُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ)
(1)
.
هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء، من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه، فيستحب أن يأكل منه؛ لقول اللَّه تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} .
وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بُدْنِهِ.
وقال جابر: كنا لا نأكل من بُدْنِنا فوق ثلاث فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كُلُوا وتَزَوَّدُوا"؛ فأكلنا وتزودنا.
وإن لم يأكل فلا بأس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس قال: "من شاء اقتَطَعَ"، ولم يأكل منهن شيئًا.
والمستحب، أن يأكل اليسير منها، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وله الأكل كثيرًا والتزوُّد، كما جاء في حديث جابر.
وتُجزئه الصدقة باليسير منها، كما فى الأضحية، فإنَّ أكلها ضمن المشروع للصدقة منها، كما في الأضحية.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 291)؛ حيث قال: "ولا خلاف أن هدي التطوع إذا بلغ محله يأكل منه صاحبه إن شاء؛ لأنه في حكم الضحايا، واختلفوا فيمن أكل من الهدي الواجب أو من التطوع قبل بلوغ محله".
* قوله: (وَأَنَّهُ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَأْكُل مِنْهُ)
(1)
.
من ساق هديًا واجبًا، فعطب دون محله، صنع به ما شاء، وعليه مكانه، الواجب من الهدي قسمان؛ أحدهما: وجب بالنذر في ذمته. والثاني: وجب بغيره، كدم التمتع، والقران، والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور.
وجميع ذلك ضربان:
أحدهما: أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه، من غير أن يُعَيِّنَه بالقول، فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه، ودفعه إلى أهله، وله التصرف فيه بما شاء من بيع، وهبة، وأكل، وغير ذلك؛ لأنه لم يتعلَّق حق غيره به، وله نماؤه، دان عطب تلف من ماله، وإن تعيَّب لم يجزئه ذَبْحه، وعليه الهدي الذي كان واجبًا، فإن وجوبه في الذمة، فلا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه، بمنزلة من عليه دَينٌ فحمَلَهُ إلى مستحِقِّهِ، يقصد دفعه إليه فتلف قبل أن يوصله إليه.
الضرب الثاني، أن يعين الواجب عليه بالقول، فيقول: هذا الواجب علي.
فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه؛ لأنه لو أوجب هديًا ولا هدي عليه لتعين، فإذا كان واجبًا فعينه فكذلك، إلا أنه مضمون عليه، فإن عطب، أو سرق، أو ضل، أو نحو ذلك، لم يجزه، وعاد الوجوب إلى ذمته، كما لو كان لرجل عليه دين، فاشترى به منه مكيلًا، فتلف قبل قبضه، انفسخ البيع، وعاد الدين إلى ذمته، ولأن ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه، وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر، فصار كالدين يضمنه
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 291)؛ حيث قال: "وإن كان واجبًا وعطب قبل محله: أكله كله إن شاء أو أطعمه؛ لأن عليه بدله، وعليه الجمهور، واختلفوا في هدي التطوع يعطب وقد دخل الحرم".
ضامن، أو يرهن به رهنًا، فإنه يتعلَّق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المَدِينِ، فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن، أو تلف الرهن، بقي الحق في الذمة بحاله. وهذا كله لا نعلم فيه مخالفًا.
* قوله: (وَزَادَ دَاوُدُ: وَلَا يُطْعِمُ مِنْهُ شَيْئًا أَهْلَ رُفْقَتِهِ؛ لِمَا ثَبَتَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِالْهَدْيِ مَعَ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَقَالَ لَهُ: إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَيْهِ فِي دَمِهِ، وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ"
(1)
. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثُ، فَزَادَ فِيهِ:"وَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ أَنْتَ، وَلَا أَهْلُ رُفْقَتِكَ"
(2)
. وَقَالَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
).
قوله: "ولا أهل رفقتك": لا يوجد هذا اللفظ إلا في حديث ابن عباس، وأكثر الفقهاء على خلافه، ومن جهة النظر: فإنَّ أهل رفقته وغيرهم في ذلك سواء بدليل قوله في حديث ناجية الأسلمي: "خلِّ بينها وبين الناس فيأكلونها" لم يخصَّ أهلَ رُفْقتِه مِنْ غيرهم.
ولا أعلم أحدًا قال بهذه الزيادة إلا أبا ثور وداود، قالا: لا يأكل منها هو ولا أحد من أهل رفقته.
ومن قال بهذا قال: هي زيادة حافظ يجِبُ العمَلُ بها، وكأنه جعل أهل رُفقَتِهِ في حُكْمِه لما ندب إليه الرفيق من مواساة رفيقه فزاده، وإلا فالقول ما قاله الجمهور؛ لظاهر حديث ناجية خلِّ بينها وبين الناس وهذا على عمومه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي ما يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَ
(1)
أخرجه مسلم (1326)، بنحوه.
(2)
أخرجه مسلم (1325).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 252)؛ حيث قال: "ولا أعلم أحدًا قال بهذه الزيادة إلا أبا ثور وداود قالا: لا يأكل منها هو ولا أحد من أهل رُفقتِهِ".
مَالِكٌ
(1)
: إِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، وَابْنُ حَبِيبٍ
(6)
، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ، أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ).
هذا الكلام فيما يطمئن الآكل من الهدي الذي لا يجب له أن يأكل منه، اختلف فيه:
فكان مالك يقول: إن أكل منه أبدله كله.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 410)؛ حيث فيها: "قلت لابن القاسم: ما قول مالك في هذا الذي تمتع بالعمرة فساق الهدي معه في عمرته هذه فعطب هديه قبل أن ينحره؟ قال: هذا الهدي عند مالك هدي تطوع، فلا يأكل منه وليتصدق به لأنه ليس بهدي مضمون لأنه ليس عليه بدله، قال ابن القاسم: وإن أكل منه كان عليه بدله وليحلل إذا سعى بين الصفا والمروة ولا يثبت حرامًا لمكان هديه الذي ساق معه؛ لأن هديه الذي ساقه معه لا يمنعه من الإحلال ولا يجزئه من هدي المتعة".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 238)؛ حيث قال: "فإن أدرك ذكاته فترك أن يذكيه أو ذكاه فأكله أو أطعمه أغنياء أو باعه فعليه بدله، وإن أطعم بعضه أغنياء وبعضه مساكين، أو أكل بعضه وخلى بين الناس وبين ما بقي منه غَرِمَ قيمة ما أكل، وما أطعم الأغنياء فيتصدق به على مساكين الحرم لا يجزيه غير ذلك".
(3)
يُنظر: "الأصل المعروف بالمبسوط" للشيباني (2/ 453)؛ حيث قال: "وإن أكل من جزاء الصيد فعليه قيمة ما أكل، فإن أكله كله بعدما ذبحه بمكة فعليه قيمته مذبوحًا يتصدق به إن شاء على مسكين واحد وإن شاء على مساكين".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 254)؛ حيث قال: "وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق".
(5)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (1/ 539)؛ حيث قال: "وإن أكل مما منع من أكله، ضمنه بمثله لحمًا لما ذكرنا. وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها؛ لأنه لا تلزمه الإراقة، فلزمته قيمتها كغيرها، ويشتري بالقيمة مثلها، فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا فيما إذا أتلفها صاحبها".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 254)؛ حيث قال: "وقال ابن حبيب: إن أكل مما لا يجب أن يأكل منه فعليه ثمن ما أكل طعامًا يتصدق به".
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد: إن أكل مما لا يجب أن يأكل منه فعليه ثمن ما أكل طعامًا يتصدق به.
وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين مثل ذلك، إلا أنهم ليس عندهم تفسير ما يغرم ما أكل أو أتلف.
* قوله: (وَمَا عَطِبَ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ مَكَّةَ فَهَلْ بَلَغَ مَحِلَّهُ؟ أَمْ لَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ هَلِ الْمَحِلُّ هُوَ مَكَّةُ أَوِ الْحَرَمُ؟ وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ لَهُ بَيْعَ لَحْمِهِ، وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْبَدَلِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ).
هذا مبني على الخلاف السابق، أعني: في المسألة السابقة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْلِ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِب إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ كُلِّهِ، وَلَحْمُهُ كُلُّهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَلِكَ جِلُّهُ إِنْ كَانَ مُجَلَّلًا، وَالنَّعْلُ الَّذِي قُلِّدَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ، وَفِدْيَةَ الْأَذَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدْيِ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 238)؛ حيث قال: "وهدي واجب فذلك إذا عطب دود الحرم صنع به صاحبه ما شاء من بيع وهبة وإمساك وعليه بذله بكل حال، ولو تصدق به في موضعه على مساكين كان عليه بدله؛ لأنه قد خرج من أن يكون هديًا حين عطب قبل أن يبلغ محله".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 564)؛ حيث قال: "قال مالك: وله أن يأكل من الهدي كله، واجبه وتطوعه، إذا بلغ محله، ويجزئ إلا ثلاثة: جزاء الصيد، وفدية الأذى، وما نذره للمساكين، فإن أكل من جزاء الصيد أو فدية الأذى [ما] قلَّ أو كثر بعد محله فعليه البدل".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 581)؛ حيث قال: " (ولا يأكل من شيء من الهدايا إلا هدي المتعة والقران والتطوع إذا بلغه محله) ".
الْوَاجِبِ إِلَّا هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَهَدْيَ الْقِرَانِ، وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ تَشْبِيهُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْهَدْيِ مَعْنَيَان؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَادَة مُبْتَدَأَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَفَّارَةٌ. وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ؛ فَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَهُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى شَبَهِهِ بِالْكَفَّارَةِ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ كَهَدْيِ الْقِرَانِ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَبِخَاصَّةٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ أَفْضَلُ، لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ لَا يَأْكُلَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ عِنْدَهُ هُوَ فَضِيلَةٌ لَا كَفَّارَةٌ تَدْفَعُ الْعُقوبَةَ. وَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَهُ بِالْكَفَّارَةِ قَالَ: لَا يَأْكُلُهُ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ صَاحِبُ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَدْيُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى ظَاهِرٌ مِنْ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا كَفَّارَةٌ لَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا).
اختلفوا فيمن أكل من الهدي الواجب أو أكل من الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله؟
فكان مالك والأوزاعي والشافعي يقولون في الهدي التطوع يعطب قبل محله: أنَّ على صاحبه أن يُخلِّي بينه وبين الناس يأكُلونه ولا يأمر أحدًا يأكل منه فقيرًا ولا غنيًّا يتصدَّق ولا يطعم وحسبه والتخلية بينه وبين الناس.
وكذلك قال أبو حنيفة: إلا أنَّه قال: يتصدَّق به أفضل من أن يَتركه للسباع فتأكُلَه.
* قوله: (قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ قُلْنَا فِي حُكْمِ الْهَدْيِ، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِي سِنِّهِ، وَكَيْفِيَّةِ سَوْقِهِ، وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ مِنَ الزَّمَان وَالْمَكَانِ، وَصِفَةِ نَحْرِهِ، وَحُكْمِ الانْتِفَاعِ بِهِ. وَذَلِكَ مَا قَصَدْنَاهُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَبِتَمَامِ القَوْلِ فِي هَذَا بِحَسَبِ تَرْتِيبنَا تَمَّ القَوْلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِحَسَبِ غَرَضِنَا، وَلِلَّهِ الشُّكْرُ وَالْحَمْدُ كَثِيرًا عَلَى مَا وَفَّقَ وَهَدَى وَمَنَّ بِهِ مِنَ التَّمَامِ
وَالْكَمَالِ. وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى الَّذِي هُوَ عَامُ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِئَةٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ كِتَابِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَضَعْتُهُ مُنْذُ أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا أَوْ نَحْوِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. كَانَ رضي الله عنه عَزَمَ حِينَ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ أَوَّلًا أَلَّا يُثْبِتَ كِتَابَ الْحَجِّ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَأَثْبَتَهُ).
هذا كلامٌ يشرح فيه المؤلف منهجَه في كتاب الحجِّ خصوصًا وكتابه عمومًا، وسوف يُكرِّرُ بيان هذا المنهج مرارًا.
* * *