الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَابُ الجهَادِ]
(1)
* قوله: (وَالقَوْلُ المُحِيطُ بِأُصُولِ هَذَا البَابِ يَنْحَصِرُ فِي جُمْلَتَيْنِ؛
الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الحَرْبِ.
الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ أَمْوَالِ المُحَارِبِينِ إِذَا تَمَلَّكَهَا المُسْلِمُونَ. الجُمْلَةُ الأُولَى: وَفِي هَذِهِ الجُمْلَةِ فُصُولٌ سَبْعَةٌ، أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ حُكْمِ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، وَلمَنْ تَلْزَمُ. وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ. وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ فِي صِنْفٍ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الحَرْبِ مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَالرَّابِعُ: مَعْرِفَةُ جَوَازِ
(1)
"الجهاد": مصدر جاهد، وهو من الجَهد -بفتح الجيم وضمها- أي: الطاقة والمشقة. وقيل: الجَهد -بفتح الجيم- هو المشقة، وبالضم الطاقة. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (1333)، و"تاج العروس" للزبيدي (7/ 534).
وحقيقته: استفراغ الوسع في طلب العدو باليد واللِّسان، وهو ثلاثة: جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس، وغلب استعماله شرعًا في الدعاء إلى الدين الحق. انظر:"المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (ص 208)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 133).
شُرُوطِ الحَرْبِ. وَالخَامِسُ: مَعْرِفَةُ العَدَدِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ الفِرَارُ عَنْهُمْ. وَالسَّادِسُ: هَلْ تَجُوزُ المُهَادَنَةُ؟ وَالسَّابعُ: لِمَاذَا يُحَارَبُونَ؟).
(الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ هَذِهِ الوَظِيفَةِ
فَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، فَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ
(1)
، لَا فَرْضُ عَيْنٍ)
(2)
.
معنى كونه "فرض كفاية": "إذا قام به بعض المسلمين، سقط الإثم عن باقيهم"
(3)
، قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، وقول:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].
(1)
"فرض الكفاية": ما قصد حصوله من غير شخص معين، فإن لم يوجد إلا واحد، تعيَّن عليه كردِّ السلام، والصلاة على جنازة المسلمين. انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 33)، و"تهذيب الفروق" لمحمد بن علي بن حسين (1/ 127).
و"فرض العين": مهم متحتم مقصود حصوله، منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من عين مخصوصة كالمفروض على النبي -صلى اللَّه تعالى عليه وسلم- دون أمته، أو من كل عين عين؛ أي: واحد واحد من المكلفين. انظر: "تهذيب الفروق" لمحمد علي بن حسين (1/ 127).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (5/ 130) حيث قال: "والجهاد عندنا بالغزوات والسرايا إلى أرض العدو فرضٌ على الكفاية، فإذا قام بذلك مَنْ فيه كفاية ونكاية للعدو، سقط عن المتخلفين". وانظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 334).
(3)
ومعنى "الكفاية في الجهاد": أن ينهض إليه قوم يكفون في جهادهم، إما أن يكونوا جندًا لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا أعدُّوا أنفسهم له تبرعًا، بحيث إذا قصدهم العدو، حَصَلت المنعة بهم، ويكون في الثغور مَنْ يدفع العدو عنها، ويبعث في كل سنة جيشًا يُغيرون على العدو في بلادهم. انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 33).
* قوله: (إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الحَسَنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا تَطَوُّعٌ
(1)
، وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِكَوْنِهِ فَرْضًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآيَةَ [البقرة: 216]، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا عَلَى الكِفَايَةِ، أَعْنِي: إِذَا قَامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ البَعْضِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآيَةَ [التوبة: 122]، وَقَوْلِهِ:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]).
جَاءَ المؤلف بمحلِّ الاستشهاد، أو بجزءٍ منه، والآية هي:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]، وأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يذهب إلى الجهاد في كل موقف، وإنما بقي صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ من أصحابه في المدينة.
وحصل ذلك أيضًا في زمن الخلفاء الراشدين، وفيمن بعدهم من الأئمة.
* قوله: (وَلَمْ يَخْرُجْ قَطُّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْغَزْوِ إِلَّا وَتَرَكَ بَعْضَ النَّاسِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَ هَذِهِ الوَظِيفَةِ فَرْضًا عَلَى الكِفَايَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ. . .).
سيتكلَّم المؤلف عن شروط الجهاد، وهي شروط سبعة يذكرها العلماء وإن اختلفوا في تفصيلها؛ لكنها موضع اتِّفاق بينهم.
* قوله: (فَهُمُ الرِّجَالُ الأَحْرَارُ).
الجهاد له شروط سبعة ذَكَرها العلماء في كُتُبهم، وأولها الإسلام، ثم
(1)
الصواب: "عبيد اللَّه بن الحسن العنبري أحد الفقهاء والمحدثين".
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 334) حيث قال: "وأجمع الفقهاء أن الجهاد فرض على الناس إلا مَنْ كُفِيَ مؤنة العدو منهم أباح من سواه التخلف ما كان على كفاية إلا (عبيد) اللَّه بن الحسن، فإنه قال: هو تطوُّع". وانظر: "نوادر الفقهاء" للجوهري (1/ 161، 162).
البلوغ، والعقل، وهذه شروطٌ يَذْكرها العلماء عامة في فروع هذه الشريعة، وقد تكلَّمنا عن ذلك في الصلاة والزكاة والحج.
فالإسلام والبلوغ والعقل والذكورية والحرية والقدرة على الجهاد، وأن يكون صحيحًا، هذه شروطه، وسنفصل القول في كلِّ واحدٍ منها، ثم آخرها وجوب النفقة، فهذه شروط سبعة:"الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والقدرة على النفقة والصحة" بأن يكون قادرًا على الجهاد، ليس أعمى، وليس به مرض يمنعه، ولا يكون أعرج عرجًا يمنعه.
فالمؤلف لم يذكر الشروط الثلاثة الأُولى، ولعله اكتفاءً بما مرَّ، وإنما ينبغي أن يذكرها؛ لأن المقام يتطلب ذلك، فأوَّل هذه الشروط:
1 -
الإسلام: ومعلومٌ أنَّ أي عمل لا يمكن أن يُقْبل ما لم يصحبه الإسلام؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول في شأن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
ويقول أيضًا: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
فَالإسلام ضدُّه الكفر، والكافر لا يقبل اللَّه سبحانه وتعالى منه صرفًا، ولا عدلًا، والجهاد إنما هو طاعةٌ للَّه سبحانه وتعالى، وقربةٌ إليه، فهو عمل صالح، والعمل الصالح لا يقبل إلا مع الإسلام، ولذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى عندما يذكر الأعمال، يربطها بالإيمان، وهذا الإيمان هو العقيدة التي كثيرًا ما نتكلم عنها، وننوِّه بشأنها، ونبيِّن أهميتها، وهي التي بيَّنها اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في قوله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].
وقال في الآية الأُخرى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
وحديث جبريل المشهور عندما جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صورة رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. . . إلى آخره، فسأله عن
الإيمان؟ فقال: "أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"
(1)
.
ولهَذَا، نجد أن الكتاب العزيز عندما يتحدَّث عن الأعمال، نجد أنه يقرنها بالإيمان، فقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
وقال أيضًا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 124].
ويَقُولُ سبحانه وتعالى في قصة مؤمن آل فرعون: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} [غافر: 40].
فَهَذا العمل الصالح لا بد أن يكون قد بُنِيَ على أساس قاعدة متينة هي أصل هذا الدِّين ولُبه، وهي هذه العقيدة الإسلامية، فالكافر لا يقبل منه هذا العمل
(2)
؛ لأن عملَه مردودٌ؛ إذ لا أساس يُبنى عليه، فالكافر يُجَازى على تركه الفروع
(3)
، كما أنه أيضًا يُجَازى على الأصل الأعظم، ألا وهو ترك الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
البلوغ؛ أي: يشترط في المجاهد أن يكون بالغًا، ولذلك نجد
(1)
أخرجه مسلم (8).
(2)
يُنظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 87) حيث قال: "نقل عن القاضي عياض قوله: "وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيمٍ، ولا تخفيف عذاب".
(3)
يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (1/ 500 - 503) حيث قال: "والكفار مخاطبون بالفروع؛ أي: بفروع الإسلام. . . لورود الآيات الشاملة لهم، مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}. . . كما أنهم مخاطبون بالإيمان والإسلام إجماعًا لإمكان تحصيل الشرط، وهو الإيمان. وفائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام "كثرة عقابهم في الآخرة"، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها".
أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ردَّ عبد اللَّه بن عمر وعُمُره أربعة عشر عامًا
(1)
، ورد البراء بن عازب وكان ذلك يوم أُحُد
(2)
، وفيه من تحدث على أن ذلك في بدر.
فالبلوغ مطلوب، ولذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"رفع القلم عن ثلات: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ. . . "
(3)
، فهذا دليل من الناحية النقلية، فيشترط في المجاهد أن يكون بالغًا؛ أي: يجب ذلك في تَعيُّن الوجوب، أو حتى في حالة فرض الكفاية، أما الصبي فَكَما ورد في الحديث، ولأن الصبي لا يُطِيقُ مثل هذه الأمور؛ لمَا فيه من الضعف، ولذلك لا يكون الجهاد مطلوبًا في حقه.
3 -
العقل: لأن المجنون غير مكلَّف، ولذلك ذكره من ضمن الثلاثة الذين رُفِعَ عنهم القلم:". . . وعن المجنون حتى يفيق"
(4)
؛ أي: حتى يرجع إلى عقله، هؤلاء ثلاثة لم يعرض لهم المؤلف، ولعل عذره في ذلك أنه تكرر، لكن المقام يقتضي أن ننبِّه إلى ذلك.
* قوله: (الرِّجَالُ الأَحْرَارُ).
أوَّل شَرْطٍ هو: (الرجال)، فيخرج به النساء، ولذلك لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهادٍ؟ رد عليها
(1)
أخرجه البخاري (2664) ومسلم (1868) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أُحُد وهو ابن أربع عثرة سنة، فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خصى عشرة سنة، فأجازني".
(2)
أخرجه البخاري (3955) عن البرأء، قاد:"استصغرت أنا وابن عمر يوم بدرٍ، وكان المهاجرون يوم بدر نيفًا على ستين، والأنصار نيفًا وأربعين ومائتين".
(3)
أخرجه أبو داود (4398)، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في (الإرواء)(297).
(4)
أخرجه النسائي (3432)، وغيره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رُفِعَ القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل" أو "يفيق"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(8/ 4).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائلًا: "عَليهنَّ جهادٌ لا قتال فيه؛ الحج والعمرة"
(1)
، فجهاد المرأة إنَّما هو في الحج والعمرة، ولأن الجهاد أيضًا يُطْلب فيه القوة والشجاعة، والمرأة معروفة بضَعْفها وبِخَوَرها، ولذلك لا تتوفر فيها هذه الشروط إلى جانب كون هذه المرأة عورة، لكن لا مانع أن يُقدِّم النساء خدمات للمجاهدين في معالجة الجرحى، وفي جلب الماء، فهذا أمر طيب قد حصل شيء منه في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(2)
، لَكن أن تجاهد المرأة بأن تحمل السيف أو نحوه، فهذا غير مطلوبٍ منها.
إذًا، من شُرُوط الجهاد: أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا ذكرًا.
وكذلك الحرية، والحرُّ يقابله المملوك، وهذا شرط موضع اتفاق عند العلماء
(3)
: أن يكون المجاهد حرًّا، ودليل ذلك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما
(1)
أخرجه أحمد (25322)، وصححه الأَلْبَانيُّ في (الإرواء)(981).
وأخرجه البخاري (1520) بلفظ: عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول اللَّه، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:"لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور".
(2)
أخرجه مسلم (1810) بلفظ: عن أنس بن مالك، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 126) حيث قال: " (فأما) المرأة والصبي العاقل، والذمي والعبد المحجور، فليس لهم سهم كامل؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال، ألا ترى أنه لا يجب القتال على الصبي والذمي أصلًا؟ ولا يجب على المرأة والعبد إلا عند الضرورة؟ وهي ضرورة عموم النفير".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 353) حيث قال: "فالجهاد على العبد ساقط من كل وجه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (19/ 270) حيث قال: "ولا يجب على العبد؛ لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}، والعبد لا يجد ما ينفق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 198) حيث قال: "الحرية فتشترط؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم تجب على العبد، كالحج".
كان يبايع المسلمين، كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد في سبيل اللَّه، وكان يبايع العبيد على الإسلام فقط
(1)
، فدل ذلك على التفريق بينهما، وهذا دليل نقلي.
وأما من الناحية العقلية: فإن العبد منافعه مملوكة لسيده، والجهاد غالبًا يحتاج إلى سفر، فبسَفَره تتعطل مصالح سيده، ولذلك لا يكون الجهاد واجبًا في حقه.
* قوله: (البَالِغُونَ الَّذِينَ يَجِدُونَ بِمَا يَغْزُونَ).
فينبغي أن يجد الشيء الذي يغزو به، قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، فيُشْترط في الجهاد: وجود النفقة، أما لو كانت الدولة تدفع النفقات، فتكون النفقة بذلك قد تَحقَّقت.
* قَالَ: (الأَصِحَّاءُ لَا المَرْضَى).
كَذَلك أيضًا يُشْترط في المجاهد أن يكون صحيحًا، لا أعمى، فالأعمى لا يستطيع أن يجاهد؛ لأنه لا يعرف، والأعرج مستثنًى من ذلك في قوله اللَّه سبحانه وتعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ، لكن هنا ينبغي أن نقف وقفات بالنسبة للأعمى، فلا خلاف فيه؛ ولكن لو كان الإنسان يبصر بعضَ الإبصار بمعنى أنه ضعيف البصر، ولا يؤثر عليه، فإنه يجاهد؛ لأنه لا يشترط في المجاهد أن يكون حادَّ البصر.
وأمَّا بالنسبة للأعرج، فليسَ على إطلاقه، وإنَّما المقصود بالأعرج
(1)
أخرجه النسائي كما في (تلخيص الحبير)(4/ 244)، ولم أجده فيما بين يدي من مصادر، وقد أخرج مسلم (1602) أنه بايعه على الهجرة، وليس على الجهاد، وهذا لفظه: عن أبي الزبير، عن جابر، قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبدٌ، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بعنيه"، فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله:"أعبد هو؟ ".
الَّذي لا جهاد عليه، وهو الذي يشق عليه العرج، ولا يستطيع أن يمشي مشيًا معتادًا، أما الأعرج الَّذي لا يستطيع أن يجاري الصحاحَ في جريهم وسباقهم، فهذا لا يؤثر، المهم أنه يثبت، وأن يستطيع القتال.
وأما المريض، فالمراد به هنا الذي تلحقه مشقةٌ وضررٌ بالجهاد، أما المرض اليسير من أَلَمٍ في الجسم، أو من صداعٍ يسيرٍ، ونحو ذلك، فهذا لا يمنع المسلم من الجهاد، وإنَّما عليه أن يجاهد في هذه الحالة.
إذًا، الذي لا يجاهد هو الأعمى الذي لا يرى، وَكَذلك الأعرج الذي أثَّر فيه هذا العرج، والمريض الذي تلحقه مشقة وألم وشدة فيما لو جاء في هذا الموقف.
* قوله: (وَلَا الزَّمْنَى)
(1)
.
وهُوَ الذي أصابه مرض مزمن أقعده على الفراش، فهذا لا يجاهد، وهو داخلٌ ضمن المرضى، بل هذا يأتي في مُقدِّمتهم، وهذا تيسيرٌ من اللَّه سبحانه وتعالى، فهذا الجهاد أمرُهُ عظيمٌ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"انتدب اللَّه لمَنْ جاهد في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي إيمانًا بي، وتصديقًا برُسُلي؛ فإني أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجرٍ، أو غنيمةٍ، أو أدخله الجنة".
ثمَّ يقول رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "ولَوْلَا أن أشقَّ على أُمَّتي لما قعدت خلف سرية -أي: لما تخلفتُ عن معركةٍ واحدةٍ- ولوددت أن أقاتل فأقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"
(2)
.
إن الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتمنى الجهاد في سبيل اللَّه، وأن يقتل في هذا الجهاد، ثم تُعَاد إليه حياته، ثمِ يُقْتل، ثم يقاتل، ثم يقتل مرةً أُخرى، واللَّه تعالى يقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
(1)
"الزَّمِنُ": هو المبتلى. وجمع الزمن: الزمنى. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 50).
(2)
أخرجه البخاري (36) ومسلم (1876).
يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
ولَا شكَّ أن من أجلِّ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلم إلى ربه إذا حانت له الفرصة أن يجاهد في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأنه في هذا الموقف يبيع أعز وأغلى ما عنده، ألا وهي حياته، يبيعها في سبيل اللَّه ابتغاء مرضات اللَّه؛ لينال جنةً عرضها السماوات والأرض أعدها اللَّه سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله.
* قوله: (وَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ)
أي: أن هذه الشروط لا خلافَ فيها، وقد أوردنا أدلتها؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وليس معنى هذا أن يستدلَّ بها بعض الجهال على سقوط التكاليف، ففي أمر الصلاة لا تسقط عن الأعمى ولو صلاة الجماعة، ولا على الأعرج، ولا حتى المريض الذي عجز أن يصلي قائمًا "فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، وإذا لم يستطع ذلك يشير بإصبعه، فإن لم يستطع فلو بطرفه، فَهَذا الكلامُ في أمر الجهاد، وهذه الشريعة ليس فيها مشقةٌ على عباد اللَّه.
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91]).
الجهاد غَالبًا يحتاج إلى سَفَرٍ، فيحتاج الإنسان إلى دابة، أو حافلة تنقله، فإنْ تيسرت له هذه، تعيَّن عليه الجهاد، وكان ممن دخلوا في حكم المجاهدين؛ لأن هذا أمر مطلوب، كما في الآية:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92].
* قوله: (وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الفَرِيضَةِ تَخْتَصُّ بِالأَحْرَارِ، فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا
خِلَافًا، وَعَامَّةُ الفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ إِذْنُ الأَبَوَيْنِ فِيهَا)
(1)
.
الأبوان لا يخلوان من حالين:
1 -
إما أن يكون والدا هذا المجاهد مسلمين أو غير مسلمين، أو أن يكون أحدهما: مسلمًا، والآخر: غير مسلم، فمَنْ كان له أبوان مسلمان، أو كان أحدهما: مسلمًا، والآخر: غير مسلم؛ فلا ينبغي للمسلم أن يجاهد إلا بعد إذنهما، وقد وردت في ذلك عدة أحاديث، منها: قصة الرجل الذي جَاءَ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَطَلب منه أن يجاهد، فسأله فقال:"ألك أبوان؟ "، فقال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد"
(2)
.
وفي قصة الرجل الذي قدم من اليمن إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليجاهد
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (5/ 442) حيث قال: "وعن هذا حرم الخروج إلى الجهاد وأحد الأبوين كاره؛ لأن طاعة كل منهما فرض عين، والجهاد لم يتعيَّن عليه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 175) حيث قال: " (ودين حل) مع قدرته على الوفاء وإلا خرج بغير إذن ربه (كوالدين) أي: كالسقوط بمنع أحد والدِّين دنية شفقة (في) كل (فرض كفاية)، ولو علمًا كفائيًّا، فلا يخرج له إلا بإذنهما حيث كان في بلده من يفيد، وإلا خرج له بغير إذنهما إن كان فيه أهلية النظر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 275) حيث قال: "وَإِنْ كان أحد أبويه مسلمًا، لم يجز أن يجاهد بغير إذنه، ولأن الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعيَّن عليه؛ لأنه لا ينوب عنه فيه غيره، ولهذا قال رجلٌ لابن عباس رضي الله عنه: إني نذرت أن أغزو الروم، وإن أبوي منعاني، فقال: أطع أبويك، فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 208) حيث قال: " (وإذا كان أبواه مسلمين، لم يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما)، روي نحو هذا عن عمر، وعثمان. وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وسائر أهل العلم".
(2)
أخرجه البخاري (5972) ومسلم (2549)، عن عبد اللَّه بن عمرٍو، قال: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أُجاهد؟ قال: "لك أبوان؟ "، قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهد".
معه، فذكر له أن له أمًّا، فسأله: أخذت رأيها؟ فقال: لا. قال: "إن الجنة تحت أقدام الأمهات"
(1)
.
وفي قصة الآخر الذي جاء أيضًا ليجاهدَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم:"هل له أبوان؟ "، فذكر أن له أبوين، وأنه تركهما يبكيان، فأمره أن يعود إليهما فيضحكهما كما أبكَاهما
(2)
.
يسأل سائلٌ: هذا جهاد في سبيل اللَّه، وطاعة للَّه سبحانه وتعالى، ودفاع عن هذه الشريعة، ودفاع عن هذا الدِّين، ودفاع عن بيضة هذا الإسلام، وعن هذه العقيدة الإسلامية، فكيف يأخذ الإنسان رأي والديه في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى؟
الجواب: لأن برَّ الوالدين فرض عين، والجهاد إنما هو فرض كفاية، أما عندما يتعيَّن الجهاد على المسلم، ففي هذه الحالة لا يُشْترط أن يأخذ رأي والديه، كما لو الْتحَم الصفان، وصرخ به أحد والديه، أو جاء العدو فطوَّق بلاد المسلمين؛ فإنه في هذه الحالة لا يأخذ رأي أَحَدٍ.
لَكن يَبْقى سؤالٌ وهُوَ: لو أن الوالدين أو أحدَهما أَذِنَ لابنه بالجهاد، ثم رجع عن قوله، فهل يلزمه؟
فسَّر العلماء القول في ذلك، فقالوا: إن كان ذلك قبل أن ينضم إلى المعركة وقبل السفر، فلهما ذلك، وإن كان بعد اشتراكه في القتال فلا. . هذا فيما يتعلَّق بالوالدين المسلمين، فلا بد من أَخْذ رأيهما، وأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك.
(1)
أخرجه النسائي (6/ 11)، عن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال:"هل لك من أم؟ "، قال: نعم، قال:"فالْزَمها، فإن الجنَّة تحت رجليها"، وقال الأَلْبَانيُّ في (صحيح النسائي) (7/ 176): حسن صحيح.
(2)
أخرجه أبو داود (2528)، وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: جاء رَجلٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال:"ارجع عليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما"، وصححه الأَلْبَانيُّ في (صحيح أبي داود)(2281).
2 -
أمَّا الحالة الثانية: وهي أنا يكون الوالدان أو أحدهما كافرًا، ويمنع ابنه من الجهاد في سبيل اللَّه، فهل يأخذ رأيه؟
الجواب: عامة العلماء لا يرون ذلك؛ أي: لا يأخذ رأي الوالد الكافر؛ أبًا كان أو أمًّا
(1)
.
وَنقل عن الثوريِّ أنه قال: "يأخذ رأيهما"؛ لأنَّ الأحاديثَ عامة في ذلك
(2)
، ولم يخص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالمسلم دون غيره، ولكن الكلام كله كان في حق المسلمين، ورأي الجمهور هو الصواب في ذلك إن شاء اللَّه تعالى.
* قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ فَرْضَ عَيْنٍ، مِثْلَ أَلَّا يَكُونَ هُنَالِكَ مَنْ يَقُومُ بِالفَرْضِ إِلَّا بِقِيَامِ الجَمِيعِ بِهِ).
يَعْني: إذا تعيَّن الجهاد علَيه في الحالات الثلاث التي مرَّت بنا، مثلًا إذا استنفر الإمام المسلمين، أو طوَّقهم العدو، أو التقى الصفان؛ أي: التقى الزحفان، في واحدةٍ من هذه الحالات لا يُسْتَأذن أحدٌ في أمر الجهاد.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 124) حيث قال: "وشمل الكافرين أيضًا أو أحدهما إذا كره خروجه مخافة ومشقة، وإلا بل لكراهة قتال أهل دينه، فلا يطيعه ما لم يخف عليه الضيعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 176) حيث قال:"والذي في التوضيح أن الوالد الكافر ليس له منع ولده من الجهاد مطلقًا؛ سواء علم أن منعه كراهة إعانة المسلمين أو شفقة عليه".
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (19/ 276) حيث قال: "وإن كان الأبوان كافرين، جاز أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأنهما متهمان في الدِّين".
ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 208) حيث قال: "فأما إن كان أبواه غير مسلمين، فلا إذن لهما".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 208) حيث قال: "وقال الثوري: لا يغزو إلا بإذنهما؛ لعموم الأخبار".
* قوله: (وَالأَصْلُ فِي هَذَا مَا ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُرِيدُ الجِهَادَ، قَالَ:"أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"
(1)
).
برُّ الوالدين جهاد؛ لأن الابن الصالح التقي الذي يعرف قيمة الوالدين، ويَلْتزم بما جَاء في كتاب اللَّه عز وجل، وبما جاء عَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أقوالٍ وَوَصايا، يجد أن أمر الوالدين ليس أمرًا سهلًا، فالعناية بأمرهما وخدمتهما والقيام على شؤونهما وبرهما هذا يتطلب من الإنسان وقتًا كثيرًا، فالقيام بشُؤُونهما ليس أمرًا سهلًا، وقصة أويس القرني الذي لم يلحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبقي في الصحراء مع أُمِّه، يأتي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نجدًا ويوصي عمرَ بن الخطاب إنْ ظفر بأويس أن يسأله أن يدعو اللَّهَ له، وعمر بن الخطاب من المبشرين بالجنة، وينزل القرآن مؤيدًا لرأيه، ومع ذلك يوصيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إن الْتقَى بأويس القرني أن يطلب منه أن يدعو له؛ لأن ذلك قَضَى حياتَه، وأفنى عُمُره في خدمة أمه، فرضي اللَّه عنه، ويتحيَّن عمر رضي الله عنه الفرصَ، وفي كل موسمٍ من مواسم الحج يسأل عن هذا الرجل الذي يقدم من اليمن، فيرشد إليه، فيطلب منه أن يدعو له، ويسأله أن ينضم إليه، فيعتذر فيعود إلى أمه كما كان
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549).
(2)
أخرجه مسلم (2542/ 225) عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على اللَّه لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي، فاستغفر له. الحديث.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الأَبَوَيْنِ المُشْرِكَيْنِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الغَرِيمِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ)
(1)
.
أَيْ: لَوْ أنَّ إنسانًا عليه دَينٌ، هل له أن يجاهدَ؟ هناك فرقٌ بين الجهاد والحج، فالحج جهاد؛ لأنه طاعة للَّه سبحانه وتعالى، وهو شبيه بالجهاد؛ لأن الإنسان ربما يقطع الفيافي
(2)
والقطار
(3)
، ويقضي فترةً طويلةً من عُمُره يجمع المال ليحصل على دابة ليسافر، فالسفر إنَّما هو نوعٌ من الجهاد.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين" (4/ 126) حيث قال:" (قوله: ومديون بغير إذن غريمه)؛ أي: ولو لم يكن عنده وفاء؛ لأنه تعلَّق به حق الغريم. . تجنيس، فلو أذن له الدائن ولم يبرئه، فالمستحب الإقامة لقضاء الدَّين؛ لأن البدء بالأوجب أولى، فإن خرج فلا بأس. . ذخيرة. ولو الدائن غائبًا فأوصى بقضاء دينه إن مات، فلا بأس بالخروج لو له وفاء، وإلا فالأَوْلَى الإقامة لقضاء دينه. . هندية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 175) حيث قال: " (قوله: مع قدرته على الوفاء)؛ أي: ببيع ما عنده، وكان ذلك لا يحصل إلا في زمانٍ يلزم على انقضائه فوات الجيش له، ولا يقدر على إدراكه بعد سفره (قوله: وإلا خرج بغير إذن ربه)؛ أي: وإلا يقدر على وفائه أو كان غير حال، ولا يحل في غيبته خرج بغير إذن ربه، فإن حل في غيبته وعنده ما يوفي منه وكَّل مَنْ يقضيه عنه".
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 232) حيث قال: " (والدَّين الحال) ولو لذمي وإنْ كان به رهن وثيق أو كفيل موسر، (يحرم) على مَنْ هو في ذمته ولو والدًا وهو موسر بأن كان عنده أزيد مما يبقى للمفلس فيما يظهر. قيل: وكذا المعسر، ونقل عن الأصحاب وألحق بالمدين وليه، (سفر جهاد وغيره) بالجر، وإن قصر رعاية لحق الغير؛ ومن ثَمَّ جاء في مسلم: "القتل في سبيل اللَّه يكفر كل شيء إلا الدَّين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 621) حيث قال: "شهادة، فتفوت به النفس فيفوت الحق، فإن كان الدين للَّه أو لآدمي وله وفاء، جاز له التطوُّع به (إلا مع إذن) رب الدين، فيجوز لرضاه (أو مع رهن محرز) لدَين؛ أي: يمكن وفاؤه منه (أو مع كفيل مليء) بالدين، فيجوز إذن؛ لأنه لا ضررَ على رب الدِّين، فإن تعيَّن عليه الجهاد، فلا إذن لغريمه لتعلق الجهاد بعينه، فيقدم على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان، ويستحب له ألا يتعرض لمظان قتل، كمبارزة ووقوف في أول مقاتلة".
(2)
"الفيفاء": الصحراء الملساء، والفيافي جمعها. انظر:"العين" للفراهيدي (8/ 408).
(3)
"القطار": قطار الإبل بعضها إلى بعض على (نسق واحد). انظر: "العين" للفراهيدي (5/ 95).
وَمَع ذلك، رأينا في الحج أن الإنسان إنْ كان عليه دَين، فليس له أن يحج حتى وإنْ أذن له غيره؛ فالسبب في ذلك أن الدَّين متعين على الإنسان، والحج لا يجب إلا بالاستطاعة، كما أمر اللَّه سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، والذي عليه دَين يجب عليه أن يوفي هذا الدَّين، وهو في هذه الحال غير مستطيع للحج، فلا يلزمه الحج؛ لأنه مدين، لكن الجهاد يختلف عنه، فمن كان عليه دَين، فإن أذن له غريمه؛ فإنه يُسَافر للجهاد.
واختلفوا في الحجِّ، فلو جَعَل كفيلًا يقوم على هذا الدَّين؛ فله أن يجاهد
(1)
، أما لو كان عنده مال يستطيع أن يسدد به هذا الدَّين لو كان هذا الدَّين لم يحل بعد؛ فلَه أن يسافر مجاهدًا في سبيل اللَّه.
فَاختَلفت الصُّور هنا، فنجد أن الدَّين يمنع من الجهاد إذا لم يأذن الغريم؛ لأنَّ الدَّين أمره عظيم، ولو لم يرد فيه إلا حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو: بينما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه ذات يوم، فيبيِّن لهم صلى الله عليه وسلم أن أفضل الأعمال الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، ثم الجهاد، ثم يقوم رجل فيقول: يا رسول اللَّه، أيكفِّر اللَّه عني خطاياي إن قاتلتُ في سبيل اللَّه؟ فيقول له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نعم، إن قاتلتَ صابرًا محتسبًا"؛ أي: صابرًا على القتال، محتسبًا ذلك في سبيل اللَّه، ثم يكرِّر عليه السؤال فيقول:"كيف قلت؟ "، فيقول: أرأيت يا رسول اللَّه لو أنِّي قَاتَلتُ في سبيل اللَّه، أيكفِّر اللَّه عني خطاياي؟ فيقول له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نعم، إن قاتلت صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا الدَّين"
(2)
.
(1)
تقدَّم الكلام عليه.
(2)
أخرجه مسلم (1885)، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبي قتادة، أنه سمعه يُحدِّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهادَ في سبيل اللَّه، والإيمان باللَّه أفضل الأعمال، فقام رجلٌ، فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت إن قتلت في سبيل اللَّه، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، إن قتلت في سبيل اللَّه، وأنت صابرٌ محتسبٌ، مُقبل غير مُدبر"، ثمَّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كيف قلت؟ "، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل اللَّه، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مُدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
والشاهد في قوله: "إلا الدَّين"، ففي بعض الروايات:"أَخْبَرني بذَلكَ جِبْريل"
(1)
، أو "سَارَّنِي به جبريل"
(2)
، أو "ذكرَ ذَلكَ لي جبريل آنفًا"؛ أي: نزل عليه جبريل، فبيَّن له خطورة الدَّين.
ومن هنا نجد مكانة الشهداء {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، ومع ذلك نجد أن الشهيد يُغْفر له كل شيء إلا الدَّين، فَشَهيد البحر يرضي اللَّه سبحانه وتعالى غريمه؛ أي: يعطي غريمه حتى يرضى فيعفو عنه، فَهَذا يدل على خطورة الدَّين، ولذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جيء بجنازة، وذكر أن عليها دينًا، قال:"صلوا على صاحبكم"، فقال أحد الصحابة: عليَّ يا رسول اللَّه، فصلى عليه
(3)
.
* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ سَأَلَهُ الرَّجُلُ: "أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ إِنْ مُتُّ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ آنِفًا"، وَالجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ
(4)
، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا تَخَلَّفَ وَفَاءٌ مِنْ دَيْنِهِ).
"الغَرِيمُ"
(5)
: صَاحب الحقِّ الذي له دَينٌ على آخر.
(1)
أخرجها البيهقي في "الكبرى"(5/ 581) بلفظ: "إلا الدَّين، كَذَلك أخبرني جبريل عليه السلام".
(2)
أخرجها النسائي (3155)، وقال الأَلْبَانيُّ في "الإرواء" (5/ 18): إسناده جيد.
(3)
أخرجه البخاري (2289) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أُتِيَ بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها، فقال:"هَلْ عليه دَين؟ "، قالوا: لا، قال:"فهل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أُخرى، فقالوا: يا رسول اللَّه، صلِّ عليها، قال:"هل عليه دين؟ "، قيل: نعم، قال:"فهَلْ ترك شيئًا؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صلِّ عليها، قال:"هل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، قال:"فهل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال:"صلوا على صاحبكم"، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول اللَّه وعليَّ دينه، فصلى عليه.
(4)
تقدَّم.
(5)
"الغريم": الذي عليه الدَّين. وقد يكون الغريم أيضًا الذي له الدَّين. والغرامة: ما يلزم أداؤه. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1996، 1997).
جَاء في بعض الرِّوايات مطولًا أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يعظ أصحابه، فيبيِّن لهم أن أفضَل الأعمال الإيمان باللَّه، ثم الجهاد في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى، ثمَّ يقوم هذا الرجل لمَّا سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عظيم الجهاد وأهميته ومكانته العالية في الإسلام، أيكفِّر اللَّه عني خطاياي إن متُّ في سبيل اللَّه صابرًا كما قال اللَّه تعالى:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، ولا يجاهد إلا إنسان ذو صبر، وذو شكيمة وشجاعة وقوة، يجمع بين قوة الإيمان والجلد والصبر على طاعة اللَّه سبحانه وتعالى.
"صابرًا محتسبًا"، أَيْ: يحتسب ذلك في سبيل اللَّه، وفي مرضاة اللَّه، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم:"نعم، إن قاتلتَ صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا الدَّين"، فإن كان عليك دَين فلا، لكن إن كان عليه دَين ولا سداد {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فإنه يجاهد، أو كان هناك إنسان يتكفل بسداده، أو كان عنده مال يسدد له منه، أو أذن له هذا الغريم الدائن صاحب الحق؛ فإنه يجاهد.
قال المصنف رحمه الله:
(الفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ
فَأَمَّا الَّذِينَ يُحَارَبُونَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ جَمِيعُ المُشْرِكينَ
(1)
؛ لِقَوْلِهِ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 441) حيث قال: " (قوله: وقتال الكفار) الذبن لم يسلموا وهم من مشركي العرب أو لم يسلموا، ولم يعطوا الجزية من غيرهم (واجب وإن لم يبدءونا)؛ لأن الأدلة الموجبة له لم تقيد الوجوب ببداءتهم، وهذا معنى قوله: (للعمومات) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير، و"حاشية الدسوقي"(2/ 174) =
تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]).
مَنْ هُمُ الذين يُحارَبون؟ هل يُحارَب كل كافرٍ أو صنفٍ من أصناف الكفار؟
الكفار أصناف، فمنهم أهل الكتاب (يهود ونصارى)، وكذلك أيضًا المجوس الذين لهم شبهة كتاب، وهناك الصابئة
(1)
، وهناك عبدة النار، وعبدة الأوثان وعبدة الأصنام. . . أصناف كثيرة، وكلهم يدخلون تحت كلمة الكفر أو الشرك باللَّه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
= حيث قال: " (قوله: وإن توجه الدفع على امرأة ورقيق) فيه إن توجه الدفع هو عين فرضية الجهاد عليهم، فكأنه قال: وتوجه الدفع بفجء العدو على كلِّ أحدٍ، وإن كان التوجه على امرأة، وهذا غير معقول، فالأحسن أن يجعل قوله: وإن على امرأة مبالغة في محذوف، والمعنى: وتعين بفجء العدو على كل أحد، وإن كان ذلك الأحد امرأة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 46) حيث قال: " (وأما بعده فللكفار)؛ أي: الحربيين (حالان): (أحدهما يكونون)؛ أي: كونهم (ببلادهم) مستقرين فيها غير قاصدين شيئًا (ف) الجهاد حينئذٍ (فرض كفاية)، ويحصل إما بتشحين الثغور وهي محال الخوف التي تلي بلادهم بمكافئين لهم لو قصدوها مع إحكام الحصون والخنادق، وتقليد ذلك لأمرائنا المؤتمنين المشهورين بالشجاعة والنصح للمسلمين، وإما بأن يدخل الإمام أو نائبه بشرطه دارهم بالجيوش لقتالهم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 617) حيث قال: " (وسن) جهاد (بتأكد مع قيام مَنْ يكفي به) للآيات والأخبار. ومعنى الكفاية هنا: نهوض قوم يكفون في قتالهم، جندًا كانوا لهم دواوين أو أعدوا أنفسهم له تبرعًا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم، ويكون بالثغور من يدفع العدو عن أهلها، ويبعث الإمام في كل سنة جيشًا يُغِيرُونَ على العدو في بلادهم".
(1)
"الصابئة": قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، وقبلتهم مهب الشمال عند منتصف النهار. انظر:"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 211).
وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهذا عامٌّ في كل كافرٍ.
* قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الحَبَشَةِ بِالحَرْبِ، وَلَا التُّرْكُ)
(1)
.
لماذا استثني الحبشة والأتراك؟
(2)
، الحبشة هم سكان الحبشة، والأتراك هم الذين يقيمون في تركيا أو الذين خلفهم، وتركيا -بحمد اللَّه- بلاد مسلمة، ونسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يمنَّ عليهم.
يَقُولُ الإمامُ مالكٌ رحمه الله: لا يبتدئ الحبشة ولا الأتراك، ولكن نجد أن ابن عبد البر
(3)
عندما سرد هؤلاء، خالف إمامه في هذه المسألة، وهو مذهب بقية الأئمة، فلا فرق بين كافرٍ وكافرٍ.
* قوله: (لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "ذَرُوا الحَبَشَةَ مَا وَذَرَتْكُمْ").
هذا الحديث أورَده الإمامُ مالكٌ في "الموطإ"، ورواه أيضًا أبو داود
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 183) حيث قال: " (قوله: لموافقتها الحديث)؛ أي: وللإجماع على جواز قتال الروم، فلا وجه لذكرهم بخلاف الحبشة، فقد قيل بمنع قتالهم هم والترك".
(2)
قال الطيبي: "وأما تخصيص الحبشة والترك بالترك والودع؛ فلأن بلاد الحبشة وغيرها بين المسلمين وبينهم مهامه وقفار، فلم يُكلف المسلمين دخول ديارهم؛ لكثرة التعب وعظم المشقة، وأما الترك فبأسهم شديد، وبلادهم باردة، والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة، فلم يكلفهم دخول البلاد، فلهذين السرين خصصهم، وأما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهرًا -والعياذ باللَّه- فلا يجوز لأحدٍ ترك القتال؛ لأن الجهاد في هذه الحالة فرض عين. وفي الحالة الأولى فرض كفاية". انظر: "شرح المشكاة" للطيبي (11/ 3431).
(3)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 466) حيث قال: "يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس وسائر الكفار من العرب والعجم، يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون".
بإسنادٍ حسنٍ
(1)
بلفظٍ قريبٍ من هذا: "دَعُوا الحبَشَة ما وَدَعوكم، واتركوا الترك ما تَرَكوكم"، وأوضح ذلك:"دَعُوا الحَبَشة ما وَدَعوكم"، فهذا دَليلٌ نسميه (المعتل المثال)، وهذا قليل ما يأتي ماضيًا، فإنه يأتي في صورة المضارع (يدع)
(2)
بمعنى: يترك، و"دع" بمعنى "اترك".
"دَعُوا الحَبشَة ما وَدَعُوكُمْ"، يعني: اتركوا الحبشة ما تركوكم، أَيْ: إذا غفلوا عنكم، فاغفلوا عنهم، "واتركوا الترك ما تركوكم"، فهذا حديث حسن جاء في روايات أُخرى أو بألفاظ أُخرى:"اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة"
(3)
، هذا الحديث جاء مطولًا، والكعبة فيها كنز لا يستخرجه إلا ذو السويقتين من الحبشة، و"السويقتين"
(4)
تثنية "ساق"، فإذا صَغَّرناه قلنا:"سويق"، ومن المعلوم في علم التصريف الذي من أجزائه التصغير أنك إذا صَغَّرت المؤنثَ الخالي من التاء، فإنك تلحق به التاء، فتقول:"يد"، تصغيرها " يدي"، ثم تلحقها بالتاء فتقول:"يدية"، و"عين عيين عيينة"، وأيضًا "ساق سويقة"، فهنا ذو السويقتين، ولقبوا "ذو السويقتين" بهذا؛ لما عرف في سيقانهم من النحافة، فهذا هو الذي يستخرج كنزَ الكعبة.
وَجَاء أيضًا في "الصحيحين" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرب
(1)
حديث (4302)، وحسنه الأَلْبَانِيُّ في "صحيح الجامع"(3384).
(2)
يُنظر: "شرح المشكاة" للطيبي (11/ 3430، 3431) حيث قال: " (ودعوكم): تركوكم، وقلما يستعملون الماضي منه إلا ما روي في بعض الأشعار، كقول القائل: "غاله في الحب حتى ودعه"، ويحتمل أن يكون الحديث: (ما وادعوكم)؛ أي: سالموكم، فسقط الألف من قلم بعض الرواة. أقول: لا افتقار إلى هذا الطعن مع وروده في التنزيل في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ}، وقرئ بالتخفيف يعني: ما تركك".
(3)
أخرجه أبو داود (4309)، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(90).
(4)
"السويقة": تصغير الساق، وهي مؤنثة، فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها، وإنما صغر الساق؛ لأن الغالب على سوق الحبشة الدقة والحموشة. انظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 423).
الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة"
(1)
، وهذا في آخر الزمان كما ذكر العلماء ذلك، وهذا بين الركن والمقام، "ولن يستحلَّ البيت إلا أهله"
(2)
، هذا يأتي في آخر الزمان، وأُولَئك الذين ضلَّت أقدامهم، وَجَروا خلف أوهامهم، ووقعوا فيما وقعوا فيه، ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يرد اللَّه به خيرًا، يفقهه في الدِّين"
(3)
.
ولهذا، نجد أن الفقهاء رضي الله عنهم، علماء هذا الدِّين، وسلفنا الصالح ومنهم الأئمة الأربعة ما اقتصروا على آيات القرآن والأحاديث، بل أفنوا أعمَارهم، وأمضوا أوقاتهم يَسْتخرجون الأحكامَ من كتاب اللَّه عز وجل، ومن سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا، في قصة أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لماذا تحول من علم الكلام إلى علم الفقه؟
(4)
لعدة أسباب، منها:
1 -
وجد الخوض قد صدر في ذلك المقام، مع أن أبا حنيفة رحمه الله كان له باعٌ في هذا المقام، وكان يذهب من الكوفة إلى البصرة كل عام لينازل
(5)
فرق المعتزلة، ويدافع عن عقيدة التوحيد، ثم نجده بعد ذلك تحول إلى علم الفقه.
2 -
أنه وجد أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يكثرون الخوض في علم الكلام، فتحول إلى الفقه.
(1)
أخرجه البخاري (1591)، ومسلم (2909).
(2)
معنى حديث أخرجه أحمد (8114) عن أبي قتادة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا، هم الذين يستخرجون كنزه"، وصححه الأرناؤوط.
(3)
أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
(4)
انظر هذه القصة بطولها في: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 395 - 398).
(5)
" النزال"، بالكسر: أن ينزل الفريقان عن إبلهما إلى خيلهما، فيتضاربوا وقد تنازلوا. "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 1062).
3 -
سبب آخر يذكره العلماء: أن امرأةً جاءت فوقفت عند باب المسجد في الكوفة لتسأل عن مسألة، فوجدت حماد بن أبي سليمان في حلقة يدرس، وأبو حنيفة في حلقة أُخرى، وأبو حنيفة قد وَهَبَه اللَّه قوةً في البيان وبلاغهًّ، وهذه إنما تأخذ بالألبَاب، وتؤثر في النفوس، فهذه المرأة اتَّجهت إلى هؤلاء، فسألتهم، فلم يجيبوها، ثم تحوَّلت إلى حماد فسألته فأجابها، فنقدت أولئك القوم
(1)
.
لكن الحقيقة أن أبا حنيفة عرض العلوم بين يديه، وأنه لو اشتغل بتدريس الصبيان الصغار، فماذا يحصل في علم الحديث؟ ربما يجرح، ويظل هذا الجرح يتناقله الناس جيلًا بعد جيل، وكلام العُلَماء في قضية الفقهاء الذين يعرفون بـ "مرجئة الفقهاء"، وفي المسألة التي دارت بين ابنه حماد وبين الإمام مالك، وأن ابنه وضح للإمام مالك -رحمهما اللَّه جميعًا- وجهة أبي حنيفة، وأن مالكًا ابتسم في ذلك كالراضي. . .
(2)
.
(1)
أخرجها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(13/ 333) إلى زفر بن الهذيل قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت انظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا، فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول، فأمرتها أن تسأل حمادًا، ثم ترجع تخبرني، فسألته فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت، فقد حلَّت للأزواج، فرجعت فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي، فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله ثم يعيدها سن الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة، فأحببت أن أعتزله، وأجلس في حلقةٍ لنفسي. . .
(2)
يُنظر: "مالك بن أنس إمام دار الهجرة" لعبد الحليم الجندي (ص 108) قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة: "أقمت عند مالك مدةً، فلما أردت الرجوع، قلت: لعل بعض الحساد ذكروا جدي عندك على خلاف ما كان عليه، فأذكر لك مذهبه، فإن كان فيه رضاك فذاك، وإلا فعظني: إن الإمام كان لا يخرج أحدًا من الإيمان بذنب، قال: أصاب، قلت: وكان يقول أكثر من هذا، وإن أصاب الفواحش، قال: أصاب، قلت: وكان لا يكفر قاتل النفس، قال: أصاب، فمن قال غير هذا فقد أخطأ =
إذًا، الفقهُ أمرُهُ مطلوبٌ، ولا يأتي إنسان ويقول: آخُذُ الفقهَ من الكتاب والسُّنَّة، وهذا الذي يأخذ الحكم من الكتاب والسُّنة هو مَنْ وَهَبه اللَّه باعًا واسعًا، وَرَسختْ قدمُهُ في العلم، ودرس الكتاب والسُّنة، وعرف -كما قال الإمام الشافعي- الناسخَ والمنسوخَ، والمطلقَ والمقيدَ، وكان عنده حظ من ذلك، وقد أتْنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضي الله عنهم، وبيَّن فضلهم ومكانتهم وغزير علمهم، فقال:"لَوْ أنفقَ أحدُكُم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه"، كما بَيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فالفقه في دين اللَّه مطلوب، سواء كان ذلك في فقه العقيدة، أو الفقه الذي نعرفه بالفروع، فهذا مطلوب من المسلم أن يتفقه فيه، وألا يأتي الإنسان فيتسرع في أمورٍ، إذ إنه يحفظ حديثًا أو آيةً فيقول بأنه عرف العلم، فيفتي ويتكلَّم؛ إنما يجب على المسلم ألا يتكلَّم إلا عن علمٍ وبيِّنةٍ فـ "مَنْ يرد اللَّه به خيرًا، يفقهه في الدِّين"
(2)
.
* قوله: (وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صِحَّةِ هَذَا الأَثَرِ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَحَامَوْنَ غَزْوَهُمْ)
(3)
.
الحديث الذي أوردت روايته هو حديث حسن في "سنن أبي داود"،
= وكذب. قال: بلغني أنه كان يقول: إيماني كإيمان جبريل، قلت: بلغك الباطل، كان يقول: إن اللَّه تعالى بعث جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما بعثه إلى مَنْ قبله، فأمره أن يدعو الناس إلى الإيمان، فالإيمان إيمان واحد لا إيمانان ولا ثلاثة، ولا إيمان هذا وإقرار ذا غير إيمان ذا وإقرار ذا، فتبسم كالراضي ولم يقل شيئًا. . . هكذا جادل مالكًا أبو حنيفة، ثم استمع مالك لحفيد أبي حنيفة".
(1)
أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541)، عَنْ أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 544) حيث قال: "وسئل مالك: هل بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذروا الحبشة ما تركوكم؟ "، قال: أما عن النبي عليه السلام فلا، ولكن قد سمعته يقال".
وربما في غيره
(1)
، وأيضًا قوله:"اتركوا الترك ما تركوكم، واتركوا الحبشة ما تركوكم"
(2)
. وإلى آخر الحديث الذي أوردت، هذا حديث حسن، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، فهو في "الصحيحين"
(3)
.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ
(4)
بِالعَدُوِّ
وَأَمَّا مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالعَدُوِّ، فَإِنَّ النِّكَايَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي الأَمْوَالِ، أَوْ فِي النُّفُوسِ، أَوْ فِي الرِّقَابِ، أَعْنِي: الاسْتِعْبَادَ وَالتَّمَلُّكَ).
العدوُّ أحيانًا يعاقب عن طريق المال، فقد يحرق ماله، ويستولى عليه، ويكون عن طريق الاستعباد وَهُوَ الاسترقاق الذي نعرفه، وقد تُفْرض عليه الجزية، وقَدْ يؤخذ منه الفدية، وَهذه كلُّها حصلت في الإسلام.
* قوله: (فَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي هِيَ الاسْتِعْبَادُ
(5)
):
قصد بالاستعباد أن يكون عبدًا؛ أي: يُسْترق ويملك إذا أسر،
(1)
أخرجه النسائي (3176)، وأحمد في "مسنده"(23155).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
"النكاية": أن يقتل أو يجرح، يقال: نكيت في العدو أنكي نكايةً بغير همز: إذا بالغت فيهم قتلًا وجرحًا. انظر: "النظم المستعذب" لابن بطال الركبي (2/ 280).
(5)
"التعبيد": الاستعباد، وهو أن يتخذه عبدًا. انظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 503).
فالحربي يُفْعل به عدة أُمور، منها: الاسترقاق الذي يتكلم عنه المؤلف في الاستعباد، لكننا نرَى أن الإسلامَ حضَّ على إعتاق الرقاب، ورغَّب فيها، وبَيَّن فضلها، وأن من كانت عنده جاريةٌ فأدَّبها، وأحسن تأديبها، ثم علمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها، فله أجره من الثواب
(1)
.
* قوله: (فَهِيَ جَائِرةٌ بِطَرِيقِ الإِجْمَاعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ المُشْرِكِينَ)
(2)
.
لا خلاف بين العلماء في الاسترقاق، لكن هل هذا على إطلاقه؟
هناك نوعٌ ممن يستولي عليهم المسلمون ليس أمامهم إلا الاسترقاق؛ كالصبيان والنساء؛ لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قَتْل النساء والصبيان
(3)
، وَفِي قصة غزوة بني المصطلق أن الرسول صلى الله عليه وسلم غار على بني المصطلق وهم
(1)
الشارح يُشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (97)، ومسلم (154) عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لهم أجران:
…
ورجل كانت عنده أَمَة فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران. . . ". الحديث.
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 621) حيث قال: "فأما جواز استرقاقهم، فلأنهم جنس مشركون، فجاز استرقاقهم إذا رآه الإِمام؛ كالنساء والعبيد والصبيان".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 246) حيث قال: "في حكم الأسر وأموال الحربيين. (نساء الكفار) غير المرتدات وإن لم يكن لهن كتابٌ فيما يظهر من كلامهم خلافًا للماوردي، أو كن حاملات بمسلم، ومثلهن الخناثى. (وصبيانهم) ومجانينهم حالة الأسر، وإن تقطع جنونهم. (إذا أسروا رقوا) بنفس الأسر، فخمسهم لأهل الخمس وباقيهم للغانمين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 626) حيث قال: " (ويجوز استرقاق مَنْ لا يقبل منه جزية) نصًّا؛ لأنه كافر أصلي، أشبه من تقبل منه الجزية (أو)؛ أي: ويجوز استرقاق مَنْ (عليه ولاء لمسلم) كغيره (ولا يبطل استرقاق حقًّا لمسلم) أو ذمي كقَوَد له أو عليه".
(3)
أخرجه البخاري (3014)، ومسلم (1744).
غارون أي: غافلون، فقتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم
(1)
؛ أي: نساءهم وأطفالهم.
* قوله: (أَعْنِي: ذُكْرَانَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ).
قصد أن الاستعبادَ لا يخص الرجال دون النساء، ولا الأطفال دون الكبار، ولا الكبار دون الصغار، فإنه يشمل كل هؤلاء، فهناك النساء والأطفال، وهناك الرجال من أهل الكتاب، وهناك النساء من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، أو مَنْ له شبهة كتاب وهم المجوس، وهناك عبدة الأوثان على اختلاف أنواعهم، فهؤلاء أنواع ثلاثة.
* قوله: (وَشُيُوخَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ؛ صِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ إِلَّا الرُّهْبَانَ، فَإِنَّ قَوْمًا رَأَوْا أَنْ يُتْرَكُوا، وَلَا يُؤْسَرُوا)
(2)
.
"الرهبان": وهم العُبَّاد الذين جلَسوا في الصوامع، وهو مكان العبادة، وانقطعوا للعبادة، وهي عبادة خاطئة؛ لأن واجبَهم أن يدخلوا
(1)
أخرجه البخاري (2541) واللفظ له، ومسلم (1730) بسنده قال: أخبرنا ابن عون قال: كتبت إلى نافع، فكتب إليَّ:"إن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية"، حدثني به عبد اللَّه بن عمر، وكان في ذلك الجيش.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (7/ 29) حيث قال: "قال: (ولا يقتل المسلمون في دار الحرب صبيًّا، ولا معتوهًا، ولا أعمى، ولا مقعدًا، ولا الرهبان، ولا أصحاب الصوامع، ولا النساء إلا أن يقاتلوهم، فيكون لهم قتل مَنْ قاتلهم منهم) ".
قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: ولا يقتل من الرهبان والسائحين مَنْ لم يخالط الناس من أصحاب الصوامع ممن قد طين الباب على نفسه، ولا يؤسرون، ولا تؤخذ منهم الجزية.
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 232) حيث قال: "ولا يقتل الرهبان وأهل الصوامع، وهذا فيمن اشتغل عن قتال المسلمين بعبادته، ولا قوة فيه، ولا بطش، ولا تدبير، ولا مضرَّة على المسلمين في بقائه، والشيخ الفاني، وبه قال أبو حنيفة".
في دين الإسلام، لكن هؤلاء انعزلوا، فلم يقاتلوا، وانصرفوا عن أُمور الدنيا.
* قوله: (بَلْ يُتْرَكُوا دُونَ أَنْ يُعْرَضَ إِلَيْهِمْ لَا بِقَتْلٍ وَلَا بِاسْتِعْبَادٍ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَذَرُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ"
(1)
).
هذا قول لأبي بكر، وهو وهمٌ من المؤلف، هذا هو المعروف عنه، وهو عندما أرسل الجيش وأوصى قادته بمثل هذا الكلام وأكثر منه وهو:"ألا يقتلوا شيخًا، ولا امرأةً، ولا طفلًا، ولا يقطع شجرةً. . . إلى آخره"
(2)
، لَكن قد يُقْطع الشجر، وقد يُوضَع أطفال أو نساء أمام العدو، ففي هذه الحالة ينظر إلى المصلحة.
* قوله: (وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ).
لو قال: "لفعل أبي بكر" لكان الكلام صحيحًا ومتسعًا.
* قوله: (وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الأُسَارَى فِي خِصَالٍ).
هَذِهِ مسألةٌ، فَمِنَ العلماء مَنْ فصَّلها، وقَسَّم هؤلاء الأسرَى إلى أقسامٍ ثلاثةٍ:
القسم الأول: هم النساء والصبيان، فهؤلاء لا يقتلون، وإنما
(1)
ليس مرفوعًا، وإنما من قول أبي بكر الصديق.
(2)
أخرجه مالك في (الموطإ)(2/ 447)، عن يحيى بن سعيد، "أن أبا بكر الصديق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أميرَ ربعٍ من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل، وما أنا براكب، إني أحتسب خُطَاي هذه في سبيل اللَّه، ثم قال له: إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم للَّه، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قومًا فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. . . ".
يسترقون؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل النساء والصبيان
(1)
، وكذلك الحديث المتفق عليه، وهو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون؛ أي: غافلون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم
(2)
.
القسم الثاني: الرجال من أهل الكتاب، ويُقْصد بهم اليهود والنصارى، ومَنْ عنده شبهة كتاب وهم المجوس، فهؤلاء يخير الإمام في شأنهم بواحدٍ من أُمور أربعة: إما أن يقتلهم، وإما أن يمنَّ عليهم دون عوض، وإما أن يأخذ منهم الفداء، وإما أن يسترقهم. . . هذه مسألةٌ متفقٌ عليها.
القسم الثالث: هو عَبدَة الأوثان الذين يعبدون الأصنام والأشجار إلَى آخره. . . وغير هؤلاء، وَهَذا فيه خلافٌ، فمن العلَماء مَنْ قال: للإمام أن يختار واحدًا من ثلاثة: إما أن يقتلهم، أو يمنَّ عليهم دون عوض، أو يأخذ الفداء.
ثمَّ نأتي إلى استرقاقهم، فبَعْضهم قال: يسترقون، فيكونون كالقسم الثاني، وهؤلاء هم الشافعية
(3)
، ورواية عن الحنابلة
(4)
، وقول
(1)
أخرجه البخاري (3015)، ومسلم (1744).
وينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 337) حيث قال: و"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قَتْل النساء والصبيان"، وأجمع العلماء على القول بذلك.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 247) حيث قال: " (ويجتهد الإمام) أو أمير الجيش (في) الذكور (الأحرار الكاملين)؛ أي: المكلفين إذا أسروا، (ويفعل) وجوبًا، (الأحظ للمسلمين) باجتهاده لا بتشهيه، (من قتل) بضرب العنق لا غير للاتباع، (ومن) عليهم بتخلية سبيلهم من غير مقابل، (وفداء بأسرى) منا أو من الذميين على الأوجه، ولو واحدًا في مقابلة جمع منا أو منهم، (أو مال) فيخمس وجوبًا أو بنحو سلاحنا، ويفادي سلاحهم بأسرانا على الأوجه لا بمال إلا إن ظهرت فيه المصلحة ظهورًا تامًا من غير ريبة فيما يظهر، ويفرق بينه وبين منع بيع السلاح لهم مطلقًا بأن ذلك فيه إعانتهم ابتداء من الآحاد، فلم ينظر فيه لمصلحة، وهذا أمر في الدوام يتعلَّق بالإمام، فجاز أن ينظر فيه إلى المصلحة، (واسترقاق) ".
(4)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (2/ 209، 210) حيث قال: "ويخير إمام في =
للمالكية
(1)
، ومذهب المالكية فيه تفصيل.
والحنابلة لهم رواية أُخرى وهي المشهورة: "أن الاسترقاق لا يكون في حق عبدة الأوثان، وإنما واحد من ثلاثة: القتل، أو المن دون عوض، أو أخذ الفداء
(2)
.
أما الحنفية رحمهم الله فإنهم يرون: "أن الإمام مخيرٌ بين أمرين لا زيادة على ذلك، إما القتل وضرب الرقاب، وإما الاسترقاق"، أما المنُّ والفداء فلا
(3)
؛ لقول اللَّه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهي بَعْد قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فَهذه قضت على تلك.
= أسير حر مقاتل بين قتل ورق وفداء بمال، ويجب اختيار الأصلح للمسلمين، فقتل أولى ومَنْ فيه نفع، ولا يقتل كأعمى وامرأة وصبي ومجنون ونحوهم؛ كخنثى رقيق بسبي، وعلى قاتلهم غرم الثمن غنيمة، والعقوبة والقن غنيمة، ويقتل لمصلحة، ويجوز استرقاق مَنْ لا يقبل منه جزية أو عليه ولاء لمسلم، ولا يبطل استرقاق حقًا لمسلم، ولتعين رق بإسلام عند الأكثر".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 184) حيث قال:" (كالنظر) من الإمام بالمصلحة للمسلمين (في الأسرى) قبل قسم الغنيمة (بقتل)، وبحسب من رأس الغنيمة (أو من) بأن يترك سبيلهم، ويحسب من الخمس (أو فداء) من الخمس أيضًا بالأسرى الذين عندهم أو بمال (أو) ضرب (جزية) عليهم، ويحسب المضروب عليهم من الخمس أيضًا (أو استرقاق) ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 221) حيث قال: "الثالث: الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية، فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء: القتل، أو المن، والمفاداة، ولا يجوز استرقاقهم، وعن أحمد جواز استرقاقهم".
(3)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 384) حيث قال: "وهو في الأسارى بالخيار؛ إن شاء قتلهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد قتل، ولأن فيه حسم مادة الفساد، وإن شاء استرقهم؛ لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم أحرارًا ذمة للمسلمين لما بيناه إلا مشركي العرب والمرتدين على ما نبيِّن إن شاء اللَّه تعالى.
ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب؛ لأنَّ فيه تفويتهم على المسلمين، فإن أسلموا لا يقتلهم لاندفاع الشر بدونه، وله أن يسترقهم توفيرًا للمنفعة بعد انعقاد سبب الملك بخلاف إسلامهم قبل الأخذ؛ لأنه لم ينعقد السبب بعد، ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة رحمه الله".
فالحنفيَّة يرون أحد أمرين: إما القتل أو الاسترقاق، وأما أن يمن عليهم دون عوض، فهذا قول للمالكية
(1)
، وفي رواية: بعوض
(2)
؛ لأنه لا مصلحة فيه، وإنما يثبت أن يكون فيه عوض.
* قوله: (مِنْهَا أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ).
هذا صنف آخر أشار إليه المؤلف، والحسن البصري
(3)
، وسعيد بن جبير
(4)
، وعطاء
(5)
، فقد قالوا: يُكْره قتل الأسرى؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر عندما أسر المسلمون الجمعَ الكثير من المشركين، فالرسول صلى الله عليه وسلم مَنَّ على بعضهم، وأخذ الفداء من البعض الآخر، ولأنَّ اللَّه تعَالَى يقول:{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فيكون بعد الأسر إما المن، وإما الفداء، فاللَّه تعالى خيَّر بين أمرين: إما أن يمن عليهم فيتركهم دون عوض، وإما أن يأخذ منهم العوض، وسنعلق على هذا القول ونبين ضعفه؛ لأنه ثَبتَ أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخذ الفداءَ
(6)
، وثبت عنه أيضًا أنه قتلَ بعض الأسرى
(7)
.
* قوله: (وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُمْ).
أي: يَسْترقهم.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 184) حيث قال: " (أو من) بأن يترك سبيلهم".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 184) حيث قال: " (أو من) بأن يترك سبيلهم، ويحسب من الخمس (أو فداء) من الخمس أيضًا بالأسرى الذين عندهم أو بمال".
(3)
أخرجه عبد الرزَّاق في "المصنف"(9393) عن معمر، عمن سمع الحسن يقول:"لا يقتل الأسارى إلا في الحرب، نهيب بهم"، وأخرجه أبو عبيد في "الأموال"(322)، عن الحسن أنه كره قتل الأسير، وقال: منَّ عليه أو فاده.
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 221) حيث قال: "وحُكِيَ عن الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير، كراهة قتل الأسرى".
(5)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(323).
(6)
سيأتي.
(7)
سيأتي.
* قوله: (وَمِنْهَا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ الفِدَاءَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمُ الجِزْيَةَ).
كما قال اللَّه سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الأَسِيرِ).
هذا هو قول الحسن البصري
(1)
والنخعي وعطاء
(2)
، واستدلوا بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية:{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، فخيَّر اللَّه تعالى بين أمرين بعد الأسر.
قوله: "شدوا الوثاق"؛ أي: ضَعُوا الوثاقَ فيهم؛ فإما منًّا بعد، وإما فداءً، حتى تضع الحرب أوزارها، لكن هل هذا على إطلاقه؟
نحن نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، وكذلك قتل النضر بن الحارث، وغيرهما
(3)
، فحصل القتل، فهؤلاء أسرى قَتلَهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأيضًا مَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ثُمَامة بن سعد
(4)
، فهذا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3801) عن ابن عباس قال: "قَتلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثةً صبرًا، قتل النضر بن الحارث من بني عبد الدار، وقتل طعيمة بن عدي من بني نوفل، وقتل عقبة بن أبي معيط".
(4)
أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يُقَال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ "، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له:"ما عندك يا ثمامة؟ "، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:"ما عندَك يا ثُمَامة؟ "، فقال: عندي ما قلت لك، فقال:"أطلقوا ثمامة. . . ". الحديث.
مثالٌ فيه المن، والقصة التي وردت في ذلك وقعت في بدر، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فيما يتعلَّق بهذه الأسرى، وهذا يبين لنا مكانة الشورى في الإسلام، فإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي كان ينزل عليه الوحي يستشير الناس في أُمور تتعلَّق بمسيرة الدولة وبأمور المسلمين وأحوالهم، فما بالك بغيرهم.
فَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُطبِّق ما جاء في كتاب اللَّه عز وجل {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، فالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في هَؤُلَاء الأسرى، فَيَقوم أبو بكرٍ فيقول: أهلُك يا رسول اللَّه، وعشيرتُك، ويطلب أن يمنَّ عليهم، ثم يأتي عمر فيقف ويقول: يجب أن تقطع رقابهم، ثمَّ ينزل القرآن مؤيدًا لرأي عمر، لكن بعد تنفيذ الحكم، ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68]، فيلقى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمر فيقول:"كَادَ أن يصيبنَا بلاءٌ"
(1)
.
هذه من المواضع التي أوردها العلماء، والتي نزل فيها القرآن مؤيدًا لرأي عمر.
(1)
أخرجه مسلم (1763)، حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن المبارك، عن عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب: لما كان يوم بدر، نظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا. . . قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ وعمر:"ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ "، فقال أبو بكرٍ: يا نبي اللَّه، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى اللَّه أن يهديهم للإسلام، فَقَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يابن الخطاب؟ "، قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتُمَكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان نسيبًا لعمر، فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. . . وأنزل اللَّه عز وجل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} ، فأحلَّ اللَّه الغنيمة لهم.
فَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نجد أنه مَنَّ على البعض، بَل من الذين مَنَّ عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلٌ، قال: يا رسول اللَّه، لي خمس من البنات لا عائل لهن غيري، فيَمُن عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم يعود إلى مكة، فيأتي الكفار في غزوة أُحُد فيعدونه بالأموال الكثيرة، وبالمكانة، فينصرف وراء حب الدنيا، فيقع في أسر المسلمين وحده يوم أُحُدٍ، ولم يؤسر من المشركين غيره، فيأتي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيُكرِّر ما قال، ويَطْلب من الرسول أن يمنَّ عليه لإعالته خمس بنات، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بضرب عنقه، وقَالَ:"لا تَمْسح عارضيك بمكة تقول: سَخرتُ بمُحمَّدٍ مرَّتين؟ "، وأمر به فقتل، وقال:"لا يُلْدغ المؤمن من جحرٍ مرَّتين"
(1)
.
إذًا، رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنَّ على هذا الرجل، لكنه ما وفَّى بعده، فكانت النتيجة أنه خان اللَّه ورسوله والمؤمنين، فكانت النهاية قطع عنقه؛ لأنه خان العهد الذي التزم به، فلم يوفِّه، وَبِهَذَا نتبيَّن أن المسلك الذي سلكه جمهور العلماء هو في نظرنا المسلك الرشيد، وأنَّ الإِمَامَ بالنسبة للنساء والأطفال لا يقتلون؛ لأنه لا يجوز قتلهم، إذْ نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، وقد جاء التفصيل الذي ذكرناه في هذه المسألة، وهو أولى بالرشد، وهو الذي تلتقي حوله النصوص التي وردت في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلَّق بهذا الموضوع.
* قوله: (وَحَكَى الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ
(2)
، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الآيَةِ فِي هَذَا المَعْنَى).
(1)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(9/ 111).
(2)
يُنظر: "تيسير البيان لأحكام القرآن" لابن نُور الدِّين (4/ 148) حيث قال: "وبهذا المعنى يقول من مغ قتل الأسارى، ولكن يمن عليهم، أو يفادوا.
قال الحسن البصري: دفع الحجاج أسيرًا إلى ابن عمر ليقتله، فقال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنه: ليس بهذا أمرنا اللَّه عز وجل، فقرأ:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} .
ويحكى عن عطاء والضحاك.
وادَّعى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم".
السَّببُ في الاختلاف: هل يُقْتل الأسير؟ أم يمنُّ عليه؟ أم يطلب منه الفداء؟ هذا هو السبب.
* قوله: (وَتَعَارُضُ الأَفْعَالِ).
أي: تعارض الآيتين في هذا {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، ظاهر هذه الآية أن الأفضل والأولى هو قتل الأسير، والآية الأُخرى:{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، فهنا المَنُّ والفداءُ، وهناك القتل، فَهَاتان الآيتان التي يشير المؤلف إليهما.
* قوله: (وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الكِتَابِ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآيَةَ [محمد: 4] أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الأَسْرِ إِلَّا المَنُّ أَوِ الفِدَاءُ).
"ظَاهر الكتَاب"؛ أي: ما يظهر؛ لأن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء من الأسرى أربعة آلاف من كل واحد، والآية تقول:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].
فأحرَى بالمؤلف أن يأتي بهذا الشاهد {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].
* قوله: (وقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيَةَ [الأنفال: 67]، وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ القَتْلَ أَفْضَلُ مِنَ الاسْتِعْبَادِ).
لَكن اللَّه سبحانه وتعالى وَإنْ كان أخذ على المؤمنين، ورخَّص لهم في ذلك، وأقرَّ هذا الحكم، فأصبح حكمًا ثابتًا في هذه الشريعة؟
وَالإمَامُ في هذا المقام ينظر الأصلح للدولة الإسلامية، وفي غير ما مَوْطنٍ ذَكرتُ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، وطلب من
الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمنَّ عليه، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل لعداوته للَّه ولرسوله وللمؤمنين
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا هُوَ عليه الصلاة والسلام فَقَدْ قَتَلَ الأُسَارَى فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ).
الرسول صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وطعيمة بن عزيز، وقتل عددًا كبيرًا من بني قريظة عندما نقضوا عهدهم، فَحَاربهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . فالقتلُ ثابتٌ.
* قوله: (وَقَدْ مَنَّ وَاسْتَعْبَدَ النِّسَاءَ).
الرسول صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أبي عزة الشاعر، لكن أبا عزة نقض عهده مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقع في أيدي المؤمنين يوم أُحُدٍ فقُتِلَ
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 110) عن سهل بن أبي حثمة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسارى حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط، فجعل عقبة بن أبي معيط يقول: يا ويلاه، علام أقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بعداوتك للَّه ولرسوله"، فقال: يا محمد، منك أفضل، فاجعلني كرجلٍ من قومي إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت عليَّ، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد مَنْ للصبية؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"النار يا عاصم بن ثابت، قدمه فاضرب عنقه"، فقدمه فضرب عنقه.
وأَخْرَجه أبو داود (2686)، ولفظه:"عن ابن مسعودٍ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: مَنْ للصبية؟ قال: "النار". وقال الأَلْبَانيُّ: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، كلهم رجال الشيخين. انظر: "الإرواء" (5/ 40).
(2)
أخرجَه البيهقي في "الكبرى"(9/ 111)، عن سعيد بن المسيب قال: أمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأسارى يوم بدرٍ أبا عزة عبد اللَّه بن عمرو بن عبد الجُمَحي، وكان شاعرًا، وكان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن لي خمس بنات ليس لهن شيءٌ، فتصدق بي عليهن، ففعل، وقال أبو عزة: أعطيك موثقًا ألا أقاتلك، ولا أكثر عليك أبدًا، فأرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت قريش إلى أُحُدٍ، جاءه صفوان بن أمية، فقال: اخرج معنا، فقال: إني قد أعطيت محمدًا موثقًا ألا أقاتله، فضمن صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل، وإن عاش أعطاه مالًا كثيرًا، فلم يزل به حتى خرج مع قريش يوم أحد، فأُسِرَ ولم يؤسر غيره من قريش، فقال: يا محمد، إنما أخرجت كرهًا =
* قوله: (وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْبِدْ أَحْرَارَ ذُكُورِ العَرَبِ
(1)
، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ عَلَى اسْتِعْبَادِ أَهْلِ الكِتَابِ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ)
(2)
.
هذا أمرٌ لا خلاف فيه: أنَّ أهل الكتاب يستعبدون؛ أي: يُسْترقون.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الآيَةَ الخَاصَّةَ بِفِعْلِ الأُسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ، قَالَ: لَا يُقْتَلُ الأَسِيرُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الأَسِيرِ، وَلَا المَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالأُسَارَى، بَلْ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ حُكْمٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الآيَةِ، وَيَحُطُّ العُتْبَ الَّذِي وَقَعَ فِي تَرْكِ قَتْلِ أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ: بِجَوَازِ قَتْلِ الأَسِيرِ).
وَهُوَ الَّذي جاء في الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} [الأنفال: 67].
* قوله: (وَالقَتْلُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ بَعْدَ تَأْمِينٍ).
أي: القَتلُ إذا لم يكن أمانٌ، أما إذا أمن الإمام أحد المسلمين ممن
= ولي بنات، فامنن عليَّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟ لا، واللَّه لا تمسح عارضيك بمكة تقول: سخرت بمحمد مرتين"، قال سعيد بن المسيب: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المؤمنَ لا يُلْدغ من جحرٍ مرَّتين، يا عاصم بن ثابت قدِّمه فاضرب عنقه"، فقدمه فضرب عنقه.
(1)
يُنظر: "الأموال" للقاسم بن سلام (ص 177) حيث قال: "فهذه أحكام الأسارى: المن والفداء والقتل، وكانت هذه في العرب خاصة؛ لأنه لا رقَّ على رجالهم، وبذلك مَضتْ سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه لم يسترق أحدًا من ذكورهم، وكذلك حكم عمر فيهم أيضًا حتى رد سبي أهل الجاهلية وأولاد الإماء منهم أحرارًا إلى عشائرهم على فدية يؤدونها إلى الذين أسلموا، وهم في أيديهم، قال: وهذا مشهور من رأيه".
(2)
يُنظر: "تيسير البيان لأحكام القرآن" لابن نُور الدِّين (4/ 149) حيث قال: "وأجمعت الصحابة -رضي اللَّه تعالى عنهم- على استعباد أهل الكتاب، ذكورهم وإناثهم".
يكون له الأمان؛ لأنه يُشْترط فيمن يكون له الأمان أن يكون مسلمًا، فمعنى هذا أنَّه لا يُقْبل أمان الكافر، وأن يكون بالغًا، فالصغير لا يُقْبل منه، وهناك كَلَامٌ للعلماء بالنسبة للصغير المميز، فالمُرَاد: هل يُقْبل أمانه أم لا؟ وكذلك المجنون، وأن يكون مختارًا؛ لأن الإنسان قد يؤمن أحدًا خوفًا، ويُكْرَه على ذلك، فهذا الأمان لا يعتدُّ به، وهذا على خلاف ما سيأتي، فلا فرق بين الذكر والأنثى على الرأي الصحيح عند الجمهور، وبين الحر والعبد، وسيأتي الخلاف في هذا، لكن إذا ثبت الأمان، فلا يجوز أن يقتل المستعبد، ولا أن يؤخذ ماله، أَيْ: يحرم قَتْله في هذه الحالة، ويَحْرم ماله، ولا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأنه مُعْطًى الأمان، وستأتي الأدلة إن شاء اللَّه.
* قوله: (وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجُوزُ تَأْمِينُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ).
لَا خِلَافَ بينَ المُسْلمين أنَّ من أُعْطي الأمان، ينفذ فلا يقتل، ولا يؤخذ ماله، ولا يُعْتَدى عليه
(1)
.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْمِينِ الإِمَامِ).
فالإمَامُ له الحقُّ مطلقًا أن يؤمن مَنْ يشاء.
* قوله: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ الرَّجُلِ الحُرِّ المُسْلِمِ
(2)
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 337) حيث قال: "ولا أعلم خلافًا أن من أمن حربيًّا بأي كلام يفهم الأمان؛ فقد تم له الأمان".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 185) حيث قال: "الحاصل أن من كَمُلت فيه ستة شروط وهي: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والذكورية وعدم الخوف منهم إذا أعطى أمانًا كان كأمان الإمام في الجواز". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 36).
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 266) حيث قال: " (يصح من كل مسلم مكلف) وسكران. (مختار) ". =
إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْنِ المَاجِشُونِ يَرَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ الإِمَامِ)
(1)
.
هَذا لا خلافَ فيه أيضًا؛ لأنَّ هذا أمرٌ مجمعٌ عليه، وقَدْ حصل في أمثلةٍ كثيرةٍ.
وقَوْل ابن الماجشون ضعيفٌ لا يُلْتفَت إليه أمام قول كافة العلماء، بل يُعْتَبر قولًا شاذًّا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَانِ العَبْدِ وَأَمَانِ المَرْأَةِ).
هناك خلاف في أمان العبد، والعبد الأصل فيه أنه مسترق:
فمن العلماء مَنْ يرى أنه لا يقبل أمان العبد إلا أن يقاتل، وهو مذهب الحنفية
(2)
.
وجمهور العلماء وفيهم الأئمة الثلاثة (مالك
(3)
، والشافعي
(4)
،
= يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 652) حيث قال: " (وشرط) للأمان (كونه من مسلم)، فلا يصحُّ من كَافِرٍ ولو ذميًّا أو مستأمنًا؛ لأنه غير مأمون علينا (عاقل)، فلا يصح من طفل أو مجنون لأنه لا يدري المصلحة (مختار)، فلا يصح من مكره عليه كالإقرار والبيع (غير سكران)؛ لأنه لا يعرف المصلحة".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 185) حيث قال: " (قوله: تأويلان) سببهما قول "المدونة" قول مالك: أمان المرأة جائز ابن القاسم، وكذا عندي أمان العبد والصبي إذا كان الصبي يعقل الأمان. وقال ابن الماجشون: يَنظر فيه الإمام بالاجتهاد ابن يونس، جعل عبد الوهاب قول ابن الماجشون خلافًا، وجعله غيره وفاقًا، فقوله: أمانها جائز، أراد بالجواز بعد الوقوع لا إباحة الإقدام عليه ابتداءً".
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 185) حيث قال: "إذا نزلوا بأمان (على) مقتضى (حكم مَنْ نزلوا على حكمه إن كان) من نزلوا على حكمه (عدلًا) فيما حكموه فيه من تأمين أو نحوه، وإن لم يكن عدل شهادة، فيشمل العبد والصغير كذا قيل، والتحقيق أن المراد به عدل الشهادة، فغيره من صغيرٍ وعبدٍ وأمراةٍ داخل تحت قول المصنف".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 266) حيث قال: " (يصح من كل مسلم مكلف) =
وأحمد
(1)
)
(2)
يرون: أن أمانَ العبد ثابتٌ، وأنه واقعٌ ونافذٌ.
فَجُمْهورُ العلَماء يرون أن للعبد أن يؤمن غيره، والحنفية يُقيِّدون ذلك بشرط أن يكون مقاتلًا، فإن لم يكن قد أذن له سيده بالقتال فلا، ويعللون ذلك بعلة أُخرى، فيقولون: لا يُؤْمن أن هذا العبد الذي أمَّن غيره قد يميل إلى أولئك الأقوام؛ لأنه ربما يكون من جنسهم، فهو مُتَّهمٌ في هذه الناحية. . لكن هذا التعليل الذي ذكر يرد عليه فيما لو كان مقاتلًا؛ لأنه ما دام يأذن له بالأمان إذا كان مقاتلًا، فالتُّهمة ترد، لكن الأصل فيمن يدخل الإسلام عدم التُّهمة، هذا هو الواجب أن يعتقد في كل مُؤْمنٍ ما لم يثبت خلاف ذلك.
* قوله: (فَالجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ
(3)
، وَكَانَ ابْنُ المَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ يَقُولَان: أَمَانُ المَرْأَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْن الإِمَامِ)
(4)
.
معَ أن سحنون له تفصيلٌ في هذه المسألة، وكلاهما من المالكية.
= وسكران. (مختار) ولو أمة لكافر وسفيهًا وفاسقًا وهرمًا؛ لقوله في الخبر: "يسعى أدناهم"؛ ولأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان عبدٍ على جميع الجيش لا كافرًا لاتهامه، وصبيًّا ومجنونًا ومكرهًا كسائر العقود، نعم من جهل فساد أمان أولئك يعرف ليبلغ مأمنه".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 652) حيث قال: " (وشرط) للأمان (كونه من مسلم)، فلا يصح من كافر ولو ذمِّيًّا أو مستأمنًا؛ لأنه غير مأمون علينا (عاقل)، فلا يصح من طفل أو مجنون؛ لأنه لا يدري المصلحة (مختار) فلا يصح من مكرهٍ عليه كالإقرار والبيع (غير سكران)؛ لأنه لا يعرف المصلحة (ولو كان قنًّا أو أنثى أو مميزًا)، فلا تشترط حريته، ولا ذكوريته، ولا بلوغه (أو أسيرًا) ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 36) حيث قال: "وأمان العبد والمرأة عند الجمهور جائز".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 337) حيث قال: "ولا أعلم خلافًا أن مَنْ أمن حربيًّا بأي كلام يفهم الأمان؛ فقد تم له الأمان، وأمان الرفيع من الوضيع جائز عند جميعهم، وكذلك أمان العبد والمرأة عند جمهورهم".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 36) حيث قال: "وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام له، فإن أجازه له جاز، فهو قول شاذ لا أعلم قال به غيرهما من أئمة الفتوى".
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ العَبْدِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ)
(1)
.
قيَّد أبو حنيفة ذلك بالمقاتلة؛ لأنه إذا قاتل أصبح بمنزلة الحر، ويعلِّلون ذلك بأنه كيف يؤمن غيره ولم يجاهد؟! وكما قلنا هو متهمٌ، ولكن التهمة ترد أيضًا فيما يتعلَّق فيما لو أذن له بذلك.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْقِيَاسِ، أَمَّا العُمُومُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ"
(2)
).
هذا حديثٌ عظيمٌ، وقد قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة عندما كان يخطب الناس مستندًا إلى الكعبة:"المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويَسْعى بذمَّتهم أدنَاهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم".
وجه الدِّلالة من الحديث: هذَا الحَديث يدل على وجود التكافؤ، أي: التساوي بين الأحرار، فلا فرقَ بين شريفٍ ووضيعٍ، لا فرقَ بينهم في القِصَاصِ، وفي القول فإنَّهم يَتسَاوون في ذلك في حكم الإسلام، أما في الجاهلية فلَمْ تكن الحالة كذلك، ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة المائدة مخاطبًا رَسُوله صلى الله عليه وسلم:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49].
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 465) حيث قال: "ولا يصح أمان العبد المحجور عليه عند أبي حنيفة إلا أن يأذن له مولاه في القتال".
(2)
أخرجَه أبو داود (4530)، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(3475) عن قيس بن عباد، قال: انطلقت أنا والأشتر إلى عليٍّ عليه السلام، فقلنا: هل عَهِدَ إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا. قال مسدد: قال: فأخرج كتابًا. وقال أحمد: كتابًا من قراب سيفه، فإذا فيه:"المؤمنون تتكافَأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، مَنْ أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومَنْ أحدث حدثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين".
فَجَاء الإسلام، فقَضى على أحكام الجاهلية وما كان فيها من أحكامٍ، أما القراض وهي المضاربة، فإنَّ الإسلام قد أقرَّها وهذَّبها، أما الأحكام الجائرة التي كانت تَقُومُ على الظلم والاستعباد والذل، وعلى التعدي كالحال بالنسبة للمرأة، وبالنسبة للربا والقتل؛ فإنهم كانوا إذا قتل شريفٌ وضيعًا، ذهب دمه هدرًا، ولو قتل وضيعٌ شريفًا، لا يكفي هذا الوضيع أن يقتل فيه؛ بل لا بدَّ أن يؤخذَ عددٌ من قبيلته، وهذا لا شكَّ جورٌ وظلمٌ جاء الإسلام فأبطلَه، يقُول اللَّه سبحانه وتعالى في سورة البقرة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة: 178].
فاللَّه سبحانه وتعالى قد بيَّن هذا الحكم: الحر بالحر، فلا فرق بين كبير وصغير، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين عزيز ومغمور، فَكلُّهمْ سواسية في هذه الحقوق، وإنما يَتَميَّزون بأُمورٍ أُخرى، أما في هذا الحق فلا، والعبد بالعبد لأنه يساويه، والأنثى بالأنثى كذلك، وجاءت سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لتقرر تلك الأحكام وتبينها بيانًا شاملًا، وتبيَّن أن المسلمَ لا يُقْتل بكافرٍ، فهذه الشريعة جاءت، وَطَمست معالم الجاهلية، ونقلت المسلمين إلى هذه الشريعة التي فيها حياة قلوبهم وأرواحهم، كما أن بالماء حياة أبدانهم، يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فَهَذا القرآن فيه حياةٌ للقلوب، وفيه حياةٌ للأرواح؛ لأنه أنار للمسلم طريقه، وأضاء له قلبه، فإذا ما أخلص عبادته للَّه سبحانه وتعالى، سار في طريقٍ سويٍّ لا عوج فيه.
فقوله: "تتكافأ دماؤهم"؛ أي: يَتسَاوون في هذا الأمر، "ويَسْعى بذمَّتهم أدناهم"، هذا يشمل المرأة، ويشمل العبد، ويشمل الصحيح والمريض، والمجنون والصغير، لَكنَّنا نجد أنَّ المجنونَ والصغيرَ أُخْرجَا من ذلك بأَدلَّةٍ أُخرى، وبَعْضُ هذه الأدلة بالإجماع، و"يسعى بذمتهم أدناهم"، فإن من أدناهم المرأة، وكذلك العبد، وليس معنى "أدناهم" أن هؤلاء أقل في أُمور العبادة، فاللَّه تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فربما إنسان مملوك لا أثْرَ له في المستقبل يرفعه اللَّه سبحانه وتعالى درجات، ويحط آخَرَ له من المكانة العظيمة؛ لأن هذا سار على الطريق السوي، وذاك ركب طريق الغواية، فافترقا في هذا المقام.
لَكن الأمر هنا فيما يتعلَّق بأدناه أي: فيما يتعلَّق بأحكام الأمان التي معنا، وهذا الدُّنوُّ إنما نسب إلى أمرٍ آخرَ؛ لأنه عندما تكلَّمنا عن أسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية، وذلك عندما تكلمنا عن القصر، أو في أحكام المسافر، رأينا أن العلماءَ رتَّبوا قاعدةً معروفةً:"المشقَّة تجلب التيسير"، وأن أسبابَ التخفيف سبع:"هي: المرض والسفر والنسيان والإكراه والخطأ والنقص وعموم البلوى"
(1)
، فالعبد والمرأة العلة فيهما النقص، فنجد أن اللَّه سبحانه وتعالى خفف عن كلِّ واحدٍ منهما بعضَ الأحكام، فَالمَرأةُ لَا تجب علَيها جمعةٌ، ولا جماعةٌ، وإِذا حاضت فإنها تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، والعبيد أيضًا تُخفَّف عنهم الحدود، ولا يلزمهم الجهاد. . . إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة المعروفة في هذا المقام.
فَالنَّقْصُ مَوْجودٌ، لكن هذا النقص لا تأثيرَ له فيما يتعلَّق بالأمان، وإنما هذا من بَاب التخفيف؛ لأنَّ المرأة -كما هو معلوم- عورةٌ وضعيفةٌ، فلا جهاد عليها، وكذلك العبد منافعُهُ مملوكة لغيره، فليس له التصرف في نفسه، وإذا أصبح مكاتبًا، فإنه يتصرَّف في حدود، وكذلك من أعتق نصفه
(1)
يُنظر: "غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 245 - 248) حيث قال: "القاعدة الرابعة: المشقَّة تجلب التيسير، والأصل فيها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وحديث: "أحبُّ الدِّين إلى اللَّه تعالى الحنيفية السمحة". قال العلماء: يتخرَّج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة، الأول: السفر. . . الثاني: المرض؛ ورخصه كثيرة؛ التيمم عند الخوف على نفسه. . . الثالث: الإكراه الرابع: النسيان. . . الخامس: الجهل. . . السادس: العسر وعموم البلوى؛ كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها".
يتصرف في حدود هذا النصف، وهكَذا أحكام الشريعة كلها منسقة ومرتبة تسعى لما فيه مصلحة الناس، وسعادتهم، وإقامة العدل بينهم.
إذن، "ويَسْعى بذمَّتهم أدنَاهم"، وأدناهم: العبد والمرأة، ففي هذا الحديث دلالةٌ على أن أمانَ العبد يُقْبل، وثبتَ في ذلك أثر عن عمر أنه جهز جيشًا للقتال، فمروا بحصنٍ من الحصون فامتنع عليهم، فكانوا قد أقدموا على فتحه، فتقدم عبدٌ (أي: مملوك)، فتكلَّم مع أَهْل ذلك الحصن وبلُغَتهم حتى جَاء في الأثر أنه تكلَّم (يعني: بلغتهم)، ثم اتفق معهم، فكتب لهم صحيفةَ أمانٍ، فألقَاها عليهم، فلما بلغ ذلك عمر، أقرَّ ذلك وقال:"العبد من المسلمين له ذمته"
(1)
.
هذا وقع من عمر، وأقرَّ ذلك، فبهذا يتبيَّن أن العبد له أمان كالحال بالنسبة للحر؛ لأنه مسلم، وكرامته ككرامة أخيه المسلم الحر، لا فرق بينهما.
وأما قوله: "يدٌ على مَنْ سواهم"، فالأدلة تدل على ذلك، منها قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].
والحديث: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجَسَد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تدَاعى له سَائرُ الجَسَد بالسَّهر والحُمَّى"
(2)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في (سننه)(2/ 274) عن فضيل بن زيد الرقاشي، قال: حاصرنا حصنًا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرمى عبدٌ منا بسهم فيه أمان، فخرجوا، فقلنا: ما أخرجكم؟ فقالوا: أمنتمونا، فقلنا: ما ذاك إلا عبد، ولا نجيز أمره، فقالوا: ما نعرف العبد منكم من الحر، فكتبنا إلى عمر رضي الله عنه نسأله عن ذلك، فكتب: إن العبد رجل من المسلمين، ذمته ذمتكم.
(2)
أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، واللفظ له.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا"
(1)
.
فالمُسْلمون دائمًا يتعاونون فيما بينهم، لكن التعاون الذي بينهم ينبغي أن يكون كما قال اللَّه تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، لا ينبغي أن يكون التعاون بين المسلمين مبنيًّا على عصبيةٍ أو قبليةٍ، أو على وطنيةٍ وعنصريةٍ؛ وإنما يُبْنى على التعاون بينهم في بلاد الإسلام:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميمِ
(2)
هذا هو الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
* قوله: (فَهَذَا يُوجِبُ أَمَانَ العَبْدِ بِعُمُومِهِ).
فدلَّ هذا الحديث بعمومه على أمان العبد، ودل الأثر الذي أَوْرَدتُ لكم في قصة الجيش الذي دفع أن عمر أقرَّه
(3)
، ولم ينكر أحدٌ من الصحابة، فكان ذلك حكمًا مستقرًّا.
* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ المُعَارِضُ لَهُ، فَهُوَ أَنَّ الأَمَانَ مِنْ شَرْطِهِ الكَمَالُ).
مِنَ العُلَماء مَنْ يقول: إن العبدَ ناقص؛ لأنه لا يتصرف في نفسه
(1)
أخرجه البخاري (2446)، ومسلم (2585).
(2)
يُنظر: "المخصص" لابن سيده (4/ 111) حيث قال: "وقال نهار بن توسعة:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في (سننه)(2/ 274) عن فضيل بن زيد الرقاشي، قال: حاصرنا حصنًا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرمى عبدٌ منا بسهم فيه أمان، فخرجوا، فقلنا: ما أخرجكم؟ فقالوا: أمنتمونا، فقلنا: ما ذاك إلا عبد، ولا نجيز أمره، فقالوا: ما نعرف العبد منكم من الحر، فكتبنا إلى عمر رضي الله عنه نسأله عن ذلك، فكتب: إن العبد رجل من المسلمين، ذمته ذمتكم.
أي: سلطةُ غيره نافذةٌ عليه، فلا مال له، ولا يملك، وإنْ ملكه سيده يملك أو لا، وليس له أن يتصرف في أمورٍ إلا بإذنٍ من سيده، ومنها أيضًا الجهاد فهو ناقص؛ لأن تصرفه ناقص، إذ العبودية مفروضة عليه، ومن هنا كان ناقصًا، لكننا نَقُول: هو مسلمٌ، وله حقوق المسلمين، وهذه الشريعة إنما استرقته؛ لأنه كان كافرًا، فإذا دَخَل في الإسلام، نجد أن الشريعة من جانب آخر رغَّبت في العتق فيه.
* قوله: (وَالعَبْدُ نَاقِصٌ بِالعُبُودِيَّةِ).
ليست العبودية هي عبودية للَّه، بل القصد بالعبودية هنا الاسترقاق، وهي ملك الإنسان، أما العبودية للَّه فنِعْمَ العمل، ونِعْمَ الطاعة وكلنا عبيد للَّه سبحانه وتعالى، واللَّه سبحانه وتعالى عندما ذَكَر رسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد اللَّه في مقام التكريم، ذَكَره بوصف العبودية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفتخر بعبوديته للَّه، ويعتز بها، ويرفع رأسه شامخًا:"إنَّما أنا عبدٌ، فَقُولوا: عبد اللَّه ورسوله"
(1)
، هذه منزلةٌ فيها تكريمٌ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْعُبُودِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِهِ قِيَاسًا عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي إِسْقَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ العُمُومُ بِهَذَا القِيَاسِ).
نحن لا نُسلِّم ذلك، إنما هي لها تأثيرٌ في بعض الأحكام التي تخفف عن هذا العبد، وله الحق في الأمان؛ لأن هذه مُنحَت للمسلم، ويَلْتقي مع غيره في هذا الوصف العظيم.
ولا نرى هذا القياس، ونحن مع جماهير العلماء في أن العبد له أن
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (3445)، عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله".
يؤمن، ويبدو أن المؤلف ما اطَّلع على أثر عمر، وقد تكلمت كثيرًا وقلت: إن مما يؤخذ على هذا الكتاب مع كثرة محاسنه أنه لا يستوعب ما يتعلَّق بالأحاديث والآثار.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَمَانِ المَرْأَةِ
(1)
، فَسَبَبُهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"
(2)
).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 462) حيث قال: " (إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة كافرًا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة، صح أمانهم، ولم يكن لأحدٍ من المسلمين قتالهم)، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 185) حيث قال: "إذا نزلوا بأمان (على) مقتضى (حكم من نزلوا على حكمه إن كان) مَنْ نزلوا على حكمه (عدلًا) فيما حكموه فيه من تأمين أو نحوه، وإن لم يكن عدل شهادة، فيشمل العبد والصغير، كذا قيل، والتحقيق أن المراد به عدل الشهادة، فغيره من صغيرٍ وعبدٍ وأمرأةٍ داخل تحت قول المصنف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 266) حيث قال: " (يصح من كل مسلم مكلف) وسكران، (مختار) ولو أمةً لكافر، وسفيهًا وفاسقًا وهرمًا؛ لقوله في الخبر: "يسعى أدناهم"؛ ولأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان عبد على جميع الجيش لا كافرًا لاتهامه، وصبيًّا ومجنونًا ومكرهًا كسائر العقود، نعم من جهل فساد أمان أولئك، يعرف ليبلغ مأمنه، (أمان حربي) ولو قلنا: وامرأة لا أسيرًا إلا مَنْ آسره ما بقي بيده، ومن الإمام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 652) حيث قال: " (وشرط) للأمان (كونه من مسلم)، فلا يصح من كافر ولو ذميًّا أو مستأمنًا؛ لأنه غير مأمون علينا (عاقل)، فلا يصح من طفلٍ أو مجنونٍ؛ لأنه لا يدري المصلحة (مختار)، فلا يصح من مكره عليه؛ كالإقرار والبيع (غير سكران)؛ لأنه لا يعرف المصلحة (ولو كان قنًّا أو أنثى أو مميزًا)، فلا تشترط حريته، ولا ذُكُوريته، ولا بلوغه (أو أسيرًا) ".
(2)
أخرجه البخاري (357)، ومسلم (336/ 82) أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمةُ ابنتُهُ تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال:"مَنْ هذه؟ "، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال:"مرحبًا بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب =
اقتطع المؤلف جزءًا من حديث طويل، وجاء بمحل الشاهد، وكنت أودُّ أن يورد المؤلف تلكم الأحاديث لما فيها من الفوائد؛ لأن هذا الحديث فيه عدة فوائد لا تقتصر على الأمان وحده، ولذلك قصة أم هانئ وهي بنت أبي طالب، فهي ابنة عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب له مواقف طيبة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إسلامه، لكن خشيته من قومه أن يقولوا: ارتد عن دين آبائه، وهذا ما منعه من ذلك، ولذلك ظل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحاوره ويقول له:"قُلْ: لا إله إلا اللَّه، كلمة أحاج لك فيها عند اللَّه"
(1)
، لكنه ما قالها.
فهذه أمُّ هانئ ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح -وَهذا حديثٌ في "الصحيحين"- قالت: ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلَّمت عليه، فقال:"مَنْ أَنْتِ؟ "، فقالت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مرحبًا بأم هانئ"، قالت: فلما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غسله، صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفًا به -وفي حديث أنسٍ: في ثوب واحد متوشحًّا به
(2)
- قالت: فلما انصرف من صلاته (أي: انتهى)، قالت: قلت: يا رسول اللَّه،
= واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول اللَّه، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلًا قد أجرته، فلان ابن هبيرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: وذاك ضحًى.
(1)
أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه أخبره:"أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل ابن هشام، وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا اللَّه، كلمة أشهد لك بها عند اللَّه"، فقال أبو جهلٍ، وعبد اللَّه بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلَّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمَا -واللَّه- لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل اللَّه تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية".
(2)
أخرَجه الترمذي (363)، عن أنسٍ، قال:"صلَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكرٍ قاعدًا في ثوبٍ متوشحًا به"، وقال الأَلْبَانيُّ في (صحيح الترمذي) (1/ 363): صحيح الإسناد، وأصله في مسلم (518) من حديث جابر.
زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرتُهُ من بني هبيرة، فقال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أَجَرنا من أجرتِ يا أم هانئ"
(1)
.
هَذَا هو الشاهد الذي جاء به المؤلف، والحديث طويل، وفيه حديث عن الغسل، وأن فاطمةَ بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت معه
(2)
، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندها صلى ثماني ركعات، وأنه التفَّ بثوب واحد، وهذا فيه دلالة على أن المصلي يصلي في ثوب واحد
(3)
، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رد عليها السلام، واستقبلها، وأكرمها صلى الله عليه وسلم
(4)
، قالت:"زعم ابن أمي"، ومعنى "زعم" أي: ادعى ابن أمي، وهو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب؛ لأنه جاء في الروايات:"ابن أبي"
(5)
، فهو شقيقها، وسواء ورد في هذه الرواية وهي
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (1/ 271) حيث قال: "فيه ستر ذوي المحارم من النساء من يحرم عليهن من الرجال".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (1/ 33) حيث قال: "ولا بأس بأن يصلي الرجل في ثوبٍ واحدٍ متوشحًا به".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهَّاب (ص 230) حيث قال: "الصلاة في الثوب الواحد إذا ستر العورة جائز".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأوسط" لابن المنذر (5/ 30) حيث قال: "وممَّن رَأى من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة في ثوب واحد: عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عباس، وأنس بن مالك، وخالد بن الوليد، وأبو هريرة، ورُوِيَ ذلك عن أبي سَعِيدٍ الخدري".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 416) حيث قال: "ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه، أجزأه ذلك".
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (1/ 271) حيث قال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بأم هانئ"، من كرم الأخلاق الترحيب بالأهل، والتأنيس لهم".
(5)
يُنظر: "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" لابن قرقول (1/ 183) حيث قال: "وفي البخاري في حديث أم هانئ: "زعم ابن أبي" للحموي خاصة، ولغيره من جميع الرواة: "ابن أمي"، وهو أشهر، وكلاهما صحيح؛ لأنها شقيقته، والتنبيه على حرمة البطن أولى؛ لقوله تعالى في قصة هارون: {يَبْنَؤُمَّ} ".
ويُنْظر: "المفهم" لأبي العباس القرطبي (4/ 79) حيث قال: "قول أمَّ هانئ: "زعم ابن أمي علي"، ولم تقل: "ابن أبي"، مع أنه شقيقها؛ لما يقتضيه رحم الأمَّ من الشفقة، والحنان، والتعطُّف".
الأشهر "ابن أمي"، أو في الرواية الأُخرى:"ابن أبي"، فهو علي بن أبي طالب، قالت: ادَّعى أنه سيقتل هذا الذي أجرتُهُ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: وكان ذلك ضحًى؛ أي: أنها زارت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وقت الضحى.
فَهَذا الحَديثُ فيه دلالةٌ على أن أمان المرأة معتبر، وأن لها أن تؤمِّن غيرها، لكن أولئك قالوا: إن أمانها لم يستقر إلا بعد أن أجازه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يورد المؤلف أيضًا أن زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجارت أبا العاصي ابن الربيع زوجها؛ لأنه أُسِرَ وهو لم يُسْلم بعد، فأمضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك
(1)
.
* قوله: (وَقِيَاسُ المَرْأَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ).
الأدلَّة في ذَلك كَثيرةٌ، منها ما ذكَره المؤلف، ومنها ما أشرنا إليه، وفيه أدلةٌ أُخرى؛ لكن بعض العلماء يأتون بتَعْلِيلٍ هنا، وهو: أنَّ من أسباب الفراق بين العُلماء اختلافهم في فَهْم بعض النصوص، فبعضهم يأخذ النَّصَّ على ظاهره، وبعضهم يكون له فهمٌ، والآخر يُخَالفه في الفهم، وهَكَذا، ولأن الأدلَّة إذا أُطْلقت يدخل فيها النساء.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"، إِجَازَةَ أَمَانِهَا لَا صِحَّتَهُ فِي نَفْسِهِ).
المُبلِّغ هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نقل هذه الأحكام، وهو الذي أُنْزلَ عليه هذا القرآن قُطْبُ هذه الشريعة ولبُّها، وأصلها الأصيل، وركنها الركين، وهو الذي جاءتنا سُنَّته صلى الله عليه وسلم عن طريق الصحابة الذين نقل عنهم التابعون.
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 426)، عن أنسٍ: أن زينب هاجرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزوجها كافر، فأسر المسلمون أبا العاص بن الربيع، فقالت زينب: إنِّي قد أجرت أبا العاص، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم جوارها، وقال:"إنه يجير على المسلمين أدناهم"، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(2819).
فرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما قال لها: "قَدْ أجرنا من أجرتِ"، أقرها على ما أجارته؛ لأنه قال:"قَدْ أجَرنا من أَجَرْتِ"؛ إذن، أثبتَ لها الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ما أجارته
(1)
؛ فلماذا نتعسَّف القول أو نتعمق في الأقوال، وهي مسلمةٌ، ولها حقوق كغيرها من الرجال، ولا تخالفهم في هذا الحكم.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَوْلَا إِجَازَتُهُ لِذَلِكَ، لَمْ يُؤَثِّرْ -قَالَ: لَا أَمَانَ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الإِمَامُ
(2)
، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِمْضَاءَهُ أَمَانَهَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ وَأُثِرَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِجَازَتَهُ هِيَ الَّتِي صَحَّحَتْ عَقْدَهُ -قَالَ: أَمَانُ المَرْأَةِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَايسَهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَلَمْ يَرَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي ذَلِكَ- أَجَازَ أَمَانَهَا).
والَّذين قالوا بأمان العبد وأمان المرأة جماهيرُ العلماء
(3)
، فلَمْ يَروْا بينهما فرقًا في هذا الحكم، وأمَّا الفروقُ فهي كثيرةٌ، فهناك مسائلُ كثيرةٌ جدًّا تختلف فيها المرأة عن الرجل:
* فالمرأة لا تؤمُّ الناس
(4)
،. . . . . . . . .
(1)
من أجارته.
(2)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 623)، حيث قال:"وقال عبد الملك: أمان من سوى أمير الجيش موقوف على إجازته؛ فإن رأى أن يمضيه وإلا رده".
(3)
تقدَّم ذكر كلامهم بالتفصيل.
(4)
ينظر في مَذْهب الأحناف: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 342)، وفيه قال:" (ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة ولا صبي، أما المرأة فلقوله عليه السلام: "أخِّروهن من حيث أخَّرهن اللَّه"، فلا يجوز تقديمها". وانظر: "الدر المختار"، للحصكفي، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(1/ 565).
وينظر: في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 412)، وفيه قال:" (أو امرأة) المازري: لا تصحُّ إمامة المرأة عندنا، وليعد صلاته مَنْ صلى وراءها وإن خرج الوقت. . قاله ابن حبيب". وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي"(1/ 326).
ويُنظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 173)، وفيه قال: " (ولا =
ولا تتولى الإمارة
(1)
، ولا تؤذِّن
(2)
، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنًا؛ والمرأة لا تجاهد؛ وإنما جهادها الحج
(3)
، ولا تجب عليها جمعة
(4)
، ولا جماعة
(5)
، بمعنى: لا تلزمها صلاة الجماعة، وهناك أحكامٌ كثيرةٌ جدًّا
= تصح قدوة رجل)؛ أي: ذكر، وإن كان صبيًّا (ولا خنثى) مشكل (بامرأة)؛ أي: أنثى، وإن كانت صبية (ولا خنثى) مشكل بالإجماع في الرجل بالمرأة إلا مَنْ شذ كالمزني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَنْ يُفْلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة"، ولأن المرأة ناقصة عن الرجل، وقد يكون في إمامتها افتتان بها". وانظر:"البيان"، للعمراني (2/ 398).
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 667)، وفيه قال:" (ولا) تصح (إمامة امرأة) برجال، لما روى ابن ماجه عن جابر مرفوعًا: "لا تؤمَّن امرأة رجلًا"، ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم كالمجنون".
(1)
يُنظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم (4/ 89) حيث قال: "وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة، ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة، فإنها تجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ، والحمل في بطن أمه، وهذا خطأ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (1/ 133) حيث قال: " (وليس على النساء أذان، ولا إقامة)؛ لأنهما سُنَّة الصلاة بالجماعة، وجماعتهن منسوخة، لما في اجتماعهن من الفتنة، وكذلك إن صلين بالجماعة صلين بغير أذان ولا إقامة؛ لحديث رابطة قالت: كنا جماعة من النساء عند عائشة رضي الله عنها، فأمتنا، وقامت وسطنا، وصلَّت بغير أذانٍ ولا إقامةٍ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 126) حيث قال: " (وتقيم المرأة) لها وللنساء ندبًا (ولا تؤذن)؛ أي: لا يندب أذانها لها، ولا لهن؛ لأنه يخاف من رفعها الصوت به الفتنة (فإن أذنت) لها أو لهن (سرًّا لم يكره)، وكان ذكر اللَّه تعالى (أو جهرًا) بأن رفعت صوتها فوق ما تسمع صواحبها، وثم أجنبي (حرم) كما يحرم تَكشُّفها بحضرة الرجال؛ لأنه يفتتن بصوتها كما يفتتن بوجهها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (1/ 232) حيث قال: " (ويكرهان للنساء والخناثى، ولو بلا رفع صوت) ".
(3)
أخرجه البخاري (1520)، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول اللَّه، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:"لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور".
(4)
تقدَّم الكلام عليها فيمن تجب عليهم الجمعة.
(5)
أخرجه أبو داود (567)، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن"، وصححه الأَلْبَانيُّ في (الإرواء)(515).
تختصُّ بها المرأة عن الرجل كما أن الرجلَ يختصُّ ببعض الأحكام عنها.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا نَاقِصةٌ عَنِ الرَّجُلِ، لَمْ يُجِزْ أَمَانَهَا، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالأَمَانُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الاسْتِعْبَادِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي القَتْلِ).
يَقُولُ المؤلف: إن الأمان غير مؤثر في الاستعباد، وإنما يؤثر في القتل أي: أن الاستعباد لا يغيره الأمان، لكن يؤثر في القتل، فإذا أجار حر أو عبد أو امرأة كافرًا حربيًّا؛ فإنه لا يقاتل، بمعنى أن هذا أمانٌ له من القتل.
* قوله: (وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ نُدْخِلَ الاخْتِلَافَ فِي هَذَا مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَلْفَاظِ جُمُوعِ المُذَكَّرِ).
أَيْ: هل تدخل المرأةُ في جمع المذكر كما في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ؟ نعم، تَدْخل في كَثِيرٍ من الأحكام، وأحيانًا يأتي التنصيص على النساء كما في قوله:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ. . .} [الأحزاب: 35]، إلى آخِرِه، فَنَجد أن اللَّه ذَكَر هَؤُلَاء، وأعطاهم وصفًا واحدًا.
* قوله: (هَلْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ أَمْ لَا؟ أَعْنِي: بِحَسَبِ العُرْفِ الشَّرْعِيِّ).
قوله: "جموع المذكر"؛ لأن الجمع -كما هو معلوم- على نوعين: جموع المذكر السالم
(1)
، وجموع التكثير، وهو جموع قلة، وجموع
(1)
يُنظر: "ملحة الإعراب" للحريري (ص 19، 20) حيث قال: " (باب جمع المذكر السالم)، وكل جمع صح فيه واحده، ثم أتى بعد التناهي زائده، فرفعه بالواو والنون تبع نحو: شجاني الخاطبون في الجمع، ونصبه وجره بالياء عند جميع العرب العرباء تقول: حي النازلين في منى، ونونه مفتوحة إذ تذكر، والنون في كل مثنى تكسر، وتسقط النونان في الإضافة، نحو: رأيت ساكني الرصافة وقد لقيت صاحبي أخينا، فاعلمه في حذفهما يقينًا".
كثرة
(1)
، فهذه كلها جمعت على جموع، وهذه أمورٌ صرفيةٌ يعرفها الذين درسوا النحو، والجواب: أنها تتناولهم أحيانًا، ولا تتناولهم أحيانًا أُخرى.
* قوله: (وَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي النُّفُوسِ).
النِّكايَة
(2)
: وهي العقوبة أو القتل، وهَذَا حَصل من الرسول صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَهِيَ القَتْلُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الحَرْبِ قَتْلُ المُشْرِكِينَ).
لَا خلَاف بيننا في قتل عدوِّ اللَّه، وعدوِّ رسوله، وعدوِّ المؤمنين حيث قال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقال:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4]، ولا يجوز للمسلم أن يضعف في ذلك
(3)
.
وَلكن يريد المؤلِّف أنَّ قتلَهم في حَالَة الحرب؛ أما إذا الْتحَمت المعركة، فهذا لا حديث عنه، فالأمرُ واضحٌ.
* قوله: (الذُّكْرَانَ البَالِغِينَ المُقَاتِلِينَ).
فيَخْرج من ذلك النساء والصبيان كَمَا في حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما وغيره المتفق عليه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن قتل النساء والولدان"
(4)
.
(1)
يُنظر: "شرح أبيات سيبويه" للسِّيرافي (2/ 309) حيث قال: "قال سيبويه في باب الجمع المكسَّر: (والقياس في (فَعْل) ما ذكرنا، وأما ما سوى ذلك، فلا يُعْلم إلا بالسمع، ثم تَطلُب النظائر كما أنك تطلب نظائر الأفعال هاهنا)، يريد أن الجمع (فعْل) في القلة (أفعُل)، وفي الكثرة (فعول وفِعال) ".
(2)
تقدَّم تعريفها.
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 336) حيث قال: "واتفقوا أنَّ قتل بالغيهم ما عدا الرهبان والعميان والشيوخ (المزمنين) و (المباطيل) و (الزمني) والحراثين والأجراء، وكل مَنْ لا يقاتل جائز قبل أن يؤسروا".
(4)
أخرجه الشافعي في (المسند)(ص 238) عن ابن كعب بن مالك، عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان.
وفي رِوَايةٍ: "النساء والصبيان"
(1)
.
وفي قصَّة المرأة التي ذَهَب جيشٌ من المسلمين بقيادة خالد رضي الله عنه، تلقَّاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوجد امرأة قد قتلت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما كان لهذه أن تُقْتل! "، ثم نظر في وجوه القوم، فأمر رجلًا أن يلحق بخالد بن الوليد، وأمره أن يخبره بألا يقتلَ ذريةً، ولا عسيفًا، ولا امرأةً
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا القَتْلُ بَعْدَ الأَسْرِ، فَفِيهِ الخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا)
(3)
.
تقدَّم الكلام في هذا وبيَّناه، وأن العلماء أجمعوا على أنه لا يقتل النساء والصبيان
(4)
.
* قوله: (وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ صِبْيَانِهِمْ، وَلَا قَتْلُ نِسَائِهِمْ مَا لَمْ تُقَاتِلِ المَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ)
(5)
.
وَهذا كَمَا أوردنا حديثَ عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما عندما غزا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بني المصطلق؛ فإنه قَتلَ مقاتليهم، وَسبى ذَراريهم
(6)
، والذَّراري يدخل فيها النساء والصبيان.
(1)
أخرجه البخاري (3015)، ومسلم (1744).
(2)
أخرجه أبو داود (2669) عن رباح بن ربيع، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلًا، فقال:"انظر علام اجتمع هؤلاء؟ "، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال:"ما كانت هذه لتقاتل"، قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا، فقال:"قل لخالدٍ: لا يقتلن امرأة، ولا عسيفًا"، وصححه الأَلْبَانيُّ في (الصحيحة)(701).
(3)
تقدَّم الكلام عليها.
(4)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 138) حيث قال: "وأجمع العلماء على القول بجملة هذا الحديث (حديث ابن عمر)، ولا يجوز عندهم قتل نساء الحربيين، ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن يقاتل في الأغلب، واللَّه عز وجل يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ". وانظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 336).
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
تقدَّم تخريجه.
أما إذا قاتلت المرأة، أو الصبي، أو الشيخ الفاني، أو الذي فيه مرضٌ مزمنٌ؛ فهؤلاء يقتلون
(1)
، وهناك كلامٌ من العلماء في الشيخ الكبير إذا كان يُخطِّط للحرب، ويعين عليها، وكان صاحبَ فكرٍ، فإنه في هذه الحالة يُقْتل؛ لأنه يعين الكفارَ على أذى المؤمنين
(2)
.
* قوله: (فَإِذَا قَاتَلَتِ المَرْأَةُ، اسْتُبِيحَ دَمُهَا، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام:"نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ"
(3)
).
إذا قاتلت المرأة، أصبحت مقاتلةً، وهنا أصبح الأمر دفعًا كما في حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه وغيره:"والولدان والصبيان".
وجاء ذكر الولدان في كتاب اللَّه عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء: 98].
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 335) حيث قال: "لم يختلف العلماء فيمن قَاتَل من النساء والشيوخ أنه مباحٌ قتله".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (10/ 29) حيث قال: "وكذلك الشيخ الكبير الذي أمن من قتاله بنفسه ورأيه، ولا يرجى له نسل، أما إذا كان له رأي يقتل، ألا ترى أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين سنة، وقد ذهب بصره، ولكنهم أحضروه ليستعينوا برأيه".
ومَذْهب المالكية، يُنظر:"التبصرة" للخمي (3/ 1353) حيث قال: "أما الشيخ الكبير فلا يقتل إلا أن يعلم أنه ممن له الرأي والتدبير على المسلمين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 30) حيث قال: "محل الخلاف إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا قتلوا قطعًا، والمراد بالراهب عابد النصارى، فيشمل الشيخ والشاب والذكر والأنثى، واحترز بقوله: لا رأي فيهم عما إذا كان فيهم رأي، فإنهم يقتلون قطعًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 50) حيث قال: "وفي "الإرشاد": وحبر (لا رأي لهم)، فمن كان من هؤلاء ذا رأي -وخصه في الشرح بالرجال- وفيه شيء قاله في "المبدع" - جاز قتله؛ لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه؛ لأجل استعانتهم برأيه، فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قَتْله؛ ولأن الرأي من أعظم المعونة على الحرب، وربما كان أبلغ في القتال".
(3)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (وَقَالَ فِي امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ: "مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِل").
لمَّا نظرَ إليها، أصبح القوم ينظرون، فَصَرفهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال هذه المقالة، ونظر في وجه القوم، وربما أنه رأى أسرعهم، فأمره أن يلحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأن يخبره بما أمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أمر اللَّه، فإذا جاءهم الأمر قالوا: سمعنا وأطعنا، كما قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ الصَّوَامِعِ المُنْتَزِعِينَ عَنِ النَّاسِ).
دخل المؤلف في أنواعٍ أُخرى في قتال غير المسلمين، وهو أهل الصوامع، وهي جمع صومعة، وهي المكان الذي يُعدُّ لعبادة النصارى أي: الذي ينقطع فيها النصارى للعبادة، فهؤلاء ابتعدوا عن القتال وتجنَّبوه، ولا علاقةَ لهم بهذا الأمر، فهل يُقْتلون؟
الجواب: لا، والمسألة فيها خلاف
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 132)، حيث قال:" قال في "الفتح" وفي "السير الكبير": لا يقتل الراهب في صومعته، ولا أهل الكنائس الذين لا يخالطون الناس، فإن خالطوا، قتلوا كالقسيس".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 544) حيث قال: "اللخمي: الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع والديارات لا يعرض لهم بقتلٍ ولا أسرٍ. "التلقين": إلا أن يخاف أذى أو تدبيرًا. ابن عرفة: وظاهر الروايات أن رهبان الكنائس يجوز قتلهم وسباؤهم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الشرح الكبير" للرافعي (11/ 391، 392) حيث قال: "في جواز قتل الراهب شابًّا كان أو شيخًا، قولان، وكذا في العسفاء: وهم الأجراء، والحارفين المشغولين بحرفهم، وفي الشيوخ الضعفاء، وفي معناهم العميان والزمنى ومقطوعي الأيدي والأرجل - أحد القولين: أنه يجوز قتلهم، وبه قال أحمد، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق. والثاني وبه قال أبو حنيفة ومالك: أنه لا يجوز؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا النساء، ولا أصحاب الصوامع"، وأصح القولين على ما ذكره الشيخ أبو حامد وأصحابه، والروياني الأول، وفي سياق كلام الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" ما يدل عليه". =
* قوله: (وَالعُمْيَانِ).
والأعمى ليس أهلًا للقتال، فلا يقتل.
* قوله: (وَالزَّمْنَى).
"الزَّمِنُ": وهو المريض، و"الزمنى" إنما هو جمع "زَمِنٍ" أي: المريض الذي فيه مرضٌ قديم الزمنة (1)، فهؤلاء الذين بهم علة قديمة لا يقتلون؛ لكن ذَكَر بعض العلماء أنه إذا وجد مريض بمعنى: أصابه مرض، وهذا المريضُ إنْ كان به مرضٌ عارضٌ استطاع معه أن يُقَاتل، فإنه يُقْتل، وإنَّما المراد بهذا المريض الذي ليس له قدرةٌ على القتال، والمسألة فيها خلاف، ومن العلماء مَنْ يرى قتله
(2)
.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 623) حيث قال: " (ولا) يجوز (قتل صبي ولا أنثى ولا خنثى، ولا راهب، ولا شيخ فانٍ، ولا زمنٍ، ولا أعمى، لا رأي لهم، ولم يقاتلوا، أو يحرضوا) ".
"الزَّمِنُ": الذي طال مرضه زمانًا. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمُطرِّزي (ص 210).
(2)
اختلف الفقهاء في قتل الزِّمِنِ المشرك إلى قولين:
الأول: أنَّه لا يجوز قتله، وهو قول جمهور الفقهاء؛ الحنفية والمالكية والحنابلة، وأحد قولي الشافعي.
الثاني: أنه يَجُوز قتله، وهو القول الثاني للشافعي.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(4/ 131) حيث قال: " (قوله: ومقعد وزمن)، وكذا مَنْ في معناهما كيابس الشق، ومقطوع اليمنى أو من خلاف، لكن نظر فيه في الشرنبلالية بأنه لا ينزل عن رتبة الشيخ القادر على الإحبال أو الصياح. اهـ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 176) حيث قال: " (قوله: أي عاجز) يعني: عن القتال؛ لكونِه مريضًا بإقعاد أو شلل أو فلج أو جذام أو نحو ذلك (قوله: لأنهم صاروا كالنساء) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 30) حيث قال: " (ويحل قتل راهب وأجير) ومحترف (وشيخ) ولو ضعيفًا (وأعمى وزمن)، ومقطوع اليد والرِّجل وإن لم يحضروا الصف، و (لا قتال فيهم، ولا رأي في الأظهر)؛ لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولأنهم أحرار مكلفون، فجاز =
* قوله: (وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ).
أي: الكبار الذين لا يُقَاتلون، جاء هذا في وصية أبا بكرٍ رضي الله عنه، وَكَانَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أرسل جيشًا يوجهه أن يبدأ: بسم اللَّه، ولا يقتلوا شيخًا، ولا طفلًا، ولا امرأةً. . . إلى آخره
(1)
، وأَحَاديثُ كثيرةٌ وردت في هذا فيها كلامٌ للعلماء من حيث الصحَّة والضَّعف.
* قوله: (وَالمَعْتُوهِ).
"المعتوه"
(2)
: المقصود به هنا المجنون، فالمجنون لا يُقْتل؛ لأن المجنون لا يُدْرِكُ، ومع ذلك المسألة فيها خلافٌ
(3)
.
* قوله: (وَالحَرَّاثِ).
"الحراث": المقصود به الذي يحرث الأرض، والمراد به الفلاح،
= قتلهم كغيرهم. والثاني المنع؛ لأنهم لا يقاتلون، فأشبهوا النساء والصبيان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 623) حيث قال: " (ولا) يجوز (قتل صبي ولا أنثى ولا خنثى، ولا راهب، ولا شيخ فان، ولا زمن، ولا أعمى، لا رأي لهم، ولم يقاتلوا أو يحرضوا) ".
(1)
سبق تخريجه.
(2)
"المعتوه": الذي لا يُميِّز، ولا عقل له بمنزلة المجنون. انظر:"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 202).
(3)
لم يختلف الفقهاء في عدم جواز قتل المعتوه في الحرب.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار مع حاشية ابن عابدين"(4/ 131) حيث قال: "فيمَنْ لا يقتل: (وأعمى ومقعد) وَزَمِن ومعتوه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 176) حيث قال: "فيمن لا يقتل: (و) إلا (المعتوه)؛ أي: ضعيف العقل، فالمجنون أولى".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 29)، حيث قال:" (ويحرم عليه قتل صبي ومجنون) ومَنْ به رق (وامرأة وخنثى مشكل) للنهي عن قتل الصبيان والنساء في "الصحيحين"، وألحق المجنون بالصبي، والخنثى بالمرأة لاحتمال أنوثته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (7/ 55) حيث قال: "ولا يقتل معتوه؛ أي: مختل العقل، مثله لا يقاتل؛ لأنه لا نكاية فيه أشبه الصبي".
وقد ثبت أثرٌ عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن قتل الفلاحين
(1)
الذين اشتغلوا عن الجهاد، فهو يشتغل في مال سيده، وهو غير منصرف إلى القتال، وغير معنيٍّ به، وغير متجهٍ إليه، ولذلك لا يُقْتل، وأشد المذاهب في ذلك هو مذهب الشافعية، وقد أشار إليه المؤلف، وخالفهم غيرهم من أئمة المذاهب
(2)
.
* قوله: (وَالعَسِيفِ).
وهو الأجير
(3)
، ولذلك في قصة الرجل الذي قال: "إنَّ ابْني كان
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 280)، عن زيد بن وهب قال: كتب عمر رضي الله عنه: "لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، واتقوا اللَّه في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 101) حيث قال: "وأما بيان مَنْ يحل قتله من الكفرة ومَنْ لا يحل، فنقول: الحال لا يخلو إما أن يكون حال القتال، أو حال ما بعد الفراغ من القتال، وهي ما بعد الأخذ والأسر، أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة، ولا صبي، ولا شيخ فان، ولا مقعد، ولا يابس الشق، ولا أعمى، ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف، ولا مقطوع اليد اليمنى، ولا معتوه، ولا راهب في صومعة، ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس، وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 177) حيث قال: "اقتصار المصنف على استثناء السبعة المذكورة يفيد قتل الأُجَراء والحراثين وأرباب الصنائع منهم، وهو قول سحنون، وهو خلاف المشهور من أنهم لا يقتلون بل يؤسرون كما هو قول ابن القاسم في كتاب محمد وابن الماجشون وابن وهب وابن حبيب، وحكاه اللخمي عن مالك قائلًا وهو الأحسن؛ لأن هؤلاء في أهل دينهم كالمستضعفين، كذا في بن، والظاهر أنه خلاف لفظي في حال، وأن المدار على المصلحة بنظر الإمام".
ومَذْهب الشافعيَّة، يُنظر:"الشرح الكبير" للرافعي (11/ 391) حيث قال: "في جواز قتل الراهب؛ شابًّا كان أو شيخًا، قولان، وكذا في العسفاء: وهم الأجراء، والحارفين المشغولين بحرفهم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (7/ 53) حيث قال: "وفي "المغني" و"الشرح": وعبد وفلاح لا يقاتل؛ لقول عمر: اتقوا اللَّه في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب".
(3)
"العسيف": الأجير، والجمع عسفاء. انظر:"الصحاح" للجوهري (4/ 1404).
عسيفًا. . . "
(1)
، أَيْ: كان أجيرًا.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ الأَعْمَى، وَلَا المَعْتُوهُ، وَلَا أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، ويُتْرَكُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ)
(2)
.
لا يُقْتل الأعمى، ولا المعتوه، وكذلك أصحاب الصَّوامع الذين تفرَّغوا للعبادة، أما الذين يجلسون في الصوامع يخططون لجهادٍ، ولمُعادَاة المؤمنين، ولرسم الخطط، ولأذى المؤمنين، فيختلفون
(3)
، ولهذا قال المؤلف:"انتزعوا للعبادة" أي: انقطعوا وانصرفوا إليها بالكليَّة، ومع أن عبادتهم هنا خاطئة؛ لكنهم ما داموا ابتعدوا عن أذى المؤمنين؛ فإنهم يُتْرَكون على حالهم.
* قوله: (وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الشَّيْخُ الفَانِي عِنْدَهُ
(4)
، وَبِهِ قَالَ
(1)
أخرجه البخاري (2695)، ومسلم (1697) عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول اللَّه، اقض بيننا بكتاب اللَّه، فقام خصمه فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب اللَّه، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته. . . الحديث.
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (2/ 49) حيث قال: "ولا يُقْتل النساء، ولا الصبيان، ولا الشيخ الكبير في أرض الحرب، ولا الرهبان في الصوامع والديارات، ويترك لهم من أموالهم ما يَعيشُون به، ولا تؤخذ كلها فيموتون".
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (3/ 60) حيث قال: "قال ابن حبيب: ولم ينه عن قتل الرهبان لفضل عندهم من ترهبهم وتبتلهم، بل هم أبعد من اللَّه من غيرهم من أهل دينهم لشدة بصيرتهم في الكفر، ولكن لاعتزالهم أهل دينهم عن محاربة المؤمنين بيَدٍ أو رأيٍ أو مالٍ، فأما إن علم من أحد منهم أنه دل العدو على غرة سرية منا، أو دلهم عليهم، وشبه ذلك، فقد حل قتله".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 176) حيث قال: " (قوتلوا وقتلوا)؛ أي: جاز قتلهم (إلا) سبعة (المرأة) فلا تقتل (إلا في مقاتلتها)، فيجوز قتلها إن قتلت أحدًا أو قاتلت بسلاح كالرجال ولو بعد أسرها لا إن قاتلت بكرمي حجر، فلا تقتل ولو حال القتال (و) إلا (الصبي) المطيق للقتال، فلا يجوز قتله، ويجري فيه ما في المرأة من التفصيل. (و) إلا (المعتوه)؛ أي: ضعيف العقل، فالمجنون أولى (كشيخ فان) لا قدرة له على القتال".
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ)
(1)
.
"الشيخ الفاني"؛ أي: الكبير الذي لا قدرةَ له على الجهاد
(2)
، وَبِهَذَا القَول قال مالكٌ
(3)
، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
(4)
، وأحمد
(5)
، وغيرهم.
* قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
(6)
، وَالأَوْزَاعِيُّ: لَا تُقْتَلُ الشُّيُوخُ فَقَطْ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: لَا تُقْتَلُ الحُرَّاثُ)
(7)
.
الثَّوريُّ ممَّن عاصر الإمام أبا حنيفة رحمه الله، وهو من علماء العراق، والأوزاعي إمام الشام.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الأَصَحِّ عَنْهُ: تُقْتَلُ جَمِيعُ هَذِهِ الأَصْنَافِ)
(8)
.
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 380) حيث قال: "ولا يقتلوا امرأة ولا صبيًّا ولا شيخًا فانيًا ولا مقعدًا ولا أعمى".
(2)
"الشَّيخ الفَانِي": الهرم الذي فنيت قوته. يُنظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 25).
(3)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (1/ 499) حيث قال: "قلت لابن القاسم: هل كان مالك يكره قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير في أرض الحرب؟ قال: نعم".
(4)
يُنظر: "السير الصغير" لمحمد بن الحسن (ص 249) حيث قال: "قال أبو يوسف: وسألت عن قتل النساء والصبيان والشيخ الفاني الذي لا يطيق القتال والذي به زمانة لا يطيقون القتال، فنهى عن ذلك وكرهه".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 623) حيث قال: " (ولا) يجوز (قتل صبي ولا أنثى ولا خنثى، ولا راهب، ولا شيخ فانٍ، ولا زمن، ولا أعمى، لا رأي لهم، ولم يقاتلوا، أو يحرضوا) على قتال".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 29) حيث قال: "وقال الثوري: لا يقتل الشيخ والمرأة والمقعد".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 29) حيث قال: "وقال الأوزاعي: لا يقتل الحراس والزراع ولا الشيخ الكبير ولا المجنون ولا الراهب".
(8)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 241) حيث قال: " (ويحل قتل) ذكر (راهب) وهو عابد النصارى وسوقة. (وأجير)؛ لأن فيهم رأيًا وقتالًا. (وشيخ وأعمى وزمن لا قتال فيهم، ولا رأي في الأظهر) ".
هُنَاك روايتان له، لكن الرِّواية الصحيحة المشهورة في المذهب هي التي ذَكَرها المؤلِّف، لكن هناك رواية أُخرى يلتقي فيها الشافعية مع الأئمة في هذه المسألة
(1)
، ولا شكَّ أن الشافعيَّة عندما انفَردوا في هذا القَول الَّذي صَحَّحه المحققون منهم
(2)
، كان لهم وجهة نظر في ذلك، وسيبيِّنها المؤلف فيما بعد؛ لقول اللَّه تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة: 5].
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ بَعْضِ الآثَارِ بِخُصُوصِهَا لِعُمُومِ الكِتَابِ).
يقصد الآثار الخاصة التي ظاهرها تخصيص الآية أو الآيات: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
* قوله: (وَبعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الثَّابِتِ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، الحَدِيثَ).
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 310) حيث قال: "وقد اختلف قول الشافعي في إباحة قتل الرهبان، وأصحاب الصوامع، والأعمى ومَنْ لا نَهْضة فيه من الشيوخ والزمنى الذين لا يقاتلون؛ إما لتعبُّد كالرهبان أو لعجز كالشيخ الفاني، ففي جواز قتلهم قولان:
أحدهما: يجوز قتلهم؛ لأنهم من جنس مباح القتل، ولأنهم كان رأيهم، وتدبيرهم أضر علينا من قتال غيرهم، فعلى هذا لا يقرون في دار الإسلام إلا بجزية.
والقول الثاني: أنه لا يجوز قتلهم؛ لأن القتل للكفِّ عن القتال، وقد كفوا أنفسهم عنه، فلم يقتلوا، فعلى هذا يقرون بغير جزية، وهو مذهب أبي حنيفة، فصار في إقرارهم بغير جزية قولان".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للرافعي (11/ 391، 392) حيث قال: "في جواز قتل الراهب شابًّا كان أو شيخًا قولان. . . أنه يجوز قتلهم، وبه قال أحمد، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق. . . والثاني: وبه قال أبو حنيفة ومالك: أنه لا يجوز. . وأصح القولين على ما ذكره الشيخ أبو حامد وأصحابه، والروياني الأول، وفي سياق كلام الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" ما يدل عليه".
هذَا حَديثٌ متفقٌ علَيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أقاتلَ الناس حتَّى يقولوا: لا إله إلا اللَّه"
(1)
.
وفي رِوَايةٍ: "حتَّى يَشْهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأنِّي رَسُولُ اللَّه، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه"
(2)
.
ونَحْن نَعْلم الخلافَ الذي دار في أول الأمر عندما تُوفِّي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدَّ مَن ارتد من قبائل العرب، ومنع مَنْ منع الزكاة منهم، ووقف أبو بكر رضي الله عنه موقفه العظيم الصارم حتى إن عمر رضي الله عنه تردَّد في ذلك المقام، فَوقَف بَعْضُ الصحابة، كيف نُقَاتلهم ورَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتلَ الناسَ حتى يَقُولوا: لا إله إلا اللَّه؟ "، فرد أبو بَكرٍ عليه، وقال:"أليسَ من قوله: "إلا بحقِّها"! ومن حقها: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، واللَّهِ، لأقاتلن مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة
(3)
، واللَّه لو مَنَعونِي عقالًا
(4)
،
(1)
أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20)، حدثنا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود أن أبا هُرَيرة لظنه، قال: لما تُوفِّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على اللَّه".
(2)
أخرجها النسائي في (الكبرى)(7/ 414).
(3)
أخرجه البخاري (7284)، ومسلم (20)، عن أبي هُرَيرة، قال: لما تُوفِّي رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكرٍ بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقَدْ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فمن قال: لا إله إلا اللَّه، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقِّه وحسابه على اللَّه"، فقال: واللَّهِ، لأقاتلن مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واللَّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر:"فواللَّه، ما هو إلا أن رأيت اللَّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق".
(4)
"العقال": الحبل الذي تشد به وتعقل يدفع معها في الصدقة. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 100).
-وفي رواية: عناقًا
(1)
-، كانوا يدلونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهُم عليه".
يَقُولُ عُمَرُ رضي الله عنه: فَما أن رأيت إصرار أبي بكرٍ وموقفه حتى أدركت أن اللَّه سبحانه وتعالى قَدْ فتح قلبه بذلك، وأن الحقَّ معه
(2)
، هكذا اتبعوه.
ولذلك، نجد أنه ترتَّب على ذلك خيرٌ عظيمٌ؛ فإن المسلمين قاتلوا المرتدين وهزموهم هزيمة عظيمة، ولا شك أن تلك الردة كانت لها آثارٌ على الإسلام، فكم قتل منهم، والتي ترتَّب عليها إشارة عمر على أبي بكر بجمع القرآن لأول مرة، وإن كان القرآن جمع في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكنه كان متفرقًا على مثل الصحف، وعسف النخل، وجريد النخل، ونحوه؛ لكنه بعد ذلك جُمِعَ كاملًا في زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه
(3)
.
إذًا، قوله:"أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه"، وقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عامة، فلم تفرق بين كبير وصغير، ولا بين شاب وشيخ، ولا بين راهب وغير راهب، ولا بين عاملٍ وغير عاملٍ؛ وإنما أطلقت: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناس حتى
(1)
"العناق": الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 311).
(2)
أخرجه البخاري (1400).
(3)
أخرجه البخاري (7191)، عَنْ زيد بن ثابت، قال: بعث إليَّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر:"إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وَأنِّي أخشى أن يستحرَّ القتل بقُرَّاء القرآن في المواطن كلها، فيذهب قرآنٌ كثيرٌ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن"، قلت:"كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ "، فقال عمر: هو واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر عمر، وَرَأيتُ في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: "وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن، فاجمعه"، قال زيد: فواللَّه، لو كلفني نقل جبلٍ من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر: "هو واللَّه خير"، فلم يزل يحث مراجعتي حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح اللَّه له صدر أبي بكر وعمر. . . ". الحديث.
يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم. . . "، إذًا، إما الحرب والقتال، وإما شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه.
* قوله: (وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] يَقْتَضِي قَتْلَ كُلِّ مُشْرِكٍ؛ رَاهِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ).
"الراهب": القَصد به المعنى العام، وهو الذي انقطع للعبادة، ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
أمَّا المسَاجِدُ، فَهي مَواضِعُ عبادَة المُؤْمنين {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37].
وَأمَّا "الصَّوامع": فَهي الأمَاكن المُعدَّة لعبادة النصارى، و"البِيَعُ": جَمْع بيعة: وهي التي يتعبَّد فيها اليهود، وَكَذلك النصارى يشركونهم في ذلك
(1)
.
* قوله: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ").
فَالآيةُ وَالحَديثُ يدلَّان بظاهرهما على قَتْل كلِّ مُشْركٍ، وأنه إما أن يُسْلم، وإما أن يقطع عنقه، هَذَا هو الَّذي يشير إليه المؤلف.
* قوله: (وَأَمَّا الآثَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِاسْتِبْقَاءِ هَذِهِ الأَصْنَافِ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ
(1)
"البيعة": موضع المترهب. . . وقيل: هي كنيسة اليهود. انظر: "المخصص" لابن سيده (4/ 67).
إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: "لَا تَقْتُلُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ"
(1)
).
يبدأ الحديث بقوله: "بسم اللَّه، قَاتلُوا في سَبيل اللَّه مَنْ كَفر باللَّه، ولَا تَقْتلوا شيخًا. . . " إلى آخره، وجاء أيضًا عن أبي بكرٍ؛ لكن هذا الأثر -كما هو معلوم- ضعَّفه أكثر العلماء، ومن العلماء مَنْ جمعه مع الذي يليه وغيره، ورأوا أنه صالح للاستدلال به، وأيدوا ذلك بعموم أدلة الشريعة، وبقواعدها العامة.
* قوله: (وَمِنْهَا أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا").
الطفل الصغير: وهو الذي لم يَبْلغ بعد.
* قوله: ("وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ)
(2)
.
لكن لو قاتلَ هؤلاء، أو بعضهم؛ فإنهم يُقْتَلون.
وأما قوله: "ولا تغلُّوا"، والغلول من أخطر ما يكون، قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، والرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أمر بتحريق متاع الغال يعني: الذي يسرق من الغنيمه، وهذه من أخطر الأُمور، فكيف يكون المسلم في الجهاد ويقدم نفسَه، ثم بعد ذلك يقع في مثل هذا الأمر؟! فهذه من أخطر الأمور؛ لأن فيه خيانةً، والمسلم دائمًا مطالب بأن يكون أمينًا، بعيدًا عن الخيانة. . خرَّجه أبو داود
(3)
،
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف)(6/ 484)، واللفظ له، عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم اللَّه، تقاتلون في سبيل اللَّه مَنْ كفر باللَّه، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع". وقال الأرناؤوط في حاشية المسند: حسن لغيره.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(2614)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في (ضعيف أبي داود)(2/ 325).
(3)
حديث (2713) عن عُمَر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وجدتم الرجل قد غل، فأحرقوا متاعه واضربوه"، قال: فوجدنا في متاعه مصحفًا، فسأل =
وأحمد
(1)
، وغيره
(2)
.
* قوله: (وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: "سَتَجِدُونَ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ"
(3)
).
هذا الأثر قد وَهِمَ المُؤلِّف فيه، ورفَعه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ، إِذْ هو من قول أبي بكر رضي الله عنه.
والذي يريد أن يحبس نفسه للَّه إنما يدخل في هذا الدين العظيم، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
وقال عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
وقال جَلَّ شأنه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
* قوله: (وَفِيهِ: "وَلَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرَمًا").
"ولَا تَقْتُلنَّ امرأةً"؛ لأنَّ المرأةَ ليست من أهل الكتاب، "ولا صبيًّا"؛ لأن الصبي غير مكلف، وصغير، ولا يدرك هذه الأُمور، لكن لو قاتل هؤلاء يُقْتلون.
* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الأَمْلَكُ فِي الاخْتِلَافِ).
"الأَمْلَكُ"، وهو الأقوى، أو الأوثق، أو الأولى، هذا الذي يريد أن يذكره المؤلف، وفيه قوةٌ.
= سالمًا عنه فقال: "بِعْهُ، وتصدَّق بثمنه"، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في (ضعيف أبي داود)(2/ 348).
(1)
حديث (144).
(2)
أخرجه الترمذي (1461)، وسعيد بن منصور (2729)، وابن أبي شيبة (28690).
(3)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ مُعَارَضَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]).
{وَلَا تَعْتَدُوا} ، هو محلُّ الشاهد؛ لأنه نقل عن ابن عباس أنه قال:"لا تقتلوا شيخًا، ولا امرأةً"
(1)
، فهذا الذي كان ينبغي أن يرده المؤلف، وقد أشار إليه ابن جرير رحمه الله
(2)
، وغيره في "تفسيره"
(3)
، وذُكِرَ أيضًا عن ابن عباس.
وَالاعتدَاءُ لم يَرِدْ في كل أَمْرٍ من الأُمور، ولا يَقْتَصر الاعتداءُ على اعتداء المسلم على الكافر، وإذا كان هذا النهي عن الاعتداء على هذا التفسير، وهذا الذي نقل عن ابن عباس بالنسبة للنساء، وكذلك الشيوخ الكفار، فما بالك بمَنْ يعتدي على أخيه المسلم، ويسلبه حقه، أو يظلمه، أو يتكلم في حقه، أو يسيء إليه، أو يسيء إلى سُمْعته، أو يلصق به أمرًا ليس منه؟!
ولذلك، نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، ويقول في قصة الإفك:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "جامِع البيان" للطبري (3/ 563) حيث قال: "عن ابن عباس: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}، يقول: لا تقتلوا النساء، ولا الصِّبيان، ولا الشيخ الكبير، وَلا مَنْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم".
(3)
ينظر: "التفسير الكبير" للرازي (5/ 288) حيث قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، ثم بعده:{وَلَا تَعْتَدُوا} هذا القدر، ولا تقاتلوا مَنْ لا يقاتلكم، فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين"، يُنظر: "تفسير القرطبي" (2/ 350) حيث قال: "وقيل: {وَلَا تَعْتَدُوا} ؛ أي: لا تقاتلوا مَنْ لم يقاتل، فعلى هذا تكون الآية منسوخةً بالأمر بالقتال لجميع الكفار".
ومِنْ أخطَر الأمور: أن يتجاوز المسلم حقَّ أخيه المسلم، فيعتدي عليه بأن يأخذ من ماله، أو أن يعتدي على مال اليتيم، أو أن يتكلم في حقه بغير حقٍّ، هذا أمر لا يجوز أن يفعله المؤمن.
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآيَةَ [التوبة: 5]).
إنَّ الأشهر الحرم الأربعة نُهِيَ عن القتال فيها، فإذا انسلخت أي: انقضت هذه الأشهر، فإنه حِينَئذٍ يحلُّ القتال، ويكون جائزًا فى هذا المقام، والقتال واجبٌ في الصور الثلاثة التي ذَكَرنا.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]؛ لِأَنَّ القِتَالَ أَوَّلًا إِنَّمَا أبِيحَ لِمَنْ يُقَاتِلُ - قَالَ: الآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا).
أوَّلًا: دعوى النسخ تحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل عليها؛ أي: لكي نقول: إن هذا ناسخ وهذا منسوخ نحتاج إلى أن نعرف أيهما نزل أولًا، وإن نزلت أخيرًا هل فيها نسخ؟ أو أن هناك تقسيمًا؟ لأنه -بحمد اللَّه- في هذه الشريعة هناك المطلق وما يقيده، وهناك العام وما يخصصه، فالمقيد يقيد المطلق، والخاص يخصص العام، إذًا هذا كلُّه واجبٌ، ومرَّ تفسير ابن عبَّاس رضي الله عنهما في آخر هذه الآية
(1)
.
فالقتال أولًا إنما أُبِيحَ لمَنْ يُقَاتل؛ لقوله تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 39 - 41]؛ قال: الآية على عمومها.
(1)
سبق بيان ترجيح قول ابن عباس، وأنه ما قال به الطبري وغيره.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وَهِيَ مُحْكَمَة، وَأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ الأَصْنَافَ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عُمُومِ تِلْكَ)،
ما يظهر لنا -واللَّه أعلم- هو رجحان قول أن الذين استثنوا؛ كالشيخ الكبير الذي انقطع في صومعته، والعبيد؛ أي: العسيف والأجير، وكذلك الذي يشتهر بالفلاحة ويتجنب القتال؛ أما مَنْ يقاتل منهم، فإنه يُقْتَل، هَذَا هو الأَظْهَرُ، وهو مذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة (مالك وأبو حنيفة وأحمد)، والشافعية خالفوا في روايتهم المشهورة
(1)
، وقَوْلهم -في نظري- مرجوحٌ في هذَا.
* قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْتُلُوا شُيُوخَ المُشْرِكينَ، وَاسْتَحْيُوا شِرْخَهُمْ").
"اقتُلُوا شيوخَ المشركين، وَاستحيوا شرخهم"
(2)
، وفي رِوَايةٍ:"وَاستبقوا"
(3)
، وَالاستحيَاءُ هو الاستبقاءُ كما في قصة فرعون:{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4].
و"استحيوا"، يعني: استبقوا. "شرخهم"؛ أي: صغارهم؛ أي: اقتلوا كبارهم، واستبقوا صغارهم أي: الذين لم يبلغوا بعد، وهم الذين جاء التنصيص عليهم، أو الإشارة إليهم في حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما المتفق
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي (1583) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه الحجاج بن أرطاة، عن قتادة نحوه، وأخرجه أحمد في "مسنده"(20145)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6757، 6758، 6759)، والبيهقي في "الصغرى"(2838).
(3)
أخرجه أبو داود (2670)، وأحمد في "مسنده"(20230)، والبيهقي في "الكبرى"(18164)، قال الزيلعي كما في "نصب الراية" (3/ 395): والحجاج بن أرطاة غير محتج به والحسن عن سمرة منقطع في غير حديث العقيقة على ما ذكره بعض أهل العلم بالحديث.
عليه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن قتل النساء والصبيان"
(1)
، اقتُلُوا شُيُوخهم؛ أي: كبارهم، وَليسَ المُرَاد هنا بالشيخ المعنى المعروف، ولكن يشمل اللفظ حتى الشاب يُقْتل أي: كل مَنْ بلغ فإنه يدخل في ذلك، والمقصود بـ "شرخهم": صغارهم، ولذلك يقول: شرخ الشباب أي: أول الشباب، فإن هؤلاء الذين لم يبلغوا بعد، فمَنْ بلَغ فإنه يُقْتل؛ سواء كان عند سن البلوغ أو تجاوز ذلك.
* قوله: (وَكَأَنَّ العِلَّةَ المُوجِبَةَ لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ إِنَّمَا هِيَ الكُفْرُ).
علَّل الشافعية القتلَ بالكفر، فإذا كان قَتل هؤلاء لكفرهم؛ فلا يفرق حينئذٍ بين شابٍّ وغيره، هارمٍ وبين غير هارمٍ، بين منقطع للعبادة وغير منقطع، أجير وغير أجير، كلُّ هؤلاء يدخلون
(2)
.
وأمَّا العلماء فإنهم نظروا نظرةً أُخرى، فقد تعمَّقوا في روح هذه الشريعة، وفي لُبِّها، وأدركوا أن هناك غاية مقصودة، وأن هناك حكمة في هذه الشريعة، وهو وجود الإيذاء، والمؤذي إنما هو المقاتل، إذًا هذه نظرة جماهير العلماء، وقد أدركوا ذلك بمفهوم وسبل هذه الشريعة إلى جانب الأدلة التي معهم في هذا المقام
(3)
.
* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ تَطَّرِدَ
(4)
هَذِهِ العِلَّةُ فِي جَمِيعِ الكُفَّارِ).
"تطرد": بمعنى تسري على جميع الكفار.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 310) حيث قال: "وقد اختلف قول الشافعي في إباحة قتل الرهبان، وأصحاب الصوامع، والأعمى ومَنْ لا نهضة فيه من الشيوخ والزمنى الذين لا يقاتلون؛ إما لتعبد كالرهبان، أو لعجز كالشيخ الفاني، ففي جواز قتلهم قولان:
أحدهما: يجوز قتلهم؛ لأنهم من جنس مباح القتل، ولأنهم كان رأيهم وتدبيرهم أضرَّ علينا من قتال غيرهم، فعلى هذا لا يقرون في دار الإسلام إلا بجزية".
(3)
تقدَّم تخريج ذلك مفصلًا.
(4)
"اطراد الشيء": أيْ: تابع بعضه بعضًا. انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 54).
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الحَرَّاثُ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه وَفِيهِ: "لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الفَلَّاحِينَ)
(1)
.
المقصود بالحرَّاث: الفلاح
(2)
. . والغدر غير مطلوب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق وهم غارون؛ أي: غافلون، فالإمام ينظر إلى المقام.
* قوله: (وَجَاءَ فِي حَدِيثِ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ العَسِيفِ المُشْرِكِ، وَذَلِكَ "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَه، فَوَقفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ"
(3)
).
فَدلَّ ذلك على النهي عن قتل النساء، وقد مرَّ قبله الحديث المتفق عليه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نهى عن قتل النساء والصبيان"
(4)
.
* قوله: (ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ القَوْمِ، فَقَالَ لِأَحَدِهِمُ: الحَقْ بِخَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا، وَلَا امْرَأَةً).
هذه تكملةٌ للحديث، فقد مر بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع سرية بعد أن رأى تلك المرأة، ونظر في وجوه مَنْ معه من أصحابه، فأمر رجلًا أن يلحق بخالد بن الوليد ليخبره بنَهْي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء وغلمانهم.
* قوله: (وَالسَّبَبُ المُوجِبُ بِالجُمْلَةِ لاخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ فِي العِلَّةِ
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
"الحراث": الزراع. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 279).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
المُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ العِلَّةَ المُوجِبَةَ لِذَلِكَ هِيَ الكُفْرُ، لَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنَ المُشْرِكِينَ).
هذه هي العلة في قتل كل مشركٍ كان، فالعلة هي الكفر، فلا فرق بين رجل وامرأة، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين راهب وغيره، فالكل يقتل؛ لأن اللَّه تعالى يقول:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وإن كانت العلة الأُخرى التي يوردها المؤلف وهي أن الذي يقتل هو الذي يقاتل، أو القادر على القتال، فقد مر بنا أن الذي به مرضٌ مزمنٌ لا يقتل، أما الذي به مرض يظن أنه يصح منه، فالعلماء يختلفون فيه أيُقْتل أم لا؟
(1)
.
* قوله: (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ إِطَاقَةُ القِتَالِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ
(1)
لم أجد نصًّا للفقهاء على قتل المريض الذي يُرْجى شفاؤه، وَلَكنهم لم يختلفوا في المجنون الذي يجن ويفيق أنه يقتل.
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(4/ 132) حيث قال: "والذي يجن ويفيق يقتل في حال إفاقته وإن لم يقاتل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 176) حيث قال: " (قوله: فالمجنون أولى)؛ أي: إذا كان مطبقًا، فإن كان يفيق أحيانًا قتل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (4/ 129) حيث قال: "ويقتل المريض إذا كان ممن لو كان صحيحًا قاتل؛ لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح إلا أن يكون مأيوسًا من برئه، فيكون بمنزلة الزمن. . قاله المصنف وغيره".
أما مذهب الشافعية، فالمشهور عند الشافعي جواز قتل الزَّمن، فالمريض الذي يُرْجى شفاؤه، والمجنون الذي يفيق، فقتله آكد.
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 210) حيث قال: "وجاز قتال صبي ومجنون، ومَنْ به رق، وأنثى وخنثى قاتلوا، فإن لم يقاتلوا حَرُمَ قتلهم للنهي في خَبَر "الصحيحين" عن قتل النساء والصبيان، وإلحاق المجنون ومَنْ به رق، والخنثى بهما، وعلى هذا يُحْمل إطلاق الأصل حرمة قتلهم وكالقتال السب للإسلام أو المسلمين، وذكر من به رق من زيادتي، وجاز قتل غيرهم ولو راهبًا وأجيرًا وشيخًا وأعمى وزمنًا وإنْ لم يكن فيهم قتالٌ، ولا رأيٌ".
النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُنَّ كفَّارٌ، -اسْتَثْنَى مَنْ لَمْ يُطِقِ القِتَالَ-)؛ لأنَّ النِّساءَ لا يُجَاهدن، وقد يأتي خلاف ذلك كما هو في وقتنا هذا؛ ولأن النساء وإن كانت بخلاف الرجال إلا أن لديهن من الشجاعة والقدرة ما ليس لديهم، لكن لو غلَا هؤلاء أو أحد هؤلاء، فإنه يقتل؛ أي: لو أن نساءً شاركن في قتال المسلمين، أو أُجَراء، أو أنهم رهبوا؛ فإنهم في هذه الحالة يقتلن، فلا يستثنى أحدٌ ممن يقتل المسلمين
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 132) حيث قال: "وكذا يُقْتل مَنْ قاتل من كل من قلنا: إنه لا يقتل، كالمجنون والصبي والمرأة إلا أن الصبي والمجنون يقتلان في حال قتالهما، أما غيرهما من النساء والرهبان وغيرهم، فإنهم يقتلون إذا قاتلوا بعد الأسر، والمرأة الملكة تقتل وإن لم تقاتل، وكذا الصبي الملك".
ومَذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 176) حيث قال:" (قوله: إلا المرأة إلا في مقاتلتها)، الاستثناء الأول من الواو من "قوتلوا"، والثاني من مقدر دل عليه الاستثناء الأول؛ أي: فلا تقتل إلا في مقاتلتها، وفي سببه أي إلا بسبب مقاتلتها، فتُقْتل حال مقاتلتها وبعده، وليس المراد أنها لا تقتل إلا في حال مقاتلتها فقط كما هو ظاهره.
واعلم أن للمرأة ثمانية أحوال؛ لأنها إما أن تقتل أحدًا أو لا، وفي كل إما أن تقاتل بسلاح أو غيره، وفي كل إما أن تؤسر أو لا، فإن قتلت أحدًا بالفعل جاز قتلها؛ سواء كانت مقاتلتها بسلاح أو بغيره كالحجارة، سواء أسرت أم لا، وإن لم تقتل أحدًا فإن قاتلت بالسلاح كالرجال جاز قتلها أيضًا، أسرت أم لا، وإن قاتلت برمي الحجارة، فلا تقتل بعد الأسر اتفاقًا، ولا في حالة المقاتلة على الراجح، وهاتان الحالتان مستثناتان من قول المصنف إلا في مقاتلتها. (قوله: ولو بعد أسرها)، ما ذكره من جواز قتلها بعد الأسر إذا قتلت أحدًا، وقاتلت بالسلاح، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى، وهو المذهب كما قال الفاكهاني. وقال سحنون: لا تقتل المرأة إذا أسرت مطلقًا، وصححه ابن ناجي، وهو ظاهر المصنف، وقيل: إن قتلت أحدًا جاز قتلها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 29، 30) حيث قال: " (ويحرم عليه قتل صبي ومجنون)، ومَنْ به رق (وامرأة وخنثى مشكل) للنهي عن قتل الصبيان والنساء في "الصحيحين"، وألحق المجنون بالصبي، والخنثى بالمرأة لاحتمال أنوثته. =
* قوله: (وَمَنْ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ إِلَيْهِ كَالفَلَّاحِ وَالعَسِيفِ).
فالفلاح متفرغ لفلاحته، مشغول بمزرعته، والعسيف وهو الأجير مشغول بأعمال سيده، متفرغ لها، منفرد إليها، فهو أيضًا زاهد وبعيد عن القتال، فهل يقاتل؟ نعم، إن أعدَّ نفسه للقتال وكان من المقاتلين ألحق بهم، وإلا فلا على القول الغالب.
* قوله: (وَصَحَّ النَّهْيُ عَنِ المُثْلَةِ
(1)
)
(2)
.
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ونعلم قصة العرنيين الذين جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد ألمَّ بهم مرض، فأرسلهم إلى إبل الصدقة، فشربوا من أبوالها وألبانها ثم شفوا، ثم تنكروا لذلك المعروف، وتنكروا ذلك
= تنبيه: يُسْتثنَى من ذلك مسائل:
الأولى: إذا لم يجد المضطر سواهم، فله قتلهم وأكلهم على الأصح في زيادة "الروضة" من كتاب الأطعمة.
الثانية: إذا قاتلوا يجوز قتلهم، وقد استثناها في "المحرر".
الثالثة: حال الضرورة عند تَتَرُّس الكفار بهم كما سيأتي.
الرابعة: إذا كانت النساء من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية، وعبدة الأوثان، وامتنعن من الإسلام.
قال الماوردي: فيقتلن عند الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه.
الخامسة: إذا سب الخنثى أو المرأة الإسلامَ أو المسلمين لظهور الفساد".
ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (7/ 54، 55) حيث قال: "إلا أن يقاتلوا، فَيَجُوز قتلهم بغير خلاف؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة، وَرَوى ابن عباس أن النبي مر على امرأة مقتولة يوم الخندق، فقال: من قتل هذه؟ فقال رجل أنا، نازعتني قائم سيفي فسكت، أو يحرضوا عليه أي: على القتال، فإن حرض أحدٌ منهم جاز قتله، فإن تحريض النساء والذرية أبلغ من مباشرتهم القتال بأنفسهم".
(1)
"مَثَلَ به يَمْثُلُ مَثْلًا"؛ أي: نكل به. والاسم: المُثْلَةُ بالضم. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1816).
(2)
أخرجه البخاري (2474) عن عدي بن ثابت، سمعت عبد اللَّه بن يزيد الأنصاري -وهو جده أبو أمه- قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبى والمُثْلة".
الفضل، فما كان منهم إلا أن قتلوا الراعي ومثَّلوا به، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فلحق بهم ثُمَّ مثَّل بهم إلى أن ماتوا عقوبةً لهم بنفس النوع الذي مثَّلوا به الراعي
(1)
.
وقد جاء في ذلك ما يزيد على عشرين حديثًا، كلها جاء فيها النهي عن المُثْلة، كأن يفقأ عينه، أو شفته، أو شيء مما يشوِّه شكل هذا الإنسان، فيحافظ اللَّه سبحانه وتعالى على هذه الصور الحسنة، وهذا تبديلٌ لخَلْق اللَّه، واللَّه تعالى يقول:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
فلَا تَجُوز المُثلة، ولذلك اتفق على تحريمها
(2)
، ومراد المؤلف أنه إذا ظفر المسلمون بأعدائهم، فإنهم لا يُمثِّلون بهم.
* قوله: (وَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِمْ بِالسِّلَاحِ)
(3)
.
أما بالسلاح، فذلك مطلوب في وقت الحرب؛ سواء كانت الحرب قائمةً أو بعد أن تضع الحرب أوزارها، وقد تقدَّم الكلام بالنسبة للأسرى واختلاف العلماء فيه، وأما الإمام -كما عرفنا- فهو مخيَّر فيهم بين أمورٍ عدا النساء والصبيان، فإنهم لا يقتلون.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ).
هذه مسألة قد ورد فيها عدة أحاديث، وكما هو معلوم الذي
(1)
أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671)، عن أنس بن مالك قال: قدم أناسٌ من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقون.
(2)
نقل الإجماع على كراهة المُثْلة النووي رحمه الله.
يُنظر: "شرح النووي على مسلم" للنووي (2/ 37)، حيث قال:"وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهة المُثْلة".
(3)
سبق بيان ذلك.
يُعذِّب بالنار إنما هو رب النار اللَّه سبحانه وتعالى، كما قال اللَّه عز وجل:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)} [إبراهيم: 28 - 30].
والآيات في ذلك كثيرة، وأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذلك، وقد ورد في ذلك عدة أحاديث، أورد المؤلف منها حديث حمزة السلمي الذي جاء فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طلب منه: إنْ وجدت فلانًا فأحرقه بالنار، فلما ولَّى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له:"إني قلت: إن وجدت فلانًا فأحرقه بالنار، فإن وجدت فلانًا فاقتله؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار"، والحديث أخرجه أبو داود
(1)
، وغيره
(2)
بإسناد صحيح.
وورد في "صحيح البخاري"، وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بعث بعثةً -أي: أرسل رسلًا- وأمرهم إن وجدتم فلانًا وفلانًا من قريش، فأحرقوهما بالنار، ثم أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال لهم:"إن وجدتم فلانًا وفلانًا، فاقتلوهما؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا اللَّه عز وجل"
(3)
.
فهذه أحاديث صحيحة دلت على أنه لا يجوز التعذيب بالنار، لكن لو فعل الكفار ذلك، أيقابلهم المسلمون؟ هذا يرجع إليهم بالنظر إلى الضرورة، وقد جاء في الأثر عن أبي بكر أنه أذن لخالد بن الوليد أن يحرق بالنار
(4)
، وقيل: إنه فعل ذلك، لكن اتفق العلماء إلى أنه لا يُحرَّق
(1)
حديث (2673)، وصححه الأَلْبَانيُّ في (صحيح أبي داود)(1/ 2).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(16034)، وغيره، وصححه الأرناؤوط.
(3)
أخرجه البخاري (3016)، والترمذي (1571)، وأحمد في "مسنده" (8461) عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه أنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال:"إِنْ وَجدتُمْ فلانًا وفلانًا، فأحرقوهما بالنار"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج:"إني أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يُعذِّب بها إلا اللَّه، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
(4)
أخرجه البيهقي في (الكبرى)(8/ 405)، عَنْ صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد =
بالنار، فعامة العلماء يَرَون التحريق، وأنه لا يُلْجأ إليه إلا عند الضرورة والحاجة، والحاجة -كما هو معلوم في قواعد الفقه- تنزل منزلة الضرورة، فعند الضرورة يحصل ذلك إن أمكنَ الظفر بالعدوِّ.
* قوله: (فَكَرِهَ قَوْمٌ تَحْرِيقَهُمْ بِالنَّارِ، وَرَمْيَهُمْ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ
(1)
، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ
(2)
، وَأَجَازَ ذَلِكَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ
(3)
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِن ابْتَدَأَ العَدُوَّ بِذَلِكَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا)
(4)
.
= كَتَب إلى أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له أنه وجد رجلًا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكرٍ رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذٍ قولًا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع اللَّه بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأي أَصْحَاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتَب أبو بَكْرٍ رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 26) حيث قال: "واختلفوا في رمي أهل الشرك بالنار، فكره ذلك عمر بن الخطاب؛ لأنه حرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبي بكر: انزع هذا الذي يُعذب بعذاب اللَّه".
(2)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (1/ 513) حيث قال: "قلت لابن القاسم: أرأيت لو كان في الحصن الذي حصره أهل الإسلام ذراري المشركين ونساؤهم، وليس فيهم من أهل الإسلام أحدٌ، ترى أن ترسل عليه النار فيحرق الحصن وما فيه أو يغرقوه؟ قال: لا أقوم على حفظه، وأكره هذا، ولا يعجبني.
قلت: أليس قد أخبرتني أن مالكًا قال: لا بأس أن تحرق حصونهم ويغرقوا، قال: إنما ذلك إذا كانت خاويةً ليس فيها ذراري، وذلك جائز، وإن كان فيها الرجال المقاتلة فأحرقوهم؟ قال: لا بأس بذلك". وانظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 177).
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 27) حيث قال: "وكان الثوريُّ يقول: وإذا حاصرت أهل حصن، فلا بأس أن يرموا بالمناجيق والنار"، وانظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 26).
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 27) حيث قال: "قلت: في البحر يرمون بالنيران. قال: إن بدؤوهم فلا بأس".
"رميهم"؛ أي: قذفهم بالنار، وهذا هو رأي الجمهور، فهناك مَنْ يمنع التحريق بالنار مطلقًا؛ عملًا بالأحاديث التي مرَّت بنا، ولأن الذي يعذب بالنار إنما هو اللَّه سبحانه وتعالى.
والقول الآخر: أنهم يحرقون مطلقًا أي: يجوز مطلقًا.
والقول الثالث: التفريق بين أن يبدأ المسلمون بذلك أو لا، أو أن تكون هناك ضرورة لدفع شرهم.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْخُصُوصِ، أَمَّا العُمُومُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]).
إذًا، اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و"حيث" ظرف، يعني: في أي مكانٍ وأي حالٍ فاقتلوهم، وهذا عام، فهل تخفف في مثل هذه الأحاديث؟ أو تبقى على عمومها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، فهل هذا العموم يبقى على عمومه أو أنه يخفف؟
* قوله: (وَلَمْ يَسْتَثْنِ قَتْلًا مِنْ قَتْلٍ).
أي: لم يَسْتثنِ نوعًا من أنواع القتل؛ لأن القتلَ يكون بالسيف، وبالرمي من بعيدٍ كما سيأتي، ويكون أيضًا بالتحريق بالنار، وبالإغراق وهو شبيهٌ بالتحريق بالنار، ولم يرد فيه نص، لكنه بمعنى أن تطلق عليهم الماء فيغرقوا في أماكنهم.
والإمام أو قائد الجيش ينظر فيما فيه المصلحة، فقد يتوقع من هؤلاء الدخول في الإسلام، أو الرجوع، أو ربما يتقي شرهم؛ فلكل مقام مقال، فكل حالة مكانها ومقالها تختلف من حالٍ إلى حالٍ.
* قوله: (وَأَمَّا الخُصُوصُ، فَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي
رَجُلٍ: "إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُ النَّارِ"
(1)
).
"إن قدرتم": إن أخذتم فلانًا.
* قوله: (وَاتَّفَقَ عَوَامُّ الفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الحُصُونِ بِالمَجَانِيقِ
(2)
، سَوَاءً كَانَ فِيهَا نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ)
(3)
.
"المنجنيق" يجمع على "منجنيقات"، أو على "مجانيق"، كما ذكر المؤلف، وهذه الكلمة من الكلمات التي عرِّبت أي: دخلت على اللغة
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
"المنجنيق": القذاف التي تُرْمى بها الحجارة، معربة من الفارسية. انظر:"الصحاح" للجوهري (4/ 1455)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 75).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 447) حيث قال: " (قوله: فإن أبوا ذلك، استعانوا عليهم باللَّه تعالى، وحاربوهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة: "فإن أبوا ذلك، فاستعن باللَّه عليهم، وقاتلهم")، وتقدَّم الحديث بطوله، والكلام عليه. والمدمر المهلك (فيُسْتعان باللَّه في كل الأُمور، ونصبوا عليهم المجانيق كما نصب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف) على ما في الترمذي مفصلًا، فإنه قال: قال قتيبة: حدثنا وكيع عن رجلٍ عن ثور بن يزيد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف، قلت لوكيعٍ: من هذا الرجل؟ فقال: صاحبكم عمر بن هارون".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 177) حيث قال: "قوله: (بقطع ماء) عنهم أو عليهم حتى يغرقوا (وآلة) كسيف ورمح ومنجنيق، ولو فيهم النساء والصبيان (وبنار إن لم يمكن غيرها) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 241) حيث قال: " (ورميهم بنار ومنجنيق)، وغيرهما، وإن كان فيهم نساء وصبيان، ولو قدرنا عليهم بدون ذلك كما قاله البندنيجي، وإن قال الزركشي: الظاهر خلافه، وذلك لقوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم حصر أهل الطائف، ورماهم بالمنجنيق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 623) حيث قال: " (و) يجوز (رميهم)؛ أي: الكفار (بمنجنيق) نصًّا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف. . رواه الترمذي مرسلًا، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية، فظاهر كلام أحمد جواز مع الحاجة وعدمها".
العربية، ولم يكن أصلها عربيًّا، لكنها أُدْخلت على اللغة العربية فعُرِّبت، فهو من الأسلحة التي دخلت على المسلمين.
فـ "المنجنيق" بفتح الميم: هو آلة من الآلات التي كان يوضع فيها الحجارة أو ما يشبهها، وكانت تطلق من مسافات بعيدة، فتلقي بالحجارة بشدة، وهذا قد حصل:"أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف سبعة عشر يومًا"، وقد جاء ذلك في حديث أخرجه أبو داود
(1)
؛ لأن أبا داود له كتاب غير كتاب "السنن"، وهو كتاب "المراسيل"، كذلك أخرجه النسائي
(2)
في "طبقاته"، وأخرجه أيضًا الترمذي
(3)
.
كذلك حصل أيضًا أنه في زمن فتح مصر حينما فتح عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، واستخدم فيهم المنجنيق.
إذن، استخدم عمرو بن العاص المنجنيق في فتح الإسكندرية
(4)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الطائف، وعمرو بن العاص وهو صحابيٌّ فعل ذلك، ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا مقتديًا بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك في فتح الإسكندرية.
فالرَّميُ بالمنجنيق القصد به: ضرب الأعداء، وهذه الضربات قد تقع على نساءٍ وأطفالٍ، وَهَذا سيعرض له المؤلف، إِذْ ورد في الأحاديث النهي عن قتل النساء والصبيان، لَكن هل هذا على عمومه؟ فإذا كانوا أمام العدوِّ وتفرَّقوا بهؤلاء النساء والصبيان، أو كان من بينهم نساء وصبيان، فهل نُطْلق عليهم المنجنيق؟ أو يلحقون الأذى بهم؟ دائمًا المصلحة العامة تُقدَّم
(1)
أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 248) عن مكحول، أن النبي صلى الله عليه وسلم:"نصب المجانيق على أهل الطائف".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
أخرجه الترمذي عقب حديث (2762). وقال الأَلْبَانيُّ في (ضعيف الترمذي)(6/ 262): موضوع.
(4)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(13/ 240) عن موسى بن عليٍّ، عن أبيه، أن عمرو بن العاص "نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية".
على المصلحة الخاصة، فمصلحة المجتمع تقدم على مصلحة الفرد.
إذًا، في هذه الحَالة نجد أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه نفذوا المنجنيق حتى يقال بأن امرأةً أطلقت عليهم، وأنها كانت تتحدَّى، فوجه إليها أحد الصحابة فضربها بالمكان الذي تحدت فيه
(1)
، وذكر ذلك أيضًا الفقهاء في كتبهم وأسندوه.
وتَبيَّن من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب المنجنيق على الطائف، وأن عمرو بن العاص فعل ذلك فى الإسكندرية، وأن هذه الأماكن لا تخلو من وجود أطفالٍ ونساءٍ.
* قوله: (لِمَا جَاءَ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَصَبَ المَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ"، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَطْفَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ).
فإذَا كان هناك حصنٌ للعدوِّ فيه أُسَارى من المسلمين، فهل يُطْلق عليهم المنجنيق أيضًا؟
هذه المسألة فيها تفصيلٌ: فإن كانت الحربُ قائمةً، يطلق عليهم، أما إن كانت الحرب غير قائمة، أو لم تكن هناك حاجة لقتالهم لعدم الخوف منهم، أو الخطر بهم دون رميهم، فإنَّه في هذه الحالة لا يُطْلق عليهم، لكن لو قدر أن ذلك حال الحرب، ووجَّه المسلمون أسلحتهم، فَرَموا تلك الأماكن وقُتِلَ من المسلمين رجلٌ أو امرأةٌ، فما الحَال في ذلك؟ هل الذي قَتلَ ذلك المسلم أو تلك المسلمة عليه كفارة أو تلزمه الدية؟
فيه تفصيلٌ: فعند الحنفية لا دية، ولا كفارة؛ لأن ذلك معلومٌ بأنه
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 361)، عن عكرمة، قال: لما حاصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، أشرفت امرأة، فكشفت عن قُبُلها، فقالت: ها دونكم فارموا، فرماها رجلٌ من المسلمين، فما أخطأ ذلك منها.
جهادٌ وقتالٌ
(1)
، ومن العلماء من قال: فيه كفارة
(2)
، ومنهم من قال: فيه دية
(3)
.
* قوله: (فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُفُّ عَنْ رَمْيِهِمْ بِالمَنْجَنِيقِ، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ
(4)
. وَقَالَ اللَّيْثُ: ذَلِكَ جَائِزٌ
(5)
)
(6)
.
فَصَّل العُلَمَاءُ أصحابُ المذاهب: إِنْ لم تكن هناك حاجةٌ، ولا ضرورةٌ، أو لم تكن الحرب قد قامت؛ فإنه لا يؤجل، ثم يختلفون بعد ذلك في أخذ الدية، فَنَجد عند الشافعية
(7)
، والحنابلة خلافًا
(8)
،
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 447) حيث قال: " (قوله: ولا بأس برميهم وَإنْ كان فيهم مسلم أسير أو تاجر)، بل ولو تَتَرَّسوا بأسارى المسلمين وصبيانهم، سواء علم أنهم إن كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم يعلموا ذلك إلا أنه لا يقصد برميهم إلا الكفار.
فإن أُصِيبَ أحدٌ من المسلمين، فلا دية ولا كفارة، وعند الأئمة الثلاثة لا يجوز".
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
سيأتي تخريجه.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 26) حيث قال: "وقال الأوزاعي: إذا تَتَرس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا؛ لقول اللَّه عز وجل: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} ".
(5)
بل غير جائز.
(6)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 28) حيثا قال: "وقار الليث بن سعد: تَرْكُ فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حقٍّ، وقالا: قال اللَّه عز وجل في أهل مكة: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية".
(7)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 242) حيث قال: "ودم المسلم لا يُبَاح بالخوف بدليل صورة الإكراه راعيناه، فقلنا بالجواز فقط، ومع الجواز أو الوجوب يضمن المسلم ونحو الذمي بالدية أو القيمة".
(8)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 288، 289) حيث قال: "فإن رماهم فأصاب مسلمًا، فعليه ضمانه، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز رميهم؛ لأنها حال ضرورة، ويقصد الكفار، وإن لم يخف على المسلمين، لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، وفي الدية على عاقلته روايتان: =
وعند الحنفية لا دية ولا كفارة
(1)
.
* قوله: (وَمُعْتَمَدُ مَنْ لَمْ يجِزْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الآيَةَ [الفتح: 25]، وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى المَصلَحَةِ، فَهَذَا هُوَ مِقْدَارُ النِّكَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ بِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَرِقَابِهِمْ).
المَصْلحة تُرَاعى في كل أمرٍ من الأُمور، فالضرورات تقدر بقدرها، فقد تكون هناك ضرورة يلجأ إليها المسلمون؛ لأنه ربما لو لم تكن تلك الحصون لنَكَّلوا بالمؤمنين، وألحقوا بهم ضررًا، فيختار أسوأ الضررين، فإن أمكن دفع أولئك دون قتالٍ، أو أمكن الاستيلاء عليهم دون ضرب تلك الحصون التي يقيم فيها أسرى من المؤمنين، كان ذلك، وإن لم يكن فإنها تُضْرَب؛ لأن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، فحماية جميع المسلمين مقدمة على حماية بعضهم، وحفظ أرواح المؤمنين عامة وإقامة راية الجهاد مقدمة على تعطيلها؛ لأنه لو لم نتوقف عند هذه، ربما يتطرق العدو للصبيان والنساء من الكفار، فبذلك تتعطل راية الجهاد، فهذه أُمور اجتهدوا فيها في وقتها.
* قوله: (وَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي تَجُوزُ فِي أَمْوَالِهِمْ).
الأموال تشتمل على عدة أمورٍ: فهناك مثلًا أشجار مثمرة، وأشجار تظلل، فهذه كلها نوع من الأموال، فهل تحرق هذه الأموال؟ وهل تهدم
= إحداهما: يجب؛ لأنه قتل مؤمنًا خطأً، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .
والثانية: لا دية له؛ لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح، فيدخل في عموم قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، ولم يذكر ديةً".
(1)
تقدَّم تخريجه.
تلك البيوت وتلك الحصون؟ وهل تقطع تلك الأشجار؟ هذه فيها كلامٌ مفصلٌ للعلماء.
* قوله: (وَذَلِكَ فِي المَبَانِي وَالحَيَوَان وَالنَّبَاتِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَ مَالِكٌ قَطْعَ الشَّجَرَةِ وَالثِّمَارِ)
(1)
.
أمَّا بالنِّسبة للشجر، ففيه تفصيلٌ؛ لأن تلك الأشجار لا تخلو من واحد من ثلاثة أُمور:
1 -
هذه الأشجار قد تكون مفيدةً في الظل، وربما تحمل ثمرًا، فهذه الأشجار إذا كان العدو يتترس بها، أو يستظل بها، أو يبني بها حصونه التي يقيم بها، أو أنه وضَعها بمثابة خط دفاعٍ، أو أنها تسدُّ الطريق على المؤمنين؛ فإنه في هذه الحالة تُزَال.
2 -
أما إذَا كانت هذه الأشجار فيها مصلحةٌ للمؤمنين بأن يستظلوا مكانًا ليقيموا تحته، وفيها من الثمر الذي يحتاجون إليه في أكلهم، وفيها ما ترعى أغنامهم، ففي هذه الحالة لا تقطع، ولا يتعدى عليها.
3 -
أما إذا لم يحتج المسلمون إليها، ولم يكن يتترس بها الكفار، فوقع الخلاف بين العلماء، فأكثر العلماء على أنها تُزَال غيظًا للكفار، وكيدًا لهم، ومن العلماء من قال: لا تزال، وهم أكثر العلماء (كالحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 180) حيث قال:" (و) جاز بمعنى أذن للإمام (ببلدهم إقامة الحد)، إذ هو واجب (و) جاز (تخريب) لديارهم (وقطع نخل وحرق) لزرعهم وأشجارهم".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 447) حيث قال: "لأن المقصود كبت أعداء اللَّه، وكسر شوكتهم، وبذلك يحصل ذلك، فيفعلون ما يمكنهم من التحريق، وقطع الأشجار، وإفساد الزرع، هذا إذا لم يغلب على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون، وأن الفتح باد، كره ذلك؛ لأنه إفساد في غير محل الحاجة، وما أبيح إلا لها".
(3)
تقدَّم قولهم.
ورواية للشافعية)
(1)
، والحنابلة على أنها تزال غيظًا بهم
(2)
، والبقية تقول: لا تزال.
والحقيقة أنَّ هذه متروكة للمؤمنين، يفعلون ما يرون فيه مصلحة، فإن كان العدوُّ يعامل المسلمين معاملةً سيئةً، فَعَلى المسلمين أن يعاملوا أيضًا العدو بذلك، وقَدْ لا يُفْعل ذلك مع المؤمنين، فلو فعلوا ذلك، عاملوهم بالمثل، فإنه في هذه الحالة قد تُزَال.
إذًا، هذه قضايا اجتهادية، يجتهد فيها قائد الجيش أو المسؤول عنه للمصلحة.
* قوله: (فَأَجَازَ مَالِكٌ قَطْعَ الشَّجَرَةِ وَالثِّمَارِ).
وَمَعَه أَبو حَنيفَة في هذه المسألة؛ فإنَّ ذلك يؤدي إلى غيظ الكفار في مثل هذه الأمور؛ لأن الكفارَ إذا رأوا أن أشجارهم تُقْطع، وَنَخيلهم يحرق، وَمَزارعهم تغرق؛ فَهَذا يَجْعل الخوفَ يدبُّ إلى نفوسهم، والرعب والفزع مما يضعف نفوسهم، ويقوي مكانة المؤمنين.
وَيَقُولُ بعضهم: نحن ننظر إلى المصلحة، فإن كانت هذه المصلحة للمؤمنين، وفائدة لهم، فلا ينبغي أن نفعل ذلك، وإن كان فيه مصلحة للكفار، فينبغي أن نزيلها، وإن كانت لا تلك ولا تلك، فهذه اختلفوا فيها أيضًا.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 184) حيث قال: "وهو كما ذكر يجوز أن يقطع على أهل الحرب نخلهم وشجرهم، ويستهلك عليهم زرعهم وثمرهم إذا علم أنه يفضي إلى الظفر بهم".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 623) حيث قال: " (ولا) يجوز (إتلاف شجر، أو زرع يضر) إتلافه (بنا)؛ لأنه إضرارٌ بالمسلمين، فإن لم يضر بنا، أو لم نقدر عليهم إلا به كقريب من حصونهم يمنع قتالهم أو يستترون به، أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق، أو كانوا يفعلونه بنا، جاز قطعه".
* قوله: (وَتَخْرِيبَ العَامِرِ، وَلَمْ يُجِزْ قَتْلَ المَوَاشِي وَلَا تَحْرِيقَ النَّخْلِ).
لا تُقْتل المواشي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحل
(1)
، وعَنْ قتل الحيوان، أما النخل فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قطع وحرق نخل بني النضير، حيث قال تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5].
* قوله: (وَكَرِهَ الأَوْزَاعِيُّ قَطْعَ الشَّجَرِ المُثْمِرِ، وَتَخْرِيبَ العَامِرِ)
(2)
.
ومعه الشافعي وأحمد كما هو معلوم في حالة ما إذا كان المسلمون يَسْتَفيدون بها، ولا يلحقهم ضررٌ.
* قوله: (كَنِيسَةً كَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُحَرَّقُ البُيُوتُ وَالشَّجَرُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلَ)
(3)
.
ومعه الإمام أحمد في هذه الحالة يعني: مالك وأبو حنيفة رأيُهُما مطلقٌ، أما الشافعية والحنابلة فقالوا: إذا كانت هذه البيوت والأشجار
(1)
أخرجه أبو داود (5267) عن ابن عباس، قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد"، وصححه الأَلْبَانيُّ في (صحيح الجامع)(6968).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 31) حيث قال: "وقال الأوزاعي: أكره قطع شجرة مثمرة، أو تخريب شيءٍ من العامر؛ كنيسةً أو غيرها.
وعن الأوزاعي في روايةٍ أخرى: أنه لا بأس بأن يحرق الحصن إذا فتحه المسلمون، وإن أحرق ما فيه من طعامٍ أو كنيسةٍ، وكره كسر الرحا وإفسادها. قال: ولا بأس بتحريق الشجر في أرض العدو".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 184) حيث قال: "وهو كما ذكر يجوز أن يقطع على أهل الحرب نخلهم وشجرهم، ويستهلك عليهم زرعهم وثمرهم إذا علم أنه يُفْضي إلى الظفر بهم".
والحصون والمزارع مكانًا لهم، وحصنًا يتترسون بها؛ فإنها تُزَال، أما إذا لم يكن كذلك، وفيها مصلحة للمؤمنين، فلا.
* قوله: (وَكَرِهَ تَخْرِيبَ البُيُوتِ، وَقَطْعَ الشَّجَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاقِلَ).
كره إذا لم تكن لهم معاقل؛ لأنه في النهاية قد يَفْتح المسلمون هذه البلاد، وهذا قد حصل، فإن الإسلام بدَأ بمكَّة، ونعلم ما جَرى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قومه، فحقرهم في بني عامر، واستعملوا معه كل أنواع الأذى حتى وهو يصلي
(1)
، وأخرجوه من مكة، فخرج إلى الطائف صلى الله عليه وسلم، ورمي بالحجارة، وعاد ولم يدخلها إلا بحمايةٍ
(2)
.
ثمَّ بعد ذلك هاجر عددٌ من المسلمين إلى الحبشة، ثم أذن اللَّه تعالى لرسوله وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة، هذه البلاد الطيبة، ورأينا أن الإسلام بدأ يشع نوره ويمتد وينتشر حتى شمل أنحاء العالم، تُسْمع فيها كلمة:"اللَّه أكبر"، وتُسْمع فيها كلمة:"لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه".
إذًا، الإسلام انتشر في كل مكان، ومن هنا رأينا أن عمر بن
(1)
أخرجه البخاري (3185)، ومسلم (1794) عن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد، وحوله ناس من قريش من المشركين، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزورٍ، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة عليها السلام، فأخذت من ظهره، ودعت على مَنْ صنع ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل ابن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف"، أو "أبي بن خلف"، فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدرٍ، فألقوا في بئر غير أمية، أو أبي، فإنه كان رجلًا ضخمًا، فلما جروه، تقطعت أوصاله قبل أن يلقى في البئر.
(2)
يُنظر: "الإشارة إلى سيرة المصطفى" لمغلطاي (ص 133، 134) حيث قال: "ثم خرج إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، في ليالٍ بقين من شوَّال سنة عشر، ومعه زيد بن حارثة، فأقام به شهرًا يدعوهم إلى اللَّه تعالى، فلم يجيبوه، وأغروا به سفهاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى إن رجليه لتدميان، وزيد يقيه بنفسه، حتى لقد شجَّ في رأسه، ثم رجع في جوار المطعم بن عدي، ولم يستجب له إنسان".
عبد العزيز رضي الله عنه بحصافته وبرجاحة عقله وبعد الته، ولكَوْنه خامس الخلفاء الراشدين، لما رأى رضي الله عنه أن المسلمين قد توسعوا في الفتوح، وأنه بدأت تنتشر شرقًا وغربًا، فقرر أن تنشر الدعوة أولًا، وألا يتوقف المؤمنون حتى يغرسوا عقيدة التوحيد في نفوس الَّذين فتحوا بلادهم وأوكارهم حتى يكونوا هم حَمَلة راية الإسلام أي: المدافعين عنها، وحصل ذلك، فبعد وَفَاة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما حَصل في عهد بعض الخلفاء من الفتن، وأن هذه الفتن قد امتدت، وفي العصر العباسي وُجِدَ أناسٌ وفرق ينتسبون إلى الإسلام أخذوا يحاربون المشركين، وأخذوا يقيمون ثغراتٍ في قلب الدولة الإسلامية، وبدأ ينصرف المسلمون للفتح ونشر عقيدة التوحيد والجهاد في سبيل اللَّه، وحقيقةً أقاموا ثغراتٍ في الأمة الإسلامية، فَنَصر اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين عليهم وانتهوا، وهؤلاء يظهرون في كل من الأوقات.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُخَالَفَةُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام.
لا نقول: "مخالفة أبي بكرٍ لفعل رسول اللَّه"، حاشا أبا بكرٍ أن يخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو مَنْ هو دونهما من المؤمنين {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
هذا هو مذهب الصحابة، وأبو بكرٍ لو وُزِنَ إيمانه رجح
(1)
، وهو الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عنه:"شدُّوا عليَّ هذه الخرق، فإنها خرق أبي بكر"
(2)
، وكان يقول:"لو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا"
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في (فضائل الصحابة)(1/ 418) عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال: سَمعتُ عُمَر بن الخطاب يقول: "لو وُزِنَ إيمان أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح بهم".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382) عن أبي سعيدٍ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلس =
فالخليفة أبو بكرٍ رضي الله عنه لا يخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يدور ذلك في نفسه أو في خاطره؛ إنما فعل أبو بكرٍ رضي الله عنه ذلك وكان له رأيه، وله وجهته، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للمصلحة، بل اليهود عمومًا نعلم ما حصل منهم من خياناتٍ، وما فعل بنو النضير عندما طوق أعداء الإسلام يوم غزوة الأحزاب
(1)
، إذًا هؤلاء خانوا العقود ونقضوها، فما كان إلا أن يؤدبوا غاية التأديب.
* قوله: (ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ)
(2)
.
= على المنبر فقال: "عبد خيَّره اللَّه بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن أمنَّ الناس عليَّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر".
(1)
أخرجه أبو داود (3004)، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي، ومَنْ كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بالمدينة قبل وقعة بدرٍ: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللَّه لتقاتلنَّه، أو لتخرجنَّه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد اللَّه بن أبي ومَنْ كان معه من عَبدَة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال:"لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم، وإخوانكم"، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدرٍ إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهي الخلاخيل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرًا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك، فقص خبرهم، فلما كان الغد، غَدَا عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم. . . ". وقال الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" (1/ 2): صحيح الإسناد.
(2)
أخرجه البخاري (2326)، ومسلم (1746).
حين خَرَج رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، أتاها ليلًا، وكان إذا جاء قومًا بليل لم يغز حتى يصبح، قال: فلمَّا أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها ومكاتلها، فلمَّا رأوه قالوا: محمد واللَّه والخميس، ففال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللَّه أَكْبَر، خربت خيبر"
(1)
؛ فأولئك قومٌ خانوا المؤمنين، وغدروا بهم، وتواطؤوا مع أعداء المؤمنين، وأن أولئك ممن ذهبوا إلى قريش وحَرَّضوهم على القتال ضد المؤمنين، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أدَّبهم؛ لكنه ما حرق ذلك.
* قوله: (وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا"
(2)
، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ فِعْلَ أَبِي بَكْرٍ هَذَا إِنَّمَا كَانَ لِمَكَانِ عِلْمِهِ بِنَسْخِ ذَلِكَ الفِعْلِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم).
هَذَا هو الأَوْلَى من أن نقول: مخالفة أبي بكر لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أما أبو بكر فهو أعلم منا بما كان يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حضر التنزيلَ وَشَاهده، قال تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]، وهو الملازم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري (4198)، ومسلم (365/ 87) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالمساحي، فلما بصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد واللَّه، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّه أكبر، خربت خيبر، إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] "، فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس".
(2)
أخرجه مالك في (الموطإ)(2/ 447)، عَنْ يحيى بن سعيد، أن أبا بكرٍ الصديق بَعَث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وَكَان أميرَ ربعٍ من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكرٍ: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكرٍ:"ما أنت بِنَازلٍ، وما أنا بِرَاكبٍ، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل اللَّه"، ثمَّ قال له:"إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم للَّه، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قومًا فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف"، وإني موصيك بعشر:"لا تقتلن امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاةً، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلًا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن".
إذًا، هذه أُمُورٌ لا تخفى على أبي بكرٍ، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما فَعَل ذلك، فعله لمصلحةٍ، وعندما ترك ذلك، تركه لمصلحة، والرسول عندما فعل ذلك كان المؤمنون في حالة ضعف، أما في عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه، فإننا نجد أنه بالنسبة للمعتدين عهد إلى خالد بن الوليد أن يستخدم التحريق لوجود مصلحةٍ، فالإمَامُ ينظر إلى المصلحة.
* قوله: (إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُخَالِفَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِفِعْلِهِ، أَوْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِبَنِي النَّضِيرِ لِغَزْوِهِمْ).
أمَّا لو قُدِّر -وهذا بعيدٌ جدًّا- أن يخالفَ صحابيٌّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة، والصحابة لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فَيَقف أحدهم أمام أي إنسان، فيبين له الحق، ويوضحه له، ولم يعرف أن أحدًا خالف أبا بكر في ذلك الذي حصل، فعندما ارتدَّ الكثيرُ في عهد أبي بكرٍ، وادعى بعضهم النبوة كمسيلمة، وكذلك هناك مَنْ منع الزكاة، ووقف أَبو بكرٍ وقفته المشهورة، أبو بكرٍ الذي عُرِفَ بالرحمة، والذي عُرِفَ بالعقل، وعمر عُرف بشدته وقوته، وكان موقفه في أول الأمر أضعف من أبي بكر، فلما رأى إصرار أبي بكر وقوته وشكيمته وعزمه على قتال مانعي الزكاة، أدرك أن اللَّه قد فتح قلب أبي بكر، وأن الحق معه.
فأبو بَكْرٍ أعلم الناس بسُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إلى قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس بعد رسول اللَّه إلى قلوب المؤمنين، فهو يعرف مثل ذلك الأمر، ولو قُدِّر أن أبا بكرٍ توقف في أمرٍ، فإن اللَّه تعالى يقول:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقَدْ كان محمد بن عبد اللَّه الذي لا ينطق عن الهوى، والذي ينزل عليه القرآن، يستشير أصحابه؛ ليجعل ذلك نبراسًا ومذهبًا يمشون عليه، فكيف بغيرهم؟!
وَهَذا أبو بَكْرٍ رضي الله عنه عندما جاءت جدة تسأله عن حقها في الميراث،
فسأل الصحابة رضي الله عنهم، فأخبروه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس
(1)
، فأعطاها.
هذا هو منهج الصحابة، وعمر رضي الله عنه سار على ذلك أيضًا، ففي قصة الطاعون عندما انتشر في الشام، وحصل خلاف، وانتهى الأمر إلى أن عمر رضي الله عنه قال:"إن كنت فيها فلا تخرج منها"
(2)
، وإن العدوى هي التي
(1)
أخرجه أبو داود (2894) عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميرأثها؟ فقال: ما لك في كتاب اللَّه تعالى شيءٌ، وما علمتُ لك في سُنَّة نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة:"حضرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"، فقال أبو بكر: هل معكَ غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال:"ما لك في كتاب اللَّه تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في (ضعيف أبي داود)(2/ 393، 394).
(2)
أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219)، عن عبد اللَّه بن عباس: أَنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه، فأَخْبَروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر اللَّه؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم، نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه. . . قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سَمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذَا سَمعتم به بأرضٍ، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه"، قال: فحمد اللَّه عمر ثم انصرف.
تحصل بقدر اللَّه، ولذلك لما احتج أولئك الذين يقولون بأنا علينا أن نتوكَّل، وأنَّ ذلك قدَر اللَّه! فهذا قدَر اللَّه، فنحن رَجَعنا إلى قدر اللَّه سبحانه وتعالى.
إذًا، الصحيح أن ما فعله أبو بكرٍ لا يخالف سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل كما أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللَّذينِ من بعدي؛ أبي بكر وعمر"
(1)
، وقال:"عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين، عَضوا عليها بالنواجذ"
(2)
.
* قوله: (قَالَ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَنِ اعْتَمَدَ فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَرَ قَوْلَ أَحَدٍ وَلَا فِعْلَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ - قَالَ بِتَحْرِيقِ الشَّجَرِ).
المسألة كما سبق: إنْ أمكن عدم التحريق فبها ونعمت، أما إن كان هناك موضعٌ يجعلونه ساترًا لهم، أو يستغلونه، أو يحافظون بهذه الأشياء على حقولهم؛ فإنها تُزَالُ ولا تحرق إذا كان فيها مصلحةٌ للمؤمنين، فإن رأى الإمام مصلحةً وأن الحاجة تقتضي فيها إغاظة الكافرين وتخويفهم؛ فإنه يفعل ذلك، ومن رأى المصلحة ألا يفعل ذلك؛ فله أن يترك هذا.
* قوله: (وإنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الحَيَوَانِ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنِ المُثْلَةِ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَتَلَ حَيَوَانًا، فَهَذَا هُوَ مَعْرِفَةُ النِّكَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ الكُفَّارِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ).
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان، إذ جاء في الحديث الصحيح:
(1)
أخرجه الترمذي (3662)، وصححه الأَلْبَانيُّ في (صحيح الترمذي)(8/ 162).
(2)
أخرجه أبو داود (4607) عن العرباض قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال "أوصيكم بتقوى اللَّه، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه مَنْ يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأُمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وصححه الأَلْبَانيُّ في (الإرواء)(2455).
"إن اللَّه كتب الإحسان في كل شيءٍ، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته، وليرحْ ذبيحته"
(1)
.
فَهَذا هو مَنهجُ الإسلَام، قائم على الرحمة والعدل، وعلى العطف والمساواة بين المؤمنين في أمورهم، فلا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى، هذه هي غاية الإسلام، وأيضًا بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه "في كل ذات كبد رطبة أجر"
(2)
.
وهذه المرأة البغي لما شربت، فوجدت كلبًا يلهث، فجلبت الماء بخُفَّيها، فَسَقمت ذلك الحيوان، فغفر اللَّه لها
(3)
.
إن اللَّه سبحانه وتعالى رفيقٌ بعباده، يَتجَاوز عن سيئاتهم، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، هَذَا هو الإسلام.
وهذه امرأةٌ دَخَلت النارَ في هرة حبستها، لا هى أطعمتها، ولا تَرَكتها تأكل من خَشَاش الأرض
(4)
.
فَمَنْ كان عنده حيوانات، وكان لا يقوم بالإنفاق عليها كإطعامها وسقيها؛ فإنه بذلك يُلْزَم بهذا الأمر؛ لأن في ذلك إضرارًا بها، ومَنْ كان عنده عبيد لا يقوم على شؤونهم؛ فإنه في تلك الحالة أيضًا يُلْزم بذلك
(1)
أخرجه مسلم (1955).
(2)
أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثمَّ خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بَلَغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر اللَّه له، فغفر له"، قالوا: يا رسول اللَّه، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال:"في كل كبد رطبة أجر".
(3)
أخرجه البخاري (3467)، ومسلم (2245)، عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغفر لها به".
(4)
أخرجه البخاري (3318)، ومسلم (2242) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".
الأمر، وكذلك ما يتعلَّق بالعامل، فإذا كان عنده إنسان، أو خادم، فهو مسؤول عنه، وإذا كانت مسؤوليتهم في عنقه، فَسَيُسْأل عنهم يوم القيامة، وهذا الخادم الذي كان في زمن عمر وأراد أن يقيم عليه حد السرقة، فتبيَّن له أن سيده قد أجاعه، فأوقف عنه الحد
(1)
.
هذا هو الإسلام دائمًا، ينظر إلى المصلحة في كل مقام، فكل مصلحة لا تتعارض مع أُسِّ الشريعة وقواعدها، فإنه يُعْمل بها، ولذلك الفقيه دائمًا ينظر إلى ما في الشريعة، ولا يقتصر على جُزئية، وإنما تجده يربط الأُمور بعضها ببعض، ويجمع أُصولها، ويفرع عليها جُزئياتها.
قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي شَرْطِ الحَرْبِ
شرط المؤلف رحمه الله في شرط الحرب: ما هو معروف من البدء في الدعوة.
يعني: لو اتَّجه المسلمون خارجين في سريَّة، أو جهَّز المسلمون جيشًا لقتال العدو، فهل يبدؤون أوَّلًا بدعوتهم إلى الإسلام؟ وهل يقبلوا إن أجابوهم؟
نقول: هذه هي غاية المجاهد؛ وهي أن يُدخِلَ الناسَ في دين اللَّه
(1)
لم أقف عليه، ولكن روي عن عمر رضي الله عنه:"أنه لا قطع في عام المجاعة"، كما في "البدر المنير" لابن الملقن (8/ 679) حيث قال: وهذا الأثر لم أره في كتب السنن المسانيد، ورأيت مَنْ عزاه إلى السعدي والراوي عن الإمام أحمد، فقال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر، قال:"لا تقطع اليد في عذق، ولا عام سنة".
أفواجًا، فهذا ما يريده المؤمنون -كعادتهم-؛ أن يكثر المسلمون، ويزيد عددهم.
فإن استجاب الأعداء للدعوة؛ فإن المسلمين يقبلون منهم في هذه الحالة الإسلام، ويكفُّوا عنهم.
أما إن لم يستجب الأعداء للدعوة: فإنه حينئذ ينتقل المسلمون إلى طلب الفدية منهم.
وهناك نوع اختلف فيه العلماء: هل تأخذ منهم الجزية، أم لا؟
(1)
.
فإن أجابوا بدفع الجزية: قُبِل منهم، وكُفَّ عنهم؛ لأن الإسلام لم يأتِ للتسلُّط على الناس؛ إنما هو دين يسري
(2)
إلى القلوب.
فلو أن الإسلام نقل إلى الناس غضًّا
(3)
؛ كما أُنزل على رسول اللَّه محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكما هو في كتاب اللَّه عز وجل، ولو أن المؤمنين طبقوا الإسلام غاية التطبيق في أنفسهم؛ فكانوا قدوة لغيرهم؛ لوجدنا الناس يسارعون إلى الدخول في دين اللَّه عز وجل!
ونعلم قصة عمر رضي الله عنه: عندما جاء ذلكم الرجل الغريب يسأل عنه؟ فوجده نائمًا تحت شجرة متوسِّدًا ظلها في الطريق! فقال: هذا هو عمر رضي الله عنه خيرة المؤمنين؟!
(4)
.
(1)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(2)
سري -بالكسر- يسري سروًا فيهما. وسرو يسرو سراوة؛ أي: صار سريًّا. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2375).
(3)
الغض والغضيض: الطري. انظر: "العين" للخليل (4/ 341).
(4)
ذكر هذه القصة ابن حمدون في "التذكرة الحمدونية"(3/ 188) قال: "لما جيء بالهرمزان ملك خوزستان أسيرًا إلى عمر، لم يزل الموكِّل به يقتفي أثر عمر حتى عثر عليه في المسجد نائمًا متوسِّدًا درّته. فلما رآه الهرمزان قال: هذا هو الملك، عدلت فأمنت فنمت؛ واللَّه إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحدًا منهم هيبتي لصاحب هذه الدرّة". وانظر: "نهاية الأرب" للنويري (6/ 36).
ولا يعني هذا: أن هذا هو القصد من الإسلام؛ بل قد ورد في الحديث: "إن اللَّه جميل، يحب الجمال"
(1)
.
وكما جاء في الحديث أيضًا: "إنَّ اللَّه سبحانه تعالى: يُحِبُّ أن يَرى أثر نعمته، على عبده"
(2)
.
فمطلوب من المؤمن: ألَّا يكون بخيلًا، ولا مسرفًا.
وعليه: أن يُظهِرَ نعم اللَّه سبحانه وتعالى، ويشكره عليها، وأن يتجنب الكبرياء، والخيلاء
(3)
، فقد يُعجب الإنسان بنفسه، ويأخذه الغرور؛ لأن عنده مال، أو لكونه متكلمًا فصيحًا، أو لأن له مكانة في المجتمع، أو لغير ذلك. . . إلخ.
فالإنسان الذي يعتدّ بنفسه، ويصيبه الخيلاء: عليه أن يعلم أن ذلك من الشيطان.
أما المؤمن الحقّ: فكلَّما ارتفعت مكانته بين الناس: قلَّتْ نفسُه في نظره؛ تواضعًا للَّه سبحانه وتعالى؛ فهو يعلم: "أنَّ مَن تواضعَ للَّه رفعه"
(4)
.
وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أقربكم منِّي منزلةً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا"
(5)
.
فهؤلاء: هم أقرب الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وفي الآخرة أيضًا.
(1)
جُزء من حديث أخرجه مسلم (91).
(2)
أخرجه الترمذي (2819)، وصححه الألباني في "المشكاة"(4350).
(3)
"الخُيلاء" بالضم والكسر: الكبر والعجب. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 93).
(4)
أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 46) ولفظه: عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن تواضع للَّه رفعه اللَّه"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2328).
(5)
أخرجه الترمذي (2018) ولفظه: عن جابر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا. . . " الحديث، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(791).
* قوله: (فَأَمَّا شَرْطُ الحَرْبِ).
فشرط الحرب: هو الدعوة.
وقد أرسل اللَّه سبحانه وتعالى رسلَه عليهم السلام لتبليغ هذه الدعوة؛ فقد قال اللَّه سبحانه وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وقال اللَّه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].
فاللَّه تعالى ما أرسل الرسل -منذ نبيِّه نوح عليه السلام، وحتى نبيه محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضلهم-: إلا للدعوة إلى دين اللَّه سبحانه وتعالى.
ومهمة كلِّ رسول:
(1)
أن يدعو الناس إلى توحيد اللَّه سبحانه وتعالى.
(2)
الاعتراف بعبوديته عز وجل، وإفراده بالعبادة.
(3)
الاعتراف بأسماء اللَّه سبحانه وتعالى الحسنى، وصفاته العلا.
فهذه هي الدعوة التي جاء بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
واللَّه سبحانه وتعالى إنما أنزل الكتاب، وأرسل الرسل عليهم السلام؛ ليدعوا الناس أيضًا إلى إحسان العمل؛ فقد قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1 - 2].
فهذا: هو المنهج القويم، فالأنبياء كما جاء في الحديث:"لم يورِّثُوا درهمًا، ولا دينارًا؛ وإنما ورَّثوا العلم"
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3641) عن أبي الدرداء وفيه: ". . . وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا، ولا درهمًا ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، وحسنه الألباني في "المشكاة"(212).
وعماد هذا المنهج: الدعوة إلى دين اللَّه سبحانه وتعالى.
فالمعلِّم: إنما يعلم الناس الخير، ويوجههم إليه.
والداعية والواعظ: يدعوانِ الناس إلى سبيل الرشاد، وإلى النجاة. كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} [غافر: 41 - 43].
وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعون الناس إلى الخير.
لكن هل بعد أن انتشر الإسلام، وامتدَّت آفاقه في كلِّ مكان، وأصبح معروفًا لدى القاصي والداني، وانتشر فضله وعدالته، وما فيه من مزايا؛ فهل لا زال يحتاج إلى الدعوة أيضًا؟
وإن قلنا: نعم؛ فهل يلزم أن تتكرر الدعوة؟
فإذا دعونا قومًا إلى الإسلام، فلم يستجيبوا؛ فهل يلزم أن ندعوهم مرة أُخرى؟
نقول: الدعوة -في أول الأمر-: متعيِّنة؛ كما فعل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكما سيأتي في الحديث الذي سيورده المؤلف رحمه الله الآن.
* قوله: (فَهُوَ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ بِاتِّفَاقٍ
(1)
؛ أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حِرَابَتُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 444)، حيث قال:" (وإذا دخل المسلمون دار الحرب) يصح أن يكون عطفًا على قوله الجهاد فرض على الكفاية عطف جملة، وأن يكون واو استئناف (فحاصروا مدينة) وهي البلدة الكبيرة فعيلة من مدن بالمكان أقام به (أو حصنًا) وهو المكان المحصن الذي لا يتوصل إلى ما في جوفه (دعوهم إلى الإسلام) فإن لم تبلغهم الدعوة فهو على سبيل الوجوب". =
اتَّفقوا على ذلك؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُغِرْ على قوم؛ إلا وهم يعرفونه؛ بل كان اليهود {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]؛ كما نصَّ اللَّه تعالى على ذلك.
فقد كان هؤلاء ينتظرون هذا النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث، وكانوا قد توعدوا الأوس والخزرج أنهم سيقاتلونهم به!
(1)
.
وأما قريش: فقد كانت تعرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ولقَّبوه قبل بعثته بـ (الأمين)، وتعرف أنه لا يكذب حتى بعد بعثته
(2)
.
= ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 176)، حيث قال:" (قوله: بلغتهم الدعوة)؛ أي: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وهذا هو المشهور، وقيل: إنهم لا يدعون للإسلام أولًا إلا إذا لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أما من بلغتهم فلا يدعون إلى الإسلام".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 242)، حيث قال:"ولا يقاتل من علمنا أنه لم تبلغه الدعوة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 633)، حيث قال:"ويحرم قتال من لم تبلغه الدعوة قبلها".
(1)
أخرجه الطبري في "جامع البيان"(2/ 332، 333) عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا واللَّه وفيهم -يعني: في الأنصار، وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصة يعني:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قالوا: كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب فكانوا يقولون: إن نبيًّا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد هارم. فلما بعث اللَّه تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه، كفروا به.
(2)
جاء في هذا المعنى ما أخرجه البخاري (4971)، ومسلم (208) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف:"يا صباحاه"، فقالوا: من هذا؟، فاجتمعوا إليه، فقال:"أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تبًّا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} .
ومع معرفتهم بذلك؛ إلا أنهم قالوا كما حكى اللَّه سبحانه وتعالى عنهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وعليه: فقد كان الذي منعهم من الإيمان به: إنما هو الكبر، والتعالي، والغرور.
ولا ننسى أيضًا شياطين الجن والإنس: فقد كان لهم دور في صدِّهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال اللَّه سبحانه وتعالى عنهم: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31].
ومع ذلك: فقد كان بعضهم يتحيَّن
(1)
الفرص؛ فيستمع إلى قراءة القرآن الكريم.
فنحن نعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ممن عُرف بحسن صوته؛ كان يقرأ القرآن لما كان بمكة، وكان كفار مكة قد تعاهدوا على عدم الاستماع للقرآن، ومع ذلك كان يخون بعضهم بعضًا؛ ويأتون لسماعه من أبي بكر رضي الله عنه
(2)
.
وذلك لأن القرآن كان قد استولى على قلوبهم، وأخذ بمجامع ألسنتهم
(3)
، ولكنه العناد، والكبر، والغرور ما حال بين بعضهم وبين الإيمان!.
(1)
"يتحين": يُنظر وقت غفلته. انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس" لابن الأنباري (1/ 455).
(2)
جاء في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري (476) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:"لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، طرفي النهار: بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدًا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين".
(3)
يُنظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 710)، حيث قال:"وجماع الشيء: جمعه، يُقال: جماع الخباء الأخبية؛ أي: جمعها؛ لأن الجماع: ما جمع عددًا، وفي الحديث: "أوتيت جوامع الكلم"؛ أي: القرآن، وكان يتكلم بجوامع الكلم، أي: كان كثير المعاني، قليل الألفاظ".
وبعد أن فتح اللَّه سبحانه وتعالى مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم دخلَ من كان بقي منهم على كفره، في دين اللَّه تعالى أفواجًا.
فهذه الدعوة الإسلامية تبيِّن للناس الحقَّ.
وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقد أرسل اللَّه سبحانه وتعالى الرسل: لهداية الناس، وليبيِّنوا لهم طريق الهداية والخير، ويدعوهم إليه، وليبيِّنوا لهم طريق الضلال، ويحذرونهم منه، فالفائز مَن سلك طريق الرشاد، والهالك: مَن سلك طريق الغواية والضلال.
* قوله: (وَذَلِكَ شَيْءٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ مِنَ المُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وَأَمَّا هَلْ يَجِبُ تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ عِنْدَ تَكْرَارِ الحَرْبِ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ: مَنْ أَوْجَبَهَا
(1)
، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّهَا
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا، وَلَا اسْتَحَبَّهَا)
(3)
.
عرفنا أن الدعوة -إذا لم تكن سابقة في أوَّل الأمر-: فهي مطلوبة، وهذا يلتقي مع الأمثلة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 176)، حيث قال:" (ودعوا) وجوبًا (للإسلام) ثلاثة أيام بلغتهم الدعوة أم لا ما لم يعاجلونا بالقتال".
أما مذهب الشافعية: أنه إذا بلغتهم الدعوة فانهم يقاتلوا.
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 242)، حيث قال:"ولا يقاتل من علمنا أنه لم تبلغه الدعوة بهذا ولا بغيره حتى يعرض عليه الإسلام وإلَّا ضمن خلافًا لمن قال: إن عرضه عليه مستحب، أما من بلغته فله قتله ولو بما يعم وسبي تابعيه إلى أن يسلم ويلتزم الجزية إن كان من أهلها".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 633)، حيث قال:"ويحرم قتال من لم تبلغه الدعوة قبلها. وتسن دعوة من بلغته للخبر".
(3)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (10/ 120)، حيث قال:"ولا شيء على مَن قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة، فإن جددوها فحسن، وإن قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن".
لكن عند التَّكرار:
فمن العلماء مَن قال: لا يدعون أصلًا؛ لأن الإسلام قد بان واتَّضح، وانتهى أمر الدعوة
(1)
.
ومنهم مَن قال: بل تكرر الدعوات أيضًا.
ومنهم مَن: فصَّل القول في ذلك.
وهي الإشارات التي ذكرها أيضًا المؤلف رحمه الله.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ).
نبدأ بهذه المقدمة فنقول:
أوَّلًا: إن الإسلام هو الدِّين الحق، كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
ثانيًا: وهذا الإسلام هو الدِّين الذي لا يَقبل اللَّه سبحانه وتعالى، من أحد غيره، كما قال اللَّه عز وجل:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
ثالثًا: وهذا الإسلام هو دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جميعًا، كما قال عز وجل:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]، وكما قال اللَّه تعالى أيضًا:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
فالإسلام: هو الدِّين الذي ارتضاه اللَّه سبحانه وتعالى لعباده، وسيظل بإذن اللَّه -تعالى- إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها؛ وحتى إذا نزل عيسى ابن
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(4/ 129)، حيث قال:"خلافًا لما نقله المصنف عن الينابيع من أن ذلك في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد فاض واشتهر، فيكون الإمام مخيرًا بين البعث إليهم وتركه".
مريم عليه السلام إلى الأرض، فأنه سيحكم بهذا الدِّين الخاتم
(1)
.
فهذه الشريعة الإسلامية: هي خاتمة الشرائع الإلهية، وهي المهيمنة
(2)
عليها.
وهذه الشريعة: فيها من الخصائص ما ليس في الشرائع الأُخرى.
فالشرائع السابقة: إنما أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى على الرسل عليهم السلام، لأمة معينة، ولأوقات مخصصة؛ فجاءت مناسبة لتلك الأوقات فقط.
أما هذه الشريعة الإسلامية: فهي شريعة خالدة، باقية، شاملة، تشتمل على كل ما فيه حاجة الناس.
فكلُّ ما يُستجدُّ من أحداث، وما يحدث من وقائع: فإننا نجد له حلًّا في هذه الشريعة الإسلامية.
فكلُّ ما يحتاجه الإنسان في سفره، أو حضره، أو في حالة فرحه، أو في حالة صحته، أو في حالة مرضه، أو في حالة موته، أو في أيِّ حال من الأحوال: فإنه يجد حكمة في هذه الشريعة الإسلامية
(3)
.
وكذلك في كلِّ معاملات الإنسان وعلاقاته مع ربه، أو مع إخوانه، أو مع غير المسلمين أيضًا.
(1)
جاء في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155) عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".
(2)
هيمن يهيمن هيمنة: إذا كان رقيبًا على الشيء. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 177).
(3)
جاء في هذا المعنى حديث أخرجه مسلم (262) عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال: فقال: أجل "لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم".
فهذه الشريعة الإسلامية: شريعة كاملة شاملة، لا يتطرَّق إليها نقص، وما طرق العالم كله ولا وجد فيه مثل هذه الشريعة، ولا أشمل ولا أكمل منها.
وذلك: أنها شريعة اللَّه سبحانه وتعالى، وهو الذي أنزلها، وهو الذي كما قال في القرآن عن نفسه:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]. وهو سبحانه وتعالى الذي قال أيضًا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]. وهو القائل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13 - 14].
نقول: بلى يعلم كُلَّ أحوال هؤلاء القوم، وما تستقرّ به أمورهم، وما يفعلونه في هذه الحياة الدنيا، وما ينالون به جنة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133].
وذلك: عندما يلقون ربهم عز وجل في يوم لا ينفع فيه: {مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88 - 89].
* قوله: (مُعَارَضَةُ القَوْلِ لِلْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام: "كَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، قَالَ لِأَمِيرِهَا: إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ).
يريد المؤلف رحمه الله أن يقول:
إن سبب الخلاف في هذه المسألة؛ (أي: في حكم دعوة الكفار قبل قتالهم): التعارض الظاهري بين ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قول في ذلك، وبين ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم.
فإن هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله يدلُّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل سريَّة، أو بعث بعثًا، أمر أمير تلك السرية، أو البعث: أن يدعو أولئك الأقوام؛ إلى واحدة من خصال ثلاث -أو خلال ثلاث-
يدعوهم إلى الإسلام أولًا، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال
(1)
.
فهذا الحديث: هو القول الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما الفعل الوارد عنه صلى الله عليه وسلم: فقد جاء ظاهره مخالفًا لهذا القول.
* قوله: (فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا: فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمُ)
(2)
.
فشرط الحرب الذي أشرنا إليه فيما سبق: هو الدعوة؛ بدليل قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فَادْعُهُمْ).
وقوله: (إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ): يدلُّ على أنها ثَلَاث.
* قوله: (ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ).
لقد سبق أن تكلَّمنا عن هذا الأمر الأول؛ وهو دعوة الكفار إلى الدخول في الإسلام، وبيَّنا أن هذه الدعوة: هي الغاية التي يسعى المسلمون إليها، وهي دخول الناس في الإسلام.
* قوله: (فَإنْ أَجَابُوكَ: فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ).
لا شكَّ أن الكفَّار إذا أجابوا المسلمين، ودخلوا في الإسلام، فهذا هو المراد والمطلوب، ولا بدَّ أن يقبل المسلمون منهم ذلك، ويكفُّوا عن قتالهم أيضًا.
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1731) عن بريدة قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال:"اغزوا باسم اللَّه في سبيل اللَّه، قاتلوا مَن كفر باللَّه، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو: خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم،. . . " الحديث.
(2)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ).
هذا الشرط: كان في أول الأمر فقط.
فقد كانوا يستوطنون
(1)
بلاد الشرك، ونحن نعلم أنَّ من المسلمين مَن بقي بمكَّة ولم يهاجر للمدينة؛ فقد كان مَن بقي بمكة مستضعفًا.
ففي مثل هذه الحالة: لا يُلزِم المسلمون مَن أسلم بالهجرة إذا كان مستضعفًا.
أما الحكم العامُّ: فهو الطلب ممن يسلم من الكفار، بالتحول إلى بلاد المهاجرين.
* قوله: (وَأَعْلِمْهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُون كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ).
نقول: هنا حالتان؛ وهما:
الحالة الأولى: وهي إذا ما هاجر، من أسلم من الكفار، إلى بلاد الإسلام؛ فإنه يكون لأولئك الأقوام: ما للمهاجرين المجاهدين من غنيمة، أو غيره، وعليهم ما عليهم.
الحالة الثانية: وهي إذا لم يهاجر مَن أسلم من الكفار إلى بلاد الإسلام؛ فإنه يكون لأولئك الأقوام: ما يكون لعامَّة المسلمين، وليس لهم شيء من هذه الغنائم التي تكون للمهاجرين المجاهدين؛ كما سيأتي النصُّ على ذلك في كلام المؤلف رحمه الله.
(1)
"استوطنتها"؛ أي: اتخذتها وطنًا ومحلًّا. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 204).
قوله: (يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى المُؤْمِنِينَ).
يعني: أنه يَجْرِي على هؤلاء الذين أسلموا من الكفار، ولكن امتنعوا عن الهجرة إلى دار الإسلام: حُكْمُ اللَّهِ سبحانه وتعالى؛ فتسري عليهم سائر أحكام الإسلام التي تسري على أهله المُؤْمِنِينَ.
قوله: (وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الفَيْءِ، وَالغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ).
فلو بقي هؤلاء الذين أسلموا من الكفَّار في بلادهم، ولم يهاجروا لدار الإسلام: فلا حقَّ لهم فِي الفَيْءِ، وَالغَنِيمَةِ؛ التي يَمُنُّ الله سبحانه وتعالى بها على المهاجرين المجاهدين، هذا هو الأصل.
أما لو ظلُّوا في بلادهم، ولكن جاهدوا مَعَ المُسْلِمِينَ: فإنهم بذلك يستحقون الأخذ من هذه الغنائم.
قوله: (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الجِزْيَةِ
(1)
).
يعني: لو امتنع الكفار عن قبول الأمر الأول وهو الدعوة، ورفضوا الدخول في الإسلام؛ فينتقل المسلمون إلى المرحلة الثانية؛ وهي طلب الجِزْيَةِ منهم؛ فيطلب منهم المسلمون إعطاء الجزية، أي: دفع الجزية للمسلمين.
و"الجزية": قدرٌ من المال يُفرَض على الكافر الممتنع عن الدُّخول في الإسلام.
وقد تكلَّم العلماء عن الجزية وأحكامها، ومما بيَّنوه من مسائل:
(1)
هل هذه الجزية عامَّة فتُطلب من كلِّ كافر، وتؤخذ منه؟
(2)
.
(1)
"الجزية": ما يؤخذ من أهل الذمة. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2303).
(2)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(2)
أو أنها خاصَّة بأهل الكتاب فقط دون المشركين؟
(1)
.
(3)
وهل تؤخذ ممن له شبهة كتاب كالمجوس؟
(2)
.
(4)
وهل يُستثنى من ذلك مشركو العرب فلا يدخلون في ذلك؟
(3)
.
(5)
أو هل يُستثنى من ذلك قريش وحدها؟
(4)
.
قوله: (فَإِنْ أَجَابُوا، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ).
أي: إن أجابَ الكفار إلى المرحلة الثانية والتي هي دفع الجزية: فيلزم أن يقبل المسلمون منهم ذلك، ويكفوا عنهم فلا يقاتلوهم.
قوله: (فَإِنْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ).
أي: إن أبى الكفَّار دخول في الإسلام، ورفضوا قبول الدعوة، وامتنعوا عن أداء الجزية كذلك؛ فلا يبقى حينئذ أمام المسلمين إلا السيفُ!.
وهذه: هي المرحلة الثالثة.
وقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد السرية إلى الاستعانة بالله قبل قتاله لهم؛ حيث قال له: "فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ"
(5)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل سرية، أو بعث جيشًا: يأمرهم أن يبدؤوا ببسم الله، ويقاتلوا باسم الله، وأن يكبِّروا الله سبحانه وتعالى، وأن يستعينوا بالله على أعدائهم
(6)
.
(1)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(2)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(3)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(4)
سيأتي في الكلام عن الجزية.
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
أخرجه مسلم (3/ 1731) عن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش، أو سريَّة، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم=
قوله: (وَثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ كَانَ يُبَيِّتُ لِلْعَدُوِّ، وَيُغِيرُ عَلَيْهِمْ مَعَ الغَدَوَاتِ"
(1)
).
نعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق؛ وهي قبيلة، أو حيّ من أحياء خزاعة.
وأما "خزاعة": فهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، على غِرَّة منهم، أي: غفلة.
وكانت أنعامهم تُسقَى على الماء؛ فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم.
وكان ممن قد وقع في الأسر: جويرية ابنة الحارث، والتي صارت بعد ذلك إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قوله: (فَمِنَ النَّاسِ وَهُمُ الجُمْهُورُ
(3)
: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ
= قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا،
…
، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم
…
" الحديث.
(1)
أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730) عن ابن عمر قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون .... " الحديث.
(2)
أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730) عن ابن عمر قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (10/ 31)، حيث قال:"ولا بأس أن يغيروا عليهم ليلًا أو نهارًا بغير دعوة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 176)، حيث قال:"وقيل: إنهم لا يدعون للإسلام أولًا إلا إذا لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أما من بلغتهم فلا يدعون إلى الإسلام (قوله: ما لم يعاجلونا بالقتال)، أي: أو يكون الجيش قليلًا، ومن هذا كانت إغارة سراياه عليه الصلاة والسلام".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (12/ 121، 122)، حيث قال:"فإن قاتلهم قبل أن يدعوهم إلى الإسلام .. جاز؛ لـ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غافلون"، ولأن الدعوة قد بلغتهم وإنما عاندوا".
نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ الدَّعْوَةُ بِدَلِيلِ دَعْوَتِهِمْ فِيهِ إِلَى الهِجْرَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ القَوْلَ عَلَى الفِعْلِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ حَمَلَ الفِعْلَ عَلَى الخُصُوصِ
(1)
، وَمَنِ اسْتَحْسَنَ الدُّعَاءَ، فَهُوَ وَجْهٌ مِنَ الجَمْعِ)
(2)
.
أولى هذه الآراء الثلاثة: لا شكَّ أنَّ الرأي الثالث، والذي أشرنا إليه: هو الأولى؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة، وخروج من الخلاف.
فتكرار دعوة الكفار قبل قتالهم من قِبَل قائد الجيش أو السرية، أو من عموم أفراده: شيء طيب.
فإن لم تتكرر: فلا إثمَ على مَن لم يفعلها؛ لأن الدعوة قد بلغت أولئك الأقوام من الكفار المقاتلين.
ولذلك لمَّا سُئل الإمام أحمد عن مثل هذه القضية؟ قال: كان ذلك في أول الإسلام
(3)
، أما بعد أن انتشر الإسلام، وامتدَّ ضياؤه في كلِّ مكان: فإن الدعوة أصبحت كافية في ذلك عن تكرارها.
ونحن نرى الإسلام الآن: موجودا - بفضل الله سبحانه وتعالى في كلِّ مكان؛ حتى في البلاد التي لا تدين بالإسلام أصلًا، فنجد أنه يعيش فيها عدد من المسلمين.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 176)، حيث قال:" (ودعوا) وجوبًا (للإسلام) ثلاثة أيام بلغتهم الدعوة أم لا ما لم يعاجلونا بالقتال".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (10/ 120)، حيث قال:"ولا شيء على من قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة، فإن جددوها فحسن، وإن قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن".
(3)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (8/ 3884)، حيث قال:"قلت: هل يدعون قبل القتال، قال: لا أعرف اليوم أحدًا يدعى". وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 211).
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصلُ الخَامِس فِي مَعْرِفَةِ العَدَدِ الَّذِينَ لا يَجُوزُ الفِرَارُ عَنْهُمْ)
نحن نعلم أن المسلمين كانوا في بداية الأمر: قلَّة، وكان هذا هو حالهم عندما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أوَّل مَن أسلم من الرجال: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه
(1)
.
ومن الصبيان: عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وما هو معروف لدينا جميعًا
(2)
.
ثم أخذ الناس بالدخول في الإسلام؛ فزاد عدد المسلمين شيئًا فشيئًا؛ حتى تكونت مجموعة، ولكن كان المسلمون في حالة ضعف إذا ما قورنوا بأعدائهم؛ لقلَّة عددهم، ثم مرَّت الأيام، والشهور، والسنون؛ إلى أن كَثُر عدد المسلمين؛ فتحوَّلوا إلى المدينة النبوية، وكانوا لا يزالون في حالة ضعف، ثم وقعت غزوة بدر الكبرى بحمد الله تعالى، والتي فصل الله عز وجل فيها بين الحقِّ والباطل، ونصر فيها المؤمنين على أعدائهم، وأسروا ذلك العدد الكبير منهم، والذي بلغ ثلاثة وسبعين؛ فحينئذ: ظهرت قيمة المسلمين، ومكانتهم، وهيبتهم بين القبائل أيضًا.
ثم وقعت غزوة أحد، وكان النصر فيها في بداية الأمر للمؤمنين،
(1)
أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(1/ 133) عن الشعبي قال: سألت ابن عباس: مَنْ أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر الصديق.
(2)
أخرجه الترمذي (3735) عن أبي حمزة، رجل من الأنصار قال: سمعت زيد بن أرقم، يقول:"أول مَنْ أسلم علي"، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(8/ 235).
ثمَّ حصل ما حصل فيها من مخالفة بعض الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل بهم ما نزل بسبب مخالفتهم.
ثم كانت غزوة الأحزاب، وفيها تجمَّع المشركون من كل مكان، فأحاطوا بالمدينة وطوقوا المسلمين.
قوله: (وَأَمَّا مَعْرِفَةُ العَدَدِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ الفِرَارُ عَنْهُمْ).
كان العدد أول الأمر: أن يقف المسلم أمام العشرة من الكفار؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65].
ثم قال الله عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
ثم تغيَّر الحال، وأصبح الواحد من المسلمين يقف مقابل الاثنين من الكفار، وهذا له شروطه المعروفة؛ لأنه يجب في هذه الحالة مقابلة المسلمين لأعداد.
وهنا: يجب أن يثبت المسلمون أمام أعدائهم، ويحرم عليهم الفرار، ومما يدلُّ على ذلك ما يلي:
أوَّلًا: قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15 - 16].
ثانيًا: وقول عز وجل أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
ثالثًا: ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عدَّ السبع الموبقات التي بدأها بقوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات"، فقال الصحابة:
"قلنا: يا رسول اللّه، وما هن؟ " قال: "الإشراك باللَّه"، ثم ذكر منها:"والتولي يوم الزحف"
(1)
.
فالتولِّي يوم الزحف
(2)
: محرَّم لكن ذلك لا يتم إلا بشروط.
والمؤلف رحمه الله قد مرَّ على هذه المسألة مرور الكرام!، ولعلَّه سيعود إليها مرة أُخرى.
الشرط الأول: ألا يزيد عدد الكفار عن ضعف عدد المسلمين، وذلك بعد أن خفف الله سبحانه وتعالى الأمر على المؤمنين.
أما لو زاد عدد الكفار عن ضعف عدد المسلمين: فيكون في ذلك مخرج للمؤمنين، لكن مع ذلك: يجوز لهم أن يثبتوا، وأن يصبروا؛ حتى لو قتلوا؛ لأن المسلم لو قتل في هذه الحالة: فسيكون فداءً في سبيل الله.
الشرط الثاني: ألا يقصد بفراره إلا التحرف، أو التحيُّز إلى فئة أُخرى من المسلمين.
ودليل ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15 - 16].
فقوله تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} : هذا هو المخرج الأول للمسلمين، ومعنى:{مُتَحَرِّفًا}
(3)
، أي: أن ينتقل المجاهد من حال إلى حال، فربما يكون في موقع يكون أصلح للأعداء، فيتحول من هذا
(1)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
(2)
"الزحف": الزاء والحاء والفاء أصل واحد يدل على الاندفاع والمضي قدمًا.
فالزحف: الجماعة يزحفون إلى العدو. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (3/ 49).
(3)
"متحرفًا": مائلًا لأجل القتال لا مائلًا هزيمة مستطردًا يريد الكرة وهو معدود من مكايد الحرب. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 130)، و"تاج العروس" للزبيدي (23/ 136).
المكان، إلى مكان أنفع له وأوفر، أو أن ينتقل من مكان ضيِّق، إلى مكان أوسع، أو أن يجعل خلفه جبلًا مثلًا.
وقوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا
(1)
إِلَى فِئَةٍ}: هذا هو المخرج الثاني للمسلمين.
فللمجاهد المسلم كذلك أيضًا: أن ينتقل من صفوف هؤلاء الأعداء ويتزحزح عنها، وينحاز إلى فئة أُخرى من المسلمين؛ فيقوى بتلك الفئة، ونحو ذلك من الأُمور التي ذكرها الفقهاء، فهذا هو الشرط الثاني متمثلًا في هاتين الحالتين؛ فحينئذ يكون معذورًا.
أما مَن صبر من المؤمنين المجاهدين، واحتسب، وثبت: فإنه سينال الثواب.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ونحن نعلم كم كان عدد المؤمنين في مقابل أعداء الله عز وجل في شتى الحروب، وفي مواقف كثيرة، وكذلك في حروب الروم، وحروب الفرس؛ فقد كانت الانتصارات تتوالى للمسلمين - بفضل الله - مع أن مع الكفار من العتاد والعدة ما يفوق الذي مع المؤمنين، ومع ذلك نصر الله سبحانه وتعالى المؤمنين؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى وعدهم بنصره، ووعده تعالى حقٌّ، وذلك في أكثر من موضع في القرآن، ومن ذلك: الموضع الأول: قول الله سبحانه وتعالى: {
…
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40 - 41].
الموضع الثاني: وقال الله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
(1)
"أو متحيزًا"، أي: منضمًّا إليها. انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 459).
الموضع الثالث: وقال الله سبحانه وتعالى {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فالله سبحانه وتعالى ينصر المؤمنين - لا محالة -؛ إذا صدقوا مع الله عز وجل.
أما إذا تخاذلوا، وانشغلوا بالملذات، وانصرفوا إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى: فإن الله تعالى يتخلَّى عنهم في هذه الحالة؛ حتى يعودوا إلى ما يجب أن يكونوا عليه.
وخير مثال على ذلك: الواقعة العظمى - والتي ربما ما وقع بالمسلمين أشنع منها - لما جاء المغول من أقصى الشرق، لا يمرون على أمَّة ولا على بلد إلا جعلوه بمثابة التراب، ثم بعد ذلك أنزلوا بالمؤمنين ما أنزلوا، في عاصمة الإسلام في ذلك الوقت وهي دار السلام بغداد
(1)
.
فلما رجع المسلمون إلى الله سبحانه وتعالى، واتَّحدت كلمتهم، وتعاونوا على التقوى، وأصلحوا ما وقعوا فيه: عادت إليهم عزتهم، فنصرهم الله عز وجل على أعدائهم، فأذاقوهم كأس الموت؛ كما أذاقوه للمؤمنين.
وهذا هو شأن الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين؛ كما قال عز وجل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
إذن: فقد تبيَّن بهذا أن العدد الذي ورد بعد التخفيف: هو واحد إلى اثنين.
لكن مع ذلك: ربما يكون عدد المسلمين، أقل من عدد أعدائهم، وينصرهم الله سبحانه وتعالى.
وربما أيضًا يكون عدد المسلمين متساويًا مع عدد أعدائهم، ويكون للمشركين أيضًا قوة: ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لكل ذلك مخرجًا.
وستأتي مسائل نتكلم عنها إن شاء الله ذات علاقه بهذا الموضوع.
(1)
وكانت سنة 617 هـ. وانظر تفاصيلها في: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 333).
قوله: (فَهُمُ الضِّعْفُ).
يعني: أن الألف من المسلمين، يقابل ألفين من أعدائهم، ولا يجوز فرار المسلمين من أمامهم.
قوله: (وذلك مُجْمَعٌ عليه
(1)
؛ لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآيَةَ [الأنفال: 66]).
فقد كان الواحد يلزمه الوقوف أمام العشرة في أول الأمر؛ ثم قال الله سبحانه وتعالى في الآية التي تليها: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفً} [الأنفال: 66]، فخفَّف الله على المؤمنين؛ فصار الواحد يقف أمام الاثنين فقط، ولا يفرُّ من أمامهم.
قوله: (وَذَهَبَ ابْنُ المَاجِشُون، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الضِّعْفَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي القُوَّةِ، لَا فِي العَدَدِ!)
(2)
.
هذا القول في حقيقة الأمر: ضعيف، وإنما القول المشهور:
(1)
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 178)، حيث قال:" (و) حرم (فرار) من العدو (إن بلغ المسلمون) الذين معهم سلاح (النصف) من عدد الكفار كمائة من مائتين (ولم يبلغوا)، أي: المسلمون (اثني عشر ألفًا) فإن بلغوا حرم الفرار ولو كثر الكفار جدًّا ما لم تختلف كلمتهم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 243)، حيث قال:" (إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا) للآية وهو أمر بلفظ الخبر، وإلا وقع الخلف في خبره تعالى وحكمة وجوب مصابرة الضعف أن المسلم يقاتل على إحدى الحسنيين الشهادة أو الفوز بالغنيمة مع الأجر والكافر يقاتل على الفوز بالدنيا فقط، أما إذا زادوا على المثلين فيجوز الانصراف مطلقًا وحرم جمع مجتهدون الانصراف مطلقًا إذا بلغ المسلمون اثني عشر ألفًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"منتهى الإرادات" لابن النجار (2/ 206)، حيث قال:"ولا يحل للمسلمين فرار من مثليهم".
(2)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (3/ 171)، حيث قال:"وروى ابن الماجشون عن مالك أنه قال: الجلد وهو السلاح والقوة".
هو الذي عرض له المؤلف رحمه الله قبل، وهذا هو قول الأئمة، وغيرهم؛ أن العبرة بالعدد.
أما القوة: فتختلف من شخص إلى آخر؛ فقد تجد شخصًا قويًّا، ولكن ليس عنده شجاعة!، وربما تجد إنسانًا ضعيفًا في بدنه؛ لكن لديه من الشجاعة والمغامرة وقوة اليقين ما ليس عند غيره.
قوله: (وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفِرَّ الوَاحِدُ عَنْ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ أَعْتَقَ جَوَادًا مِنْه، وَأَجْوَدَ سِلَاحًا، وَأَشَدَّ قُوَّةً).
نلفت النظر هنا لقصة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وقد ذكروها في كتب الفقه، فقد كان يومًا وهو على المنبر يخطب في الناس ويعظهم، وكان الناس يستمعون إليه، فنادى بأعلى صوته: يا سارية الجبل!، فاستغرب الذين كانوا يستمعون إلى خطبة وموعظة عمر رضي الله عنه من قوله هذا وأنكروه، فلما نزل رضي الله عنه من خطبته سألوه، فبيَّن لهم أن جيشًا للمسلمين بقيادة سارية، يحارب في جزيرة، فأراد عمر رضي الله عنه أن ينحاز سارية بمَن معه من المقاتلين إلى الجبل.
ولمَّا عاد سارية بالجيش، وسأله الناس أخبرهم بأنه سمع صوت عمر رضي الله عنه، وأطاعه، وكان بذلك النصر للمسلمين على أعدائهم
(1)
.
فهذا الموقف الذي نُقل عن عمر رضي الله عنه؛ يدلُّ على إرادة الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي بلغ صوته من المدينة إلى سارية في تلك الجزيرة النائية!، وهذا من كرامات
(2)
(1)
أخرجه الآجري في "الشريعة"(4/ 1888) عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "بعث جيشًا وأمر عليهم رجلًا يدعى سارية قال: فبينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يومًا فجعل يصيح وهو على المنبر: يا ساري الجبل يا ساري الجبل. مرتين، فقدم رسول الجيش فسأله؛ فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا، فهزمونا، فإذا بصائح يصيح: يا ساري الجبل يا ساري الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل؛ فهزمهم الله عز وجل فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك.
(2)
"الكرامة": أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح، ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته مصحوب بصحيح الاعتقاد =
الصالحين والأولياء؛ بخلاف الكرامات التي يدَّعيها من ليس أهلًا لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ السَّادِس: فِي جَوَازِ المُهَادَنَةِ
(1)
)
المقصود بالمهادنة: هي عقد الهدنة؛ فيقال لها: المهادنة، والهدنة أيضًا.
ويقال: المعاهدة، والعهد أيضًا، والمراد: أن يهادن أو يعاهد المسلمون أعداءهم، مدَّة من الزمن، على أن يقف القتال بين الفريقين، سواء كان ذلك بعوضٍ، أو بغير عوض.
وربما يحصل ذلك بعوض، وذلك بأن يتَّفق المسلمون مع أعدائهم، على أن يدفع الكفار عوضًا للمسلمين، فيتوقف القتال بين الطرفين.
أو يحصل ذلك بغير عوض، كما كان في صلح الحديبية
(2)
، ونحن نعلم أنَّ هناك مَن رأى أن صلح الحديبية إنما كان يسير في مصلحة قريش، وليس في مصلحة المؤمنين، لكنهم نسوا أن الذي فعل ذلك: إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وهو المدرك لما فيه مصلحة المؤمنين.
وقد تبيَّن أن قريشًا لم تفِ بهذا العهد، وقد اشتدَّ عود المؤمنين وقويت شوكتهم، وزاد عددهم وعدتهم، وكثر الذين دخلوا في الإسلام؛
= والعمل الصالح، علم بها ذلك العبد الصالح أم لم يعلم. انظر:"لوامع الأنوار البهية" للسفاريني (2/ 392).
(1)
"الهدنة": هي عقد الإمام، أو نائبه، لأهل الحرب عقدًا على ترك القتال مدة بعوض وغيره. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 262).
(2)
أخرجه البخاري (2731)، ومسلم (1783).
فأصبحت لهم القوة، والهيبة، والمكانة، وأنزل الله سبحانه وتعالى رهبتهم في صدور أعدائهم، وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تفصيلًا.
قوله: (فَأَمَّا هَلْ تَجُوزُ المُهَادَنَةُ؟ فَإِنَّ قَوْمًا أَجَازُوهَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ إِذَا رَأَى ذَلِكَ الإِمَامُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ)
(1)
.
علة هذا: أن الأمر راجع لما يراه الإمام، فإنه ينظر إلى ما فيه مصلحة المؤمنين، وقد يظهر له ما لا يظهر لغيره؛ لأنه يدرك ما يدركه عامة الناس، ويعرف ما عرفوا وزيادة، وهذا من باب السياسة الشرعية، وهو جائز، فله أن يعقد الهدنة مع الأعداء؛ إذا كان ذلك في مصلحة المؤمنين، وله أن يحدِّدها بزمن قريب، أو بعيد، وله أن يبدلها، وكل هذا يرجع إلى المصلحة العامَّة للأمة.
قوله: (وَقَوْمٌ لَمْ يُجِيزُوهَا إِلَّا لِمَكَان الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ مِنْ فِتْنَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ)
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال لابن الهمام (5/ 455)، حيث قال:" (قوله: وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقًا منهم) بمال وبلا مال، وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، والآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا يجوز بالإجماع".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 205، 206)، حيحث قال:" (و) يجوز (للإمام)، وينبغي أو نائبه فقط (المهادنة)، أي: صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام (لمصلحة) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 304)، حيث قال:"الهدنة لغة: المصالحة، وشرعا مصالحة الحربيين على ترك القتال المدة الآتية بعوض، أو غيره، وتُسمَّى موادعة، ومسالمة، ومعاهدة، ومهادنة، وهي جائزة لا واجبة، أي: أصالة، وإلا فالوجه وجوبها إذا ترتب على تركها إلحاق ضرر بنا لا يتدارك".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 655)، حيث قال: " (ولا تصح) الهدنة (إلا حيث جاز تأخير الجهاد) لنحو ضعف بالمسلمين أو مانع بالطريق (فمتى رآها=
حقيقة الأمر: أنه لا خلاف في جواز مهادنة المسلمين لأعدائهم في حالة الضرورة. فإذا كان المسلمون في حالة ضعف، ويخشى الإمام أن يتسلَّط عليهم العدو، ويفتك بهم ويقتلهم؛ فله أن يعقد معهم مهادنة في هذه الحالة بلا خلاف.
لكن في حالة السعة: هل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟
(1)
.
للعلماء أقوال متعددة في ذلك سيعرضها المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب.
قوله: (إِمَّا بِشَيْءٍ يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ لَا عَلَى حُكْمِ الجِزْيَةِ).
فقد يكون في المسلمين ضعف شديد، وربما يكون فيهم أيضًا اختلاف - كما ذكرنا قبل قليل - عن حال المسلمين أيام التفرق، فالدولة الإسلامية كما نعلم مرَّت بفترات ضعف، بعد أن كانت قد بلغت القمة في عزَّتها، وارتقت لأعلى درجات المجد في أوائل العصر العباسي.
فهذا خليفة المسلمين هارون الرشيد، كان ينظر إلى السحابة - وهي في السماء - ويقول لها: أمطري حيث شئت؛ فسيأتيني خراجك!
(2)
.
فهذا دليل على اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وانتشارها، وامتدادها في كل مكان.
ثم أخذ الضعف يدبُّ في تلك الدولة الإسلامية، إلى أن وصلت إلى
= الإمام مصلحة ولو بمال منا ضرورة) كخوفه على المسلمين هلاكًا أو أسرًا (مدة معلومة جاز وإن طالت) المدة".
(1)
سيأتي.
(2)
هذا اشتهر على ألسنة المعاصرين ولم أقف على من نسبه لهارون الرشيد من المتقدمين، لكن الذي وقفت عليه أنه من كلام هشام بن عبد الملك.
يُنظر: "سبل الهدى والرشاد"، للصالحي (3/ 128)، حيث قال:"واتفق ذلك في زمن هشام بن عبد الملك حتى جيء إليه خراج الأرض شرقًا وغربًا، وكان إذا نشأت سحابه يقول: "أمطري حيث شئت فسيصل إليّ خراجك".
ما وصلت إليه الآن مما لا يخفى على أحد!، فالعدو كان يطوق عاصمة المسلمين، مع اختلافهم فيما بينهم، مع أن الله سبحانه وتعالى قد حذَّرهم من الخلاف بقوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105]. وبقوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فالخلاف: هو السبب الرئيسي الذي يضعف الدولة الإسلامية.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن العودة إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام من الفرقة والخلاف، وذكرهها بنعمته عليه فقال:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
فتلك: هي نقطة الضعف الخطيرة، فعندما يختلف المسلمون: تتفرق كلمتهم، وتتوزع صفوفهم، وحينئذ يطمع فيهم العدوُّ.
أما عندما يلتقي المسلمون على كتاب الله عز وجل، ويلتفون حول سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجتمعون على كلمة سواء: فإن أعدائهم - مهما كثروا - لا يستطيعون أن يصلوا إليهم؛ لاتحاد كلمتهم، واعتصامهم بحبل الله سبحانه وتعالى، وبكتابه العزيز، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالغاية: ليست تحصيل الكثرة؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 25 - 26].
فمع أن المسلمين كانوا كثر، بالنسبة لأعدائهم، وكانوا في غاية من القوة؛ إلا أن ذلك لم يغن عنهم شيئًا، وأنزل الله بهم ما كان!.
فينبغي للمسلم دائمًا ألا تأخذه العزة بأنه أقوى من عدوه، وبأن عدده أكثر؛ بل عليه أن يطلب العزة من الله سبحانه وتعالى، والنصر منه، والقوة منه؛ فهو سبحانه وتعالى الذي يهبها للمؤمنين.
والله عز وجل لا يضيع عباده الموحدين أبدًا، ولا يتركهم فريسة لأعدائهم؛ إذا أخلصوا نيَّتهم، وصدقوا مع الله تعالى.
قوله: (إِذْ كانَتِ الجِزْيَةُ إِنَّمَا شَرْطُهَا أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ، وَهُمْ بِحَيْثُ تَنْفُذُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ المُسْلِمِينَ، وَإِمَّا بِلَا شَيْءٍ يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ).
قصد المؤلف رحمه الله بذلك: أنه يجوز للإمام، أن يعقد هدنة مع أعدائه؛ إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، إما بعوض يأخذه منهم مقابل ذلك، كأن يدفعوا للمسلمين شيئًا من المال أو من الثمر أو غيرهما، أو تكون الهدنة بلا عوض مقابلها؛ فلا يأخذ المسلمون منهم شيئًا من ذلك.
قوله: (وَكَانَ الأَوْزَاعِيُّ: "يُجِيزُ أَنْ يُصَالِحَ الإِمَامُ الكُفَّارَ عَلَى شَيْءٍ، يَدْفَعُهُ المُسْلِمُونَ إِلَى الكُفَّارِ")
(1)
.
هذا القول - في حقيقة الأمر -: ليس قول الإمام الأوزاعي وحده؛ كما سيأتي!.
فإذا خشي الإمام على المؤمنين، أن يفتك بهم أعداؤهم، أو يستأصلوهم، ففي هذه الحالة: يجوز أن يدفع لهم مقابل تخليص أرواح المؤمنين.
فالأصل في ذلك: هو الحرص على قيام هذا الدِّين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةُ
(2)
فِتْنَةٍ، [أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مِنَ الضَّرُورَاتِ
(3)
]).
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 358) حيث قال: وسئل الأوزاعي، عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فدية أو هدية يؤديها المسلمون إليهم، قال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة، وشغل من المسلمين عن حربهم عن قتال عدوهم، أو فتنة شملت المسلمين، فإذا كان ذلك فلا بأس.
(2)
هذا الضبط من عندي، وقد وردتني الجملة في هذا الملف هكذا (ضَرُورَةٌ فِتْنَةٌ)! ولا معنى له فليحرر.
(3)
ما بين المعقوفتين مستدرك من "بداية المجتهد" ط. دار المعرفة.
هذا القول: قال به الإمام أحمد أيضًا
(1)
ومراد المؤلف رحمه الله بعبارة (ضَرُورَةُ فِتْنَةٍ): كأن يصطلم
(2)
الكفار - وهم في حالة قولة - بالمسلمين وهم في حالة ضعف، ويخشى الإمام من استئصالهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم.
قوله: ([وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُعْطِي المُسْلِمُونَ الكُفَّارَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافُوا]
(3)
أَنْ يُصْطَلَمُوا لِكَثْرَةِ العَدُوِّ وَقِلَّتِهِمْ، أَوْ لِمِحْنَةٍ نَزَلَتْ بِهِمْ")
(4)
.
لا شكَّ أنه ربما تنزل بالمسلمين نازلة من النوازل، ويحصل لهم مثل ما يحصل لهم الآن؛ فنحن نشاهد الآن أن كلمة المسلمين ليست مجتمعة.
ولو أن المسلمين عادوا إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: لعاد لهم مجدهم وعزَّتهم، وكانت لهم المكانة الكبيرة بين الأمم.
وقد رأينا أن الدولة التي تطبق شريعة الله سبحانه وتعالى، وتعمل بها: تعيش في خير وسعا دة، وتنعم بالرفاهية، والأمن، والاستقرار.
أما تلك الدول التي تُحكِّم آراء البشر وقوانينهم: فقد رأينا ما هم فيه من ضيق الحال، وما نزل بهم من الخوف والهلع، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تحصل في مثل هذه المجتمعات.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 655)، حيث قال:" (ولا تصح) الهدنة (إلا حيث جاز تأخير الجهاد) لنحو ضعف بالمسلمين أو مانع بالطريق (فمتى رآها الإمام مصلحة ولو بمال منا ضرورة) كخوفه على المسلمين هلاكًا أو أسرًا".
(2)
"الاصطلام": افتعال، من الصلم: القطع. واصطلم القوم: أبيدوا من أصلهم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 49)، و"تاج العروس" للزبيدي (32/ 509).
(3)
ما بين المعقوفتين مستدرك من "بداية المجتهد" ط. دار المعرفة.
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 306)، حيث قال:"إن اضطررنا لبذل مال لفداء أسرى يعذبونهم، أو لإحاطتهم بنا، وخوف استئصالنا وجب بذله".
وهذا كله؛ لبعدهم عن كتاب الله عز وجل.
ولا يكفي تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى في جانب، وإهمالها في جوانب!.
وإنما الواجب: هو تطبيق شريعة الله عز وجل في كلِّ أمر من أُمور الحياة.
وقد قال عز من قائل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
قول: (وَمِمَّنْ قَالَ بِإِجَازَةِ الصُّلْحِ إِذَا رَأَى الإِمَامُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً).
قد ظهر للجميع - ولله الحمد - أن الذين اطلعوا على هذه الشريعة الإسلامية، وهذا الفقه الإسلامي، من المنصفين من غير المؤمنين: شهدوا لها بأنها شريعة خصبة
(1)
، اشتملت على حاجات الناس، بما يكفي أغراضهم، واعترفوا بأنها شريعة خالدة، وباقية.
وهذه الشهادة: صدرت حقًّا من أعداء الإسلام.
فإذا كانت هذه الشهادة صدرت عن الأعداء لما تجردوا ونطقوا بالإنصاف والعدل؛ فما الظن بشهادة أهل هذه الشريعة الغراء؟!
قوله: (مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ)
(4)
.
(1)
"الخصب": نقيض الجدب، وهو كثرة العشب. انظر:"العين" للخليل (4/ 189).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 205، 206)، حيث قال:" (و) يجوز (للإمام)، وينبغي أو نائبه فقط (المهادنة)، أي: صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام (لمصلحة) ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 304)، حيث قال:"وهي جائزة لا واجبة، أي: أصالة، وإلا فالوجه وجوبها إذا ترتب على تركها إلحاق ضرر بنا لا يتدارك".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 455)، حيث قال:" (قوله وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقًا منهم) بمال وبلا مال (وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به) ".
وممن وافق الأئمة الثلاثة على هذا أيضًا: الإمام أحمد
(1)
كذلك.
فهذا الحكم: موضع اتِّفاق بين الأئمة.
قوله: (إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الصُّلْحُ).
وقد وافق الإمام أحمد
(2)
أيضًا - في الرواية المشهورة عنه - الإمام الشَّافِعِيَّ في هذا.
ومراد المؤلِّف رحمه الله: أن الإمام الشافعي
(3)
- ومعه الإمام أحمد
(4)
- يرى عدم جواز الصُّلْح مع الكفار لأكثر من عشر سنوات؛ وهي المُدَّة الَّتِي صالَحَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الكُفَّارَ عَامَ الحُدَيْبِيَة.
وسيأتي أن العلماء اختلفوا في هذه المُدَّة
(5)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 655)، حيث قال:" (ولا تصح) الهدنة (إلا حيث جاز تأخير الجهاد) لنحو ضعف بالمسلمين أو مانع بالطريق (فمتى رآها الإمام مصلحة ولو بمال منا ضرورة) كخوفه على المسلمين هلاكًا أو أسرًا (مدة معلومة جاز وإن طالت) المدة".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 656)، حيث قال:" (وإذا زاد) الإمام في الهدنة (على) مدة (الحاجة بطلت الزيادة) فقط، بناءً على تفريق الصفقة لعدم المصلحة فيها (وإن أطلقت) الهدنة أو المدة لم تصح؛ لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية"، وانظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 297).
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 355)، حيث قال:" (فإن لم يكن) بنا ضعف كما بأصله، ورأى الإمام المصلحة فيها (جازت أربعة أشهر)، ولو بلا عوض (لا سنة)؛ لأنها مدة الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بدون جزية (وكذا دونها)، وفوق أربعة أشهر (في الأظهر) للآية أيضًا نعم لا يتقيد عقدها لنحو نساء، ومال بمدة (ولضعف) بنا (تجوز عشر سنين) فما دونها بحسب الحاجة (فقط)؛ لأنها مدة مهادنة قريش، ومتى احتيج لأقل من العشر لم تجز الزيادة عليه".
(4)
تقدَّم قريبًا.
(5)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 93)، حيث قال:"قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية. فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين".
لكن المشهور في الأحاديث الصحيحة
(1)
، وفي كتب السير والتاريخ: أنها عشر سنوات
(2)
. وهذه الهدنة: ليست ملزمة في أصلها، فلا يجب عقد المهادنة.
لكن الوفاء بالعقود مطلوب؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
أدلة مشروعية المهادنة:
الأصل في حدوث المهادنة أو المعاهدة: أدلة كثيرة أجازت ذلك؛ منها:
أولًا: من القرآن الكريم:
قول الله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: 1]. وقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].
ثانيًا: من السُّنة النبوية:
القولية: ما ورد في قول الله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: 1].
الفعلية: ما حصل من صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين يوم الحديبية أيضًا
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (18910) من حديث المسور بن مخرمةَ، ومروان بن الحكم وأصله في البخاري (2731) دون ذكر للمدة.
(2)
أخرجه الواقدي في المغازي (2/ 611) عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذَا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟
…
هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين.
(3)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (لِأَكْثَرَ مِنَ المُدَّةِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الكُفَّارَ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ)
(1)
.
هذه المدَّة التي صَالَحَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الكُفَّارَ عَامَ الحُدَيْبيَة: لا يجيز الإمام الشافعي، والحنابلة - في المشهور - للإمام أن يزيد عليها
(2)
.
وقالوا: هي الحدُّ الأعلى لأيّ صلح بين المسلمين وغيرهم.
وذلك: لأنها المدة التي اتفق عليها رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش.
ولكن هناك رواية أُخرى غير مشهورة عند الحنابلة: أجاوزا للإمام أن يزيد على هذه المدة - وهي عشر سنوات - إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين
(3)
.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ - فِي جَوَازِ الصُّلْحِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ -: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقَوْلِه تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29])
هاتان الآيتان؛ وهما قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 305)، حيث قال:" (فإن لم يكن) بنا ضعف كما بأصله، ورأى الإمام المصلحة فيها (جازت أربعة أشهر)، ولو بلا عوض (لا سنة)؛ لأنها مدة الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بدون جزية (وكذا دونها)، وفوق أربعة أشهر (في الأظهر) للآية أيضًا نعم لا يتقيد عقدها لنحو نساء، ومال بمدة (ولضعف) بنا (تجوز عشر سنين) فما دونها بحسب الحاجة (فقط)، لأنها مدة مهادنة قريش، ومتى احتيج لأقل من العشر لم تجز الزيادة عليه".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكَلْوَذَاني (ص 221)، حيث قال:"وقال شيخنا: تجوز المهادنة، وإن كان قويًّا مستظهرًا، وتجوز مهادنة أهل الحرب أكثر من عشر سنين في ظاهر كلامه في رواية حرب، وروي عنه: أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين، وهي اختيار أبي بكر".
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله عز وجل:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]: عامتان.
وظاهر الآية الأولى: قتل المسلمين للمشركين في أيِّ مكان وزمان.
وظاهر الآية الثانية: مقاتلة المسلمين للمشركين حتى دخولهم في الإسلام، أو دفع أهل الكتاب الجزية.
فالمعنى الظاهر من هاتين الآيتين: يعارض في الظاهر آية أُخرى، ستردّ في كلام المؤلف رحمه الله.
قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]).
اكتفي المؤلف رحمه الله هنا بهذه الآية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. وكان يناسب أيضًا أن يذكر المؤلف رحمه الله آية أخرى؛ وهي قول الله سبحانه وتعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1].
فإلى هذه الآية الأخيرة: نصٌّ صريح في هذه المسألة - وهي المعاهدة بين المسلمين وغيرهم -.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الأَمْرِ بِالقِتَالِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الصُّلْحِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ الصلْحُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ).
النسخ - كما هو متفق عليه -: يحتاج إلى دليل، ولا دليل هنا!.
ولكن ينبغي أن يقال: إن الآيات التي أَمرت بالقتل والقتال: عامَّة، وقد خصصتها الآيات التي أجازت المعاهدة والسلم، وخصصها أيضًا: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
ونحن نعلم: أن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها ما هو بيان لكتاب الله عز وجل، ودليل ذلك: بنص القرآن العزيز:
قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقوله عز وجل: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64].
وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسُنَّته كتاب اللّه تعالى، وأوضحه غاية الإيضاح.
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا تعلَّموا من كتاب الله تعالى عشر آيات، لا يتجاوزوهم حتى يتعلموا ما فيهن من العلم والعمل
(1)
.
وتعلمهم هذا: يتلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من مشكاة النبوة.
قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الصُّلْحِ مُخَصِّصَةٌ لِتِلْكَ، قَالَ: الصُّلْحُ جَائِزٌ؛ إِذَا رَأَى ذَلِكَ الإِمَام، وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم؛ وَذَلِكَ أَنَّ صُلْحَهُ صلى الله عليه وسلم عَامَ الحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ).
نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج مع أصحابه رضي الله عنهم، من المدينة النبوية، قاصدين مكة المكرمة، فمنعتهم قريشٌ من دخولها، وصدَّتهم عن بيت الله الحرام!.
فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة: لما احتاج إلى هذا الصلح!. وعليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك من غير ضرورة؛ كما ذكر المؤلف رحمه الله هنا.
ولكن لا ينفي هذا: أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا الصلح لحكمة، وقد خفيت هذه الحكمة على الصحابة رضي الله عنهم أول الأمر.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 117) عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، ولا يأخذون في العشر الأُخرى حتى يعلموا ما في هذه من العمل والعلم فإنا علمنا العمل والعلم".
فقد لاحظ بعض الناس ضعفًا في ذلك الصلح، في جانب المؤمنين، ولكن كانت النتيجة: النصر والتمكين للمسلمين.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا ما فيه خير للمؤمنين، عاجلًا، أو آجلًا.
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيّ، فَلَمَّا كَانَ الأَصْلُ عِنْدَهُ الأَمْرَ بِالقِتَالِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ، وَكَانَ هَذَا مُخَصَّصًا عِنْدَهُ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَرَ أَنْ يَزْدَادَ عَلَى المُدَّةِ الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
لقد علمنا أن هذا - كما قلنا - مشهور مذهب الإمام أحمد.
قوله: (وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ المُدَّةِ؟ فَقِيلَ: كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ
(1)
، وَقِيلَ: ثَلَاثًا
(2)
، وَقِيلَ: عَشْرَ سِنِينَ
(3)
، وَبِذَلِكَ قَالَ: الشَّافِعِيُّ)
(4)
.
يحكي المؤلف رحمه الله في هذه المسألة: ثلاثة أقوال للعلماء فقط!.
وهناك قول رابع: وهو أن مدة الصلح كانت سنتين
(5)
. وأصحُّ هذه الأقوال الأربعة وأشهرها: أنها عشر سنين.
(1)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 93)، حيث قال:"قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية. فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين".
(2)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 93)، حيث قال: "قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية
…
وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين".
(3)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 93)، حيث قال: "قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية
…
وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 305)، حيث قال:" (تجوز عشر سنين) فما دونها بحسب الحاجة (فقط)؛ لأنها مدة مهادنة قريش".
(5)
يُنظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (17/ 40)، حيث قال:"وصالح قريشًا على سنتين وقيل: ثلاث، قاله ابن جريج".
ولعلَّ سبب التباين بين هذه الأقوال الأربعة:
أنَّ كفار قريش خانوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، ونقضوا أيمانهم كما نعلم: فانقطعت المدة المتفق عليها في العقد، وصارت المدة الفعلية: أقل من عشر سنوات؛ فهذا هو تفسير هذا الاختلاف للعلماء في مدة الصلح.
فمن قال: (عشر سنوات) نظر للمدَّة المتفق عليها في العقد.
ومن قال: (سنتين، أو ثلاث سنوات، أو أربع سنوات) نظر للمدَّة الفعلية.
وأما سبب ذلك: فنحن نعلم أنه قد حصل خلاف، بين قبيلة خزاعة، وقبيلة بكر، وقد كانت قبيلة خزاعة حليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وكانت قبيلة بكر: حليفة لكفار قرش.
فانحازت قريش لقبيلة بكر، وأعانها بعض كفار قريش، وسكت الباقون منهم، والساكت إنما هو مقرّ.
فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك نقضًا من قريش للعهد؛ فحينئذ توجَّه لفتح مكَّة، - الفتح المشهور - الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} [النصر: 1 - 2].
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ أَنْ يُصَالِحَ المُسْلِمُونَ المُشْرِكِينَ: بِأَنْ يُعْطُوا لَهُمُ المُسْلِمُونَ شَيْئًا).
هنا ينتقل المؤلف رحمه الله بعد كلامه السابق عن مطلق الصلح، إلى الحديث عن الصلح مع المشركين بعوض يدفعه المُسْلِمُونَ.
فالصلح أنواع ثلاثة:
النوع الأول: صلح بغير بعوض من الطرفين (المسلمين، والكفار).
النوع الثاني: صلح بعوض، يقدمه الكفار للمسلمين.
النوع الثالث: صلح بعوض، يقدمه المسلمون للكفار.
فكلام المؤلف رحمه الله هذا عن النوع الثالث.
قوله: (إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةُ فِتْنَةٍ
(1)
، أَوْ غَيْرُهَا؛ فَمَصِيرًا إِلَى مَا رُوِيَ:"أَنَّهُ كَانَ عليه الصلاة والسلام "قَدْ هَمَّ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ تَمْرِ المَدِينَةِ لِبَعْضِ الكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي جُمْلَةِ الأَحْزَابِ"
(2)
).
هذه المسألة من المسائل المهمة.
وسيتبين لنا منها: كيف كان موقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كانت استجابتهم لما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، سواء كان ذلك في كتاب الله عز وجل، أو في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقد ورد في ذلك روايتان:
الرواية الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عيينة بن حصن - وهو رجل معلوم كان زعيم قبيلة -؛ يعرض عليه ثلث تمر الأنصار ويرجع بقومه.
وأصل القصة: أن يهود بني النضير، لما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة النبوية، إلى أرض خيبر؛ بسبب غدرهم وخيانتهم، لم يقفوا عند ذلك الغدر وتلك الخيانة! - وهذا هو شأن اليهود كما نعلم -.
فقد ذهب زعيمهم إلى كفار قريش، وأخذ يحرِّضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قتال المؤمنين في المدينة النبوية، وبعدهم بالنصر، وبالإعانة؛ حتى استطاع أن يؤثِّر فيهم، فاستجابوا له.
ثم انتقل زعيم يهود هذا، بعد ذلك إلى قبيلة أُخرى؛ ففعل معهم ما
(1)
هذا الضبط من عندي، وقد وردتني الجملة في هذا الملف هكذا:(ضَرُورَةٌ فِتْنَةٌ)! ولا معنى له؛ فليحرر.
(2)
سيأتي تخريجه.
فعل مع كفار قريش، فاستجابوا له؛ فتجمعت الأحزاب من كلِّ مكان، وقدِمُوا إلى المدينة النبوية، لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكانوا عددًا كبيرًا، ومع ذلك، أخذوا يتَّصلون بقبيلة يهود بني قريظة أيضًا، والتي كانت تسكن المدينة النبوية في ذلك الوقت، وأخذوا يغرونهم؛ حتى نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتحزَّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وعندما علم بذلك: استشار أصحابه في كيفية مجابهة هذه الأعداد الغفيرة؟
وقد كان عدد المسلمين وقتها قليلًا؛ فقيل: سبعمائة، وقيل: ثلاثة آلاف.
فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق حول المدينة؛ فجعلوا ظهورهم إلى جبل، ووجوههم إلى جبل في الشرق، وكان الخندق يحول بينهم وبين الكافرين
(1)
.
وأعان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه رضي الله عنهم، في حفر الخندق، وفي نقل التراب
(2)
.
ولما جاء المشركون ليحيطوا بالمدينة فوجئوا بهذا الخندق، فأقام بعضهم في جهة الشرق، قريبًا من جبل أحد، وهم قريش، في أوائل المدينة.
(1)
أخرجه الواقدي في المغازي (2/ 445) عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة قالا:
…
وفيه فقال سلمان: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة.
(2)
أخرجه البخاري (2837)، ومسلم (1803) عن البراء رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول؟ "لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
وهؤلاء هم الذين أشار الله سبحانه وتعالى إليهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 9 - 11].
إلى آخر الآيات التي تعرض لذلك، والكلام عن ذلك يطول.
ومحلُّ الشاهد الذي نحتاج إليه هنا في هذا المقام: هو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عيينة بن حصن - وهو زعيم قومه - كما جاء في بعض الروايات: "يعرض عليه ثلث تمر الأنصار؛ مقابل أن يرجع بقومه وأن يخرج الأحزاب؟ فأبى ذلك، واشترط أن يعطيه رسول الله ووخص نصف ذلك التمر، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن استشار: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ؟ فأبوا ذلك"
(1)
.
وفي رواية أُخرى: أن زعيمًا من زعماء الكفار ممن كانوا مع الأحزاب، أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه نصف تمر المدينة، مقابل أن يخرج عن الأحزاب؟ فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال:"حتى أسأل السعود")
(2)
.
(1)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 73) عن أبي المسيب قال: لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشأ لا تعبد". فبينا هم على ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر: "أرأيت إن جعلت لكم ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟ " فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر فعلت. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فأخبرهما بذلك فقالا: إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله، قال:"لو كنت أمرت بشيء ما أستأمر بكما، ولكن هذا رأي أعرضه عليكما"، قالا: فإنا نرى أن لا نعطيهم إلا السيف.
(2)
أخرجه البزار في "مسنده"(14/ 337) عن أبي هريرة، قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأناها عليك خيلًا=
و"السعود": هم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع. وقيل: غير هؤلاء أيضًا معهم.
أما موقف الأنصار رضي الله عنهم من هذا العوض مقابل الصلح، فهو أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين له: أهذا من الوحي؟
يعني: إن كان هذا هو أمر الله سبحانه وتعالى، فعلى العين والرأس، فنستجيب له. أو هو رأي واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وإن كان كذلك: فهل هو على سبيل المشورة؟
فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس بوحي، قالوا: فوالله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد كانوا في السِّنَة - يعني: أيام الجدب، ونحوه - يأتون المدينة، يطوفون حولها، فما يستطيع أحد منهم أن يضع قدمه فيها، ولا أن يحصل على تمر منها، إلا عن طريق الشراء، أو ما يقدم للضيف، فإذا كان هذا حالهم في الجاهلية؛ فكيف يكون في الإسلام؟!
وقد أعزَّنا الله بالإسلام، وأعزَّنا برسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بيننا وبينهم إلا السيف!
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: نعم إذن.
فرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يختبر الأنصار رضي الله عنهم، ليرى ما عندهم من القوَّة والضعف، فلم يجد عندهم إلى القوة التي بنيت على قوة الإيمان؛ كالحال بالنسبة لإخوانهم المهاجرين رضي الله عنهم.
= ورجالًا فقال: حتى استأمر السعود سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يعني: يشاورهما، فقالا: والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام؟
…
" الحديث.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 133): ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات.
ونسوق قصة حذيفة رضي الله عنه يومها باختصار:
فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم، أن يذهب أحدهم إلى المشركين، فيدخل فيهم، ويتخلل بين صفوفهم؟
فلم يجبْه أحدٌ، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب، ودخل في صفوف المشركين، وقام أبو سفيان رضي الله عنه ولم يكن أسلم يومها فقال للمشركين: لينظر كل إنسان إلى من بجواره؟
فسبق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال للذي بجواره: من أنت؟ - حتى لا يعطيه الفرصة ليسأله فينكشف أمره - فقال الرجل لحذيفة رضي الله عنه: أنا فلان.
وهذه القصة: مشهورة، ومعروفة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السير والتفسير.
وقد رجع حذيفة رضي الله عنه بخبر أولئك الأقوام، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي طريق عودته إلى المسلمين: أخذ سهمًا من كنانته، وأراد أن يضرب به أبا سفيان رضي الله عنه سيد قريش يومها، لكنه تذكَّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحدثن حدثًا، حتى تأتي إليَّ".
فردَّ السهم إلى كنانته، وكانت ليلة باردة؛ فأدفأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن نام واستيقظ
(1)
.
والقصة فيها تفصيل، ومحل الشاهد منها هنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
(1)
أخرجه مسلم (1788) عن حذيفة وفيه "
…
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ "، فسكتنا فلم يجبه منا أحد،
…
فقال: "قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم"، فلم أجد بدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال:"اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي"، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولا تذعرهم عليَّ"، ولو رميته لأصبته
…
الحديث".
جاء في رواية: "عرض على عيينة بن حصن، أن يقدم له شيئًا من تمر المدينة؛ مقابل أن يعود بقومه، وأن يخذل أولئك الأحزاب أيضًا"
(1)
.
وذلك: لأن عددهم وصل إلى عشرة آلاف مقاتل، وكم معهم من العدة والإمكانات الشيء الكثير، وقد خان بنو قريظة العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أيضًا، وعزموا على مقاتلة المسلمين.
فكلُّ أولئك الأحزاب: قد انحازوا إلى بعضهم بعضا، في مقابل المؤمنين على قلة عددهم.
فكانت النتيجة: أن أرسل الله سبحانه وتعالى على الأحزاب ريحًا شديدة؛ فكفأت قدورهم، وأطفأت نارهم، وخلعت ثيابهم، وبثَّت الرعب والفزع والخوف بين صفوفهم!.
فقام أبو سفيان رضي الله عنه يترجَّل، فركب راحلته، وأعلن الرحيل إلى مكَّة
(2)
.
ولمَّا علمت باقي القبائل بعزمه الرحيل: تتابعوا على ذلك، وصدق الله عز وجل حين قال:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
فهذا: هو شأن مَن ينصر دين الله، ومَن يقف مع كتاب الله عز وجل،
ومع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى لن يتخلَّى عنه، ولن يتركه للعذاب.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "السيرة النبوية وأخبار الخلفاء" لابن حبان (1/ 262)، حيث قال:"ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله! ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله! ما يستمسك لنا بناء ولا تطمئن لنا قدور، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم".
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} [غافر: 51 - 52].
قوله: (لِتَخْبِيبِهِمْ).
يعني: لتخذيلهم.
وهذا الذي جاء في الروايات أيضًا؛ فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث تمر المدينة على عيينة بن حصن؛ لتخذيل الأحزاب، وصرفهم عن حرب المسلمين في المدينة النبوية
(1)
.
فالقصد من دفع العوض للكفار: هو تخذيلهم عن حرب المسلمين.
قوله: (فَلَمْ يُوَافِقْهُ).
ننبِّه: إلى أنه قد يرد في المخطوطات - فضلًا عن المطبوعات - أخطاء؛ إما تصحيف، أو تحريف، أو نحو ذلك؛ فليُتنبَّه لذلك.
قوله: (عَلَى القَدْرِ الَّذِي كَانَ سَمَحَ لَهُ بِهِ مِنْ تَمْرِ المَدِينَةِ حَتَّى أَفَاءَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ).
نشير هنا إلى موقف المنافقين وقولهم في هذه الواقعة:
فبعد أن عرض الله سبحانه وتعالى للموقف، وأبان عن حال المؤمنين بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10 - 11].
ذكر عز وجل بعد ذلك حالة المنافقين وما حصل منهم؛ فقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)} [الأحزاب: 12 - 13].
(1)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَخَافَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُصْطَلَمُوا، فَقِيَاسًا عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ فِدَاءِ أُسَارَى المُسْلِمِينَ
(1)
؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ إِذَا صَارُوا فِي هَذَا الحَدِّ: فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الأُسَارَى).
معنى "أَنْ يُصْطَلَمُوا"
(2)
، أي: أن يستأصل الكفار دماء المسلمين ويقتلوهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ السَّابِعُ لِمَاذَا يُحَارِبُونَ؟)
ينتقل المؤلف رحمه الله هنا لمسألة: سبب محاربة المسلمين لهؤلاء الكفار؟
قوله: (فَأَمَّا لِمَاذَا يُحَارِبُونَ؟ فَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ المَقْصُودَ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 120)، حيث قال:"وتجوز مفاداة أسارى المسلمين بالدراهم والدنانير والثياب ونحوها مما ليس فيها إعانة لهم على الحرب".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 208)، حيث قال:" (وجاز) فداء أسير المسلمين (بالأسرى) الكفار في أيدينا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 306)، حيث قال:"إن اضطررنا لبذل مال لفداء أسرى يعذبونهم، أو لإحاطتهم بنا، وخوف استئصالنا وجب بذله".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 655)، حيث قال:" (ولو جاء علج) من كفار (بأسير) مسلم (على أن يفادي) المسلم (بنفسه فلم يجد) قال أحمد: (لم يرد، ويفديه المسلمون إن لم يفد من بيت المال) ".
(2)
تقدَّم معناه.
بِالمُحَارَبَةِ لِأَهْلِ الكِتَابِ مَا عَدَا أَهْلَ الكِتَابِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَصَارَى العَرَبِ).
لا يدخل في أهل الكتاب هنا: أهل الكتاب من كفار قريش، ومن معهم من العرب.
قوله: (هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الدُّخُولُ فِي الإِسْلَامِ، وَإِمَّا إِعْطَاءُ الجِزْيَةِ).
نقول: لكن هل إعطاء الجزية عامٌّ لكل الكفار من المشركين وغيرهم، أو إنها خاصة بأهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن لحق بهم أيضًا؟ لأن هناك مَن يلحق باليهود، فيأخذ حكمهم، ومَن يلحق بالنصارى كأمثال هؤلاء الفرنج - كما كان يقول الفقهاء - فيأخذون حكمهم.
فهل من يدين بدين أهل الكتاب من غيرهم، يأخذ حكمهم، وتضرب عليهم الجزية أو لا؟
وقد قال الله سبحانه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 129].
فقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا الْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29]: يدلُّ على أنهم - وبلا شك - كفار، وإن ادعوا أنهم من أهل الكتاب؛ لعدم إيمانهم. وذلك لأنهم لو كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر حقًّا: لآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلمونه حقَّ العِلم، ويعرفون صفاته أيضًا، وقد بشَّر به نبيُّ الله عيسى عليه الصلاة السلام؛ كما الله سبحانه تعالى حاكيًا قوله:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
فقد علموا ذلك؛ لكنه لما جاء من العرب تغيرت الحال - كما نعلم - حسدًا منهم.
وأما قوله تعالى: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29]، فتفسيره: أنهم يأكلون ما حرم الله سبحانه تعالى عليهم؛ كلحم الخنزير،
ويأكلون الربا، ونحو ذلك مما هو عندهم أيضًا مما هو معلوم.
ثم قال الله عز وجل موضحًا باقي صفاتهم: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29].
والسؤال هنا: هل قول الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29،]: مختصٌّ بهم وحدهم، أو يشمل الحكم غيرهم أيضًا؟
وهذا الحكم: هو قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].
وقوله تعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، يعني: لا بد أن يدفعوها، وهم أذلّة أيضًا.
قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
قوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29]، المراد به: هو دين الإسلام.
ودليل ذلك: قوله الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. فهذا هو الدين الحق، وأما غيره من الأديان: فكلها أديان باطلة.
وأما الشرائع التي سبقت الشريعة الإسلامية المحمدية: فكلها منسوخة، وانتهى العمل بها، فكل من لا يؤمن بالله عز وجل ولا برسوله صلى الله عليه وسلم: فليس بمؤمن
(1)
.
(1)
قال تعالى في حق من لم يؤمن: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} .
وينظر: "الشفا" للقاضي عياض (2/ 2) حيث قال: "فالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه".
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوي"(19/ 9): "يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين: الإنس والجن وأوجب عليهم=
وكلّ مَن ينكر أمرًا من أُمور الدِّين المعروفة بالضرورة فهو كافر أيضًا، حتى وإن ادَّعى الإسلام
(1)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ عَامَّةُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَخْذِهَا مِنَ المَجُوسِ)
(2)
.
"المجوس": هم عبدة النار، وأمثالهم. فإن لهم شبهة كتاب؛ فألحقهم الفقهاء بأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
= الإيمان به وبما جاء به
…
وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين: أهل السُّنة والجماعة وغيرهم".
(1)
والإنكار: الجحد، وعدم الاعتراف، والمقصود بحكم معلوم من الدِّين بالضرورة: ما كان ظاهرًا متواترًا من أحكام الدين معلومًا عند الخاص والعام، مما أجمع عليه العلماء إجماعًا قطعيًا. وللتفصيل في هذا الأمر، انظر: الفروق "للقرافي" للقرافي 4/ 117، "الاعتصام" للشاطبي (2/ 797).
وذكر ابن الوزير: إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته. انظر: "إيثار الحق على الخلق"(ص 116، 121، 138).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 401، 402)، حيث قال:"وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس" لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الآية ووضع رسول الله عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس.
ومذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطإ" للباجي (2/ 172)، حيث قال:"فأما المجوس فإنه يسن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم وليسوا عنده بأهل كتاب وبه قال أبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنهم أهل كتاب". ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 277)، حيث قال:" (ولا تعقد إلا لليهود والنصارى) وصابئة وسامرة لم يعلم أنهم يخالفونهم في أصل ديتهم سواء العرب والعجم؛ لأنهم أهل الكتاب في آيتها. (والمجوس)، لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 659)، حيث قال:" (ولا تعقد) الذمة (إلا لأهل كتاب) التوراة والإنجيل، وهم (اليهود والنصارى ومن يدين بالتوراة كالسامرة) يدينون بشريعة موسى ويخالفون اليهود في فروع من دينهم (أو) يدين (بالإنجيل كالفرنج والصابئين) والروم والأرمن، وكل من انتسب لدين عيسى (أو من له شبهة كتاب كالمجوس) فإنه يروى أنه كان لهم كتاب ورفع، فذلك شبهة لهم أوجبت حقن دمائهم بأخذ الجزية منهم".
وقد ورد في ذلك حديث؛ قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "سُنُّوا بِهِمْ: سُنَّةَ أَهْل الكِتَابِ"
(1)
.
وقد فعل بهم ذلك: أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قوله: (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ")
(2)
.
"السُّنة": هي الطريقة المتبعة. يعني: اسلكوا بهم مسلك أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وألحقوهم بهم، وخذوا منهم الجزية كذلك، وكل مَن هو على شاكلة أهل الكتاب: يأخذ حكمهم أيضًا، كالمجوس.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى أَهْلِ الكِتَابِ مِنَ المُشْرِكِينَ: هَلْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الجِزْيَةُ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ).
من العلماء مَن قال: تؤخذ الجزية من كلِّ مشرك، ومنهم: مَن جعل ذلك خاصًّا بأهل الكتاب دون المشركين.
قوله: (وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَقَوْمٌ: اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مُشْرِكِي العَرَبِ).
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 278)(42)، عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال:"ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ " فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب"، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1248).
وأصله في البخاري (3157)، بلفظ:"حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر".
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 250)، حيث قال:"وتؤخذ الجزية من كلّ مشرك عربيًّا كان أو أعجميًّا، [من] أهل الكتاب وغيرهم، إِلَّا المرتدين".
وهو قوله الإمامين: أبي حنيفة
(1)
، وأحمد
(2)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَجَمَاعَةٌ
(4)
: "لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمَجُوسِ").
يعني: كأن الإمام الشافعي رحمه الله: اقتصر على مورد النصِّ الوارد في الكتاب والسُّنة.
أما الكتاب: فهو قول الله سبحانه وتعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29].
وأما السُّنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم عن المجوس: "سُنُّوا بِهِمْ: سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ"
(5)
. فوقف عند هذين النصين.
وهذا القول للإمام الشافعي ومن معه: قال به الإمام أحمد في الرواية الأُخرى عنه
(6)
.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 49)، حيث قال:" (قوله: ولا توضع) الجزية (على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين؛ لأن كفرهما)، يعني: مشركي العرب والمرتدين (قد تغلظ) ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 659)، حيث قال:،" (ولا تعقد) الذمة (إلا لأهل كتاب) التوراة والإنجيل، وهم (اليهود والنصارى ومن يدين بالتوراة كالسامرة) يدينون بشريعة موسى ويخالفون اليهود في فروع من دينهم (أو) يدين (بالإنجيل كالفرنج والصابئين) والروم والأرمن، وكل من انتسب لدين عيسى (أو من له شبهة كتاب كالمجوس) فإنه يروى أنه كان لهم كتاب ورفع، فذلك شبهة لهم أوجبت حقن دمائهم بأخذ الجزية منهم".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 277)، حيث قال:" (ولا تعقد إلا لليهود والنصارى) وصابئة وسامرة لم يعلم أنهم يخالفونهم في أصل ديتهم سواء العرب والعجم؛ لأنهم أهل الكتاب في آيتها. (والمجوس) ".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 331)، حيث قال:"وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب".
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (2/ 380)، حيث قال:"فنقل الحسن بن ثواب من سبى من أهل الأديان من العرب والعجم فالعرب أن أسلموا والا فالسيف وأولئك أن أسلموا وإلا فالجزية، فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل إلا من عبدة الأوثان من العرب فقط".
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْخُصُوصِ).
لدينا هنا: عموم، وخصوص.
قوله: (أَمَّا العُمُوم، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ").
هذا الحديث: متَّفق عليه
(1)
. وقد مرَّ بنا كثيرًا في أبواب الزكاة، وفي كتاب الجهاد قبل هذا الموضع أيضًا.
ونعلم أن الأدلة يكثر الاستشهاد بها، فالحديث أحيانًا تكون فيه عدة مواضع هي محل استشهاد.
ولذلك فإن الإمام البخاري يسلك ذلك المسلك؛ فيورد الحديث في عدة مواضع من صحيحه كحديث: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات"
(2)
، وحديث:"مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين"
(3)
، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
فهو يريد من الحديث موضع شاهد يستفيد منه في باب ما، فربما يقصد لفظة ما منه، فلا يورد الحديث بتمامه، فمن أجل ذلك: تكررت الأحاديث في صحيحه، بتعدُّد الروايات.
قَوْله: (وَأَمَّا الخُصُوصُ فَقَوْلُهُ لِأُمَرَاءِ السَّرَايَا الَّذِينَ كَانَ يَبْعَثُهُمْ إِلَى مُشْرِكِي العَرَبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ أَهْلِ كتَابٍ: "فَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّك،
(1)
أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(3)
أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ
…
فَذَكَرَ الجِزْيَةَ فِيهَا"، وَقَدْ تَقَدَّمَ الحَدِيثُ)
(1)
.
قد مرَّ بنا هذا الحديث أيضًا من قبل.
وفيه: "الدعوة إلى الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن لم يكن، فاستعن بالله عليهم، وقاتلهم". وهذا الحديث: مطلق أيضًا، لم يخصّ به أهل الكتاب، وإنما هو عامٌّ.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ العُمُومَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الخُصُوصِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ؛ قَالَ: لَا تُقْبَلُ الجِزْيَةُ مِنْ مُشْرِكٍ؛ مَا عَدَا أَهْلَ الكِتَابِ؛ لِأَنَّ الآيَ الآمِرَةَ بِقِتَالِهِمْ عَلَى العُمُومِ هِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ الحَدِيثِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الأَمْرَ بِقِتَالِ المُشْرِكِينَ عَامَّةً وَهُوَ فِي سُورَةِ "بَرَاءَةٌ"، ذَلِكَ عَامَ الفَتْحِ، وَذَلِكَ الحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ الفَتْحِ بِدَلِيلِ دُعَائِهِمْ فِيهِ لِلْهِجْرَةِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ العُمُومَ يُبْنَى عَلَى الخُصُوصِ، تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، أَوْ جَهِلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَ: تُقْبَلُ الجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ المُشْرِكِينَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ سَائِرِ المُشْرِكِينَ، فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ بِاتِّفَاقٍ).
هذه المسألة لا يختلف فيها العلماء:
فالجزية تُؤخَذ من أهل الكتاب؛ لأنها جاءت بنص الآية؛ في قول الله سبحانه وتعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]: نص. وألحقوا بهذا النص: نصوصًا وردت في السُّنة أيضًا.
قوله: (بِخُصُوصِ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]).
يعني: قد خصَّ أهل الكتاب بذلك، ولم يقع فيهم خلاف؛
(1)
تقدَّم تخريجه.
لقول الله سبحانه وتعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]. فجاء التنصيص عليهم بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وقد مرَّ أنه قد ألحق بهم مَن له شبهة كتاب؛ وهم المجوس؛ وذلك للحديث الذي ورد في ذلك: "سنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"
(1)
. بالإضافة لـ: فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ذلك بهم.
قوله: (وَسَيَأْتِي القَوْلُ فِي الجِزْيَةِ وَأَحْكَامِهَا).
يعني المؤلف رحمه الله: أنه سيتحدث عن الجزية تفصيلًا، وسنعرض نحن لأحكام تتعلَّق بها أيضًا، في موضعها إن شاء الله تعالى.
قوله: (فِي الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذَا الكِتَابِ، فَهَذِهِ هِيَ أَرْكَانُ الحَرْبِ).
يعني: أنه سيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام عن الجزية، التي تؤخذ من الكفار، فِي الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذَا الكِتَاب؛ لأنها تعتبر داخلة في أحكام الفيء أيضًا.
قوله: (وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ المَسَائِلِ المَشْهُورَةِ: النَّهْيُ عَنِ السَّفَرِ بِالقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ).
هذه من المسائل المهمة، فكلنا يعلم مكانة هذا القرآن العظيم؛ فهو كلام الله عز وجل، وهو كتابه الكريم الذي:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. وهو أصل هذه الشريعة الإسلامية، ولبها، وأساسها، وقطبها، الذي تدور عليه. ومن تمسك به هُدِي إلى صراط مستقيم. وقد قال الله سبحانه وتعالى عنه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 9]. فمَن سلك طريق هذا القرآن الكريم، فقد سار في طريق مستقيم، ليس فيه عوج، ولا انحراف. ومَن
(1)
تقدَّم تخريجه.
تمسَّك به، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نال السعادة في الدنيا، والسعادة والفوز في الآخرة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَركْتُ فيكم ما إن تَمسَّكتمْ به لن تضلُّوا بعدي أبدًا: كتَاب الله، وَسُنَّتي"
(1)
.
وعندما تمسك المسلمون الأوائل بهذا الكتاب العزيز، وعملوا به وبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت لهم العزة، والغلبة، والمكانة، وبلغوا غاية مجدهم وعزتهم.
وعندما انصرف المسلمون عن هذا القرآن الكريم، وضَعُفَ تمسكهم به: قلَّتْ قيمتهم، وضعفت مكانتهم، وبخاصة في أعين أعدائهم. فلما كان لهذا القرآن العظيم، هذه المكانة العظيمة - وغيرها أيضا - تكلم العلماء عن هذا القضية، وهي حكم السفر به إلى أرض الكفار.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين"، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنها قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدو "
(2)
.
وسبب ذلك: لما لهذا القرآن الكريم من مكانة عظيمة.
والمطلوب: أن يُصان هذا القرآن العظيم، وأن يحفظ؛ لأنه دستور المسلمين، ومصدر تشريعهم، وهو أيضًا كلام الله سبحانه وتعالى.
وقَدْ جاءت العلة عن هذا النهي، في رواية عند الإمام مسلم، وهي:"مخافة أن يناله العدوُّ"
(3)
.
فالقصد من ذلك إذن: هو الحفاظ على هذا الكتاب العظيم، على
(1)
أخرجه البزار في "مسنده"(15/ 385) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد خلفت فيكم اثنين لن تضلوا بعدهما أبدًا، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2937).
(2)
أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869).
(3)
حديث (1869/ 93).
هذا القرآن العزيز، من أن تمسه أو تناله أو تصل إليه يد عدو للمسلمين.
ومن هنا أيضًا: فقد تكلم العلماء عن حكم رهن المصحف
(1)
، وعن حكم بيعه وشرائه
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (21/ 64)، حيث قال:"وعن ابن عباس، وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "رهن درعه ليهودي فما وجد ما يفتكه حتى توفي، وجاء اليهودي في أيام التعزية يطالب بحقه ليغيظ المسلمين به".
وفي هذا دليل جواز الرهن في كل ما هو مال متقوم، ما يكون معدًّا للطاعة، وما لا يكون معدًّا له في ذلك سواء، فإن درعه صلى الله عليه وسلم كان معدًّا للجهاد به فيكون دليلًا على جواز رهن المصحف بخلاف ما يقوله الشيعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (4/ 63)، حيث قال:"ولا بأس برهن المصحف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (2/ 93 - 94) حيث قال: "وفي جواز رهن المصحف وكتب الأحاديث والعبد المسلم عند الكافر طريقان: قال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: فيه قولان كالبيع أحدهما يبطل، والثاني يصح ويجبر على تركه في يد مسلم، وقال أبو علي الطبري في "الإفصاح": يصبح الرهن قولًا واحدًا، ويجبر على تركه في يد مسلم ويفارق البيع بأن البيع ينتقل فيه إلى الكافر وفي الرهن المرهون باقٍ على ملك المسلم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 134) حيث قال: " (و) يمنعون (من ارتهان ذلك ولا يصحان)، أي: بيع ورهن المصحف وما عطف عليه لهم لقوله تعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولما يؤدي إليه ذلك من امتهان كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ". وانظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 257).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (11/ 5991)، حيث قال:"قال أبو حنيفة ومحمد: إذا سرق مصحفًا لم يقطع وكذلك دفاتر العلم والأدب. وقال الشافعي: يجب فيها القطع. لنا: أن المقصود منه القرآن وجميع الناس يتساوون [في ذلك] فصار كمال بيت المال. ولأنه مختلف في جواز بيعه. لأن ابن عمر وشريحًا قالا: لا يجوز بيع المصاحف. ومن منع بيعها أخرجها أن تكون مالًا. وما اختلف في كونه مالا [لم يجب] بسرقته القطع كخمر الذمي [ونبيذ المسلم] ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (3/ 430)، حيث قال:"وقال مالك في بيع المصاحف وشرائها: لا بأس به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (7/ 185)، حيث قال: "أخبرنا ابن علية عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنه كره شراء المصاحف وبيعها وليسوا =
وكلُّ ذَلكَ لا يجوز، والمسألة فيها تفصيلٌ بين العلماء:
فجمهور العلماء يمنعون السفر به إلى أرض العدوِّ مطلقًا
(1)
، ولا يفرِّقون بين أن يكون مَنْ يَصْحب الكتاب العزيز جمع غفير من المسلمين، وبين أن يكونوا قلة، سواء كانوا سرية أو أفرادًا.
ومن العلماء: مَنْ فرَّق بين القليل والكثير؛ فقالوا: إن كان المسلمون كُثُرًا، بحيث يُؤمَن على المصحف معهم، فلا مانع من السفر به إلى أرض العدو.
وكلُّ ما قاله العلماء في ذلك - وبخاصة الجمهور - فإنما قصدوا من ورائه الحفاظ على ذلك الكتاب، وصيانته من أن تعبث به، وتناله أيدي الكفار.
بل إن العلماء تكلَّموا أيضًا في تعريفه لغير المسلمين، فكثير منهم يمنع ذلك؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يُعَلَّم إلا لأهل القرآن.
ونحن نعلم مكانة تعلُّم القرآن وتعليمه؛ فقد حَثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلُّمِهِ وتعليمِهِ، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُكم مَنْ تَعلَّم القُرْآنَ وَعَلَمه"
(2)
.
وما هَذِهِ العُلُوم التى نَدْرسها: من الفقه، وكذلك أيضًا مسائل العقيدة، وغيرها إلَّا ونجد أُصُولها في كتاب الله عز وجل، وفيما صحَّ من سُنَّة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
= يقولون بهذا لا يرون بأسا ببيعها وشرائها ومن الناس من لا يرى بشرائها بأسًا، ونحن نكره بيعها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 9)، حيث قال:" (وحرم بيع مصحف)، وفي رواية: يكره، وفي رواية أخرى: يباح مطلقًا، لما فيه من ابتذاله وترك تعظيمه ويصح بيعه لمسلم (ولا يصح) بيعه (لكافر)؛ لأنه ممنوع من استدامة الملك عليه فتملكه أولى"، وانظر:"المغني" لابن قدامة (4/ 198).
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه البخاري (5027).
وهذا الكنز الفقهي الذي نضع أيدينا عليه إنما هو مستمدٌّ من هذا الكتاب العزيز؛ إما من منطوقه
(1)
، أو من مفهومه
(2)
، أو من تخريج مسائل عليه
(3)
، أو من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من أمورٍ تعود إليها، أو من مقصديهما، أعني: من مقاصد الشريعة التي وردت في الكتاب وفي السُّنَّة.
قوله: (وَعَامَّةُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ
(4)
؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
(1)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 66)، حيث قال:"أما المنطوق، فقد قال بعضهم: "هو ما فهم من اللفظ في محل النطق"، وليس بصحيح، فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء مفهومة من اللفظ في محل النطق، ولا يقال لشيء من ذلك منطوق اللفظ، فالواجب أن يقال: "المنطوق ما فهم من دلالة اللفظ قطعًا في محل النطق".
(2)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 66)، حيث قال:"وأما المفهوم فهو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق، والمنطوق وإن كان مفهومًا من اللفظ، غير أنه لما كان مفهومًا من دلالة اللفظ نطقًا خص باسم المنطوق، وبقي ما عداه معرَّفًا بالمعنى العام المشترك، تمييزًا بين الأمرين".
(3)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 13) حيث قال: "التخريج: إذا أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، جاز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة منهما إلى الأخرى، ما لم يعرق بينهما أو يقرب الزمن ".
(4)
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 178)، حيث قال:" (وسفر به لأرضهم)، أي: مخافة أن يسقط منا ولا نشعر به فيأخذونه فتناله الإهانة (قوله: إلا في جيش آمن) راجع لما بعد الكاف، وهو المرأة المسلمة، وأما المصحف فيحرم السفر به لأرضهم مطلقًا، ولو كان الجيش آمنًا وذلك؛ لأن المرأة المسلمة تنبه على نفسها عند فواتها والمصحف قد يسقط، ولا يشعر به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية الرملي على روض الطالب"(2/ 7) حيث قال: قوله: (ولا يتملك مصحفًا) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو"، قال سليم: ومعلوم أن المنع؛ لئلا يمسوه فكذلك ما أدَّى إليه لا يجوز.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع " للبهوتي (1/ 136) حيث قال: "ويحرم السفر به"، أي: المصحف (إلى دار الحرب) لحديث "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"، ولأنه عرضة إلى استيلاء الكفار عليه واستهانته".
وقد ثبت ذلك في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنها، وهو حديث متفق عليه، وقد أشرنا إليه قبل قليل.
قول: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي العَسَاكِرِ المَأْمُونَةِ")
(1)
.
وهذا الذي أشرنا إليه، فقوله:(في العساكر المأمونة)، يعني: في جيش كبير للمسلمين؛ بحيث يُؤمَن على المصحف الشريف معهم. ففي هذه الحالة يجوز السفر بالقرآن إلى أرض العدوِّ؛ فيما يرى الإمام أبو حنيفة.
أما جمهور العلماء: فيمنعون ذلك مطلقًا؛ صيانة للقرآن الكريم، وحفظًا له.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ؟ أَوْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ؟).
مراد المؤلف رحمه الله أنه: هل النهي عن السفر بالقرآن الكريم إلى أرض العدو عام؛ بحيث يشمل حالة لو كان المسافرون قلة أو كثرة؟
أو أن هذا النهي العام أُريد به الخاصّ؛ وهو أن يكون المسافرون قلة؛ بحيث يَصعُب عليهم الحفاظ على المصحف الشريف في هذه الحالة؟
والحديث - كما مر -: إنما هو عامٌّ، ولم يُقيد ذلك بصفة دون صفة، ولا بجماعة دون أُخرى، ولا بعدد دون عدد آخر.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 102) حيث قال: "وأما المسافرة بالقرآن العظيم إلى دار الحرب فيُنظر في ذلك، إن كان العسكر عظيمًا مأمونًا عليه لا بأس بذلك؛ لأنهم يحتاجون إلى قراءة القرآن، وإذا كان العسكر عظيمًا يقع الأمن عن الوقوع في أيدي الكفرة والاستخفاف به، وإن لم يكن مأمونًا عليه، كالسرية يكره المسافرة به لما فيه من خوف الوقوع في أيديهم والاستخفاف به، فكان الدخول به في دار الحرب تعريضًا للاستخفاف بالمصحف الكريم".
[الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ]
قوله: (وَالقَوْلُ المُحِيطُ بِأُصُولِ هَذِهِ الجُمْلَةِ يَنْحَصِرُ أَيْضًا فِي سَبْعَةِ فُصُولٍ).
• تنبيه: هذا الكتاب (بداية المجتهد) من الكُتُب القيِّمة التي عنيت بالتقسيم، وتقسيماتُهُ بديعةٌ أيضًا.
فالمؤلف رحمه الله يذكر جُملًا أوَّلًا، ثم يقسمها إلى أبواب، أو إلى فصول.
وهو - مع ذلك - لا يتعرض لكثير من المسائل؛ لأنها غير داخلة ضمن شرطه في هذا الكتاب، والأسس التي وضعه لأجلها.
قوله: (الأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الخُمُسِ).
المؤلف رحمه الله يشير إلى الخمس، الذي ورد ضمن الآية، التي جاءت في سورة الأنفال، وفيها يقول الله سبحانه وتعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
قوله: (الثَّانِي: فِي حُكْمِ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ).
كذلك سيتكلم عن الأربعة الأخماس؛ لأنها قد جاءت في الآية أيضًا" حيث يقول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال:41].
إذن: فهي خمسة، وسيأتي الخلاف فيها أيضًا بين الفقهاء.
ومن ذلك: هل التقسيم على ما ورد في الآية خمسة، أو أنها أكثر، أو أقل؟ سيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى.
قوله: (الثَّالِثُ: فِي حُكْمِ الأَنْفَالِ
(1)
).
سيأتي أيضًا التفريق بين: الغنيمة، والأنفال، وإن صحَّ إطلاق كل واحد منهم على الآخر، فالأنفال: غنيمة، والغنيمة: أنفال، وهما من المصطلحات الفقهية، ولكل علم مصطلحات خاصة به؛ فهناك مصطلحات فقهية، وهناك مصطلحات عند أهل اللغة، ومصطلحات عند أهل الحديث، ومصطلحات عقدية، وغير ذلك.
الشاهد: أن الغنيمة، والأنفال من المصطلحات الفقهية.
وقد اصطلح الفقهاء على ما يلي:
أولًا: الفيء
(2)
: هو ما أُخذ من أيدي العدوِّ بغير قتال.
ثانيًا: الغنيمة
(3)
: هي ما أُخذت من أيدي العدوّ قهرًا عن طريق القتال.
قوله: (الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الكُفَّارِ).
كذلك سيتكلَّم المؤلف رحمه الله أيضًا عن هذه المسألة.
فقد يظفر الكفار بأموال للمسلمين، ثمَّ بعد ذلك تعود للمؤمنين، فهل تكون غنيمة ضمن هذه التي وردت في الآية، أو أنها تُردُّ إلى أصحابها، أو أن في المسألة تفصيلًا؟
كل ذلك سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
(1)
"الأنفال": الغنائم. واحدها: نفل. وإنما سألوا عنها؛ لأنها كانت حرامًا على من كان قبلهم، فأحلها الله لهم. انظر:"تهذيب اللغة" للأزهرى (15/ 256).
(2)
"الفيء": الخراج والغنيمة، تقول: أفاء الله على المسلمين مال الكفار. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 63).
(3)
"الغنيمة": ما غنمه المسلمون من أرض العدو عن حرب. انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 228).
وإن كان المؤلِّف رحمه الله في حقيقة الأمر - قد أجمل إجمالًا كثيرًا في هذه المسألة.
قوله: (وَالخَامِسُ: فِي حُكْمِ الأَرَضِينَ).
"الأَرَضِينَ" قد تُفتح وتُؤخذ عنوة أحيانًا، وقد تُفتح صلحًا أحيانًا أُخرى، وكل ذلك قد كان، وسيعرض المؤلف رحمه الله لذلك.
وأعتقد أننا قد عرضنا لذلك بشيء من الإجمال، عندما تحدثنا عن أحكام الزكاة؛ والخراج، وعن أرض العنوة، والصلح.
وسبب كلامنا هناك عنها: هو وجود رابط بينها وبين الأراضي التي تزكى.
فأرض الخراج إذا كانت بيد مسلم: فهل فيها الزكاة، أو لا؟، وهل يُكتفى بالخراج فقط عن الزكاة؟
نقول: قد تكلَّمنا عن هذا فيما مضى، ولا مانع - إن شاء الله تعالى - أن نعود إلى تفصيل ذلك في هذا الموضع من هذا الكتاب؛ لأن هذا هو محله.
قوله: (السَّادِسُ: فِي حُكْمِ الفَيْءِ).
الفيء - كما قُلْنا - شبيه بالغنيمة، وهو نفس الغنيمة.
لكنهم اختلفوا فيه: هل يُخمَّس أو لا يُخمَّس؟ وسيأتي الكلام عن ذلك.
والغنيمة والفيء قَدْ جاء ذكرهما في كتاب الله عز وجل كما سبق.
قوله: (السَّابِعُ: فِي أَحْكَامِ الجِزْيَةِ وَالمَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الصُّلْحِ).
قد عرفنا الجزية، وقد جاء في الحديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندما يبعث بعثًا، أو يرسل جيشًا، يطلب منه أن يدعوا من يذهبون إليهم،
إلى أحد خصال أو خلال ثلاث: يبدؤونهم بالإسلام، فإن أجابوا قبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا دعوهم إلى الجزية، فإن أبوا قاتلوهم"
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي حُكْمِ خُمُسِ الغَنِيمَةِ)
نقف عند هذه المسألة؛ لمناسبة التحدث عن الغنيمة، وكذلك الفيء، والعلاقة بينهما.
فهل هما شيء واحد، أو يختلفان؟
تعريف الغنيمة:
الغنيمة في اللغة: مأخوذة من غنم يغنم، والغنيمة والمغنم: بمعنى واحد. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الغنيمة في مواضع من القرآن الكريم؛ منها: قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19]. وقوله عز وجل في الآية التي تليها أيضًا: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20].
فالمغنم: يأتي بمعنى الغنيمة، والغنيمة: بمعنى المغنم؛ فهما شيء واحد.
والغنيمة: تجمع على غنائم، والمغنم: يجمع على مغانم.
وكلاهما: يُؤدي معنًى واحدًا.
أما الغنيمة في الاصطلاح:
فالمراد بها: هي ما يأخذه المسلمون، من العدوِّ، قهرًا. أي:
(1)
تقدَّم تخريجه.
ما يستولوا عليه منهم بقتال؛ بأن يُوجفوا عليهم بخيل، أو ركاب، أو بغير ذلك، فقد تغيرت آلات الحرب أيضًا.
فالأموال التي يحصِّلها المسلمون من الكفَّار أنواع:
النوع الأول: المال الذي يستولي عليه المسلمون منهم قهرًا؛ وهو المسمَّى بالغنيمة.
النوع الثاني: المال الذي يستولي عليه المسلمون منهم من غير قسرٍ؛ وهو المسمَّى بالجزية.
النوع الثالث: المال الذي يستولي عليه المسلمون منهم بعد فرارهم، وتركهم له.
النوع الرابع: المال الذي يستولي عليه المسلمون منهم بعد موت أحدهم، ولا يكون له وارثٌ.
النوع الخامس: المال الذي يستولي عليه المسلمون منهم كأرض الخراج.
النوع السادس: أو غير ذلك من أموال الكفار التي لم يوجف عليها المسلمون بخيلٍ ولا رِكَابٍ .. فإن كل هذه الأنواع تُسمَّى فيئًا.
و"الفيء": يتضمن معنى الزيادة، ولن ندخل في تفصيله الآن؛ لأنه سيأتي ضمن الحديث عن الغنيمة، والتي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41].
وقد ورد في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه قرأ قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ قول الله سبحانه وتعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثُمَّ تلا قوله أيضًا قول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7){لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 7 - 10]، فقال: وهذه للمسلمين عامة، ثم قال رضي الله عنه: لئن عشت ليحصلن من في حمير - يعني: من في اليمن - على نصيبه، وإن لم ينزل عرقه في ذلك - يعني: وإن لم يجاهد -)
(1)
.
ومعنى ذلك: أن الخير سيعود، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام عن هذه الآية وغيرها، وموقف عمر رضي الله عنه، واختلافه مع بعض الصحابة في ذلك، عندما جاءت قصة الأراضي، فإنه جلس فترةً يفكر في هذه الآيات حتى تَوصَّل إلى أن هذه الآيات:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] إلى آخر الآيات: إنَّما هيَ عَامَّةٌ.
وَسَيَأْتِي - إنْ شَاء الله تعالى - ذكر ما نُقِلَ عن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة
(2)
.
(1)
أخرجه النسائي (4148) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "جاء العباس وعليّ إلى عمر يختصمان فقال العباس: اقضِ بيني وبين هذا، فقال الناس: افصل بينهما، فقال عمر: لا أفصل بينهما، قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، قال: فقال الزهري: "
…
ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} هذا لهؤلاء، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} هذه لهؤلاء، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} .
(2)
سيأتي تخريجه.
نَعُودُ إلى الغنيمة التي معنا هنا، وقَوْل الله سبحانه وتعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] إلى آخر الآية.
* قوله: (وَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الغَنِيمَةَ الَّتِي تُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ أَيْدِي الرُّومِ).
كان الأَوْلَى بالمؤلِّف رحمه الله أن يقول: "الَّتِي تُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ أَيْدِي الكفار".
فقوله: "مِنْ أَيْدِي الرُّومِ": تقييد بغير مخصص؛ وإنما الغنيمة: شاملة لما يؤخذ قَسْرًا من أيدي سائر الكفار عمومًا.
وربَّما نصَّ المؤلف رحمه الله على (الروم)؛ لأن المقصود بهم وقتها: أَهْلُ الكتاب.
* قوله: (مَا عَدَا الأَرَضِينَ).
وذلك لأنَّ الأرضين تختلف في وضعها، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى، سواء كانت قد فُتِحَتْ صلحًا أو عنوةً، فالغنيمة - كما مر - إنَّما هي ما يحصل عليه الفرد أو الجماعة عن طريق السعي إليها، ولذلك قال الشاعر:
وَقَد طوَّفت بالآفاقِ حتَّى
…
رضيت من الغنيمةِ بالإيابِ
(1)
يعني: أنَّه رضي من الغنيمة بما رَجَع من إياب، فَهَذا معنى الغنيمة في اللُّغة.
والمقصود منها في المصطلح الشرعي: هي ما يحصل عليه المُسْلمون من أعدائهم قهرًا، ويستولون عليه عن طريق القوة.
(1)
من قصيدة لامرئ القيس. انظر: "ديوان امرئ القيس"(ص 79).
* قوله: (أَنَّ خُمُسَهَا لِلْإِمَامِ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلَّذِينِ غَنِمُوهَا
(1)
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآيَةَ [الأنفال: 41]).
نَصُّ الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
اختلَف العُلَماء في الأصناف المذكورة في هذه الآية؛ هل هي خمسة أصناف، أو ستة؟ وعليه: هل الخمس يقسم بين خمسة أصناف، أو يقسم بين ستة؟ فأَوَّل الآية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41].
فالله سبحانه وتعالى يتكلَّم هنا عن خُمُس الغنيمة فقط، أما الأربعة أخماس الأُخرى فهي للغانمين.
فهذا الخمس قد اختلف العلماء فيه، فهل يوزَّع على ستة أصناف، أو على خمسة، أو على أربعة، أو على ثلاثة؟
(2)
، كل ذلك قد قال به بعض العلماء، فَمِنَ العُلَماء مَنْ قال: يُقَسَّم الخمس (أَيْ: يجزَّأ) إلى سِتَّةِ أقسامٍ أو أجزاءٍ
(3)
. وَهي الواردة في الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 492)، حيث قال:" (قوله ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها)، أي: عن القسمة بين الغانمين (ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين) هذا قول القدوري".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 189)، حيث قال:"يقسم أخماسًا خمس لبيت مال المسلمين والأربعة للمجاهدين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 144)، حيث قال:" (فخمسه لأهل خمس الفيء يقسم والأربعة الباقية للغانمين".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:" (ثم) يبدأ من الأربعة أخماس التي للغانمين".
(2)
سيأتي.
(3)
سيأتي.
قالوا: فهذه ستة أصناف، وما يكون لله سبحانه وتعالى، فيُخصَّص للكعبة، فهؤلاء قد جعلوا ما يكون لله سبحانه وتعالى غير ما يكون لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء مَن قال: يقسَّم الخمس إلى أقسام خمسة فقط
(1)
، وقالوا: يخصص ما يكون لله سبحانه وتعالى لبيته عز وجل؛ وهو بيت الله الحرام، وللكعبة العتيقة.
ومنهم مَن قال: بل يردُّ على المحتاجين
(2)
.
وأما القول الثاني وهو المشهور: فإن أصحابه قالوا: بل الأقسام هنا خمسة؛ فالخمس يقسم على أقسام خمسة فقط، وهي الواردة في الآية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
ومِنْ هؤلاء مَنْ قال: إنما بدأ باسم الله؛ للتبرك باسمه سبحانه وتعالى، ولأجل تعظيمه.
والمراد بقوله: {وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]: ما يأخذه رسول لله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا بعد ذلك فيه؟
ولكن الصحيح: أنه يصرف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُعْطي منه، ويردُّه في حَاجَات المحتاجين، وهذا الخُمُسُ إنَّما هو خَاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما أشَارت إلى ذلك الآية الكريمة، وكما جاء في الأحاديث النبوية، ومنها ما وَرَد في الحديث: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ وبرةً من جلد بعيرٍ، فقال:"إنَّما ليسَ لي ممَّا أفَاء الله علَيكم، ولا مثل هَذِهِ - يشير إلى هذه الوبرة - الشعرة، وليسَ لي إلا الخُمُس، وهو مَرْدودٌ عليكم"
(3)
.
(1)
سيأتي تخريجه في المتن.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 642)، حيث قال:" (سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم مصرفه كالفيء) في مصالح المسلمين كلها".
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(22776) عن عبادة بن الصامت قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوته إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة =
فقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما يخصُّهُ من هذه الأموال التي سنتكلم عنها، والتي هي الغنيمة، وكذلك أيضًا الفيء، ويلحق بذلك الصدقة. فهذه هي الأموال التي تكون للولاة.
فصنفان من الأموال: تؤخذ من غير المسلمين؛ وهما الغنيمة، والفيء.
والصنف الثالث: يؤخذ من أموال المسلمين؛ وهو الزكاة أو الصدقة. وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، هذه الأصناف الثلاثة، وبيَّن الذين تُصرف إليهم.
والخلاصة: نكمل عرض بقية أقوال العلماء في الخمس، فنقول:
من العلماء من قال: يقسَّم الخمس على ثلاثة أصناف فقط
(1)
؛ مسقطين السهم الخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لأنه قد انتهى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسقطوا السهم الخاص بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا، قالوا: لأنه قد انتهى سهمهم بموته صلى الله عليه وسلم. وهذا ما عمل به أبو بكر رضي الله عنه؛ فلم يعطهم إياه؛ وإنما ردّ ذلك في حاجات المسلمين.
فقد ورد: "أنَّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذهبت إليه، تسأله عن الميراث: أهو لأهل الرجل، أو لخليفته؟ فأخبرها أبو بكر رضي الله عنه: أنه لأهله، فسألته عن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأورد لها الحديث الصحيح: إذا
= بين أنملتيه فقال: "إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، لا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم". وحسنه الأرناؤوط لغيره.
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا وهو قول أبي حنيفة.
أطعم اللَّهُ نبيًّا طعمًا، فإنه يكون للذي يأتي بعده، فقالت: إذن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، واقتنعت بما ذكر لها أبو بكر رضي الله عنه "
(1)
.
يعني: فهذا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أردّه في أموال المسلمين. والذي قال: بأن الخُمس يوزّع على ثلاثة أصناف فقط: إنما هو الإمام أبو حنيفة
(2)
.
وقد خالفه الصاحبان أبو يوسف
(3)
، ومحمد بن الحسن
(4)
؛ فانضما إلى غيره من جماهير العلماء
(5)
.
وحجة الإمام أبي حنيفة على قوله هذا: أن ذلك أُثر عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر رضي الله عنه، وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كذلك
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(14) عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أهله؟ قال: فقال: لا، بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل، إذا أطعم نبيًّا طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده"، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: فأنت، وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1241).
(2)
يُنظر: "السير الصغير" لمحمد بن الحسن (ص 112)، حيث قال:"قلت: أرأيت الخمس كيف يقسمه الإمام وفيمن يقسمه؟ قال: يقسمه فيمن سمَّى الله في كتابه العزيز وقد بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا يقسمون الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي، وحاشية ابن عابدين (4/ 150)، حيث قال:"وعن أبي يوسف: الخمس يصرف إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (4/ 218) حيث قال: "والمشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه يقسم على ثلاثة أصناف، وهي: اليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، وقد روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقسم في ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل".
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
يُنظر: "السير الصغير" لمحمد بن الحسن (ص 112)، حيث قال: "قلت: أرأيت الخمس كيف يقسمه الإمام وفيمن يقسمه، قال: يقسمه فيمن سمَّى الله في كتابه =
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الخُمُسِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ مَشْهُورَةٍ).
بل هي أكثر من أربعة مذاهب؛ لكن المؤلف رحمه الله اقتصر على أربعة.
فالذي سكت عنه المؤلف رحمه الله: إنما هي أقوال غير مشهورة.
* قوله: (أَحَدُهَا: أَنَّ الخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ عَلَى نَصِّ الآيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)
(1)
.
وقال به أيضًا: الإمام أحمد
(2)
.
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ)
(3)
.
وَمنهم مَنْ قال: ستة
(4)
، وهي أيضًا روايةٌ للإمامين: الشافعي وأحمد، أعني: للشافعية
(5)
، وللحنابلة
(6)
.
= العزيز، وقد بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا يقسمون الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل".
(1)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (3/ 296)، حيث قال:"ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس: خمس لأهل الخمس، ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لأهل الخمس فدل على أن الباقي للغانمين".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 153)، حيث قال:"يقسم الخمس على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 429)، حيث قال:"وقال بعض العلماء: يقسم الخمس على أربعة أسهم أسقط منها سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 87)، حيث قال:"وقال بعض أهل الكلام: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، وسهم للرسول، والأربعة الأسهم للذين سموا في الآية، قال: فالسهم الذي لله مردود على عباد الله أهل الحاجة منهم".
(5)
يُنظر: "المجموع" للنووي (19/ 373)، حيث قال:"قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله، والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع لليتامى والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل، وقال بعض أصحاب هذا القول يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة".
(6)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 457)، حيث قال: "وقيل: يقسم على ستة؛ سهم لله =
* قَوْله: (وَأَنَّ قَوْلَه تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]: هُوَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ؛ وَلَيْسَ هُوَ قِسْمًا خَامِسًا).
قد نُقِلَ هذا القول: عن الحسن بن محمد بن الحنفية.
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَسَّمُ اليَوْمَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ)
(1)
.
علَّة مَنْ ذهب لكون الخُمُس يقسم ثلاثة أقسام:
قالوا: لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وانتهى سهمه، وكذلك سهم قَرَابته صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَأَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ، وَذِي القُرْبَى سَقَطَا بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
هنا قضية لم ننبِّه عليها فيما سبق، ولم يعرض لها المؤلف رحمه الله، وهي قضية مهمة ما كان ينبغي حقيقة أن يغفلها المؤلِّف رحمه الله، وقد تذكرناها والحمد لله.
وهي قضية إباحة الله سبحانه وتعالى أكل الغنيمة لهذه الأمة المحمدية.
فهذا مما اختصَّ الله عز وجل به أمة الإسلام، فلم تكن الأُمم فيما مضى تأخذ الغنائم.
وقد وهب الله سبحانه وتعالى هذه الغنائم لهذه الأمة؛ إحسانًا منه سبحانه تعالى وفضلًا، وتكريمًا لهذه الأمة، ولنبيِّها محمد صلى الله عليه وسلم.
= تعالى وسهم لرسوله لظاهر قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . فعد ستة، وجعل الله تعالى لنفسه سهمًا سادسًا، وهو مردود على عباد الله أهل الحاجة".
(1)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 503)، حيث قال:" (قوله: وأما الخمس)، أي: الذين تقدم أنه يخرجه أولًا (فيقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون) ".
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "أُعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي"
(1)
.
وفي رواية: "لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي"
(2)
.
وذكر منها: "وأُحِلَّت لي الغنائم"
(3)
. فالغنائم: لم تكن يحل أخذها في الأمم السابقة.
وقد ورد في حديث: "أنه كانت تنزل نارٌ من السَّماء، فتأكلها"
(4)
.
فالله سبحانه وتعالى قد ميَّز هذه الأمة، وخصَّها بصفات عظيمة، وذاك يقتضي منها عظيم الشكر والإجلال لله سبحانه وتعالى، وقد علم الله عز وجل ضعفَ هذه الأُمَّة؛ فأحلَّ لها هذه الغنائم؛ لتنعم بها، ويكون ذلك دافعًا لشكر الله سبحانه وتعالى عليها؛ لأنه هو المتفضل، وهو المحسن، وهو المنعم، وهو الذي وهب هذه النعم لعباده المؤمنين، ولأنه تعالى قد خصَّنا بهذه الخصيصة العظيمة؛ تكريمًا لنبيِّ هذه الأمة صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يقابل ذلك بشكر الله سبحانه وتعالى، وحمده، والثناء عليه.
(1)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).
(2)
أخرجها البخاري (438).
(3)
انظر ما قبله.
(4)
أخرجه البخاري (3124) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها؟ ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني: النار لتأكلها -، فلم تطعمها فقال: إن فيكم غلولًا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار، فأكلتها ثم أحلَّ الله لنا الغنائم رأى ضعفنا، وعجزنا فأحلها لنا".
* قوله: (وَالقَوْلُ الرَّابعُ: أَنَّ الخُمُسَ بِمَنْزِلَةِ الفَيْءِ؛ يُعْطَى مِنْهُ الغَنِيُّ وَالفَقِير، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
، وَعَامَّةِ الفُقَهَاءِ)
(2)
.
يرَى الإمام مالكٌ أن الفيء إنما يدخل في بيت المال؛ أي: أنه يرجع إلى الوالي يتصرف فيه كيف يشاء، ويرى كذلك أيضًا أن الخُمُس يكون كذلك؛ فيُنفق منه الوالي على نفسه، وعلى أهله، وأقاربه، وما زاد فينفقه في مصالح المؤمنين.
ومن المصالح التي ينفق منه فيها:
1 -
إعداد الجيوش، وتجهيزها بما تحتاج إليه من عَتادٍ، وعددٍ، وغير ذلك.
2 -
الأرزاق التي تُصرَف للقضاة، والجند، وغير ذلك.
وقد تنوَّعت الآن - بحمد لله تعالى - مصالح الدول الإسلامية،
(1)
يُنظر: "روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 602) حيث قال: "قوله: ويأخذ (الإمام) من الغنيمة خمسها: الذي (يأخذها) الإمام فقال مالك: هو منزلة الفيء يأخذ منها الغني والفقير".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 125) حيث قال: " (ولنا) أن ذلك الخمس كان خصوصية له عليه الصلاة والسلام كالصفي الذي كان له خاصة، والفيء وهو المالية لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، ثم لم يكن لأحد خصوص من الفيء والصفي، فكذا يجب أن لا يكون لأحد خصوص من الخمس".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 146) حيث قال: وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 463)، حيث قال:" (وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين، غنيهم وفقيرهم فيه سواء، إلا العبيد) لا نعلم خلافًا بين أهل العلم اليوم في أن العبيد لا حق لهم في الفيء. وظاهر كلام أحمد، والخرقي، أن سائر الناس لهم حق في الفيء، غنيهم وفقيرهم. ذكر أحمد الفيء فقال: فيه حق لكل المسلمين، وهو بين الغني والفقير".
ومواردها، وكثرت الخيرات وتعددت، فهذه الأموال من الأُمور التي أفاء الله سبحانه وتعالى بها على عباده المؤمنين.
* قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: يُقَسَّمُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، أَوْ خَمْسَةً، اخْتَلَفُوا فِيمَا يُفْعَلُ بِسَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمِ القَرَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟).
فمن العلماء مَنْ يرى أنَّ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم القرابة لا يزال باقيًا، وأن الأسهم لا تزال قائمةً كما هي، ومن أولئك: الحنابلة
(1)
، والشافعية أيضًا في روايةٍ، لكنهم يرون أن سهمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم القرابة يردَّان في بيت المال؛ ليصرفا في مصالح المسلمين وحَاجَاتهم
(2)
.
قالوا: فالآية الكريمة وهي قول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] قد ذكرت هذين السهمين، وهي باقية، تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا ينبغي أن يرد ما في كتاب الله عز وجل واستشهدوا على قولهم بهذا: بموقف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من هذه الآية، وأنه كان يقول بهذا القول، ويرى أن حقَّه من الغنائم لم يسقط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال:"إلا أن قومنا منعونا منها! "
(3)
.
(1)
يُنظر: "الكافي "لابن قدامة (4/ 153)، حيث قال:"فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصالح المسلمين".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 429) حيث قال: الغنيمة مقسوم على مذهب الشافعي على خمسة أسهم: سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ويصرف بعده في مصالح المسلمين العامة، وسهم لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب باق لهم ما بقوا.
(3)
أخرجه مسلم (1812/ 139) عن يزيد بن هرمز، قال: "كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله،
…
وعن ذوي القربى من هم؟ فقال ليزيد: اكتب إليه، فلولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه، اكتب: .. وكتبت تسألني عن ذوي القربى من هم؟ وإنا زعمنا أنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا".
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: "يُرَدُّ عَلَى سَائِرِ الأَصْنَافِ الَّذِينَ لَهُمُ الخُمُسُ"
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ:"بَلْ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الجَيْشِ"
(2)
، وَقَالَ قَوْمٌ: "بَلْ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْإِمَامِ
(3)
، وَسَهْمُ ذَوِي القُرْبَى لِقَرَابَةِ الإِمَامِ"
(4)
، وَقَالَ قَوْمٌ:"بَلْ يُجْعَلَانِ فِي السِّلَاحِ وَالعُدَّةِ"
(5)
)
(6)
.
(1)
يُنظر: "جامع البيان" للطبري (13/ 559)، حيث قال:"قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 457)، حيث قال:"وإن قيل؛ إنه ملك للجيش لم يجز أن يعطوا منه وأعطوا من سهم المصالح من الخمس وهو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(3)
يُنظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 222)، حيث قال:"وعن الحسن رضي الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولي الأمر من بعده".
(4)
يُنظر: "جامع البيان" للطبري (13/ 557)، حيث قال:"وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة".
(5)
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 155)، حيث قال:"والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع، أو سلاح، أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام نفلًا عند الحرب وغير الحرب إعدادًا للزيادة في تعزير الإسلام وأهله".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي "لابن قدامة (4/ 153، 154)، حيث قال:"فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف في مصالح المسلمين، لما روى جبير بن مطعم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال: والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" فجعله لجميع المسلمين. ولا يُمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها، وشراء الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم".
(6)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 357)، حيث قال:"وقد اختلف الذين رأوا أن الخمس يقسم على خمسة أسهم في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم قرابته بعد وفاته، فقالت طائفة منهم: يجعل في الكراع والسلاح، وقالت طائفة: يكون سهم رسول الله للخليفة بعده، وسهم قرابته لقرابة الخليفة. وقالت طائفة منهم: يقسم سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الأصناف، ويكون سهم قرابته باقيًا عليهم إلى يوم القيامة".
وذلك يترك لاجتهاد الإمام؛ فهو الذي يختار ما فيه الأصلح، فيسلك به ما فيه فائدة للمسلمين.
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا فِي القَرَابَةِ مَنْ هُمْ؟).
نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا خطب الناس بمكة، قال:"يا بني عبد مناف؟ يا بني فلان؟ يا فلان؟ - عدَّد قريشًا -، ثم قال: لا أغني عنكم من الله شيئًا"
(1)
.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد القرابة: هل هم بنو هاشم وحدهم؛ لمكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو هم بنو هاشم وبنو المطلب؛ باعتبار أن بني المطلب كانوا أعوانًا وأشقاء لبني هاشم، وقد ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وفي الإسلام، وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بنو هاشم، وبنو المطلب: شيء واحد"؟.
فقد جاء في بعض الروايات، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسَّم أسهم خيبر، على أهل الحديبية، أخذ جبير بيدي عثمان رضي الله عنه، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه أنه أعطى بني هاشم، وقال: هؤلاء لا اعتراض لنا عليهم؛ لِما لهم من مكانة؛ لمكانتك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم؛ لكن ما بال إخواننا من بني المطلب، يأخذون ولا نأخذ، ونحن وإياهم سيان؟ فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بني هاشم وبنو المطلب: شيء واحد، وأنهم ناصرونا، أو كانوا معنا في الجاهلية، وفي الإسلام
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (204) عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} ، قال:"يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا".
(2)
أخرجه البخاري (4229) عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم، أخبره قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس =
فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لبني المطلب من المزية والخصيصة، ولذلك قدَّمهم صلى الله عليه وسلم على غيرهم في هذه القسمة. وقد اختلف العلماء فيمن يأخذ من هؤلاء: فهل ذلك خاص بالرجال دون النساء؟ وهل يختلف الأغنياء عن الفقراء؟
الصحيح: أنه لا فرق بين الغني والفقير من ذوي القربى في الإعطاء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عمَّه العباس رضي الله عنه، ونعلم أن العباس رضي الله عنه من أغنياء العرب في وقته، وكذلك أعطى صلى الله عليه وسلم عمَّته رضي الله عنهما، وكانت هي أيضًا غنية.
فالقسمة هذه: تكون عامة للأغنياء والفقراء، والرجال والنساء من ذوي القربى، وهذا هو الصحيح، ولم يعرض المؤلف رحمه الله لهذا، وقد أجمل - في حقيقة الأمر - هذه المسائل جدًّا!. وسيأتي الخلاف في اليتيم أيضًا.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: "بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ"
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ:"بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ")
(2)
.
= خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال:"إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد" قال جبير: "ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئًا".
(1)
يُنظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 212)، حيث قال:"والثالث: أنهم بنو هاشم فقط، قاله أبو حنيفة".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال لابن الهمام (5/ 503)، حيث قال:" (وقال الشافعي: لذوي القربى خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم) وبقول الشافعي قال أحمد. وعند مالك: الأمر مفوض إلى رأي الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض، وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمر غيرهم أهم من أمرهم (ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم) من القرابات ونحن نوافقه على أن القرابة المرادة هنا تخص بني هاشم وبني المطلب".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 642)، حيث قال:" (وسهم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب) ابني عبد مناف دون غيرهم من بني عبد مناف".
عندما يقال: (بنو هاشم وبنو المطلب): يخرج من ذلك: بنو نوفل، وبنو عبد شمس. ولذلك: أخذ جبير بن مطعم رضي الله عنه، بيد عثمان رضي الله عنه وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن سبب إعطائه لبني المطلب من الغنيمة؛ كما سبق في الحديث
(1)
.
ومن العلماء من قال: قريش كلها تدخل في سهم القرابة
(2)
، واستدلوا بالحديث الذي سبق ذكره، وفيه: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف؟ يا بني كذا؟ ".
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي: هَلِ الخُمُسُ يُقْصَرُ عَلَى الأَصْنَافِ المَذْكُورِينَ أَمْ يُعَدَّى لِغَيْرِهِمْ؟).
سيبين المؤلف رحمه الله هنا أن سبب اختلاف العلماء في ذلك: هو اختلافهم في سبب النص على الأَصْنَافِ الواردة في الآية الكريمة. فهل يقتصر عليها فقط؟ أو يُعَدَّى التقسيم إلى غيرهم؟
* قوله: (هُوَ: هَلْ ذِكْرُ تِلْكَ الأَصْنَافِ فِي الآيَةِ المَقْصُودُ مِنْهَا تَعْيِينُ الخُمُسِ لَهُمْ؟ أَمْ قَصْدُ التَّنْبِيهِ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ؟).
يعني: هل النصُّ على الأصناف الواردة في الآية الكريمة: خاصّ أريد به الخاص - كما هو الأصل في الكلام -؛ فيقصر التقسيم عليهم وحدهم دون غيرهم؟ أو هو خاصٌّ أريد به العام؛ فيتوسع في ذلك، ويلحق بهم غيرهم ممن هم بحاجة لمال الغنائم في التقسيم.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 212)، حيث قال:"وأما ذوو القربى، ففيهم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهم جميع قريش. قال ابن عباس: كنا نقول: نحن هم فأبى علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى".
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ قَالَ: لَا يَتَعَدَّى بِالخُمُسِ تِلْكَ الأَصْنَافَ المَنْصُوصَ عَلَيْهَا).
وهذا: هو رأي الأكثر من أهل العلم.
* قوله: (وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ)
(1)
.
هو رَأْيُهُم كما ذكر المؤلف رحمه الله.
* قَوْله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، قَالَ:
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 129، 130)، حيث قال:"قال: (وتقسم الغنيمة أخماسًا: أربعة منها للغانمين، للفارس سهمان، وللراجل سهم)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، ذكر الخمس لهؤلاء، بقيت الأربعة الأخماس للغانمين بدلالة قوله: غنمتم، فإنه يشعر باستحقاقهم لها بالاستيلاء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 146)، حيث قال: " (ولا يخمس السلب على المشهور) لقضائه صلى الله عليه وسلم به للقاتل ولم يخمسه. والثاني يخمس لإطلاق الآية فيدفع خمسه لأهل الفيء والباقي للقاتل (وبعد السلب تخرج) .. (مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما) من المؤن اللازمة ويكون ذلك من رأس مال الغنيمة حيث لا متطوع،
…
(ثم يخمس الباقي) ولو شرط عليهم عدمه فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على ورقة لله أو للمصالح وعلى أربعة للغانمين وتدرج في بنادق ويقرع فما خرج لله جعل خمسه للخمسة السابقين في الفيء كما قال (فخمسه)، أي: المال الباقي (لأهل خمس الفيء يقسم) بينهم (كما سبق) والأربعة الباقية للغانمين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 641)، حيث قال:" (ويبدأ في قسم بدفع سلب) إلى مستحقه وبرد مال مسلم ومعاهد إن كان وعرف، (ثم بأجرة جمع) غنيمة (وحمل) ها (وحفظ) ها؛ لأنه من مؤنتها كعلف دوابها (و) دفع (جعل من دل على مصلحة) من ماء أو قلعة، أو ثغرة يدخل منها إلى حصن ونحوه؛ لأنه في معنى السلب. قاله في الشرح. قلت: هذا من النفل، فحقه أن يكون بعد الخمس كما يعلم مما تقدَّم، ويأتي (ثم يخمس الباقي) على خمسة أسهم (ثم) يخمس (خمسه على خمسة أسهم) منها (سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم مصرفه كالفيء) في مصالح المسلمين كلها".
يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ
(1)
، وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْإِمَامِ بَعْدَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً؛ فَهُوَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ
(2)
").
وَرَد في بعض الروايات: "ثمَّ قبضه، فهو للذي يلي بعده"
(3)
.
وجاء في روايةٍ أُخرى: "للخليفة بعده"
(4)
، فهناك روايات متعددة لهذا الحديث.
الشاهد هنا: أن أبا بكر رضي الله عنه قد احتجَّ بهذا الحديث على فاطمة رضي الله عنهما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه بردِّ هذا السهم للمسلمين.
" قوله: (وَأَمَّا مَنْ صَرَفَهُ عَلَى الأَصْنَافِ البَاقِينَ، أَوْ عَلَى الغَانِمِينَ، فَتَشْبِيهًا بِالصِّنْفِ المُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ).
يعني المؤلف رحمه الله بلفظة: "المُحَبَّسِ عَلَيْهِمْ"، أي: الخاص بهم، فإذا انتهى الإمام من توزيع قِسْمٍ من الأقسام، ردَّ هذا القسم في البقية.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: القَرَابَةُ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو المُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 357)، حيث قال:"وقد اختلف في كيفية قسمتهما على ستة أقوال؛ أحدها: أنهما لجميع المسلمين يوضعان في منافعهم ويقسمان عليهم ولا يختصّ بذلك الأصناف المذكورون في الآيتين؛ لأنهم إنما ذكروا فيها تأكيدًا لأمرهم، وهذا هو مذهب مالك".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجها البخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 46) حدثنا سليمان، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء، وغيره، سمعَا بلال بن سعد، عن أبيه، قال: قيل: يا رسول الله، ما للخليفة من بعدك؟ قال: مثل الذي لي، ما عدل في الحكم، وقسط في القسط ورحم ذا الرحم.
ذَوِي القُرْبَى لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ مِنَ الخُمُسِ"
(1)
).
كان ذلك: يوم خيبر، حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة، فأعطى بني هاشم، وبني المطلب، ولم يعطِ بني نوفل، ولا بني عبد شمسٍ.
ونلفت الأنظار هنا إلى أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يقسم جميع أرض خَيْبَر والأموال التي غنمها منها في ذلك اليوم؛ وإنما قسم بعض ذلك، وترك البعض.
* قوله: (قَالَ: "وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُطَّلِبِ صِنْفٌ وَاحِدٌ"، وَمَنْ قَالَ: بَنُو هَاشِمٍ صِنْفٌ، فَلِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ).
هذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله، بأن بَني هَاشِمٍ، وَبَني المُطَّلِب: صِنْفٌ وَاحِدٌ: مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما: "هما شيء واحد"
(2)
. فهذه الإشارة من المؤلف رحمه الله بمثابة الدليل لهذا القول.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الخُمُسِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الخُمُسُ فَقَطْ
(3)
، وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الخُمُسِ لَه، غَابَ عَنِ القِسْمَةِ أَوْ حَضَرَهَا).
المعروف أنه بالنسبة للغنيمة، يختلف الأمر بين الأصناف الواردة في الآية الكريمة، وهي قول الله سبحانه وتعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
فبالنسبة لأصحاب هذا الخمس وهم الخمسة أصناف المذكورين في الآية: فإنهم يستحقُّون ذلك سواء حضروا الواقعة، أم لا.
(1)
أخرجه البخاري (3140).
(2)
أخرجه البخاري (3502).
(3)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 507)، حيث قال:" (قوله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده".
أما بالنسبة للغانمين - والذين يستحقون الأسهم: سهمان للفرس، وسهم لصاحبه، وسهم للراجل -: فهؤلاء يستحقون ذلك إذا حضروا الواقعة فقط. وستأتي بإذن الله تعالى مسائل كثيرة ذات ارتباط بهذا، وسنعرض للخلاف الوارد فيها بين أهل العلم.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الخُمُسُ وَالصَّفِيُّ)
(1)
.
المراد بالصَّفي
(2)
، أي: ما يصطفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة لنفسه، ويخص به نفسه عند القسمة دون غيره من المسلمين. فالرسول صلى الله عليه وسلم له أن يصطفي - على سبيل المثال -: سَيفًا، أو ثوبًا، أو جارية، أو عبدًا، أو غير ذلك من الأُمور، التي تكون من الغنائم. وهذا الصفي: إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
والسؤال: هل يبقى هذا الأمر بعد أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينتقل إلى الوالي بعده؟ أو أنه خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وينتهي بوفاته؟
والجواب: جماهير العلماء
(3)
على أن هذا الصفي: كان خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه انتهى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينتقل إلى غيره ممن يلي أمر الأمة بعده صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
سيأتي؛ وهو قول أبي ثور.
(2)
"الصفي ": ما اختاره الرئيس قبل القسمة من فرس أو سيف أو جارية، وجمعه صفايا. انظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 174).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 507)، حيث قال:"سقط بموته كما سقط الصفي".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 401)، حيث قال:"عند مالك وجل أهل العلم والصفي مخصوص به عليه السلام بإجماع العلماء إلا أبا ثور".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 391)، حيث قال:"وأما الصفي فقد سقط حكمه وبطل أن يستحقه أحد بعده".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 459)، حيث قال:"قال أحمد: الصفي إنما كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لم يبق بعده. ولا نعلم مخالفًا لهذا إلا أبا ثور".
(4)
سيأتي تخريجه في المتن.
بل قد حكى المؤلف رحمه الله كما سيأتي - إجماع أهل العلم على ذلك، ولم يخالف فيه إلا الإمام أبو ثور
(1)
.
وقد جاء ذكر هذا الصفي في عدة أحاديث ثابتة:
منها ما ورد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - ضمن ما أمر بكتابته - لقوم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وتؤدوا الخمس، والصفي
(2)
.
ومنها أيضًا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني عبد القيس؛ فقد جاء ذكر فيه الخمس والصفي كذلك
(3)
.
فدلَّ ذلك: على أن الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد انتهى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشذَّ أبو ثور: فرأى أنه لا يزال قائمًا!. وقد ردَّ عليه العلماء، وقالوا: إن الإجماع قائم قبله؛ فلا اعتبار برأيه.
* قوله: (وَهُوَ سَهْمٌ مَشْهُورٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم).
فهذا السهم - وهو الصفي -: خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحده دون غيره، وقد اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ المؤمنين صفية رضي الله عنهما من الغنيمة، وأصبحت زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك
(4)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 346)، حيث قال:"وأجمعوا: أن (الصفي) ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أبا ثور حكي عنه أنه قال: الآثار في الصفي ثابتة".
(2)
أخرجه البخاري (523) واللفظ له، ومسلم (17/ 23) عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا من هذا الحي من ربيعة ولسنا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك وندعو إليه من وراءنا، فقال:"آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، ثم فسرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا إليَّ خمس ما غنمتم، وأنهى عن: الدباء والحنتم والمقير والنقير".
(3)
انظر ما قبله؛ ولم أجد فيه ذكر الصفي.
(4)
سيأتي تخريجه.
* قوله: (وَهُوَ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ مِنْ رَأْسِ الغَنِيمَةِ: فَرَسٌ، أَوْ أَمَةٌ، أَوْ عَبْدٌ).
يعني المؤلف رحمه الله بعبارة (مِنْ رَأْسِ الغَنِيمَةِ)، أي: قبل قسمة الغنيمة.
فيصطفي شيئًا منها مما ذكر المؤلف رحمه الله، أو من غيره كالثوب، أو غير ذلك كله.
* قوله: (وَرُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ كَانَتْ مِنَ الصَّفِيِّ).
ورد هذا: في حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما
(1)
.
فهذا أيضًا دليل ثالث على ثبوت الصفيِّ، وأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصطفى به خاصة دون غيره.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّفِيَّ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
؛ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ:"يَجْرِي مَجْرَى سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "
(3)
).
(1)
أخرجه أبو داود (2994)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 507)، حيث قال:"سقط بموته كما سقط الصفي".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 401)، حيث قال:"عند مالك وجل أهل العلم والصفي مخصوص به عليه السلام بإجماع العلماء إلا أبا ثور".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 391)، حيث قال:"وأما الصفي فقد سقط حكمه وبطل أن يستحقه أحد بعده".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 459)، حيث قال:"قال أحمد: الصفي إنما كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لم يبق بعده. ولا نعلم مخالفًا لهذا إلا أبا ثور".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 80)، حيث قال:"وكان أبو ثور يقول قولًا، لا أعلم أحدًا سبقه إليه، قال: وإن كان الصفي كان ثابتًا للنبي عليه السلام فللإمام أخذه على نحو ما كان يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعل بجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس".
قول أبي ثور هذا: شاذٌّ، وضعيف، ومردود، ولا يُعتدُّ به؛ لمخالفته إجماع العلماء قبله وبعده.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ
أَجْمَعَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ).
هذا الأمر: مجمع عليه أيضًا
(1)
. فقد أجمع العلماء: عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الغَنِيمَةِ؛ لِلْغَانِمِينَ، وقد انتهينا من الكلام على الرُّبُع الأول من الغنيمة، ورأينا اختلاف العلماء في طريقة تقسيمه، وهل ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال باقيًا بعد وفاته فيرجع للإمام يتصرف فيه فيردّه في حاجات المسلمين، أو لا؟
ومن العلماء - كأبي حنيفة -: من قصر ذلك على ثلاثة.
انتقل المؤلف رحمه الله هنا للأقسام الأربعة الأُخرى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]. فإن الله سبحانه وتعالى ردَّ الغنيمة إلى المؤمنين، وأضافها إلى المقاتلين؛ فقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]. فهو يخاطب الغانمين، أي: الذين قاتلوا أعداءه، واستولَوا على تلك الأموال.
* قوله: (إِذَا خَرَجُوا بِإِذْنِ الإِمَامِ).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 342)، حيث قال:"وبإجماع العلماء أن الأربعة الأخماس لمن شهد الوقيعة من الرجال البالغين منهم".
هذا الشرط الذي ذكره المؤلف رحمه الله (إِذَا خَرَجُوا؛ بِإِذْنِ الإِمَامِ) مختلف فيه.
فهذا القيد لا يراه جمهور العلماء، فهم لا يفرِّقون بين أن يخرج المقاتلون من المسلمين بإذن الإمام، أو لا.
فلو قُدِّر أن جيشًا من جيوش المسلمين، أو سريَّة من سراياهم: التقت بأموال للعدو، فظفرت بها، وكان ذلك بدون علم الإمام أو وليّ الأمر، فلهم الحقّ في الغنيمة؛ كما يرى جمهور العلماء
(1)
، ولا يعتدّ بقيد إذن الإمام.
ولكن الأهمّ من هذا القيد هو ألَّا يخرج هؤلاء عن طاعة الإمام أو يخالفوا أمره؛ لأن هذا الخروج هو الذي يُنهى عنه، ولا يجوز شرعًا؛ لما يترتَّب على ذلك من الضرر.
فلو جاء الأمر بغير معصية الإمام، وبغير إذنه: فلا حرج من أن
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 724)، حيث قال:"لو خرجت سرية في دار الحرب للطليعة أو للدوران أو للصيد بإذن الامام أو بغير إذن الإمام فأصابوا غنيمة فإن تلك الغنيمة تكون لجميع العسكر وتخمس".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التلقين" للقاضي عبد الوهاب (1/ 93)، حيث قال:"السرية المنفصلة من جملة العسكر برأي الإمام فإن غنم العسكر شاركوهم في الغنيمة وإن غنصت السرية فالغنائم بينها وبين باقي العسكر خرجت بإذن الإمام أو غير إذنه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 256)، حيث قال:"وإذا غزا المسلمون بلاد الحرب فسرت سرية كثيرة أو قليلة بإذن الإمام أو غير إذنه فسواء ولكني أستحب أن لا يخرجوا إلا بإذن الإمام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 152)، حيث قال: "وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا، ففي غنيمتهم ثلاث روايات:
إحداهن: فيها الخمس وسائرها لهم؛ لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . والثانية: هي لهم من غير خمس؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد، فأشبه الاحتطاب. والثالثة: هي فيء لا شيء لهم فيها؛ لأنهم عصاة بفعلهم، فلم يملكوه، كالسرقة من المسلمين. وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك".
يأخذوا نصيبهم من الغنيمة؛ كأن يرسلهم الإمام إلى عدوّ، فيلقوا في طريقهم عدوًّا آخر ويغنموا منه.
لكننا إذا طبَّقنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه ما كانت سرية للمسلمين تخرج، ولا جيشًا لهم؛ إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلعلَّ هذا سبب تقييد المؤلف رحمه الله، والله أعلم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي).
قد أورد المؤلِّف رحمه الله هنا عدة مسائل، وذكرها مجملة، وسنذكرها مفصلة واحدة تلو الأُخرى.
* قوله: (الخَارِجِينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ).
سبق أن قلنا: إن الجمهور
(1)
يرون أن الخَارِجِينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ يستحقون أخذ نصيبهم من الغنيمة، ويلحقون بغيرهم ممن خرج بإذن الإمام، شريطة ألا يخرجوا عن طاعته أو يخالفوا أمره.
* قوله: (وَفِيمَنْ يَجِبُ لَهُ سَهْمُهُ مِنَ الغَنِيمَةِ).
يقصد المؤلِّف رحمه الله أنَّ هؤلاء الذين خرجوا بغير إذن الإمام، فظفروا بالأعداء، واستولوا على أموالهم، أو على شيء مما لهم؛ فهل يعتبر ذلك غنيمة؟ أو فيئًا، أو نفلًا؟
فلا يفهم من خلاف أهل العلم، في استحقاقهم الأخذ منه من عدمه؛ لخروجهم بغير إذن الإمام: أن هذه الغنائم التي ظفروا بها لا تحل للمسلمين؛ كلا. وإنما الخلاف في توصيفها، وفي مَن يستحق الأخذ منها.
فبعض العلماء يرى أنها من الفيء؛ فتعطى للإمام
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه قريبًا.
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 152)، حيث قال: "وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا، ففي غنيمتهم ثلاث =
و"الفيء": كان - في أول الأمر - خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 1 - 2].
والقصد به: ما يأخذه الإمام. ونحن نعلم أن الدولة الإسلامية، في أول إنشائها كانت في حاجة إلى ذلك الفيء. ثم جعل الله سبحانه وتعالى خُمس الغنيمة له ولمن ذكرهم في آية الغنيمة، وبقيت الأقسام الأربعة منها: للغانمين، ولله الحمد.
* قوله: (وَمَتَى يَجِبُ؟).
اختلف الفقهاء في وقت وجوب هذا الحق من الغنيمة؟
والجواب: أنه يجب بالاستيلاء عليه من قبل المسلمين
(1)
.
= روايات:
…
والثالثة: هي فيء لا شيء لهم فيها؛ لأنهم عصاة بفعلهم، فلم يملكوه، كالسرقة من المسلمين. وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي، حيث قال:"وقسمة الغنيمة في دارهم لا للإيداع)، أي: حرم قسمة الغنيمة في دار الحرب لغير الإيداع، وهذا بناءً على أن الملك لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (3/ 80) حيث قال: قال سحنون في كتاب ابنه: وأصحابنا يرون في سرية تخرج في قلة وغرر بغير إذن الإمام، أن للإمام منعهم الغنيمة أدبًا لهم، قال سحنون: فأما جماعة لا يخاف عليهم، فلا يحرمون الغنيمة، وإن لم يستأذنوه، يريد وإن أخطأوا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 47)، حيث قال:" (ولا تملك) الغنيمة (إلا بقسمة)؛ لأنهم لو ملكوها بالاستيلاء كالاصطياد، والتحطب لم يصح إعراضهم، ولأن للإمام أن يخص كل طائفة بنوع من المال، ولو ملكوا لم يصح إبطال حقهم من نوع بغير رضاهم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (2/ 25)، حيث قال:"وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب".
فبعد الاستيلاء على الغنائم: تأتي مرحلة حيازتها وتأمينها والحفاظ عليها.
ثم بعد ذلك: تأتي مرحلة توزيعها وتقسيمها.
وقد اختلف العلماء فيمَن مات بعد الاستيلاء على الغنيمة، وقبل حيازتها هل يستحق الأخذ منها؟
يرى جمهور العلماء: أنه لا يدخل ضمن الغانمين، ولا يستحق شيئًا منها.
أما لو مات بعد الحيازة لها: فإنه يستحق أخذ نصيبه منها، ويرد ذلك على ورثته من زوجته وأولاه وغيرهم
(1)
.
وبعض العلماء يرى: أن مَن قُتِل في الجهاد، أو مات بعد حيازة الغنيمة وقبل الشروع في تقسيمها: فإنه لا يستحق شيئًا منها
(2)
.
(1)
فالغازي إذا مات أو قتل نظرت فإن كان قبل حيازة الغنيمة، فلا سهم له؛ لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها سواء مات حال القتال أو قبله.
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (3/ 252)، حيث قال:"إذا مات قبل أن تخرج الغنيمة إلى دار الإسلام وبعد الإخراج يورث نصيبه؛ لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبله".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 574)، حيث قال:"مَن مات قبل القتال فلا يسهم له وإن مات بعد القتال قبل الغنيمة فله سهمه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 148)، حيث قال:" (ولو مات في) أثناء (القتال) قبل حيازة شيء (فالمذهب أنه لا شيء له) فلا حق لوارثه في شيء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة، حيث قال:"إذا مات قبل حيازتها، فقد مات قبل ملكها، وثُبُوت اليد عليها، فلم يستحقّ شيئًا".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (3/ 252) حيث قال: ولا من مات فيها وبعد الإحراز بدارنا يورث نصيبه)، أي: لا يستحق من مات في دار الحرب من الغنيمة ومراده إذا مات قبل أن تخرج الغنيمة إلى دار الإسلام وبعد الإخراج يورث نصيبه؛ لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبله بخلاف ما بعده. =
بخلاف ما لو مات بعد الشروع في التقسيم: فإن ورثته يستحقّون أخذ نصيبه منها
(1)
.
= مذهب المالكية، يُنظر:"مناهج التحصيل" للرجراجي (3/ 28) حيت قال: فمن شهد القتال ثم مات قبل الغنيمة: فسهمه من الغنيمة موروث وهو نص قول ابن القاسم في "المدونة"، وهو مشهور المذهب عندهم.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 167 - 168) حيث قال: " (وكذا) لو مات (بعد الانقضاء وقبل الحيازة في الأصح) بناءً على أن الغنيمة تملك بالانقضاء. والثاني: لا، بناءً على أنها تملك بالانقضاء مع الحيازة، وهل المملوك عليهما نفس الأعيان أو حق تملكها؟ وجهان وكلاهما يورث كما مر، وتقدم أنها إنما تملك باختيار التملك أو القسمة على الصحيح. (ولو مات في) أثناء (القتال فالمذهب أنه لا شيء له) هذا هو المنصوص فلا يخلفه وارثه فيه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 252) حيث قال: " (ومن مات بعد إحراز الغنيمة، قام وارثه مقامه في سهمه)، وجملته: أن الغازي إذا مات أو قتل، نظرت؛ فإن كان قبل حيازة الغنيمة، فلا سهم له؛ لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها، سواء مات حال القتال أو قبله، وإن مات بعد ذلك، فسهمه لورثته".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بداية المبتدي" للمرغيناني (ص 116) حيث قال: "ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته".
مذهب المالكية، يُنظر:"التفريع" لابن الجلاب (1/ 251) حيث قال: "وإن حضر القتال وقاتل أو كبَّر ثم مات قبل حصول الغنيمة، ثم غنم المسلمون بعده، فلورثته سهمه". وانظر: "شرح ابن ناجي على الرسالة"(1/ 400).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 167) حيث قال: " (ولو مات بعضهم)، أي: الغانمين، أو خرج عن أن يكون من أهل القتال بمرض أو نحوه (بعد انقضائه)، أي: القتال (و) بحد (الحيازة فحقه) من المال إن قلنا: إن الغنيمة تملك بالانقضاء والحيازة، أو حق تملكه إن قلنا: إنها إنما تملك باختيار التملك أو القسمة وهو الصحيح (لوارثه) كسائر الحقوق".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 148) حيث قال: "ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه؛ لأنه ثبت ملكه فيه، فقام وارثه مقامه، كما بعد القسمة".
وهذه المسألة: لم يعرض لها المؤلف رحمه الله هنا؛ لأنه لا يعرض للجزئيات من المسائل.
* قوله: (وَكَمْ يَجِبُ؟).
هذه المسألة: سيأتي - إن شاء الله تعالى - تفصيلها. والمعروف: أن للفارس سهم، وللفرس سهمان. فلو أن إنسانًا قاتل على فرس؛ فإنه يستحق سهمين لفرسه، ويستحق سهمًا له
(1)
.
أما الراجل (وهو الذي يقاتل على قدميه بلا فرس): فإنه يستحق سمهًا واحدًا فقط
(2)
.
وسبب جعل الشرع سهمين للفرس:
لأن الفرس - كما نعلم - له كلفة، ويحتاج إلى رعاية وطعام وشراب
…
إلخ.
وقد اشتراه صاحبه، وأعدَّه، ودرَّبه لخوض المعارك، بالإضافة إلى أن قتال الفارس على فرس، يختلف في المعركة عن قتال الفارس الراجل؛ فالراكب يسدّ أكثر من الراجل بلا شك.
لأجل ذلك كله وغيره: أعطي الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهم فقط.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 342)، حيث قال:"فأثبت للفارس ثلاثة أسهم، سهمًا له وسهمين لفرسه، وبه قال علماء الأمصار في القديم والحديث، ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا النعمان، وإنه خالف فيه السنن فقال: (لا يسهم للفارس إلا سهمًا واحدًا)، وخالفه أصحابه فبقي مفردًا مهجورًا".
أما مذهب أبي حنيفة الذي خالف فيه الإجماع، يُنظر:"تحفة الفقهاء" للسمرقندي (3/ 300، 301)، حيث قال:"إن كان راجلًا فله سهم واحد، وإن كان فارسًا فله سهمان عند أبي حنيفة سهم له وسهم لفرسه".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 117)، حيث قال:"واتفقوا أن راكب البغل والحمار والراجل متساوون في القتال وأنه لا يزاد واحد منهم في القسمة على سهم واحد".
وقد تكلَّم العلماء في مسألة متفرعة عن هذه؛ وهي لو أن فارسًا له أكثر من فرس؛ فهل يستحق أخذ سهمين لكل فرس؟ أو لا يأخذ إلا نصيب فرس واحد فقط؟
فمنهم من قال: لا يأخذ إلا على فرلس واحد؛ لأنه لا يقاتل إلا على واحد فقط
(1)
.
ومنهم من قال: يأخذ على فرسين، وهو رأي أكثر أهل العلم
(2)
.
وهناك مسألة أُخرى: وهي لو قاتل المجاهد على رحل، أي: على بعير؟
(3)
.
فقد أجاز العلماء له: أن يأخذ سهمين سهمًا له، وسهمًا لبعيره.
وبعض الفقهاء: يفرِّق بين الهجين
(4)
(5)
، وبين غيره (يعني: بين العربي الأصيل، وبين غيره من السلالات الأُخرى).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تحفة الفقهاء" للسمرقندي (3/ 301)، حيث قال:"ثم يسهم للفارس لفرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، وعند أبي يوسف يسهم لفرسين ولا يسهم لما زاد على ذلك".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (1/ 519)، حيث قال: "قلت: فبكم يضرب إن كان معه فرسان في قول مالك؟ قال: قال مالك: يضرب له بسهم فرس ولا يزاد على ذلك.
قال مالك وخلافه: بلغني أن الزبير بن العوام شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرسين يوم حنين فلم يسهم له إلا بسهم فرس واحد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 152)، حيث قال:"وإذا حضر الرجل بفرسين، أو أكثر لم يسهم إلا لفرس واحد".
(2)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد"(4/ 144)، حيث قال:"ومن غزا على فرسين، قسم لهما أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، ولا يسهم لأكثر من فرسين".
(3)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 117)، حيث قال:"واتفقوا أن راكب الجمل لا يسهم له ثلاثة أسهم".
(4)
الهجين الذي أبوه عربي وأمه أَمة، والهجين من الخيل: الذي ولدته برذونة من حصان عربي. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 40).
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (5/ 498)، حيث قال: =
لكن هذه التفصيلات: لا داعي أن نتعرض لها بتفصيل هنا.
* قوله: (وَفِيمَا يَجُوزُ لَهُ مِنَ الغَنِيمَةِ قَبْلَ القَسْمِ؟).
يعني المؤلف رحمه الله بذلك: أنه هل يجوز للإمام أن يأخذ أو ينفل شيئًا من الغنيمة قبل القسمة، أو لا؟
فمن العلماء من قال: نعم يجوز له نفل ذلك
(1)
.
= "والبراذين والخيل العربية هما (سواء) في القسم".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 578)، حيث قال:"قال مالك: لا أرى الهجين إلا من الخيل".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 152)، حيث قال:"وأحب الأقاويل إليَّ وأكثر قول أصحابنا أن البراذين والمقاريف يسهم لها سهمان العربية".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المسائل الفقهية" لأبي يعلى الفراء (2/ 38)، حيث قال: "هل يسهم للهجين والبرذون سهمان أم سهم
…
؟ فنقل أبو طالب وإسحاق بن إبراهيم وأبو الحارث ويوسف بن موسى وأبو داود وبكر بن محمد: يسهم له سهم وهو اختيار الخرقي وأبي بكر ونقل إسماعيل بن سعيد والفضل بن عبد الصمد له اختيار أبي بكر الخلال".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 115)، حيث قال:"والتنفيل هو تخصيص بعض الغزاة بالزيادة، نحو أن يقول الإمام: من أصاب شيئًا فله ربعه أو ثلثه، أو قال: من أصاب شيئًا فهو له، أو قال: من أخذ شيئًا أو قال: من قتل قتيلًا فله سلبه، أو قال لسرية: ما أصبتم فلكم ربعه أو ثلثه، أو قال: فهو لكم وذلك جائز؛ لأن التخصيص بذلك تحريض على القتال، وأنه أمر مشروع ومندوب إليه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (1/ 517)، حيث قال: "قلت: أرأيت النفل هل يصلح للإمام أن ينفل بعدما صارت الغنيمة في يديه، أو هل يصلح له أن ينفل من قبل أن يغنموا، يقول من جاء بشيء فله ثلثه أو خمسه أو نصفه أو ما أشبه ذلك، قال: سئل مالك عن النفل أيكون في أول مغنم؟
قال: ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام، ليس عندنا في ذلك أمر معروف إلا الاجتهاد من الإمام قال: ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كلها، وقد بلغني أنه نفل في بعضها، وإنما ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام في أول مغنم وفيما بعده".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 147)، حيث قال: " (والنفل =
ومنهم من قال: لا يجوز
(1)
.
وبيان هذه الصورة: أنه ربَّما يرسل الإمامُ رسولًا ليتتبع الطرق، ويبحث عن الطريق السوي السالك ليمر فيه جيش المسلمين، وربما يتتبع هذا الرسول أيضًا أحوال جيش العدو، ويتعرف على بعض الأُمور المتعلقة به من عدد الجنود، ونوع العتاد، وعدده، ومكامن القوة والضعف .. إلخ.
فهل يجوز للإمام نفل شيء من الغنيمة في هذه الحالة؟
وهل يجوز له الوعد بالنفل أيضًا قبل القتال، أو لا؟
فهذه كلها مسائل، يعرض لها العلماء في هذه الأبواب.
* قوله: (فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الغَنِيمَةِ لِلَّذِينِ غَنِمُوهَا؛
= زيادة يشرطها الإمام أو الأمير) عند الحاجة لا مطلقًا (لمن يفعل ما فيه نكاية في الكفار) زائدة على نكاية الجيش كدلالة على قلعة وتجسيس وحفظ مكمن سواء استحق سلبًا أو لا، وللنفل قسم آخر وهو أن يزيد من صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وهو من سهم المصالح الذي عنده أو من هذه الغنيمة، (ويجتهد الإمام) أو الأمير (في قدره) بحسب قلة العمل وخطره وضدهما".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي "لابن قدامة (4/ 139)، حيث قال:"النوع الثاني: أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء، لغنائه وبأسه، أو لمكروه تحمله، ككونه طليعة، أو عينًا، فيجوز من غير شرط".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 226)، حيث قال: "والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام؛ أحدها
…
وهو أن الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيًا، بعث بين يديه سرية تغير على العدو، ويجعل لهم الربع بعد الخمس، فما قدمت به السرية من شيء، أخرج خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لهم، وهو ربع الباقي، وذلك خمس آخر، ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه. فإذا قفل، بعث سرية تغير، وجعل لهم الثلث بعد الخمس، فما قدمت به السرية أخرج خمسه، ثم أعطى السرية ثلث ما بقي، ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه. وبهذا قال حبيب بن مسلمة، والحسن، والأوزاعي، وجماعة، ويروى عن عمرو بن شعيب، أنه قال: لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
خَرَجُوا بِإِذْنِ الإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآيَةَ [الأنفال: 41]).
الشرط المهم والمطلوب هنا: هو ألا يكون هؤلاء المقاتلين من المسلمين، الذين خرجوا قاصدين هؤلاء الأعداء، قد خرجوا عن طاعة الإمام، أو خالفوا أمره.
فالمؤلِّف رحمه الله يقصد بهؤلاء الذين خرجوا دون عصيان الإمام، والخروج عليه.
وإنما فوجئوا بالأعداء، أو مروا بهم في طريقهم لمحاربة غيرهم، أو فرضت عليهم المعركة، أو نحو هذا، دون أن يتمكنوا من استئذان الإمام أو إعلامه بالأمر.
أما طاعة الإمام: فهي واجبة؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
فهؤلاء قد اجتهدوا في الخير، وسلكوا هذا الطريق، ووجدوها فرصة سانحة، فلربما لو عادوا لاستئذان الإمام أو أرسلوا له رسولًا: لفاتهم الأمر، وفرَّ العدوّ.
فهذا هو الذي يريده المؤلف رحمه الله من كلامه، ولا يقصد المؤلف رحمه الله الذين يشقّون عصا الطاعة
(1)
، ويخرجون على الإمام؛ فهؤلاء لا يُنظر إليهم، ولا يُلتَفت لأمرهم.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا خَرَجَتِ السَّرِيَّة، وَالرَّجُلُ الوَاحِدُ بِغَيْرِ
(1)
شق فلان العصا، أي: فارق الجماعة، وشق عصا الطاعة فانشقت وهو منه. وأما قولهم: شق الخوارج عصا المسلمين، فمعناه أنهم فرقوا جمعهم وكلمتهم، وهو من الشق الذي هو الصدع. وقال الليث: الخارجي يشق عصا المسلمين ويشاقهم. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 183).
إِذْنِ الإِمَامِ، فَكُلُّ مَا سَاقَ نَفْلٌ يَأْخُذُهُ الإِمَامُ)
(1)
.
هذا القول: لبعض الأئمة من أهل العلم.
قالوا: وذلك لأنهم خرجوا بغير إذن الإمام، وهو لم يأذن لهم، وإنما تصرفوا من ذات أنفسهم؛ فيدخل ما حصلوا عليه: في النفل.
وهذا النفل: يُردُّ إلى ببيت مال المسلمين، ولا يستحقّ الغانمون منه شيئًا. فالغنيمة: لا خلاف في تخميسها. وأما النفل: فقد اختلف العلماء في تخميسه؟
(2)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (3/ 26)، حيث قال:"قلت: أيغزى بغير إذن الإمام؟ قال: أما الجيوش والجمع فلا خروج لهم إلا بإذن الإمام وتوليته عليهم واليًا. وقد أرخص لأهل الثغور ممن بقرب العدو يجدون الفرصة ويبعد عليهم إذن الإمام، فسهل مالك في ذلك. فأما في سرية تخرج من عسكر فلا يجوز لهم ذلك. قال عبد الملك: وهم عاصون خرجوا ببدعة ورغبوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، ولا أرى أن ينفلوا ولا ينفل إلا من أطاعه ويستألفه على حسن فعله، وليؤدبهم بما يرى".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 256)، حيث قال:"وإذا غزا المسلمون بلاد الحرب فسرت سرية كثيرة أو قليلة بإذن الإمام أو غير إذنه فسواء، ولكني أستحب أن لا يخرجوا إلا بإذن الإمام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 456)، حيث قال:"ومنها؛ إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فقد قيل: إن ما غنموه لهم من غير أن يخمس. والصحيح أنه يخمس، ولدفع إليهم أربعة أخماسه؛ لدخوله في عموم الآية، وعدم دليل يوجب تخصيصه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 115)، حيث قال:"والثاني: أنه لا خمس في النفل؛ لأن الخمس إنما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين والنفل ما أخلصه الإمام لصاحبه، وقطع شركة الأغيار عنه فلا يجب فيه الخمس، ويشارك المنفل له الغزاة في أربعة أخماس ما أصابوا؛ لأن الإصابة أو الجهاد حصل بقوة الكل، إلا أن الإمام خص البعض ببعضها، وقطع حق الباقين عنه، فبقي حق الكل متعلقًا بما وراءه فيشاركهم فيه والله سبحانه وتعالى أعلم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (6/ 240)، حيث قال: "والوجه الرابع: من النفل أن يقول الإمام أو أمير الجيش قبل اللقاء: من غنم شيئًا فهو له =
فمن العلماء: مَن يرى أن النفل يُخمس أيضًا؛ كالحال بالنسبة للغنيمة؛ فهما شيء واحد.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].
وبعضهم قال: الفيء هو النفل، وهو لا يخمس؛ وإنما يرد لبيت المال، ويتصرف فيه الإمام بما يراه مصلحة للمسلمين.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَأْخُذُهُ كُلَّهُ الغَانِمُ).
هذا القول في حقيقة الأمر: قول ضعيف
(1)
.
وهناك مسائل كثيرة: قد تكلم عنها العلماء، وسيأتينا بعد ذلك بإذن الله الحديث عن مسألة العبد، هل له سهم، أو لا يعطى؟
وكذلك الحال بالنسبة للمرأة والطفل الصغير، وقد ذكر العلماء مسألة متفرعة على هذه المسألة، وهي: لو أن مجموعة من العبيد، أو من الصبيان الصغار، أو من النساء، غزوا قومًا من الأعداء، فاستولوا منهم على غنائم: فهل هذا المال يكون لهم، أو يكون نفلًا؟
= تحريضًا للمسليين؛ لما يخاف من كثرة العدو وقوة شوكتهم، فالذي نص عليه الشافعي وهو المشهور من مذهبه، والمعول عليه من قوله أن هذا القول لا يوجب اختصاص كل إنسان بما أخذه، الواجب رد جميعه إلى المغنم، وإخراج خمسه، وقسمة أربعة أخماسه في جميع من شهد الوقعة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 456)، حيث قال:"ومنها، إذا قال الإمام: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس، ومن طلع الحصن فله كذا من النفل. فالظاهر أن هذا غير مخموس؛ لأنه في معنى السلب".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 456)، حيث قال:"ومنها؛ إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فقد قيل: إن ما غنموه لهم من غير أن يُخمَّس. والصحيح أنه يخمس، ويدفع إليهم أربعة أخماسه؛ لدخوله في عموم الآية، وعدم دليل يوجب تخصيصه".
فبعض العلماء يقول: يكون لهم هذا المال الذي غنموه، وهو حق خالص لهم.
وبعضهم يقول: لا يستحقون أخذه؛ وإنما هو فيء، فيُرَدُّ إلى بيت مال المسلمين.
* قوله: (فَالجُمْهُورُ تَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ الآيَةِ).
يقصد المؤلف رحمه الله: أنهم اعتمدوا على ظاهر الآية الكريمة التي في سورة الحشر؛ وهي قول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ كَأَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا صُورَةَ الفِعْلِ الوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ السَّرَايَا إِنَّمَا كَانَتْ تَخْرُجُ عَنْ إِذْنهِ عليه الصلاة والسلام؛ فَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ إِذْنَ الإِمَامِ شَرْطٌ فِي ذَلِكَ .. وَهُوَ ضَعِيفٌ).
مراد المؤلف رحمه الله: أنه ما كانت يخرج جيش، ولا سرية، ولا نفر، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لقتال أحد من أعداء المسلمين؛ إلا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونعلم قصة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتتبع أخبار الأحزاب، ويدخل في صفوفهم، ويجلس معهم، ولما أراد أن يقتل أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه وكان قريبًا منه ويراه رأي العين تذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحدث حدثًا إلا بعد أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد سهمه إلى كنانته، وأقلع عن ضربه، والتزم بما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فنعم القوم أولئك كانوا.
(1)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَهُ السَّهْمُ مِنَ الغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الذُّكْرَانِ الأَحْرَارِ البَالِغِينَ)
(1)
.
نعود مرة أُخرى لنذكر بما ابتدأنا الحديث به، في أوائل كتاب الجهاد.
فقد ذكرنا: أن العلماء، أو جمهورهم، أو عامتهم، ذهبوا إلى أن الجهاد فرض كفاية، وأنه لا اعتبار بقول من ذهب إلى أنه فرض عين، ولا بقول من ذهب إلى أنه سُنَّة. والصحيح: أنه فرض كفاية
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 501)، حيث قال:" (ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الإمام) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191، 192)، حيث قال:" (وقسم) الإمام (الأربعة) الأخماس الباقية (لحر) ذكر (مسلم بالغ عاقل حاضر) للقتال صحيح".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 150)، حيث قال:" (والعبد والصبي) والمجنون (والمرأة) ومثلها الخنثى ما لم تبن ذكورته والأعمى والزمن وفاقد الأطراف والتاجر والمحترف إذا لم يقاتلا ولا نويا القتال، ولا يشكل الزمن بالشيخ الهرم؛ لأن من شأن الزمن نقص رأيه، بخلاف الهرم الكامل العاقل (والذمي) ويلحق به كما بحثه الأذرعي المعاهد والمؤمن والحربي إن جازت الاستعانة بهم وأذن الإمام لهم (إذا حضروا) وإن لم يأذن سيد وولي وزوج الوقعة (فلهم) إن كان فيهم نفع وإن استحق المسلم السلب خلافًا لابن الرفعة لاختلاف السبب (الرضخ) وجوبًا للاتباع في ذلك".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 644)، حيث قال: " (وقاتل لا يرضخ له)، أي: المخذل والمرجف ونحوهما لما تقدم، و (لا) يسهم ولا يرضخ (لمن نهاه الأمير أن يحضر) فلم ينته؛ لأنهم عصاة (ولا كافر لم يستأذنه)، أي: الإمام (ولا عبد لم يأذن له سيده) في غزو لعصيانهما (ولا طفل ولا مجنون)؛ لأنهما لا يصلحان للقتال (ولا من فر من اثنين) كافرين لعصيانه.
(2)
تقدَّم تخريجه في أول كتاب الجهاد.
لكن الجهاد - كما عرفنا - يتعين في ثلاث صور، وقد تكلمنا عنها. وقد اتَّفق أهل العلم على أن المجاهد إذا كان ذكرًا حرًّا بالغًا: فإنه يستحق الأخذ من الغنيمة؛ كما يحكي المؤلف رحمه الله هنا
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَضْدَادِهِمْ).
سبق أن ذكرنا: أن الجهاد له شروط:
الشرط الأول: يشرط في المجاهد أن يكون ذكرًا، وفد تكلمنا عن جهاد النساء.
وذكرنا الحديث الوارد في ذلك: (لما سألت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهاد؟ فقال: عليهن جهاد، لا قتال فيه .. )
(2)
.
الشرط الثاني: يشرط في المجاهد أن يكون حرًّا أيضًا.
الشرط الثالث: يشرط في المجاهد أن يكون بالغًا كذلك.
* قوله: (أَعْنِي النِّسَاءَ وَالعَبِيدَ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ قَارَبَ البُلُوغَ).
يتعرض المؤلف رحمه الله هنا لذكر اختلاف العلماء في حكم استحقاق من لم تتوفر فيه الشروط الثلاثة السابق ذكرها، وهي: الذكورية، والحرية، والبلوغ.
وبيان ذلك: أنه لو خرج النساء، أو العبيد للجهاد، وأصابوا غنيمة؛ فهل يستحقّون الأخذ منها وشمهم لهم الإمام أسهمًا؟، أو لا؟
(1)
تقدَّم تخريجه في المتن.
(2)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لِلْعَبِيدِ وَلَا لِلنِّسَاءِ حَظٌّ مِنَ الغَنِيمَةِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ
(1)
لَهُمْ
(2)
، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ)
(3)
.
هذا هو القول الأوَّل لأهل العلم في هذه المسألة، وهو قول الإمام مالك.
ومفاده: أنهم لا يستحقون سهمًا كاملًا؛ وإنما يعطون مجرد عطية.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُرْضَخ، وَلَا لَهُمْ حَظُّ الغَانِمِينَ)
(4)
.
وهذا هو القول الثاني لأهل العلم في هذه المسألة.
ومفاده: أنهم لا يستحقّون شيئًا من الغنيمة مطلقًا، ولا يعطون حتى مجرد عطية.
(1)
رضخت له رضخًا: أعطيته شيئًا ليس بالكثير. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 228).
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال لابن الهمام (5/ 501)، حيث قال:" (قوله: ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم)، أي: يعطون من كثير، فإن الرضخة هي الإعطاء كذلك، والكثير السهم، فالرضخ لا يبلغ السهم ولكن دونه (على حسب ما يرى الإمام) وسواء قاتل العبد بإذن سيده أو بغير إذنه (والمكاتب كالعبد) ".
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 413)، حيث قال:"ويرضخ من ذلك لمن حضر من أهل الذمة وغير البالغين من المسلمين والنساء فينفلهم شيئًا لحضورهم ويرضخ لمن قاتل أكثر من غيره، وقد قيل: يرضخ لهم من الجميع".
(3)
المشهور عنه أنه لا يرضخ لهم. يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 101)، حيث قال:"وأما الرضخ فهو ما يعطيه من الخمس لمن لا يسهم له كالنساء والعبيد والصبيان ولا يرضخ لهم على المشهور". وانظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (1/ 93).
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 192)، حيث قال:" (قوله: ولا يرضخ لهم) الضمير للجماعة الذين شملهم لفظ الضد، أي: لا يعطى هؤلاء الجماعة الذين لا يسهم لهم شيئًا من الخمس"، وانظر:"التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (2/ 68).
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ لَهُمْ حَظُّ
(1)
وَاحِدٍ مِنَ الغَانِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ)
(2)
.
وهذا هو القول الثالث لأهل العلم في هذه المسألة، وَهُوَ قَوْلُ الإمام الأَوْزَاعِيِّ.
ومفاده: أنهم يستحقون مثل غيرهم ممن توفرت فيه شروط الأخذ من الغنيمة؛ فالمرأة تأخذ سهما الرجل الراجل، وثلاثة أسهم مثل الفارس مع فرسه لو كانت راكبة لفرس، والعبد كالحرّ؛ سواء بسواء.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الصَّبِيِّ المُرَاهِقِ).
بعد أن عرض المؤلِّف رحمه الله لخلاف العلماء في حكم استحقاق النساء والعبيد للغنيمة لو شاركوا في القتال.
ينصُّ هنا على خلافهم في الصَّبِيِّ المُرَاهِقِ أيضًا.
* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْسَمُ لَه، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ)
(3)
.
هذا هو القول الأول لأهل العلم في هذه المسألة، وهو قول الإمام الشَّافِعِيِّ.
ومفاده: أن الصبي المُرَاهِق يستحقّ سهمًا كاملًا مطلقًا في كلِّ الأحوال؛ كالبالغ.
(1)
هذا الضبط من عندي، وقد وردتني الجُملة في هذا الملف هكذا (حَظُّ وَاحِدٌ)! ولا معنى له فليحرر.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 48)، حيث قال: "واختلفوا أيضًا في العبد
…
وقال .. والأوزاعي لا يسهم للعبد ولكن يرضخ له".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 147)، حيث قال:"ولو غزا نحو صبيان وعبيد ونساء قسم بينهم ما عدا الخمس بحسب ما يقتضيه الرأي من تساوٍ وتفضيل ما لم يحضر معهم كامل".
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُطِيقَ القِتَالَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(1)
.
وهذا هو القول الثاني لأهل العلم في هذه المسألة، وهو قول الإمام مالك.
ومفاده: أن الصبي المُرَاهِق يستحق سهمًا كاملًا؛ كالبالغ؛ بشرط أن يكون مطيقًا للقتال، قادرًا على مشاقه، يستطيع مجابهة الأعداء.
* قوله: (وَمِنْهُم
(2)
مَنْ قَالَ: يُرْضَخُ لَهُ)
(3)
.
وهذا هو القول الثالث لأهل العلم في هذه المسألة، ولم يذكر المؤلف رحمه الله صاحبه.
ومفاده: أن الصبي المُرَاهِق إذا قاتل فإنه لا يستحق سهمًا كاملًا؛ وإنما يعطى مجرد عطية.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي العَبِيدِ هُوَ: هَلْ عُمُومُ الخِطَابِ يَتَنَاوَلُ الأَحْرَارَ وَالعَبِيدَ مَعًا؟ أَمِ الأَحْرَارَ فَقَطْ دُونَ العَبِيدِ؟ وَأَيْضًا: فَعَمَلُ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 192)، حيث قال:"ولو لم يقاتلا (لا ضدهم) من عبد وكافر ومجنون وصبي وغائب (ولو قاتلوا إلا الصبي ففيه إن أجيز) من الإمام (وقاتل)، وهو مطيق للقتال".
(2)
هذا التصحيح من عندي، وقد وردتني الجملة في هذا الملف هكذا (وَمِنْهُ)! ولا معنى له فليُحرر.
(3)
وهو قول الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 499)، حيث قال:"إذا قاتل الصبي أو العبد أو غيرهما فإنهم يستحقون الرضخ". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 212).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:"يرضخ (لمميز وقن وخنثى وامرأة على ما يراه) الإمام أو نائبه، فيفضل المقاتل وذا البأس ومن تسقي الماء وتداوي الجرحى على من ليس كذلك (إلا أنه لا يبلغ به)، أي: الرضخ (لراجل سهم الراجل ولا لفارس سهم الفارس) ".
الصَّحَابَةِ مُعَارِضٌ لِعُمُومِ الآيَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ انْتَشَرَ فِيهِمْ رضي الله عنهم أَنَّ الغِلْمَانَ لَا سَهْمَ لَهُمْ .. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُمَا
(1)
).
يذكر المؤلف رحمه الله هنا: أن سبب اختلاف العلماء في استحقاق العبيد المشاركين في القتال إلى جانب الأحرار: هو اختلافهم في المراد بمن وجه لهم الخطاب الوارد في القرآن والسُّنة؛ هل المراد به العموم؛ فيدخل العبيد ضمن الأحرار في استحقاق الغنيمة؟
أو هو خاص بالأحرار؛ بدليل ما انتشر من عمل الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم من أن غير البالغين لا يستحقون نصيبًا من الغنيمة؟
* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أَصَحُّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الحَدَثَانِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ
(2)
: "لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا المَالِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ")
(3)
.
هذا هو الدليل لمن قال: بأن العبيد إذا شاركوا في الققال: فلا يستحقون الأخذ من الغنيمة.
وهذا القول المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يمكن أن يصدر عنه من رأيه؛ بل لا بد أن يكون قد علمه من
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 492) قال: "حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر قال: ليس للعبد من الغنيمة شيء".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 49)، حيث قال:"قال أبو عمر وأصح ما في هذا الباب عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: وقال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق، يعني: الفيء إلا ما ملكت أيمانكم".
(3)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(2/ 127).
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، فضلًا عن أنه لم يعلم له فيه مخالف من الصحابة رضي الله عنهم في عهده، والله أعلم.
* قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ
(1)
إِلَى أَنَّ المَرْأَةَ لَا يُقْسَمُ لَهَا، وَيُرْضَخُ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ الثَّابِتِ؛ قَالَتْ:"كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُدَاوِي الجَرْحَى، وَنُمَرِّضُ المَرْضَى، وَكَانَ يَرْضَخُ لَنَا مِنَ الغَنِيمَةِ")
(2)
.
هذا هو دليل جمهور العلماء القائلين بأن المرأة لو شاركت في الققال: فإنها لا تستحق سهمًا كاملًا مِنَ الغَنِيمَةِ كالرجل؛ وإنما تعطى شيئًا منها.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 501)، حيث قال:" (قوله: ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم)، أي: يعطون من كثير، فإن الرضخة هي الإعطاء كذلك، والكثير السهم، فالرضخ لا يبلغ السهم ولكن دونه (على حسب ما يرى الإمام) وسواء قاتل العبد بإذن سيده أو بغير إذنه (والمكاتب كالعبد) ".
مذهب المالكية في غير المشهور يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (1/ 93)، حيث قال:"ومن سوى هؤلاء من العبيد والمرأة ومن دون المراهق يرضخ لهم ولا يسهم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 413)، حيث قال:"ويرضخ من ذلك لمن حضر من أهل الذمة وغير البالغين من المسلمين والنساء فينفلهم شيئًا لحضورهم ويرضخ لمن قاتل أكثر من غيره، وقد قيل: يرضخ لهم من الجميع".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:"يرضخ (لمميز وقن وخنثى وامرأة على ما يراه) الإمام أو نائبه، فيفضل المقاتل وذا البأس ومن تسقي الماء وتداوي الجرحى على من ليس كذلك (إلا أنه لا يبلغ به)، أي: الرضخ (لراجل سهم الراجل ولا لفارس سهم الفارس) ".
(2)
أخرجه مسلم (1812/ 142) عن أم عطية الأنصارية، قالت:"غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى".
أما الذي ذكره المصنف فلم أجده من حديث أم عطية والذي في معناه، أخرجه مسلم (1812) أن نجدة الحروري، كتب إلى ابن عباس يسأله، عن خمس خلال، فقال: ابن عباس:
…
وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن،
…
الحديث.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَشْبِيهِ المَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فِي كَوْنِهَا إِذَا غَزَتْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الحَرْبِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مُبَاحٌ لَهُنَّ الغَزْوُ
(1)
، فَمَنْ شَبَّهَهُنَّ بِالرِّجَالِ، أَوْجَبَ لَهُنَّ نَصِيبًا فِي الغَنِيمَةِ، وَمَنْ رَآهُنَّ نَاقِصَاتٍ عَنِ الرِّجَالِ فِي هَذَا المَعْنَى: إِمَّا لَمْ يُوجِبْ لَهُنَّ شَيْئًا، وَإِمَّا أَوْجَبَ لَهُنَّ دُونَ حَظِّ الغَانِمِينَ، وَهُوَ الأَرْضَاخُ).
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله اختلاف أهل العلم في مقدار ما تعطاه المرأة المقاتلة، فالإمام مالك - ومعه الجمهور -: يرون أنه يرضخ لها
(2)
. ويرى الإمام الأوزاعي: أنه يسهم لها
(3)
. وذهب آخرون إلى أنها لا تعطى شيئًا مطلقًا؛ لا على سبيل الإسهام، ولا على سبيل الإرضاخ.
ذكر هنا سبب الاختلاف بين أصحاب هذه الأقوال.
فبعد اتفاق العلماء على جواز مشاركة المرأة في القتال والغزو؛ اختلفوا في مدى تأثيرها فيه؛ على النحو التالي:
أولًا: فمن ذهب إلى أنها تسدّ مسد الرجل: فرض لها مثله؛ فأعطاها سهمًا كاملًا
(4)
.
ثانيًا: وأما مَن ذهب إلى أنها لا تسدّ مسد الرجل: فقد اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: فرض لها أقل من الرجل؛ فلم يعطها سهمًا كاملًا؛
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 335) حيث قال: "واتفقوا أنه لا جهاد فرض على امرأة، ولا على من لم يبلغ، ولا على مريض لا يستطيع ولا على فقير لا يقدر [على زاد] ".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 113)، حيث قال:"وفيه قول ثالث: قاله الأوزاعي، قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك".
وإنما رأى أنه يُرضخ لها فقط
(1)
. وهذا هو القول الذي رجَّحه المؤلِّف رحمه الله؛ كما سيأتي.
القول الثاني: لم يعطها شيئًا مطلقًا
(2)
.
* قوله: (وَالأَوْلَى: اتِّبَاعُ الأَثَرِ).
هذا هو اختيار المؤلف رحمه الله، وترجيحه؛ فهو يرى أن النساء المقاتلات يرضخ لهن ولا يستحققن أسهمًا كاملة؛ استنادًا للحديث الصحيح الثَّابِتِ عن أمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنهما في ذلك
(3)
؛ فهو العمدة والفيصل في هذه المسألة.
* قوله: (وَزَعَمَ الأَوْزَاعِيُّ).
بعد أن ذكر المؤلِّف رحمه الله رأي جمهور أهل العلم، في مقدار ما تستحقه المرأة المقاتلة من الغنيمة، وهو الإرضاخ، وبعد أن رجح هذا القول: أورد قولًا مخالفًا لهذا نسبه للإمام الأوزاعي.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 501)، حيث قال:" (قوله: ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم)، أي: يعطون من كثير، فإن الرضخة هي الإعطاء كذلك، والكثير السهم، فالرضخ لا يبلغ السهم ولكن دونه (على حسب ما يرى الإمام) وسواء قاتل العبد بإذن سيده أو بغير إذنه (والمكاتب كالعبد) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التلقين" للقاضي عبد الوهاب (1/ 93)، حيث قال:"ومن سوى هؤلاء من العبيد والمرأة ومن دون المراهق يرضخ لهم ولا يسهم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 413)، حيث قال:"ويرضخ من ذلك لمن حضر من أهل الذمة وغير البالغين من المسلمين والنساء فينفلهم شيئًا لحضورهم، ويرضخ لمن قاتل أكثر من غيره، وقد قيل: يرضخ لهم من الجميع".
قال الماوردي: "وهذا صحيح، وجملة مال الغنيمة أنه لصنفين: لحاضر، وغائب".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"(2/ 68)، حيث قال:"ولا يُسهم للنساء ولا للعبيد ولا الصبيان [إذا قاتلوا]، ولا يُرضخ لهم". وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 101).
(3)
تقدَّم تخريجه.
* قوله: ("أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلنِّسَاءِ بِخَيْبَرَ"
(1)
)
(2)
.
ينسب المؤلف رحمه الله للإمام الأوزاعي قوله: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى لكل واحدة من النساء، اللائي قاتلن معه في غزوة خيبر، سنة سبعة هجرية: سهمًا كاملًا كالرجل.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التُّجَّارِ، وَالأُجَرَاءِ؛ هَلْ يُسْهَمُ لَهُمْ أَمْ لَا؟).
يذكر المؤلف رحمه الله هنا مسألة جديدة؛ وهي حكم الإسهام للتجار ومن يعمل بالأجرة؟
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يُسْهَمُ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا")
(3)
.
هذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو قول الإمام مالك.
ومفاده: أن التاجر والأجير إذا شاركا في القتال بأنفسهما: فإن كلًّا منهما يستحق سهمًا كاملًا من الغنيمة؛ كغيرهما من سائر الرجال المقاتلين.
(1)
أخرجه أبو داود (2729) عن حشرج بن زياد، عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال:"مع من خرجتن، وبإذن من خرجتن؟ " فقلنا: يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله، ومعنا دواء الجرحى، ونناول السهام ونسقي السويق. فقال:"قمن". حتى إذا فتح الله عليه خيبر "أسهم لنا كما أسهم للرجال" قال: قلت لها: يا جدة وما كان ذلك؟ قالت: تمرًا" وضعفه الألباني في "الإرواء" (1238).
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 113)، حيث قال:"وفيه قول ثالث: قاله الأوزاعي قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191، 192)، حيث قال: " (وقسم) الإمام (الأربعة) الأخماس الباقية (لحر) ذكر (مسلم بالغ عاقل حاضر) للقتال صحيح على تفصيل يأتي في قوله، ومريض شهد
…
إلخ. (كتاجر، وأجير إن قاتلا)، وإلا فلا".
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: "بَلْ يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا شَهِدُوا القِتَالَ")
(1)
.
وهذا هو القول الثاني في هذه المسألة، ولم ينسبه المؤلف رحمه الله لأحد معين من أهل العلم.
ومفاده: أن التاجر والأجير يستحقّ كل منهما سهمًا كاملًا من الغنيمة - كغيرهما من سائر الرجال المقاتلين - بمجرد حضورهما المعركة وإن لم يشاركَا في القتال.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ تَخْصِيصُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] بِالقِيَاسِ الَّذِي يُوجِبُ الفَرْقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَسَائِرِ الغَانِمِينَ).
يتعرض المؤلف رحمه الله هنا لسبب اختلاف أهل العلم، في مقدار ما يعطى للتاجر والأجير؛ لكونهما ليسا من أهل القتال.
وتفسير هذا: أن الآية الكريمة الواردة في سورة الأنفال: عامة، فتشمل غير ممتهن القتال؛ كالتاجر والأجير؛ فهي لم تخصص قومًا دون آخرين.
والقياس: يوجب التفريق في مقدار الغنيمة بالنسبة للمقاتل وغيره؛ كالتاجر والأجير؛ حيث يوجد فرق في أدائهما في المعركة عن أداء المقاتل الحقيقي.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ التُّجَّارَ وَالأُجَرَاءَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ خِلَافِ سَائِرِ المُجَاهِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا القِتَالَ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا إِمَّا التِّجَارَةَ، وَإِمَّا الإِجَارَةَ، اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ).
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 147، 148)، حيث قال:" (والأظهر أن) (الأجير) إجارة عين (لسياسة الدواب وحفظ الأمتعة والتاجر والمحترف) كالخياط (يسهم لهم إذا قاتلوا) لشهودهم الوقعة وقتالهم".
فمَن فرَّق بين التاجر والأجير، وبين المقاتل في إغنائهم في المعركة، وسدّهم في باب الققال: اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ العُمُوم الوارد في الآية الكريمة؛ وهي قَوْل الله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
وخصَّها بالقياس الذي يوجب الفرق بينهم، وبين المقاتل الحقيقي، وبالتالي: فرق بين الطرفين في مقدار ما يستحقّه كلّ منهم من الغنيمة.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ العُمُومَ أَقْوَى مِنْ هَذَا القِيَاسِ، أَجْرَى العُمُومَ عَلَى ظَاهِرِهِ).
ومن لمِ يخصِّص هذه الآية الكريمة؛ وهي قَوْل الله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]: بهذا القياس، ورأى أنها على عمومها: ساوى بين الطرفين، في مقدار ما يستحقه كل منهم من الغنيمة.
* قوله: (وَمِنْ حُجَّةِ مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ: مَا خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
(1)
: "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ فُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ: أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَوَعَدَه، فَلَمَّا حَضَرَ الخُرُوج، دَعَاه، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَه، وَاعْتَذَرَ لَهُ بِأَمْرِ عِيَالِهِ، وَأَهْلِهِ؛ فَأَعْطَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَه، فَلَمَّا هَزَمُوا العَدُوَّ، سَأَلَ الرَّجُلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ نَصِيبَهُ مِنَ المَغْنَمِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَأَذْكُرُ أَمْرَكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ لَهُ؟ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تِلْكَ الثَّلَاثَةُ دَنَانِيرَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ غَزْوِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ").
يذكر المؤلف رحمه الله هنا: أحد أدلة مَن استثنى التاجر والأجير، مِن
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 229).
العُمُوم الوارد في الآية الكريمة؛ وهي قَوْل الله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]:
وهو دليل من السُّنة النبوية؛ رواه الإمام عبد الرزاق صاحب "المصنف".
ووجه الاستدلال بهذا الدليل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط هذا الرجل سهمًا كاملًا كالمقاتل؛ وإنما أرضخ له هذه الدنانير الثلاثة فقط؛ لكونه ليس من أهل القتال.
* قوله: (وَخَرَّجَ مِثْلَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ)
(1)
.
هذه الرواية التي عزاها المؤلِّف رحمه الله، لأبي داود السجستاني صاحب "السنن": تؤيِّد رواية عبد الرزاق السابق ذكرها.
* قوله: (وَمَنْ أَجَازَ لَهُ القَسْمَ: شَبَّهَهُ بِالجَعَائِلِ أَيْضًا؛ وَهُوَ أَنْ يُعِينَ أَهْلُ الدِّيوَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَعْنِي: يُعِينُ القَاعِدُ مِنْهُمُ الغَازِيَ).
يذكر المؤلِّف رحمه الله هنا: حجة مَن رأى أن التاجر أو الأجير، يستحق كل منهما سهمًا كاملًا.
باعتبار تشبيه حالهما بحال الجَعَائِلِ.
ثم تعرض المؤلف رحمه الله هنا لمسألة الجَعَائِلِ هذه، فعرفها بهذا التعريف.
(1)
أخرجه أبو داود (2527) عن يعلى بن منية، قال: آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيرًا يكفيني، وأجري له سهمه، فوجدت رجلًا، فلما دنا الرحيل أتاني، فقال: ما أدري ما السهمان، وما يبلغ سهمي؟ فسمِّ لي شيئًا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أمره، فقال:"ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمَّى"، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2233).
والمراد بها: أن يعين المقاتل الذي هو في إجازة، زميله الذي يشارك في المعركة؛ فيأخذ مثله من الغنيمة.
فشبَّه بعض أهل العلم التاجر أو الأجير بهذا المقاتل الذي هو في إجازة؛ فأعطوا الجميع مثل ما يعطى للمقاتل.
* قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الجَعَائِلِ
(1)
).
يذكر المؤلف رحمه الله هنا: اختلاف أهل العلم في حكم الجَعَائِلِ.
* قوله: (فَأَجَازَهَا مَالِكٌ)
(2)
.
هذا هو القول الأول في مسألة الجَعَائِلِ: وقد أجاز أصحابه بأن يُعطى المقاتل الذي هو في إجازة، مثل المقاتل المشارك في المعركة.
* قوله: (وَمَنَعَهَا غَيْرُهُ)
(3)
.
هذا هو القول الثاني في مسألة الجَعَائِلِ: وقد رفض أصحابه إعطاء المقاتل الذي هو في إجازة، مثل المقاتل المشارك في المعركة. ولم ينسب المؤلف رحمه الله هذا القول لأحد.
(1)
الجعائل في الجهاد: جمع جعيلة هو ما يجعله القاعد للخارج عنه من أهل الديوان يقال منه: أجعلت له جعلًا. والاسم الجعال". انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 158).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 182)، حيث قال:" (و) جاز (جعل) بضم الجيم (من قاعد) يدفعه (لمن يخرج عنه) للجهاد وسواء كان الجعل هو عطاء الجاعل من الديوان أو قدرًا معينًا من عنده".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 177)، حيث قال:"وقال بعضهم: تركها أفضل وعن شقيق بن العيزار الأسدي، قال: سألت ابن عمر عن الجعائل؟ فقال: لم يكن لأرتشي، إلا ما رشاني الله قال: وسألت ابن الزبير، فقال: تركها أفضل، وإن أخذتها فأنفقها في سبيل الله".
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مِنَ السُّلْطَانِ فَقَطْ، أَوْ إِذَا كَانَتْ ضَرُورَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ)
(2)
.
هذا هو القول الثالث في مسألة الجَعَائِلِ: وقد قيَّد أصحابه إعطاء المقاتل الذي هو في إجازة، مثل المقاتل المشارك في المعركة: بأن يكون الإذن بذلك صادرًا مِنَ السُّلْطَانِ فَقَطْ، أو في حالة الضرورة؛ كأن يكون جيش المسلمين في حاجة لمزيد من الجنود مثلًا، ونسب المؤلف رحمه الله هذا القول للإمامين أبي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.
فهذا القول: لا يجيز الجَعَائِل على العموم، ولا على الإطلاق، كالقول الأول.
* قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ لِلْمُجَاهِدِ: السَّهْمُ مِنَ الغَنِيمَةِ).
يتعرض المؤلف رحمه الله هنا مسألة جديدة؛ وهي شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة، وسيعرض اختلاف أهل العلم في ذلك.
* قوله: (فَإِنَّ الأكثَرَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ القِتَالَ، وَجَبَ لَهُ السَّهْمُ
(1)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 443)، حيث قال:" (قوله: ويكره الجعل) يريد بالجعل هنا أن يكلف الإمام الناس بأن يقوي بعضهم بعضًا بالسلاح والكراع وغير ذلك من النفقة والزاد (ما دام للمسلمين فيء) وهو المال المأخوذ من الكفار بغير قتال كالخراج والجزية، وأما المأخوذ بقتال فيُسمَّى غنيمة؛ (لأنه لا ضرورة إليه ومال بيت المال معد لنوائب المسلمين) وهذا وجه يوجب ثبوت الكراهة على الإمام بخصوصه، والوجه الآخر وهو أن الجعل يُشبه الأجرة، وحقيقة أخذ الأُجرة على الطاعة حرام فما يشبهها مكروه يوجبها على الغازي وعلى الإمام كراهة تسببه في المكروه".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 239)، حيث قال:" (ولا يصح) من إمام أو غيره. (استئجار مسلم) مكلف - ولو قنًّا ومعذورًا - بناءً على الأصح".
وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ القِتَالِ، فَلَيْسَ لَهُ سَهْمٌ فِي الغَنِيمَةِ؛ وَبِهَذَا قَالَ: الجُمْهُورُ)
(1)
.
هذا هو القول الأول في بيان شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة:
ويرى أصحابه: أنه لا بد أن يشهد القتال، ويكفي وجوده في ساحة المعركة، ولو في الخطوط الخلفية، ولا يلزم ممارسته للقتال، أو مشاركته فيه، وقد نسب المؤلف رحمه الله هذا القول لجمهور أهل العلم.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا لَحِقَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَجَبَ لَهُ حَظُّهُ مِنَ الغَنِيمَةِ؛ إِنِ اشْتَغَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ)
(2)
.
هذا هو القول الثاني في بيان شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة، ويرى أصحابه - ومنهم الإمام أبو حنيفة؛ كما ذكر
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191، 192)، حيث قال:" (وقسم) الإمام (الأربعة) الأخماس الباقية (لحر) ذكر (مسلم بالغ عاقل حاضر) للقتال صحيح على تفصيل يأتي في قوله، ومريض شهد. . . إلخ. (كتاجر، وأجير إن قاتلًا)، وإلا فلا، ولو شهدا صف القتال (أو خرجا بنية غزو)، ولو لم يقاتلا".
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 145)، حيث قال:" (والأخماس الأربعة)، أي: الباقي منها بعد السلب والمؤن (عقارها ومنقولها للغانمين) للآية وفعله صلى الله عليه وسلم (وهم من حضر الوقعة)، يعني: قبل الفتح ولو بعد الإشراف عليه (بنية القتال وإن لم يقاتل)، أو قاتل، وإن حضر بنية أخرى لقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة ولا مخالف لهما من الصحابة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:" (ثم يقسم) إمام (الباقي) بعد ما سبق (بين من شهد الوقعة)، أي: الحرب (لقصد قتال) قاتل أو لم يقاتل، حتى تجار العسكر وأجراؤهم المستعدين للقتال. لما روي عن عمر أنه قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 481)، حيث قال:" (قوله وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم)، أي: المدد (فيها) ".
المؤلف رحمه الله: أنه يكفي أن يلحق بجيش المسلمين قبل أن يصلوا بالغنيمة إلى أرض المسلمين، مع بذله لأي جهد في تحصيل هذه الغنيمة، ولو حملها أو حراستها. . . إلخ.
ولا يلزم أن يشهد القتال، ولا أن يحضر ساحة المعركة.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ سَبَبَانِ: القِيَاس، وَالأَثَرُ).
يذكر المؤلف رحمه الله هنا سببينِ للاختلاف بين الإمام أبي حنيفة، وبين جمهور أهل العلم في شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة.
* قوله: (أَمَّا القِيَاسُ: فَهُوَ هَلْ يُلْحَقُ تَأْثِيرُ الغَازِي فِي الحِفْظِ بِتَأْثِيرِهِ فِي الأَخْذِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ القِتَالَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الأَخْذِ (أَعْنِي: فِي أَخْذِ الغَنِيمَةِ)، وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ، وَالَّذِي جَاءَ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بِلَادِ المُسْلِمِينَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الحِفْظِ. فَمَنْ شَبَّهَ التَّأْثِيرَ فِي الأَخْذِ؛ قَالَ: يَجِبُ لَهُ السَّهْم، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ القِتَالَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الحِفْظَ أَضْعَف، لَمْ يُوجِبْ لَهُ).
ها هو المؤلف رحمه الله يشرح السبب الأول - وهو القياس - للاختلاف بين الإمام أبي حنيفة، وبين جمهور أهل العلم في شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة.
وبيان ذلك: أن أبا حنيفة يرى قياس الذي حفظ الغنيمة، على مَن أخذها؛ فكلاهما يتساوى في استحقاق سهمٍ منها.
أما جمهور الفقهاء فلا يعتدون بهذا القياس؛ وإنما يرون أن الذي يحفظها لم يبذل مثل بذل من أخذها بالقتال في أرض المعركة؛ فذهبوا للتفريق بينهما في مقدار ما يستحقانه من الغنيمة.
* قوله: (وَأَمَّا الأَثَر، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَثَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ).
ثم يتنقل المؤلِّف رحمه الله لشرح السبب الثاني - وهو الأَثَرُ - للاختلاف
بين الإمام أبي حنيفة، وبين جمهور أهل العلم في شرط استحقاق المقاتل لسهمه من الغنيمة.
* قوله: (أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنَ المَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بخَيْبَرَ بَعْدَمَا فَتَحُوهَا، فَقَالَ أَبَانٌ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "
(1)
).
ووجه استدلالهم: في هذا الحديث جواز طلب الرجل أن يُسْهم له من الغنيمة إذا قدم قبل القسمة وإن لم يشهد الواقعة.
* قوله: (وَالأَثَرُ الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْهَا"
(2)
).
فَاحتجُّوا بهذا على وُجُوب القَسْم لِمَن لَحِق الجيش قبل القسم.
* قوله: (قَالُوا: فَوَجَبَ لَهُ السَّهْمُ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ كَانَ بِسَبَبِ الإِمَامِ).
(1)
أخرجه البخاري تعليقًا (4238)، وَوَصله أبو داود (2723) عن الزهري، قال: أَخْبَرني عنبسة بن سعيد أنه سمع أبا هريرة، يخبر سعيد بن العاص قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان على سريةٍ من المدينة قبل نجد، قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف، قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله، لا تقسم لهم. قال أبان: وأنت بهذا يا وبر، تحدر من رأس ضأن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أبان، اجلس"، فلم يقسم لهم"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود".
(2)
أخرجه أبو داود (2726)، واللفظ له، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"، والسبب في تغيُّب عثمان: حديث أخرجه البخاري (3130)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إنَّما تغيب عثمان عن بدرٍ، فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضةً، فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لك أجرَ رجلٍ ممن شهد بدرًا وسهمه".
وأجَابَ على ذَلكَ بعض العلماء بأنَّ هذا خاصٌّ بعثمان رضي الله عنه؛ لأنه كان ممرض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قوله:"حاجة الله وحاجة رسوله"، يريد بذلك حاجة عثمان في حق الله وحق رسوله، ومن احتجَّ بهذا في وجوب القسم لمَنْ لحق الجيش قبل القسم، فهو غير مصيب؛ وذلك أنَّ عثمان رضي الله عنه كان بالمدينة، وهذا القائل لا يقسم لمَنْ كان في المصر، فلا موضع لاستدلاله فيه.
* قوله: (قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ المُنْذِرِ: "وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ"
(1)
).
إجماع العلماء أن الأربعة الأخماس لمَنْ شهد الوقيعة من الرجال البالغين منهم
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا السَّرَايَا الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ العَسَاكرِ، فَتَغْنَم، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ العَسْكَرِ يُشَارِكونَهُمْ فِيمَا غَنِمُوا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الغَنِيمَةَ وَلَا القِتَالَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"وَتُرَدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعَدَتِهِمْ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(3)
، وَلِأَنَّ لَهُمْ تَأْثِيرًا أَيْضًا فِي أَخْذِ الغَنِيمَةِ).
المُتَسرِّي: هو الَّذي يخرج في السَّريَّة، ومَعْناه: أن يخرجَ الجيش، فيُنِيخُوا بقرب دار العدو، ثمَّ ينفصل منهم سرية، فيغنموا، فإنهم يردُّون ما
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 152)، حيث قال:"عن طارق بن شهاب، أن عمر كتب إلى عمار أن الغنيمة لمن شهد الوقعة".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 342).
(3)
أخرجه أبو داود (2751) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، يردُّ مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(2208).
غنموه على الذين هم ردء لهم لا ينفردون به، فأما إذا كان خروج السرية من البلد، فإنهم لا يردون على المقيمين في أوطانهم شيئًا.
* قوله. (وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "إِذَا خَرَجَتِ السرِيَّةُ بِإِذْنِ الإِمَامِ مِنْ عَسْكَرِهِ خَمَّسَهَا، وَمَا بَقِيَ فَلِأَهْلِ السَّرِيَّةِ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ خَمَّسَهَا، وَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَ أَهْلِ الجَيْشِ كُلِّهِ"
(1)
. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: "الإِمَامُ بِالخِيَارِ؛ إِنْ شَاءَ خَمَّسَ مَا تَرُدُّ السَّرِيَّة، وَإِنْ شَاءَ نَفَّلَهُ كلَّهُ")
(2)
.
والمراد هاهنا هو بيان حُكم الغنيمة التي تُحرِزُها السريَّة في القتال، والحُكم في هذه المسألة يختلف ما بين حالتين: فإما أن تكون هذه السرية قد خرجَت بإذن الإمام، وإما أن تكون قد خرجَت دون إذنه.
وهذه المسألة فيها أقوال متعددةٌ، سيعود المؤلِّف إلى بيانها وتناوُلِها تفصيلًا، ولكن الحُكم فيها على وجه الإجمال كما يلي:
•
ما تحرزه السرية من الغنيمة عند خروجها بإذن الإمام:
فإذا خرج الإمام للقتال ودخَلَ دارَ الحرب وأرسَلَ بين يديه سريَّةً من السرايا، فإن هذه السرية إذا غنِمَت شيئًا، فحينئذٍ يأخذ الإمام خُمُسَ ما غَنِمَتْهُ ثم أعطاهم ما تبقى منه، والعلماء يختلفون في هذه القسمة، فمنهم مَن يرى أن الإمام يأخذ الخُمُسَ ثم يعطي السرية رُبُعَ ما تبقى ثم يوزع الباقي بين الجيش والسرية، وهذا يكون في حالة البداءة التي سيَعرِضُ لها المؤلِّفُ آنفًا، وهناك حالة أُخرى وهي حالة الرجعة، وفي حالة الرجعة هذه تختلف القسمة عن حالة البداءة، وهذا كله سيتناوله المؤلِّف بالشرح.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 156)، حيث قال:"وقال الحسن البصري غير ذلك قال: إذا خرجت السرية بإذن الأمير، فما أصابوا من شيء خمسه الإمام، وما بقي فهو لتلك السرية، وإذا خرجوا بغير إذنه خمسه الإمام، وكان ما بقي بين الجيش كلهم".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 157)، حيث قال:"وقال النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبوا المغنم، إن شاء الإمام خمسه، وإن شاء نفلهم كله".
•
ما تُحرزه السريَّة من الغنيمة عند خروجها بدون إذن الإمام:
وفي هذه الحالة يكون الإمام بالخيار، بحيث إن له آنذاك أن يأخذ الخُمُسَ ثم يوزِّع الباقي بين الجيش والسرية، وله خلاف ذلك أيضًا كما سيأتي تفصيله آنفًا.
* قوله: (وَالسَّبَبُ أَيْضًا فِي هَذَا الاخْتِلَافِ هُوَ تَشْبِيهُ تَأْثِيرِ العَسْكَرِ فِي غَنِيمَةِ السَّرِيَّةِ بِتَأْثِيرِ مَنْ حَضَرَ القِتَالَ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ السَّرِيَّةِ).
والمراد هاهنا من كلام المؤلِّف رحمه الله أن الجيش وإن لم يقاتل مع السرية إلا أنه كان ردءًا لها، ولذا فإن للعسكر تأثيرًا في هذه الغنيمة التي غنمَتها السرية؛ لأنه كان آنذاك بمثابة مَن يحفظها أثناء قتالها.
* قوله: (فَإِذَنْ، الغَنِيمَةُ إِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الجُمْهُورِ لِلْمُجَاهِدِ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ).
مراد المؤلف رحمه الله هاهنا أن هذا الكلام إنما هو خلاصة القول في المسألة.
فجمهور أهل العلم ذَهَبَ إلى أن المجاهِدَ إنما يستحق الغنيمةَ إذا توفَّرَ فيه أحَدَ شرطَين، وهما:
* قوله: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ حَضَرَ القِتَالَ)
(1)
.
(1)
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (3/ 179)، حيث قال:"قال سحنون: إذا أتى العدو بلد الإسلام فظفرنا بهم فالغنيمة لمن شهد الوقعة حسب ما حضر من فارس أو راجل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 145)، حيث قال:" (والأخماس الأربعة)، أي: الباقي منها بعد السلب والمؤن (عقارها ومنقولها للغانمين) للآية وفعله صلى الله عليه وسلم (وهم من حضر الوقعة)، يعني: قبل الفتح ولو بعد الإشراف عليه (بنيَّة القتال وإن لم يقاتل)، أو قاتل، وإن حضر بنيَّة أُخرى لقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة ولا مخالف لهما من الصحابة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:" (ثم يقسم) إمام (الباقي). . (بين من شهد الوقعة)، أي: (لحرب القصد قتال) قاتل أو لم يقاتل".
وهذا الشرط الأول محلُّ اتفاقٍ بين أهل العلم بحيث لا ينازع فيه أحدٌ، وهو أن مَنْ حضَرَ القتالَ وأَسهَمَ فيه فإنه يستحقّ سهمه من الغنيمة، وكذلك مَن كان من المجاهِدِينَ الغازين ولم يدخل المعركة فإنه كذلك يستحقّ نصيبه من الغنيمة، كلّ هذا متفَقٌ عليه.
أما الخلاف في هذه المسألة فإنه - كما مَرَّ معنا - يدور حول التجار والأجراء المصاحِبِين للغزاة.
* قوله: (وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رِدْءًا لِمَنْ حَضَرَ القِتَالَ)
(1)
.
وهذا هو الشرط الثاني، الذي إذا توافر في المجاهِدِ كان سببًا في استحقاقه نصيبًا من الغنيمة.
والمراد من هذا الشرط: أن الجيشَ يكون رِدءًا للسرية وحافظًا لها إذا ما تقدَّمَت هذه السرية بإذن الإمام وأغارَت على الأعداء، وظفرَت منهم بشيءٍ؛ لأن الجيش حينئذٍ يكون حافظًا لهذه السرية ومَدَدًا لها، مما يكون سببًا في استحقاقه مشارَكة السرية فيما تغنمه.
* قوله: (وَأَمَّا كمْ يَجِبُ لِلْمُقَاتِلِ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الفَارِسِ، فَقَالَ الجُمْهُورُ: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَه، وَسَهْمَان لِفَرَسِهِ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "لِلْفَارِسِ سَهْمَان، سَهْمٌ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٌ لَهُ")
(3)
.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 481)، حيث قال:" (قوله وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم)، أي: المدد (فيها) ".
(2)
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 193)، حيث قال:" (و) يسهم (للفرس مثلًا) سهم (فارسه) فللفرس سهمان ولراكبه سهم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 147)، حيث قال:"فيسهم لمالكه (ثلاثة) واحد له واثنان لفرسه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 644)، حيث قال:"وللفارس على فرس عربي ويُسمَّى العتيق ثلاثة) أسهم، سهم له وسهمان لفرسه".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 493)، حيث قال:" (فعند أبي حنيفة) وزفر (للفارس سهمان وللراجل سهم وعندهما) وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم (للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم) ".
أقوال العلماء في حُكْمِ ما يستحقه الغانمون من الغنيمة:
القول الأول: أن الفَرَسَ يُعطَى سهمان والفارس يُعطَى سهمًا، بحيث يأخذ الذي يقاتل على فَرَسٍ ثلاثة أسهُم، ويأخذ الذي يقاتل راجلًا سهمًا واحدًا، وهذا القول هو ما ذهبَ إليه جمهور أهل العلم، وهم الأئمة الثلاثة مالكٌ
(1)
، والشافعيُّ
(2)
، وأحمدُ
(3)
.
القول الثاني: أن الفارس يأخذ سهمين، والراجل يأخذ سهمًا واحدًا، بحيث يجب ألا يزيد نصيب الفَرَس عن نصيب الفارس، وبهذا القول قال أبو حنيفة
(4)
.
فمحل الخلاف إذن: إنما هو في نصيب الفارس، أما نصيب الراجل فمحلّ اتفاقٍ بين القولين، بحيث ذهب الجمهور إلى إعطاء الفارس سهمًا له وسهمين لفرسه، أما أبو حنيفة فذهب إلى إعطاء الفارس سهمًا له وسهمًا لفرسه.
وقد سبق أن أَشَرْنَا إلى أنَّ مَن العلماء مَن قال بأن الفارس لا يأخذ إلا على فرسٍ واحدٍ، ومنهم مَن قال بأنه لا يأخذ إلا على اثنين، فعلى القول بأن الفارس يأخذ عن فرسين فلو أنَّ إنسانًا قاتل على فَرَسٍ وأعطَى فرسًا لغيره كي يقاتِل عليه، فإنه حينئذٍ - على مذهب الجمهور - يستحقّ خمسة أسهُمٍ، بحيث يأخذ سهمين عن الفرس الذي قَاتَلَ عليه وسهمين عن الفرس الذي أعطاه لغيره وسهمًا له، فيكون المجموع حينئذٍ خمسةَ أسُهمٍ.
دليل مذهب الجمهور في المسألة:
الحديث الصحيح المتَّفَق علية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جَعَلَ للفَرَس سهمَين، وجَعَلَ لصاحبه - يعني: للفارس - سهمًا واحدًا"
(1)
.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الآثَارِ، وَمُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِلْأَثَرِ).
فكلُّ فريقٍ من الفريقين قد استدَلَّ على قوله بنصوصٍ من السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ:
أما أبو حنيفة رحمه الله فقد استدلَّ بدليلِ وَرَدَ فيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الفارسَ سهمين، سهمًا له وسهمًا لفرَسه"
(2)
، فوقَفَ أبو حنيفة عند هذا النصِّ وجَعَلَهُ حُجَّةً له في المسألة.
وأما جمهور أهل العلم: فإنما استدلّوا بعدة أحاديث، منها حديث عبد الله بن عمر السابق المتفَق عليه والذي ورَدَ في "الصحيحين"، وكذلك استدلوا بحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين، وللفارس سهمًا"
(3)
.
ومن أدلتهم أيضًا: ما ورَدَ في يوم خيبر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أخوين ستة أسهُمٍ، سهمين لهما وأربعةً لفرسيهما"
(4)
، وكل هذه الأحاديث
(1)
أخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1762).
(2)
لم اقف عليه مسندًا.
وإنما ذكره السرخسي في المبسوط (10/ 41)، حيث قال:"في حديث كريمة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها المقداد - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم "أسهم له يوم بدر سهمين سهمًا له وسهمًا لفرسه".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 488) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا، فكان للرجل، ولفرسه ثلاثة أسهم".
(4)
أخرجه الطيالسي في "مسنده"(2/ 667) عن أبي حازم الغفاري، قال: حدثني مولاي أبو رهم، قال: حضرت حنينًا أنا وأخي، ومعنا فرسان "فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لنا أربعة أسهم ولي ولأخي سهمين" فبعنا سهمين من حنين ببكرين. وضعفه ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(4/ 599).
التي استدلَّ بها جمهور العلماء هي أحاديث صحيحةٌ ثابتةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ردُّ جمهور أهل العلم على دليل أبي حنيفة:
أن هذا الحديث الذي استدلَّ به أبو حنيفة إنما قد تكلَّمَ فيه العلماءُ وتأوَّلوه، بل قد اعتبروه ليس صريحًا، كما أنه انفرَدَ به راويه، وكذلك فإن هذا الحديث تتطرق إليه عدة احتمالاتٍ ذكرَهَا العلماء تفصيلًا، بخلاف حديث عبد الله بن عمر الذي له من كثرة الشواهد ما يقترب به على الوصول إلى حَدِّ التواتُرِ.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ خَرَّجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِلْفَرَسِ، وَسَهْمٌ لِرَاكِبِهِ"
(1)
.
وهذا القول من المؤلِّف فيه نظرٌ لا شكَّ؛ لأنه قد يوهِمُ بأن أبا داود رحمه الله انفرَدَ بتخريج هذا الحديث، فالعبارة ليست بالسديدة، وإنما خَرَّجَ هذا الحديثَ البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما، ومعهما خرَّجَه أبو داود في "سُنَنِهِ"، وأحمدُ في "مُسنَدِهِ"
(2)
، وغيرهم كثيرٌ
(3)
، وإذا كان الحديث في "الصحيحين" فلا يجدُرُ حينئذٍ أن نقول:(خرجه أبو داود)، وإنما نذكُرُ أبا داود مع ذِكرِنَا للصحيحين، فكان ينبغي على المؤلِّفِ الإشارة إلى وجود الحديث في "الصحيحين"؛ لأن هذا إنما هو ميزةٌ للحديث وترجيحٌ له على غيره من الأدلة عند التعارُضِ.
(1)
أخرجه أبو داود (2733)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وأخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1762) عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا".
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(4448).
(3)
أخرجه الترمذي (1554)، وابن ماجه (2854).
* قوله: (وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ حَارِثَةَ الأَنْصَارِيِّ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ).
يعني: أن أبا داود خَرَّجَ هذا الحديث عن مجمع بن حارثة
(1)
الأنصاري بما يُستَدَلُّ به لقول أبي حنيفة، وهو:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى سهمًا للفرس وسهمًا لغيره"
(2)
.
وقد تَكَلَّمَ أبو داود عن هذا الحديث وذَكَرَ أن الذي وردَ فيه إنما هو ثمانية عشر سهمًا، وأن الرجال كانوا ألفًا وخمسمائة
(3)
.
وقال بعض العلماء: بل كانوا ألفًا وأربعمائة
(4)
، وقال البعض: إن الفرسان كانوا مائتين لا ثلاثمائة، فإذا كان الفرسان مائتين، وكان الرجال ألفًا وثلاثمائة؛ فحينئذٍ يكون هذا الحديث موافقًا لأدلة الجمهور التي هي أقوى منه.
وقد اقتَصرَ المؤلِّفُ في ذِكر أدلة الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما،
(1)
جارية.
(2)
أخرجه أبو داود (2736) عن مجمع بن جارية الأنصاري، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا على راحلته عند كراع الغميم، فلما أجتمع عليه الناس قرأ عليهم:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} ، فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: "نعم، والذي نفس محمد بيده إنه لفتح".
فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين، "وأعطى الراجل سهمًا".
(3)
يُنظر: "السنن" لأبي داود (3/ 76)، حيث قال:"حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: "ثلاثمائة فارس". وكانوا مائتي فارس".
(4)
أخرجه البخاري (4154) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفًا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
وإلا فإن مذهب الجمهور تشهد له أدلةٌ أُخرى كما ذَكَرْنَا، كحديث ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
، وحديث الأخوين يوم خيبر
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ المُعَارِضُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الفَرَسِ أكْبَرَ مِنْ سَهْمِ الإِنْسَانِ).
وهذا القياسُ الذي أورَدَهُ المؤلِّفُ غير مسلَّم به؛ لأنه قياسٌ في معارَضة الدليل الصحيح، والأصل عند العلماء المُحقِّقِين أنه لا قياسَ صحيح يعارِضُ نَصًّا صحيحًا.
كما أن هناك فرقًا بين مَن يقاتِلُ على قدميه ومَن يقاتِلُ على ظَهر فَرَسٍ؛ لأن للفرس أثرًا أكبر في القتال والمواجَهة، وقد وَرَدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير"
(3)
.
هذا إلى جانب ما يحتاج إليه الفرس من النفقة والعناية، فإن الذي يحتاجه الفرسُ في هذا الصَّدَدِ - لا شكَّ - أنه أكثر مما يحتاجه الإنسان، فالفرس في حاجةٍ دائمةٍ للعناية والرعاية والمتابَعة، وكل هذه الأُمور تحتاج إلى نفقاتٍ، ولذلك كانت الزيادة في سَهْمِ الفَرَسِ.
* قوله: (هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَرْجِيحِ الحَدِيثِ المُوَافِقِ لِهَذَا القِيَاسِ عَلَى الحَدِيثِ المُخَالِفِ لَه، وَهَذَا القِيَاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ).
وهاهنا يعود المؤلِّفُ لِيُضعِّفَ بنفسه هذا القياسَ الذي أورَدَهُ في مقابَلة النَّصِّ الصحيح، وهو ضعيفٌ بالفعل كما ذَكَرَ.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 488) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا، فكان للرجل، ولفرسه ثلاثة أسهم".
(2)
أخرجه الطيالسي في "مسنده"(2/ 667) عن أبي حازم الغفاري، قال: حدثني مولاي أبو رهم، قال: حضرت حنينًا أنا وأخي، ومعنا فرسان "فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لنا أربعة أسهم ولي ولأخي سهمين" فبعنا سهمين من حنين ببكرين. وضعفه ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(4/ 599).
(3)
أخرجه البخاري (2850)، ومسلم (1873).
* قوله: (لِأَنَّ سَهْمَ الفَرَسِ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ الفَارِسُ بِالفَرَسِ، وَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ الفَارِسِ بِالفَرَسِ فِي الحَرْبِ ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ تَأْثِيرِ الرَّاجِلِ).
وهذا التعليل الذي يورِدُهُ المؤلِّفُ هاهنا في ضعف القياس السابق هو تعليلٌ صحيحٌ مُسَلَّمٌ، فالقياس من ناحيةٍ لا يُنظَرُ إليه؛ لكونه قياسًا مع النَّصِّ، ومن ناحيةٍ أُخرى فإن هذا القياس ضعيفٌ في نفسه، لأن الإنسان عندما يُقاتِلُ فوق ظهر الخَيل فإنه يصول ويجول ويخترق الصفوف ويذهب يَمنةً وَيسرةً مما يؤثر على العدوِّ ويزيد النكاية
(1)
فيه بصفة لا تكون فيمن يقاتِل على قدميه.
* قوله: (بَلْ لَعَلَّهُ وَاجِبٌ).
وهاهنا يُرادُ بالوجوب: الثبوت، فقوله:(لعله واجبٌ)، أي: لعله ثابتٌ.
ومجيء الواجب بمعنى الثابت قد وَرَدَ في كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، أي: ثبتَتْ جنوبُها واستقرَّت على الأرض.
* قوله: (مَعَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَثْبَتُ)
(2)
.
وكأنَّ المؤلِّف هاهنا رجَعَ وخالَفَ قولَه الأولَ، فإنه فيما مضى قال:(خرجه أبو داود). ثم إذا به يقوله هاهنا: (أَثْبَتُ).
(1)
نكيت في العدو نكاية، إذا قتلتَ فيهم وجَرحت. انظر:"الصحاح" للجوهري (6/ 2515).
(2)
أخرجه أبو داود (2733) عن ابن عمر، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له وسهمين لفرسه"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وأخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1762) عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا".
والنهج الذي وَضَعَهُ المؤلِّفُ لنفسه في هذا الكتاب أنه إذا قال عن الحديث: (إنه ثابتٌ)، فإن هذا الحديث إما أن يكون في "الصحيحين" أو في أحدهما، ولذا فإن قولَهُ هاهنا:(أَثْبَتُ) يرفَعُ ما في قوله الأول من إيهام انفراد أبي داود بتخريج الحديث.
* قوله: (وَأَمَّا مَا يَجُوزُ لِلْمُجَاهِدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الغَنِيمَةِ قَبْلَ القَسْمِ، فَإِنَّ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الغُلُولِ"
(1)
.
وهذه المسألة من المسائل شديدة الأهمية، وإن كان المؤلِّفُ سيذكرها هاهنا على سبيل الإيجاز، إلا أننا سنُفصل المقالَ فيها، وكذلك سنفعل في كلِّ مسألةٍ نرى أن المقام يستدعي بيانها وجلاء ما بها من الغموض.
و"الغلول"
(2)
: هو أَخْذُ الإنسانِ شيئًا من الغنيمة غير الشيء المسموح له به.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 451)، حيث قال:" (قوله وينبغي للمسلمين)، أي: يحرم عليهم أن يغدروا أو يغلوا أو يمثلوا، والغلول: السرقة من الغنيمة، والغدر: الخيانة ونقض العهد".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 179)، حيث قال:" (الغُلول) بضم الغين المعجمة، أي: الخيانة من الغنيمة قبل حوزها، وليس منه أخذ قدر ما يستحق منها إذا كان الأمير جائرًا لا يقسم قسمة شرعية فإنه يجوز إن أمن على نفسه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 443)، حيث قال:"وفي كلام التاج ابن الفركاح أن الغلول في الغنيمة يحرم ما كانت الغنيمة تقسم على الوجه المشروع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 646)، حيث قال:" (والغال وهو من كتم ما غنم أو) كتم (بعضه لا يحرم سهمه) من الغنيمة لوجود سبب استحقاقه، ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا دل عليه قياس فبقي بحاله، ولا يحرق؛ لأنه ليس من رحله (ويجب حرق رحله كله وقت غلوله) ".
(2)
الغلول في المغنم: أن تخفي منه ولا ترده إلى القسم انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص 679).
بمعنى: أن يُبقِيَ في حيازته شيئًا من الغنيمة خفيةً.
والغلول من جُملَةِ المُحَرَّمات، بل إنه يكون نارًا على صاحبه وعارًا عليه يوم القيامة؛ لأنَّ الغالَّ قد اعتدى على حقٍّ عامٍّ للمسلمين لينفَرِدَ به، ولذا فإن الله عز وجل قال في كتابه الكريم:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حَذَّرَ من ذلك أيضًا وبَيَّنَ خطورتَه في أحاديث عدة كما سيأتي معنا.
كما أن الغلول يُعَدُّ من القوادح
(1)
في عدالة فاعله؛ لأنه إنما أخفى ما لا يجوز إخفاؤه، وأخَذَ ما لا يجوز أَخْذهُ بغير حَقٍّ.
* قوله: (لِمَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"أَدِّ الخَائِطَ وَالمَخِيطَ"
(2)
).
وهذا الحديث فيه ما فيه مِن بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله:"أدُّوا الخيطَ والمخيط"
(3)
، إنما هو تعبيرٌ بالغ الدقة؛ لأن هذا الخيطَ الرفيعَ وهذا المخيط اللذين يُتَسامَحُ فيهما عادةً إذا وَجَبَ على الإنسان رَدُّهُما إلى المَغنَم وحَرُمَ عليه أَخْذُهُمَا بغير وجه حقٍّ فإن ما يزيد عنهما يَحْرُمُ أَخْذُهُ ويكون واجبَ الرَّدِّ من باب أَوْلَى.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام السرقة قال: "لَعَنَ اللَّهُ السارقَ، يَسرِق الحبلَ فتُقطَع يَدُه، وَيسرِق البيضةَ فتُقطَع يَدُه"
(4)
، مما يدلُّ على خسة
(5)
نفس السارق وحقارتها؛ لأنه قد يذل نفسه من أجل أشياءَ
(1)
قدح في عرض أخيه يقدح قدحًا: عابه. وقدح في ساق أخيه: غشه وعمل في شيء يكرهه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 555).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2850)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(985).
(3)
السابق.
(4)
أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" قال الأعمش: "كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يسوى دراهم".
(5)
"الخسيس": الدنيء. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 922).
تافهةٍ لا تستحق في الحقيقة أن يُغضِبَ الإنسان رَبَّهُ ولا أن ينال العقوبتين الدنيوية والأُخروية من أجلها، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السارقَ الذي يَسرق الشيءَ التَّافهَ البسيطَ الذي يورده المهالك.
وفي هذا دلالةٌ على عدم جواز الغلول، وأن الغالَّ ينبغي عليه أن يبادرَ بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى ورَدِّ ما عصَبَهُ وغَلَّهُ إلى المَغنَم، فيما عدا ما وَرَدَ النَّصُّ باستثنائه كما سيأتي.
* قوله: (فَإِنَّ الغُلُولَ عَازرٌ وَشَنَارٌ
(1)
عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذَا البَابِ).
و"الشنار" في اللغة: العار والعيب، ولذا فقد جاء في بعض الروايات:"فإن الغلول نار وشنار"
(2)
، أي: أنه نارٌ تحرق صاحبها يوم القيامة، وهو كذلك شنار وشُنعةٌ في الحياة الدنيا؛ لأن الناس يغمزون الغالَّ ويشتهر بينهم ذِكرُه بأنه يأخذ من المَغنَم بغير حقٍّ ويُخفي منه ما لا يجوز له إخفاؤه، فيتلبَّس بهذه الشُّنعة ويوصف بها بين الناس، ولا شكَّ أن المؤمن ينبغي عليه دائمًا أن ينأى بنفسه عن مثل هذه المواطن، وأن يحافظ دائمًا على المنزلة التي كَرَّمَهُ الله بها ورَفَعَه بها بين الناس.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ الطَّعَامِ لِلْغُزَاةِ مَا دَامُوا فِي أَرْضِ الغَزْوِ).
ومراد هذه المسألة هو ما إذا كان يجوز للغزاة أن يأكلوا من الطعام الذي يجدوه في دار الحرب ويعلفوا منه دوابهم أم لا.
وقول المؤلِّف بوجود الخلاف هاهنا غير مسلَّمٍ به؛ فإنه بقوله هذا
(1)
"الشنار": العيب والعار. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 704).
(2)
أخرجها البزار في "مسنده"(10/ 134). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 337) رواه أحمد، والبزار، والطبراني، وفيه أم حبيبة بنت العرباض، ولم أجد من وثقها ولا جرحها، وبقية رجاله ثقات.
إنما يُوسِّع رقعة الخلاف في المسألة مع أنها يسيرةٌ لا تحتمل هذا، بل إن هذه المسألة في الأصل لا خلاف فيها بين أهل العلم، ولم يخالف فيها إلا الإمام الزهريّ، وبعض العلماء وصَفَ قول الزهري في هذه المسألة بالشذوذ وحَكَى الإجماعَ فيها.
فالعلماء قد اتَّفقوا على جواز أكل الغزاة وإطعام عبيدهم وعلْف دوابهم مما يجدونه في دار الحرب، وهذا القول بالجواز يقول به كافّة أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة
(1)
.
أدلة الجواز:
منها حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: "أَصَبنا يوم خيبر طعامًا، فكان كلُّ واحدٍ منا يأخذ ما يكفيه ثم ينصرف"
(2)
. وفي هذا ما فيه من الدلالة على الأدب الرفيع للصحابة رضوان الله عليهم؛ إذ كان الواحد منهم إنما يأخذ قدر حاجته فقط ولا يزيد عن ذلك، ثم ينصرف.
وكذلك قصة جيش الشام في عهد عمر رضي الله عنه، حينما وجدوا في أرض الشام أنواعًا كثيرةً من الأطعمة ومراعيَ شتَّى، فحينئذٍ كَتَبَ قائد الجيش إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في أن يأكل الغزاة المسلمون من هذه الأطعمة ويعلفوا منها دوابهم، فجاء ردُّ عُمر رضي الله عنه:"دعِ النَّاس يأكلون ما يحتاجون إليه ويعلفوا دوابهم، فمَن باع شيئًا بذهبٍ أو فضةٍ فليردّه إلى الغنيمة"
(3)
.
وفي هذا دليلٌ صارمٌ على جواز الأكل من هذا الطعام وعَلْف
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه أبو داود (2704)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 320) عن هانئ بن كلثوم، أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا فتحنا أرضًا كثيرة الطعام والعلف، فكرهت أن أتقدم على شيء من ذلك إلا بأمرك، فكتب إليه عمر:"أن دع الناس يأكلوا ويعلفوا، فمن باع شيئًا من ذلك بذهب أو فضة فليرده إلى غنائم المسلمين، فقد وجب فيه خمس الله وسهام المسلمين".
الدواب منه، بل حتى إذا تَعَذَّرَ حمل الأطعمة - كما كان في ذلك الوقت - فلهم رخصةٌ عامَّةٌ في بيعها وإيداع ثَمَنِها في الغنيمة.
وسيأتي الكلام أيضًا فيما إذا أخَذَ الإنسان قدرًا من هذه الأطعمة وأكل منه ما أكَلَ ثم تبقى معه ما يزيد عن حاجته، وما إذا كان يرد هذا الفائض حينئذٍ إلى الغنيمة أم يتصبَّر أو يحرقه، فهذا مما اختلف فيه أهل العلم
(1)
، بل إن الاختلاف في مثل هذه المسائل فيه دلالة على شدة ورع الفقهاء - رحمهم الله تعالى - وحرصهم على عدم الوقوع في الشبهات، كما هو الحال دائمًا في حقِّ المسلم الذي ينبغي عليه تَجَنُبُ الوقوع في الشبهات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومَن وقع في الشبهات فقد وقَعَ في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتَعَ فيه"
(2)
، وكذلك
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 234)، حيث قال:"وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (1/ 521)، حيث قال: "قال مالك: سنة الطعام والعلف في أرض العدو أنه يؤكل وتعلف الدواب منه، ولا يستأمر فيه الإمام ولا غيره. قال مالك: والطعام هو لمن أخذه يأكله وينتفع به وهو أحق به.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 169)، حيث قال: "وإذا خرج المسلمون من دار الحرب ومعهم من بقايا ما أخذوه من طعامهم ففي وجوب رده إلى المغنم قولان:
أحدهما: نصَّ عليه كيا هنا أن عليهم رده إلى المغنم لارتفاع الحاجة، فإن استهلكوه كان محسوبًا عليه من سهامهم.
والقول الثاني: نصَّ عليه في سير الأوزاعي، لا يلزمهم رده".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المسائل الفقهية" لأبي يعلى الفراء (2/ 355)، حيث قال:"إذا دخل جيش المسلمين إلى دار الحرب فأصابوا طعامًا كان لهم أكله فإن خرج إلى دار الإسلام ومعه بقية من ذلك الطعام فهل عليه رده إلى المغنم إذا كان يسيرًا أم لا؟ على روايتين".
(2)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومَن وقع في=
قال صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يُريبك إلى ما لا يريبك"
(1)
.
* قوله: (فَأَبَاحَ ذَلِكَ الجُمْهُورُ
(2)
، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ شِهَابٍ)
(3)
.
ومن مصطلحات صاحب الكتاب أنه أحيانًا يقول: (قال به قوم). وهو يقصد بهذا قولًا واحدًا.
وابن شهابٍ الزهري - رحمه الله تعالى - إنما هو تابعيٌّ جليلٌ، ومن أكابر الأئمة ورواة الحديث الذين خدموا سُنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمةً جليلةً، ولكنه قد خالف في قوله هذا عامَّة أهل العلم، فلا شك في شذوذ قوله
= الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلِّ ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
(1)
أخرجه الترمذي (2518) عن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"، وصححه الألباني في "المشكاة"(2773).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 386)، حيث قال:"ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (1/ 521)، حيث قال:"قال مالك: سنة الطعام والعلف في أرض العدو أنه يؤكل وتعلف الدواب منه، ولا يستأمر فيه الإمام ولا غيره".
ومذهب الشافعية، ينظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 257)، حيث قال:" (و) كل (طعام يعتاد أكله عمومًا)، أي: على العموم كما بأصله لفعل الصحابة رضي الله عنهم لذلك رواه البخاري؛ ولأن دار الحرب مظنة لعزة الطعام فيها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 637)، حيث قال:" (و) من أخذ (طعاما ولو سكرًا ونحوه) كحلواء ومعاجين (أو) أخذ (علفًا ولو بلا إذن) أمير (و) لا (حاجة فله أكله".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 179) عن الزهري سمعته يقول: "لا يؤخذ الطعام بأرض العدو إلا بإذن الإمام". قال الزهري: "فإن أذن له الإمام فأخذ منه شيئًا فباعه بذهب أو ورق ففيه الخمس".
في هذه المسألة، حتى إن بعض العلماء حَكَى الإجماع
(1)
فيها واعتبر قوله شاذًّا هاهنا.
ومن المعلوم أن العلماء يختلفون، وقد يأتي عالم من العلماء فيتشدَّدُ في قول من باب الأخذ بالاحتياط ويتمسَّك بقوله هذا في مسألةٍ من المسائل، بل إن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يختلفون كذلك، وهم أجلُّ الناس وأفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي تَحْرِيمِ الغُلُولِ؛ لِلْآثَارِ الوَارِدَةِ فِي إِبَاحَةِ أكْلِ الطَّعَامِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ المُغَفَّلِ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى).
والمؤلف هاهنا قد عَبَّر عن الأحاديث بالآثار، وهو تعبيرٌ خاطئٌ منه، فالأثر قد يُطلَقُ على الحديث، ولكن الأصل في اصطلاح أهل العلم: أن الحديث المرفوع يقال عنه: حديث، أما الموقوف على الصحابة فهو ما يُطلَقُ عليه:(الأثرُ)
(2)
.
* قوله: (فَمَنْ خَصَّصَ أَحَادِيثَ تَحْرِيمِ الغُلُولِ بِهَذ، أَجَازَ أكْلَ الطَّعَامِ لِلْغُزَاةِ، وَمَنْ رَجَّحَ أَحَادِيثَ تَحْرِيمِ الغُلُولِ عَلَى هَذَا، لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ).
وهذا التخصيص يبدو في حديث عبد الله بن أبي أوفى.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 340)، حيث قال:"وأجمع جمهور المسلمين على إباحة أكل طعام الحربيين في أرض الحرب (يأخذون) منه قدر حاجتهم".
(2)
يُنظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 203)، حيث قال:"وعند فقهاء خراسان تسمية الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر قال أبو القاسم الفوراني منهم: الفقهاء يقولون: الخبر ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم والأثر ما يروى عن الصحابة. وفي نخبة شيخ الإسلام: ويقال للموقوف والمقطوع: الأثر. قال المصنف زيادة على ابن الصلاح (وعند المحدثين كل هذا يُسمَّى أثرًا) ".
* قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ هُوَ قَالَ: "أَصَبْتُ جِرَابَ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ").
و"الجراب": هو إناء من جِلد يُحفظ فيه الزاد، بحيث يضع فيه بعض الناس عسلًا، ويضع فيه بعضهم تمرًا، وبعضهم يضع فيه سمنًا، وغير ذلك من أنواع الأطعمة. كما يُطلَق الجراب أيضًا على الحافِظِ الجلديِّ الذي يوضع فيه السيفُ.
* قوله: (فَقُلْتُ: "لَا أُعْطِي مِنْهُ شَيْئًا، فَالتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ"، خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ
(1)
وَمُسْلِمٌ).
وهذا لا شكَّ أنه من تمام حُسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قالت عائشة رضي الله عنها لما سُئلَت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم قالت:"كان خُلقه القرآن"
(2)
؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في أخلاقه وتعاملاته يُمثِّل القرآنَ الذي أُنزِل عليه، كما قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} .
وهذه الرأفة والرحمة والعطف تتجلَّى هاهنا في موقفه من عبد الله بن مغفل رضي الله عنه حينما وجدَ هذا الجراب من الشحم
(3)
فقال: "لا أعطِي منه شيئًا"
(4)
. ثم التَفَتَ فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقابله بهذا التبسُّم الرحيم من جانبه، كما كان نهج الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا، ونهج الصحابة الذين تربوا في مدرسته ونهلوا من مشكاته وتأثروا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، والذين كان رسول الله
(1)
أخرجه البخاري (3153) ومسلم (1772) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، قال:"كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه".
(2)
أخرجه مسلم (746)، بلفظ:"فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن".
(3)
"شحم": الشين والحاء والميم أصل يدل على جنس من اللحم. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (3/ 251).
(4)
تقدَّم تخريجه.
دائمًا يغرس فيهم هذه الأخلاق، كقوله لهم:"أقربُكُم منِّي منزلةً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا"
(1)
، وكقوله: "الموطؤون أكنافًا
(2)
، المتواضعون لله، ومَن تواضع لله رفعه"
(3)
، فهذا هو شأن المؤمنين المتصفين بصفات الإسلام، أن يكونوا على مثل هذا التواضع والعطف، فلا يتعالون على الضعفاء والعَجَزَة.
ومعلومٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يبتسم من كلِّ أمرٍ يَعجَبُ منه.
بل إن الله سبحانه وتعالى عَجِبَ من الشاب الذي لا صبوة
(4)
له
(5)
الذي ينشأ على الاستقامة ولا يحيد عنها ولا يميل إلى المعصية، على الرغم من صِغَرِ سِنِّهِ وما يعتري هذا السِّنَّ من المغرِيات والفِتَن.
وإنما تأتي هذه الاستقامة من ملازَمة الصالحين ومجالس الذِّكر والعِلم، وهكذا كان شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وشأن السلف الصالح جملةً أنهم كانوا يحرصون على ملازَمة أبنائهم للصالحين.
ومن أولئك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهو مَن هو في المكانة والمنزلة وسلامة الدِّين، حتى إنه قيل في شأنه:"أبو بكرٍ يوم الردة، وأحمد يوم الفتنة"
(6)
، ولُقِّبَ بإمام السُّنَّةِ رحمه الله تعالى، وكان من عادته رحمه الله أنه كان يحرص على ملازَمة أبنائه للصالحين؛ حتى يستفيدوا من صفاتهم ويكتسبوا من أخلاقهم ويتأثروا بسيرتهم.
(1)
أخرجه الترمذي (2018)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(791).
(2)
أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 443) عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بأكملكم إيمانًا أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون".
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 46) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2328).
(4)
"الصَّبوة": جهلة الفتوة واللهو. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 179).
(5)
أخرجه أحمد في "مسنده"(17371)، وقال الأرناؤوط:"حسن لغيره".
(6)
يُنظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 369)، حيث قال:"وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة".
هذا لأن الشاب إذا لازم أهل الخير والصلاح فلا شك أنه سيتأثر بهم، فالبيئة التي يعيش الإنسان في كنفها
(1)
لا بدَّ أن تؤثِّر فيه، ولذلك ينبغي على المسلم أن يكون هذا شأنه دائمًا، وأن يحرص على ملازمة أبنائه للصالحين، وحينئذٍ يَصلُحُ الابنُ ويستقيم، ويُؤجَر الأب على صنيعه بولده، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} .
* قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: "كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالعِنَبَ فَنَأْكُلُه، وَلَا نَدْفَعُهُ"، خَرَّجَهُ أَيْضًا البُخَارِيُّ
(2)
).
وهذه روايةٌ أُخرى للحديث، فالرواية التي ذكرناها جاء فيها أنهم أصابوا يوم خيبر طعامًا، فكان أحدهم يأخذ منه وينصرف
(3)
، أي: يأخذ منه قدر حاجته ولا يزيد عن ذلك.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الغَالِّ).
ولا شكَّ أن هذا الغالَّ إنما هو معتدٍ وآثمٌ بسبب ما أَكَلَهُ من مال الناس بالباطل، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، وقال تعالى أيضًا:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
أمَّا من يدَّعي أن الآخذ من الغنيمة ليس عليه شيءٌ، ويتعلل بأن بيت المال فيه حقٌّ لجميع المسلمين، فإن قوله هذا لا يُنظَر إليه ولا يُحتَجُّ به، بل إنه من الشُّبَه الباطلة ليس إلا.
فهذا الحق الذي يدَّعِيه إنما هو راجع إلى نظر الإمام وتصرُّفه، فالإمام هو الذي يَنظُر في المصلحة العامَّة، فيُعطِي المحتاجين.
(1)
كنفت الشيء أكنفه، أي: حطته وصنته. وأكنفته، أي: أعنته. والمكانفة: المعاونة. والكنف بالتحريك: الجانب. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1424).
(2)
أخرجه البخاري (3154).
(3)
تقدَّم تخريجه.
ولا يجوز للإنسان أن يأخذ ما يعتقد أنه حقٌّ له إلا من طريقه الشرعيِّ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمَرَنَا أن ندخل البيوت من أبوابها.
ولذا؛ فإن هذا الحقَّ العام قد وضَعَه الله في يد الإمام، بحيث يُنفِقه فيما يراه مصلحة للمسلمين، وفيما تحتاجه الدولة لتقوم به وتقوى دعائمها، كبناء المساجد وشقّ الطرق والترع، وإقامة المشروعات الكبيرة، وغير ذلك مما يخضع لتقدير الإمام واحتياجات الأمَّة.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: يُحْرَقُ رَحْلُهُ
(1)
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ عِقَابٌ إِلَّا التَّعْزِيرُ)
(2)
.
فهاهنا قولان لأهل العلم في عقوبة الغالِّ من الغنيمة:
(1)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 647)، حيث قال:" (ويجب حرق رحله كله وقت غلوله) لحديث سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فاحرقوا متاعه واضربوه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (10/ 50)، حيث قال:"وإن سرق بعض الغانمين شيئًا من الغنيمة لم يقطع لتأكد حقه فيها، ولكنه يضمن المسروق ويؤدب ولا يحرق رحله عندنا".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 179)، حيث قال:" (وأدب) الغال بالاجتهاد (إن ظهر عليه) لا إن جاء تائبًا، (قوله: إلا إن جاء تائبًا)، أي: وأتى بما سرق فلا يؤدب (قوله: ولو بعد القسم وتفرق الجيش) فيه نظر بل الحق أنه إن جاء تائبًا قبل القسم فلا يؤدب، وإن جاء بعده وبعد تفرق الجيش فإنه يؤدب، ويتصدق بما أخذه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 265)، حيث قال:"قلت للشافعي: أفرأيت المسلم الحر أو العبد الغازي. . يغلون من الغنائم شيئًا قبل أن تقسم؟ فقال: لا يقطع ويغرم كل واحد من هؤلاء قيمة ما سرق إن هلك الذي أخذه قبل أن يؤديه وإن كان القوم جهلة علموا ولم يعاقبوا فإن عادوا عوقبوا فقلت للشافعي: أفيرجل عن دابته ويحرق سرجه أو يحرق متاعه؟ فقال: لا يعاقب رجل في ماله، وإنما يعاقب في بدنه وإنما جعل الله الحدود على الأبدان، وكذلك العقوبات فأما على الأموال فلا عقوبة عليها".
القول الأول: أن الغالَّ يُحرَق رَحلُهُ.
هذا لأن الغلول إنما هو خيانة، ولذا فإنه يُحرَق رَحلُ الغالِّ تأديبًا له، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلَّم في حق المتخلفين عن صلاة الجماعة وأنه هَمَّ أن يُحَرِّقَ عليهم بيوتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي فَيَجْمَعُوا حَطَبًا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُون عَنِ الصَّلَاةِ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ"
(1)
، والغالُّ إنما هو من المعتدين؛ لأنه أخذ ما هو حقٌّ له ولغيره، ولذا فإنه هاهنا لا يُقطَعُ بحد السرقة لوجود الشبهة، ولكنه لا يُقَرُّ على فِعِلِه.
القول الثاني: أنه لا يُعاقَب إلا بالتعزير الذي يراه الإمام في حقِّه.
ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد فَرَضَ حدودًا يجب ألا تُتجَاوَزَ، وكذلك وضعَ التعزير كعقوبةٍ متروكةٍ إلى اجتهاد الإمام، بحيث يجتهد فيها ولا يصل بها إلى الحدِّ، كعقوبة الإفساد في الأرض، والتي قال الله سبحانه وتعالى فيها:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
ولا شكَّ أن الجرائم قد كثرَت وتنوَّعَت في زماننا هذا، بل ظَهَرَ منها ما لم يكن موجودًا في الزمان الأول، كالمخدِّرات مثلًا، فيُرجَعُ في هذا كلِّه إلى القاعدة العامة في كلِّ مسكرٍ، وأن كلَّ ما أسكَرَ كثيره فقليله حرامٌ
(2)
؛ هذا لأن من شأن هذه المخدِّرات أن تُضيِّع العقول والأنفُسَ
(1)
أخرجه البخاري (644)، ومسلم (651/ 253) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدوا لى بحزم من حطب، ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم تحرق بيوت على من فيها".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 136)، حيث قال:"اتففوا أن عصير العنب الذي لم يطبخ إذا غُلي وقدف بالزبد وأسكر أن كثيره وقليله والنقطة منه حرام على غير المضطر والمتداوي من علة ظاهرة وأن شاربه وهو يعلمه فاسق وأن مستحله كافر". =
والأموالَ، وتُفسد الأُسَرَ، حتى أن الإنسان بسببها صار يرتكب الجرائم في حقِّ عامة الناس، وكذلك في حقِّ أُمِّه وأُخته، وكل ذلك مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ولا شكَّ أن الذين يجلبون هذه الشرور على الناس يستحقون أشد العقوبات، وهي القتل، وسيأتي إن شاء الله مزيد كلامٍ في هذا الباب عندما نصل إليه.
وخلاصة القول هاهنا: هو انقسام أهل العلم في عقوبة الغالِّ من الغنيمة إلى هذين القولين اللَّذين ذكرناهما، فالقول الأول بأن الغالَّ يُحرَق رَحلُه، والقول الثاني بأن يُعزَّرَ.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ غَلَّ، فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ")
(1)
.
وهذا الحديث قد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"
(2)
، وأبو داود
(3)
، والترمذي
(4)
، والبيهقي
(5)
في سُنَنِهِم، وغيرهم كذلك
(6)
، وبالرغم من تعدد طُرق هذا الحديث إلا أن العلماء قد تكلَّموا فيه
(7)
.
= ويُنظر: "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (1/ 358)، حيث قال:"النبيذ حرام، لأنه مسكر، وكل ما أسكر كثيره فقليله حرام كالخمر".
(1)
سيأتي تخريجه في الشرح.
(2)
حديث (144).
(3)
حديث (2713)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(2/ 348).
(4)
حديث (1461).
(5)
في "الكبرى" حديث (9/ 174).
(6)
أخرجه سعيد ابن منصور في "سننه"(2/ 315)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 530).
(7)
يُنظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص 237)، حيث قال:"وسألت محمدًا عن هذا الحديث، يعني: حديث صالح بن محمد بن زائدة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن وجدتموه غلَّ فاحرقوا متاعه" فضعف محمد هذا الحديث".
لكن لا شكَّ في تحريم الغلول، وأن الله تعالى قد حذَّرَ منه وبيَّنَ خطورته، كما حذَّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحةٍ ثابتةٍ عنه، وأن الغالَّ بالرغم من أنه لا يقام عليه حَدُّ السرقة، إلا أنه لا خلاف بين العلماء في أنه يستحق العقوبة، ولكن الخلاف بينهم فيما إذا كان يعاقَبُ بحَرقِ رحلِهِ من باب العقوبة بالمثل لكي يكون هذا رادعًا له، أو أنه يُعزَّر.
وفي مسألة جواز العقوبة بالحَرْقِ قد ذَكَرْنَا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه قد هَمَّ أن يحرق على المنافِقِين بيوتَهم، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يَهُمُّ إلا بما يجوز له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الأَنْفَالِ
(1)
)
كنا قد ذكرنا الفيء وقول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وكذلك تكلمنا عن الغنيمة وقوله سبحانه وتعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، وهاهنا سيتكلم المؤلِّف عن الأنفال التي ذَكَرَها الله سبحانه وتعالى في مَطلَع سورةٍ كريمةٍ سُمِّيَت بهذا الاسم، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1].
و"الأنفال" هي الغنيمة نفسها، وهي التي جاء إجماع العلماء على
(1)
"النفل": الغنم، والجمع الأنفال، ونفلتك: أعطيتك نفلًا". انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص 877).
تخميسها
(1)
، بخلاف الفيء الذي اختلفوا في تخمسيه.
و"الأنفال" في اللُّغة: جمع (نَفَلٍ)، والنفل معناه: الزيادة، ولذلك تُسَمَّى الصلوات المسنونة بالنوافل، أي: الصلوات الزائدة على الصلوات المفروضات، كما جاء في الحديث القدسي:"مما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ ممَّا افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَهُ الذي يسمع به وبَصَرَهُ الذي يبصر به. . ."
(2)
إلى آخر الحديث القدسيّ الشريف، وكما في قول الله سبحانه وتعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، فإبراهيم عليه السلام قد دعا ربَّه أن يهبه ولدًا صالحًا، فاستجاب له الله سبحانه وتعالى ووهبه إسحاق، ووهبه من ذرية إسحاق يعقوب نافلةً - أي: زيادةً على ما دعا به -، ويعقوب إنما هو والد يوسف عليهم السلام.
والأنفال في الاصطلاح الفقهي، تعني: الزيادة على السهم الذي يأخذه الغانمون
(3)
.
أي: أن الأنفال تدور حول ما إذا كان يجوز للإمام أن يعطي الغانمين عطيةً زائدةً على ما أخذوه أم لا.
* قوله: (وَأَمَّا تَنْفِيلُ الإِمَامِ مِنَ الغَنِيمَةِ لِمَنْ شَاءَ، أَعْنِي: أَنْ يَزِيدَهُ عَلَى نَصِيبِهِ).
أما الإمام فإنما هو نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفةٌ له، ومن المعلوم
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه البخاري (6502).
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 115) حيث قال: النفل عبارة عما خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضًا لهم على القتال، سمّي نفلًا لكونه زيادة على ما يسهم لهم من الغنيمة.
والفرق بين الغنيمة والنفل: أن النفل ينفرد به بعض الغانمين من الغنيمة زيادة على أسهمهم لعمل قاموا به نكاية بالعدو، أما الغنيمة فللجميع. انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (863).
أن الله سبحانه وتعالى قد خَلَقَ الإنسان وأنزله إلى هذه الأرض لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 56 - 58]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]، وكذلك من أجل عمارة الأرض، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وعمارة الأرض يأتي في مقدمتها طاعة الله سبحانه وتعالى، ونشر الفضيلة والعدل والخير بين الناس، ودعوة الناس إلى الدِّين الحق، وإقامة الحياة على الأرض بحرث الأرض وزرعها وتشييد المباني والمصانع وتقوية الدولة الإسلامية بما يعينها على أداء رسالتها التي فرضها الله عليها.
ولا شكَّ أن الإمام له من التصرف في الأُمور ما ليس لغيره، لأنه قائمٌ بأُمور المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتمٌّ بمصالحهم راعٍ لها، ولذا فإنه ينظر لما فيه الخير للأمة كلها.
* قوله: (فَإِنَّ العُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ النَّفْلُ، وَفِي مِقْدَارِهِ؟).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 391)، حيث قال:"ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 190)، حيث قال:" (ونفل) الإمام، أي: زاد (منه)، أي: من خمس الغنيمة خاصة (السلب) بالفتح ما يسلب، ويُسمَّى النفل الكلي وغيره، ويُسمَّى الجزئي فلو أسقط لفظ السلب كان أشمل (لمصلحة) من شجاعة وتدبير".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 145)، حيث قال:" (ويجوز أن ينفل من مال المصالح الحاصل عنده) في بيت المال ويجب تعيين قدره؛ إذ لا حاجة لاغتفار الجهل حينئذ وما اقتضاه كلام المتن من تخييره بين الخمس ومال المصالح يحمل على ما إذا لم يظهر له أن أحدهما أصلح وإلا لزمه فعله (والنفل زيادة) على سهم الغنيمة (يشرطها الإمام أو الأمير) عند الحاجة لا مطلق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 642)، حيث قال: "ويبدأ في قسم بدفع سلب) إلى مستحقه وبرد مال مسلم ومعاهد إن كان وعرف (ثم=
فللإمام أن يعطي الغانمين زيادة على نصيبهم، وليس هذا محلّ خلافٍ بين أهل العلم، ولكن محلّ الخلاف إنما هو في القدر الذي ينفله الإمام للغانم، وكذلك في كيفية هذا التنفيل، وما إذا كان الإمام يعطيه من أصل الغنيمة، أم أنه يعطيه من الخُمُس، وما إذا كان يجوز له أن ينفل الغنيمة كلها أم لا.
* قوله: (وَهَلْ يَجُوزُ الوَعْدُ بِهِ قَبْلَ الحَرْبِ؟).
فالمراد ما إذا كان يجوز للإمام أن يَعِدَ غيره من الناس قبل الحرب بنفَلٍ خاصٍّ أم لا.
وبعض العلماء يذهبون في هذه المسألة إلى عدم الجواز
(1)
بناءً على أن المجاهد مي سبيل الله يبتغي بجهاده وجه الله سبحانه وتعالى، وليس النفل غايةً له في هذا.
ولكنا نقول: إن المجاهد في سبيل الله لا يريد غير وجه الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لا يمنع أو يوعد بالنفل، بحيث يكون هذا الوعد دافعًا له لا غايةً.
* قوله: (وَهَلْ يَجِبُ السَّلَبُ
(2)
لِلْقَاتِلِ؟).
والمراد هاهنا هو هذا السلب الذي يحصل عليه القاتل بعد انتهاء المعركة، فيما إذا كان واجبًا له على وجه الحَتْمِ، أم أنه الأصل فيه أنه له ولغيره كسائر المَغنَم ويأخذه القاتل على وجه الجواز فقط.
= بأجرة جمع) غنيمة (وحمل) ها (وحفظ) ها؛ لأنه من مؤنتها كعلف دوابها (و) دفع (جعل من دل على مصلحة) من ماء أو قلعة، أو ثغرة يدخل منها إلى حصن ونحوه؛ لأنه في معنى السلب. قاله في الشرح. قلت: هذا من النفل، فحقه أن يكون بعد الخمس".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191)، حيث قال:"وحاصله أنه لا يجوز للإمام أن يقول للمجاهدين من قتل قتيلًا فله سلبه؛ لأنه يؤدي لفساد نيتهم".
(2)
"السلب": ما على القتيل من سلاحه وأداته. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 189).
* قوله: (أَمْ ليْسَ يَجِبُ إِلَّا أَنْ يُنَفِّلَهُ لَهُ الإِمَامُ؟ فَهَذ أَرْبَعُ مَسَائِلَ هِيَ قَوَاعِدُ هَذَا الفَصْلِ).
بمعنى: هل السلب واجبًا للقاتل كقاعدةٍ عامَّةٍ حتى ولو لم يَعِد الإمامُ بهذا؟ أم أن أخْذَه يتوقف على تنفيل الإمام بذلك؟
* قوله: (أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: النَّفْلُ يَكُونُ مِنَ الخُمُسِ الوَاجِبِ لِبَيْتِ مَالِ المُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ)
(1)
.
القول الأول: أنه يكون من الخُمُس.
وهذا هو قول الإمام مالكٍ رحمه الله، ومعه جماعةٌ من العلماء على هذا القول
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ النَّفْلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الخُمُسِ، وَهُوَ حَظُّ الإِمَامِ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ)
(3)
.
القول الثاني: أنه يكون من خُمُس الخُمُس.
وهذا القول إنما هو قول الإمام الشافعي رحمه الله.
والمراد بالخُمُس هو ما جاء في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، فهؤلاء الخمسة هم المستحقون لهذا الخُمُس.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 190 - 192)، حيث قال:"اعلم أن النفل هو ما يعطيه الإمام من خمس الغنيمة لمستحقها لمصلحة. . . ولا يرضخ، أي: لا يعطى السهم)، أي: لمن لا يسهم له من الأضداد المتقدمة والرضخ مال موكول تقديره للإمام محله الخمس كالنفل".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 41)، حيث قال:"وهذا يوجب أن يكون النفل من الخمس كما قال سعيد بن المسيب وفقهاء الحجاز".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 144)، حيث قال:" (والأصح أن النفل) بفتح الفاء وإسكانها (يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح) ".
فأما مالكٌ
(1)
فقال بأن النفل يكون من الخُمُس مجتمعًا، وأما الشافعي
(2)
؛ فقال بأنه يكون من خُمُس الخُمُس، وهو الخُمُس الخاصّ بالإمام فقط، دون ما سواه من حَظِّ ذي القُربَى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ النَّفْلُ مِنْ جُمْلَةِ الغَنِيمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(3)
، وَأَبُو عُبَيْدةَ)
(4)
.
القول الثالث: أن النفل يكون من جملة الغنيمة، أي: أنه يُخرَجُ من جملة الغنيمة قبل تقسيمها.
وهذا القول قد قال به الإمام أحمد وأبو عبيد رحمهما الله، و"أبو عبيدة" إذا أُطلِقَ فإنما يراد به أبو عبيدة القاسم، وليس هو المراد هاهنا، فالمراد هاهنا هو (أبو عبيدٍ)، وليس (أبا عبيدة) كما ذَكَرَ المؤلِّف.
* قوله: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَجَازَ تَنْفِيلَ جَمِيعِ الغَنِيمَةِ).
القول الرابع: جواز تنفيل الغنيمة كلها
(5)
.
وهذا قول أكثر العلماء الذين لم يُسَمِّهِم المؤلِّف هاهنا، بأنه يجوز للإمام أن يُنفِّل جميع الغنيمة.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 643)، حيث قال:" (ثم) يبدأ من الأربعة أخماس التي للغانمين (بنفل) بفتح الفاء (وهو)، أي: النفل (الزائد على السهم لمصلحة) لانفراد بعض الغانمين به، فقدم قبل القسمة كالسلب".
(4)
يُنظر: "الأموال" للقاسم بن سلام (ص 404)، حيث قال:"والناس اليوم في المغنم على هذا: أنه لا نفل من جملة الغنيمة حتى تخمس"، وانظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (14/ 108).
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 112)، حيث قال:"هذا خلاف قول مالك، وقول سفيان هم يقولون: النفل من جميع الغنيمة وهذا يضر بأهل الخمس".
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ بَيْنَ الآيَتَيْنِ الوَارِدَتَيْنِ فِي المَغَانِمِ تَعَارُضٌ؟ أَمْ هُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ؟ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41]، وقَوْلَهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآيَةَ [الأنفال: 1].
وهناك أدلَّة قد أشرنا إليها سابقًا، وهو ما جاء في حديث حبيب بن مسلمة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي السرية في البداءة الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلت بعد الخمس"
(1)
. وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
فحالة البداءة معناها: أن الجيش إذا كان وصل إلى دار الحرب أرسَلَ الإمام بين يديه سَرِيَّةً من الجيش تُغِيرُ على الأعداء، فتغنم منهم مغنمًا، وهذا المغنم الذي غنمته السرية يأخذ منه الإمام خُمُسَة، ثم بعد ذلك يعطي أصحاب السرية الرُّبُع، ثم يوزِّع الثلاثة أرباع بين الجيش والسرية.
فالسرية تشارك الجيشَ في المغنم، لأنها هي التي أغارت وظفرت بالغنيمة، بينما الجيش يشارك السرية؛ لأنه كان ردءًا لها يحفظها ومددًا تستعين به في إغارتها على العدو.
أما في حالة الرجعة: فالجيش إذا قَفَلَ راجعًا بعد انتهاء المعركة فإن الإمام يرسل سرية أُخرى تُغِير على العدو، فإذا ظفرت بشيءٍ فإن الإمام يأخذ الخُمُسَ أيضًا، لكنه في هذه الحالة يعطي السريةَ الثُّلثَ، ثم يقسم الثلثين الباقيين بين الجيش وبين السرية.
والسبب في هذا الفرق بين حالة البداءة وحالة الرجعة أمران:
الأمر الأول: أنهم عندما أغاروا في المرة الأولى إنما أخذوا العدو على غرة، حيث لم يكن متهيئًا لقتالهم.
(1)
أخرجه أبو داود (2749)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(2)
تقدَّم تخريجه.
الأمر الآخر: أنه في المرة الأُولى كان الجيش ردءًا لهم يحفظهم ويحميهم، بحيث يمكنه أن ينضم إليهم ويدافع عنهم إذا أحاط بهم العدوّ، بينما في المرة الثانية فإن الجيش يكون قد انصرفَ وبقيت السرية منفردةً أمام عدوها، ولذلك خُصُّوا في هذه الحالة بمزيدٍ من العطية والنفل، وهذا القول تشهد له عدَّةُ أدلة، منها حديث حبيب بن مسلمة الذي ذكرناه.
والمراد من كلام المؤلف هاهنا: هو اختلاف العلماء فيما إذا كانت هاتان الآيتان متعارضتين فيما بينهما، أم أنهما على التخيير، فهناك من العلماء مَن يرى أن قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]، إنما هو ناسح لقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]
(1)
، لكن الظاهر هو عدم النسخ وعدم التعارض، ومن أخَذَ بما ذكرناه من الثفصيل الذي عليه الحنابلة وكثيرٌ من أهل الحديث لا يجد في الآيتين شبهة تعارضٍ تستلزم القول بنسخ إحداهما للأُخرى.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] نَاسِحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ} [الأنفال: 1]- قَالَ: لَا نَفْلَ إِلَّا مِنَ الخُمُسِ، أَوْ مِنْ خُمُسِ الخُمُسِ).
والمراد هاهنا: هو قول الإمام مالكٍ بأن النفل يخرج من الخُمُسِ، وقول الإمام الشافعي بأنه يخرج من خُمُس الخُمُس، وتحديدًا من الجزء الخاص بالإمام دون غيره من نصيب بقية أصحاب الخُمُس.
(1)
يُنظر: "الناسخ والمنسوخ" للمقري (ص 93)، حيث قال:"قال الله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، وإنما سألوه أن ينفلهم الغنيمة وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما رأى ضعفهم وقلة عدتهم يوم بدر فقال مرغبًا لهم ومحرضًا: "من قتل قتيلًا فله سلبه ومن أسر أسيرًا فله فداؤه" فلما وضعت الحرب أوزارها نظر في الغنيمة، فإذا هي أقل من العدد فنزلت هذه الآية ثم صارت منسوخة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية".
وقد استدلَّ الإمام الشافعيُّ رحمه الله على قوله هذا بالحديث الذي سيأتي ذِكرُهُ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وفيه:"أنهم كانوا قد أغاروا على عدوِّهم، فأخذوا منه الغنيمة اثني عشر بعيرًا، وَزِيدُوا - أي: نُفِّلُوا - بعيرًا بعيرًا"
(1)
، وقد تعرَّضَ العلماء لهذا الحديث وبيَّنوا أنه لا يمكن أن ينطبق على خُمُس الخُمُس، وإنما كان ينطبق لو كانت خمسة وعشرين بعيرًا.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ الآيَتَيْنِ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ - أَعْنِي: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ رَأْسِ الغَنِيمَة مَنْ شَاءَ، وَلَهُ أَلَّا يُنَفِّلَ - بِأَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ أَرْبَاعِ الغَنِيمَةِ للْغَانِمِينَ - قَالَ بِجَوَازِ النَّفْلِ مِنْ رَأْسِ الغَنِيمَةِ. وَلاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ، وَفِي ذَلِكَ أَثَرَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا رَوَى مَالِكٌ
(2)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كثِيرَةً، فَكَانَ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْلَ كانَ بَعْدَ القِسْمَةِ مِنَ الخُمُسِ).
وقوله: "قِبَلَ نَجْدٍ"، أي: جِهَتَهَا.
وقوله: "سُهْمَانُهُم"، السُّهمان: جمع (سَهْمٍ).
وقوله: "ونفلوا بعيرًا بعيرًا"، أي: أخذ كلّ واحدٍ منهم سهمًا زائدًا على ما يستحقه.
وهذا الحديث يستدلّ به الشافعية لقول الإمام الشافعي رحمه الله في المسألة.
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 450). وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(4813).
والحديث أخرجه البخاري (3134)، ومسلم (1749/ 36).
* قوله: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ مِنَ السَّرَايَا بَعْدَ الخُمُسِ فِي البَدَاءَةِ، وَيُنَفِّلُهُمُ الثُّلُثَ بَعْدَ الخُمُسِ فِي الرَّجْعَةِ"
(1)
، يَعْنِي: فِي بَدَاءَةِ غَزْوِهِ عليه الصلاة والسلام، وَفِي انْصِرَافِهِ).
وقد ذكَرْنَا الفرق بين حالة البداءة وحالة الرجعة، ووضَّحنا السبب في هذا التفريق بين الحالتين، من جهة أن السرية في حالة البداءة تكون مطمئنَّةً بحفظ الجيش لها وحمايته إياها من إحاطة العدو بها، بخلاف حالة الرجعة التي تكون السرية فيها منفردةً في مواجهة العدو بعد أن يكون الجيش قد انصَرَفَ، مما يبرر زيادة سهمها من الغنيمة في حالة الرجعة عن حالة البداءة.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا مِقْدَارُ مَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ ذَلِكَ؟ عِنْدَ الَّذِينَ أَجَازُوا النَّفْلَ مِنْ رَأْسِ الغَنِيمَةِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ
(2)
عَلَى حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ)
(3)
.
وهذه المسألة تدور حول ما إذا كان للإمام مقيَّدًا في نفل السرية بالثلث أو الربع كما جاء في حديث حبيب بن مسلمة، أم أن للإمام أن يزيد في النفل عن هذا المقدار.
وهذه المسألة هي محلّ خلافٍ بين أهل العلم، بحيث يدور الحُكم فيها على قولين:
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 341)، حيث قال:"ولا ينفل بأكثر من الثلث وهو قول جمهور أهل العلم. وقال الأوزاعي: إن زادهم على ذلك شيئًا فليفِ لهم وليجعل ذلك من الخمس".
(3)
تقدَّم.
القول الأول: هو قول جمهور أهل العلم، بعدم جواز الزيادة عن الثلث
(1)
، وأن الثلث هو حدّ الغاية في هذا التنفيل من جهة الإمام بحيث يجوز له أن يمنح أقل من هذا القدر، ويجوز له ألا يمنح من الأصل، لكن لا يجوز له أن يزيد عنه، بل يمنح الربع أو الثلث ولا يزيد عن ذلك.
القول الثاني: هو قول الإمام الشافعي رحمه الله، وهو أن الأمر متروكٌ لاجتهاد الإمام، بحيث يجوز له أن يزيد عن هذا القدر وأن ينقص عنه بحسب يؤدّي إليه اجتهاده
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ نَفَّلَ الإِمَامُ السَّرِيَّةَ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ جَازَ
(3)
، مَصِيرًا إِلَى أَنَّ آيَةَ الأَنْفَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، بَلْ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا غَيْرُ مُخَصَّصَةٍ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَا الأَثَرِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ أَكْثَرَ مِنَ الرُّبُعِ أَوِ الثُّلُثِ
(4)
. وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ: هَلْ يَجُوزُ الوَعْدُ بِالتَّنْفِيلِ قَبْلَ الحَرْبِ؟ أَمْ لَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ؟).
والمراد هاهنا: ما إذا كان يجوز للإمام أن يَعِدَ المجاهدين قبل بدء الحرب أن يخصهم بنفلٍ من الغنيمة أم لا.
فمن أهل العلم مَن كَرِه ذلك، وعَلَّلَ كراهته له بأن ذلك من شأنه أن يؤثر على نية المجاهدين؛ لأن القصد والغاية من الجهاد إنما هو رفع راية التوحيد وإعلاء كلمة الله، مما ينبغي فيه أن يكون الإخلاص فيه لله وحده وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة دون النظر للغايات الدنيوية.
(1)
تقدَّم.
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (4/ 151)، حيث قال:"وقد روى بعض الشاميين في النفل في البدأة والرجعة الثلث في واحدة والربع في الأُخرى، ورواية ابن عمر أنه نفل نصف السدس فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يجاوزه الإمام".
(4)
تقدَّم تخريجه وهو قول الجمهور.
أما أكثر أهل العلم فذهبوا إلى عدم تأثير ذلك على نية المجاهِدين؛ لأن مَن خرج مجاهدًا في سبيل الله سبحانه وتعالى إنما قد باع نفسه لله ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، أما أن تُفعَلَ الطاعةُ لغرضٍ دنيويٍّ فإن هذا من شأن المنافقين، ومعلومٌ أن المنافق لا يُقدِمُ أصلًا على عبادة الجهاد التي قد يُقتَل فيها.
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ)
(2)
.
أما الجماعة الذين يحكي المؤلِّفُ عنهم قولهم بالجواز فإنما هم جمهور أهل العلم.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191)، حيث قال:"وحاصله أنه لا يجوز للإمام أن يقول للمجاهدين: من قتل قتيلًا فله سلبه؛ لأنه يؤدي لفساد نيتهم".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 42)، حيث قال:"والوجه الثالث أن يحرض الإمام أو أمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو وينفل من شاء منهم .. وهذا الوجه كان مالك يكرهه ولا يجيزه، وأجازه جماعة من أهل العلم غيره".
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (10/ 28)، حيث قال:"حبيب بن سلمة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث"، وفيه دليل على جواز التنفيل للتحريض على القتال كما أمر الله تعالى به رسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (6/ 238)، حيث قال:"ما ادعى إلى التحريض على القتال والاجتهاد في الظفر، مثل: أن يقول الإمام أو أمير الجيش من يقدم في السرايا إلى دار الحرب فله كذا وكذا، ومن فتح هذه القلعة فله كذا وكذا، أو من قتل فلانًا فله كذا، أو من أقام كمينًا فله كذا، فهذا جائز".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 634)، حيث قال:"وزيد في الرجعة على البداءة لمشقتها؛ لأن الجيش في البداءة ردء عن السرية وفي الرجعة منصرف عنها. والعدو مستيقظ، ولأنهم مشتاقون إلى أهليهم فيكون أكثر مشقة. ولا يعدل شيء عند أحمد الخروج في السرية مع غلبة السلامة؛ لأنه أنكى للعدو".
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ مَقْصِدِ الغَزْوِ لِظَاهِرِ الأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الغَزْوَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ العَظِيمِ، وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا).
والمراد بمفهوم مقصد الغزو هو أن الغزو إِنما يُقصَد منه إعلاء كلمة الله، كما جاء في الحديث:"مَن قات لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
، بخلاف مَن يقاتل حمية أو عصبية ومَن يقاتل طمعًا في الغنيمة، فإن هذا لا ينال ثواب الجهاد وأجره، وإنما ينال ما نواه فقط.
* قوله: (فَإِذَا وَعَدَ الإِمَامُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ الحَرْبِ، خِيفَ أَنْ يَسْفِكَ دِمَاءَهُمُ الغُزَاةُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ).
والمراد أن القائلين بعدم جواز وعد الإمام بالنفل قبل الحرب، إنما علَّلوا ذلك بأنه يُخشَى أن يكون هذا الوعد سببًا في إفساد نية المجاهد، بحيث تختلط النية بغرض من أغراض الدنيا، مما يُضعِف الإخلاصَ، بحيث يمكن أن يصير فساد الإخلاص هذا سببًا في انهزام المسلمين وانتصار العدو عليهم، بينما المجاهد ينبغي أن يقاتل ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى دون ما سواه، فيبيع نفسه وماله في سبيل الله.
ويجابُ عن هذا بأن هذا إنما يحدث لضعفاء الإيمان، أما من قَوِيَ دينُهم ورسخ اعتقادهم فإنهم لا يتأثرون بمثل هذا، لأنهم يعلمون حق العلم أنه سيأتيه نصيبه من الغنيمة التي ستُحوَزُ سواء وعدهم الإمام بها أم لم يعدهم.
* قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ جَوَازَ الوَعْدِ بِالنَّفْلِ، فَهُوَ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُنَفِّلُ فِي
(1)
أخرجه البخاري (123)، ومسلم (1904/ 150).
الغَزْوِ السَّرَايَا الخَارِجَةَ مِنَ العَسْكَرِ الرُّبُعَ، وَفِي القُفُولِ الثُّلُثَ")
(1)
.
وهذا الحديث قد ذَكَرناه وتناوَلناه بالشرح، وفرَّقنا فيه بين حالة البداءة وحالة الرجعة، وذَكَرْنَا كذلك سبب التفرقة بين الحالتين من ناحية موقف الجيش والسرية في كل حالةٍ.
* قوله: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذَا إِنَّمَا هُوَ التَّنْشِيطُ عَلَى الحَرْبِ).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن القصد من هذا الوعد ليس إفساد نية المجاهد بالأغراض الدنيوية، وإنما هو جائزةٌ للمقاتلين في سبيل الله تكون بمثابة دافِعٍ لهم في قتالهم أعداء الله.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَة، وَهِيَ: هَلْ يَجِبُ سَلَبُ المَقْتُولِ لِلْقَاتِلِ؟ أَوْ لَيْسَ يَجِبُ إِلَّا إِنْ نَفَّلَهُ لَهُ الإِمَامُ؟).
و"السلب": هو هذا الذي يكون على العدو من لىباسٍ كالدرع والعمامة، ومن سلاحٍ كالسيف والخنجر ومثل ذلك، أما الدابة فإن أكثر أهل العلم على أن السلب لا يشملها
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 514، 515)، حيث قال:" (وقوله: والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وما على مركبه من السرج والآلة وما معه على الدابة من مال في حقيبته وما على وسطه) من ذهب وفضة (وما) سوى ذلك مما (هو مع غلامه أو على دابة فليس منه) بل حق الكل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 191)، حيث قال:" (وللمسلم فقط) دون الذمي ما لم ينفذه له الإمام (سلب) من حربي (اعتيد) وجوده مع المقتول حال الحرب كدابته المركوبة له أو الممسوكة بيده أو يد غلامه للقتال وسرجه ولجامه ودرعه وسلاحه ومنطقته، وما فيها من حُلي وثيابه التي عليه إلا سوار وصليب، وعين) ذهب أو فضة (ودابة) غير مركوبة، ولا ممسوكة للقتال بل جنيب إمامه بيد غلامه للافتخار فلا يكون للقاتل؛ لأنها من غير المعتاد، وله المعتاد". =
وهذا السلب إنما يحصل عليه المسلم بعد مبارزة المشرك وانتصاره عليه وقتله إياه.
أما ما تدور حوله هذه المسألة هو ما إذا كان هذا السلب يجب للقاتل مطلَقًا أم أنه مقيَّدٌ بتنفيل الإمام، وقد تكلم أهل العلم في هذه المسألة بتفصيلٍ كبيرٍ، والمؤلِّفُ هاهنا قد ذَكَرَها على وجه الإجمال.
فأما من حيث الجملة، فالعلماء متَّفقون على استحقاق القاتل لسلب المقتول، لكن هناك مسائل تتفرع من هذه المسألة، ومنها:
1 -
أن من شروط المقتول في السلب أن يكون ممن يجوز قتله.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن قتل النساء والصبيان"
(1)
.
فيستفادُ من هذا أن المقتول الذي يستحقُّ القاتل سلبه يُشترط فيه أن يكون ممن يجوز قتله، بحيث لو كان المقتول صبيًّا أو امرأةً أو شيخًا فانيًا أو راهبًا في صومعته أو مريضًا من أصحاب الأمراض المزمنة
(2)
، فإدن ما على المقتول في هذه الحالة لا ينطلق عليه اسم السلب.
2 -
أن من شروط المقتول في السلب أن يكون ذا منعةٍ
(3)
.
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 149، 150)، حيث قال:"والسلب الذي يكون للقاتل كل ثوب عليه وكل سلاح عليه ومنطقته وفرسه إن كان راكبه، أو ممسكه فإن كان منفلتًا منه أو مع غيره فليس له، وإنما سلبه ما أخذ من يديه، أو مما على بدنه، أو تحت بدنه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 239)، حيث قال:"وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أُخرى، أن الدابة ليست من السلب".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
"المزمن": العتيق وهو مشتق من الزمان، يقال: مرض مزمن، أي: طويل. انظر: "مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ص 188).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 60)، حيث قال:"ومن حجته إجماع العلماء على أن لا سلب لمن قتل طفلًا أو شيخًا هرمًا، أو أجهز على جريح، وكذلك من ذفف على جريح أو ذفف على من قطع في الحرب من أعضائه ما لا يقدر على ذلك عن الدفع عن نفسه".
بحيث لا يكون قد أُثْخِنَ
(1)
فيه القتلُ وسقطَ على الأرض لا يقوَى على الحراك ثم جاء المُسلِمُ فَضَرَبَهُ ضربةً أجهَزَ بها عليه، بل يجب أن يكون ممتنعًا بعافيته قادرًا على القتال والمقاومة؛ لأن القاتل هاهنا لم يبذل مجهودًا في قتل المقتول.
وهذا الشرط تشهدُ له عدة أدلة، منها ما كان يوم بدرٍ حينما أثبَتَ
(2)
معاذ بنُ عمرو ومعاذُ بن عفراءَ أبا جهل فسقط متأثِّرًا بجراحه، ثم جاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فضربَهُ فأجهَزَ عليه، وحينها دَفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سلبه لمن أثبتَهُ وأسقطَهُ لا لعبد الله بن مسعودٍ الذي قتلَهُ وهو متأثر بجراحه
(3)
(4)
.
3 -
أن يُغرِّرَ القاتلُ بنفسه.
يعني: أن يرمي بنفسه أمام خصمه ويواجهه بحيث لا يدري أيكون قاتلًا في هذا النزال أم مقتولًا، لا أن يرميه بسهمِ من مسافةٍ أو يطلق عليه الرصاص فيصيبه، فحينئذٍ لا يستحق سلبه، لأنهَ لم يغرر بنفسه ولم يواجه خصمه مواجهة كاملة.
•
أدلة استحقاق القاتل السلب من السنة المطهَّرة:
وهناك عدة أحاديث وردَت في هذا الشأن، منها:
1 -
ما كان من قصة أبي قتادة رضي الله عنه يوم حنين عندما اشتد القتال بين
(1)
وأثخن في العدو: إذا أوجع فيهم. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 418).
(2)
(ثبت) الشيء، يثبت، (ثباتًا) بالفتح، (وثبوتًا) بالضم، وشيء ثبت، أي: ثابت. ويقال: ثبت فلان في المكان، يثبت، ثبوتًا: إذا أقام به، فهو ثابت. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (4/ 472).
(والثبيت)، كأمير:(الفارس الشجاع) الصادق الحملة، (كالثبت) بفتح فسكون".
(3)
أخرجه البخاري (3141)، ومسلم (1752).
(4)
أخرجه أحمد (12143) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من ينظر ما فعل أبو جهل؟ " فانطلق ابن مسعود، فوجد ابني عفراء قد ضرباه حتى برد، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه، أو قتله قومه. وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
المسلمين وبين هوازن وحلفائهم، والتي قال فيها أبو قتادة رضي الله عنه:"رأيتُ أحد المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرتُ وراءه فضربتُه في عنقه حتى مات"، ثم بعد أن انتهى القتال ووضعَت الحرب أوزارها وانتصر المسلمون في هذه المعركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن قتل قتيلًا له عليه بينةٌ فله سلبه". فقام أبو قتادة رضي الله عنه فقال: مَن يَشهَدُ لى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عندكَ يا أبا قتادة؟ ". فقام رجلٌ من القوم فقال: يا رسول الله، هو قَتَلَ الرجلَ وسلبه عندي، فأرضه يا رسول الله أي: أعطه ما يرضيه. وكان الرجل يقصد بقوله هذا أن يبقى السلب خاصًّا به، فحينئذٍ قام أبو بكر رضي الله عنه وقال:"لا ها اللهِ، يعمد أسدٌ من أُسد الله فيقاتِل عن الله وعن رسوله، ثم يأتي آخَرُ فيأخذ سلبه! ". - أي: لا واللَّه؛ لأن (ها) قد استعملها العرب بدلًا عن الواو - فحينئذٍ أَمَرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجلَ أن يدفع السلب إلى أبي قتادة رضي الله عنه فأعطاه إياه
(1)
.
وهذا الحديث متفَقٌ عليه، وفيه دليلٌ على استحقاق القاتل سلب المقتول، لكن العلماء قد فصلوا القول في ذلك.
وقد ذَكَرْنَا أن المقاتلين منهم مَن يستحق سهمًا من الغنيمة، ومنهم مَن يُرضَخ له، أي: يُعطَى عطيةً من المغنم دون السهم، وهؤلاء كالمرأة والعبد والصبي، وهذا يجرنا لمسألة أُخرى، وهي:
لو كان القاتل امرأةً أو صبيًّا أو عبدًا فهل يأخذ السلب كذلك أم لا؟
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يستحق السلب كما يستحق الرجل البالغ الحرّ.
القول الثاني: أنه لا يستحق السلب، وإنما يُرضَخ له.
(1)
أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751/ 2).
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَسْتَحِقُّ القَاتِلُ سَلَبَ المَقْتُولِ إِلَّا أَنْ يُنَفِّلَهُ لَهُ الإِمَامُ عَلَى جِهَةِ الاجْتِهَادِ")
(1)
.
القول الأول: أن القاتل لا يستحقّ السلب إلا إذا نَفَّلَهُ الإمامُ له.
وهو قول الإمام مالكٍ رحمه الله، وأبي حنيفة
(2)
، والثوري
(3)
، حيث يرى أن استحقاق القاتل للسلب مقيَّدٌ بإذن الإمام في ذلك، أي: أنه لا يستحقه بمجرد القتل، وإنما حتى لو قتله فالإمام يملك إعطاءه أو منعه.
وهذا الرأي مخالفٌ للأحاديث الصحيحة المتَّفَق عليها الواردة في المسألة، إلى جانب قصة عوف بن مالكٍ الذي لَحِقَ بمدد أوائل مناوشات الروم، فوجد رجلًا يحرض على القتال، فأخذ يدور وراءه، ثم التَفَّ وراء حَجرٍ فعَقَرَ رأسه حتى سَقَطَ ثم قَتَلَه، فأعطاه خالد بن الوليد شيئًا من السلب، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ بأن يعطيه ما تبقَّى من سلب المقتول
(4)
.
وهناك رواية أُخرى جاء فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطه ما تبقى من السلب، وقيل: إن سبب عدم إعطائه السلب كاملًا ما حَصَلَ من عوف بن مالك من جفوةٍ تجاه خالد بن الوليد، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 190)، حيث قال:"إن الإمام إذا قال لشخص لما علم من شجاعته أو تدبيره: إذا قتلت قتيلًا فلك سلبه، أو أعطاه دينارًا أو بعيرًا فإنه يحسب سلب القتيل أو الدينار أو البعير من الخمس لا من أصل الغنيمة".
(2)
سيأتي.
(3)
سيأتي.
(4)
لم أقف عليه بهذا اللفظ لكن أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(12/ 269) عن جبير عن عوف: أن مدديًّا رافقهم في غزوة مؤتة وأن روميًّا كان يشد على المسلمين، ويفري بهم، فتلطف به ذلك المددي، فقعد له تحت صخرة، فلما مر به عرقب فرسه، وخر الرومي لقفاه، وعلاه بالسيف، فقتله، فأقبل بفرسه وسرجه ولجامه وسيفه ومنطقته، وسلاحه مذهب بالذهب والجوهر إلى خالد بن الوليد، فأخذ منه خالد طائفة، ونفله بقيته. . .
يؤدبه على ذلك، فلم يعطه كامل السلب
(1)
.
* قوله: (وَذَلِكَ بَعْدَ الحَرْبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ)
(3)
.
بمعنى: أن ذلك يشترط فيه أن يكون بعد الحرب، بحيث يستحقّ القاتل السلب عندما يبارز المقتول حينئذٍ ويقتله، لا عندما تتقارع السيوف ويلتحم الجيشان.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاق،
(1)
أخرجه مسلم (1753/ 43) عن عوف بن مالك، قال: قتل رجل من حمير رجلًا من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليًا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك، فأخبره، فقال لخالد:"ما منعك أن تعطيه سلبه؟ " قال: استكثرته يا رسول الله، قال:"ادفعه إليه"، فمر خالد بعوف، فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب، فقال:"لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لى أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعي إبلًا، أو غنمًا، فرعاها، ثم تحين سقيها، فأوردها حوضًا، فشرعت فيه فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره عليهم".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 152)، حيث قال:"أن قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلًا فله سلبه" إنما كان بعد الفراغ من حنين، ولم أرَ جوازه قبل المقاتلة نهر. قلت: وفيه نظر؛ لأن المنقول أن ذلك كان عند الهزيمة تحريضًا للمسلمين، على الرجوع إلى القتال وفي القهستاني: إن في قوله: وقت القتال إشارة إلى أنه يجوز التنفيل قبله بالأولى وإلى أنه لا يجوز به بعده لكن بعد القسمة، لأنه استقر فيه حق الغانمين. اهـ. ففيه التصريح بجوازه قبله وعزاه ح إلى المحيط، وقوله: لكن بعد القسمة الظاهر أنه مبني على القيل المار عن السراج".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 60)، حيث قال:"واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة على أن السلب من غنيمة الجيش حكمه حكم سائر الغنيمة إلا أن يقول الأمير: "مَن قتل قتيلًا فله سلبه" فيكون حينئذ له".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 142)، حيث قال:" (السلب) بفتح اللام (للقاتل) المسلم ولو نحو صبي وقن، وإن لم يشترط له، وإن كان المقتول نحو قريبه، وإن لم يقاتل كما اقتضاه إطلاقهم، أو نحو امرأة، أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه: "مَن قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه، وإن خرج بإذن الإمام وكذا نحو مخذل وعين (تنبيه) ".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 635)، حيث قال:" (وإن قتله)، أي: قتل المسلم الكافر (أو أثخنه) بالجراح (فله)، أي: المسلم (سلبه) بفتح السين واللام".
وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ
(1)
: "وَاجِبٌ لِلْقَاتِلِ، قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ").
القول الثاني: أن السلب هو حقٌّ للمقتول سواء نَفَّلَه الإمام أو لم يُنَفِّلْهُ.
وهذا هو القول المشهور الذي عليه غالب أهل العلم، والذي تشهد له الأدلة.
وعلى هذا القول الأئمة الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة من السلف.
* قوله: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَعَلَ السَّلَبَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ السَّلَبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ السَّلَبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا قَبْلَ مَعْمَعَةِ الحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا).
وهذا الخلاف إنما هو في شروط أخذ السلب:
فمن العلماء مَن اشترطَ أن يكون المقتول مقبِلًا غير مدبر، وأن يكون هذا قبل ابتداء معمعة
(3)
الحرب أو بعد انتهائها لا أثناءها
(4)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 60)، حيث قال:"وقال الأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد السلب للقاتل على كل حال قال ذلك الأمير أو لم يقله؛ لأنها قضية قضى بها رسول الله ولا يحتاج لذلك إلى إذن الإمام فيها".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 143)، حيث قال:" (وإنما يستحق) القاتل السلب (بركوب غرر يكفي به)، أي: الركوب، أو الغرر المسلمين (شر كافر) أصلي مقبل على القتال (في حال الحرب) كأن أغرى به كلبًا، أو أعجميًّا يعتقد وجوب طاعته ووقف في مقابلته حتى قتله بمغراه؛ لأنه خاطر بروحه حيث صبر في مقابلته حتى عقره الكلب قاله القاضي".
(3)
ويقال للحرب: معمعة، ولها معنيان؛ أحدهما: أصوات المقاتلة، والآخر: استعار نارها. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (1/ 90).
(4)
سيأتي تخريجه وهو قول الأوزاعي.
ومنهم مَن ذهب إلى أنه يستحقه دون قيدٍ ولا شرطٍ على كل حالٍ، فحتى لو انهزم هذا العدوُّ وضربه مسلم فَقَتَلَهُ فإنه يستحقّ سلبه حينئذٍ.
لكنهم على أنه لا يستحق سلبه إذا رماه بسهمٍ فقتله به.
ومن الأُمور التي تجدر الإشارة إليها هاهنا أن المقتول قد يكون معه شيءٌ من المال أو الذهب أو الفضة، وأن هذا لا يدخل في جملة السلب؛ لأننا لو قلنا بأن كل قاتلٍ يأخذ جميع ما مع المقتول لقَلَّت الغنائم وضَعُفَتْ.
* قوله: (وَأَمَّا إِنْ قَتَلَهُ فِي حِينِ المَعْمَعَةِ، فَلَيْسَ لَهُ سَلَبٌ، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ)
(1)
.
ومن أهل العلم مَن يرى أنه يستحقّ السلب حتى في أثناء المعركة والتحام الصفوف، ويستدلّون على ذلك بما حدث في قصة أبي قتادة رضي الله عنه حينما قتل الرجل أثناء التحام الصفوف.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الإِمَامُ السَّلَبَ، جَازَ أَنْ يُخَمِّسَهُ)
(2)
.
وقد حصل هذا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما قَتَلَ البراء بن مالكٍ رضي الله عنه خصمًا له، وبلغ سلبه يومئذٍ ثلاثين ألفًا، فاستكثرها عمر رضي الله عنه،
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 125)، حيث قال:"وقال الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم: السلب للقاتل ما لم تشتد الصفوف بعضها على بعض، فإذا كان ذلك فلا سلب لأحد".
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 61)، حيث قال:"وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد الرحمن وسعيد بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وفقهاء أهل الشام: إذا كانت المعمعة والتحمت الحرب فلا شيء سلب حينئذ لقاتل".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 237)، حيث قال:"وقال ابن عباس: يخمس. وبه قال الأوزاعي، ومكحول، لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}. وقال إسحاق: "إن استكثر الإمام السلب خمسه، وذلك إليه".
فأرسل إلى أبي طلحة رضي الله عنه قائلًا: "كنا لا نُخَمِّسُ السلب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنُخَمِّسُهُ"
(1)
. فكان أول سلبٍ يُخَمَّسُ هو سلب البراء بن مالكٍ رضي الله عنه.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ احْتِمَالُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَمَا بَرَدَ القِتَالُ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ")
(2)
.
وقد جاء في بعض الروايات بلفظ: "من قتل قتيلًا له عليه بينةٌ"
(3)
، ولهذا قام أبو قتادة يسأل قائلًا:"مَن يَشهَد لي؟ ".
أما قصة يوم حنين فهي معروفةٌ، ومليئةٌ بالدروس والفوائد والعبر، حتى أن المسلمين ينبغي عليهم أن يستفيدوا منها في كل وقتٍ، وأن يعلموا أنهم ضعفاء بدون نصر الله مهما بلغت قوتهم ومهما زاد عددهم ومهما توفرت لهم أسباب القوة والمنعة
(4)
؛ لأن النصر إنما هو من عند الله وحده، ولذا قال سبحانه وتعالى في ذِكْرِ يوم حنين:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25]، بخلاف الآية الأُخرى التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها في ذِكْرِ يوم بدرِ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 233) عن ابن سيرين قال: "بارز البراء بن مالك أخو أنس مرزبان الزأرة فقتله، وأخذ سلبه، فبلغ سلبه ثلاثين ألفًا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: "إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالًا كثيرًا، ولا أراني إلا خامسه".
(2)
أخرجه ابن زنجويه في "الأموال"(2/ 685) من حديث سمرة.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
"المنعة" جمع مانع، أي: هو في عز ومن يمنعه من عشيرته. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1287).
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 9 - 11].
ففي يوم بدرٍ انتصَرَ المسلمون حينما فَرَّقَ الله بين الحق والباطل، وبين الشرك والإيمان، وبين أوليائه وأعدائه، يوم أن كان المسلمون يستغيثون ربهم ويعلمون حق العلم أنهم على ضعف وليس ينصرهم ويقويهم إلا أن ينصرهم الله سبحانه وتعالى، أما يوم حنين حينما أعجب المسلمون بقوتهم ومنعتهم أراد الله سبحانه وتعالى أن يوقظهم من هذا وأن يُعلِمَهُم أن النصر لا يتأتَّى بغير عَون الله ومعيته، مهما بلغ عدد المسلمين ومهما اشتدَّت قوتهم.
وعندما تألب
(1)
المشركون وغيرهم على المسلمين يوم الأحزاب نصرهم الله سبحانه وتعالى، حيث قال:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} ، فهنا أرسل الله سبحانه وتعالى جندًا من جنوده على أعدائه، وهي الريح الشديدة التي كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ.
أما يوم حنين، فإن المسلمين لمَّا اشتدَّت قوتهم وقويَت شوكتهم وكثر الدخول في الإسلام، وبعد أن خانت قريشٌ عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضَتْه، فحينئذٍ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وفتَحَها، وسيأتي ذِكرُ خلاف أهل العلم فيما إذا كانت فُتحَت عَنوةً أم فُتِحَت صلحًا، وأن الصحيح أنها فُتِحَت عَنوةً بالقهر والغلبة
(2)
، وبعد فتح مكة الذي كان في السنة الثامنة من الهجرة عَلِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هوازن تعد العدة لحرب المسلمين، وأنها قد جمعَت إلى جانبها عددًا من القبائل كقبيلة ثقيفٍ وغيرها، وخرجوا برجالهم ونسائهم وأطفالهم للقاء المسلمين، فحينئذٍ خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
تألَّبوا: تجمَّعوا. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 88).
(2)
الفرق بين القهر والغلبة: أن الغلبة تكون بفضل القُدرة وبفضل العلم يقال: قاتله فغلبه وصارعه، وذلك لفضل قُدرته. ولا يكون القهر إلا بفضل القُدرة ألا ترى أنك تقول: ناوأه فقهره، ولا تقول: حاجه فقهره، ولا تقول: قهروة بفضل علمه كما تقول: غلبه بفضل علمه. انظر: "الفروق اللغوية" للعسكري (ص 105).
بجيش المسلمين الذي كان قد يبلغ يومئذٍ اثني عشر ألف مقاتلٍ، وانطلقوا إلى حنين التي تقع بين مكة والطائف، وكان المشركون قد تجمعوا في مكانٍ هناك وكمنوا للمسلمين، فما أن انحدر المسلمون إلا وقد انهال عليهم أعداؤهم وضربوهم عن قوسٍ واحدةٍ
(1)
، فانهزم المسلمون حينئذٍ، ونزل قول الله سبحانه وتعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} .
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمَعَ إلى جواره جمعًا من الصحابة - منهم: أبو بكر وعمر والعباس وأبو سفيان بن الحارث رضي الله عنهم جميعًا - ووقف على بغلته البيضاء، وأخذ ينادي في الناس:"يا عباد الله، إني رسول الله"، وطَلَبَ كذلك من عمِّه العباس رضي الله عنه أن ينادي في الناس - وكان جهير الصوت - فنادى فيهم قائلًا:"يا أصحاب الشجرة"
(2)
، في إشارةٍ منه إلى قصة الشجرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} لأنهم كانوا قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألَّا يفروا، فلما سمع المسلمون هذه النداءات عادوا وانقضوا على أعدائهم، وحينئذٍ كان النصر حليف المسلمين في نهاية الأمر.
(1)
ضربوهم عن قوس واحدة: مثل في الاتفاق. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 396).
(2)
أخرجه مسلم (1775/ 76) عن عباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أي عباس، نادِ أصحاب السمرة"، فقال عباس: وكان رجلًا صيتًا، فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله، لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار،
…
الحديث".
فيوم حنين كان النصر في أول الأمر لأعداء المسلمين، ثم لما عاد المسلمون صدق العزيمة والإخلاص الحقيقي لله سبحانه وتعالى كان النصر حليفًا لهم.
* قوله: (أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى جِهَةِ النَّفْلِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الاسْتِحْقَاقِ لِلْقَاتِلِ).
والمراد هاهنا من كلام المؤلِّف أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلًا فله سلبه"
(1)
، فيه يحتمل أن يكون هذا القول منه على جهة أن القاتل يستحق هذا السلب مطلَقًا، ويحتمل كذلك أن يكون هذا القول على جهة النفل، أي: أنه تنفيل منه صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَمَالِكٌ رحمه الله قَوِيَ عِنْدَهُ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ النَّفْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عليه الصلاة والسلام، وَلَا قَضَى بِهِ إِلَّا أَيَّامَ حُنَيْنٍ، وَلمُعَارَضَةِ آيَةِ الغَنِيمَةِ لَهُ إِنْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الاسْتِحْقَاقِ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآيَةَ [الأنفال: 41]).
وقوله: (إلا أيام حنين)، غير مسلَّمٍ به وغير صحيحٍ؛ بدليلٍ قصة مقتل أبي جهل - التي ذكرناها - وما كان مِن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَفَعَ سلب أبي جهل إلى معاذ بن عمرو الجموح؛ لأنه هو مَن أَثْبَتَه، كما ثبتَ عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومها:"مَن قَتل قتيلًا فله كذا، من أَسَر أسيرًا فله كذا"
(2)
.
* قوله: (فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَّ فِي الآيَةِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِلَّهِ، عُلِمَ أَنَّ أَرْبَعَةَ الأَخْمَاسِ وَاجِبَةٌ لِلْغَانِمِينَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأُمِّ فِي المَوَارِيثِ، عُلِمَ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ).
(1)
تقدَّم تخريجه.
وهذا الكلام من المؤلِّف يُسمَّى المقايَسة
(1)
، ومعناه: أن النَّصَّ لما جاء باستحقاق الأم ثلث التركة عُلِمَ من ذلك أن المتبقِّي - وهو الثلثان - يستحقهما الأب، فكذلك الحال في الأخماس من حيث إن النَّصَّ لما جاء بأن الخُمُسَ لله عُلِمَ من ذلك أن المتبقي - وهو أربعة الأخماس - يستحقها الغانمون.
ولكن هذه المقايسة يشوبها - كما هو معلوم عند أهل الفرائض - أن الأُمَّ إنما تستحق ثلث التركة والأب يستحق ثلثيها عند عدم وجود ورثة، أما إذا كان ورثةٌ فإن أمر القسمة يختلف حينئذٍ.
* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ).
والمراد به هو ابن عبد البر.
* قوله: (وَهَذَا القَوْلُ مَحْفُوظٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي حُنَيْنٍ، وَفِي بَدْرٍ)
(2)
.
وفي هذا القوله من ابن عبد البر تنبيهٌ على أن هذا الأمر لم يكن خاصًّا بيوم حنينٍ فقط، وإنما قد حدث كذلك يوم بدرٍ، كما حصل في غيرها من الوقائع أيضًا.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم "
(3)
. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ
(4)
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ").
(1)
"المقايسة": هي المحاذاة بين الشيئين. انظر: "تقويم الأدلة في أصول الفقه" لأبي زيد الدَّبُوسي (ص 279).
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (23/ 252)، حيث قال:"أما قول رسول الله يوم حنين: "من قتل قتيلًا فله سلبه" فمحفوظ من رواية الثقات غير مختلف فيه، وأما قوله ذلك يوم بدر وأحد فأكثر ما يوجد ذلك في رواية أهل المغازي".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (2721)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1223).
والمؤلِّفُ هاهنا ذَكَرَ هذه القصة على وجه الإجمال، وفي القصة شيءٌ من التفصيل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث عددًا من الرجال لمناوشة
(1)
الروم، وكان في الروم يومئذٍ رجلٌ يحرض على القتال، وكان المسلمون قد جاءهم مددٌ من قبيلة حِمْيَر اليمنية، وكان من بين هذه القبيلة رجلٌ لاحَظَ ما لهذا الرجل المُحَرِّضِ من تأثيرٍ على قومه في قتالهم المسلمين، فما كان من الحميري حينئذٍ إلا أن استدار له حتى تخبأ، ثم ضرب فرسه، فسقط الرجل عن الفرس، فقَتَلَهُ الحميري وأخذ سلبه، وكان السلب كبيرًا جدًّا، فلما رآه خالد بن الوليد لتماجبه أخذ منه شيئًا، فجرى بينهما خلافٌ على هذا، فشكا الرجلُ خالدَ بن الوليد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض الروايات قد أورَدَت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطَى الرجل سلبه يومئذٍ
(2)
، وروايات أُخرى أورَدَتْ أنه قد منَعَه إياه
(3)
، ومن هنا نشَأَ الخلاف في هذه المسألة.
* قوله: (وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ
(4)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ البَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ).
أما الصحابي الجليل البراء بن مالك رضي الله عنه فمن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنَى عليه حينما قال: "إنَّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه"
(5)
، وذكر من هؤلاء البراء بن مالك، وليس هذا إلا نتيجة إخلاص البراء وصدقِه.
(1)
"المناوشة": ناوش القومُ أقرانهم في الحرب، بالشين المعجمة: إِذا تدانوا ونال بعضهم من بعض. انظر: "شمس العلوم" للحميري (10/ 6805).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 478).
(5)
أخرجه الترمذي (3854) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمْ من أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤْبه له لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم: البراء بن مالك"، وحسنه الألباني في "المشكاة"(6248).
ومن أكبر مَظاهِر هذا الإخلاص من جانب البراء بن مالك رضي الله عنه أنه - وهو مستجاب الدعاء - لما دعا الله إنما دعاه أن يموت شهيدًا، وكان ذلك في إحدى معارك المسلمين، فاستجاب الله دعاءه، وقُتِلَ البراء بن مالكٍ رضي الله عنه شهيدًا في هذه المعركة، وانتصر المسلمون يومَها
(1)
، فتحَقَّقَ بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
* قوله: (حَمَلَ عَلَى مَرْزُبَانَ يَوْمَ الدَّارَةِ).
و"المرزبان"
(2)
: هو رئيس أولئك القوم من العَجَم.
ولفظة: "الدارة" ليست التي ورَدَ الحديث بها، وإنما الحديث ورَدَ بلفظ:"الزارة".
* قوله: (فَطَعَنَهُ طَعْنَةً عَلَى قَربُوسِ سَرْجِهِ فَقَتَلَه، فَبَلَغَ سَلَبُهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا).
و"القربوس"
(3)
: هو مفصل السرج، أي: المكان الذي يلتف عنده السرج.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(3313) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من ضعيف متضعف ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبر قسمه، منهم: البراء بن مالك " فإن البراء لقي زحفًا من المشركين، وقد أوجع المشركون المسلمين، فقالوا: يا براء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنك لو أقسمت على الله لأبرك"، فأقسم على ربِّك، فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم، ثم التقوا على قنطرة السوس، فأوجعوا في المسلمين، فقالوا له: يا براء، أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدًا. وقال الحاكم:"حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(2)
"المرزبان": هم ما وراء الملوك وهم ملوك الأطراف. انظر: "مفاتيح العلوم" للخوارزمي (ص 137).
(3)
"القربوس": حنو السرج. انظر: "العين" للخليل (5/ 252).
* قوله: (فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ).
وهاهنا في هذه المسألة قد يرد سؤالٌ، وهو: هل القاتل يستحق السلب مطلَقًا؟ أم أن هذا يختلف من حيث القلة والكثرة؟
فهناك من أهل العلم مَن ذهب إلى التفريق في هذا، وأن السلب يستحقه القاتل إذا كان دون حدّ الكثرة فقط، وأنه إذا كَثُرَ فلا يُعطَى بكامله للقاتل، وإنما يُعطَى جزءًا منه ويُرَدُّ الباقي إلى المغنم، كما حصل في قصة عوف بن مالكٍ مع خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكذلك في قصة البراء من مالكٍ مع أبي طلحة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعًا.
ومن أهل العلم كذلك مَن ذهب إلى استحقاق القاتل للسلب مطلَقًا، دون التفرقة في ذلك بين القلة والكثرة.
* قوله: (فَقَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: إِنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ البَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا كَثِيرًا، وَلَا أُرَانِي إِلَّا خَمَّسْتُهُ. قَالَ: "قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَحَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ أَوَّلُ سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الإِسْلَامِ". وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّلَبِ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ).
أي: إنا لم نكن نأخذ الخُمُسَ من السلب قبل ذلك، ولكن لا بد من تخميسه الآن؛ نظرًا لِما بلغ من الكثرة الحادثة في سلب البراء بن مالكٍ.
وهذا الأثر هو حُجَّةُ القائلين بالتفرقة بين استحقاق القاتل للسلب القليل والكثير.
وقد أخرج هذا الأثرَ ابنُ أبي شيبة
(1)
كما ذَكَرَ المؤلِّف، كما أخرجه كذلك البيهقي في "السنن الكبرى"
(2)
، وأبو عبيد في "الأموال"
(3)
،
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
حديث (6/ 506).
(3)
حديث (2/ 687).
وهو من الكتب النفيسة جدًّا، والتي تُعنَى بالأموال في الشريعة الإسلامية وما يتعلَّق بها، والتي اشتملت على كثير من النصوص من أحاديث وآثارٍ، كما اشتمَلَ على كثيرٍ من مسائل الجهاد وغيره.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَبِ الوَاجِبِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ جَمِيعُ مَا وَجَدَ عَلَى المَقْتُولِ
(1)
، وَاسْتَثْنَى قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ)
(2)
.
فهاهنا قولان لأهل العلم في تحديد السلب الواجب الذي يستحقّه القاتل، وهما:
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (5/ 514)، حيث قال:" (وقوله والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وما على مركبه من السرج والآلة وما معه على الدابة من مال في حقيبته وما على وسطه) من ذهب وفضة (وما) سوى ذلك مما (هو مع غلامه أو على دابة فليس منه) بل حق الكل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (4/ 149، 150)، حيث قال: "والسلب الذي يكون للقاتل كل ثوب عليه وكل سلاح عليه ومنطقته وفرسه إن كان راكبه، أو ممسكه فإن كان منفلتًا منه أو مع غيره فليس له، وإنما سلبه ما أخذ من يديه، أو مما على بدنه، أو تحت بدنه، فإن كان في سلبه سوار ذهب، أو خاتم، أو تاج، أو منطقة فيها نفقة، فلو ذهب ذاهب إلى أن هذا مما عليه من سلبه كان مذهبًا، ولو قال: ليس هذا من عدة الحرب، وإنما له سلب المقتول الذي هو له سلاح كان
وجهًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 636)، حيث قال:" (والسلب ما عليه)، أي: الكافر المقتول (من ثياب وحلي وسلاح ودابته التي قاتل عليها وما عليها) من آلتها، لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب فأشبه السلاح. ولو قتله بعد أن صرعه عنها وسقط إلى الأرض".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 191)، حيث قال:"ولما كان قول الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه ليس على عمومه في الأشخاص، وفي كل سلب بين المراد بقوله: (وللمسلم فقط) دون الذمي ما لم ينفذه له الإمام (سلب) من حربي (اعتيد) وجوده مع المقتول حال الحرب كدابته المركوبة له أو الممسوكة بيده أو يد غلامه للقتال وسرجه ولجامه ودرعه وسلاحه ومنطقته، وما فيها من حلي وثيابه التي عليه (لا سوار وصليب، وعين) ذهب أو فضة (ودابة) غير مركوبة، ولا ممسوكة للقتال بل جنيب إمامه بيد غلامه للافتخار فلا يكون للقاتل؛ لأنها من غير المعتاد، وله المعتاد".
القول الأول: إن القاتل يستحقّ جميع ما وَجَدَ على المقتول.
القول الثاني: إنه يستحقّ جميع ما كان متصلًا به، دون ما انفصل عنه، وأن الذهب والفضة لا يدخلان في مُطلَق السلب، وإنما يُرَدَّانِ إلى المغنم.
والقول الثاني
(1)
هو الصحيح من القولين، وهو ما عليه جمهور أهل العلم، بحيث أن القاتل يأخذ ما كان المقتول متلبسًا به من ثوب وعمامةٍ وقميصٍ ودرعٍ
(2)
، وما تلبَّسَ به من السلاح كالسيف والخنجر، والأدوات كالمغفر
(3)
وغيره.
أما ما انفصل عن المقتول - كالدابة والذهب والفضة - فإنه لا يدخل تحت مسمَّى السلب، ولا يستحقّه القاتل بحالٍ، وإنما يُرَدُّ في المغنم.
(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ الكُفَّارِ
وَأَمَّا أَمْوَالُ المُسْلِمِينَ الَّتِي تُسْتَرَدُّ مِنْ أَيْدِي الكُفَّارِ).
والمراد من هذا هو ما لو غلب الكفَّارُ على المسلمين وأخذوا شيئًا من أموالهم، ثم دارت الجولة بحيث أصبحت الغلبة للمسلمين فاستردوا أموالهم التي استولى عليها الكفار منهم آنفًا، ففي هذه الحالة: هل يكون المسلم صاحب الحق أولى بماله بعد عودته؟ أم أنه يوضَع في المغنم كسائر ما يستولي عليه المسلمون من الكفار عند غلبتهم؟
(1)
أظنه يقصد القول الأول.
(2)
"الدرع": لبوس الحديد. انظر: "المحكم والمحيط" لابن سيده (2/ 8).
(3)
"المغفر": وقاية للرأس. انظر: "العين" للخليل (4/ 406).
وهذه المسألة فيها تفصيلٌ وكلامٌ لأهل العلم، والأمر فيها إنما يختلف بين أن يكون ذلك قبل قسمة المغنم أو بعد القسمة، فالحُكْمُ يدور بين ما إذا كان المستَرَدُّ قبل قسمة الغنائم يُرَدُّ إلى صاحبه ولا يُرَدُّ بعد قسمة الغنائم، أم أنه من الأصل لا يُرَدُّ بحيث يدخل في الغنائم مُطلَقًا، كل هذا فيه خلافٌ وتفصيلٌ لأهل العلم، وسيأتي بيانه.
وقد حصل ذلك في عهدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُغِيرَ على السَّرح، واستولى المشركون على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أَسَرَ العدوُّ امرأةً من الأنصار بعد ذلك، ثم فَرَّت المرأة من القوم غفلةً وقَصَدَت إلى الإبل تريد منها بعيرًا تركبه، فكانت كلما دَنَت من بعيرٍ رَغَا فتركَتْه، حتى أَتَتْ ناقةً منها فلم تَرغ فرَكِبَت عليها، ثم نَجَتْ، وكانت قد جَعَلَت لله إن أنجاها اللَّهُ لَتَذْبَحَنَّهَا، فلمَّا قَدِمَتْ بها المدينةَ عرفَها الناسُ وقالوا: ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: إني كنتُ قد نذرْتُ لله إن نجاني لأذبحنها. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "بئْسَمَا جَزَيْتِيهَا، لَا نَذْرَ لابْن آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِك، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ"
(1)
.
وحدث مثل هذا أيضًا لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما استولى المشركون على بغلةٍ له أو ناقةٍ، ثم استردَّها بعد ذلك
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (1641) عن عمران بن حصين، قال: وفيه "
…
وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ، قال: وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال:"سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد".
(2)
أخرجه البخاري (3067) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون، فردَّ عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبق عبد له فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ مَشهُورَةٍ).
وجملة الأقوال في هذه المسألة - في واقع الأمر - إنما هي ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنه يُرَدُّ إليه مُطلَقًا سواء كان قبل القسمة أو بعدها.
القول الثاني: إنه لا يُرَدُّ إليه مُطلَقًا لا قبل القسمة ولا بعدها.
القول الثالث: إنه يُرَدُّ إليه قبل القسمة، أما بعد القسمة فإنه يُرَدُّ إليه بالثَّمَنِ.
* قوله: (أَحَدُهَا: أَنَّ مَا اسْتَرَدَّ المُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ فَهُوَ لِأَرْبَابِهَا مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْغُزَاةِ المُسْتَرِدِّينَ لِذَلِكَ مِنْهَا شَيْءٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
(1)
وَأَبُو ثَوْرٍ)
(2)
.
القول الأول: إنَّ ما استردَّهُ المسلمون ممَّا استولى عليه الكفار، فإنه يعودُ لأصحابه المسلمين، وليس يحقّ للغانمين أخذه في المغنَمِ.
وهذا هو قول الإمام الشافعي وأصحابه والإمام أبي ثور رحمهم الله جميعًا.
والعلماء من حيثُ الجملة متَّفقون على هذا القول، لكن من حيث التفصيل يختلفون فيما إذا كان هذا الحُكمُ على وجه الإطلاق، أم أنه يقتصر على ما طُولِبَ به في ل قسمة الغنائم.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 141)، حيث قال:"أما ما أخذوه من مسلم قهرًا فيجب رده لمالكه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 54، 55)، حيث قال:"إن ما غلب عليه الكفار من أموال المسلمين وما أبق إليهم من رقيق المسلمين من غير غلبة منهم ثم غنمه المسلمون فكل ذلك سواء هو لصاحبه بلا شيء قبل القسم وبعده وهو قول الشافعي وبه قال أبو ثور".
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ مَا اسْتَرَدَّ المُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ غَنِيمَةُ الجَيْشِ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا القَوْلُ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ
(1)
، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
(2)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ)
(3)
.
القول الثاني: إن ما استردَّهُ المسلمون مما استولى عليه الكفار، فإنه يصير غنيمةً للجيش، لا يعودُ لصاحبه الأول مطلَقًا.
وهذا القول هو روايةٌ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذهب إليه الأئمة الزهريُّ وعمرو بن دينارٍ رحمهما الله.
وقد بنوا قولهم هذا على أن هذا المالَ المستَرَدَّ إنما قد غَنِمَه المسلمون واكتسَبوه من جهادهم، بمعنى أن الغانمين قد بَذَلُوا بجهادهم حقّ هذا المال، هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أُخرى فإن هذا الكافرَ الذي كان المال بحوزته إنما كان مالكًا للمال أيضًا بِحُكْم الغلبة والقهر، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أسلم على شيء فهو له"
(4)
، وهذا يشمل كلّ شيءٍ حتى ولو كان مأخوذًا من المسلمين.
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ قَبْلَ القَسْمِ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِلَا ثَمَنٍ، وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ القَسْمِ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِالقِيمَةِ).
القول الثالث: أن ما استردَّهُ المسلمون ممَّا استولى عليه الكفار، فإنه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 193) عن الزهري قال: "ما أحرزه المشركون، ثم أصابه المسلمون فهو لهم ما لم يكن حرًّا، أو معاهدًا لا يرد إلى صاحبه".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 193) عن عمرو بن دينار، قال:"سمعنا أنه ما أحرز العدو، فإنه للمسلمين يقتسمونه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 194) عن معمر قال: بلغني عن قتادة، وما أدري لعلي قد سمعته منه، أن عليًّا قال:"هو فيء المسلمين لا يرد".
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 96).
قبل القسمة يعود لصاحبه بلا ثمنٍ، أما بعد القسمة فإن لصاحبه أَخْذَهُ بعد أن يدفَعَ قِيمَتَهُ.
وهناك دليلٌ على هذا القول، في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَخْبَرَهُ بما استرَدَّهُ المسلمون مما كان قد استُولِيَ عليه قبل ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنْ وجدْتَهُ قبل القسمة فهو لكَ، وإن وجدْتَهُ بعد القَسْمِ فهو لكَ بِثَمَنِهِ"
(1)
.
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ، فَبَعْضُهُمْ رَأَى هَذَا الرَّأْيَ فِي كُلِّ مَا اسْتَرَدَّهُ المُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الكُفَّارِ بِأَيِّ وَجْهٍ صَارَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي الكُفَّارِ، وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَارَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ مَالِكٌ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ
(3)
، وَجَمَاعَةٌ
(4)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ)
(5)
.
والمراد هاهنا أن هذا الفريق من أصحاب القول الثالث إنما قال بأن هذا الرأي يشمل كلّ ما استرده المسلمون من أيدي الكفار، سواء في هذا
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 195)، حيث قال:"وإذا قسم الإمام على الجيش الشيء الذي علم مالكه قبل القسم سواء كان حاضرًا حين القسم كما فرض ابن بشير أو غائبًا كما فرض ابن يونس لم يمضِ قسمه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 196) عن الثوري قال في المشرك: "إذا أخذ شيئًا من متاع المسلمين، ثم باعه قبل أن يحرزه إلى أرض الشرك فبيعه باطل، يأخذه صاحبه حيث وجده".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 271)، حيث قال:"إذا أخذ الكفار أموال المسلمين، ثم قهرهم المسلمون، فأخذوها منهم، فإن علم صاحبها قبل قسمها، ردت إليه بغير شيء، في قول عامة أهل العلم؛ منهم عمر رضي الله عنه وعطاء، والنخعي، وسلمان بن ربيعة، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(5/ 194) عن محمد بن راشد قال: حدثنا مكحول، أن عمر بن الخطاب قال:"ما أصاب المشركون من مال المسلمين، ثم أصابه المسلمون بعد، فإن أصابه صاحبه قبل أن تجري عليه سهام المسلمين فهو أحق به، وإن جرت عليه سهام المسلمين، فلا سبيل إليه إلا بالقيمة".
إن كان الكفار دخلوا به أرض الحرب ثم غزاهم المسلمون بعدها وأحرزوه مرةً ثانيةً، أو إن كان المسلمون قد أدركوه قبل أن يصل الكفار به إلى ديارهم فاستولوا عليه وأعادوه.
وهذا القول مرويٌّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ذهب إليه الأئمة مالأ وأحمدُ
(1)
والثوري رحمهم الله وجماعة من العلماء، والمؤلف هاهنا لم يذكر أحمد رحمه الله في القائلين بهذا القول.
* قوله: (وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا صَارَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي الكُفَّارِ غَلَبَةً وَحَازُوهُ حَتَّى أَوْصَلُوهُ إِلَى دَارِ المُشْرِكِينَ، وَبَيْنَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحُوزُو وَيَبْلُغُوا بِهِ دَارَ الشِّرْكِ).
وإلى هذا القول بالتفريق بين الحالتين قد ذهب الفريق الآخر من أصحاب القول الثالث.
وهذا التفصيل ربَّما كان موجودًا في مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله وربما لا، ولكنه - في واقع الأمر - هو المشهور من مذهب الحنابلة، فالمسألة عند الحنابلة على هذا التفصيل:
أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار يدور بين حالتين:
الحالة الأولى: إن جاء صاحبُه وطالَبَ به قبل قسمة الغنائم فإنه يأخذه مطلَقًا بلا ثمنٍ.
الحالة الثانية: إن جاء صاحبُه وطالَبَ به بعد قسمة الغنائم ففيه روايتان في مذهب الحنابلة:
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 271)، حيث قال:"قال: (وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم، فأدركه صاحبه قبل قسمه، فهو أحق به)، وإن أدركه مقسومًا، فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، في إحدى الروايتين، والرواية الأُخرى، إذا قسم، فلا حق له فيه".
الرواية الأولى: أنه يستحقّه بثمنه.
والرواية الثانية: أنه لا يستحقّه مطلَقًا، وحينئذٍ يصير إلى الغانمين كجزءٍ من أموال الغنيمة (1).
هذا بخلاف مذهب الشافعية الذي يقول باستحقاق صاحب المال له على كلِّ حالٍ سواء طالَبَ به قبل القسمة أم بعدها.
* قوله: (فَقَالُوا: مَا حَازُوه، فَحُكْمُهُ إِنْ أَلْفَاهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ القَسْمِ، فَهُوَ لَه، وَإِنْ أَلْفَاهُ بَعْدَ القَسْمِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا لَمْ يَحُزْهُ العَدُوُّ بِأَنْ يَبْلُغُوا دَارَهُمْ بِهِ، فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ القَسْمِ وَبَعْدَهُ .. وَهَذَا هُوَ القَوْلُ الرَّابعُ).
و"أَلْفَاهُ"(2): بمعنى وَجَدَهُ وأَدْرَكَه، ومنه قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} .
والمراد بهذا القول: أن ما استردَّه المسلمون من أيدي الكفار بعد حازَهُ الكفار ودَخَلوا به دار الحرب، فإن صاحبه آنذاكَ يستحقّه بلا ثمنٍ إن أدركه قبل القسمة، ويستحقه بثمنه إن أدركه بعد القسمة.
أمَّا ما أدركه المسلمون قبل أن يحوزه الكفار إلى دار الحرب فإن صاحبه آنذاك يكون أحق به مُطلَقًا بلا ثمنٍ، سواء في ذلك أكان أدركه قبل القسمة أم بعدها، والسبب في هذا التفصيل أن أصحاب هذا القول يَرَوْنَ أنَّ ما أُدرِكَ قبل أن يُحازَ إلى دار الحرب يكون استيلاء الكفار عليه ناقصًا، حيث لم يكتمل القهر فيه من جانب الكفار، وعليه فتملُّكُ الكفار له لم يكتمل.
* قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي: هَلْ يَمْلِكُ الكُفَّارُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ إِذَا غَلَبُوهُمْ عَلَيْهَا، أَمْ لَيْسَ يَمْلِكُونَهَا؟).
وأكثر أهل العلم يذهبون إلى أن الكفار إذا غلبوا المسلمين على أموالهم فإنهم حينئذٍ يملكونها قهرًا
(1)
، ويدلّ عليه الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أسلم على شيء فهو له"
(2)
.
ومن المعلوم أن الكفار كانوا يستولون على أموال المسلمين بمكة، وأن هذه الأموال قد بقيَت بحوزة المشركين، وتَمَلَّكُوها.
وسيأتي ذِكْرُ حديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنه أنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا؟ فِي حَجَّتِهِ، قَالَ:"وَهَلْ تَرَكَ لنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟ ". ثُمَّ قَالَ: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كنَانَةَ"
(3)
. يَعْنِي: المُحَصَّبَ، حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ
(1)
عند الحنفية والمالكية أنهم يملكونها.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (10/ 52)، حيث قال:"إن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر إذا أحرزوه بدارهم عندنا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 608)، حيث قال:"قد حكينا عن مالك أن الكفار مالكون ما حكموا من مال المسلمين".
ومذهب الشافعية لا يملكوها، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه" لابن الرفْعَة (16/ 468)، حيث قال:"وإن غلب الكفار المسلمين على أموالهم، لم يملكوها؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}؛ فلو ملكوها لكان لهم عليهم سبيل".
ومذهب الحنابلة روايتان يُنظر: "المسائل الفقهية" لأبي يعلى الفراء (2/ 361)، حيث قال:"إذا ظهر أهل الحرب على المسلمين وسبوا أموالهم وحازوها إلى دار الحرب ملكوها بالقهر والإحازة، فإن ظهر عليها المسلمون بعد ذلك فمن وجد عين ماله قبل القسمة فهو له ومن وجده بعد القسمة فهل يكون أحق به بالقيمة أم لا حق له فيه؟ على روايتين".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (3058)، ومسلم (1351/ 440).
قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يُؤْوُوهُمْ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:"لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَلَا المُسْلِمُ الكَافِرَ"
(1)
).
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ وَالقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُشْرِكينَ لَيْسَ يَمْلِكُونَ عَلَى المُسْلِمِينَ شَيْئًا، وَهُوَ قَالَ: "أَغَارَ المُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ المَدِينَةِ وَأَخَذُوا العَضْبَاءَ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَامْرَأَةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قَامَتِ المَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا، فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إِلَّا أَرْغَى").
و"أَرْغَى"
(2)
: هي من الرغاء الذي هو صوت البعير.
* قوله: (حَتَّى أَتَتْ نَاقَةً ذَلُولًا).
وهي العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَرَكبَتْهَا، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَنَذَرَتْ لَئِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ المَدِينَةَ، عُرِفَتِ النَّاقَة، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُ المَرْأَةُ بِنَذْرِهَا، فَقَالَ: "بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا، لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ")
(3)
.
فالنذر لا يجوز فيه أن ينذره الإنسان فيما لا يملك، كأن ينذر لله - مثلًا - أن يتصدق من مال فلانٍ، أو يتصدق بدار فلانٍ، وما إلى ذلك.
كما أن النذر لا يجوز فيه أن ينذر الإنسان ما هو معصية لله سبحانه وتعالى؛
(1)
أخرجه البخاري (4283)، ومسلم (1614).
(2)
"الرغاء": صوت ذوات الخف، يقال: رغا البعير يرغو رغاء، إذا ضج. انظر:"الصحاح" للجوهري (6/ 2359).
(3)
أخرجه مسلم (1641).
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن نذر أن يطيع الله فلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"
(1)
، فمَنْ نَذَرَ معصية الله فإنه لا يفي بنذره هذا، وهذا النذر حينئذٍ لا كفارة له، وإنما ينبغي له فقط أن يرجع عن هذه المعصية.
أما هذا الحديث؛ فلا حجَّة فيه على عدم تملُّك الكفار لأموال المسلمين التي غلبوهم عليها؛ لأن استيلاء الكفار في هذا الحديث غير مكتملٍ، بدليل أن المرأة عادَتْ بالناقة إلى دار الإسلام، ممَّا يجب معه ألا يُجعَلَ هذا الاستدلال قاعدةً يُحْتَجُّ بها.
* قوله: (وَكذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أَغَارَ لَهُ فَرَسٌ فَأَخَذَهَا العَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
، وَهُمَا حَدِيثَانٍ ثَابِتَانِ).
أما ثبوت الحديثين فلا نزاع فيه، إِذْ إنَّ كِلا الحديثين موجودٌ في "الصحيحين" أو في أحدهما.
ولكن الاستدلال بهما في حَدِّ ذاته محلّ نظرٍ؛ هذا لأن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنما كان قبل القسمة لا بعدها، كما أن حديث المرأة لا يَسلَمُ الاستدلال به لكونها عادت بالناقة.
* قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِينَ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "وَهَلْ تَرَكَ لنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ")
(3)
.
يعني: لما سألَ أسامةُ بن زيدٍ رضي الله عنهما رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن المنزل الذي سينزلون فيه، أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"وهل ترك لنا عقيلٌ من منزلٍ؟ "؛
(1)
أخرجه البخاري (6696).
(2)
أخرجه البخاري (3067).
(3)
تقدَّم تخريجه.
وهذا لأن من المعلوم أن المسلم لا يرث الكافر وأن الكافر لا يرث المسلم؛ بسبب ما بينهما من اختلاف الدِّين.
* قوله: (يَعْنِي: أَنَّهُ بَاعَ دُورَهُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا عليه الصلاة والسلام إِلَى المَدِينَةِ).
وقد كان هذا قبل إسلام عقيلٍ.
* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ: فَإِنَّ مَنْ شَبَّهَ الأَمْوَالَ بِالرِّقَابِ قَالَ: الكُفَّارُ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَهُمْ، كحَالِ البَاغِي مَعَ العَادِلِ، أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِمُ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا).
والمراد بهذا القياس الذي استدلَّ به القائلون بعدم تملُّكِ الكفار لِمَا استولوا عليه قهرًا من أموال المسلمين، أن يُقاسَ تملُّك الكفار أموالهم على تملُّكِهم رقابهم، فكما أن الكفار لا يملكون رقابهم فإنهم كذلك لا يملكون أموالَهم، ولذلك فإن الكفَّارَ إذا استولوا على أحدٍ من المسلمين فإنه لا يكون مملوكًا في هذه الحالة إذا عادَ إلى المسلمين، وإنما يعود على الحرية لا الرِّقِّ، وإذا كان المُسلِمُ إذا أُسِرَ لا يصير رقيقًا فكذلك مال المسلم إذا أُخِذَ بالقهر لا يكون مملوكًا لآخِذِهِ الكافر، فهذا هو التعليل الذي استدلَّ به هذا الفريق على قوله.
ومما يؤخَذُ على المؤلِّف هاهنا أنه لم يَعرِض لدليل جمهور أهل العلم، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أدرك مالَه قبل قسمته فهو أحقُّ به، فإن أدركه بعد القسمة فإنما يأخذه بثمنه"
(1)
.
* قوله: (وَمَنْ قَالَ: مَنْ لَيْسَ يَمْلِكُ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلشَّيءِ إِنْ فَاتَتْ عَيْنُه، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الكُفَّارَ غَيْرُ ضَامِنِينَ لِأَمْوَالِ المُسْلِمِينَ)
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (14/ 58)، حيث قال: "إذا ظهر=
وهذه المسألة لم يَعرِض لها المؤلف، وهي من المسائل التي تناوَلَها أهل العلم.
ومدار هذه المسألة هو أن الكافر إذا استولى على شيءٍ من أموال المسلمين، ثم أَسْلَمَ بعد ذلك ودَخَلَ أرضَ المسلمين مُسلِمًا، فإنه حينئذٍ لا يُطالَبُ بما كان قد استولى عليه من أموال المسلمين في حال كُفْرِهِ؛ لأنه كان قد مَلَكَهَا، ولأنه كذلك لا يَضمَن ما أَتْلَفَهُ من أموال المسلمين حال كُفْرِهِ.
وفي هذا ما يشهد لمذهب جمهور أهل العلم، حيثُ إن فيه دلالةً على أن الكفار يملكون بالقهر ما استولوا عليه من أموال المسلمين.
= المسلمون على الدار، فإنما لا يملكون مال الذي أسلم؛ لأنه صار محرزًا ماله بيده، ولده أسبق إليه من يد الغانمين".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" لسحنون (1/ 507)، حيث قال:"في الحربي يسلم وفي يديه عبيد لأهل الإسلام قلت: أرأيت لو أن عبيدًا للمسلمين أسرهم أهل الحرب ثم دخل إلينا رجل من أهل الحرب بأمان والعبيد معه، أيعرض له ويؤخذ العبيد منه أم لا في قول مالك؟ قال: لا يؤخذون منه وهو رأيي. قلت: أرأيت إن دخل بهم هذا الحربي مستأمنًا فأسلم عندنا؟ قال: هو حين أسلم قد صار من المسلمين فليس لسيدهم أن يأخذهم من قبل أنه كان ممتنعًا من المسلمين حتى أسلم، وهو بمنزلة من أسلم من أهل الحرب على أموال في أيديهم للمسلمين قد أحرزها؛ عبيدًا كانت الأموال أو غير ذلك، فليس لأهل الإسلام أن يأخذوا من أيديهم شيئًا من ذلك بالثمن ولا بالقيمة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 254)، حيث قال:"ولأن الحربي لو أتلف مال مسلم أو ذمي لم يضمنه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 79)، حيت قال:" (وإن وجده)، أي: وجد رب المال ماله (بيد مستولٍ عليه) من الحربيين (وقد جاءنا بأمان، أو) جاءنا (مسلمًا، فلا حق له)، أي: لربه (فيه) لحديث: "من أسلم على شيء فهو له" قال في الاختيارات: وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم نص عليه الإمام أحمد، وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك".
هذا إلى جانب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أسلم على شيءٍ فهو له"
(1)
.
* قوله: (فَلَزِمَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الكُفَّارَ لَيْسُوا بِغَيْرِ مَالِكِينَ لِلْأَمْوَالِ).
والعبارة هكذا هي خلاف الأَوْلَى، حيث كان الأَوْلَى بالمؤلف أن يقول:(إن الكفار مَالِكُونَ للأموال)، بدلًا مِنْ قوله:(إن الكفار ليسوا بغير مالكين).
* قوله: (فَهُمْ مَالِكُونَ؛ إِذْ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مَالِكِينَ لَضَمِنُوا).
وهذا يعني: أن الكفار إنما هم مالكون لِمَا استولوا عليه من أموال المسلمين؛ لأنهم لو لم يكونوا قد مَلَكُوا هذه الأموالَ لَوَجَبَ عليهم ضمانُها.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الحُكْمِ قَبْلَ الغُنْمِ وَبَعْدَهُ).
وقوله: (الغُنْم)، يعني به: الغنيمة.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْغُنْمِ وَبَعْدَه، وَبَيْنَ مَا أَخَذَ المُشْرِكُونَ بِغَلَبَةٍ أَوْ بِغَيْرِ غَلَبَةٍ بِأَنْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ تِلْقَائِهِ، مِثْلَ العَبْدِ الآبِقِ وَالفَرَسِ العَائِدِ، فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِدُ وَسَطًا بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ يَمْلِكَ المُشْرِكُ عَلَى المُسْلِمِ شَيْئًا، أَوْ لَا يَمْلِكَهُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ).
كَمَا ذَكَرنا: بَعْضهم فرَّق بين ما وصل إلى أيدي الكفار بالتغلُّب، وأستحوزوا عليه حتى أَوْصَلوه إلى ديارهم، وبين ما أَخَذه المسلمون منهم قبل أن يصلوا به إلى ديارهم، فقالوا: ما وصل إلى ديارهم فهو على حالتين:
الأولى: أن يطلبه صاحبه قبل أن يُقْسم، وفي هذه الحالة يكون له.
(1)
تقدَّم تخريجه.
الثانية: أن يطلبه صاحبه بعد أن يُقْسم، وفي هذه الحالة أحق به مع دفع الثمن.
قالوا: وأما في حالة ما إذا لم يصل العدو، ولم يبلغوا به ديارهم، فصاحبُهُ أحقُّ به قبل أن يُقْسم وحتى لو قُسِمَ.
* قَوْله: (لَكِنَّ أَصْحَابَ هَذَا المَذْهَبِ إِنَّمَا صَارُوا إِلَيْهِ، لِحَدِيثِ الحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ كَانَ المُشْرِكُونَ قَدْ أَصَابُوهُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. "إِنْ أَصَبْتَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنْ أَصَبْتَهُ بَعْدَ القَسْمِ أَخَذْتَهُ بِالقِيمَةِ"
(1)
).
فَفِيهِ دَليلٌ على أنَّ الكفارَ إذا أَحْرَزوا أموالَ المُسْلمين، واستولوا عليها لا يَتملَّكونها، وإذا استنقذها المُسْلمون من أيديهم تردُّ إلى ملاكها، سواء كان قبل القسمة، أو بعدها.
* قوله: (لَكِنَّ الحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ مُجْتَمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَتَرْكِ الاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ
(2)
. وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ قَضَاءُ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ يَجْعَلُ لَهُ أَخْذَهُ بِالثَّمَنِ بَعْدَ القَسْمِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِهِ، وَاسْتِثْنَاءُ أَبِي حَنِيفَةَ أُمَّ الوَلَدِ وَالمُدَبَّرَ مِنْ سَائِرِ الأَمْوَالِ لَا مَعْنَى لَهُ
(3)
، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الكُفَّارَ يَمْلِكُونَ عَلَى المُسْلِمِينَ
(1)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(5/ 201)، عَن الحسن بن عمارة، عن عبد الملك، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"فيما أحرز العدو فاستنقذه المسلمون منهم، أو أخذه صاحبه قبل أن يقسم، فهو أحق، فإن وجده وقد قسم، فإن شاء أخذه بالثمن".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 56)، حيث قال:"الحسن بن عمارة مُجْتمعٌ على ضَعْفه، وترك الاحتجاج بحديثه".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكَمَال بن الهمام (6/ 10، 11)، حيث قال: " (قوله: ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة) الكائنة بالإحراش بدارهم (مدبرينا ولا أمهات أولادنا ولا =
سَائِرَ الأَمْوَالِ مَا عَدَا هَذَيْنِ، وَكذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
فِي أُمِّ الوَلَدِ: إِنَّهُ إِذَا أَصَابَهَا مَوْلَاهَا بَعْدَ القَسْمِ أَنَّ عَلَى الإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أُجْبِرَ سَيِّدُهَا عَلَى فِدَائِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُعْطِيَتْ لَهُ؛ وَاتَّبَعَهُ الَّذِي أُخْرِجَتْ فِي نَصِيبِهِ بِقِيمَتِهَا دَيْنًا مَتَى أَيْسَرَ؛ هُوَ قَوْلٌ أَيْضًا لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَمْلِكْها الكُفَّار، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَإِنْ مَلَكُوهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَمهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْمهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الأَمْوَالِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ سَمَاعٌ. وَمِنْ هَذَا الأَصْلِ - أَعْنِي: مِنَ اخْتِلَافِهِمْ - هَلْ يَمْلِكُ المُشْرِكُ مَالَ المُسْلِمِ أَوْ لَا يَمْلِكُ؟ وَاخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِي الكَافِرِ يُسْلِمُ وَبِيَدِهِ مَالُ مُسْلِمٍ، هَلْ يَصِحُّ لَهُ أَمْ لَا؟).
اسْتَثْنى أبو حنيفة من قاعدة: "لا ملك للمُشْركينَ على المسلمين": أمَّ الولد والمدبَّر، والصواب أنَّه لا دليلَ نقلي أو نظريٌّ يدلُّ على ما ذَهَب إليه من الاستثناء.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: "يَصِحُّ لَهُ").
= مكاتبينا ولا أحرارنا، ونملك نحن عليهم جميع ذلك، لأنَّ السبب)، وهو الاستيلاء التام".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 188)، حيث قال:" (وفديت أم الولد) بقيمتها وجوبًا على سيدها لشبهها بالحرة، واتبعت ذمته إن أعسر".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 188)، حيث قال:" (وملك) الحربي (بإسلامه) جميع ما بيده مما غصبه أو سرقه أو نهبه (غير الحر المسلم) ".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (5/ 491)، حيث قال:"أسر العدو عبدًا ثم أسلموا فهو لهم".
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 173، 174)، حيث قال:" (حربي هنا له ثمة عرس وأولاد ووديعة مع معصوم وغيره فأسلم) هنا أو صار ذميًّا (ثم ظهرنا عليهم فكله فيء) لعدم يده وولايته، ولو سبي طفله إلينا فهو قن مسلم (وإن أسلم ثمة فجاء) هنا (فظهرنا عليهم فطفله حر مسلم) لاتحاد الدار (ووديعته مع معصوم له)؛ لآن يده كيده محترمة (وغيره فيء) ".
والإمام أحمد
(1)
أيضًا يذهب إلى هذا القول. فمالكٌ وأبو حنيفة وأحمد قالوا بصحة هذا.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَصْلِهِ: لَا يَصِحُّ لَهُ
(2)
. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ إِلَى الكُفَّارِ عَلَى جِهَةِ التَّلَصُّصِ، وَأَخَذَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مَالَ مُسْلِمٍ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: "هُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَرَادَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ"، وَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: "هُوَ لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يَجْرِ عَلَى أَصْلِهِ").
فالمؤلف هاهنا ينتقد الإمام مالكًا في أنه إنما بقوله هذا قد خَرَجَ عن قاعدته وخالَفَها.
ولا شَكَّ في أن الأقربَ للصواب من هذه الأقوال هو ما ذَهَبَ إليه الإمامان أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله.
* قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الحَرْبِيِّ يُسْلِمُ وَيُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ فِي دَارِ الحَرْبِ وَلَدَهُ وَزَوْجَهُ وَمَالَهُ).
وهذه المسألة من المسائل المهمَّة، والخلاف فيها إنما هو دائرٌ بين مذهب جمهور أهل العلم وبين مذهب أبي حنيفة.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 274)، حيث قال:"وأن الكافر إذا أسلم وهي في يده، فهو أحق بها".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (4/ 296)، حيث قال:"لو أسلم في بلاد الحرب وخرج إلى دار الإسلام لا سبيل على مال مسلم حيث كان أسلم".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 509)، حيث قال:"ونحن وأحمد رحمه الله في رواية عنه نمنع أنه يُسمَّى غنيمة، بل الغنيمة ما أخذ قهرًا وغلبة لا اختلاسًا وسرقة؛ إذ المتلصص إنما يأخذ بحيلة فكان هذا اكتسابًا مباحًا من المباحات كالاحتطاب والاصطياد".
(4)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 234)، حيث قال:"وهذا نتفق فيه نحن والشّافعيّ؛ لأنّه عندنا إذا حصل في يده بغير عوض، نهبه أو سرقه أو غيره، فصاحبه أولى به بلا ثمن ".
فهاهنا لدينا مسألتان:
المسألة الأولى: لو أن الحربيَّ أَسْلَمَ، وبقي في دار الحرب، ثم استولى المسلمون على تلك الدار، فهل حينئذٍ يكون المسلم معصوم المال بحيث لا يؤخذ ماله في الغنيمة ولا تسبى ذرِّيته بسبب إسلامه؛ لأننا نعلم أن المسلم معصوم الدم والمال لقوله صلى الله عليه وسلم:"فقد عصموا دماءهم وأموالهم"؟ أم أنه لا يُعصَمُ بسبب إقامته في دار الحرب؟ وهذه المسألة يؤخذ على المؤلَف أنه لم يَعرِض لها ولم يتناوَلْها.
المسألة الثانية: وهي ما إذا أسلم الحربي في دار الحرب، ثم هاجَرَ إلى دار الإسلام، وترك وراءه في دار الحرب مالَه، أو مالَه وزوجتَه، أو ذرّيتَه، فما حُكْمُ ما خَلَّفَهُ وراءَهُ في دار الحرب إذا دَخَلَهَا المسلمون حينئذٍ؟
* قوله: (هَلْ يَكُونُ لِمَا تَرَكَ حُرْمَةُ مَالِ المُسْلِمِ وَزَوْجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ إِنْ غَلَبُوا عَلَى ذَلِكَ، أَمْ لَيْسَ لِمَا تَرَكَ حُرْمَةٌ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِكُلِّ مَا تَرَكَ حُرْمَةُ الإِسْلَامِ
(1)
، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 250)، حيث قال: " (وإسلام كافر) مكلف (قبل ظفر به)، أي: في وضع أيديا عليه. (يعصم دمه)، أي: نفسه عن كل ما مر. (وماله) جميعه بدارنا ودارهم
…
(وصغار) ومجانين. (ولده) الأحرار وإن سفلوا ولو كان الأقرب حيًّا كافرًا عن الاسترقاق، لأنهم يتبعونه في الإسلام ومن ثَمَّ كان الحمل كمنفصل والبالغ العاقل الحر كمستقل. (لا زوجته على المذهب) ".
(2)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 387)، حيث قال:"ومن أسلم منهم" معناه: في دار الحرب "أحرز بإسلامه نفسه"؛ لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق "وأولاده الصغار"؛ لأنهم مسلمون بإسلامه تبعًا "وكل مال هو في يده" لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن أسلم على مال فهو له"، ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه "أو وديعة في يد مسلم أو ذمي"؛ لأنه في يد صحيحة محترمة ويده كيده "فإن ظهرنا على دار الحرب فعقاره فيء"، وانظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 25).
فأبو حنيفة رحمه الله ذَهَبَ إلى أنهم ليس لهم حرمةٌ؛ وهذا لأن أبا حنيفة رحمه الله إنما يرى أن ما أخَذَه معه في هجرته من مالٍ أو متاعٍ أو زوجةٍ أو ولدٍ هذا هو الذي يُعامَل معامَلَتَهُ ويكون ذا حُرمةٍ، أما الذي تركه في دار الحرب فإنه تنتفي حُرمتُه ما دام في دار الكُفر فيُعامَلون حينئذ معامَلة غيرهم؛ لأنهم لم يتبعوه في إسلامه.
وهذا كلُّه إنما يراد به الحربيون، أما أهل الذِّمة فإن لهم أحكامًا يختصُّون بها على خلاف ذلك.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ المَالِ وَالزَّوْجَةِ وَالوَلَدِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِلْمَالِ حُرْمَةٌ، وَللْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ حُرْمَةٌ).
وهذا القول قول الإمام مالكٍ رحمه الله، وسيأتي في مناقَشة المؤلِّفِ للأقوال ما يوضِّحُ أن المؤلِّفَ رحمه الله ليس من المتعصبِين لمذهب المالكية، فإنه سينقُضُ رأي المذهب المالكي في هذه المسألة؛ لعدم وجود مُقتَضٍ للتفريق بين الزوجة والولد من ناحيةٍ وبين المال من ناحيةٍ أُخرى.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَصَّ على عدم التفريق بينهما، في قوله صلى الله عليه وسلم:"فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"
(1)
، بما يَدُلُّ على أنَّ مَن دخل في الإسلام ونطق بكلمة التوحيد فإنه بذلك يكون قد عصم ماله ودمه، وهذا ثابت لا يُرْفَع، ولم يَرِدْ فيه ولا في غيره من الأدلة هذا التفريق الذي ذَهَبَ إليه المالكية، ولذا فإنَّ المؤلِّفَ رحمه الله قد أَخَذَه عليهم وانتقدهم فيه.
* قوله: (وَهَذَا جَارٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ)
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
مذهب مالك: لم يجعل للزوجة حرمة بل جعلها غنيمة اتفاقًا، وكذلك الولد إن حملت به أمه قبل إسلام أبيه غنيمة وهذا خلاف قول المصنف.
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 200)، حيث قال: " (وولده)، أي: الحربي الذي أسلم وفر إلينا أو بقي حتى غزا المسلمون بلده فغنموه إن حملت=
وقول المؤلِّفِ هذا من جملة انتقاده لهذا الرأي؛ لأن هذا التفريق بين الأمرين في الحُكم إنما هو تفريقٌ قد جاء مع عدم وجودِ فارقٍ، ولذا فإنه جارٍ على غير قياسٍ.
* قوله: (وَالأَصْلُ أَنَّ المُبِيحَ لِلْمَالِ هُوَ الكُفْر، وَأَنَّ العَاصِمَ لَهُ هُوَ الإِسْلَام، كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:"فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ"
(1)
).
وهذا جزءٌ من حديثِ: "أُمِرْتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقِّها، وحسابهم على الله"
(2)
.
وهذا الحديث قد استشهَدَ به الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما ارتدَّ مَن ارتدَّ من العرب وامتنعوا عن أداء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حينئذٍ قد استدلَّ رضي الله عنه بهذا الحديث وتمسَّكَ به، وحينئذٍ رَجَعَ الصحابةُ رضي الله عنهم إلى قوله وَثَبَتُوا عليه.
* قوله: (فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَاهُنَا مُبِيحًا لِلْمَالِ غَيْرَ الكُفْرِ مِنْ تَمَلُّكِ عَدُوِّ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ).
ولن يجد دليلًا على هذا أبدًا، بما يعني رجحان مذهب جمهور أهل العلم - من الشافعية والحنابلة - في هذا المسألة؛ لأن قولهم رحمهم الله يعضده الدليل الذي ذَكَرْنَاه.
* قوله: (وَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ تُعَارَضُ بِهِ هَذِهِ القَاعِدَة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
والسبب في هذا أنها قاعدةٌ ثابتةٌ بالدليل الثابت الصحيح، والأصل
= به أمه قبل إسلام أبيه (وماله فيء)، أي: غنيمة فإن حملت به بعد إسلام أبيه فحر اتفاقًا، وأما زوجته فغنيمة اتفاقًا".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
أن مَن أراد الاستثناءَ من قاعدةٍ صحيحةٍ أنَّ عليه أن يأتِي بدليلٍ صحيحِ يفيد هذا الاستثناءَ ويخصصه تلك القاعدة أو يقيِّدها، وبما أنَّ هذا الدليلَ معدومٌ غير قائمٍ، فإن القاعدةَ إذن تبقى على أصل ثبوتها بحيث تُقَيَّدُ ولا يُستَثنَى منها شيءٌ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الخَامِسُ فِي حُكْمِ مَا افْتَتَحَ المُسْلِمُونَ مِنَ الأَرْضِ عَنْوَةً)
وهذه المسألة من المسائل بالغة الأهمية، وهي تنقسم إلى قِسمَين دار الخلاف حولهما، ذَكَرَ المؤلِّفُ منهما قِسمًا واحدًا، لأن هذا القِسم هو مناط الخلاف بين أهل العلم، وهو الذي وقع الخلاف فيه في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا الخلاف لم يَدُمْ طويلًا، بل سُرعان ما زال وتلاشَى
(1)
، وسارَ بعدها الخلفاء والأئمة العلماء على هذا النهج الذي حَسَمَهُ
(2)
الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا القول الذي حُسِمَ به الخلاف في هذه المسألة لم يكن قولًا انفرد به عمر رضي الله عنه، ولكنه كان فَهْمًا فَهِمَهُ عمر رضي الله عنه، من كتاب الله سبحانه وتعالى، ولذلك رَكَّزَ المؤلِّفُ في عَرضِهِ للمسألة على هذا القول دون القول الآخر، بينما نحن سنتناول القسمَين بشيءٍ من التفصيل - إن شاء الله - في عَرْضِنا للمسألة.
فإن الأرض التي يفتَحُها المسلمون إنما تكون على نوعين، هما:
(1)
"تلاشى الشيء": اضمحل. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (39/ 454).
(2)
حسمه حسمًا بمعنى: قطعه فانقطع. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 136).
النوع الأول: أرض صُلْحِ، والمراد بها هي تلك الأرض التي صالَحَ المسلمون أهلَها عليها.
وحُكمُها: أنها تظل في يد أهلِها وفي مِلكِهم، بينما يُضرَب عليها الخراج، ويرتفع حُكْمُ هذا الخراجِ بحيث لا يؤديه أهلُها للمسلمين في حالة لو أنهم دخلوا في الإسلام، فحينئذٍ يكون بإمكان هذا الداخل إلى الإسلام أن يتصرف في هذه الأرض بكل أنواع التصرُّف من بيعٍ أو إجارةٍ أو وقفٍ أو هبةٍ.
و"الخراج"
(1)
: هو شيءٌ يُؤخَذُ من أهل هذه الأرض؛ لِيُنفَقَ في مَصالح المسلمين وشؤونهم، بما يعني أنه يكون بمثابة الجزية وبمنزلتها.
وهذا النوع هو الذي لم يَعرِض له المؤلِّف رحمه الله، ولكن عادة الفقهاء وأهل العلم جاريةٌ في هذه المسألة بتناوُل القسمين بالذِّكْرِ.
النوع الثاني: أرض عَنوةٍ، والمراد بها هي تلك الأرض التي أَخَذَهَا المسلمون قَسْرًا وقوَّةً.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا افْتَتَحَ المُسْلِمُونَ مِنَ الأَرْضِ عَنْوَةً).
وهذا النوع من الأرض مُختَلَفٌ في حُكمِهِ بين أهل العلم على ثلاثة أقوالٍ، وهي:
القول الأول: أن أرض العَنوة إنما تصير فيئًا للمسلمين.
بمعنى: أن أَمْرَهَا يكون موكولًا إلى اجتهاد الإمام ونَظَرِهِ، فإن شاء قَسَّمَها بين المسلمين، وإن شاء صيَّرَها وقفًا يُنفَق منه على مصالح المسلمين، كالإنفاق على المجاهدين والقضاة، وإقامة الطرق، وشقِّ السدود والترع وتمهيد الأنهار، وبناء المدارس والمساجد، وإقامة
(1)
"الخراج": شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (7/ 26).
المشروعات التي تَقْوَى بها دعائم الدولة، وغير ذلك من الأُمور التي تَصُبُّ في صالح الرعِيَّةِ.
وهذا إنما قد فَعَلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، فحينما فَتَحَ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أرض خيبر إنما قَسَّمَها النبي قِسمَين، فَقَسَّمَ أحدَهُمَا على الغانمين، وصَيَّرَ القسم الآخرَ وقفًا على المسلمين ومصالحهم
(1)
.
القول الثاني: أن أرض العَنوة إنما تصير وقفًا من أوقاف المسلمين بمجرد الاستيلاء عليها.
أي: أنها تُترَكُ في أيدي أهلها، بحيث يزرعونها ويقومون بسقيها ورعايتها - فيما يُعرَف في اصطلاح أهل الفقه بالمساقاة والمزارَعة - على أن يَدفَعُوا للمسلمين شَطرًا مما يَدخُل من هذه الأرض.
وقد ذَكَرنَا فيما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة لخرص أهل الثمار، فكان صلى الله عليه وسلم يوصيه بالعدل وتحرِّي الدقة واجتناب الوقوع في الظلم، بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ"
(2)
، كما هو معلوئم في منهج الشريعة الإسلامية الذي يتسم دائمًا وأبدًا بالعدل والإنصاف والتسامُح.
وأصحاب هذا القول إنما يستدلُّون بفعل عمر والصحابة رضي الله عنهم لَمَّا فُتِحَت أرض الشام، وقَدِمَ الخليفة عمر رضي الله عنه إلى الجابية، وكان عازمًا على تقسيم الأرض، فحينئذٍ حَذَّرَهُ معاذٌ وعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنهما بخطورة ذلك، حيث قال معاذٌ رضي الله عنه: "وَاللَّهِ إِذًا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَه، إِنَّكَ إِنْ قَسَمْتَهَا اليَوْمَ
(1)
أخرجه البخاري (2334) عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال عمر رضي الله عنه: "لولا آخر المسلمين، ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر".
(2)
أخرجه أبو داود (1605)، عن عبد الرحمن بن مسعود، قال: جاء سهل بن أبي حثمة، إلى مجلسنا، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرصتم، فجذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا، أو تجذوا الثلث، فدعوا الربع"، قال أبو داود:"الخارص يدع الثلث للحرفة"، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود".
كَانَ الرُّبُعُ العَظِيمُ فِي أَيْدِي القَوْمِ، ثُمَّ يَبِيدُونَ، فَيَصيرُ ذَلِكَ إِلَى الرَّجُلِ الوَاحِدِ، أَوِ المَرْأَةِ، ثُمَّ يَأتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَسُدُّونَ مِنَ الإِسْلَامِ مَسَدًّا، وَهُمْ مَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ"
(1)
، ومن المعلوم ما لِمُعاذٍ رضي الله عنه مِن مكانةٍ في الإسلام، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد أثنى عليه بقوله:"وأعلمكم بالحلال والحرام معاذٌ"
(2)
، فما كان من عمر رضي الله عنه حينئذٍ إلا أن راجَعَ نفسه في أمر التقسيم، ووقف عند آيات سورة الحشر، فانتهى إلى صحَّة ما أشار عليه به معاذٌ وعليٌّ رضي الله عنهما مِن وَقْفِ الأرضِ في مصالح المسلمين، وحينئذٍ عارضَهُ بلالٌ رضي الله عنه وأصحابُهُ مُطالِبِين إياه بتقسيم الأرض بين الغانمين، فقالوا:"اقْسِمْهَا بَيْنَنَا وَخُذْ خُمُسَهَا"، فقال عمر رضي الله عنه:"تُرِيدُونَ أَنْ يَأْتِيَ آخِرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ شَيءٌ! لَا، هَذَا عَيْنُ المَالِ، ولَكِنِّي أَحْبِسُهُ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْكُمْ وَعَلَى المُسْلِمِينَ"، فقالوا:"اقْسِمْهَا بَيْنَنَا وَخُذْ خُمُسَهَا"، فقال عمر رضي الله عنه:"اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ"، فَمَا جَاءَ الحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ
(3)
.
وقد التَقَى الصحابةُ بعد ذلك عند هذا القول واتفقوا عليه، وسارَ الخلفاءُ بعدهم على ما انتهى إليه عمر رضي الله عنه.
القول الثالث: أن أرض العَنوة إنما تُقَسَّمُ بين المسلمين.
ودليل أصحاب هذا القول هو قول الله سبحانه وتعالى في آية الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، وهذا القول هو ما ذَهَب إليه بلالٌ وأصحابه، من حيث إنه فِعْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن فِعْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو أَوْلَى مِن فِعْلِ غيره.
(1)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(ص 74).
(2)
أخرجه الترمذي (3790)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(8/ 290).
(3)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(ص 71).
•
الرأي الراجح بين الأقوال الثلاثة:
والذي نراه وننتهي إليه من هذه الأقوال في المسألة هو أن أقربَها هو أن ذلك راجعٌ إلى اجتهاد الإمام وَنَظَرِهِ، بحيث يفعل ما يرى فيه مصلحة المسلِمِينَ.
ومَن أطال النظَّرَ والتأمُّلَ في المسألة وَجَدَ أن عُمَرَ رضي الله عنه كان على عِلمٍ بِفِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله رضي الله عنه:"لولا مَن سيأتي من الناس لَقَسَمْتُهَا بين المسلمين كما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر"
(1)
، وفي هذا دلالةٌ جليَّةٌ على أن عمر رضي الله عنه لم يخالِف في فِعله فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج عن قوله، ولكنه اجتهَدَ بالنظر إلى مصلحة المسلمين في الأزمان التالية لا في زمنه الحالي، فرأى أن يجعلها فيئًا يُنفَق في مصالح المسلمين.
ومن الأدلة كذلك على هذا القول ما كان في قصة بني النضير وإجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عن المدينة، وأنه بعد الاستيلاء على أموالهم كانت خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن استدلال أصحاب القول الثاني بهذه القصة وأنها تصير فيئًا بمجرد الاستيلاء عليها يُجابُ عنه بأن هذه الواقعةَ كانت في أول الإسلام.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: "لَا تُقَسَّمُ الأَرْض، وَتَكُونُ وَقْفًا يُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ المُقَاتِلَةِ، وَبِنَاءِ القَنَاطِرِ وَالمَسَاجِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الخَيْرِ، إِلَّا أَنْ يَرَى الإِمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ أَنَّ المَصْلَحَةَ تَقْتَضِي القِسْمَةَ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الأَرْضَ")
(1)
أخرجه البخاري (2334) عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال عمر رضي الله عنه: "لولا آخر المسلمين، ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 568)، حيث قال:" (ووقفت الأرض كمصر والشام والعراق). ابن شاس: أراضي الكفار المأخوذة بالاستيلاء قهرًا وعنوة تكون وقفًا يصرف خراجها في مصالح المسلمين وأرزاق المقاتلة والعمال وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير ولا تقسم".
وهذا القول فيه نظرٌ؛ فإن المشهور في مذهب مالكٍ هو القول بقسمة أرض العَنوة
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: "الأَرَضُونَ المُفْتَتَحَةُ تُقَسَّمُ كَمَا تُقَسَّمُ الغَنَائِمُ يَعْنِي: خَمْسَةَ أَقْسَامٍ").
فالإمام الشافعي في هذه المسألة إنما أخَذَ بما كان عليه الحال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة أخماسًا كالغنائم.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: "الإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ، أَوْ يَضْرِبَ عَلَى أَهْلِهَا الكُفَّارِ فِيهَا الخَرَاجَ، وَيُقِرَّهَا بِأَيْدِيهِمْ").
وهذا القول - كما أرى - إنما هو أصح الأقوال جميعًا وأعدلُها؛ لأن جميع الأدلة تلتقي عند هذا القول، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر إنما كان فِعلُه دليلًا على صحة على المذهب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قَسَّمَ نصف خيبر بين الغانمين، وترك النصف الثاني وقفًا بأيدي أصحاب الأرض
(4)
.
(1)
المشهور أنها تكون وقف وليس تقسيمها، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 100)، حيث قال:"فإن فتحت عنوة فهي على ثلاثة أقسام بعيد عن قهرنا فيخرب بحرق أو بعدم وتحت قهرنا غير أنه لا يسكن فيقطعه الإمام لمن فيه نجدة ولا حق للجيش فيه وقريب مرغوب فيه، فالمشهور أنه يكون وفقًا يصرف خراجه في مصالح المسلمين من أرزاق المجاهدين والعمال وبناء القناطر والمساجد والأسوار وغير ذلك".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 261)، حيث قال:" (عنوة) بفتح أوله، أي: قهرًا لما صحَّ عنه أنه قسمه في جملة الغنائم ولو كان صلحًا لم يقسمه".
(3)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 384)، حيث قال:"وإذا فتح الإمام بلدة عنوة "أي: قهرًا" فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين "كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر"، وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج".
(4)
تقدَّم تخريجه.
•
مذهب الحنابلة في المسألة:
أما الحنابلة فإن لهم ثلاثَ رواياتٍ في هذه المسألة:
الرواية الأولى: قسمة أرض العنوة بين الغانمين.
الرواية الثانية: أنها تصير وقفًا بمجرد الاستيلاء عليها
(1)
.
الرواية الثالثة: تتفق مع قوله أبي حنيفة رحمه الله في تخيير الإمام بين قسمتها وبين وقفها على مصالح المسلمين وإبقائها بأدي أهلها وأخذ الخراج منهم عنها
(2)
.
(1)
يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (2/ 372)، حيث قال: "هل يجوز للإمام أن يقف الأرض المفتوحة عنوة ويسقط حق الغانمين فيها بغير إذنهم أم لا؟
نقل عبد الله عنه أنه قال: كل أرض تؤخذ عنوة فهي لمن قاتل عليها بمنزلة الأموال، فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك؛ لأنه جعلها بمنزلة الأموال.
ونقل عبد الله في موضع آخر: إن وقفها من فتحها على المسلمين كما وقف عمر السواد فهي على ما فعل الفاتح لها، إذا كان من أئمة الهدى، فظاهر هذا أن له القسمة وله الوقف بغير إذنهم وهو الصحيح في المذهب".
(2)
يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكَلْوَذَاني (ص 217)، حيث قال: "ما فتح عنوة: وهي ما أجلي أهلها عنها بالسيف، ففيها ثلاث روايات:
أحدها: يكون غنيمة تقسم على ما ذكرنا من الأموال المنقولة.
والثاني: يخير الإمام بين قسمتها بين الغانمين، وبين وقفها على المسلمين.
والثالثة: تصير وقفًا على المسلمين بنفس الظهور عليها، فإن قسمها بين الغانمين فلا خراج عليها، وإن صارت وقفًا بالاستيلاء أو بالإيقاف فلا يجوز بيعها ولا رهنها ولا هبتها، ويضرب الإمام عليها خراجًا يؤخذ ممن جعلت في يده من مسلم أو معاهد وما كان فيها من نخيل أو أشجار فهو موقوف معها ولا عشر في ثمره وما استوقف فيها من غراس أو زرع ففي ثمره وحبوبه العشر مع الخراج".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 647)، حيث قال:" (عنوة)، أي: قهرًا وغلبة (وهي ما أجلوا)، أي: أهلها الحربيون (عنها بالسيف ويخير إمام بين قسمها) بين الغانمين (كمنقول و) بين (وقفها للمسلمين بلفظ يحصل به) الوقف (ويضرب عليها خراجًا) مستمرًّا (يؤخذ ممن هي بيده من مسلم وذمي) هو أجرتها كل عام".
أما المحققون من أئمة مذهب الحنابلة فإنهم يذهبون إلى هذه الرواية الثالثة المتوافقة مع مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةِ سُورَةِ الأَنْفَالِ وَآيَةِ سُورَةِ الحَشْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الأَنْفَالِ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا أَنَّ كُلَّ مَا غُنِمَ يُخَمَّسُ وَهُو قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]، وقَوْله تَعَالَى في آيَةِ الحَشْرِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ الَّذِينَ أَوْجَبَ لَهُمُ الفَيْءَ).
وليس هناك تعارضٌ ولا نسخٌ، بل إن الآيتين - في حقيقة الأمر - إنما هما آيتان مُحكَمَتان؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال في آية الأنفال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، وقال سبحانه وتعالى في آية الحشر:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} ثم قال بعدها سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} .
فالصّنف الأول المذكور في الآية: هم أولئك الفقراء المهاجرين الذين أَخرَجَهُم الكفارُ من ديارهم واستولوا على أموالهم، فهؤلاء المهاجرون بهم فقرٌ وحاجةٌ لكونهم إنما خرجوا من ديارهم وهاجروا منها دون أموالٍ، والذين ما فعلوا كل هذا إلا ابتغاء رضوان الله ووجهه سبحانه وتعالى، ولذا فإنهم خرجوا وتركوا وراءهم ما تركوه نصرةً لدين الله سبحانه وتعالى ونصرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا كان هذا الصنف مستحِقًّا لأن ينال من الفيء.
أما الصنف الثاني: فهم مَن ذَكَرَهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}، وهم الأنصار الذين استقبَلوا إخوانهم المهاجِرِين إليهم ورحَّبوا بهم وآثروهم على أنفسهم، ولم يجدوا في صدورهم حاجةً مما يدفعونه إلى إخوانهم ويقدمونه لهم، ولا مما يجدونه من تقديم إخوانهم عليهم في بعض الأُمور والرُّتَب وتقديمهم في الخلافة وغير ذلك، فاستحق هذا الصنف كذلك أن يُسهَمَ لهَ من الفيء كسابقه.
الصنف الثالث: وهم من ذَكَرَهُم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} ، وهم التابعون وأتباعهم وأتباع أتباعهم إلى يوم القيامة؛ لأنهم إنما ساروا على النهج السويِّ ولم يخالفوه إلى سواه من المناهج الفاسدة المعوَجَّةِ، فَالتَزَمُوا عقيدة التوحيد الخالص التي كان عليها منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، فاقتفوا آثار سابقيهم في كلِّ حركاتهم وسكناتهم.
هذا إلى جانب أنهم قد صَفَتْ قلوبُهم وخَلَت من أدناس
(1)
الغل والحقد والسوء، وهذا يظهر جليًّا في دعائهم لسابقيهم من إخوانهم، فطهُرَت قلوبُهم وسَمَتْ
(2)
نفوسُهُم، حتى إنهم صار ينطبق عليهم وَصْفُ الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة، في قوله:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} .
ومثل هذا من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ مِنْ هَذَا الفَجِّ
(3)
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"، قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَنْصَارِ
(1)
"الدنس": ضد النظافة والنقاء. وجمع دنس أدناس. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 648، 649).
(2)
سما يسمو سموًّا: علا. يقال: سمت همته إلى معالي الأُمور إذا طلب العز والشرف. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 290).
(3)
"الفج": الطريق الواسع في قبل جبل ونحوه، انظر:"العين" للخليل (6/ 24).
تَنْطِفُ
(1)
لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ الغَد، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ المَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِث، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأَوَّلِ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَلَّا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضيَ الثَّلَاثُ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَذَكَرَ اللَّهَ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غير أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاث، وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَه، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي هِجْرَةٌ وَلَا غَضَبٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ:"يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فَطَلَعْتَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ عَنْه، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي. فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ هِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ
(2)
.
فهذا الرجل إذن إنما نال ما نال من البشارة بالجنة والفوز في الآخرة بسبب ما نزعه الله من صدره من الغل والحسد والكراهية، وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، بأن يفرحَ إذا رأى خيرًا لأخيه، وحتى ولو كانت نفسه تتوق
(3)
إلى مثل هذا الخير فما عليه إلا أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن
(1)
نطف الماء: سال. ونطفت القربة: إذا قطرت. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 611).
(2)
أخرجه أحمد (12697)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
"تتوق": الشوق إلى الشيء والنزوع إليه. انظر. "لسان العرب" لابن منظور (10/ 33).
يهبه مثله أو يكتب له ما فيه الخير، وأن يديم الخير والنعمة على أخيه ويزيده من فضله، فهذه هي طهارة النفس التي بها يصفو بها الإنسانُ ويسمو إلى هذا المقام الرفيع الجليل.
والإنسان - في حقيقة الأمر - إنما تكون نظرته قاصرةً؛ لأنه لا يعلم الغيب، ولذلك فإنه لا يدري حكمة الله فيما قَسَمَه بين عباده، فربما يكون هذا الرجل قد أُعْطِيَ هذا الأمرَ من أُمور الدنيا وتكون أنتَ قد ادُّخِرَت لك أمور أعظم منه في الآخرة، بحيث يعوضك الله سبحانه وتعالى عن هذا بحسناتٍ يرفعك بها درجاتٍ يوم القيامة، فكلُّ هذه الأُمور إنما هي من الأُمور الغيبية التي لا يمكن أن يدركها العبدُ.
فعلى المسلم دائمًا أن يحسن الظن بالله، وأن يكون على عِلمِ يقينيٍّ بأنه إن أخلَصَ العمل لوجه الله وحده، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجرَ عمل عاملٍ من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ، وأنه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.
ولا شَكَّ أن عمر رضي الله عنه قد كان مُسَدَّدًا في اجتهاده الذي اجتهد فيه، وتَوَقُّفِهِ أمام آيات سورة الحشر وإمعان النظر فيها، رأى في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} خطابًا عامًّا للخلق أجمعين في كل الأمكنة والأزمنة، فقال حينئذٍ:"لا أرى هذه الآية إلا عَمَّت الخَلق، حتى الراعيَ بكداء"، وقال كذلك:"لئن بقيتُ بعد أن كَثُرَت الغنائم وتوالت على المؤمنين لَتَصلَنَّ هذه الأموالُ إلى من كان بسور حمير - أي: من كان بالأماكن المرتفعة باليمن - وإن لم يَعرَق له جبين"
(1)
. أي: وإن لم يبذل جهدًا في مقابِلِها.
وذلك إنما هو بسبب بقاء هذه الأموال، وأنه سيُوَزَّعُ بحيث يشمَل خيرُهُ ويعمُّ حتى الراعي الذي يرعى في غورٍ من الأغوار بين جَبَلَين.
وقد صار الأمر إلى ذلك - بفضل الله سبحانه وتعالى، بحيث قد تنوعَت الخيرات وتعدَّدَت بصورةٍ تَفوقُ ما كان مُتَوَقَّعًا، مما يجب علينا معه أن
(1)
سيأتي تخريجه.
نبادر إلى شُكْرِ الله سبحانه وتعالى حتى يزيدنا من فضله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} .
وليس الوصول لمثل هذه الدقائق والغوامض
(1)
مُستَغرَبًا من عُمَرَ، فإنه رضي الله عنه هو الذي أيَّدَهُ القرآن الكريم في أكثر من موضع، كتأييده في قضية أسرى بدرٍ، في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} ، وكذلك في نزول آيات الحجاب، هذا إلى جانب ما اقترَحَهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"يا رسول الله، لو اتخَذْتَ من مقام إبراهيم مُصَلًّى! "، فنَزَلَ قوله سبحانه وتعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(2)
.
فلعلَّ هذه المسألة تكون قد وَضَحَتْ بِجلاءٍ بعد أن فَصَّلْنَا القول فيها.
•
حُكم الأرض التي رَحَلَ عنها أهلُها من تلقاء أنفسهم:
ويبقى الآن أن نَعرِضَ إلى أن هناك من أهل العلم مَن يرى في المسألة قسمًا ثالثًا، وهو: تلك الأراضي التي يتركها أهلُها بحيث إنها أراضٍ لم تؤخَذ عَنوةً من أصحابها ولم يصالِح أهلُها المسلمين عليها كذلك، وإنما خرجوا منها وتركوها راحلين من تلقاء أنفسهم، وهذه المسألة لأهل العلم فيها قولان:
القول الأول: أنها تصير وَقفًا بمجرد خروج أهلها منها
(3)
.
(1)
يقال للأمر الخفيّ والمعتاص: أمر غامض. وكلام غامض: غير واضح. انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (1/ 712).
(2)
أخرجه البخاري (402)، ومسلم (2399) عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن)، فنزلت هذه الآية".
(3)
مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب" للشيرازي (3/ 302)، حيث قال: "الفيء هو المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال وهو ضربان؛ أحدهما: ما انجلوا عنه خوفًا من المسلمين أو بذلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه =
القول الثاني: أن الإمام لا بدَّ أن يكون هو مَن أَوْقَفَهَا
(1)
.
* قوله: (يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الحَاضِرِينَ وَالآتِينَ شُرَكَاءُ فِي الفَيءِ كمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، مَا أَرَى هَذِهِ الآيَةَ إِلَّا قَدْ عَمَّتِ الخَلْقَ حَتَّى الرَّاعِيَ بِكَدَاءٍ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ)
(2)
.
أما (كداء)، فالمعروف أنها بسور حِمْيَر، وهو مرتفع عن الأرض، يقع أسفل الجبل، وحِمْيَر إنما هي في الجبل، وهذا هو الوارد في الأحاديث المعروفة.
ولا أذكر نَصَّ الحديث، بل إن المؤلِّفَ نفسه شاكٌّ فيه ومتردِّدٌ، وهذا يُفهَم من قوله رحمه الله:(أو كلامًا هذا معناه).
* قوله: (وَلِذَلِكَ لَمْ تُقَسَّمِ الأَرْضُ الَّتِي افْتُتِحَتْ فِي أَيَّامِهِ عَنْوَةً مِنْ أَرْضِ العِرَاقِ وَمِصْرَ).
فهذا إنما قد تكرَّرَ في فتح مصر، فكما طلب بلالٌ وأصحابه من
= خمس الغنيمة والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ".
وعن أحمد روايتان، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 160، 161)، حيث قال:"فأما ما جلا عنها أهلها خوفًا من المسلمين، فتصجر وقفًا بنفس الظهور عليها؛ لأنها ليست غنيمة، فتقسم. وعنه: لا تصير وقفًا حتى يقفها الإمام".
(1)
هو رواية عن أحمد، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 160، 161)، حيث قال:"وعنه: لا تصير وقفًا حتى يقفها الإمام".
(2)
أخرجه أبو داود (2966) عن الزهري، قال: قال عمر: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة، فدك، وكذا وكذا ما {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم، وأموالهم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
عمر رضي الله عنه تقسم أرض الشام
(1)
، كذلك طلب الزبير من عمرو بن العاص رضي الله عنه تقسيم أرض مصر، ولكن عمرو بن العاص رفض وقال:"لا أقسمها"، فألَحَّ الزبير ومن معه على عمرو بن العاص في طلب القسمة، فأرسَلَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله في ذلك، فأيَّدَ عمر ما ذهب إليه عمرو بن العاص من عدم التقسيم
(2)
، وبذلك تكون أرض العراق وأرض الشام وأرض مصر إنما كانت جميعها وقفًا على المسلمين.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الآيَتَيْنِ مُتَوَارِدَتَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنَّ آيَةَ الحَشْرِ مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الأَنْفَالِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الأَرْضَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الآيَتَيْنِ لَيْسَتَا مُتَوَارِدَتَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، بَلْ رَأَى أَنَّ آيَةَ الأَنْفَالِ فِي الغَنِيمَةِ، وَآيَةَ الحَشْرِ فِي الفَيْءِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: تُخَمَّسُ الأَرْضُ وَلَا بُدَّ).
وهذا هو الأقرب للصواب فيما نرى، وهو أن آية الأنفال إنما نزلَت في الغنيمة، وآية الحشر إنما نَزلَت في الفيء، وكذلك أن آية الحشر قد عَدَّدَت أصناف الذين ذُكِرُوا في آية الأنفال.
وهذا هو الذي حَمَلَ الإمامَ الشافعيَّ
(3)
رحمه الله على إثبات القول بأن الأنفال مُخَمَّسَةٌ.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (1424) عن سفيان بن وهب الخولاني، قال: لما افتتحنا مصر بغير عهدٌ، قام الزبير بن العوام، فقال:"يا عمرو بن العاص اقسمها". فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: "والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر"، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر، رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 144)، حيث قال:" (والأصح أن النفل) بفتح الفاء وإسكانها (يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح) ".
بل إن الإمام الشافعيَّ رحمه الله هو أول مَن قال بهذا القول، وهذا ليس قوله الشافعي وحده، فإن هذا القوله كذلك هو رواية عن الإمام أحمد
(1)
كما روى ابن المنذر
(2)
، والقاضي من علماء الحنابلة المتقدمين
(3)
، لكن الإمامَ الشافعي أَسْبَقُ بهذا القول من الإمام أحمد
(4)
.
* قوله: (وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام "قَسَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الغُزَاةِ"
(5)
؛ قَالُوا: فَالوَاجِبُ أَنْ تُقَسَّمَ الأَرْضُ لِعُمُومِ الكِتَابِ، وَفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى البَيَانِ لِلْمُجْمَلِ فَضْلًا عَنِ العَامِّ)
(6)
.
والمراد بفعله صلى الله عليه وسلم هو ما كان منه لَمَّا قَسَّمَ نصف خيبر بين الغانمين، وتَرَكَ النصف الآخر بأيدي أهلها وقفًا للمسلمين.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 199)، حيث قال:"وقال الخرقيُّ: يُخمّسُ. واختارهُ أبُو مُحمّد يُوسُفُ الجوزيُّ. قال القاضي: ولم أجد عن أحمد بما قال الخرقيُّ نصًّا فعلى هذا، يُصرفُ مصرف خمس الغنيمة".
(2)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر 6/ 208، حيث قال:"وانفرد الشافعي كما قال ابن المُنذر وغيرُهُ بأن الفيء يُخمسُ وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم ولهُ خُمُسُ الخُمُس كما في الغنيمة وأربعةُ أخماس الخُمُس لمُستحق نظيرها من الغنيمة".
(3)
تقدَّم.
(4)
قال ابن المنذر: "ولا نحفظ من أحد قبل الشافعي في الفيء الخمس كخمس الغنيمة، وقد روي أن عمر لما قرأ آية الفيء قال: استوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له في هذا المال حق". يُنظر: "الإقناع" لابن المنذر (2/ 500 - 501).
(5)
أخرجه البخاري (4235) عن زيد، عن أبيه، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:"أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانًا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها".
(6)
تقسيم الأرض التي افتتحها المسلمون عنوة: فقد ذهب المالكية والحنفية إلى تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بين الغزاة، إنما هو من قبيل التصرف بالإمامة، فللإمام من بعده أن يجتهد في ذلك حسب المصلحة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تصرف بالفتوى لاتباعه صلى الله عليه وسلم في ذلك نص كتاب الله تعالى.
* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ القِسْمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَرَّ الكُفَّارُ فِيهَا عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ)
(1)
.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إنه لو فتح المسلمون بلدًا قهرًا، فإنَّ الحاكم أو ولي الأمر أو الرئيس مُخيَّر، إمَّا أن يقسمها بين المسلمين جميعًا، وإمَّا أن يقرَّ أهلها عليها، ويفرض عليهم الجزية، ويفرض على أراضيهم الخراج.
* قَوْله: (لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ
(2)
، ثُمَّ أَرْسَلَ ابْنَ رَوَاحَةَ فَقَاسَمَهُمْ
(3)
"؛ قَالُوا: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْهَا، قَالُوا: فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الإِمَامَ بِالخِيَارِ بَيْنَ القِسْمَةِ وَالإِقْرَارِ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه).
وقال بعضهم: إنما ساقى النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر من أجل اشتغاله بالجهاد في سبيل الله، وأمر بخَرْص ثمارها على اليهود من أجل أنه لم يأمنهم عليها.
* قوله: (وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ المَنِّ عَلَيْهِمْ أَوْ قِسْمَتِهَا عَلَى مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، أَعْنِي: مِنَ المَنِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً، فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 384)، حيث قال:"وإذا فتح الإمام بلدة عنوةً "أي: قهرًا"، فهو بالخيار، إن شاء قسمه بين المسلمين "كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر"، وإن شاء أقرَّ أهله عليه، ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج".
(2)
أخرجه البخاري (2329)، ومسلم (1551)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"عامل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثَمر أو زَرْعٍ".
(3)
أخرجه أبو داود (1606)، عَنْ عائشة رضي الله عنها أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف أبي داود".
فِي ذَلِكَ
(1)
، وَإِنْ كانَ الأَصَحُّ أَنَّهُ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً، لِأَنَّهُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
يقصد ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن رباح: جعل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر وبطن الوادي، فقال: يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار فجاؤوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا، وأخفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، قال: فما أشرف يومئذٍ لهم أحد إلا أناموه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن دخل دار
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (73)، حيث قال:"أن تكون أرض مكة أرض خراج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عَنوةً وقهرًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (3/ 360)، حيث قال:"ومكة مما فتح عنوةً، ولم تقسم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (2/ 363، 364)، حيث قال: "اخْتَلفت الرِّواية في مكة، هل فتحت صلحًا أم عنوةً؟
…
قال أبو إسحاق: والمسألة على روايتين:
إحداهما: أنها فتحها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صلحًا، ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لهم أمانًا بشرطٍ في غداة يوم الفتح، فوجد الشرط، فَصَاروا به آمنين على دمائهم وأموالهم.
والرواية الثانية: فتحها عنوةً بالسيف، ثم أمنهم بعد حصول الفتح".
أما مذهب الشافعية أنها فتحت صلحًا، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 78)، حيث قال:" (وفتحت مكة صلحًا) كما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: أهل مكة .. والخبر الصحيح: "مَنْ دخل المسجد فهو آمنٌ، ومن أغلق بابه فهو آمن"، وَاسْتَثْنى أفرادًا أمر بقتلهم يدلُّ على عموم الأمان للباقي، ولم يسلب صلى الله عليه وسلم أحدًا، ولا قسم عقارًا، ولا منقولًا، ولو فتحت عنوةً، لَكَان الأمر بخلاف ذلك".
أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن "
(1)
.
* قوله: (وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الفَيْءِ وَآيَةَ الغَنِيمَةِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الخِيَارِ؛ وَإِنَّ آيَةَ الفَيْءِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الغَنِيمَةِ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لَهَا أَنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الفَيْءِ وَالغَنِيمَةِ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالآيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، لِأَنَّ آيَةَ الأَنْفَالِ تُوجِبُ التَّخْمِيسَ، وَآيَةَ الحَشْرِ تُوجِبُ القِسْمَةَ دُونَ التَّخْمِيسِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى، أَوْ يَكُونَ الإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّخْمِيسِ وَتَرْكِ التَّخْمِيسِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الأَمْوَالِ المَغْنُومَةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَأَظُنُّهُ حَكَاهُ عَنِ المَذْهَبِ).
الخلاف واقعٌ في الآتي: الأرض التي أُخذت عَنوةً هل هي داخلة في آية الغنائم المذكورة في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية، أم هي داخلة في آية الفيء المذكورة في سورة الحشر:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الآية؟
* قوله: (وَيَجِبُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا تَرْكَ قِسْمَةِ الأَرْضِ، وَقِسْمَةُ مَا عَدَا الأَرْضِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً بَعْضَ مَا فِي الأَخْرَى أَوْ نَاسِخَةً لَه، حَتَّى تَكُونَ آيَةُ الأَنْفَالِ خَصَّصَتْ مِنْ عُمُومِ آيَةِ الحَشْرِ مَا عَدَا الأَرَضِينَ، فَأَوْجَبَتْ فِيهَا الخُمُسَ، وَآيَةُ الحَشْرِ خَصَّصَتْ مِنْ آيَةِ الأَنْفَالِ الأَرْضَ، فَلَمْ تُوجِبْ فِيهَا خُمُسًا، وَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ آيَةِ الحَشْرِ
(1)
أخرجه مسلم (1780).
أَنَّهَا تَضَمَّنَتِ القَوْلَ فِي نَوْعٍ مِنَ الأَمْوَالِ مُخَالِفٍ الحُكْمَ لِلنَّوْعِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الأَنْفَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى:{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشرت 6]، هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى العِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُوجَبْ حَقٌّ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ، وَالقِسْمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ إِذْ كانَتْ تُؤْخَذُ بِالإِيجَافِ).
ذَكَر بَعْضُ أَهْل التَّفْسير: أنَّ الفيءَ والغنيمةَ سواء، وهو كل مالٍ أخذ من المشركين، وآية الفيء الَّتي هي في سور الحشر منسوخة بآية الغنيمة التي في سورة الأنفال.
وَرَدَّ عَلَيهم بأنَّ دَعْوى النسخ لا تصحُّ إلا بدليلٍ يدلُّ على النَّسخ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ السَّادِسُ فِي قِسْمَةِ الفَيْءِ
أَمَّا الفَيْءُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، فَهُوَ كلُّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الكُفَّارِ مِنْ قِبَلِ الرُّعْبِ وَالخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ
(1)
عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ رَجِلٍ
(2)
(3)
.
(1)
(وجف) البعير أو الفرس عدا وجيفًا (وأوجفه) صاحبه إيجافًا وقوله: (وما أوجف) المسلمون عليه" أي. أعملوا خيلهم أو ركابهم في تحصيله. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص 478).
(2)
رَجِلَ رَجَلًا: إِذا مشى راجلًا. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (4/ 2435).
(3)
الفيء: ما أفاء الله من أموال الكفار على المسلمين ففاء إليهم؛ أي: رجع إليهم بلا حرب ولا إيجاف عليه بخيل وركاب، وذلك مثل الجزية وما صولح عليه المسلمون من أموالهم من خالف دينهم من الأرضين التي قسمت بينهم أو حبست عليهم بطيب من =
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الجِهَةِ الَّتِي يُصْرَفُ إِلَيْهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الفَيْءَ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الفَقِيرِ وَالغَنِيِّ).
وقد تكلَّمْنا عن الجهة التي يُصرَف إليها الفيء، وبَيَّنَّا مذاهب العلماء فيها:
- فمنهم: مَن ذهب إلى أن الفيء يشمل الأغنياء والفقراء، ولا تختص به طائفة دون أخرى
(1)
.
= أنفسهم. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (8/ 141)، و"الزاهر"، للأزهري (ص 187).
واصطلاحًا في مذاهب الفقهاء:
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 116)، قال:"الفيء فهو اسم لما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، نحو الأموال المبعوثة بالرسالة إلى إمام المسلمين، والأموال المأخوذة على موادعة أهل الحرب".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي"، لابن عبد البر (1/ 477)، قال:"الفيء كل ما أخذ من كافر على الوجوه كلها بغير إيجاف خيل ولا ركاب ولا قتال، ومنه جزية الجماجم وخراج الأرضين كلها ما كان منها صلحًا أو عنوة، وما أخذ على المهادنة، وما طرحته الريح من مراكب العدو، وكل ما حصل بأيدي المسلمين من أموال الكفار بغير قتال من تجار أهل الذمة وغيرهم".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (873)، قال:"الفيء وهو ما أخذ من الكفار بلا قتال ولا إيجاف".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (6/ 453)، قال:"الفيء: هو الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير قتال".
(1)
وهو مذهب الجمهور كما سيأتي من كلام المولف، ومذهب الشافعية ورواية عن أحمد، لكنها ليست الأشهر بأن الفيء يخمس، فأربعة أخماسه للنبي، وخمس يقسم كما يقسم خمس الغنيمة.
انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (8/ 4104 - 4106)؛ حيث قال:"قال أصحابنا: الفيء كل مال وصل إلينا من المشركين بغير قتال كالأراضي الذي أخلوا بالخراج والجزية والعشر ويصرف جميع ذلك إلى مصالح المسلمين".
وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 129)؛ حيث قال: "والفيء والجزية العنوية والصلحية وعشور أهل الذمة وخراج أرض الصلح محله بيت مال المسلمين يصرفه الإمام في مصارفه باجتهاده؛ فيبدأ من ذلك بآل النبي عليه الصلاة والسلام على جهة الاستحباب ثم يصرف للمصالح؛ أي: العائد نفعها على المسلمين كبناء المساجد والقناطر والغزو وعمارة الثغور وأرزاق القضاة وقضاء =
- ومنهم: مَن قيَّدَه في حق الأغنياء بما فيه مصلحة المسلمين ومنفعتهم، كأن يكون الأغنياء ممن يحاربون دفاعًا عن الإسلام
(1)
.
= الديون وعقل الجراح وتزويج الأعزب ونحوهم، وأشعر كلام المؤلف أن الفيء لا يلزم تخميسه". وانظر:"عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 248).
وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 29 - 30)؛ حيث قال:"فيخمس وخمسه لمصالحنا كثغور وقضاة وعلماء يقدم الأهم، ولبني هاشم والمطلب ولو أغنياء، ويفضل الذكر كالإرث، ولليتامى الفقراء منا - واليتيم صغير لا أب له -، وللمساكين ولابن السبيل الفقير منا، ويعم الإمام الأربعة الأخيرة والأخماس الأربعة للمرتزقة فيعطي كلًّا بقدر حاجة مموّنه".
وفي مذهب الحنابلة روايتان، إحداهما: يصرف في جميع مصالح المسلمين من غير تخميس، وهو قول عامتهم. والثانية: يخمس.
يُنظر: "المحرر في الفقه"، لأبي البركات بن تيمية (2/ 188)؛ حيث قال:"فيصرف في مصالح الإسلام، وعنه خمسه لأهل الخمس وبقيته للمصالح، ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وكفاية أهلها وغيرهم من جند المسلمين، ثم بالأهم فالأهم من سد البثوق وكرى الأنهار وعمل القناطر وأرزاق القضاة والمفتين والمؤذنين ونحوهم من كل ذي نفع عام، وإن فضل منه فضل قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 651).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"، لسحنون (1/ 347)؛ حيث قال:"قلت لابن القاسم: ما قول مالك في هذا الفيء أيساوي بين الناس فيه أم يفضل بعضهم على بعض؟ قال: قال مالك: يفضل بعضهم على بعض ويبدأ بأهل الحاجة حتى يغنموا منه".
ما ذكره الشارح هو تفريع للمسألة؛ إذ إن الفقهاء انقسموا فريقين كما سبق: الجمهور على عدم التخميس والشافعية على التخميس.
أما هذه الصورة التي ذكرها الشارح ففي مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 101)؛ حيث قال:"سيرة أئمة العدل في الفيء والخمس: أن يبدأ بسد المخاوف والثغور واستعداد آلة الحرب وإعطاء المقاتِلة، فإن فضل شيء فللقضاة والعمال وبنيان المساجد والقناطر، ثم يفرق على الفقراء، فإن فضل شيء فالإمام مخير بين تفريقه على الأغنياء وحبسه لنوائب الإسلام".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (6/ 455)؛ حيث قال:"الفيء مخموس، كما تخمس الغنيمة، في إحدى الروايتين. وهو مذهب الشافعي. والرواية الثانية، لا يخمس. نقلها أبو طالب، فقال: إنما تخمس الغنيمة. قال القاضي: لم أجد مما قال الخرقي من أن الفيء مخموس نصًّا فأحكيه، وإنما نص على أنه غير مخموس. وهذا قول عامة أهل العلم".
- ومنهم: من ذهب إلى أنه لا يشمل العبيد
(1)
، وقد انتهى الأمر إلى ذلك؛ حيث ذكَرْنا في هذا الشأن ما دار بين الصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنه، حين سَوَّى أبو بكر رضي الله عنه بين الناس وأدخل العبيد في العطاء، فقال له عمر:"يا خليفة رسول الله، أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم له - أي: للجهاد - كَمَنْ إنما دَخَلوا في الإسلام كرهًا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغٌ". فلما آل الأمر إلى عمر رضي الله عنه أَخرَجَ منهم هذا الصنف
(2)
.
ومن هنا وجدنا أن إدخالهم قد روي عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وروي إخراجهم عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، هذا فيما يتعلَّق بهذا الصنف.
* قوله: (وَإِنَّ الإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلَةِ وَللْحُكَّامِ وَللْوُلَاةِ، وَيُنْفِقُ
(1)
هذا أيضًا فرع عن المسألة الأصل، وقد اتفقوا على القول بعدم دخول العبيد في قسمة الفيء، وذهب الحنفيَّة إلى أنه لا حظ للعبيد في الفيء.
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (4/ 229)؛ حيث قال:"ولا يدخل في ذلك (الفيء) العبد، ولا الأعراب الذين لا يحضرون القتال".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (3/ 200)؛ حيث قال:"ويمنع أيضًا العبيد من مثل ذلك ليس لأنهم لا يصيبون لكن لأنهم لا حق لهم في الفيء، ولا يخمس ما غنموا ويترك لهم". وانظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد بن رشد (2/ 284).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم"، للشافعي (4/ 162)؛ حيث قال:"ولم يختلف أحد لقيته في أن ليس للمماليك في العطاء، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (2/ 35)؛ حيث قال:"وإن فضل عن المصالح منه فضل قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم إلا عبيدهم فلا يفرد العبد بالعطاء بل يزاد سيده".
(2)
أخرجه البزار في "مسنده (1/ 407)، وغيره، فقالوا: "يا خليفة رسول الله، لو فضلت المهاجرين قال: أجر أولئك على الله إنما هذه معايش". قال الهيثمي "مجمع الزوائد": "رواه البزار، وفيه أبو معشر نجيح ضعيف يعتبر بحديثه".
مِنْهُ فِي النَّوَائِبِ
(1)
الَّتِي تَنُوبُ المُسْلِمِينَ كَبِنَاءِ القَنَاطِرِ، وَإِصْلَاحِ المَسَاجِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ).
وكذلك يُنفِق الإمام من الفيء في شق الطرق والترع وبناء الجسور، وكل ما فيه مصلحة ومنفعة للمسلمين.
* قوله: (وَلَا خُمُسَ فِي شَيْءٍ مِنْه، وَبِهِ قَالَ الجُمْهُورُ
(2)
، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
(3)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلْ فِيهِ الخُمُسُ
(4)
، وَالخُمُسُ مَقْسُومٌ عَلَى الأصْنَافِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي آيَةِ الغَنَائِمِ
(5)
، وَهُمُ الأَصْنَافُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الخُمُسِ بِعَيْنِهِ مِنَ الغَنِيمَةِ).
(1)
النوائب: جمع نائبة، وهي المصيبة تنزل بالمسلمين. انظر:"المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (10/ 520).
(2)
في المذهب الحنفي، يُنظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (5/ 89)؛ حيث قال:"والفيء: ما نيل منهم بعدما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار سلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس".
وفي المذهب المالكي، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جزي (99)؛ حيث قال:"أما الأموال فهي أربعة أنواع (أحدها)، لله خالصًا وهو الجزية والخراج وعشر أهل الذمة وأهل الصلح وما أخذ بغير قتال، وذلك كله هو الفيء فيفعل الإمام في ذلك ما يراه مصلحة ولا يخمس خلافًا للشافعي".
(3)
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقيت عليًّا رضي الله عنه عند أحجار الزيت فقلت له: بأبي أنت وأمي، ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟ فقال علي رضي الله عنه: أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس، وما كان فقد أوفاناه، وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاءه مال السوس والأهواز". "مسند الشافعي"(325).
(4)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (3/ 302):"ففي تخميسه قولان: قال في القديم: لا يخمس لأنه مال أخذ من غير خوف فلم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء وقال في الجديد: يخمس وهو الصحيح للآية ولأنه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر لا يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذي انجلوا عنه".
(5)
يقصد آية الأنفال من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
وقد أشرنا إلى أن الإمام الشافعي هو أول مَن نُقل عنه القول بتخميس الفيء، وتابعه الحنابلة في إحدى الروايتين في المذهب.
* قوله: (وَإِنَّ البَاقِيَ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى عِيَالِهِ، وَمَنْ رَأَى).
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعلَ ذلك، فقد كان يحتفظ بنفقة سَنةٍ
(1)
، أمَّا ما زاد فكان يُنفِقه على الكُراع - يعني: الخيل - والسلاح وما فيه المصلحة للمسلمين.
* قوله: (وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِنَّ الفَيءَ غَيْرُ مُخَمَّسٍ، وَلَكِنْ يُقَسَّمُ عَلَى الأَصْنَافِ الخَمْسَةِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمُ الخُمُس، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا أَحْسَبُ).
نعم، فالشافعي له قولان في المسألة كما ذَكر المؤلف.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقَسَّمُ جَمِيعُهُ عَلَى الأَصْنَافِ الخَمْسَةِ، أَوْ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي قِسْمَةِ الخُمُسِ مِنَ الغَنِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ)
(2)
.
وقد ذَكَرْنا هذا، وبَيَّنَّاه تفصيلًا.
(1)
أخرجه مسلم (1757) عن عمر، قال:"كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله".
(2)
يُنظر: "روضة المستبين"(1/ 613)، لابن بزيزة قال:"وإذا قلنا بما ذهب إليه الجمهور من أن الفيء غير (مخمس)؛ فقد اختلفوا بعد ذلك في مصرفه، فقال قوم: هو إلى الاجتهاد فينظر فيه السلطان، فينفق منه على نفسه وعياله من رأي. وقال قوم: هو مقسوم على الأصناف الخمسة الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ".
قوله: (أَعْنِي: أَنَّ مَنْ جَعَلَ ذِكْرَ الأَصْنَافِ فِي الآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى المُسْتَحِقِّينَ لَه، قَالَ: هُوَ لِهَذِهِ الأَصْنَافِ المَذْكُورِينَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ، وَمَنْ جَعَلَ ذِكرَ الأَصْنَافِ تَعْدِيدًا لِلَّذِينِ يَسْتَوْجِبُونَ مِنَ هَذَا المَالِ قَالَ: لَا يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلَاءِ الأَصْنَافَ؛ أَعْنِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الخُصُوصِ لَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ، وَأَمَّا تَخْمِيسُ الفَيْءِ، فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ).
وقد حكاهُ ابن المنذر
(1)
وغيره.
قوله: (وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا القَوْلِ أَنَّهُ رَأَى الفَيْءَ قَدْ قُسِّمَ فِي الآيَةِ عَلَى عَدَدِ الأَصْنَافِ الَّذِينَ قُسِّمَ عَلَيْهِمُ الخُمُسُ).
يعني قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]؛ فالأصناف الواردة في هذه الآية هي نفسها الواردة في آية الغنيمة في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، لكن هناك:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} وهنا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} .
قوله: (فَاعْتَقَدَ لِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ الخُمُسَ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ مُخْتَصةٌ بِالخُمُسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ
(2)
، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (4/ 169)؛ حيث قال:"ولعمري لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي، قال: إن في الفيء خمس كخمس الغنيمة، وأخبار عمر تدل على غير ما قاله الشافعي".
(2)
ظاهر الآية يدل على أن كل الفيء مقسوم على خمسة. يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (8/ 390).
ومعنى الآية: أن خمسه مقسوم على خمسة حتى يستعمل على وجه لا يتنافيان ولا =
تَخُصُّ جَمِيعَ الفَيْءِ لَا جُزْءًا مِنْه، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ - فِيمَا أَحْسَبُ - قَوْمٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِصَةً، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الكُرَاعِ)
(1)
.
والكراع إنما يُقصَد به: الخيل والبغال والحمير
(2)
.
والقول الآخر وهو المنصرف أكثر: أنه يختص بالخيل
(3)
.
قوله: (وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ).
وفي الحديث دلالةٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أربعة أخماس الفيء.
قال المصنف رحمه الله:
= يسقط وأحد منهما بالآخر، ثم يدل على أبي حنيفة أن ما يملك من المشركين لم يكن جميعه خمسًا كالغنيمة، ثم يدل عليها أنه لما كان أربعة أخماس الغنيمة ملكًا للغانمين للوصول إليها بالرعب من المقاتلة وجب أن يكون أربعة أخماس الفيء ملكًا للرسول الله صلى الله عليه وسلم للوصل إليه بالرعب منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالرعب فالعدو يرهبني مسيرة شهر أو شهرين".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
الكراع: الخيل والبغال والحمير. انظر: "المغرب"، للمطرزي (ص 406).
(3)
قال الليث: "الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح إذا ذكر مع السلاح". "تهذيب اللغة"، للأزهري (1/ 202).
(الفصل السابع فِي الجِزْيَةِ
وَالكَلَامُ المُحِيطُ بِأُصُولِ هَذَا الفَصْلِ يَنْحَصِرُ فِي سِتِّ مَسَائِلَ).
المؤلف هاهنا لم يستوعب كل مسائل الجزية، فهي كثيرٌ جدًّا، لكنه كعادته يقتصر على أصول المسائل التي إذا ضَبَطْتَها وتَمكَّنْتَ منها أَمكَنَكَ أن تَرُدَّ الفروع إليها؛ فإنك إذا أَمسَكْتَ بالأصول سَهُلَ عليك أن تُلِمَّ بالفروع؛ لأنك إذا عَرفْتَ قاعدة جملة من الأحكام استَطَعْتَ أن تَجمَعَ كل جملة من الأحكام فتَصرِفها إلى ذلك الحكم الذي يجمعها.
وهنا يَذكُر المؤلف بابًا جديدًا يتناول فيه مسائل متعلقةً بكتاب الجهاد، أو هي جزءٌ منه.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: مِمَّنْ يَجُوزُ أَخْذُ الجِزْيَةِ؟).
إذن؛ هذا الباب يتناول أحكام الجزية.
والجزية صيغَتْ على وزن (فِعلة)، مِن (جَزَى يَجْزِي) إذا قَضَى
(1)
، يقول الله سبحانه:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، ويقال:(جَزَيْتُ فُلَانًا عما له عندي)؛ أي: (قَضَيْتُهُ حَقَّهُ)
(2)
، وَ:(جَزَيْتُهُ دَيْنَهُ)؛ أي: (أَدَيْتُهُ إِيَاهُ).
فالجزية معناها: القضاء
(3)
، وحكمها ثابتٌ في كتاب الله رحمه الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء عليها.
(1)
يُنظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (11/ 101).
(2)
يُنظر: "لسان العرب"، لابن منظور (14/ 145).
(3)
الجزية: الخراج المجعول على الإنسان؛ سمِّيت جزية؛ لأنها قضاء منه لما عليه، مأخوذة من القضاء، وقيل: من المجازاة والجزاء؛ لأنها جزاء أو مجازاة عن سكنى =
أما الكتاب: فقول الله - سبحان الله وتعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، والشاهد هاهنا:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لجنود (كِسْرَى) يوم فتح (نهاوند): "أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤَدُّوا الجزية، فإن فَعَلتُم ذلك عَصمتُم دماءكم"
(1)
.
= دارنا، أو عن حقن دمائهم، أو عن كفنا عن قتالهم. يُنظر:"الزاهر في معاني كلمات الناس"، للأنباري (1/ 386)، و"تهذيب اللغة"، للأزهري (11/ 101). وانظر:"الأحكام السلطانية"، للقاضي أبي يعلى (153):
واصطلاحًا في مذاهب الفقهاء:
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية"، للبابرتي (6/ 44)، قال:"والجزية اسم لما يؤخذ من أهل الذمة". وانظر: "درر الحكام"، لملا خسرو (1/ 298).
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المختصر الفقهي"، لابن عرفة (3/ 71)، قال:"ما لزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإسلام وصونه".
وانظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد (1/ 368)، قال:"هي ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على كفرهم".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"كفاية النبيه في شرح التنبيه"، لابن الرفعة (3/ 17)، قال:"الجزية: عبارة عن المال المأخوذ بالراضي من الكفار لإسكاننا إياهم في دار الإسلام، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفنا عن قتالهم، على اختلاف في ذلك".
وانظر: "النجم الوهاج"، للدميري (9/ 385)، قال: "هي المال المأخوذ من الكفار في كل سنة بالتراضي
…
" إلخ، فزاد قيد كل سنة.
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (2/ 42)؛ حيت قال:"الجزية: مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلًا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا".
(1)
أخرجه البخاري (3159) وفيه "
…
فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا، أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم".
فائدة:
وقوله الوارد في مطلع هذا الحديث: "حتى تعبدوا الله وحده". إنما هو الدعوة التي نجدها منذ أُنزِلَت الكتب وأُرسِلَت الرُّسل وأُقِيمَ ميزانُ العدل، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].
فالله قد خلق الخلق لعبادته - سبحان الله وتعالى - لا شريك له.
والمسلم ينبغي أن يكون مُتَّقِيًا اللَّهَ - سبحان الله وتعالى - في كل أحواله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتق الله حيثما كنتَ، وأَتْبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالِقِ الناسَ بِخُلقٍ حَسنٍ"
(1)
.
وقد مر بنا في حديث بريدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَليدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ إِلَيْهِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى المُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ
(1)
أخرجه الترمذي (1987)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب الترهيب"(123).
هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ"
(1)
.
فهذان الحديثان أيضًا فيهما دليلٌ على مشروعية الجزية.
فالجزية إذن ثابتةٌ بالكتاب والسُّنة وبإجماع العلماء على ومشروعيتها
(2)
.
لكن هنا يرد سؤال: لماذا شُرِعَت الجزية؟
(3)
.
نحن نعلم أن دين الإسلام قام على العدل، وأن الله - سبحان الله وتعالى - في كتابه
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة، قال:"وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة".
وانظر: "الإقناع"، لابن القطان، قال:"والجزية ركن من أركان (الفيء)، وهي حلال بإجماع".
(3)
اختلفت عبارات الفقهاء في الحكمة من مشروعية الجزية:
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية"، للبابرتي (6/ 44)، قال:"هي عوض عن ترك القتل والاسترقاق الواجبين فجاز كإسقاط القصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الفروق"، للقرافي (3/ 10)؛ حيث قال:"وذلك أن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوقع المصلحة العليا، وذلك هو شأن القواعد الشرعية. بيانه: أن الكافر إذا قتل انسد عليه باب الإيمان وباب مقام سعادة الجنان وتحتم عليه الكفر والخلود في النيران وغضب الديان فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان لا سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام والإلجاء إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 380).
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية البجيرمي على الخطيب"(4/ 274)؛ حيث قال: "وليست في مقابلة تقريرهم على الكفر جزما بل فيها نوع إذلال لهم، واختلف الأصحاب فيما يقابلها، فقيل: هو سكنى الدار وقيل: ترك قتالهم في دارنا.
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 117)؛ حيث قال: " (فالجزية) مأخوذة من الجزاء (مال يؤخذ منهم على وجه الصغار) بفتح الصاد المهملة؛ أي: الذلة والامتهان (كل عام بدلًا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا) فإنهم لو لم يبذلوها، لم يكف عنهم.
العزيز أَمَرَ بالعدل وأَوْصَى به: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90].
ويقول - سبحان الله وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
ولقول سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وقال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنَابرَ مِنْ نورٍ"
(1)
؛ أي: الذين يعدلون في أحكامهم وتَعامُلِهم مع الناس.
هذه الشريعة أيها الإخوة لا تجد فيها نقصًا ولا يتطرق إليها خللٌ ولا يصل إليها عيبٌ، إنما هي شريعةٌ كاملةٌ، استوفت كل ما يحتاجه الناس في يقظتهم ونومهم وأسفارهم وإقامتهم وفي كل أحوالهم، والله - سبحان الله وتعالى - الذي أنزل هذه الشريعة هو الذي أَمَرَ بالعدل وحَرَّمَ الظلم؛ لأن العدل ينافي الظلم والظلم ينافي العدل، فالذي يعدل لا يظلم والذي يظلم قد جَافَى العدلَ
(2)
وخَالَفَه، ونحن نجد أن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" لِأَجْلِهَا قامت السنة وأُنزِلَت الكُتب وبُعِثَت الرسل وخرِّدَت السيوف وجُوهِدَ في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.
إذن؛ هذه الجزية حقّ مشروعٌ فُرِضَ على أناسٍ يقيمون في أرض المسلمين، فمن يريد ألا يَدفَعَها فما عليه إلا أن يُقبِل على هذا الدِّين العظيم الذي بعد أن قسم الله علينا - سبحان الله وتعالى - الشرائع السابقة إلى شريعتنا، قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
(1)
أخرجه أحمد (6492) عن عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني. انظر:"آداب الزفاف"(280).
(2)
أي: بعد عنه. يقال: جافى عضديه؛ أي: باعدهما عن جنبيه. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص 86).
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل.
فالدِّين هو دين الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
فالله - سبحان الله وتعالى - أمر بإقامة هذا الدِّين ونهى الأُمة عن التفرق، لأنه بالتفرق تختلف الكلمة، وإذا اختلفت الكلمة دب النزاع وتجزَّأ المسلمون وطمع فيهم أعداؤهم، وهذا الاختلاف إنما هو من صفات أهل الجاهلية، أما الإسلام فإنه يَجمع ولا يُمْرِّق، والله - سبحان الله وتعالى - يقول؛ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 104].
وهذا الحق الذي يؤخذ من غير المسلمين ممن يقيمون في دار الإسلام، هل هو خاصّ بالمال أو هو أشمل من ذلك؟
سيأتي الكلام عنه، وأن أكثر العلماء يرون أنه لا يقتصر على المال، وإنما ربما يؤخذ من أهل الصنعة من صنعتهم، ومن أهل الثياب من ثيابهم، وأن الجزية تؤخذ في أي حالة كانت
(1)
، ولكن سنرى أيضًا عند
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية"، للبابرتي (6/ 46)؛ حيث قال:"وقوله صلى الله عليه وسلم: "
…
أو عدله معافر"؛ أي: أو خذ مثل دينار بردًا من هذا الجنس يقال: ثوب معافري منسوب إلى معافر بن مر ثم صار له اسمًا بغير نسبة. وذكر في "الفوائد الظهيرية": معافر حيٌّ من همدان ينسب إليه هذا النوع من الثياب وعدل الشيء بفتح العين مثله إذا كان من خلاف جنسه وبالكسر مثله من جنسه (قوله: ولأنه وجب نصرة للمقاتلة) وكل ما وجب نصرة للمقاتلة وجب متفاوتًا (كما في خراج الأرض) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (2/ 175)؛ حيث قال:"وهذا كما قال ومعناه أن النعم لا تؤخذ منهم صدقة كما تؤخذ من المسلمين؛ لأنهم لا زكاة عليهم في أموالهم، وإنما تؤخذ منهم النعم في جزيتهم بقيمتها، وقد فسر ذلك ابن وهب في "جامعه" فقال: وأخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كان يؤتى بنعم كثيرة من نعم الإبل فيأخذها في الجزية، قال:=
العلماء فيها مراعاة لأحوال الناس، فَمِمَّا يدل على عدالة الإسلام وسُمُوِّ هذه الشريعة ورفعتها أن الإسلام راعى ظروف الناس؛ فالجزية لا تجب على امرأةٍ، ولا على صبيٍّ
(1)
ولا على عبدٍ
(2)
، كذلك أيضًا - عند كثيرٍ من العلماء - نجد أنها لا تجب على شيخٍ فانٍ، ولا على مريضٍ أصابه مرضٌ أَقْعَدَه، ولا على راهبٍ في صومعته، وَلا على أعمى، إلى غير ذلك
(3)
.
= وذلك بالقيمة تكون جزيته عشرة دنانير فتؤخذ بنت مخاض بكذا وكذا، وابنة لبون بكذا وكذا فيكون ذلك بالقيمة
…
وكذلك سائر العروض والثياب". مذهب الشافعية لم أقف عليه.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 336)؛ حيث قال: "وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم
…
وكان عمر يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية.
وروي عن علي رضي الله عنه: "أنه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه، من صاحب الإبر إبرًا، ومن صاحب المسالِّ مسالًّا، ومن صاحب الحبال حبالًا"".
وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 122).
(1)
يُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (62)، قال:"وأجمعوا على ألَّا تؤخذ من صبي، ولا من امرأة: جزية".
(2)
يُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (62)، قال:"وأجمعوا على أنه لا جزية على العبيد".
(3)
اختلف الفقهاء في أخذ الجزية من هذه الفئات، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا جزية على هؤلاء، وقيد الحنفية الرهبان بما إذا كانوا لا يقدرون على العمل، وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الجزية عليهم.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية"، للمرغيناني (2/ 402)، قال:"ولا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس كذا ذكر هاهنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يوضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف رحمه الله".
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جري (ص 104)؛ حيث قال:"لا يعقد الذمة إلا الإمام، ولا تعقد إلا لكافر حر بالغ ذكر قادر على أداء الجزية يجوز إقراره على دينه ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهب منقطع في ديره؛ فأما المرأة والعبد والصبي فهم أتباع ولا جزية عليهم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 64)؛ حيث قال: " (ولا جزية على امرأة)، لقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ،=
إذن؛ نجد أن الشريعة الإسلامية قامت على أُسُسٍ، منها:
- رفع الحرج؛ أي: التيسير على الناس
(1)
.
- مراعاة مصالح الناس والتخفيف عنهم
(2)
.
- وقامت كذلك على الرحمة، ورسولها إنما هو نبي الرحمة، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
قوله: (الثَّانِيَةُ: عَلَى أَيِّ الأَصْنَافِ مِنْهُمْ تَجِبُ الجِزْيَةُ؟).
المشركون كثيرون، فهناك:
- أهل كتاب، سواء كانوا يهودًا أو نصارى.
- وهناك من لهم شبهة كتاب، وهم المجوس، وهؤلاء - كما قال العلماء - كان لهم كتاب فَرُفِعَ، وذكروا قصة في ذلك
(3)
.
= وهو خطاب الذكور، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه:"أنه كتب إلى أمراء الأجناد ألَّا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان". تنبيه: لو طلب النساء عقد الذمة بالجزية أعلمهن الإمام بأنه لا جزية عليهن؛ فإن رغبن في بذلها فهي هبة لا تلزم إلا بالقبض".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 120):"ولا جزية على مجنون ولا زمِنٍ ولا أعمى ولا شيخ فانٍ ولا راهب بصومعة، وهو الذي حبس نفسه وتخلَّى عن النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لأنهم لا يقتلون فلم تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان". وانظر: "الإقناع"، للحجاوي (2/ 44).
(1)
يُنظر: "الموافقات"، للشاطبي (1/ 520)؛ حيث قال: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
(2)
يُنظر: "شرح تنقيح الفصول"، للقرافي (410)؛ حيث قال:"والشرائع شأنها رعاية المصالح".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية"، للعيني (7/ 243)، قال:"وأما المجوس فلهم شبهة الكتاب". =
- وهناك مشركون لا كتاب لهم، وهؤلاء إما أن يكونوا من العرب وإما من غير العرب.
قوله: (الثَّالِثَةُ: كمْ تَجِبُ؟).
الله - سبحان الله وتعالى - أمر بأخذها في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، ولم يحددها - سبحان الله وتعالى - بقدر معين، لكن هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته تقدير لها؟ هذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
قوله: (الرَّابِعَةُ: مَتَى تَجِبُ وَمَتَى تَسْقُطُ؟).
هل الجزية لا تجب إلا بِحَوَلَان الحول كالزكاة والديات؟ أم أنها تجب مطلقًا؟
هذا أيضًا سيأتي بيانه في حينه، وسنعرف أنها تجب بِحَوَلَان الحول.
قوله: (الخَامِسَةُ: كمْ أَصْنَافُ الجِزْيَةِ؟).
وفي هذا الباب سيأتي بيان الجزية، هل تؤخذ من صنف واحد أو
= وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (2/ 172)؛ حيث قال:"فأما المجوس فإنه يسن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم وليسوا عنده بأهل كتاب. وانظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 375).
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 87)؛ حيث قال: " (ولا تعقد إلا لليهود والنصارى) وصابئة وسامرة
…
(والمجوس) لأخذه لها صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". رواه البخاري، ولأن لهم شبهة كتاب".
وفي "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 63)؛ حيث قال:"والأظهر أنه كان لهم كتاب فرفع".
في مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 117 - 118)؛ حيث قال:" (ولمن له شبهة كتاب كالمجوس)؛ لأن عمر لم يأخذها منهم: "حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن النبي" صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر". رواه البخاري. قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". رواه الشافعي. وإنما قيل لهم شبهة كتاب؛ لأنه روى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم.
أكثر؟ وهل هناك فَرقٌ في أخذها على ما كان صلحًا وما أُخِذَ عنوةً أم لا، وكذلك الحال فيما يُعرَف بالعشور - وهم بعض أهل الكتاب في بلاد المسلمين ممن يُؤْذَن لهم بالدخول لأجل التجارة - هل يؤخذ منهم شيءٌ مقابل ذلك أم لا؟
قوله: (السَّادِسَةُ: فِي مَاذَا يُصْرَفُ مَالُ الجِزْيَةِ؟).
وهذا ينبني على معرفة الجزية إذا ما كانت غنيمةً أم فيئًا، وسيأتي معنا أن الجزية إنما هي أحد أنواع الفيء، مثلها مثل الخراج، ومثل ما يتركه المشركون من أموال، وكذلك مثلها مثل مال الكافر إذا مات عنه ولا وارث له، فسيأتي معنا بيان هذا كله، وكذا بيان المسائل التي تأتي عرضًا في أحكام الجزية.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: فَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الجِزْيَةِ مِنْه، فَإِنَّ العُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ العَجَمِ
(1)
، وَمِنَ المَجُوسِ
(2)
كَمَا تَقَدَّمَ).
وإجماع العلماء هنا ينبني على صريح ما ورد في كتاب الله، في قوله عز وجل:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، وفي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورد في حديث المغيرة الذي أخرجه البخاري في "صحيحه"
(3)
، وفي حديث بريدة الذي أخرجه أصحاب السنن
(4)
؛ فهذا ثابتٌ بالنقل، والثابت
(1)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 353)، قال:"واتفقوا على وجوب أخذ الجزية من اليهود والنصارى، ومن كان منهم من الأعاجم".
(2)
يُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (62)، قال:"أجمعوا على أخذ الجزية من المجوس".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
لم أجده في السنن، وإنما أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 278)(42) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب". وضعفه الألباني في "الإراوء"(1248).
بالنقل هو ما ثبت بالكتاب أو السنة أو بأحدهما، وهنا ثبت حكمها بالكتاب والسُّنة وجاء الإجماع على ذلك، فلا خلاف إذن في أخذ الجزية.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ
(1)
، وَفِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنَ العَرَبِ)
(2)
.
(1)
ذهب الحنفية، وهو المشهور من مذهب المالكية، أن الجزية تؤخذ ممن لا كتاب لهم، وذهب الشافعية، والحنابلة إلى أنها لا تؤخذ منهم.
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(236)، قال:"وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (449)، قال:"وتؤخذ الجزية من جميع الكفار من أهل الكتاب والمجوس والصابئة، وعبدة الأوثان والثيران وغيرهم".
وانظر: "مناهج التحصيل"، لابن رشد (2/ 276)، قال: "معرفة من تؤخذ منه الجزية من الكفار: فقد اختلف فيه المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تؤخذ من كل من دان بغير الإِسلام - أعجميًّا كان، أو عربيَّا، كتابيًّا أو لا كتاب له
…
وهو قول مالك في "المدونة"، وهو المشهور من المذهب". وانظر:"الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي (1/ 435).
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 63)؛ حيث قال "وأما الصابئة والسامرة فتعقد لهم الجزية إن لم تكفرهم اليهود والنصارى، ولم يخالفوهم في أصول دينهم، وإلا فلا تعقد لهم، وكذا تعقد لهم لو أشكل أمرهم، وأما من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والملائكة ومَن في معناهم كمن يقول إن الفلك حي ناطق، وإن الكواكب السبعة آلهة فلا يقرون بالجزية، سواء فيهم العربي والعجمي، وعند أبي حنيفة تؤخذ الجزية من العجم منهم، وعند مالك تؤخذ من جميع المشركين إلا مشركي قريش".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 118)؛ حيث قال:" (وكالصابئين وهم جنس من النصارى نصًّا) وعنه أنهم يسبتون، وروى عن عمر فهم بمنزلة اليهود. وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى وروي أنهم يقولون: "إن الفلك حي ناطق، وأن الكواكب السبعة آلهة، وحينئذ فهم كعبدة الأوثان". (ومن عداهم)؛ أي: عدا أهل الكتاب ومن وافقهم في التدين بالكتابين ومن له شبهة كتاب كالمجوس (فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل) ".
(2)
اتفق الفقهاء على قبول الجزية من أهل الكتاب العرب.=
ومن العلماء من يرى أن تؤخذ الجزية من كلهم، وبعضهم يستثني العرب، وبعضهم يستثني نوعًا من العرب.
لكن المتفق عليه والمجمع عليه أنها تؤخذ من أصناف ثلاثة:
- مِن اليهود، ومَن يدين بدينهم مِن السامرة
(1)
.
- ومِن النصارى، ومَن يدين بدينهم كالروم
(2)
، واليعقوبية
(3)
وأمثال هؤلاء.
= مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية"، للبابرتي (6/ 48)، قال: " (وتوضع الجزية على أهل الكتاب) سواء كانوا من العرب أو من العجم (لقوله تعالى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لابن رشد (1/ 376 - 377)؛ حيث قال:"وأما الذين تؤخذ منهم الجزية على اختلاف، فمشركو العرب ومن دان بغير الإسلام [من العرب و] ليس من أهل الكتاب ولا المجوس، أما مشركو العرب فذهب مالك إلى أن الجزية تؤخذ منهم".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع"، للشربيني (2/ 569)، قال:"أن يكون المعقود معه من أهل الكتاب، كاليهودي والنصراني من العرب والعجم الذين لم يعلم دخولهم في ذلك الدين بعد نسخه لأصل أهل الكتاب".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (3/ 367)؛ حيث قال:" (وقال القاضي: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم)؛ لأنهم من العرب، أشبهوا بني تغلب، وذكر هو وأبو الخطاب أن حكم مَن تنصر من تنوخ، وتهوَّد من كنانة، وتمجَّس من تميم حكم بني تغلب سواء. وقيل: لا، واختارها المؤلف، وحكاه نص أحمد". وانظر: "الإنصاف"، للمرداوي (4/ 222).
(1)
السامرة: قوم يسكنون جبال بيت المقدس، وقرايا من أعمال مصر، ويتقشفون في الطهارة أكثر من تقشف سائر اليهود، أثبتوا نبوَّة موسى، وهارون، ويوشع بن نون عليهم السلام، وأنكروا نبوَّة من بعدهم من الأنبياء إلا نبيًّا واحدًا، وقالوا: التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد يأتي من بعد موسى، يصدق ما بين يديه من التوراة، ويحكم بحكمها، ولا يخالفها ألبتة. يُنظر:"الملل والنحل"، للشهرستاني (2/ 23).
(2)
الروم: اسم أطلقه العرب على البيزنطيين سكان الإمبراطورية الرومانية الشرقية. يُنظر: "مجم اللغة العربية المعاصرة"(2/ 962).
(3)
اليعقوبية: فرقة من النصارى، أصحاب يعقوب: قالوا بالأقانيم الثلاثة (الأب، الابن، الروح القدس)، إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحمًا ودمًا، فصار الإله هو=
- ومِن المجوس، وهؤلاء جاء في بعض الآثار المنسوبة إلى عليٍّ رضي الله عنه أن مَلِكَهُم حَصَلَ منه أنه وَقَعَ على ابنته أو أخته، فجاؤوا ليقيموا عليه الحد فأبى، واستعان ببعض رجاله الذين في مملكته، فحصل قتالٌ، وقال: إنه يدين بدين آدم
(1)
. وآدم - كما هو معلومٌ - قد زَوَّجَ أبناءه من بناته، لكن ذلك كان في أول الأمر قبل أن يُحَرَّم، وقد كان ذلك أمرًا متعينًا ومتحتمًا، ثم بعد ذلك رُفِعَ كتابُه؛ ولهذا فالمجوس لهم شبهةٌ في ذلك، وشبهة الكتاب هذه كانت سببًا في أن تؤخذ منهم الجزية.
إذن؛ فمن لهم شبهة كتابٍ هم المجوس، أما من لهم كتاب بلا خلافٍ ولا شبهةٍ هم اليهود الذي أُنزِلت عليهم التوراة، والنصارى الذين أُنزِل عليهم الإنجيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أُنزِل الكتاب على طائفتين من قبلي"
(2)
، لكنهم حرفوا وبدلوا، ولو لم يكن تحريفهم وتبديلهم لكانوا أسرع الناس استجابةً لدين الإسلام، فكثير منهم يعلمون حقًّا ويقينًا أن الإسلام دين الحق، وأن محمدًا رسولُ الله ونَبِيُّه، وهم - كما قال ربنا -:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، وكانوا يبشرون به، ويهددون الأوس
(3)
= المسيح. وهو الظاهر بجسده، بل هو هو. يُنظر:"الملل والنحل"، للشهرستاني (2/ 30).
(1)
الأثر أخرجه "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 317) وفيه: "
…
فقال علي رضي الله عنه: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم، فدعا أهل مملكته، فلما أتوه قال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد كان ينكح بنيه من بناته، وأنا على دين آدم، ما يرغب بكم عن دينه؟ قال: فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم، فهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزية".
(2)
لم أجد من أخرجه.
(3)
الأوس: قبيلة من الأنصار، نسبة إلى أوس بن حارثة بن ثعلبة البُهْلول بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغِطريف بن امرئ القيس. يُنظر:"اللباب"، لابن الأثير (1/ 93).
والخزرج
(1)
بذلك وبأنهم سيؤمنون به وسيقاتلون تحت لوائه، لكن غلبَ عليهم العناد والكبر والحقد والحسد، فلما جاء تَنَكَّرُوا لذلك، فحاق بهم ما نزَلَ بهم.
قوله: (بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِيمَا حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ قُرَشِيٍّ كتَابِيٍّ
(2)
، وَتَقَدَّمَتْ هَذ المَسْأَلَةُ).
وسيأتي الكلام عن بني تغلب، الذين هم من بني وائل من بني نزار، وهم من النصارى الذين انتقلوا إلى النصرانية في الجاهلية
(3)
(4)
، وقد
(1)
إحدى قبائل الأنصار نسبة إلى الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن امرئ القيس بن ثعلبة. يُنظر: "الأنساب"، للسمعاني (5/ 119).
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 201)؛ حيث قال: " (قوله: ولو قرشيًّا)؛ أي: فتؤخذ الجزية منهم على الراجح قال المازري: إنه ظاهر المذهب وهو مقتضى إطلاق المصنف، وهذه طريقة، ولابن رشد طريقة أُخرى: لا تؤخذ منهم إجماعًا إما لمكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأن قريشًا أسلموا كلهم فإن وجد منهم كافر فمرتد، وإذا ثبتت الردة فلا تؤخذ منهم". وانظر: "حاشية العدوي (1/ 491) انظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد (1/ 376).
(3)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 178)؛ حيث قال:"وبنو تغلب قوم من النصارى من العرب كانوا بقرب الروم فلما أراد عمر رضي الله عنه أن يوظف عليهم الجزية أبوا وقالوا: نحن من العرب نأنف من أداء الجزية؛ فإن وظفت علينا الجزية لحقنا بأعدائك من الروم، وأن رأيت أن تأخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض وتضعفه علينا فعلنا ذلك؛ فشاور عمر رضي الله عنه الصحابة في ذلك، وكان الذي يسعى بينه وبينهم كردوس التغلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، صالحهم، فإنك إن تناجزهم لم تطقهم فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن يأخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين، ولم يتعرض لهذا الصلح بعده عثمان".
(4)
اتفق أئمة المذاهب الأربعة على الجزية لا تأخذ من بني تغلب وتؤخذ منهم الزكاة ضعف ما تؤخذ من المسلمين، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى أخذ الجزية منهم.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية"، للمرغيناني (2/ 405)، قال:"ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ". =
عَرَضَ عليهم عمر رضي الله عنه أن يدفعوا الجزية، فأنفوا أن يدفعوها، وقالوا:"نحن عرب، فينبغي أن نُعامَل مثل العرب"، وعرضوا على عُمَرَ أن يدفعوا الزكاة كما يَدفَع غيرهم مِن المسلمين، فلما أبى عُمَرُ لَحِقَ جماعةٌ منهم بالروم، فنُصح عُمَرُ رضي الله عنه بأن هؤلاء قومٌ لهم قوةٌ وفيهم منعةٌ، فإذا ما انتقلوا إلى أعداء المسلمين استعان بهم أعداء المسلمين، فأَرْسَلَ عُمَرُ رضي الله عنه
= وفي مذهب المالكية، يُنظر:"كفاية الطالب الرباني"، للشاذلي (1/ 491 - 492)؛ حيث قال:" (و) تؤخذ (من نصارى العرب) عبد الوهاب: والعجم وبنو تغلب وغيرهم في ذلك سواء لقوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية، ولأن الشرك قد شملهم فلا اعتبار بأنسابهم. قال العدوي في "حاشيته": وقوله: العرب والعجم
…
إلخ؛ قصد بذلك التعميم رد المخالف فقد قيل: إنها لا تؤخذ من العرب وليس إلا القتل أو الإسلام لرده بقوله والعرب والعجم في ذلك سواء". وانظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (4/ 127).
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 73)؛ حيث قال: " (ولو قال قوم) من الكفار ممن تعقد لهم الجزية: (نؤدي الجزية باسم صدقة، لا) باسم (جزية) وقد عرفوها حكمًا وشرطًا (فللإمام إجابتهم إذا رأى) ذلك وتسقط عنهم الإهانة واسم الجزية؛ لما روى البيهقي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه فعل ذلك بمن تنصَّر من العرب قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تنوخ ونهرا وبنو تغلب لما طلبها منهم أبوا دفعها وقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم، فخذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض، يريدون الزكاة، فقال: إنها طهرة للمسلمين ولستم من أهلها
…
فصالحهم عمر
…
على أن يضعف عليهم الصدقة ويأخذها جزية باسم الصدقة لم يخالفه أحد من الصحابة، فكان ذلك إجماعًا، وعقد لهم الذمة مؤبدًا، فليس لأحد نقض ما فعله".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 119)؛ حيث قال:" (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب) بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نذار؛ فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال: لا آخذ من مشرك صدقة؛ فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية؛ فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم وردهم، وضعف عليهم الزكاة. (ولو بذلوها)؛ أي: الجزية فلا تؤخذ منهم؛ لأن عقد الذمة مؤبد وقد عقده معهم عمر هكذا فليس لأحد نقضه".
في أثرهم فعادوا، فأَخَذَ منهم ما يُقابِل الزكاةَ مضاعَفًا
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَيُّ الأَصْنَافِ مِنَ النَّاسِ تجِبُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا تجِبُ بثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الذُّكورِيَّةِ، وَالبُلُوغِ، وَالحُرِّيَّةِ)
(2)
.
فالجزية إذن تجب بشروطٍ ثلاثة:
- الذكورية: فالذي تجب عليه ينبغي أن يكون ذَكَرًا، والذَّكَر تَخْرُجُ به المرأة؛ لأن الذَّكَر قادرٌ على العمل.
- والبلوغ: وأن يكون بالغًا؛ لأن الصغير أيضًا في الغالب غير قادرٍ على العمل، ولأن الصغير غيرُ مُكلَّفٍ، فسَقَطَ عنه الحكمُ من هذا الوجه.
- والحرية: وأن يكون حُرًّا؛ لأن العبد لا مال له، واختلاف العلماء في أن العبد يَملِك أو لا يَملِك معلومٌ، والصحيح فيه أنه لا يَملِك وأنَّ مَا مَلَكَهُ لِسَيِّده، وعلى القول بأنه لا تجب عليه الجزية فهل تجب على سيده؟ سيأتي بيان هذا.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة - ومعهم أيضًا المجنون - مُجمَعٌ على عدم وجوب الجزية عليهم.
(1)
أخرجه ابن زنجويه في كتاب "الأموال"(1/ 130) عن السفاح الشيباني: "أن عمر بن الخطاب أراد أن يأخذ من نصارى بني تغلب الجزية، فهربوا حتى لحقوا بأرض من الأرضين، فقال له زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة التغلبي: أنشدك الله يا أمير المؤمنين في بني تغلب، هم والله العرب، يأنفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا تعن عدوك بهم، وهم قوم ليست لهم - أظنه قال - أموال وإنما هم أصحاب ماشية فضع عليهم الصدقة، فأرسل إليهم فرجعوا فضعَّف عليهم الصدقة. قال: وقال ابن شبرمة عن السفاح، واشترط عليهم ألا ينصروا أولادهم".
(2)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 355)؛ حيث قال:"أجمع المسلمون أن الجزية لا تجب على النساء، ولا على الصبيان، ولا على العبيد".
قوله: (وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا عَلَى الصِّبْيَان).
هي لا تجب على النساء لأنها قُيِّدَت بالذكورية، ولا على الصبيان لأنها قُيِّدَت بالبلوغ، والصبي هو الذي لم يَبلُغ الحُلُمَ؛ ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أَرسَلَ معاذًا إلى اليمن أَمَرَهُ أن يَأخُذَ من كل حالم دينارًا أو عِدْلَهُ مَعَافِرَ - أي: ثيابًا -
(1)
، وهذا يُستَدَلُّ به على أن الجزية لًا يُشترط أن تكون نقدًا، وأيضًا على أن الجزية لا تجب إلا على الحالم؛ أي: الذي بَلَغَ الحُلُمَ، فالصغير لا تؤخذ منه الجزية.
وأيضًا كَتَبَ عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد ألا يأخذوا الجزية من صبيٍّ ولا امرأةٍ
(2)
، وهذا مما انتشر وكَثُرَ في زمن الصحابة ولا مُخالِفَ له.
قوله: (إِذَا كانَتْ إِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ مِنَ القَتْلِ، وَالقَتْلُ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ بِالأَمْرِ نَحْوَ الرِّجَالِ البَالِغِينَ؛ إِذْ قَدْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)
(3)
.
وقد عَلَّلَ العلماء بهذا التعليل الذي ذَكَرَهُ المؤلِّف؛ لأنه سَبَقَ أن مَرَّ بنا الحديثُ المتَّفَقُ عليه كما في حديث عبد الله بن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان"، إذن النساء والصبيان لا يُقتَلُون إلا إذا قَاتَلُوا، فإنهم يُقتَلُون حينئذٍ، كما أن عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلى أمراء الأجناد ألا يأخذوا الجزيةَ من امرأةٍ ولا صبيٍّ إلا الذين جَرَتْ عليهم
(1)
أخرجه أبو داود (1576)، والترمذي (623) عن معاذ بن جبل:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم - يعني: محتلمًا - دينارًا، أو عدله من المعافري ثياب تكون باليمن". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(5/ 297).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (6/ 85) وغيره عن أسلم مولى عمر: "أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد: ألَّا يضربوا الجزية على النساء، ولا على الصبيان، وأن يضربوا الجزية على مَن جرت عليه الموسى من الرجال".
(3)
أخرجه البخاري (3015)، ومسلم (1744) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان".
المواسي؛ أي: الذين بَلَغُوا وَنَبَتَ لهم الشَّعَرُ
(1)
.
أمَّا أنَّ الجزية عِوَضٌ من القتل فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة
(2)
عندما أوصى مَن يُرسِلُه في سريةٍ أو جيشٍ بتقوى الله، أَمَرَهُ بواحدةٍ في خصالٍ ثلاثٍ: أن يَبدَأ أولًا بالدعوة إلى الإسلام؛ فإن حَصَلَت استجابةٌ قَبِلَ وَكَفَّ، فإن لم يَكُن انتَقَلَ إلى الجزية، فَمَن أَعطَى الجزيةَ عَصَمَ دَمَه، ومَن لَم يُعْطِ الجزيةَ قُوتِلَ، فالجزية هكذا عوضٌ عن القتل.
قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى العَبِيدِ).
والجزية لا تجب على العبيد؛ لأنهم لا مال لهم، ولأنهم لا يجب قتالهم إلا إذا قَاتَلُوا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافٍ مِنْ هَؤُلَاءِ: مِنْهَا فِي المَجْنُونِ وَفِي المُقْعَدِ).
- والمجنون هنا: هو الذي لا يُفِيق
(3)
، أمَّا الذي يُفِيق أحيانًا وُيجَنُّ أحيانًا فهذا فيه تفصيلٌ للعلماء
(4)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (1731) عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا
…
"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو: خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين
…
" الحديث.
(3)
المجنون في اللغة: هو مغطى العقل. انظر: "المقاييس"، لابن فارس (1/ 422).
واصطلاحًا: "هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا". انظر: "التعريفات"، للجرجاني (79).
(4)
في مذهب الحنفية، يُنظر:"الأصل"، لمحمد بن الحسن (7/ 548)، قال:"وأما المصاب فإن مكث سنين مصابًا لا يفيق نقول: لم تُجعل عليه الجزية، وإن أفاق في أول السنة قبل أن توضع الجزية لم توضع عليه الجزية، وإن تم على إفاقته وضع عليه في السنة المستقبلة وما بعدها". =
وَغَيْرُ المؤلِّف قد أَلْحَقَ المجنونَ بالمرأة والصبيِّ في عدم وجوب الجزية عليهم، بل بعضهم حَكَى الإجماعَ على ذلك
(1)
؛ لأن المجنون
= وفي مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 144)؛ حيث قال: "فلا تؤخذ من مجنون ولا من صبي
…
وانظر هل يجري ذلك في العبد إذا أعتقه والمجنون إذا أفاق أم لا وقوله مخالط، ولو راهب كنيسة لا صومعة ودير وغار، ولو طرأ ترهبه سقطت عنه عند ابن القاسم خلافًا للأخوين، ولعله استغنى بتذكير الأوصاف عن اشتراط الذكورية؛ أي: المحققة".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 89)؛ حيث قال:" (وصبي ومجنون)، لعدم التزامهما (فإن تقطع جنونه قليلًا كساعة من شهر) ونحو يوم من سنة (لزمته) والأوجه ضبطه بأن تكون أوقات الجنون في السنة لو لفقت لم تقابل بأجرة غالبًا، وقد يؤخذ هذا من قولهم (أو) تقطع (كثيرًا كيوم ويوم فالأصح تلفيق الإفاقة) إن أمكن (فإن) (بلغت)؛ أي: الإفاقة (سنة وجبت) الجزية لسكناه سنة بدارنا وهو كامل، فإن لم يمكن أجري عليه حكم الجنون في الجميع كما هو المتجه، وكذا لو قلت بحيث لا يقابل مجموعها بأجرة، وطرو جنون أثناء الحول كطرو موت أثناءه".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 121)؛ حيث قال:" (ومن بلغ أو أفاق أو استغنى ممن تعقد له الجزية فهو من أهلها بالعقد الأول، ولا يحتاج إلى استئناف عقد) له؛ لأنه لم ينقل تجديده لمن ذكر، ولأن العقد يقع مع سادتهم، فيدخل فيه سائرهم. (وتؤخذ) منه الجزية (في آخر الحول بقدر ما أدرك) منه؛ فإن كان في نصفه فنصفها، ولا يترك حتى يتم حول من حين وجد سببه؛ لأنه لا يحتاج إلى إفراده بحول وضبط كل إنسان بحول يشق ويتعذر، ومثلهم من عتق في أثناء الحول. (ومن كان) من أهل الجزية (يجن) تارةً (ويفيق) أُخرى (لفقت إفاقته فإذا بلغت) إفاقته (حولًا أخذت منه) الجزية؛ لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ".
(1)
في مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 111)؛ حيث قال: "فلا تجب على الصبيان والنساء والمجانين؛ لأن الله - سبحانه الله وتعالى - أوجب الجزية على من هو من أهل القتال بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، والمقاتلة مفاعلة من القتال فتستدعي أهلية القتال من الجانبين، فلا تجب على مَن ليس من أهل القتال، وهؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا تجب عليهم.
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 144)؛ حيث قال:"فلا تؤخذ من مجنون ولا من صبي ولا من عبد ولا من فيه شائبة حرية ولا من غير قادر على شيء منها". =
يَلْحَقُ بالمرأة والصبيِّ والعاجزِ مِمَّنْ لا تجب عليهم الجزية، ولأنها إن وَجَبَتْ على المجنون لَوَجَبَتْ على الصغير، لأن الصغير تجب الزكاة في ماله، فلو أن صغيرًا يتيمًا له مالٌ لَوَجَبَتْ فيه الزكاة، ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرْشدَ القَيِّمَ على مال اليتيم - أي: القائم عليه - ألا يَترُكَهُ حتى تَأكُلَهُ الزكاة، إنما ينبغي أن يُتاجِر به حتى يَنْمُوَ وَيَزْدَادَ
(1)
.
- والمُقعَد
(2)
: هو الذي أَقْعَدَهُ المرض، وهو مَنْ أصابه مرضٌ مُزْمِنٌ أَقْعَدَه، لا الذي يصيبه صداعٌ أو زكامٌ أو ما شابه ذلك، بل الذي يصيبه مَرَضٌ دائمٌ يُعجِزُهُ عن العمل.
قوله: (وَمِنْهَا: فِي الشَّيْخِ).
وليس المقصود هنا مُطلَق الشيوخ؛ فهناك من الشيوخ من هم أَنْشَطُ من الشباب، لكن المقصود هنا بكلام المؤلِّف إنما هو الشيخ الفاني
(3)
؛ أي: الشيخ الذي أصابه العجز، فلم يَعُدْ يَقدِر على العمل.
= وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 64)؛ حيث قال: " (ولا جزية على امرأة)
…
(و)، لا على (صبي)
…
(و)، لا على (مجنون) أطبق جنونه لعدم تكليفه
…
".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1203)؛ حيث قال:" (ولا) جزية (على مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا شيخ فإن ولا راهب بصومعة، وهو الذي حبس نفسه وتخلَّى عن الناس في دينهم ودنياهم)، لأنهم لا يقتلون فلم تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان".
(1)
أخرجه الترمذي (641) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة".
وضعفه الألباني. يُنظر: "الإرواء"(3/ 258).
(2)
المُقعد: الذي لا حراك به من داء في جسده كأن الداء أقعده وعند الأطباء هو الزمن وبعضهم فرق فقال: المقعد المتشنج الأعضاء، والزمِن الذي طال مرضه". انظر:"المغرب"، للمطرزي (390).
(3)
الشيخ الفاني: الهرم الذي فنيت قوته. نظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (25)، و"المغرب"، للمطرزي (367).
ومسألة الشيخ هذه من المسائل التي فيها خلافٌ
(1)
، بعكس مسألة المجنون التي حُكِيَ الإجماع فيها.
قوله: (وَمِنْهَا: فِي أَهْلِ الصَّوَامِعِ)
(2)
.
وهم الرهبان الذين يَحبِسُون أنفُسَهُم في صَوامِعِهم للعبادة، فبالرغم مِن أنَّ عبادتهم خاطئةٌ وغيرُ صحيحةٍ لكنهم انقَطَعُوا لها وتَجَنَّبُوا القتال وانصَرَفُوا عن أُمور الدنيا؛ ولذلك لا يُقتَلُون ولا تُؤخذ منهم الجزية.
لكن مِن العلماء مَن يرى أنَّ عليهم جزيةً
(3)
، واستَشهَدُوا بما فَعَلَهُ
(1)
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم أخذ الجزية من الشيخ الفاني، وخالف في ذلك الشافعية، فأجازوا أخذها منه.
في مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية"، للبابرتي (6/ 53)؛ حيث قال:"ألا ترى أن الجزية لا تؤخذ من الأعمى والشيخ الفاني والمعتوه والمقعد مع أنهم مشاركون في السكنى؛ لأنه لم يلزمهم أصل النصرة بأبدانهم لو كانوا مسلمين، فكذلك لا يؤخذ منهم ما هو خلف عنه".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"(2/ 309)؛ حيث قال: "لا راهب منعزل بدير ونحوه فلا تضرب عليه".
وفي "حاشية الصاوي" قال: قوله: [ونحوه]: أي كشيخ فإن أو زمن أو أعمى.
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 65)؛ حيث قال:" (والمذهب وجوبها على زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير)؛ لأنها كأجرة الدار، فيستوي فيها أرباب الأعذار وغيرهم، والطريق الثاني لا جزية عليهم إن قلنا: لا يقتلون كالنساء والصبيان".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1203)؛ حيث قال:" (ولا) جزية (على مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا راهب بصومعة، وهو الذي حبس نفسه وتخلَّى عن الناس في دينهم ودنياهم)؛ لأنهم لا يقتلون فلم تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان".
(2)
الصوامع: جمع صومعة، والصومعة: منارة الراهب. يُنظر: "المحكم"، لابن سيده (1/ 460).
(3)
ذهب المالكية والحنابلة، وهو أحد قولي الشافعي إلى عدم أخذ الجزية من أصحاب الصوامع، وذهب الحنفية إلى جواز أخذها منهم إذا قدروا على العمل.
وفي مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (7/ 248)؛ حيث قال:=
بنُ عبد العزيزِ رضي الله عنه حينما فَرَضَ على كلِّ واحدٍ منهم دينارًا.
قوله: (وَمِنْهَا: فِي الفَقِيرِ
(1)
هَلْ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَتَى أَيْسَرَ أَمْ لَا؟).
قد جاء في حديث معاذٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أن يَأخُذَ من كل حالمٍ دينارًا
(2)
، فما حُكْمُ الفقير الذي وصل إلى درجة الإعسار؟
نجد الجواب في الأثر المرويِّ عن عمر رضي الله عنه أنه رَتَّبَهَا
(3)
؛ ولهذا
= (ولا توضع) ش: أي الجزية م: (على الرهبان الذين لا يخالطون الناس، كذا ذكر هاهنا) ش: أي القدوري، وهو قول أبي يوسف، وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية. م:(وذكر محمد رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله أنه توضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل، وهو قول أبي يوسف رحمه الله ش: وقال الكرخي في مختصره: قال عمر بن أبي عمر: سألت محمدًا عن أصحاب الصوامع هل يوضع عليهم الخراج، قال: كان أبو حنيفة يقول: يوضع عليهم إذا كانوا ممن يقومون على العمل". وانظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" (رد المحتار)(4/ 199).
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 201)؛ حيث قال:" (مخالط)، لأهل دينه ولو راهب كنيسة أو شيخًا فانيًا أو زمنًا أو أعمى لا من راهب منعزل بدير مثلًا لا رأي له وإلا قتل". وانظر: "حاشية العدوي"(1/ 491).
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 65)؛ حيث قال " (والمذهب وجوبها على زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير)؛ لأنها كأجرة الدار، فيستوي فيها أرباب الأعذار وغيرهم، والطريق الثاني لا جزية عليهم إن قلنا: لا يقتلون كالنساء والصبيان".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 120)؛ حيث قال:" (ولا) جزية (على مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا راهب بصومعة، وهو الذي حبس نفسه وتخلَّى عن الناس في دينهم ودنياهم)؛ لأنهم لا يقتلون فلم تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
الفقير: هو من يسأل، والمسكين من لا يسأل، وقيل: الفقير: الزمن المحتاج. والمسكين: الصحيح المحتاج، وقيل: الفقير من له أدنى شيء، والمسكين من لا شيء له. انظر:"الكليات"، للكفوي (696).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (19267) عن أسلم: "أن عمر ضرب الجزية وكتب بذلك إلى أمراء الأجناد ألا يضربوا الجزية إلا على مَن جرت عليه الموسى ولا يضربوها على =
اختلف العلماء، فبعضهم يرى أنْ يؤخذ من الفقير اثنا عشر درهمًا ومن متوسط الحال أربعةٌ وعشرون ومن الغني ثمانيةٌ وأربعون
(1)
.
= صبي ولا على امرأة، فضرب على أهل العراق أربعين درهمًا على كل رجل
…
وضرب على أهل الشام أربعة دنانير على كل رجل، وضرب عليهم أيضًا مدين من قمح
…
وضرب على أهل مصر أربعة دنانير على كل رجل منهم، وضرب عليهم إردبًّا من قمح، وشيئًا لا يحفظه، وكسوة أمير المؤمنين ضريبة مضروبة، وعليهم ضيافة المسلمين ثلاثًا، يطعمونهم مما يأكلون مما يحل للمسلمين من طعامهم، فلما قدم عمر الشام شكوا إليه أنهم يكلفونا الدجاج، فقال عمر: لا تطعموهم إلا مما تأكلون مما يحل لهم من طعامكم".
(1)
في مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (2/ 401)؛ حيث قال:"وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني للظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهمًا يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم، وعلى وسط الحال أربعة وعشرين درهمًا في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهمًا في كل شهر درهمًا. وهذا عندنا".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات"، لابن رشد (1/ 371)، قال: "حد الجزية في المذهب ثلاثة أقوال:
أحدها: أن حدها ما فرض عمر - رضي الله تعالى عنه - لا يزاد عليه ولا ينقص منه.
والثاني: أن حد أكثرها ما فرض عمر - رضي الله تعالى عنه - ولا حد لأقلها، وإلى هذا ذهب القاضي أبو الحسن.
والثالث: أن حد أكثرها ما فرض عمر - رضي الله تعالى عنه - وحد أقلها دينار أو عشرة دراهم".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (13/ 347)، قال:"ذهب الشافعي إلى أن أقلها مقدر بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه من غني ولا فقير، وأكثرها غير مقدر، وهو موكل إلى اجتهاد الإمام؛ فإن لم يجيبوا إلى الزيادة على الدينار من غني ولا فقير وجب على الإمام إجابتهم إليه، وإن طبقوا أنفسهم بالغنى والتوسط، والذي عاقدهم عليه".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 335)، قال: "إذا قلنا بالرواية الأولى وأنها مقدرة، فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهمًا، وفي حق المتوسط أربعة وعشرون، وفي حق الفقير اثنا عشر
…
والوجه الثاني: أن يكون التقدير غير واجب، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام".
فالفقير الذي أصابه الفقرُ المُدْقِعُ وليس عنده شيءٌ تَسْقُطُ عنه الجزية
(1)
.
واختلفوا فيما إذا لو أَيْسَرَ بعد ذلك هل يَقْضِي عَمَّا سَبَقَ أم لا؟
(2)
والظاهر أنه لا يَقْضِي ما سقط عنه من الجزية، إنما يَدْفَعُ عن واقعه فقط.
(1)
اختلف الفقهاء في وجوب الجزية على الفقير المدقع، فذهب الحنفية والمالكية، والشافعية في قول، والحنابلة إلى عدم وجوبها، وذهب الشافعية في قول إلى وجوبها عليه.
في مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 111)؛ حيث قال:"وكذا الفقير الذي لا يعتمل لا قدرة له؛ لأن مَن لا يقدر على العمل لا يكون من أهل القتال".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 309)؛ حيث قال:" (قادر) على الأداء لا فقير".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 65)؛ حيث قال:" (و) على (فقير عجز عن كسب) ولو من أهل خيبر لعموم الآية، ولأنه كالغني في حقن الدم والسكنى".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 120 - 121)؛ حيث قال:" (ولا) تجب الجزية (على فقير يعجز عنها غير معتمل)؛ لأن عمر جعل الجزية على ثلاث طبقات: جعل أدناها على الفقير المعتمل، فدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (فإن كان) الفقير (معتملًا وجبت عليه) ".
(2)
في مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار"، لابن مودود الموصلي (4/ 138)، قال:"الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث يوضع عليهم؛ لأن الفقير أهل للجزية، وإنما سقطت عنه للعجز وقد زال".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 202)، قال:"ونقص الفقير، وأخذ منه بوسعه، ولو درهمًا فإن أيسر بعد لم يؤخذ منه ما نقص لضيقه".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (6/ 65)، قال:" (و) على (فقير عجز عن كسب) ولو من أهل خيبر لعموم الآية، ولأنه كالغني في حقن الدم والسكنى (فإذا تمت سنة وهو معسر، ففي ذمته حتى يوسر)، وكذا حكم السنة الثانية وما بعدها كما تعامل المعسر، ويطالب إذا أيسر، وفي قول غير مشهور إنه لا جزية عليه".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 121)، قال:"ومَن بلغ أو أفاق أو استغنى ممن تعقد له الجزية فهو من أهلها بالعقد الأول، ولا يحتاج إلى استئناف عقد له".
قوله: (وَكُلُّ هَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى هَلْ يُقْتَلُونَ أَمْ لَا؟ أَعْنِي هَؤُلَاءِ الأَصْنَافَ).
المسائل أنواعٌ، فهناك مسائلُ قد جاء النَّصُّ عليها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الحال في أصل الجزية، ومن هنا جاء إجماع العلماء عليها.
وهناك مسائلُ قد وَرَدَتْ في كتاب الله، لكن حصل فيها خلافٌ لِتَنَوُّعِ الأدِلَّة، فَحَصَلَ اختلاف العلماء فيها، فهذه مسائلُ خلافيةٌ اجتهاديةٌ.
فما عدا المجنون من هذه المسائل الأخيرة قد اختلف فيها العلماء، فبعضهم يرى وجوب الجزية عليهم وبعضهم لا يرى وجوبها، وبعضهم يرى الوجوب إلا في حالة العجز، فيرى أن يدخلوا حينئذٍ في الإسلام حتى يحوزوا خَيْرَيِ الدنيا والآخرة وسعادَتَهُمَا.
ونحن عندما تَكَلَّمْنَا عن قَصْرِ الصلاة في السفر تَحَدَّثْنَا عن الغاية من السفر، فالذي يسافر سفرَ طاعةٍ تَقَرُّبًا إلى الله سبحانه وتعالى أو سفرًا مباحًا - كَمَنْ يسافر للتجارة أو الصيد - لا شك أن هذا له أن يَقصُرَ الصلاةَ، لكن الذي يسافر سفرَ معصيةٍ - كمن يسافر ليسرق أو يقتل أو يقطع الطريق أو يرتكب جريمةً ما - هذا لا يُرَخَّصُ له في قَصْرِ الصلاة، وجمهور العلماء على هذا؛ لأن في الترخيص له بقصر الصلاة إعانةً له على جريمته، ومن العلماء من أجاز له ذلك.
كذلك إباحة أكل الميتة بالنسبة للمضطر، فالمعلوم في ديننا أن الميتة يَحْرُمُ أكلها؛ لقول الله سبحانه وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (5723) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال". وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
ومع ذلك لو أن إنسانًا اضطرَّ إلى أكل الميتة فإنه يجوز له ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ} [المائدة: 3]، مما يدل على إباحة الأكل حينئذٍ، ومع ذلك ذَهَبَ العلماء إلى أن العاصيَ لا يأكل في حالة المخمصة؛ لأنه عاصٍ لله، وهذه الرخصة قَصَرَهَا الله سبحانه وتعالى على المضطر.
وهنا يُشكِل علينا: أن هذا قد يهلك، والله تعالى يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
والجواب: أنه إن خشي الهلاكَ فإنه يرجع إلى طريق الحقِّ والصوابِ، فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويَعدِل عن معصيته، وحينئذٍ يأكل منها.
إذن؛ شريعة الإسلام كلما أمعن الإنسان النظر فيها وَجَدَ أنها شريعةٌ متكاملةٌ محيطةٌ بكل حاجات الناس، وأنها تعالج أسقامَهم
(1)
علاجًا شافيًا ليس فيه أيُّ خللٍ، مَن التَزَمَ بها سَعَدَ في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنها ضَلَّ وشَقِيَ، كما قال الله سبحانه وتعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126].
فنحن ينبغي علينا أن نتبين ما في هذه الشريعة من فضائل، هذه الشريعة العظيمة التي عزف عنها أناسٌ ممن ينتسبون إلى الإسلام، فصاروا يتحاكمون إلى قوانين البشر الوضعية التي هي أشبه ما تكون بسرابٍ سرعان ما يزول، تجدهم يضعون الأحكام ثم يغيرونها، أما هذه الشريعة فقد مضى عليها ألف وأربعمائة وعشرون عامًا، وهي كما هي قائمةٌ ثابتةٌ، غضةٌ طريةٌ كما أُنزِلَت على محمد بن عبد الله لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحتاج إلى ما يُكَمِّلُهَا، فهي شريعة الله الخالدة الكاملة المحيطة بكل شؤون الناس.
(1)
السقم: المرض. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (150).
قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ كَمِ الوَاجِبُ؟).
بعد الوقوف على مشروعية الجزية وثبوتها كتابًا وسُنةًّ وإجماعًا، تأتينا هذه المسألة في القَدْرِ المُتَعَيِّنِ أَخْذُهُ مِن أهل الجزية.
وجملة الأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
- القول الأول: أنَّ الجزيةَ غيرُ مُقدَّرةٍ، وإنما مَرَدُّ ذلك وَمَرجِعُهُ إلى الإمام
(1)
، فيحدد مقدارها بما يرى فيه مصلحة المسلمين، كما هو الحال في مسائلَ كثيرةٍ وبخاصة في أحكام الجهاد؛ لأن هذا الإمام إنما هو خليفة الله في الأرض، فهو الذي ينظر في شؤون الناس ومصالحهم؛ ولذلك أَعْطَتْهُ الشريعةُ كثيرًا من الأحكام، وهو ما يُعرَف بالسياسة الشرعية والمصالح المُرسَلة، فللإمام أحيانًا أن يُعَزِّر أو أن يرفع التَّعزيرَ، وله أن يَسُنَّ بعض الأحكام التي لا تتعارض مع الشريعة، فالشريعة الإسلامية ليست ضَيِّقَةً وإنما هي واسعةُ الرِّحابِ، ولذا فقد أَعْطَت الحاكِمَ جملةً من الأحكام.
- القول الثاني: أن لها بدايةً ووسطًا ونهايةً، فالفقير ومتوسط الحال والغني يتفاوتون فيما بينهم في القدر الذي يؤخذ من كل واحدٍ منهم، وقد أُمِرْنَا أن نُنْزِلَ الناسَ مَنازِلَهُم، فكل إنسان على قَدْرِ حاله، حتى لا يُفرَض على فقيرٍ ما لا يُطيق، ولا يُسَوَّى غنيٌّ واسع الحال بغيره ممن هو دونه
(2)
.
- القول الثالث: إن بدايتها مُحَدَّدَةٌ وأنه لا نهايةَ لها
(3)
؛ لمعنى ما
(1)
المشهور عند الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 121)؛ حيث قال:" (ومرجع جزية وخراج: إلى اجتهاد الإمام وتقدم) في الأرضين المغنومة".
(2)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد"، للقدوري (12/ 6236)، قال:"الجزية على مراتب: توضع على الغني المكثر ثمانية وأربعين، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا".
(3)
وهو مذهب الشافعية ورواية عند الحنابلة.
في مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب"، للروياني (13/ 347)، قال:"فذهب الشافعي إلى أن أقلها مقدر بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه من غني ولا فقير، وأكثرها غير مقدر، وهو موكل إلى اجتهاد الإمام".=
ورد في حديث معاذٍ، وأنه أُمِرَ أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَهُ مَعَافِرَ
(1)
.
قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ القَدْرَ الوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا فَرَضَهُ عُمَرُ رضي الله عنه)
(2)
.
فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه وضع حدًّا في ذلك.
وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَمَرَ أن يُؤْخَذَ من كل حالم دينارٌ
(3)
، وهذا الحديث فيه خلافٌ عند بعض العلماء، لكنه في الحقيقةً يَصِلُ إلى درجة الصِّحة والاحتجاجِ به.
قوله: (وَذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ
(4)
، وَعَلَى أَهْلِ الوَرِقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا
(5)
).
= وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 335)، قال:"فيه ثلاث روايات؛ إحداهات أنها مقدرة بمقدار ألا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة، بقوله لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا، أو عدله معافر"، وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة، فلم ينكر فكان إجماعًا، والثانية: أنها غير مقدرة، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، والرواية الثالثة: أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر".
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
الدينار: معروف والمشهور في الكتب أن أصله دنار بالتضعيف فأبدل حرف علة للتخفيف والدينار وزن إحدى وسبعين شعيرة ونصف شعيرة. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 200).
(5)
(الدرهم) فارسي مُعرَّب، وهو: اسم للمضروب المدور من الفضة كالدينار من الذهب. والدرهم ستة دوانق، والدرهم نصف دينار وخمسه، وكانت الدراهم في الجاهلية. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص 163)، "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 193).
يعني: يأخذ من الذهب أربعة دنانير، ومن الورق - يعني: الفضة
(1)
- أربعين درهمًا على مذهب الإمام.
قوله: (وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ المُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ).
وهنا يورد المؤلِّف مسألةً إضافيةً، وهي: هل يَلزَمُ أيضًا مَن تُضرَب عليه الجزيةُ أن يَقُوم بالضيافة أم لا؟!
لا شك أن الضيافة مشروعةٌ في الشريعة الإسلامية، وأنها قد وَرَدَت في أحاديث كثيرة، وأنه لا يجوز لمسلمٍ أن يَنزِل عنده أخوه المسلمُ ضيفًا فيَرُدَّه، والرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن أن الضيافةَ مُدَّتُها ثلاثة أيامٍ
(2)
، وقد أُثِرَ عن عمر رضي الله عنه أنه أضاف عليها
(3)
ضيافة المسلم يوم الوليمة
(4)
، وفي رواية: ثلاثة أيام
(5)
، وأُثِرَ عن عمر رضي الله عنه أيضًا أنه أضاف إلى ذلك أن يَقُومَ بِعَلْفِ دوابِّ المسلمين التي تَمُرُّ به
(6)
، ولو قُتِلَ قتيلٌ بين أَظهُرِهِم - أي: في
(1)
الورق: بكسر الراء الفضة، والورق بفتح الراء المال من الغنم والإبل. انظر:"غريب الحديث"، لابن قتيبة (1/ 281).
(2)
أخرج البخاري (6476)، ومسلم (48/ 15)، واللفظ له عن أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثمه؟ قال:"يقيم عنده ولا شيء له يقريه به".
(3)
أي: في عقد الذمة.
(4)
لعل صواب العبارة: "يوم وليلة".
والأثر أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 330) عن الأحنف بن قيس: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا قناطر، وإن قتل بينهم قتيل فعليهم ديته".
(5)
أخرج البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 330) عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام".
(6)
قال ابن المنذر: "وقد روينا عن عمر بن الخطاب: أنه قضى على أهل الذمة ضيافة ثلاثة أيام، أو علف دوابهم وما يصلحهم". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(4/ 50).
ديارهم -؛ فإنهم في هذه الحالة يَدفَعُون دِيَتَهُ
(1)
، وبعض العلماء رأى هذه المسألة مُلزِمَةً كما نرى، وأشار إلى مذهب مالكٍ، وهي على الاستحباب عند الإمامين مالكٍ وأحمدَ.
فَأَمْرُ الضيافة هذا ليس خاصًّا بمذهب مالكٍ
(2)
، كما يُفهَم من منهج المؤلِّفِ، ولكن قد نَصَّ عليه كذلك مذهب الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، لكنهم يجعلونه على الاستحباب لا الوجوب؛ فللإمام عندهم أن يَشتَرِطَ عليهم ضيافةَ المسلمين.
وقد حددها بثلاثة أيام دون زيادةٍ ولا نقصٍ؛ لأن هذه مدة الضيافة التي وردت بها الأحاديث
(5)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهُ مَحْدُودٌ، وَهُوَ دِينَارٌ، وَأَكْثَرُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُصَالَحُونَ عَلَيْهِ)
(6)
.
(1)
سبق.
(2)
انظر: "التاجٍ والإكليل"، للمواق (4/ 597)، وفيه قال:" (كأرزاق المسلمين وإضافة المجتاز ثلاثًا للظلم فقط) محمد عن مالك: أرى إسقاط ما فرضه عمر مع ذلك من أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لأنه لم يوف لهم. الباجي: وهذا يدل على أنها لازمة مع الوفاء. سحنون: لا يؤخذ من أهل الذمة شيء إلا عن طيب أنفسهم إلا الضيافة التي وضعها عمر. ابن عرفة: ظاهره إلزامهم الضيافة".
(3)
انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 73)، وفيه قال: " (و) يذكر (علف الدواب) ولا يشترط بيان جنسه وقدره بل يكفي الإطلاق
…
(ولا يجاوز) المضيف في المدة (ثلاثة أيام)، لخبر "الصحيحين":"الضيافة ثلاثة أيام"، ولأن في الزيادة عليها مشقة، فإن وقع توافق على زيادة جاز".
(4)
انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 123)، وفيه قال:" (ويجوز أن يشرط عليهم) في عقد الذمة (مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين المجاهدين وغيرهم حتى الراعي وعلف دوابهم) ".
(5)
سبق.
(6)
انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (9/ 284)، وفيه قال:" (أقل الجزية) من غني أو فقير عند قوتنا (دينار) خالص مضروب فلا يجوز العقد إلا به وإن أخذ قيمته وقت الأخذ (لكل سنة)، للخبر الصحيح: "خذ من كل حالم - أي: محتلم - دينارًا =
ففي رواية عند الشافعية أنها دينارٌ فديناران فثلاثةٌ
(1)
.
"قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ)
(2)
.
وهذه كذلك روايةٌ للإمام أحمد، وهي إحدى الروايات الثلاث الواردة عنه
(3)
.
- فالرواية الأولى: أنها غير مقدرة.
= أو عدله"؛ أي: مساوي قيمته، وتقويم عمر للدينار باثني عشر درهمًا؛ لأنها كانت قيمته إذ ذاك ولا حد لأكثرها".
(1)
انظر: "الإقناع"، للشربيني (2/ 570)، وفيه قال:" (و) على هذا (يؤخذ من المتوسط ديناران ومن الموسر أربعة دنانير) ومن الفقير دينارًا (استحبابًا) اقتداء بعمر - رضي الله تعالى عنه - ".
(2)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 90) عن ابن جريج، وفيه:"قال الثوري: ذكر عن عمر ضرائب مختلفة على أهل الذمة الذين أخذوا عنوة. قال الثوري: وذلك إلى الوالي يزيد عليهم بقدر يسرهم، ويضع عنهم بقدر حاجتهم، وليس لذلك وقت ينظر فيه الوالي على قدر ما يطيقون، فأما ما لم يؤخذ عنوة حتى صولحوا صلحًا؛ فلا يزاد عليهم شيء على ما صولحوا عليه، والجزية على ما صولحوا عليه من قليل أو كثير في أرضهم وأعناقهم يقول: ليس عليهم زكاة في أموالهم".
(3)
انظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 334، 335)، وفيه قال: "في تقدير الجزية ثلاث روايات:
إحداها: أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه، ولا ينقص منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة، بقوله لمعاذ:"خذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافر".
والثانية: أنها غير مقدرة، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان.
والرواية الثالثة: أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر، فتجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان".
ومشهور المذهب على أنه يرجع في تقديرها إلى اجتهاد الإمام.
انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 96)، وفيه قال:" (والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في نقص وزيادة)، قال الخلال: رواه الجماعة، وعليه مشايخنا؛ لأنه مصروف في المصالح فكان مفوضًا إلى اجتهاد الإمام". وانظر: "الإنصاف"، للمرداوي (4/ 193).
- والرواية الثانية: أنها موكولةٌ لرأي الإمام، وهي الرواية التي تتفق مع مذهب الإمام أبي حنيفة
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الجِزْيَةُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ)
(2)
.
وهو الذي فعله عمر رضي الله عنه وعمل به المسلمون، أن الجزية اثنا عشر
درهمًا في حق الفقير، وأربعةٌ وعشرون في حق متوسط الحال، وثمانيةٌ وأربعون في حق الغنيِّ، بمعنى أنها تُضاعَف بين كل حال وما يليه في درجة اليُسْرِ، ونُقِلَ عن عمر أيضًا أنه قَرَّرَهَا خمسين درهمًا في حق الغنيِّ
(3)
.
قوله: (لَا يُنْقَصُ الفَقِيرُ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَلَا يُزَادُ الغَنِيُّ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالوَسَطُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا)
(4)
.
فَقَدْ رَاعَى العلماء قدرة هذا الفقير، بمعنى أن يكون قادرًا على ذلك لا عاجزًا عنه، فهذا كله محمولٌ على التيسير ومراعاة أحوال الناس ومصالحهم، فالشريعة الإسلامية لا تراعي فقط مصالح المسلمين وأحوالهم، وإنما تراعي مصالح الناس جميعًا وأحوالهم، كما قال تعالى:
(1)
ستأتي.
(2)
انظر: "مختصر القدوري"(ص 236)، وفيه قال:"والجزية على ضربين: جزية توضع بالتراضي والصلح؛ فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني الظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهمًا يأخذ منه في كل شهر أربعة دراهم، وعلى المتوسط الحال أربعة وعشرين درهمًا في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهمًا في كل شهر درهمًا".
(3)
أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17/ 406) عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، قال:"وضع عمر بن الخطاب - يعني: في الجزية - على رؤوس الرجال: على الغني ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر درهمًا".
(4)
سبق.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وكما هو المعروف من معاملة المسلمين لغيرهم أيام مجد المسلمين وسيادتهم للعالم.
قوله: (وَقَالَ أَحْمَدُ: دِينَارٌ أَوْ عِدْلُهُ مَعَافِرَ
(1)
، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ
(2)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ"، وَهِيَ ثِيَابٌ بِاليَمَنِ)
(3)
.
وهذه هي الرواية الثالثة عن الإمام أحمد.
(حالمٍ): هو الذي احتلم، أي: بلغ سِنَّ الحُلُمِ وأصبح مِن المُكَلَّفِين
(4)
.
(أو عِدْلَهُ)
(5)
: معطوفٌ على دينارٍ منصوب؛ أي: ما يعادله.
(معافر): ثياب معروفةٌ في اليمن
(6)
.
وثبت أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الجزية أَلْفَيْ حُلَّةٍ من نصارى نجران
(7)
.
(1)
هي برود باليمن منسوبة إلى معافر، وهى قبيلة باليمن. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (3/ 262).
(2)
سبقت هذه الرواية.
(3)
أخرجه أبو داود (3038)، والترمذي (623)، عن معاذ، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
(4)
الحُلْمُ: الاحتِلام، ويُجمع على الأحلام، والفاعل حالِم ومُحْتلِم. انظر:"العين"، للخليل (3/ 246).
(5)
يُنظر: "شرح أبي داود"، للعيني (6/ 262)، وفيه قال:"قوله: "أو عدله" العدل - بفتح العين وكسرها لغتان - بمعنى المثل، وقيل: بالفتح ما عادل الشيء من غير جنسه، وبالكسر ما عادله من جنسه. وقيل: بالعكس".
(6)
سبق.
(7)
أخرجه أبو داود (3041)، عن ابن عباس، قال: "صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين
…
" الحديث. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم" (536).
فتبين بذلك أنها لا تختص بالنقدين؛ ولذلك أُثِرَ عن عليٍّ رضي الله عنه أنه كان يأخذ من كل صاحب صنعةٍ ما يوافق صنعته، فمَن يعمل بالمسامير يدفعها مسامير، ومَن يعمل بالمِسالِّ يدفعها مسالَّ
(1)
، ومَن يعمل بالآلات يدفعها آلاتٍ وهكذا
(2)
. وأُثِرَ عن عمر رضي الله عنه أنه أَخَذَ الأنعامَ
(3)
؛ فهذا كله من باب مراعاة مصالح الناس.
قوله: (وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ الجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ المُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
(4)
. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَوَضَعَ الجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ).
والسواد هي سواد العراق، ومن المعلوم أن بلاد الشام والعراق ومصر إنما فُتِحَت عنوةً وضُرِبَ عليها الخراجُ.
قوله: (ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ، فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ كُلَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَتَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جِزْيَةٍ)
(5)
.
(1)
المسلة بالكسر: واحدة المَسَالِّ، وهي الإبر العظام. انظر:"الصحاح"، للجوهري (5/ 1731).
(2)
أخرجه ابن زنجويه في كتاب "الأموال"(1/ 167) عن حميد الطويل، قال: كان علي يأخذ الجزية من كل ذي صنع، من صاحب الإبر إبر، ومن صاحب المسال مسال، ومن صاحب الخبال حبال، ثم يدعو العرفاء فيعطيهم الذهب والفضة، فيقسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقولون: لا حاجة لنا فيه فيقول: أخذتم خياره وتركتم علي شراره، لتحملن".
(3)
أخرج مالك في "موطئه" برواية أبي مصعب الزهري (1/ 291) عن زيد بن أسلم: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يؤتى بنعم كثيرة من نعم الجزية".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
أخرج أبو عبيد في كتاب "الأموال"(ص 74) عن حارثة بن مضرب، عن عمر: "أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين، فأمر أن يحصوا فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من =
بعض العلماء اتَّجه إلى رأي أبي حنيفة، وأن الرواية المشهورة أيضًا عن الحنابلة
(1)
أنهم قالوا بذلك خروجًا من الخلاف
(2)
؛ لأن هذا التقسيم فيه خروجٌ من الخلاف، لأن من يأخذ بكونها دينارًا يشمله الخلاف، فهذا هو الأحوط.
قوله: (إِذْ لَيْسَ فِي تَوْقِيتِ ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
الذي نقوله هاهنا: أن الحديث إذا صحَّ وَجَبَ العمل به، سواءٌ كان في "الصحيحين" أو في غيرهما، وليس شرطًا أن يَوِدَ الحديثُ مُتَّفَقًا عليه، فأكثر ما جاء في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس موجودًا "بالصحيحين"، فالأحاديث الصحيحة نَافَتْ
(3)
على أربعين ألف حديثٍ، وما ورد "بالصحيحين" لا يزيد عن ستة آلاف حديثٍ، فغالب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي خارج "الصحيحين"، فالإمامان البخاري ومسلمٌ وَضَعَا شروطًا شديدةً من أجل الحيطة في أَخْذِ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِدَت أحاديث خارج "الصحيحين" تنطبق عليها أيضًا شروطُهما
(4)
.
= الفلاحين فشاور في ذلك، فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم وبعث عليهم عثمان بن حنيف، فوضع عليهم ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر".
(1)
سبق ذكر أن الرواية المشهورة عن الحنابلة هي أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.
انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (4/ 193)، وفيه قال:" (والمرجع في الجزية والخراج إلى اجتهاد الإمام، من الزيادة والنقصان) هذا المذهب. وعليه أكثر الأصحاب".
(2)
قال ابن قدامة: "إلا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات، كما ذكرناه، لنخرج من الخلاف". انظر: "المغني"(9/ 335).
(3)
نافَ يَنوف نَوفًا، إذا طال وارتفع. انظر:"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 137).
(4)
قال النووي في "شرحه على مسلم"(1/ 27): "استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلَّا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه، وقد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطنى في بيان ذلك كتابه المُسمَّى بـ "الاستدراكات والتتبع" وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين، ولأبي مسعود الدمشقى أيضًا عليهما استدراك، ولأبي علي الغساني الجياني في كتابه "تقييد المهمل" في جُزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما وفيه ما يلزمهما".
قوله: (وَإِنَّمَا وَرَدَ الكِتَابُ فِي ذَلِكَ عَامًّا؛ قَالَ: لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الأظْهَر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
نَصُّ القرآن الكريم فَرَضَ الجزية ولم يُحَدِّد لها ميقاتًا، قال تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ، ولذا قال البعض: هذا متروكٌ للإمام، هو الذي يُحَدِّدُها ويَجْتَهِدُ في تحديدها، ويَنظُر في أحوال الناس وقدرَتِهِم على أدائها، ولكل مقامٍ مقالٌ
(1)
.
قوله: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَالثَّابِتِ عَنْ عُمَرَ؛ قَالَ: أَقَلُّهُ مَحْدُودٌ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ
(2)
. وَمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ حَدِيثَي عُمَرَ؛ قَالَ: إِمَّا بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ
(3)
، وَإِمَّا بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
(4)
، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ مُعَاذٍ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ، قَالَ: دِينَارٌ فَقَطْ، أَوْ عِدْلُهُ مَعَافِرَ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ)
(5)
.
والمتأمل هاهنا لعله يلمس الغاية من اختلاف الفقهاء، وأن اختلافهم إنما كان بُغْيَتُهُ الوصول إلى الحق ليس إلا، هذا نقوله لمن يدندنون
(6)
كثيرًا حول اختلاف الفقهاء هل هو ممدوح أم مذموم، وهل نأخذ بآرائهم الخلافية أم لا.
قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَتَى تَجِبُ الجِزْيَةُ؟).
والكلام هنا عن توقيت أداء الجزية، بمعنى: هل يشترط لأدائها حَوَلان الحول أم لا، وهل يلزم بلوغ النصاب بالنسبة للمكتال أم لا.
(1)
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، كما سبق.
(2)
وهو معتمد مذهب الشافعية ورواية عن الحنابلة كما سبق.
(3)
وهو مذهب المالكية كما سبق.
(4)
وهو مذهب الأحناف كما سبق.
(5)
وهو رواية عن أحمد كما سبق.
(6)
الدندنة: أن يتكلَّم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا تفهم عنه لأنه يُخفيه. انظر: "غريب الحديث"، لأبي عبيد القاسم بن سلام (1/ 260).
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الحَوْلِ)
(1)
.
هذا من حيث الجملة، لكن وُجدَ خلافٌ بين الشافعية في بعض جزئيات هذه المسألة
(2)
.
قوله: (وَأَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الحَوْلِ
(3)
،
(1)
اتفق الفقهاء على أن الحول معتبر في وجوب الجزية، لكنهم اختلفوا، هل تعتبر الجزية بأول الحول أم بآخره. فذهب الجمهور إلى أنها تكون آخر الحول أما الأحناف فعندهم أنها تكون أول الحول.
انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق"، لابن نجيم (5/ 119)، وفيه قال:"وأشار بقوله في كل سنة إلى أن وجوبها في أول الحول". وانظر: "التجريد"، للقدوري (12/ 6247).
وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 595 - 596)، وفيه قال:" (والظاهر آخرها) ابن رشد: اختلف في حد وجوب الجزية فقيل: إنها تجب بأول الحول حين تعقد لهم الذمة ثم بعد ذلك عند أول كل حول وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل: إنها لا تجب إلا بآخر الحول وهو مذهب الشافعي، وليس عند مالك وأصحابه نص، والظاهر من مذهبه وقوله في "المدونة": أنها تجب بآخر الحول وهو القياس لأنها إنما تؤخذ منهم سنة بسنة جزاء على تأمينهم".
وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 92)، وفيه قال:" (أقل الجزية) من غني أو فقير عند قوتنا (دينار) خالص مضروب فلا يجوز العقد إلا به، وإن أخذ قيمته وقت الأخذ (لكل سنة) ".
وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 661)، وفيه قال:" (وتؤخذ) الجزية (عند انقضاء كل سنة) هلالية كالزكاة لتكررها بتكرر السنين وإذا انقضت سنون) ولم تؤخذ (استوفيت كلها) فلا تتداخل، لأنها حق يجب في آخر كل حول".
(2)
قال القفال: "اختلف قول الشافعي في أن الجزية تجب بالعقد وتستقر بانقضاء الحول أو تجب بانقضائه، وبني عليهما إذا مات في أثناء الحول هل تسقط؟ فإن قلنا بالعقد لم تسقط وإلا سقطت". انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 69).
(3)
ذهب الجمهور إلى أن الذمي إذا أسلم بعد أن وجبت عليه الجزية فإنها تسقط عنه، وخالف الشافعية.
انظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"، للحصكفي (4/ 200)، وفيه قال:" (فتسقط بالإسلام) ولو بعد تمام السنة". =
وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَمَا يَحُولُ عَلَيْهِ الحَوْل، هَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ لِلْحَوْلِ المَاضِي بِأَسْرِهِ، أَوْ لِمَا مَضَى مِنْهُ؟).
وهنا للذمي في وجوب الجزية عليه أحوال:
- إذا حال عليه الحول ولم يدخل في الإسلام، فلا خلاف بين العلماء في وجوب الجزية عليه
(1)
.
- وإذا أسلم قبل انقضاء الحول، فلا خلاف كذلك في أنها تسقط عنه
(2)
.
- وإذا انقضى الحول وكان قد أدى الجزية ثم أسلم، فإنها لا ترد إليه، أما إذا لم يكن قد أداها فهل تسقط عنه أم لا؟ هنا محل الخلاف.
قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا أَسْلَمَ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَوْلِ؛ كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ الجُمْهُورُ)
(3)
.
هذا هو قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد، أن الجزية تسقط عنه بإسلامه حتى ولو حال عليها الحول.
= وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 596)، وفيه قال:" (وسقطتا بالإسلام) ابن رشد: اختلف فيمن أسلم بعد وجوب الجزية عليه، ومذهب مالك وجميع أصحابه أنها تسقط عنه بإسلامه".
وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (9/ 295)، وفيه قال:"وتؤخذ الجزية معه؛ لأنه أجرة لا تسقط بإسلامهم".
وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 598)، وفيه قال:" (ومن أسلم بعد الحول سقطت) الجزية (عنه) نصًّا وقال: يدخل في قوله: من أسلم على شيء فهو له، لأنها عقوبة لا أجرة إقامة بدارنا".
(1)
سبق.
(2)
خالف الشافعية فقالوا بعدم سقوطها كما سبق.
(3)
خلافًا للشافعية كما سبق.
قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الحَوْلِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الجِزْيَة، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ حُلُولِ الحَوْلِ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ).
وهذا هو مذهب الشافعي؛ فإنه يرى أنها واجبةٌ عليه لا تسقط؛ لأنه يراها دَينًا قد تَعَلَّقَ بذمته، وهذا الدَّين فيه حقوق للآخرين، فلا تسقط عنه هذه الحقوق بعد أن استقرت وثبتت في ذمته
(1)
.
وللشافعي قول آخر أنه لو أسلم أثناء الحول، فإنه يسقط عنه بمقدار ما تبقى ويلزمه أداء مقدار ما مضى، فلو أسلم - مثلًا - في منتصف العام لَزِمَهُ نصفُ الجزيةِ المحدَّدةِ عليه
(2)
.
قوله: (وَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الحَوْلِ؛ لِأَنَّ الحَوْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا
(3)
، فَإِذَا وُجِدَ الرَّافِعُ لَهَا (وَهُوَ الإِسْلَامُ) قَبْلَ تَقَرُّرِ الوُجُوبِ، أَعْنِي: قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِ الوُجُوبِ، لَمْ تَجِبْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَوْلِ، لِأَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ هَذَا الوَاجِبَ فِي الكُفْرِ كمَا يَهْدِمُ كثِيرًا مِنَ الوَاجِبَاتِ، قَالَ: تَسْقُطُ عَنْهُ؛ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الحَوْلِ
(4)
، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَهْدِمُ الإِسْلَامُ هَذَا الوَاجِبَ كمَا لَا يَهْدِمُ كثِيرًا مِنَ الحُقُوقِ المُرَتَّبَةِ مِثْلَ الدُّيُون وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: لَا تَسْقُطُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الحَوْلِ
(5)
، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الإِسْلَامُ يَهْدِمُ الجِزْيَةَ الوَاجِبَةَ أَوْ لَا يَهْدِمُهَا؟).
(1)
وهو مشهور مذهب الشافعية كما سبق.
(2)
انظر: "التنبيه"، للشيرازي (ص 238)، وفيه قال: "ومن مات أو أسلم في أثناء الحول فقد قيل: يؤخذ منه لما مضى، وقيل. فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يجب عليه شيء.
والثاني: يجب لما مضى بقسطه وهو الأصح".
(3)
سبق.
(4)
وهو الجمهور كما سبق.
(5)
وهم الشافعية كما تقدم. =
والمسألة هاهنا تدور بين قضيتين معروفتين لدى أهل العلم:
- القضية الأولى: أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله
(1)
، بدليل قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
فمذهب الجمهور: يجعل المسألة مندرجةً تحت هذه القضية، كمن كان في الجاهلية - مثلًا - يتعامل بالربا، وقد دَخَلَ شيءٌ من الحرام على ماله، فبإسلامه يُتجاوَز في حقه عما مضى من معاملاتٍ ربويةٍ؛ لأن الإسلام يمحو كل شيءٍ، حتى الجرائم التي فعلها الكافر؛ حيث لا أَعْظَمَ من جريمة الكفر، ولأن الكافر إذا عَلِمَ أنَّ ما ارتَكَبَهُ من سيئاتٍ سيُغفَر له ربما كان في هذا ترغيبًا له في الإسلام، بخلاف ما لو وَجَدَ أن هذه الأُمور سيعاقَب عليها مما قد يكون مانعًا له، فالجمهور عللوا مذهبهم بأن
الإسلام يمحو ما قبله، وأن ما عدا ذلك يلزمه دليله الخاص.
- القضية الثانية: أن هناك حقوقًا لا تسقط بالكفر، فالكافر الذي عليه ديونٌ لآخرين لا يُسقط إسلامُه عنه هذه الديونَ
(2)
، وكذلك الحال بالنسبة
= قال العمراني في "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(12/ 260): "
…
والثاني: يجب عليه من الجزية بقدر ما مَضَى من الحول، وهو الأصح؛ لأنه حق يجب بالمساكنة، فوجب عليه بقدر ما سكن، كما لو أستأجر دارًا ليسكنها سنة، فسكنها بعض السنة وفسخت الإجارة".
(1)
جُزء من حديث أخرجه مسلم (121) عن عمرو بن العاص، وفيه: "
…
أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ..... " الحديث.
(2)
انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (12/ 6253)، وفيه قال:"الديون تستوفى بعد الإسلام على الوجه الذي وجبت عليه، والجزية لا يمكن أن تستوفى على الوجه الذي وجبت حال كفره".
وانظر في مذهب المالكية: "الذخيرة"، للقرافي (4/ 120)، وفيه قال:"وإن أسلم مشتريها فعليه دفع الثمن للبائع لأنه دين عليه".
وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 209)، وفيه قال:" (لا كفارةَ يمين وظهار وقتْل) فلا تسقط عنه بإسلامه كالدَّين. (وعليه) بعد إسلامه (رَدُّ مالِ المُسلِم) الذي كان قد استولى عليه وإنْ أحرزه بدار الحرب؛ لأنه لا يملكه بالاستيلاء".=
للخراج، فالإسلام يحفظ هذه الحقوق لا يُسقِطها، وهذا ما بنى الشافعية عليه قولهم
(1)
، وعللوه بأن هذا الحق ارتبط بذمة هذا الذمي الذي وجبت عليه الجزية، فقد تعيَّنَت في ذمته وأصبَحَت حقًّا لغيره، كما أن الزكاة حقٌّ من حقوق الفقراء يجب إخراجها لهم إذا ما حال الحول عليها وليس للإنسان أن يتصرف فيها.
ومن هنا جاء تَرَدُّدُ العلماء في المسألة؛ حيث اختلفوا في إلحاقه بين هاتين القضيتين.
وقاعدة الحقوق قاعدة مهمة جدًّا، وينبغي لنا أن نعلم أن الحقوق على ثلاثة أنواع:
- فهناك حقوق خاصة بالله سبحانه وتعالى، كعبادته سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} [الزمر: 14].
- وحقوق خاصة بالمخلوقين، كحق الإنسان أن يتصرف في ماله، فلو وجدنا إنسانًا سفيهًا نحجر عليه، ولو وجدنا إنسانًا ينفق أمواله في المعاصي فإنه يوقف عند حده.
- وهناك حقوق مشتركة، كالحدود، فإن الحدَّ يتضمن حقًّا لله سبحانه وتعالى، وحقًّا لمن وقع عليه الأذى.
ولذا؛ فقد جاء في أبواب النذر أن عمر رضي الله عنه لَمَّا نَذَرَ في الجاهلية أن يعتكف ليلةً في المسجد الحرام، وَسَأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ"
(2)
.
= وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (9/ 342)، وفيه قال:"ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام، كالقتل. وبهذا فارق سائر الديون". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 402).
(1)
سبق.
(2)
أخرجه البخاري (2043)، ومسلم (27/ 1656).
قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الخَامِسَة، وَهِيَ: كَمْ أَصْنَافُ الجِزْيَةِ؟ فَإِنَّ الجِزْيَةَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: جِزْيَةٌ عَنْوِيَّةٌ، وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا فِيهَا، أَعْنِي: الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى الحَرْبِيِّينَ بَعْدَ غَلَبَتِهِمْ)
(1)
.
المؤلف هاهنا يُفَصِّلُ أنواعَ الجزية، ويبين أنها ليست على نسق واحد وإنما تختلف أنواعها.
وأصناف الجزية إنما هي ثلاثة:
- النوع الأول: الجِزْيَةُ العَنْوِيَّةُ: وهي التي تُفرَض على الحربيِّ الذي لا يريد الدخول في الإسلام بعد أن يُغْلَبَ، حينما لا يجد أمامه إلا أن يدفعها أو تُضرَب عُنُقُه، وهي التي أشار الله إليها سبحانه وتعالى في قوله:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
وكذلك أُشِيرَ إليها في حديث المغيرة مع جندي كسرى في فتح نهاوند، حين قال:"أَمَرَنَا نبيُّ ربِّنا أن نُقاتِلَكُم حتى تَعبُدوا اللَّهَ وحدَه أو تؤدوا الجزية"
(2)
.
وفي حديث بريدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وفي من معه من الجند أَمَرَهُ أن يَدْعُوَ أولئك الأقوام إلى إحدى خصالٍ ثلاثٍ، وقد جاء في الحديث:"فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ"
(3)
.
قوله: (وَجِزْيَةٌ صُلْحِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي يَتَبَرَّعُونَ بِهَا لِيُكَفَّ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ، لَا فِي الوَاجِبِ، وَلَا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا مَتَى
(1)
سبق.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
يَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الاتِّفَاقِ الوَاقِعِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الصُّلْحِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ قَبُولُ الجِزْبَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى المُسْلِمِينَ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا قَدْرٌ مَا إِذَا أَعْطَاهُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الكُفَّار، وَجَبَ عَلَى المُسْلِمِينَ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ أَقَلُّهَا مَحْدُودًا، وَأَكثَرُهَا غَيْرَ مَحْدُودٍ).
- النوع الثاني: الجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: وهذه تؤخذ صُلحًا، بأن يَصطَلِحَ مع المسلمين مِن تلقاء نفسه على أن يُعطِيَهُم الجزيةَ.
ونحن نعلم - مثلًا - أن الجزية لا تجب على امرأةٍ ولا على صبيٍّ ولا على غير مُكلَّفٍ
(1)
، لكن لو جاءت امرأةٌ وألَحَّتْ أن تَدفَع الجزية، فحينئذٍ تُقبَلُ منها، وتكون بمثابة الهدية؛ لأننا لو أخذناها على أنها جزيةٌ نكون قد أَلزَمْنَاها بِحُكمٍ لَم تُلزِمْها به الشريعة، وهذا معنى أنها (ليس فيها توقيتٌ، لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه، ولا متى يجب عليه)
(2)
.
فالمؤلف هاهنا يريد أنها تُتْرَكُ إلى اجتهاد الإمام واختياره حسب ما فيه المصلحه، كما هو الحال في كثيرٍ من الأحكام التي تُعطِي الحاكِمَ المُسلِمَ الحقَّ في التَّصرُّف في بعض الأُمور من باب المَصلحة أو المَصالِح المُرسَلة.
(1)
سبق.
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 339)، وفيه قال:"وإن بذلت المرأة الجزية، أخبرت أنها لا جزية عليها، فإن قالت: فأنا أتبرع بها. أو: أنا أؤديها. قبلت منها، ولم تكن جزية، بل هبة تلزم بالقبض. فإن شرطته على نفسها، ثم رجعت، كان لها ذلك وإن بذلت الجزية لتصير إلى دار الإسلام مكنت من ذلك بغير شيء، ولكن يشترط عليها التزام أحكام الإسلام، وتعقد لها الذمة، ولا يؤخذ منها شيء، إلا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها. وإن أخذ منها شيء على غير ذلك، رد إليها؛ لأنها بذلته معتقدة أنه عليها، وأن دمها لا يحقن إلا به، فأشبه من أدى مالًا إلى من يعتقد أنه له، فتبين أنه ليس له".
قوله: (وَأَمَّا الجِزْيَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ العُشْرِيَّةُ).
- النوع الثالث: الجزية العُشرِيَّة: ويُقصد بها العشور التي تؤخذ من أهل التجارات، وسيأتي الحديثُ في مسائلَ مُتعلِّقةٍ بها، كالفرق بين الذمي والحربي فيها، وكذلك سيأتي الكلام على القدر المفروض فيها إذا كان العشر أو نصف العشر، ومثل ذلك.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ
(1)
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عُشْرٌ، وَلَا زَكَاةٌ أَصْلًا فِي أَمْوَالِهِمْ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 37)؛ حيث قال:"ولا يؤخذ من المسلم إذا مر على العاشر في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن المأخوذ منه زكاة والزكاة لا تجب في السنة إلا مرة واحدة. وكذلك الذمي؛ لأنه بقبول عقد الذمة صار له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين؛ ولأن العاشر يأخذ منه باسم الصدقة، وإن لم تكن صدقة حقيقة كالتغلبي فلا يؤخذ منه في الحول إلا مرة واحدة، وكذلك الحربي إلا إذا عشره فرجع إلى دار الحرب ثم خرج أنه يعشره ثانيًا، وإن خرج من يومه ذلك، لأن الأخذ من أهل الحرب لمكان حماية ما في أيديهم من الأموال، وما دام هو في دار الإسلام فالحماية متحدة ما دام الحول باقيًا فيتحد حق الأخذ". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 312 - 313).
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(2/ 318)؛ حيث قال: "وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زرعهم ولا على مواشيهم صدقة؛ لأن الصدقة إنما وضعت على المسلمين تطهيرًا لهم وردًّا على فقرائهم، ووضعت الجزية على أهل الكتاب صغارًا لهم فهم، وإن كانوا ببلدهم الذي صالحوا عليه ليس عليهم شيء سوى الجزية في شيء من أموالهم، إلا أن يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها؛ فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارات".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 67)؛ حيث قال:" (فإن استأذن) كافر الإمام في دخول الحجاز (أذن)، له (إن كان) في دخوله (مصلحة للمسلمين كرسالة) يؤديها وعقد ذمة وهدنة (وحمل ما نحتاج) نحن (إليه) من طعام ومتاع؛ فإن لم يكن مصلحة لم يأذن له (فإن كان) دخوله (لتجارة ليس فيها كبير حاجة) كالعطر (لم يأذن)، له الإمام في دخول الحجاز (إلا بشرط أخذ شيء منها)؛ أي: من متاعها، وقدر المشروط منوط برأي الإمام اقتداء بعمر رضي الله عنه فإنه كان يأخذ من القبط إذا تجروا إلى المدينة عشر بعض الأمتعة كالقطيفة، ويأخذ نصف العشر من الحنطة والشعير ترغيبًا لهم في حملها للحاجة إليهما".=
لا تجب عليهم الزكاة؛ لأن من شروط دافع الزكاة أن يكون مسلمًا بالغًا مكلَّفًا، وأن يكون مالكًا للنصاب، أما غير هؤلاء فلا تجب الزكاة في ماله
(1)
.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ ضَاعَفُوا الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ أَعْنِي: أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إِعْطَاءَ ضِعْفِ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَلْزَمُ فِيهَا المُسْلِمِينَ الصَّدَقَةُ).
وهو ما أشرنا إليه من قصة بني تغلب مع عُمَرَ رضي الله عنه حينما أراد أن يَفرِض عليهم الجزيةَ فَأَنِفُوا أن يُفرَّق بينهم وبين المسلمين العرب، وطَلَبُوا أن يَدفَعُوا الزكاة كالمسلمين لكونهم عَرَبًا أمثالهم، فَلَمَّا أَبَى عُمَرُ عليهم ذلك لَحِقَ عددٌ منهم بالروم أعداء المسلمين، فأُشِيرَ على عُمَرَ بأن أولئك الأقوامَ أهل شِدَّةٍ وبأسٍ، فَرَدَّهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَفَرَضَ عليهم الزكاةَ مُضاعَفَةً.
ولو قيل: لماذا ضَعَّفَ على هؤلاء بالرغم من أنها لا تكون مُضَعَّفَةً على المسلمين؟
فالجواب: إذا ثَقُلَ عليهم ذلك، فعليهم أن يدخلوا في الإسلام، كما هو الحال في مَنْعِ رخصة إباحة أكل الميتة في حق المسافر إلى معصيةٍ رغم اضطراره إليهَا، فهذا - كما قلنا - إن خَشِيَ على نفسه الهلاكَ فعليه
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 138)؛ حيث قال:" (ويؤخذ) نصف العشر من الذمي والعشر من الحربي (من كل عام مرة) نص عليه لما روي: "أن نصرانيًّا جاء إلى عمر فقال: إن عاملك عشرني في السنة مرتين قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني فقال عمرت وأنا الشيخ الحنيف، ثم كتب إلى عامله ألَّا يعشر في السنة إلا مرة". رواه أحمد. ولأن الجزية والزكاة إنما يؤخذان في السنة مرة فكذا هنا".
وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 137)؛ حيث قال:"وإن اتجر ذمي ولو صغيرًا، أو أنثى أو تغلبيًا إلى غير بلده ثم عاد إلى بلده (ولم يؤخذ منه الواجب في الموضع الذي سافر إليه من بلادنا فعليه نصف العشر مما معه من مال التجارة) ".
(1)
تقدَّم في باب الزكاة.
أن يتوب إلى الله تعالى لِيَدخُلَ في عموم قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3].
قوله: (وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ فِعْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
(4)
رضي الله عنه بِهِمْ، وَلَيْسَ يُحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ نَصٌّ فِيمَا حَكَوْا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ).
وقول الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد واضحٌ في هذه
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 96)؛ حيث قال:" (ولو قال قوم) عرب أو عجم (نؤدي الجزية باسم صدقة لا جزية فللإمام إجابتهم إذا رأى) ذلك (ويضعف عليهم الزكاة) اقتداء بفعل عمر رضي الله عنه مع مَن تنصر من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو تغلب وتنوخ وبهراء".
(2)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (2/ 405)؛ حيث قال:"ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم؛ لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 119)؛ حيث قال:" (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب) بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نزار فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال: لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم وردهم، وضعف عليهم الزكاة".
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 250)؛ حيث قال: "وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روى عنه أهل الكوفة
…
وممن ذهب إلى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل؛ قالوا: يؤخذ منهم كل ما يؤخذ من المسلم مثلاها حتى في الركاز ويؤخذ منهم فيه الخمسان، ومما يؤخذ من المسلم فيه العشر أخذ فيه عشران وما أخذ من المسلمين ربع العشر أخذ منهم نصف العشر ويجري ذلك على أموالهم وعلى نسائهم بخلاف الجزية".
المسألة، لكن لا يُعرَف نَصٌّ يُنسَب إليهم فيها، وإنما قولهم مُسَلَّمٌ به؛ لأنهم استَنَدُوا في ذلك إلى ما فَعَلَهُ عُمَرُ ببني تغلب.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا، هَلْ يَجِبُ العُشْرُ عَلَيْهِمْ فِي الأَمْوَالِ الَّتِي يَتَّجِرُونَ بِهَا إِلَى بِلَادِ المُسْلِمِينَ بِنَفْسِ التِّجَارَةِ؛ أَوِ الإِذْنِ إِنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ؛ أَمْ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالشَّرْطِ؟).
وهنا محل خلافٍ بين العلماء في المعاهَد والحربِيِّ، هل يُساوَى بينهم في أَخْذِ العُشر إذا دخلوا بتجارتهم إلى بلاد المسلمين أم لا.
الحربيُّ إذا أُذِنَ له بالدخول للتجارة يؤخذ منه العشر، أما الذمي فهل يُعامَل معامَلة الحربي في أَخْذِ العُشر أم لا، هذا محل الخلاف.
قوله: (فَرَأَى مَالِكٌ
(1)
، وَكثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ أَنَّ تُجَّارَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ لَزِمَتْهُمْ بِالإِقْرَارِ فِي بَلَدِهِمُ الجِزْيَةُ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مِمَّا يَجْلِبُونَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدِ العُشْرُ).
قوله: (وكثير من العلماء)؛ يعني: به أبا حنيفة، وقد أراد المؤلفُ
(1)
يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 338)؛ حيث قال: "ويجوز أن (يؤخذ ممن تجر): بفتح الجيم في الماضي وضمها في المضارع (منهم)؛ أي: أهل الذمة لا بالمعنى السابق بل بمعنى جميع أهل الذمة ذكورًا أو إناثًا، صغارًا أو كبارًا، أحرارًا أو عبيدًا. (من أفق): بضم الفاء ويجوز إسكانها؛ أي: إقليم (إلى أفق): أي إقليم آخر، والأقاليم خمسة: مصر والشام والعراق وبر الأندلس وبر المغرب، والاعتبار بهذا لا بالسلاطين؛ إذ لا يجوز تعدُّد السلطان، وقيل: يجوز عند تنائي الأقطار، وأما الأفق في باب أوقات الصلاة فالمراد به الجو الذي بين السماء والأرض
…
(عشر ثمن ما يبيعونه): من غير الطعام أو من الطعام في غير مكة والمدينة وما اتصل بهما من قراهما
…
وسواء كان ما قدموا به عينًا أو عرضًا، فإذا قدموا بعين وأخذوا بدلها عرضًا فإنه يؤخذ منهم عشر العرض لا عشر قيمته هذا هو المشهور، وأما ما يشترونه فيؤخذ منهم عشر قيمته لا عشر ثمنه
…
(وإن حملوا)، أي: أهل الذمة مطلقًا (الطعام إلى مكة والمدينة خاصة) وألحق بهما القرى المتصلة بهما (أخذ منهم نصف العشر من ثمنه)، لا جميع العشر ترغيبًا لهم في الجلب إليهما لشدة حاجة أهلهما إلى الطعام".
غير الذِّمِّيِّينَ، وهو عكس ما ذَكَرَ، فإنه ينضم لغير المالكية والحنابلة؛ لأنهم لا يُفَرِّقون بين الذميِّين وبين الحربيِّين.
قوله: (إِلَّا مَا يَسُوقُونَ إِلَى المَدِينَةِ خَاصَّةً فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِيهِ نِصْفُ العُشْرِ).
يعني: بلاد الحجاز، فقد فَرَّقُوا بينها وبين غيرها، وهو أيضًا قولٌ للشافعي
(1)
.
قوله: (وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَة
(2)
فِي وُجُوبِهِ بِالإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ نَفْسِهَا، وَخَالَفَهُ فِي القَدْرِ، فَقَالَ: الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ نِصْفُ العُشْرِ).
إنما وَافَقَهُ فقط في الإذن بالتجارة للحربيين، أما الحكم فإنه يخالفه فيه كما سيأتي.
قوله: (وَمَالِكٌ
(3)
لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ فِي العُشْرِ الوَاجِبِ عِنْدَهُ نِصَابًا وَلَا حَوْلًا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ نِصْفِ العُشْرِ عَلَيْهِمُ الحَوْلَ وَالنِّصَابَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"، للعمراني (12/ 298)؛ حيث قال: "وأمَّا أهل الذمة: فيجوز لهم أن يتجروا في بلاد المسلمين بغير عوض يؤخذ منهم إلا أن يشترط عليهم مع الجزية: إن اتَّجروا في بلاد الإسلام أخذ منهم نصف العشر
…
فيجب عليهم ذلك؛ لما روي: "أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة مع الجزية إذا اتجروا في بلاد الإسلام نصف العشر من تجارتهم"".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 38)؛ حيث قال:"وإن كان ذميًّا يؤخذ منه نصف العشر، ويؤخذ على شرائط الزكاة، لكن يوضع موضع الجزية والخراج ولا تسقط عنه جزية رأسه في تلك السنة غير نصارى بني تغلب؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم من الجزية على الصدقة المضاعفة".
(3)
يُنظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (2/ 269)، حيث قال:"لأن العشر الذي يؤخذ من تجار أهل الذمة لا يشبه الزكاة في شيء من الأشياء، ولا في وجه من الوجوه، وكذلك لا يعتبر فيه النصاب، ولا حول، ولا حر، ولا عبد".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 38)؛ حيث قال: "ولو اجتاز المسلم =
وهذا هو الخلاف في الحكم الذي أشرنا إليه:
أولًا: اشترط مالكٌ العُشرَ، بخلاف أبي حنيفة، وأحمد
(1)
اللَّذَيْنِ اشترطا نصف العُشرِ.
ثانيًا: لم يشترط مالكٌ حَوَلان الحول ولا بلوغ النصاب، بخلاف أبي حنيفة وأحمد
(2)
اللَّذَيْنِ اشترطاهما، وإن كان هناك تفصيلٌ في مذهب أحمد لاشتراط النصاب لكن هذا هو ظاهر المذهب.
= والحربي ولم يعلم بهما العاشر ثم علم بهما في الحول الثاني أخذ منهما؛ لأن الوجوب قد ثبت ولم يوجد ما يسقطه. ولو مر على العاشر بالخضروات وبما لا يبقى حولًا كالفاكهة ونحوها لا يعشره في قول أبي حنيفة
…
وجه قولهما: أن هذا مال التجارة والمعتبر في مال التجارة معناه وهو ماليته وقيمته لا عينه، فإذا بلغت قيمته نصابًا تجب فيه الزكاة؛ ولهذا وجبت الزكاة فيه إذا كان يتجر فيه في المصر، ولأبي حنيفة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس في الخضروات صدقة"
…
؛ ولأن الحول شرط وجوب الزكاة، وأنها لا تبقى حولًا والعاشر إنما يأخذ منها بطريق الزكاة؛ ولأن ولاية الأخذ بسبب الحماية، وهذه الأشياء لا تفتقر إلى الحماية؛ لأن أحدًا لا يقصدها؛ ولأنها تهلك في يد العاشر في المفازة فلا يكون أخذها مفيدًا".
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (4/ 182)؛ حيث قال:"من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد، أخذ منه نصف عشر ما معه من المال، لما روى أنس بن سيرين قال: "بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر". رواه الإمام أحمد".
(2)
يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، للمرداوي (4/ 246)؛ حيث قال:" (ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير) هذا الصحيح من المذهب، سواء كان التاجر ذميًّا أو حربيًّا. نص عليه. وجزم به في "الوجيز". وقدمه في "الفروع"، و"المحرر". وصححه في "النظم". واختاره القاضي وغيره. وقيل: لا يؤخذ من أقل من عشرين دينارًا. وهو رواية عن أحمد. وأطلقهما في "الكافي". وقيل: تجب في تجارتيهما. قلت: اختاره ابن حامد
…
(ويؤخذ في كل عام مرة) هذا الصحيح من المذهب. نص عليه. وعليه جمهور الأصحاب".
قوله: (وَهُوَ نِصَابُ المُسْلِمِينَ نَفْسُهُ المَذْكُورُ فِي كتَابِ الزَّكَاةِ).
ومقدار الزكاة - كما هو معلومٌ - أنه فيما سَقَتِ السماء العُشر، وفيما سُقِيَ سَيْحًا نصف العُشر.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ عُشْرٌ أَصْلًا، وَلَا نِصْفُ عُشْرٍ فِي نَفْسِ التِّجَارَةِ، وَلَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَحْدُودٌ إِلَّا مَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ أَوِ اشْتُرِطَ).
وقول الشافعي هذا وَرَدَ فيه عدة آثارٍ، ومنها حديث:"لا عشور على المسلمين، وإنما العشور على اليهود والنصارى"
(2)
.
قوله: (فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الجِزْيَةُ العُشْرِيَّةُ مِنْ نَوْعِ الجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ جِنْسًا ثَالِثًا مِنَ الجِزْيَةِ غَيْرِ الصُّلْحِيَّةِ، وَالَّتِي عَلَى الرِّقَابِ).
مما ينبغي التأمل فيه هاهنا أن أهل المذاهب لا يسمونها جزيةً، وإنما يسمونها عُشُورًا، والمؤلف إنما سَمَّاها جزيةً هاهنا ربما من باب الاصطلاح لا أكثر.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّة يُرْجَعُ إِلَيْهَا).
نعم؛ فالذي وَرَدَ في هذا إنما هو آثار عن الصحابة، ومنها حديث:"لا عشور على المسلمين، وإنما العشور على اليهود والنصارى"
(3)
،
(1)
لم أقف عليه.
(2)
أخرجه أبو داود (3046) حرْب بن عبيد الله عن جده أبي أمه عن أبيه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنما العُشُورُ على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عُشُورٌ". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(538).
(3)
تقدَّم تخريجه.
وقد تَكَلَّمَ فيه بعضُ العلماء، فاحتج به أناسٌ
(1)
ولم يحتج به آخرون
(2)
.
قوله: (وَإِنَّمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ).
وَفِعْلُ عمر رضي الله عنه هاهنا كافٍ ويصح الاحتجاج به؛ لأن فِعْلَهُ رضي الله عنه إنما هو امتدادٌ لِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أَيَّدَهُ الصحابةُ ولم يُنكِرُوه عليه.
وقد نُقِلَ أيضًا عن أَنَسٍ رضي الله عنه: "أنه لما أراد أن يَبعَثَ رجلًا على أَخْذِ العشور قال: لِمَ اخترتني - أو: كيف اخترتني - فقال: لَا تُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه "
(3)
.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ هَذَا إِنَّمَا فَعَلَهُ بِأَمْرٍ كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّتَهُمْ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ؛ إِذْ لَوْ كانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَذَكَرَه، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسُنَّةٍ لَازِمَةٍ لَهُمْ إِلَّا بِالشَّرْطِ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ "الأَمْوَالِ"
(4)
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام
(1)
لم أقف على من أحتج به.
(2)
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 60)، وساق اضطراب الرواة فيه، وقال: لا يتابع عليه.
وفي "العلل الكبير"، للترمذي (ص 103) قال:"سألت محمدًا عن حديث عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن أبي أمه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلمين عشور"؟ فقال: هذا حديث فيه اضطراب ولا يصح هذا الحديث".
وفي "الأحكام الوسطى"، للإشبيلي (3/ 117) قال:"وحديث في إسناده اختلاف، ولا أعلمه من طريق يحتج به".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 95) عن أنس بن سيرين قال: "استعملني أنس بن مالك على الأيلة، فقلت: استعملتني على المكس من عملك، فقال: خذ ما كان عمر بن الخطاب يأخذ من أهل الإسلام، إذا بلغ مائتي درهم، من كل أربعين درهمًا درهمًا، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهمًا، وممن ليس من أهل الذمة من كل عشرة دراهم درهمًا".
(4)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(ص 86) عن أبي مجلز لاحق بن حميد: "أن عمر بن =
لَا أَذْكُرُ اسْمَهُ الآنَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ كنْتُمْ تَأْخُذُونَ العُشْرَ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا العُشْرَ إِذَا دَخَلْنَا إِلَيْهِمْ).
وما حكاه أبو عبيدٍ هو قول لأبي حنيفة
(1)
أيضًا، حيث يُفَرِّقُ بين الحربي وغيره بأَلَّا يؤخذ من الحربيِّين إلا إذا أخذوا من المسلمين.
قوله: (قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يُشَارِطُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا
= الخطاب بعث عمار بن ياسر إلى أهل الكوفة: على صلاتهم وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود: على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف: على مساحة الأرض
…
قال: فقيل لعمر: تجار الحرب كم نأخذ منهم، إذا قدموا علينا؟ قال: كم يأخذون منكم إذا قدمتم عليهم؟ قالوا: العشر، قال: فخذوا منهم العشر".
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 314)؛ حيث قال: " (قوله: وأخذ منا
…
إلخ) بالبناء للمجهول كما يدل عليه آخر العبارة. ط. والمأخوذ من المسلم زكاة ومن غيره جزية يصرف في مصارفها، ولكن تراعى فيه شروط الزكاة من الحول ونحوه كما قدمنا (قوله: بذلك)؛ أي: بهذه الأقسام الثلاثة أمر عمر سعاته. ط. (قوله: لأن ما دونه عفو)، أما في المسلم والذمي فظاهر، وأما في الحربي فلعدم احتياجه إلى الحماية لقلته "نهر" (قوله: وبشرط جهلنا
…
إلخ) هذا خاص بالحربي فقط بقرينة قوله: "ما أخذوا منا أي أهل الحرب" كما هو ظاهر فليس في عطفه على ما يعم على الثلاثة إبهام أصلًا فافهم (قوله: قدر ما أخذوا منا)، قال البرجندي: ظاهر العبارة يدل على أن الأخذ معلوم والمأخوذ مجهول، ويفهم من ذلك أنه لو لم يكن أصل الأخذ معلومًا لا يؤخذ منه شيء".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين"، للنووي (10/ 319)؛ حيث قال:"وإن كان يدخل لتجارة لا تشتد الحاجة إليها، جاز للإمام أن يأذن له ويشرط عليه عشر ما معه من مال التجارة، ولو دخل غير تاجر بأمان مسلم، لم يطالب بشيء، وقيل: إن دخل الحجاز، وجب دينار، لعظم حرمته، ولو رأى الإمام أن يزيد المشروط على العشر، جاز على الأصح، ويجتهد فيه كما في زيادة الجزية على دينار، ولو رأى أن يحط الضريبة عن العشر، ويردها إلى نصف العشر فما دونه، فله ذلك، وله أن يشرط في نوع من تجارتهم نصف العشر، وفي غيره العشر، ولو رأى أن يأذن لهم بغير شيء، جاز على الأصح، وبه قطع الجمهور؛ لأن الحاجة تدعو إليه لاتساع المكاسب وغيره".
فَرَضَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، وَإِنْ شُورِطُوا عَلَى أَكْثَرَ فَحَسَنٌ. قَالَ: وَحُكْمُ الحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ حُكْمُ الذِّمِّيِّ).
وليس هذا الكلام على إطلاقه، فالحنفية - كما قلنا - يُفَرِّقُون بين الحربيِّ والذميِّ، فيوجبون نصفَ العشرِ على الذميِّ، والعشرَ على الحربيِّ إذا كانوا يأخذون من المسلمين.
قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ فِي مَاذَا تُصْرَفُ الجِزْيَةُ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مُشْتَرَكةٌ لِمَصَالِحِ المُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، كالحَالِ فِي الفَيْءِ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِمَامِ حَتَّى لَقَدْ رَأَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ اسْمَ الفَيْءِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الجِزْيَةِ فِي آيَةِ الفَيْءِ"
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (3/ 283)، حيث قال:"والجزية والخراج ومال التغلبي وهدية أهل الحرب، وما أخذنا منهم بلا قتال يصرف في مصالحنا كسد الثغور وبناء القناطر والجسور وكفاية القضاة والعلماء والمقاتلة وذراريهم؛ لأنه مأخوذ بقوة المسلمين فيصرف إلى مصالح المسلمين وهؤلاء عملة المسلمين قد حبسوا أنفسهم لمصالح المسلمين فكان الصرف إليهم تقوية للمسلمين، ولو لم يعطوا لاحتاجوا إلى الاكتساب، وتعطلت مصالح المسلمين، ونفقة الذراري على الآباء فيعطون كفايتهم؛ كي لا يشتغلوا بها عن مصالح المسلمين ولا خمس في ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يخمس الجزية، ولأنه مال أخذ بقوة المسلمين بلا قتال بخلاف الغنيمة؛ لأنها مأخوذة بالقهر والقتال فشرع الخمس فيها لا يدل على شرعه في الآخر، ومن جملة هذا النوع ما يأخذه العاشر من أهل الحرب".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 129)؛ حيث قال:"والجزية لآله عليه الصلاة والسلام ثم للمصالح (ش) تقدم أن أرض العنوة توقف لمصالح المسلمين ولا تقسم. وأما خراجها إن أقرت بأيدي المسلمين أو أهلها لعمارتها أو سوقوا على سوادها والخمس الذي لله ولرسوله؛ أي: الخمس الخارج بالقرعة من غنيمة أو ركاز كما مر عند قوله: "وفي ندرته الخمس كالركاز" والفيء والجزية العنوية والصلحية وعشور أهل الذمة وخراج أرض الصلح محله بيت مال المسلمين يصرفه الإمام في مصارفه باجتهاده؛ فيبدأ من ذلك بآل النبي - عليه الصلاة
وهذا ينبني - كما قلنا - على أن الجزية هل هي غنيمة أم فيءٌ، وقد علمنا أن الجزية إنما هي صنفٌ من أصناف الفيء، مثلها مثل الخراج، ومثل الأموال التي يَفِرُّ عنها المُشرِك وَيترُكُها أو الأموال التي يُخلِّفها الكافر ولا وارث له؛ ولذا فإنها تُصرَف في مَصالِح المسلمين.
قوله: (وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا، فَالأَمْوَالُ الإِسْلَامِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صَدَقَةٌ، وَفَيْءٌ
(1)
، وَغَنِيمَةٌ
(2)
).
= والسلام - على جهة الاستحباب ثم يصرف للمصالح؛ أي: العائد نفعها على المسلمين كبناء المساجد والقناطر والغزو وعمارة الثغور وأرزاق القضاة وقضاء الديون وعقل الجراح وتزويج الأعزب ونحوهم وأشعر كلام المؤلف أن الفيء لا يلزم تخميسه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"، للنووي (6/ 354)، حيث قال: "فمنه ما جلا عنه الكفار خوفًا من المسلمين إذا سمعوا خبرهم أو لضر أصابهم، وجزية أهل الذمة وما صولح عليه أهل بلد من الكفار، وعشور تجاراتهم المشروطة عليهم إذا دخلوا دار الإسلام، ومال من مات أو قتل على الردة، ومال من مات من أهل الذمة عندنا، ولا وارث له، وكل ذلك مخمس
…
هذا هو المذهب". وانظر: "روضة الطالبين"، للنووي (10/ 317).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (3/ 366 - 367)؛ حيث قال:" (ومصرفه مصرف الجزية) في الأشهر؛ لأنه مأخوذ من مشرك فكان جزية، وغايته أنه جزية مسماة بالصدقة؛ ولذلك قال عمر: هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى، وأبوا الاسم. (وقال الخرقي: مصرف الزكاة) هذا رواية، واختارها جمع؛ لأنه مسمى بالصدقة، فكان مصرفه مصرفها. والأول أقيس؛ لأن المعنى أخص من الاسم، ولو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم، كصدقة المسلمين".
(1)
الفيء: ما يرجع إلى المسلمين من الغنيمة من أموال الكفار. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 80).
(2)
الغنيمة عرفها الحنفية بقولهم: هي اسم للمأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة، إما بحقيقة المنعة أو بدلالتها، وهي إذن الإمام. انظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 118).
وعند الشافعية هي: الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير. انظر: "الأم"، للشافعي (4/ 146).
والمؤلف هاهنا يَقصِد أن يَذكُر الخلاصة، وأن الأموال الإسلامية على ثلاثة أنواع:
- صدقة: ويعني بها الزكاة، وهي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، وهي التي ذَكَرَهَا عُمَرُ وقال:"هذه لهؤلاء"
(1)
.
- غنيمة: ويُشار إليها في قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
فَيْء: وهو والمُشار إليه في آيات الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].
وليس المقصود بهذا أن الأموال مقتصرةٌ على هذه الأصناف الثلاثة،
(1)
أخرجه النسائي (4148) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "جاء العباس وعلي إلى عمر يختصمان فقال العباس: اقض بيني وبين هذا، فقال الناس: افصل بينهما، فقال عمر: لا أفصل بينهما، قد علما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، قال: فقال الزهري: وليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ منها قوت أهله، وجعل سائره سبيله سبيل المال، ثم وليها أبو بكر بعده، ثم وليتها بعد أبي بكر فصنعت فيها الذي كان يصنع، ثم أتياني فسألاني أن أدفعها إليهما على أن يلياها بالذي وليها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي وليها به أبو بكر، والذي وليتها به، فدفعتها إليهما وأخذت على ذلك عهودهما، ثم أتياني يقول هذا: اقسم لي بنصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: اقسم لي بنصيبي من امرأتي، وإن شاءا أن أدفعها إليهما على أن يلياها بالذي وليها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي وليها به أبو بكر، والذي وليتها به دفعتها إليهما، وإن أبيا كفيا ذلك، ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} هذا لهؤلاء، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} هذه لهؤلاء، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} ". وقال الألباني في "إرواء الغليل"(1245): "صحيح موقوف".
وإنما المقصود أن هذه هي الأموال التي يوكل التصرف فيها إلى إمام المسلمين.
وهذه الخلاصة بعض العلماء يجعلها في أول كتاب الجزية، وبعضهم يجعلها في آخره كما فعل المؤلِّف.
قوله: (وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِي تَحْصِيلِ قَوَاعِدِ هَذَا الكِتَابِ، وَاللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ).
وكأنَّ المؤلف يخبرنا هاهنا أنه لم يستوعب جميع فروع هذا الباب وجزئياته، وإنما اختار أمهات مسائله وقواعده، وهي كافيةٌ، فَمَن أراد أن يَعرِف بقية المسائل، فبإمكانه أن يَردَّ كل جُزئيةٍ إلى أصلها؛ فهذا الكتاب إنما هو كتاب قواعد فقهية لا كتاب فروع فقهية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد وآله وسلم
[كِتَابُ الأيْمَانِ]
(1)
(وَهَذَا الكِتَابُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى جُمْلَتَيْنِ).
وهذا المبحث مهمٌّ جدًّا؛ لأن باب الأيمان لا يقتصر على الجانب
(1)
الأيمان في اللغة: اليمين الجهة والجارحة، سُمِّي الحلف يمينًا لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه فسُمِّي الحلف يمينًا مجازًا، واليمين أيضًا: القوة والشدة. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 681)"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 66).
في اصطلاح الفقهاء:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي (3/ 702)؛ حيث قال:"اليمين شرعًا: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك".
مذهب المالكية، يُنظر:"مختصر خليل"(ص 82)؛ حيث قال: "اليمين: تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته".
مذهب الشافعي، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 180)؛ حيث قال:"وفي الاصطلاح: تحقيق أمر غير ثابت ماضيًا كان أو مستقبلًا نفيًا أو إثباتًا ممكنًا كحلفه ليدخلن الدار، أو ممتنعًا كحلفه ليقتلن الميت، صادقة كانت أو كاذبة مع العلم بالحال أو الجهل به".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 228)؛ حيث قال:" (وهي القسم) بفتح القاف والسين (والإيلاء والحلف بألفاظ مخصوصة) ".
الفقهي فقط كما هو الحال في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وإنما يتعلَّق إلى جانب ذلك بالجانب العقائدي.
فالأيمان: جمع يمين، واليمين الأصل فيها أنها هي اليد، كان العرب يُطلِقون اليمينَ على اليد، وقد سُمِّيَ القَسَمُ يمينًا؛ لأنك إذا حلفتَ فكأنك تضع يدك في يد المحلوف له توثيقًا ووفاءً بالعهد.
ولذلك؛ فإن هذا المبحث يتطلب منا أن نَعرِض أيضًا لمباحث في العقيدة؛ لأن الأيمان إنما يراد بها التعظيم، فإذا أقسم الإنسان بشيءٍ فالمراد مِن قَسَمِهِ به إنما هو تعظيمه، والله وحده هو الذي يستحق العظمة والعزة والإجلال والكبرياء سبحانه وتعالى؛ فهو رب هذا الكون وخالقه والمُصَرِّفُ فيه، أما غيره فلا ينبغي أن يُرفَعَ عن مكانته التي خُلِقَ من أجلها مهما ارتفَعَت مكانته وثبتَت منزلته، حتى وإن كان مَلَكًا من الملائكة أو نبيًّا من الأنبياء.
ولا شك أن تأصيل العقيدة إنما هو الأساس، فالمسلم دائمًا ينبغي أن يكون ذا عقيدةٍ صحيحةٍ سليمةٍ مستقرةٍ ثابتةٍ لا تتغير ولا تتزعزع.
فهذا الباب إنما سنتناول فيه ما يتعلَّق بالأيمان، وسنعرف أن الأيمان أنواعٌ، فهناك أيمانٌ يَتلَفَّظ بها الإنسان عادةً أثناء حديثه، وأيمانٌ يَذكُرُها الإنسان لِيُدعمَ بها هذا الأمرَ المحلوفَ عليه، وهناك قضايا تتطلَّب من الإنسان أن يُقسِم فيها، كاليمين المتوجبة على مُنكِر الدعوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"البينة على المدَّعي واليمين على من أنكر"
(1)
.
وكذلك سنتناول حروف الأيمان، فهناك حروف معروفة للقسم، كالواو والباء والتاء، وقد مر بنا أن الهاء نابت عن جملة:"واللهِ لَا يكونُ ذَا" في قول أبي بكر رضي الله عنه: "لا ها الله".
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 427) عن ابن أبي مليكة، قال: كنت قاضيًا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، قال: فكتبت إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدِّعي، واليمين على من أنكر". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2661).
ونتناول فيه كذلك حكم القَسَم إذا لم يُضَفْ لله تعالى، وحكم قول الإنسان:(وَالله لأَفْعَلَنَّ كذا) دون أن يأتي فيه بحرفٍ من حروف القسم.
وسنذكر كذلك الأدلة على أحكام الأيمان؛ فالأيمان حكمها ثابتٌ في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء على مشروعيتها.
أما الكتاب: فقد ورد في ذلك أدلة كثيرة تدل على مشروعية القسم، ومن ذلك:
- قول الله سبحانه وتعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وفي هذه الآية نتبين أن القَسَمَ ليس على نوعٍ واحدٍ، فهناك اللغو، وهو مثل أن يقول الإنسان في أثناء حديثه:(والله) و (بالله) و (تالله) ونحو ذلك، دون أن يعقد العزم على ذلك بقلبه، وهناك يمين يُقصَد بها حقيقتها، وهذه اليمين قد يَحلِف بها المسلمُ فيَبَرُّ بيمينه وينتهي الأمر عند ذلك، وقد لا يؤدي ما حَلَفَ عليه فيُكَفِّر عنها، وقد يحلف على أمرٍ وهو كاذبٌ، وهذا خطر عظيم.
وأيضًا قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89]، فالله سبحانه وتعالى بعد أن بَيَّنَ ما لا يُؤاخَذُ فيه من الأيمان بَيَّنَ لنا ما كفارة اليمين المنعقدة، ومع ذلك أوصانا سبحانه وتعالى أن نكون من المحافظين على أيماننا.
فالله تعالى يقول: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا} [البقرة: 224].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].
ويقول سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2].
وأما السُّنَّةُ: فمنها:
- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
(1)
، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ، قد يُقسِم على شيءٍ ثم يرى أن ما أَقسَمَ عليه يَفضُلُه غَيْرُهُ فيَترُكُه ويُكَفِّرُ عن هذه اليمين، كما قال الله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ؛ يعني: التَّحَلُّل من اليَمِينِ بالكفارة.
- ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
(2)
، وفي رواية:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
(3)
.
- ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما عَدَّدَ الكبائرَ قال: "الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ باللهِ عز وجل، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، أَوْ قَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ
(4)
"
(5)
؛ فهي غموسٌ لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم كما تُغمَسُ التمرةُ في اللَّبَن أو في الزبد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المُسْبِلُ - يعني: مسبل الإزار - وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ أَوِ الفَاجِرِ، وَالمَنَّانُ"
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (5518)، ومسلم (1649).
(2)
أخرجه البخاري (2356)، ومسلم (138).
(3)
أخرجه البخاري (2676) ولفظه: عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على يمين كاذبًا ليقتطع مال رجل - أو قال: أخيه - لقي الله وهو عليه غضبان".
(4)
اليمين الغموس: التي لا استثناء فيها، وقيل: التي اقتطع فيها الحق، وسُمِّيت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وقيل: في النار. انظر: "العين"، للخليل (4/ 380)، و"الصحاح"، للجوهري (3/ 956)، و"مشارق الأنوار"، لعياض (2/ 136).
(5)
أخرجه البخاري (6675) عن عبد الله بن عمرو.
(6)
أخرجه مسلم (106/ 171) عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله =
وفي بعض الروايات جاء التنصيص على رجل باع سلعة بعد العصر فحلف بالله وهو كاذبٌ
(1)
.
وما أكثر الذي يحلفون كذبًا على سلعتهم في هذا الزمان، وأيضًا جاء في بعض الروايات التي رَوَت حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم:"رجل معه ماء في فلاة فمنع منه ابن السبيل"
(2)
، عندما يكون الإنسان في صحراء ويمر به إنسانٌ قد تَقطَّعَت به السُّبُلُ ويريد قطرةً من الماء، فيسأل هذا أن يُقدِّم له قليلًا من الماء يروي به عطشه ويدفع عنه الموت فيمتنع؛ ففي هذا الحديث يستوي هذا والذي يُرَوِّجُ سلعته بالحلف الكاذب.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الأيمان
(3)
، وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبِيَّهُ أن يُقسِمَ، فقال عز وجل:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} [التغابن: 7].
وقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف مرارًا، فقال:"ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته"
(4)
.
وقال كذلك في نفس هذه الخطبة: "يا عباد الله، والله لو تعلمون ما
= يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
(1)
أخرجه البخاري (2369).
(2)
أخرجه البخاري (2358)، ومسلم (107) سمعت أبا هيرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا، فصدقه رجل" ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
(3)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 487)؛ حيث قال:"وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين، وثبوت أحكامها".
(4)
أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901).
أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا"
(1)
، وفي بعض الروايات:"لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا"
(2)
.
وكرر القسم صلى الله عليه وسلم في قوله: "والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا"
(3)
.
ومن الأقسام التي يَكثُرُ أن يُقسِم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "والذي نفسي بيده"
(4)
، "والذي نفس محمد بيده"
(5)
، وقوله:"ومُصَرِّفِ القلوب"
(6)
، "ومُقَلِّبِ القلوب"
(7)
.
فهذه أدلة على مشروعية الأيمان من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء.
لكن لا ينبغي للمسلم ألا يُقسِمَ إلا بالله سبحانه وتعالى، ولذلك لما لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ ورآه يُقسِم بآبائه قال له:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(8)
، فإن كنت حالفًا فاحلف بالله سبحانه وتعالى وإلا فلا.
(1)
أخرجه البخاري (6631).
(2)
أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901).
(3)
أخرجه أبو داود (3285)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
(4)
أخرجه البخاري (644)، ومسلم (651) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها
…
" الحديث.
(5)
أخرجه البخاري (2819) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة
…
والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون".
(6)
أخرجه ابن ماجه (2092) عن سالم، عن أبيه، قال: كانت أكثر أيمان رسول صلى الله عليه وسلم "لا ومصرف القلوب". وجوَّد إسناده الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2090).
(7)
أخرجه البخاري (6617) عن سالم، عن عبد الله، قال:"كثيرًا مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: "لا ومقلب القلوب".
(8)
أخرجه البخاري (6108)، ومسلم (1646).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أَشْرَكَ"
(1)
، وفي روايةٍ:"مَن حَلَفَ بغير الله فقد كَفَرَ"
(2)
.
وهذا مما نَتَبَيَّنُ به علاقة الأيمان بالعقيدة؛ لأن الحالف بغير الله إنما قد عَظَّمَ ذلك المحلوفَ عليه ورَفَعَهُ عن منزلته، والتعظيم المُطْلَقُ لا ينبغي أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سَمِعَ رجلًا يقول:"ما شاء اللهُ وشئتَ"، قال:"جعلتَ لله مثلًا! قل: ما شاء اللهُ ثم شئتَ"
(3)
؛ لأن (الواو) تقتضي الاشتراك
(4)
، أما (ثُمَّ) فإنها تقتضي المخالفة
(5)
؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجل من باب صيانة التوحيد والمحافظة عليه والحرص على ألا يُخْدَشَ
(6)
، ولذلك جاء في الحديث:"مَن حَلَفَ باللَّات والعُزَّى فليقل: لا إله إلا الله"
(7)
، فَأَمَرَهُ أن يَذكُرَ اللهَ وأن يَرجِعَ إليه ويستغفره سبحانه وتعالى، فكلنا خطاؤون، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كلكم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون"
(8)
؛ فلا ينبغي للمسلم أن يحلف
(1)
أخرجه أبو داود (3251)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2561).
(2)
أخرجه الترمذي (1535)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2561).
(3)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(ص 420)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(138).
(4)
يُنظر: "علل النحو"، لابن الوراق (ص 377)؛ حيث قال:"اعلم أن (الواو) أصل حروف العطف، والدليل على ذلك أنها لا توجب إلا الاشتراك بين الشيئين فقط في حكم واحد، وسائر حروف العطف توجب زيادة حكم على هذا".
(5)
يُنظر: "اللباب في علل البناء والإعراب"، لأبي البقاء العكبري (1/ 422)؛ حيث قال:"و (ثم) كالفاء فِي التشريك والترتيب إلا أنها تدل على المهلة إذ كانت أكثر حروفًا من الفاء وقد جاءت لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه كقوله تعالى {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} وتقول: زيد عالم كريم ثم هو شجاع".
(6)
الخدوش: الكدوح. انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 1003).
(7)
أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647).
(8)
أخرجه ابن ماجه (4251) عن أنس، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". وحسنه الألباني في "المشكاة"(2341).
بالنبي، أو بشيخ من المشايخ، أو بأحد غير الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته؛ فلا ينبغي للمسلم أن يتجاوز هذا الحد، بل يكون دائمًا سائرًا على منهج أهل السُّنَّةِ العظماء.
فائدة:
ومما تجدر الإشارة إليه هاهنا أن تكرر الإتيان بلفظ (والله) على لسان بعض الفقهاء ليس منتَقَدًا؛ لأن الإتيان بها في مقام الموعظة والخطبة والدرس من شأنه أن يزيد التدبر واليقين في قلوب السامعين، وهذا قد فَعَلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدله على ذلك كثيرةٌ، لكن المنتقَد إنما هو المبالغة في الأيمان والتجاوز، فهذا هو الذي نهى عنه بعض العلماء؛ لأن الله تعالى يقول:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم: 10]، يقصد بذلك الذي يَكذِبُ في أيمانه
(1)
.
وقال تعالى أيضًا: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]؛ لأن الإنسان إذا أَكْثَرَ الأيمانَ وبَالَغَ فيها قد يَكذِبُ ويَقَعُ في الخطأ، فعلى المسلم ألَّا يَحلِفَ إلا في مَوَاطِنَ يَصْدُقُ فيها.
فكل هذه الأُمور سنتعرض لها سواء ذكرها المؤلف أم لا؛ نظرًا لِمَا لهذا الباب مِن أهميةٍ ومكانةٍ كبيرةٍ، فالأيمان أمرها خطيرٌ وعظيمٌ، ونحن نرى اليوم كثيرًا من المسلمين يتساهل في أيمانه، ونرى من يحلف أيمانًا مُغلَّظةً وهو يعلم أنه كاذبٌ فيها، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77} [آل عمران: 77].
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(23/ 534)؛ حيث قال: "وقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}: ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف بالباطل؛ {مَّهِينٍ}: وهو الضعيف. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. غير أن بعضهم وجه معنى المهين إلى الكذاب، وأحسبه فعل ذلك لأنه رأى أنه إذا وصف بالمهانة فإنما وصف بها لمهانة نفسه كانت عليه، وكذلك صفة الكذوب، إنما يكذب لمهانة نفسه عليه".
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذبَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
(1)
.
قوله: (الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِ الأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا. الجُمْلَة الثَّانِيَةُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ الرَّافِعَةِ لِلْأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا).
يريد المؤلف هاهنا أن يوضِّح أنواع الأيمان وحُكم كل نوعٍ منها، فهناك كما قلنا:
- يمين لغو: لا يؤاخَذ الإنسان فيها.
- ويمين منعقدة: يتلفظ بها الإنسان، فإن بَرَّ بها فلا شيء عليه، وإن عدل عنها فعليه أن يُكَفِّرَ عنها.
- ويمين غموسٌ: وهي التي يَحلِف فيها على شيءٍ ماضٍ وهو مُتَيَقِّنٌ أنه كاذبٌ في يمينه هذه؛ ليقتطع بها حقًّا من المسلم، ولذلك حينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِم لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
(2)
وتلا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران: 77]؛ فهذا هو ظاهر من يفعلون تلك الأعمال؛ لأنهم اسْتَغْنَوْا عن الآخرة بالدنيا، وقَدَّمُوا الفانيةَ على الباقيةِ، وهذا من أخطر الأمور.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الجُمْلَةُ الأُولَى
وَهذِهِ الجُمْلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ؛ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ المُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِ المُبَاحَةِ).
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
بعض العلماء يُقَسِّمُ الأيمانَ إلى أحكامٍ خمسةٍ
(1)
:
- يمينٌ واجبةٌ: كاليمين التي يؤديها الإنسان حرصًا على سلامة المسلم، كما في قصة سويد بن غفلة؛ فإنه كان في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقوا بِعَدُوٍّ لوائل بن حجر، فأمسكوا به، فرأى سويدٌ أنَّ بقية القوم قد تَحَرَّجُوا من الحَلِفِ، فحَلَفَ بالله أنه أخوه، فكان ذلك سببًا في تعبه، فأسرع إلى رسول الله فسأله، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقول له:"صدقتَ، إنما المؤمنون إخوةٌ، فالمسلم أخو المسلم"
(2)
؛ فهذه اليمين التي تُقسِمُ بها لِتُنقِذَ أخاكَ المُسلِمَ من الهلاك يرى العلماءُ وُجُوبَهَا
(3)
.
- يمينٌ مندوبةٌ: كأن تفعلها في سبيل الصلح بين قبيلتين متناحرتين؛ حتى لا تثور الحرب بينهما فتسيل الدماء وتقطع الرقاب، أو تفعلها لتوفق بين أخوين متخاصمين، ومن المعلوم أن الكذب يجوز في ثلاثة مواطِنَ: في الحرب، والصلح، والرجل على امرأته
(4)
.
(1)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 490 - 492)؛ حيث قال: "والأيمان تنقسم خمسة أقسام؛ أحدها: واجب
…
الثاني: مندوب، وهو الحلف الذي تتعلَّق به مصلحة؛ من إصلاح بين متخاصمين
…
فهذا مندوب؛ لأن فعل هذه الأُمور مندوب إليه، واليمين مفضية إليه
…
الثالث: المباح، مثل الحلف على فعل مباح أو تركه
…
الرابع: المكروه، وهو الحلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب
…
القسم الخامس: المحرم، وهو الحلف الكاذب".
(2)
أخرجه أبو داود (3256) عن سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال:"صدقتِ المسلم أخو المسلم". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6704).
(3)
وهم الحنابلة.
(4)
معنى حديث أخرجه مسلم (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا ويَنمي خيرًا" قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
- يمينٌ مباحةٌ: وهي أن تُقسِمَ على فِعْلِ مباحٍ.
- يمينٌ مكروهةٌ: وهي أن تُقسِمَ على فِعْلِ مكروهٍ أو تَرْكِ مندوبٍ.
- يمينٌ مُحرَّمةٌ: وهي كاليمين الغموس التي تَغمِسُ صاحبَها في النار.
قوله: (الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ اللَّغْوِيَّةِ وَالمُنْعَقِدَةِ).
وقد سبق بيانها.
قوله: (الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ الَّتِي تَرْفَعُهَا الكَفَّارَةُ وَالَّتِي لَا تَرْفَعُهَا).
- الأيمان التي ترفعها الكفارة: هي الأيمان التي يُقسِمها الإنسان وهو صائمٌ، أو يُقسِمُها على فعلِ شيءٍ ثم لا يَفعَلُه، أو يُقسِمها على ألَّا يَفعَل شيئًا ثم يَفعَلُه.
- والأيمان التي لا كفارة فيها: هي اليمين الغموس
(1)
، التي تَغمِسُ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 15)؛ حيث قال:"أما يمين الغموس فحكمها وجوب الكفارة لكن بالتوبة والاستغفار لأنها جرأة عظيمة".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح الزرقاني على مختصر خليل"(3/ 93)؛ حيث قال: " (و) لا كفارة في يمين (غموس) سميت به لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل: في الإثم. قال المصنف: وهو أظهر لأنه سبب حاصل. قاله تت؛ أي: موجود بخلاف الغمس في النار فإنه ليس محققًا؛ إذ فاعل الزنا تحت المشيئة عند أهل السنة، ولا تتحتم عليه النار خلافًا للمعتزلة، ويجاب عن الأول: بأن معنى قوله: تغمسه في النار: يستحقها بسببه ولا يلزم من أستحقاقها دخولها
…
لا يقال الغموس لا كفارة فيها فلا فائدة لقوله بلا تبين صدق، وإنما عليه إثم الجراءة مع تبين صدقه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 240 - 241)؛ حيث قال:"فإن حلف كاذبًا عالمًا" بالحال (على ماض فهي) اليمين (الغموس) سُمِّيت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهي من الكبائر كما ورد في البخاري (وفيها الكفارة)، لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية؛ ولأنه حلف بالله، وهو مختار كاذب فصار كما لو حلف على مستقبل والإثم لا يمنع
صاحِبَها في النار، بأن يُقسِم الإنسان بالله وهو كاذبٌ، أو أن يَشهَدَ شهادةَ زورٍ، أو يُقسِم كاذبًا على أنَّ له حقًّا في شيءٍ ليقتطع به حق امرئٍ مُسلِمٍ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".
وفي حديث آخر: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ قِطْعَةً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"
(1)
، فلا يَظُنُّ مَن يُحكَمُ له بِحُكمٍ مِن الأحكام وهو يَعلَمُ في نفسه أنه حق لأخيه أنه أَفْلَتَ بيمينه، بل إنَّ هَذا الحكم لن يُعفِيكَ مِن العقوبة أمام الله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
(2)
.
ومن هنا يأتي الفرق بين الشريعة والقانون، فالقانون ينتهي دَوْرُهُ بالحُكم بين الناس، أما الشريعة فعلى خلاف ذلك؛ حيث يأتي فيها دَوْرُ الوازع الدينيِّ بأن يستيقظ الضمير فيؤنب صاحبه إذا أَكَلَ مال غيره أو اعتدى على حقه أو أُعطِيَ من الحق ما لا يستحق؛ لأن صاحب الضمير يَعلَمُ أن عليه رقيبًا يَعلَمُ السِّرَ وأَخْفَى، كما قال الله سبحانه: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
= وجوبها كما في الظهار ويجب فيها التعزير أيضًاء قاله ابن عبد السلام وابن الصلاح؛ فإن كان جاهلًا ففي وجوبها القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 235)؛ حيث قال:"فأما اليمين على الماضي فليست منعقدة)، لأن شرط الانعقاد إمكان البر والحنث وذلك متعذر في الماضي (وهي)؛ أي: اليمين على الماضي (نوعان غموس وهي التي يحلف بها) على الماضي (كاذبًا عالمًا) سُمِّيت غموسًا؛ لأنها (تغمسه)؛ أي: الحالف بها (في الإثم ثم في النار ولا كفارة فيها)، لقول ابن مسعود: "كنا نعد من اليمين التي لا كفارة فيها اليمين الغموس". رواه البيهقي بإسناد جيد. وهي من الكبائر للخبر الصحيح (ويكفر كاذب في لعانه ذكره في "الانتصار") هذا مبني على وجوب الكفارة في اليمين الغموس كما في المبدع".
(1)
أخرجه البخاري (6967)، ومسلم (1713) عن أم سلمة.
(2)
أخرجه مسلم (1610) عن سعيد بن زيد.
الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 13، 14]؛ فالمؤمن الحق إذا أدرك ذلك غاية الإدراك وآمن به فإنه لا يأخذ مثقال ذرة من حق أخيه المسلم بغير حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ المُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا
وَاتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الأَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ).
ينبغي على المسلم - كما قلنا - ألا يحلف إلا بالخالق تعالى أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، ولا يجوز الحلف بالمخلوق مُطلقًا، لا بشيخٍ من الشيوخ، ولا بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرسَلٍ؛ لأن في الحلف بالمخلوق تعظيمًا له ورفعًا له فوق مكانته اللائقة به، وبعض الناس يَظُنُّ أن مَحَبَّتَهُ لرسول الله تستوجب أن يُعَظِّمَه، فينتهي به الأمر إلى أن يُجاوِزَ به مقام العبودية، في حين قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"
(1)
.
والله سبحانه وتعالى حينما ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التشريف إنما ذَكَرَهُ بمقام عبوديته لله، فقال سبحانه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فتمام التشريف للرسول هو في كونه عَبْدًا من عباد الله سبحانه، لكن الله فَضَّلَهُ بالرسالة وجَعَلَهُ خاتم
(1)
أخرجه البخاري (3445) عن عمر.
الأنبياء وأفضلهم، وجَعَلَ أُمَّتَهُ أَفْضَلَ الأُمَمِ، وتمام أفضلية هذه الأمة في اتباعها لِمَا أَرشَدَها إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا: أَيُّ الأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الحَلِفَ المُبَاحَ فِي الشَّرْعِ هُوَ الحَلِفُ بِاللَّهِ).
يعني: أن المباح في الشرع إنما هو:
- الحلف بالله سبحانه، كأن يقول الحالف:(والله، تالله، بالله).
- أو باسم من أسمائه، كأن يقول:(والرحمن).
- أو بصفة من صفاته، كأن يقول:(وعزة الله، وميثاق الله، وأمانة الله، وعظمة الله).
وليس للإنسان أن يُقسِمَ بأحدٍ مِن خَلقِهِ.
قوله: (وَإِنَّ الحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَاصٍ
(1)
. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَجُوزُ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (6/ 128)؛ حيث قال:" (والحلف بالله هو المعهود المشروع). ش: قال تاج الشريعة رحمه الله: هذا جواب من يقول إن قوله - أحلف - ينبغي ألَّا يكون يمينًا، لجواز أن يكون حالفًا بغير الله تعالى الحلف بالله هو المعهود المشروع؛ أي: المعهود من الناس والمنصوص عليه في الشريعة، لقوله عليه السلام "من كان منكم حالفًا فليحلف بالله أو ليذر". م: (وبغيره محظور). ش: أي: حلف بغير الله حرام ممنوع".
مذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة"، للقرافي (4/ 6)؛ حيث قال:"هو مباح في الحلف بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ومحرم وهو الحلف باللات والعزى وما يعبد من دون الله تعالى؛ لأن الحلف تعظيم وتعظيم هذه الأشياء كفر ومكروه وهو الحلف بما عدا ذلك".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 488)؛ حيث قال:"ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى، وصفاته، نحو أن يحلف بأبيه، أو الكعبة، أو صحابي، أو إمام قال الشافعي: أخشى أن يكون معصية. قال ابن عبد البر: وهذا أصل مجمع عليه".
الحَلِفُ بِكُلِّ مُعَظَّم بِالشَّرْعِ
(1)
، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الأَيْمَانَ المُبَاحَةَ هِيَ الأَيْمَانُ باللَّهِ، اتَّفَقوا عَلَى إِبَاحَةِ الأَيْمَانِ الَّتِي بِأَسْمَائِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الأَيْمَانِ الَّتِي بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ).
والخلاف الذي أورَدَه المؤلِّفُ في الأيمان بصفات الله وأفعاله إنما هو خلافٌ ضعيفٌ.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الأَشْيَاءِ المُعَظَّمَةِ بِالشَّرْعِ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الكِتَابِ فِي ذَلِكَ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَقْسَمَ فِي الكِتَابِ بِأَشْيَاءَ كثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} [الطارق: 1]، وَقَوْلِهِ:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْسَامِ الوَارِدَةِ فِي القُرْآنِ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"
(2)
).
وبالفِعل: قد يُشكِل على بعض الناس أن الله سبحانه وتعالى قد أَقْسَمَ بأشياءَ من
(1)
وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 242)؛ حيث قال:"الحلف بالمخلوق لا بسبق لسان مكروه كالنبي والكعبة"، وجبريل والصحابة لخبر "الصحيحين":"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"، ولخبر:"لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله". رواه النسائي وابن حبان وصححه. قال الإمام: وقول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية محمول على المبالغة في التنفير من ذلك؛ فلو حلف به لم ينعقد يمينه كما صرح به الأصل (فإن اعتقد تعظيمه بما يعظم الله) بأن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى (كفر) وعليه يحمل خبر الحاكم: "من حلف بغير الله فقد كفر"، أما إذا سبق لسانه إليه بلا قصد فلا كراهة، بل هو لغو يمين وعليه يحمل خبر "الصحيحين" في قصة الأعرابي الذي قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص: "أفلح وأبيه إن صدق"".
(2)
تقدَّم تخريجه.
مخلوقاته في مَوَاطِنَ كثيرةٍ من كتابه العزيز، كما هو الحال في قوله تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} [الصافات: 1]، وقوله:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} [الذاريات: 1]، وقوله:{وَالطُّورِ (1)} [الطور: 1]، وقوله:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، وقوله:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} [البروج: 1]، وقوله:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)} [النازعات: 1]، وقوله:{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} [المرسلات: 1]، وقوله:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 1، 2].
والجواب: أنَّ لله سبحانه وتعالى أنْ يُقسِمَ بما شاء مِن خَلقِه؛ لأنه هو المُتَصَرِّف في ذلك الكون والمهيمن عليه، وهو الذي خَلقَهُ ودَبَّرَه، فله سبحانه وتعالى أن يَفعَل ما يشاء؛ حيث لا رادَّ لِحُكمِهِ ولا دَافِعَ لقضائه، وإنما أَمْرُهُ إذا أراد شيئًا أن يقول له:(كن) فيكون، فالله سبحانه وتعالى أقْسَمَ بهذه الأشياء؛ لأن قَسَمَهُ بها يَدُلُّ على عَظَمَتِهِ لأنها من جملة مخلوقاته، فلا يجوز لأحدٍ أن يَضَعَ نفسه في مصاف رَبِّهِ، وإنما جِماع الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلفوا بآبائكم، مَن حَلَفَ بغير الله فقد كَفَرَ" أو: "أَشْرَكَ"
(1)
.
قوله: (فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الأَثَرِ وَالكِتَابِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الأَشْيَاءَ الوَارِدَةَ فِي الكِتَابِ المَقْسُومَ بِهَا فِيهَا مَحْذُوفٌ - وَهُوَ اللَّهُ تبارك وتعالى وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَرَبِّ النَّجْمِ، وَرَبِّ السَّمَاءِ، قَالَ: الأَيْمَانُ المُبَاحَةُ هِيَ الحَلِفُ بِاللَّهِ فَقَطْ).
الجواب الصحيح الحاسم في ذلك: هو أن لله سبحانه وتعالى أن يُقسِمَ بما شاء مِن خَلقِهِ؛ لأن هذه الأشياء التي يُقسِمُ الله سبحانه وتعالى بها إنما هي دليلٌ على عَظَمَتِهِ؛ لأنه إذا أَقْسَمَ بالملائكة أو بوَقْتٍ من الأوقات أو بغير ذلك من الأُمور فذلك دليلٌ على تعظيم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي خَلَقَ تلك
(1)
أخرجه الترمذي (1535) عن سعد بن عبيدة: أن ابن عمر سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -:"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2561).
الأمورَ العظيمةَ، وإذا كان خالق هذه الأُمور العظيمة هو الله سبحانه وتعالى فهو المُستَحِقُّ أن يُقسَمَ به دون غيره.
قوله: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ المَقْصُودَ بِالحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ: ألَّا يُعَظَّمَ مَنْ لَمْ يُعَظِّمِ الشَّرْعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"
(1)
).
هذه التأويلات والتعليلات لا يُعْتَدُّ بها مع وجود نصوصٍ صحيحةٍ صريحةٍ تَمْنَعُ القَسَمَ بغير الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، أَجَازَ الحَلِفَ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِذَنْ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بِنَاءِ الآيِ وَالحَدِيثِ).
وسبب الخلاف ليس كما ذكر المؤلف: ولكن الذين يجيزون الحلف بغير الله مما يعظمه الإنسان مما لم يَرِدِ الشَّرع بإجازة القسم به، إنما يستدلون بقصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، فقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ فقَالَ: "لا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، فقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرهُ؟ فقَالَ: "لا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُل، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"
(2)
.
وقد جاء في روايةٍ ليست مشهورةً: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"
(3)
؛
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11/ 8).
(3)
أخرجه مسلم (9/ 11).
فاستدلوا من قسم الرسول هاهنا بأبي الرجل على جواز الحلف بالمخلوقين.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأن الروايات الأصح والمشهورة ليس فيها لفظ: "وأبيه"
(1)
.
واستدلوا كذلك بدليل آخر، وهو حديث أبي العُشَرَاءِ، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخْذِهَا لأَجْزَأَتْكَ"
(2)
أو: "لأَجْزَأَ عَنْكَ"
(3)
، وأن في هذا دليلًا على جواز الحلف بغير الله تعالى.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأن الإمام أحمد قد تَكَلَّمَ عن جهالة أبي العُشَرَاءِ
(4)
، وبأن العلماء لم يأخذوا بهذا الحكم في الذبح بالفخذ،
(1)
يُنظر؛ "طرح التثريب"، للعراقي (7/ 144)؛ حيث قال:"إن قلت: كيف الجمع بين هذا الندي وبين قوله عليه الصلاة والسلام في قصة الأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق"؟
(قلت): أجيب عن ذلك الحديث بأجوبة:
(أحدها): تضعيف ذلك الحديث، وإن كان في الصحيح قال ابن عبد البر: هذا لفظ غير محفوظ في هذا الحديث من حديث مَن يحتج به، وقد روى هذا الحديث مالك وغيره لم يقولوا ذلك، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث، وفيه:"أفلح والله إن صدق"، و"دخل الجنة والله إن صدق"، وهذا أولى من رواية من روى (وأبيه)؛ لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح. وانظر:"كشف المشكل من حديث الصحيحين"، لابن الجوزي (1/ 52).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(18948) ولفظه: "وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزأك". وضعفه إسناده الأرناؤوط.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 413).
(4)
يُنظر: "البدر المنير"، لابن الملقن (9/ 245 - 246)؛ حيث قال:"فإن أبا العشراء الدارمي - بضم العين وبالمد على الهمز - فيه جهالة، وقد تكلَّم البخاري وغيره في حديثه. قال الميموني: سألت الإمام أحمد عن حديثه هذا فقال: هو عندي غلط، ولا يعجبني، ولا أذهب إليه إلا في موضع ضرورة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد. وقال البخاري في "تاريخه": في حديث أبي العشراء واسمه وسماعه من أبيه نظر".
فإنما الذبح المعروف يكون باللَّبَّةِ
(1)
أو الحَلْقِ، وقَطْع العروق والأوراد وسَيَلَانِ الدَّمِ.
وعلى فرض صحة هاتين الروايتين؛ فإن الجواب عنهما بأن هذا إنما كان في أول الأمر، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ عُمَرَ بن الخَطَّاب رضي الله عنه وهو يحلف بأبيه، فقال له صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(2)
، وهذا أمرٌ لاتصال لام الأمر بالفعل المضارع، والأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب؛ إذ لا صارفَ له، ولذلك عندما روى عُمَرُ رضي الله عنه هذا الحديث قال:"فَمَا حَلَفْتُ به بعد ذلك ذاكرًا ولا آثرًا"
(3)
، فهذه أدلة صحيحة وصريحةٌ تغنينا عن تتبع التأويلات والتعليلات والاختلاف في أُمورٍ قد حُسِمَ الخلافُ فيها.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَبِأَفْعَالِهِ فَضَعِيفٌ).
ولِشِدَّةِ ضَعْفِ هذا القول نجد بعض العلماء لا يَعْتَدُّ به، لورود خلافه في أحاديث صحيحة صريحة، كقصة النار لَمَّا قال الله تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]، فيضع الله فيها قَدَمَهُ حتى تقول:"قَطٍ قَطٍ، وَعِزَّتِكَ"
(4)
، وإذا كانت النار تُقسِمُ بعزة الله فكيف بالناس الذين خَلَقَهُم الله سبحانه وتعالى ورَتَّبَ لهم عمارةَ الكون وَفَرَضَ عليهم طَاعَتَه، وأَعَدَّ للصادقين المخلصين منهم جنات عدن عرضها السموات والأرض؟!
(1)
اللّبة من الصدر: موضع القلادة، وهي واسطة حواليها اللؤلؤ وخرز قليل وسائرها خيط. انظر:"العين"، للخليل (8/ 318).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد في "المسند"(112) عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولا تكلمت بها ذاكرًا ولا آثرًا. وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط البخاري".
(4)
أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848) عن أنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط وعزتك! ويزوى بعضها إلى بعض".
فينبغي للمسلم ألَّا يُقسِمَ إلَّا بالله سبحانه وتعالى، ولْيَدَعْ عنه اتباع الهَدْي غَيْرِ الربانيِّ، ولا يكون كمن قال الله تعالى فيهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]؛ فليس كُلُّ مَن ضَلَّ الطريقَ يُتَّبَع، حتى وإن كانت له مكانةٌ، أو كان شيخًا عالمًا أو غير ذلك؛ لأنَّه لا أحد معصومٌ من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو المعصوم الذي لا يَنطِق عن الهوى.
أمَّا أن تَجِدَ إنسانًا من العلماء يطوف - مثلًا - حول القبور ويتقرب إلى أصحابها ويدعوهم أو يسجد عند القبور، فلا يجب أن نتبعه ولو كان ينتسب إلى العلم؛ فالله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، والحق دائمًا فيما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ يُقْتَصَرُ بِالحَدِيثِ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الحُكْمِ فِيهِ بِالاسْمِ فَقَطْ؛ أَوْ يُعَدَّى إِلَى الصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ، لَكِنَّ تَعْلِيقَ الحُكْمِ فِي الحَدِيثِ بِالاسْمِ فَقَطْ جُمُودٌ كَثِيرٌ).
الذي جعل المؤلف يُورِدُ عَدَمَ وقوع اليمين بالصفات والأفعال في علم الحديث هو أنه يُعَوِّلُ في ذلك على كتاب الاستذكار، والصواب أن اليمين بالاسم أو بالصفة والفعل كلاهما قد وَرَدَ، ومثال ذلك ما ذَكَرْنَاهُ آنفًا من قصة النار وقولها:"وَعِزَّتِكَ".
قوله: (وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(1)
وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا فِي المَذْهَبِ، حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المَوَّازِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (6/ 283)؛ حيث قال:"وأما اليمين بعظمة الله، وإرادته، وكرمه، وحلمه، وحكمته، وسائر ما لم يأتِ به نص، فليس شيء من ذلك يمينًا؛ لأنه لم يأت بها نص، فلا يجوز القول بها".
(2)
يُنظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (3/ 138)؛ حيث قال: "وأما صفات الله =
والمؤلف هاهنا يريد أن يقول: إن هذا القول إنما هو مذهبٌ لأهل الظاهر، وبالرغم من نقله في مذهب مالكٍ الذي ينتسب إليه المؤلف؛ فهذا لا يمنع من أن يُضَعِّفَهُ؛ اتباعًا للحق، وهذا هو ما ينبغي لطالب العلم أن ينتهجه دائمًا، من السَّير خَلْفَ الدليل وتعظيمه والانتماء إليه أكثر مما عداه، حيث لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريقٍ صريحٍ أنه أَقْسَمَ بغير الله، وإنما حَلِفُهُ صلى الله عليه وسلم بالله تعالى ما أَكْثَرَ وُرُودَه، كما جاءَ في البخاري وغيره من قوله للمرأة الأنصارية وأولادها:"والذي نفسي بيده، إنكم لأحَبُّ الناس إِلَيَّ"
(1)
، وقوله:"والله لأغزون قريشًا"
(2)
قالها ثلاثًا، وكذلك قوله في خطبة الكسوف:"والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا"
(3)
.
قوله: (وَشَذَّتْ فِرْقَةٌ، فَمَنَعَتِ اليَمِينَ بِاللَّهِ عز وجل، وَالحَدِيثُ نَصٌّ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا المَذْهَبِ
(4)
.
ولا شك أن هذا من الجهل والضلال، وأنه قولٌ باطلٌ مردودٌ على صاحبه، فالأيمان بالله يكفي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ منها، والناظر في كتب الحديث يجدها مليئةً بهذا، بل يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
= تعالى، "كقدرته" و"عزته" و"إرادته" و"عظمته" وغيرها من الصفات؛ فقد اختلف المذهب في جواز اليمين بها على قولين: والثاني: أنه لا يجوز اليمين بها جملة، ولا تجب الكفارة على من حلف بها، وهو ظاهر قوله في كتاب "ابن المواز" فيمن حلف وقال:"لعمر الله"، قال: لا يعجبني أن يحلف بها أحد، وقال فيمن قال:"وأمانة الله": نحن نكره اليمين بها".
(1)
أخرجه البخاري (6645) واللفظ له، ومسلم (2509) عن أنس بن مالك: أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم معها أولاد لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إليَّ" قالها ثلاث مرار.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
لم أقف عليهم.
يكرر الأيمان بالله في مواعظه وخطبه، وقد ذَكَرْنَا حديثه للمرأة الأنصارية وأبنائها حين قال:"والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إليَّ" كررها ثلاثًا
(1)
، وما أَكْثَرَ ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده"
(2)
و: "والذي نفس محمد بيده"
(3)
و: "والله"، فقد تواتَرَت الأدلة بنقل القَسَم بالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن يدَّعي غير ذلك فقوله باطل مردودٌ عليه.
بل إن هناك جُملةً من الأحكام الفقهية يكون الحكم فيها مترتبًا على اليمين، كما أن هناك في اللغة العربية ما يحتاج لاستخدام أدوات القَسَم؛ لأن القَسَمَ من المؤكِّدات في الجملة الاسمية، فالأيمان مطلوبةٌ، وعندما يُقسِمُ المسلمُ بالله فإنَّ في ذلك تعظيمًا لله، بحيث يكون كأنه يُعطِي الطرفَ المقابلَ توثيقًا واطمئنانًا إلى ما يقول.
لكن يجب على مَن يُقسِم بالله - كما ذَكَرْنَا - أن يكون صادقًا في يمينه بارًّا بها، لقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224].
وقد أُثِرَ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لأَنْ أَحْلِفَ بالله كاذبًا خيرٌ مِن أنْ أَحْلِفَ بغير الله صادقًا"
(4)
، يعني: أن يَحلِفَ بالله وهو كاذبٌ - وحاشاه أن يَكذِبَ - خيرٌ مِن أن يَحلِفَ بغير الله صادقًا؛ فكيف يقالُ بأنه لا يُقسَمُ ولا يُحلَفُ بالله؟!
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 468).
(الفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ اللَّغْوِيَّةِ
(1)
وَالمُنْعَقِدَةِ
(2)
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الأَيْمَانَ مِنْهَا لَغْوٌ، وَمِنْهَا مُنْعَقِدَةٌ؛ لِقَوْلِهِ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 3)؛ حيث قال:"يمين اللغو فقد اختلف في تفسيرها، قال أصحابنا: هي اليمين الكاذبة خطأ أو غلطًا في الماضي أو في الحال وهي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر وهو بخلافه في النفي أو في الإثبات، نحو قوله: والله ما كلمت زيدًا وفي ظنه أنه لم يكلمه. وروى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو: ما يجري بين الناس من قولهم: لا والله وبلى والله؛ أي: من غير قصد اليمين". وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 706 - 708).
مذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 411)؛ حيث قال:" (لغو اليمين)؛ أي: اليمين اللغو (وهو أن يحلف) المكلف بالله أو صفة من صفاته أو بنذر مبهم (على شيء يظنه)، أي: يتيقنه (كذا) معتمدًا على ما (في يقينه ثم) بعد الحلف (يتبين له خلافه)؛ أي: خلاف ما كان يعتقده". وانظر: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 205).
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 241)، حيث قال:"ومن حلف بلا قصد" بأن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد كقوله في حالة غضب أو لجاج أو صلة كلام: لا والله تارةً بلى والله أُخرى، (أو سبق لسانه) بأن حلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره (فلغو)؛ أي: فهو لغو يمين إذ لا يقصد بذلك تحقيق اليمين". وانظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 179).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (6/ 367 وما بعدها)؛ حيث قال:"اليمين لغوًا (بأن سبقت اليمين على لسانه)؛ أي: الحالف (بلا قصد، كقوله: لا والله، بلى والله في عرض حديثه) ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 5)؛ حيث قال:"وأما اليمين المعقودة فهي اليمين على أمر في المستقبل نفيًا أو إثباتًا نحو قوله: والله لا أفعل كذا وكذا وقوله والله لأفعلن كذا". وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 708).
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 199)؛ حيث قال:"اليمين المنعقدة هي لم تكن غموسًا ولا لغوًا". =
تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]).
فالأيمان - كما ذَكَرْنَا - إما أيمانٌ لغويَّةٌ وهي التي لا يعقد الحالف قلبه عليها، وإنما تَرِدُ دارجةً على لسانه أثناء حديثه؛ فهذه تأخذ مسمى الأيمان لكن لا ينبني عليها حُكْمٌ، وهي التي أشار الله إليها بقوله:{لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
وإما أيمانٌ غير لغوية، وهي المقصودة بقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]؛ فهي منعقدةٌ بمعنى أن القلب قد انعقد عليها، وحَدَثَ عزمٌ إما على فعلٍ أو على تركٍ، كأن يقول الحالف:(والله لأفعلن كذا، أو لأصومن شهرًا، أو لأجتنبن كذا) بصيغة تدل على المستقبَل، فهذه يمينٌ مشروعةٌ، إن بَرَّ بها ينتهي الأمر عند ذلك، وإن حَنَثَ فيها لَزِمَتْهُ كفارةُ الحنث بيمينه.
أما النوع الخطير من الأيمان فهي أن يَحلِف كاذبًا على شيءٍ قد مَضَى وهو عالمٌ؛ لِيَخدَع الناس أو لِيُقِيمَ شهادةَ زُورٍ أو لِيَستَوْلِيَ على حقِّ أخيه المُسلِمِ من غير حقٍّ، فقد جاء في الحديث:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
(1)
، وما أَشَدَّهَا مِن عقوبةٍ، فكل المؤمنين في هذه الحياة الدنيا إنما يَسعَون لِيَلقَوا ربَّهم وهو راضٍ عنهم، كما قال سبحانه:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، هذه هي السعادة، وهذا هو الكسب الذي يسعى الإنسان إلى الوصول إليه.
= مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 241)؛ حيث أفاد أن: كل يمين لا تعد لغوًا عندهم فهي منعقدة، فيدخل فيها الغموس، كما يدخل فيها الحلف على المستقبل الممكن.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (6/ 367 - 369)؛ حيث قال:"اليمين على المستقبل إذا كان التلفظ بها مقصودًا، وكان الحالف مختارًا، وكانت على ممكن أو على إثبات مستحيل أو نفي واجب".
(1)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هِيَ اللَّغْوُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
إِلَى أَنَّهَا اليَمِينُ عَلَى الشَّيْءِ؛ يَظُنُّ الرَّجُلُ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْه، فَيَخْرُجُ الشَّيْءُ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ).
اللغو له صورتان:
إحداهما: أن يقول الإنسان أثناء حديثه عرضًا دون أن يعقد القلب على ذلك: (والله لأفعلن كذا، أو لأفعلن كذا).
والثانية: أن يحلف على شيءٍ يظن أنه واقعٌ ثم يتبين أنه غير موجودٍ؛ فهذا يُلحِقُه العلماءُ بلفظ اليمين؛ لعدم حصول المحلوف عليه؛ فهذا كله لا كفارة فيه، مع أن القسم الآخر فيه خلافٌ عند العلماء، فبعضهم يرى فيه كفارةً كما هو الحال في روايةٍ عند الشافعية والحنابلة.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَغْوُ اليَمِينِ مَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ النِّيَّة، مِثْلَ مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ فِي أَثْنَاءِ المُخَاطَبَةِ: لَا وَاللَّهِ، لَا بِاللَّهِ، مِمَّا يَجْرِي عَلَى الأَلْسِنَةِ بِالعَادَةِ).
وهذه هي الصورة الأُولى التي ذكرناها، والحنابلة
(4)
يقولون بالصورة السابقة، وكلها داخلةٌ ضمن لغو اليمين.
قوله: (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ لُزُومَه، وَهَذَا القَوْلُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّأِ" عَنْ عَائِشَةَ)
(5)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 477) عن عائشة أم المؤمنين، أنها كانت تقول:"لغو اليمين قول الإنسان: لا والله، وبلى والله". قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا: أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد على غير ذلك؛ فهو اللغو".
فهناك ألفاظٌ تجري على لسان الإنسان من باب العادة ليس إلا، كقول الرسول:"تربت يداك"
(1)
، "ثكلتك أمك"
(2)
، فالرسول لا يريد أن تَثكَلَهُ أُمُّهُ حقيقةً، وإنما هذا شيءٌ دَرَجَ على ألسنة العرب
(3)
.
وبهذا نتبين الفرق في القول بين أن يكون مقصودًا أو غير مقصودٍ، ولذلك فإن الإنسان إذا نَطَقَ بكلمة الكُفر مُجبَرًا وكان قلبه مستقرًّا بالإيمان؛ فلا يؤثر قوله هذا على إيمانه لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]
(4)
، لكنه يخرج من الإسلام لا شك إذا كان قلبه منعقدًا على ما تَلَفَّظَ به من الكفر.
قوله: (وَالقَوْلُ الأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ).
هو الحسنُ البصريُّ الإمامُ التابعيُّ المعروفُ.
قوله: (وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ)
(5)
.
وهؤلاء جميعًا من التابعين.
(1)
أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك".
(2)
أخرجه الترمذي (2616) عن معاذ بن جبل وفيه:
…
فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال:"ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
(3)
ثكلتك: كلمة استعملتها العرب كثيرًا ومعناه: فقدتك، والثكل الفقد، يقال:"ثكلت وأثكلت ثكلًا بالضم". انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 129). وانظر:"النهاية"، لابن الأثير (1/ 217).
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 272)؛ حيث قال:"اتفقوا على أن المكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يلزمه شيء من الكفر عند الله تعالى".
(5)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 651)؛ حيث قال: "اليمين الجارية على اللِّسان لفظًا من غير قصد
…
وهو آخر قول عائشة وهو المشهور وبه قال الحسن، وقتادة، ومجاهد". وانظر:"الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (7/ 126).
قوله: (وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَهُوَ غَضْبَان، وَبِهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ القَاضِي مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(1)
.
وحكم الغضبان: محل خلافٍ بين أهل العلم من حيث إنه مكلَّفٌ أثناء غَضَبِهِ أو غيرُ مكلَّفٍ.
فبعض العلماء: يراه مُكلَّفًا يَقَعُ طلاقُه حين غضبه، ويترتب على قَسَمِهِ من الحقوق ما يترتب على قسمه في غير وقت الغضب.
وبعضهم: يُلحِقُهُ بغير المُكلَّفِ فلا يُوقِعُ طلاقه ولا يُرتِّبُ عليه من الأحكام في القَسَمِ ما يترتب في غير وقت غضبه
(2)
.
قوله: (وَفِيهِ قَوْلٌ رَابعٌ: وَهُوَ الحَلِفُ عَلَى المَعْصِيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(3)
، وَفِيهِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى ألَّا يَأْكُلَ شَيْئًا مُبَاحًا لَهُ بِالشَّرْعِ)
(4)
.
كَأَنْ يُقسِم على ألَّا يَأكُلَ اللَّحمَ أو الفاكهةَ ونحو ذلك، وهذا من الأُمور التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها؛ لأن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
(1)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 651)؛ حيث قال: "وقد اختلف العلماء في يمين اللغو ما هو؟ على خمسة أقوال:
…
الثاني: أنها يمين الغضبان، وبه قال القاضي إسماعيل من أصحابنا".
(2)
قال البهوتي في "كشاف القناع"(5/ 235): " (والغضبان مكلف في حال غضبه بما يصدر منه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق وطلاق وغير ذلك قال ابن رجب في، "شرح الأربعين) النووية": ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق أو يمين فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف".
(3)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 652)؛ حيث قال: "وقال ابن عباس: لغو اليمين الحالف على معصية.
(4)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 652)؛ حيث قال:"وقال بعض السلف: لغو اليمين أن يحلف الرجل على ألَّا يأكل شيئًا مباحًا شرعًا". وانظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (15/ 288).
آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]، ومَن فَعَلَ ذلك فعليه أن يُكَفِّرَ عن يمينه.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أَنكَرَ على أولئك الذين قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا أَتَزَوَّج، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُصَلِّي وَلَا أَنَام، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ وَلَا أُفْطِر، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِر، وَأُصَلِّي وَأَنَام، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"
(1)
؛ لأن هذا الدِّين ما جاء بالتشديد على الناس، وإنما هو دين اليُسرِ.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: هُوَ الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي اسْمِ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّغْوَ قَدْ يَكُونُ الكَلَامَ البَاطِلَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]).
والآية التي ذكرها المؤلف تتحدث عن موقف أهل الكفر من القرآن، قال تعالى حكايةً عنهم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]؛ فإنهم كانوا يريدون ألا يستمعوا إليه، بل إنهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يؤثر في قلوبهم أو يَنفُذ إليها فيتسبب في إيمانهم، إلى جانب ما كانوا يرجونه من الغلبة في نهاية الأمر، وحاشاهم أن يغلبوا الحق، فقد قال سبحانه:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]، ومعلومٌ أن الكفار إنما
(1)
أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
بَهَرَتْهُمْ
(1)
بلاغةُ القرآن وفصاحتُه وما فيه من المعاني، وعَلِمُوا في قرارة أنفسهم أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام البشر، حتى قال عنه المغيرة:"والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّ أعلاه لَمُثمِرٌ، وإنَّ أسفله لَمُغدِقٌ، وإنه يَعلُو ولا يُعلَى عليه"
(2)
، وهذا حق؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم بعشر سُوَرٍ، ثم بسورة، ثم بآية من مثله، فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيءٍ من هذا، وعلموا علم اليقين أن هذا كلام الله تعالى وأن هذا الدِّين حقٌّ، لكن كِبرهم وغرورهم قد مَنَعَهُمْ أن يؤمنوا به.
قوله: (وَقَدْ يَكُونُ الكَلَامَ الَّذِي لَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ نِيَّةُ المُتَكَلِّمِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ فِي الآيَةِ هُوَ هَذَا، أَنَّ هَذِهِ اليَمِينَ هِيَ ضِدُّ اليَمِينِ المُنْعَقِدَةِ وَهِيَ المُؤَكَّدَة، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ المُضَادُّ لِلشَّيْءِ المُضَادِّ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الحَلِفُ فِي إِغْلَاقٍ، أَوِ الحَلِفُ عَلَى مَا لَا يُوجِبُ الشَّرْعُ فِيهِ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَعْتَقِدُ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ؛ فَإِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اللَّغْوَ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى عُرْفِيٍّ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ الأَيْمَانُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سُقُوطَ حُكْمِهَا مِثْلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ:"لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ"
(3)
، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
والصحيح في ذلك - كما قلنا - أن لغو اليمين على صورتين:
- الأولى: أن يقول الإنسان في أثناء كلامه: (لا والله)، أو:(بلى والله)، ونحو ذلك مما يَدرُج على لسانه دون عَقْدِ القلب عليه.
(1)
البهر: "العجب، وبهرًا له؛ أي: عجبًا". انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (10/ 262).
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 550) وقال: "صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه".
(3)
أخرجه ابن ماجه (2046) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". وحسنه الألباني في "إراواء الغليل"(2047).
- الثانية: أن يَحلِفَ على شيءٍ يَظُنُّ أنه قد وقع، ثم يتبين عدم وقوعه حقيقةً.
قوله: (لَكِنَّ الأَظْهَرَ هُمَا القَوْلَانِ الأَوَّلَانِ: أَعْنِي قَوْلَ مَالِكٍ
(1)
وَالشَّافِعِيِّ
(2)
).
وجمهور العلماء: أن لغو اليمين لا كفارة فيه
(3)
- ولا حتى في صورته الثانية، التي يحلف الإنسان فيها على شيءٍ يَظُنُّ وُقوعَهُ - لكن نُقِلَ عن إبراهيمَ النخعيِّ أنَّ فيه كفارةً،
(4)
وهي كذلك روايةٌ عند الشافعي
(5)
، وأحمد
(6)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 209)؛ حيث قال: "واليمين اللَّغو: أن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كمال، قال: والأمر بخلافه؛ فهذه نرجو ألَّا يؤاخذ الله بها صاحبها". وانظرت "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 706 - 707).
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"، للدردير (2/ 205)؛ حيث قال:" (اللغو) وفسره بقوله: (بأن حلف على ما)؛ أي: على شيء (يعتقده)؛ أي: يعتقد حصوله أو عدم حصوله (فظهر خلافه) فلا كفارة فيها لعذره، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89] ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم"، للشافعي (7/ 66)؛ حيث قال:"إنا نقول: إن اليمين التي لا كفارة فيها وإن حنث فيها صاحبها: إنها يمين واحدة إلا أن لها وجهين: وجه يعذر فيه صاحبه ويرجى له ألَّا يكون عليه فيها إثم؛ لأنه لم يعقد فيها على إثم ولا كذب؛ وهو أن يحلف بالله على الأمر لقد كان ولم يكن؛ فإذا كان ذلك جهده ومبلغ علمه فذلك اللغو الذي وضع الله تعالى فيه المؤنة عن العباد وقال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"، للحجاوي (4/ 334)، حيث قال:"لغو اليمين: وهو سبقها على لسانه من غير قصد، كقوله: لا والله وبلى والله في عرض حديثه، وظاهره ولو في المستقبل ولا كفارة فيها".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (7/ 127)؛ حيث قال:"وروينا عن إبراهيم النخعي أنه قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنه حق فلا يجده كذلك، يكفر عن يمينه".
(5)
لم أقف عليها.
(6)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 497)؛ حيث قال: " (ومن حلف على شيء يظنه =
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(والفَصْلُ والثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ الأَيْمَانِ الَّتِي تَرْفَعُهَا الكَفَّارَةُ وَالَّتِي لا تَرْفَعُهَا
وَهَذَا الفَصْلُ أَرْبَعُ مَسَائِلَ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الأَيْمَانِ بِاللَّهِ المُنْعَقِدَةِ، هَلْ يَرْفَعُ جَمِيعَهَا الكَفَّارَة، سَوَاءٌ أَكَانَ حَلِفًا عَلَى شَيْءٍ مَاضٍ أَنَّهُ كَانَ فَلَمْ يَكُنْ، وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ بِاليَمِينِ الغَمُوسِ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَمَّدَ الكَذِبَ؛ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مُسْتَقْبَلٍ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الحَالِفِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ مَنْ هُوَ بِسَبَبِهِ فَلَمْ يَكُنْ).
ويأتي الحديث هنا عن الأيمان المنعقدة، بعد أن انتهينا من الكلام عن لغو اليمين.
ويبيِّن المؤلف هاهنا اختلاف العلماء في اليمين المنعقدة بحالتيها - سواء الحلف على الماضي (وهي اليمين الغموس) أو المستقبل -، واختلاف العلماء فيما إذا كانت الكفارة ترفع هذه الأيمان جميعًا أم لا.
قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ: لَيْسَ فِي اليَمِينِ الغَمُوسِ كفَّارَةٌ، وَإِنَّمَا
= كما حلف، فلم يكن، فلا كفارة عليه؛ لأنه من لغو اليمين)، أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها
…
وقد حكي عن النخعي في اليمين على شيء يظنه حقًّا، فيتبيَّن بخلافه، أنه من لغو اليمين، وفيه الكفارة. وهو أحد قولي الشافعي. وروي عن أحمد أن فيه الكفارة، وليس من لغو اليمين". وانظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 237).
الكَفَّارَةُ فِي الأَيْمَانِ الَّتِي تَكُونُ فِي المُسْتَقْبَلِ إِذَا خَالَفَ اليَمِينَ الحَالِف، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
(3)
).
فهذه اليمين الغموس، التي يحلف فيها الإنسان على أمر قد مضى، وهو يعلم أنه كاذب فيما حلف عليه.
فجمهور العلماء على أن الكفارة لا ترفع هذه اليمين، وهذا قد نُقِلَ عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة، وأثر عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"كنا لا نرى في اليمين الغموس كفارة"
(4)
؛ وذلك لأن الكفارةَ لا تَرفَعُ الإثمَ الموجودَ فيها، ولأنها كذلك قد يَذهَبُ بها حقُّ مُسلِمٍ.
(1)
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(3/ 93)، حيث قال: " (و)، لا كفارة في يمين (غموس) سُمِّيت به لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل: في الإثم، قال المصنف: وهو أظهر؛ لأنه سبب حاصل. قاله تت؛ أي: موجود بخلاف الغمس في النار؛ فإنه ليس محققًا إذ فاعل الزنا تحت المشيئة عند أهل السُّنة، ولا تتحتم عليه النار خلافًا للمعتزلة، ويجاب عن الأول: بأن معنى قوله: تغمسه في النار: يستحقها بسببه، ولا يلزم من استحقاقها دخولها
…
لا يقال: الغموس لا كفارة فيها، فلا فائدة لقوله بلا تبين صدق وإنما عليه إثم الجراءة مع تبين صدقه".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 15)؛ حيث قال:"أما يمين الغموس فحكمها وجوب الكفارة لكن بالتوبة والاستغفار لأنها جُرأة عظيمة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 235)؛ حيث قال:" (فأما اليمين على الماضي فليست منعقدة)؛ لأن شرط الانعقاد إمكان البر والحنث وذلك متعذر في الماضي (وهي)؛ أي: اليمين على الماضي (نوعان غموس وهي التي يحلف بها) على الماضي (كاذبًا عالمًا) سُمِّيت غموسًا لأنها (تغمسه)؛ أي: الحالف بها (في الإثم ثم في النار ولا كفارة فيها)، لقول ابن مسعود: "كنا نعد من اليمين التي لا كفارة فيها الممين الغموس "
…
وهي من الكبائر للخبر الصحيح، (ويكفر كاذب في لعانه ذكره في "الانتصار") هذا مبني على وجوب الكفارة في اليمين الغموس كما في "المبدع"".
(4)
أخرجه علي بن الجعد في "مسنده"(ص 213)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 67) عن أبي العالية قال: قال أبو عبد الرحمن يعني ابن مسعود: "كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس. قيل: وما اليمين الغموس؟ قال: اقتطاع الرجل مال أخيه باليمين الكاذبة".
وإنما كَفَّارَتُهَا تكون بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وبإرجاع الحق المغصوب بهذه اليمين إلى أصحابه، والعدول عن هذا الأمر.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ
(1)
: يَجِبُ فِيهَا الكَفَّارَةُ؛ أَيْ: تُسْقِطُ الكَفَّارَةُ الإِثْمَ فِيهَا كَمَا تُسْقِطُهُ فِي غَيْرِ الغَمُوسِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ عُمُومِ الكِتَابِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآيَةَ [المائدة: 89]، تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اليَمِينِ الغَمُوسِ كفَارَّةٌ؛ لكَوْنِهَا مِنَ الأَيْمَانِ المُنْعَقِدَةِ. وَقَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:"مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ"
(2)
، يُوجِبُ أَنَّ اليَمِينَ الغَمُوسَ لَيْسَ فِيهَا كَفَارَةٌ).
والتعارض الذي أَوْرَدَهُ المؤلف هاهنا تعارضٌ مُتوَهَّمٌ ليس بحقيقيٍّ؛ فالجمهور لا يُسَلِّمُ بأن اليمين الغموس يمينٌ منعقدةٌ، وإنما يَرَوْنَهَا يمينًا باطلةً كاذبةً مفتراةً، لا يُعتَدُّ بها، وإنما يعود وِزرُها وإثمها على صاحبها.
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 240 - 241)؛ حيث قال:"فإن حلف كاذبًا عالمًا) بالحال (على ماض فهي) اليمين (الغموس) سُمِّيت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهي من الكبائر كما ورد في البخاري، (وفيها الكفارة)، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية؛ ولأنه حلف بالله، وهو مختار كاذب فصار كما لو حلف على مستقبل، والإثم لا يمنع وجوبها، كما في الظهار ويجب فيها التعزير أيضًا. قاله ابن عبد السلام وابن الصلاح؛ فإن كان جاهلًا ففي وجوبها القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيًا".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(57) عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق مسلم بيمينه حرَّم الله عليه الجنة وأوجب له النار" قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك" يقولها ثلاثًا. وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
والرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ الكبائرَ ذَكَرَ منها اليمينَ الغموسَ، وأَطْلَقَ ذلك في هذا الدليل وفي أدلة أُخرى أيضًا.
قوله: (وَلَكِنْ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ الأَيْمَانِ الغَمُوسِ مَا لَا يُقْتَطَعُ بِهَا حَقُّ الغَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ).
وهذا التفصيل الذي يَسُوقُه المؤلف لِيُقَوِّيَ به قول الشافعية في المسألة إنما هو تفصيلٌ ضعيفٌ، وقول الجمهور أرسخ في هذا الباب، والأدلة تشهد له وتغنينا عن هذا التفصيل؛ فالنص الذي يُورِدُهُ المؤلف هاهنا لا يتعدى أن يكون مثالًا واحدًا من أمثلة اليمين الغموس، لكنه ليس كل شيء في المسألة، فَعِظَمُ جُرْمِ اليمين الغموس ينبني على ما فيها مِن قَصْدِ الكَذِب؛ فاليمين الغموس تقوم على الكذب والافتراء، بينما الله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم: 10، 11]؛ فالحَلَّافُ هنا صيغةُ مُبالَغةٍ؛ أي: لا تُطِعِ الذي يُفرِّطُ في الأيمان ويَكذِبُ فيها.
قوله: (أَوْ يَقُولَ: إِنَّ الأَيْمَانَ الَّتِي يُقْتَطَعُ بِهَا حَقُّ الغَيْرِ قَدْ جَمَعَتِ الظُّلْمَ وَالحِنْثَ، فَوَجَبَ أَلَّا تَكُونَ الكَفَّارَةُ تَهْدِمُ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ لَيْسَ يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تَهْدِمَ الحِنْثَ دُونَ الظُّلْمِ، لِأَنَّ رَفْعَ الحِنْثِ بِالكَفَّارَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ، وَلَيْسَ تَتَبَعَّضُ التَّوْبَةُ فِي الذَّنْبِ الوَاحِدِ بِعَيْنِهِ؛ فَإِنْ تَابَ وَرَدَّ المَظْلَمَةَ وَكَفَّرَ، سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ الإِثْمِ).
فالذي انتهى إليه المؤلِّف هاهنا أن التوبة النصوح هي التي تَرفَعُ هذا الأمر، مصداقًا لقوله تعالى:{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]؛ لأن هذا العمل إنما هو كبيرة من الكبائر، والله سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ: أَنَا كَافِرٌ بِاللَّهِ، أَوْ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، أَوْ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ؛ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة خطيرة وعظيمة، وإلى جانب ارتباطها بالجانب الفقهى فإن لها ارتباطًا كبيرًا بمسائل العقيدة.
ومع الأسف أن هذا يحصل من كثيرٍ ممن ينتسبون إلى الإسلام نتيجة الجهل والحماقة، وربما يتأثرون فيه بفساد المجتمع، فربما يأتي أحدهم ويقول:(أنا كافر - أنا يهودي، أنا نصراني، أنا مجوسي، أنا على غير ملة الإسلام - إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا)، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك وقال:"من حلف بملة غير ملة الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلا يرجع إلى الإسلام سالمًا"
(1)
.
ومن قال ذلك معتقدًا به فلا شك أنه يَخرُجُ من الإسلام، أما من قاله دون اعتقادٍ فيه فإن عليه أن يستغفر الله. هذا هو الجانب العقائدي المرتبط بالمسألة.
أما الجانب الفقهي: فهو أنه هل عليه كفارة بسبب قوله هذا أم لا، وهذا ما سيأتي معنا.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَا وَلَا هَذِهِ يَمِينٌ).
(1)
أخرجه البخاري (6652) عن ثابت بن الضحاك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال" قال: "ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله".
(2)
يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 582)؛ حيث قال:"قلت: أرأيت إن قال: هو يهودي أو مجوسي أو نصراني أو كافر بالله، أو بريء من الإسلام، إن فعل كذا وكذا. أتكون هذه أيمانًا في قول مالك؟ قال: لا ليست هذه أيمانًا عند مالك، وليستغفر الله مما قال".
وفي "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 128)، قال:" (أو) قال (هو يهودي) أو نصراني أو مرتد أو على غير ملة الإسلام إن فعل كذا ثم فعله فلا شيء، لكن يحرم عليه ذلك؛ فإن كان في غير يمين فردة، ولو هازلًا".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 187)؛ حيث قال: " (ولو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي) أو نصراني أو مستحل الخمر (أو بريء من الإسلام) ونحو ذلك كقوله: =
هذا هو القول الأول في المسألة، أن هذا القول ليس يمينًا، ولا تترتب عليه كفارةٌ.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، هِيَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ فِيهَا الكَفَّارَةُ إِذَا خَالَفَ اليَمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
(2)
أَيْضًا).
وهذا هو القول الثاني: أن هذا يمينٌ يستوجب الكفارة.
وهذا القول مبنيٌّ على أن العلماء يُعطُونَ الشَّرطَ وجزاءَهُ حُكْمَ القَسَمِ، لأن قائل هذا الكلام إنما قَيَّدَهُ بِقَيْدِ الشرط حين قال:(إن فعلت كذا - أو: إن حصل كذا - فأنا كذا)، وإذا تَحَقَّقَ الجزاءُ تَرَتَّبَ عليه الحُكْمُ عند بعض العلماء.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَجُوزُ اليَمِينُ
= بريء من الله أو من رسوله أو من الكعبة (فليس بيمين)، لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولا كفارة عليه في الحنث به، والحلف بذلك معصية، والتلفظ به حرام كما قاله المصنف في "الأذكار". هذا إذا قصد بذلك تبعيد نفسه عن ذلك المحلوف عليه. أما لو قال ذلك على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل كفر في الحال".
(1)
يُنظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 717 - 718)؛ حيث قال: " (و) القسم أيضًا بقوله: (إن فعل كذا فهو) يهودي أو نصراني أو فاشهدوا عليَّ بالنصرانية أو شريك للكفار أو (كافر) فيكفر بحنثه لو في المستقبل، أما الماضي عالمًا بخلافه فغموس. واختلف في كفره (و) الأصح أن الحالف (لم يكفر) سواء (علقه بماض أو آت) إن كان عنده في اعتقاده أنه (يمين وإن كان) جاهلًا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 240 - 241)؛ حيث قال: " (وإن قال: هو يهودي أو نصراني أو كافر أو مجوسي أو يكفر بالله أو يعبد الصليب أو غير الله أو) هو (بريء من الله أو) هو بريء (من الإسلام أو) من (القرآن أو) من (النبي صلى الله عليه وسلم، أو لا يراه الله في موضع كذا إن فعل كذا أو قال: أنا أستحل الزنا أو شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو ترك الصلاة أو) ترك (الزكاة) ونحوه (أو) ترك (الصيام ونحوه) كترك الحج (إن فعلت) كذا (لم يكفر وفعل محرمًا)
…
ولأن قول هذه الأشياء يوجب هتك الحرمة فكان يمينًا كالحلف بالله تعالى بخلاف هو فاسق ونحوه".
بِكُلِّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ أَمْ لَيْسَ يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَطْ؟ ثُمَّ إِنْ وَقَعَتْ فَهَلْ تَنْعَقِدُ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الأَيْمَانَ المُنْعَقِدَةَ؛ أَعْنِي: الَّتِي هِيَ بِصِيَغِ القَسَمِ إِنَّمَا هِيَ الأَيْمَانُ الوَاقِعَةُ بِاللَّهِ عز وجل وَبِأَسْمَائِهِ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِذْ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الأَيْمَانَ تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا عَظَّمَ الشَّرْعُ حُرْمَتَهُ قَالَ: فِيهَا الكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الحَلِفَ بِالتَّعْظِيمِ كَالحَلِفِ بِتَرْكِ التَّعْظِيمِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كمَا يَجِبُ التَّعْظِيمُ يَجِبُ ألَّا يُتْرَكَ التَّعْظِيم، فَكَمَا أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ لَزِمَه، كَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِتَرْكِ وُجُوبِهِ لَزِمَهُ).
وقد ذَكَرْنَا أنه لا يجوز للحالف أن يَحلِفَ إلا بالله، أما غير الله سبحانه وتعالى؛ فلا يجوز لِمُسْلِمٍ أن يَحلِفَ به، حتى وإن كان ذلك مُعظَّمًا كالملائكة أو الكعبة أو الرسل.
والفقهاء يذكرون هذه الأمثلة ويبحثونها لأنها تقع من بعض الناس حقيقةً؛ ولذلك يذكرونها ويبيِّنون خطورتها، وأنه لا ينبغي للمسلم الوقوع فيها، والمؤلف هنا لم يبحثها من الجانب العقدي، وإنما بَحَثَها من الناحية الفقهية؛ من حيث بيانُ ما إذا كان فيها كفارةٌ أم لا.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَاتَّفَقَ الجُمْهُورُ
(1)
فِي الأَيْمَانِ الَّتِي
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 21)؛ حيث قال:"اليمين بالقرب فهي أن يقول: إن فعلت كذا فعلي صلاة أو صوم أو حجة أو عمرة أو بدنة أو هدي أو عتق رقبة أو صدقة ونحو ذلك، وقد اختلف في حكم هذه اليمين أنه هل يجب الوفاء بالمُسمَّى بحيث لا يخرج عن عهدته إلا به أو يخرج عنها بالكفارة مع الاتفاق على أنها يمين حقيقة حتى إنه لو حلف لا يحلف؟ فقال: ذلك يحنث بلا خلاف لوجود ركن اليمين، وهو ما ذكره ووجود معنى اليمين أيضًا، وهو القوة على الامتناع من تحصيل الشرط خوفًا من لزوم المذكور، ونذكر حكم هذا النوع - إن شاء الله - في كتاب النذر" لأن هذا التصرف يُسمَّى أيضًا نذرًا معلقًا بالشرط لوجود معنى النذر وهو التزامه القربة عند وجود الشرط".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 131)؛ حيث قال: " (و) في (اليمين) بأن قال عليَّ يمين أو لله عليَّ يمين أو إن =
لَيْسَتْ إِقْسَامًا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَخْرَجَ الإِلْزَامِ الوَاقِعِ بِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ القَائِلُ: فَإِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ).
أي: الصِّيغ التي تأتي على طريقة فعل الشرط وجوابه، كأن يقول القائل:(إن حدث كذا سأصوم، أو سأسير إلى بيت الله، أو سأحج)، فأكثر العلماء لا يرى الكفارة على مَن حلف بهذه الصيغ، ومنهم من يرى الكفارة فيها.
قوله: (أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كذَا وَكذَا، فَغُلَامِي حُرٌّ، أَوِ امْرَأَتِي طَالِقٌ).
والحديث فيما يتعلَّق بالعتاق والطلاق من المسائل الشائكة والدقيقة جدًّا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والرجعة"
(1)
.
فالحلف بالطلاق يختلف العلماء في تصنيفه، فبعضهم يدخله في أبواب الأيمان، وبعضهم يعده طلاقًا صريحًا.
وكذلك الحلف بالعتاق، فلو أن إنسانًا قال: (إن فعلت كذا
= فعلت كذا فعلي يمين (و) في (الكفارة)؛ أي: الحلف بها كعليَّ كفارة أو إن فعلت كذا فعليَّ كفارة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 232)؛ حيث قال:"فلله علي) أو فعلي (عتق أو صوم) أو نحوه كصدقة وحج وصلاة (وفيه) عند وجود المعلَّق عليه (كفارة يمين) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 241)؛ حيث قال:" (أو) قال (عبد فلان حر لأفعلن أو إن فعلت كذا فمال فلان صدقة أو فعلي حجة أو) إن فعلت فـ (مال فلان حرام عليه أو فلان بريء من الإسلام ونحوه) كإن فعلت ففلان يهودي (فلغو)؛ لأنه ليس في ذلك ما يوجب هتك الحرمة فلم تكن يمينًا".
(1)
أخرجه أبو داود (2194) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1826).
فعبيدي أحرار) أو نحو ذلك، فمن العلماء من يرى أن ذلك يقع عتقًا صريحًا
(1)
.
فهذه المسائل ينبغي للمسلم أن يتجنبها، وألَّا يَدفَعَهُ الغضب إلى الوقوع في شيءٍ منها.
قوله: (أَنَّهَا تَلْزَمُ فِي القُرَبِ).
والقُرَبُ: هي الطاعات؛ أي: ما يتقرب به العبد إلى ربه سبحانه وتعالى.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 704)؛ حيث قال: "لو قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك فعبدي حر، وقال لعبده: إن حلفت بعتقك فامرأتي طالق؛ فإن عبده يعتق لأنه قد حلف بطلاق امرأته، ولو قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق وكرره ثلاثًا طلقت ثنتين باليمين الأولى والثانية لو دخل بها وإلا فواحد". مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 362)، حيث قال: " (والشقص
…
إلخ)؛ أي: إنه إذا قال: إن فعلت كذا فكل عبيدي أحرار أو كل مماليكي أحرار أو كل عبد أو مملوك أملكه حر أو كل حر أو كل عبد لي أو مملوك حر وفعل ذلك الشيء؛ فإنه يعتق عليه كل عبد يملكه ويعتق عليه أيضًا الشقص الذي يملكه من عبد وينجز عليه عتق مدبره وأم ولده ومكاتبه، ويعتق عليه أيضًا ولد عبده الكائن من أمة العبد أو من أمة السيد (قوله: أي أمة العبد)؛ أي: وأولى من أمة السيد واحترز بقوله: "من أمته" عن ولد عبده من حرة أو من أمة أجنبي (قوله: وأما في صيغة البر)؛ أي: كإن دخلت الدار فعبيدي أحرار (قوله: فهو على بر)؛ أي: حتى يدخل، فإذا دخل حنث بخلافه بِصِيغة الحنث، فإنه على حنث حتى يدخل، فإذا دخل بر.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 233)؛ حيث قال:"فلو قال: إن فعلت كذا فعبدي حر ففعله عتق العبد قطعًا، أو قال: والعتق أو والطلاق بالجر لا أفعل كذا لم تنعقد يمينه ولا حنث عليه إن فعله، وتعبيره بأو ليس بقيد".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 388 - 389)؛ حيث قال:"فيقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبيدي أحرار أو عليَّ الحج ونحو ذلك أو يقول لامرأته: إن زنيت أو سرقت أو خنتني فأنت طالق، وقصد زجرها وتخويفها باليمين لا إيقاع الطلاق إذا فعلت؛ فهذا حالف ليس بموقع، وهذا هو الحلف بالكتاب والسُّنة، وهو الذي تجزئ به الكفارة، والناس قد يحلفون بِصِيغة القسم، وقد يحلفون بِصِيغة الشرط الذي في معناها؛ فإن هذا وهذا سواء باتفاق العلماء".
ومعنى هذا: أن هذه الأيمان تلزم في أبواب الطاعات، كالحج والجهاد ومثل ذلك، أما المعاصي فلا تلزم فيها.
فبعض العلماء يُدخِل هذا في أحكام النذور، وهناك شبه وتداخل بين النذر والأيمان في بعض الأحكام؛ ولذلك نجد أكثر الفقهاء يُصَنِّفُون كتابًا واحدًا يشمل البابين، فيقولون:[كتاب الأيمان والنذور]، لكن المؤلِّف فَصَلَ بينهما هاهنا؛ حيث بدأ أولًا بالأيمان، ثم انتقل بعد ذلك إلى النذور.
قوله: (وَفِيمَا إِذَا التَزَمَهُ الإِنْسَانُ لَزِمَهُ بِالشَّرْعِ، مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالعِتْقِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ فِيهَا كفَّارَة أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
إِلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَثِمَ وَلَا بُدَّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَأَبُو عُبَيْدٍ
(4)
وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الجِنْسَ مِنَ الأَيْمَانِ فِيهَا الكَفَّارَةُ إِلَّا الطَّلَاقَ وَالعِتْقَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(5)
: يُكَفِّرُ مَنْ حَلَفَ بِالعِتْقِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ
(6)
. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هِيَ يَمِينٌ أَوْ نَذْرٌ؟).
وقد بَيَّنَ المؤلف هاهنا سبب اختلافهم في المسألة، فبعضهم بنى المسألة على أنها يمينٌ، وبعضهم بناها على أنها نذرٌ.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 181)؛ حيث قال: "واختلفوا في العتق فقال أكثرهم: الطلاق والعتق سواء لا كفارة في العتاق كما لا كفارة في الطلاق، وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق وممن قال ذلك
…
وأبو عبيد".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 181)؛ حيث قال:"وقال أبو ثور: من حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه".
(6)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 182)؛ حيث قال:"وقد روي عن عائشة: "كل يمين ليس فيها طلاق ولا عتق فكفارتها كفارة يمين"".
واليمين لها حروفٌ أصليةٌ معروفةٌ - كما قلنا - كالواو والباء والتاء، وحروفٌ أُخرى تنوب عنها، وبعض هذه الحروف مُستَعمَل أكثر من غيره.
قوله: (فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا يَمِينٌ أَوْجَبَ فِيهَا الكَفَّارَةَ، لِدُخُولِهَا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآيَةَ [المائدة: 89]، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَنْ جِنْسِ النَّذْرِ؛ أَيْ: مِنْ جِنْسِ الأَشْيَاءِ الَّتِي نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا الْتَزَمَهَا الإِنْسَانُ لَزِمَتْه، قَالَ: لَا كفَّارَةَ فِيهَا، لَكِنْ يَعْسُرُ هَذَا عَلَى المَالِكِيَّةِ لِتَسميَتِهِمْ إِيَّاهَا أَيْمَانًا، لَكِنْ لَعَلَهُمْ إِنَمَا سَمَّوْهَا أَيْمَانًا عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ، وَالحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ تُسَمَّى بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَيْمَانًا؛ فَإِنَّ الأَيْمَانَ فِي لُغَةِ العَرَبِ لَهَا صِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ، وَإِنَّمَا يَقَعُ اليَمِينُ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي تُعَظَّم، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ الشَّرْطِ هِيَ صِيغَةَ اليَمِينِ، فَأَمَّا هَلْ تُسَمَّى أَيْمَانًا بِالعُرْفِ الشَّرْعِيِّ؟ وَهَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الأَيْمَانِ؟ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"كفَّارَةُ النَّذْرِ كفَّارَةُ يَمِينٍ"
(1)
، وَقَالَ تَعَالَى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحويم: 1، 2]).
وفي هذا الموقف أيضًا من المؤلف نراه ينقد قول المالكية رغم انتسابه لمذهبهم، وهو الأمر المحمود الذي نَبَّهْنَا إليه سابقًا، وأَشَرْنَا إلى أنه السبيل الذي ينبغي لطالب العلم أن يسلكه سعيًا وراء الدليل واتباعه.
أما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، فيعني أن الله قد شَرَعَ لكم كيفية التحلل من أيمانكم بالكفارة.
قوله: (فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ بِالشَّرْعِ القَوْلُ الَّذِي مَخْرَجُهُ
(1)
أخرجه مسلم (1645).
مَخْرَجَ الشَّرْطِ، أَوْ مَخْرَجَ الإِلْزَامِ دُونَ شَرْطٍ وَلَا يَمِينٍ، فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ الأَقَاوِيلِ الَّتِي تَجْرِي هَذَا المَجْرَى، إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الإِجْمَاعُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ الطَّلَاقِ، فظَاهِرُ الحَدِيثِ يُعْطِي أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ اليَمِينِ، وَذَهَبَ دَاوُدُ
(1)
، وَأَهْلُ الظَّاهِر
(2)
إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ أَعْنِي الخَارِجَةَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ إِلَّا مَا أَلْزَمَهُ الإِجْمَاعُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنُذُورٍ، فَيَلْزَمُ فِيهَا النَّذْر، وَلَا بِأَيْمَانٍ فَتَرْفَعُهَا الكَفَّارَة، فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَعَلَيَّ المَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مَشْيًا، وَلَا كَفَّارَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ المَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْه، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ"
(3)
؛ فَسَبَبُ هَذَا الخِلَافِ فِي هَذِهِ الأَقَاوِيلِ الَّتِي تَخْرُجُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ هُوَ: هَلْ هِيَ أَيْمَانٌ أَوْ نُذُوزٌ؟ أَوْ لَيْسَتْ أَيْمَانًا وَلَا نُذُورًا؟ فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ": هذا أَمْرٌ. "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 182)؛ حيث قال:"وذكر داود في الحالف بالمشي إلى مكة وبصدقة ماله: أنه لا شيء عليه من كفارة ولا غيرها".
(2)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 476)؛ حيث قال:"واليمين بالطلاق لا يلزم - سواء بر أو حنث - لا يقع به طلاق، ولا طلاق إلا كما أمر الله صلى الله عليه وسلم عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم -. برهان ذلك: قول الله عز وجل: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وجميع المخالفين لنا هاهنا لا يختلفون في أن اليمين بالطلاق، والعتاق والمشي إلى مكة، وصدقة المال فإنه لا كفارة عندهم في حنثه في شيء منه إلا بالوفاء بالفعل، أو الوفاء باليمين؛ فصح بذلك يقينًا أنه ليس شيء من ذلك يمينًا؛ إذ لا يمين إلا ما سماه الله تعالى يمينًا".
(3)
أخرجه البخاري (6696) عن عائشة.
يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ": هذا لأن معصية اللّه مُحَرَّمَةٌ، لا يجوز الوفاء بها حتى ولو نَذَرَهَا الإنسان.
وأكثر العلماء
(1)
يرون أن من ترك الوفاء بنذر المعصية عليه أن يُكَفِّرَ عن نذره، وبعضهم لا يرى ذلك
(2)
.
وقد بَيَّنَ المؤلِّف هاهنا سبب الخلاف، وأنه ينبني على هذه الأقاويل
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 736)؛ حيث قال: " (قوله: ألَّا يكون معصية لذاته)، قال في "الفتح": وأما كون المنذور معصية يمنع انعقاد النذر فيجب أن يكون معناه إذا كان حرامًا لعينه أو ليس فيه جهة قربة؛ فإن المذهب أن نذر صوم يوم العيد ينعقد، ويجب الوفاء بصوم يوم غيره ولو صامه خرج من العهدة. ثم قال بعد ذلك: قال الطحاوي: إذا أضاف النذر إلى المعاصي كـ: لله عليَّ أن أقتل فلانًا كان يمينًا ولزمته الكفارة بالحنث. اهـ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 415)؛ حيث قال:" (ومن نذر أن يعصي الله) سبحانه وتعالى بشيء كسرقة أو زنا أو قتل (فلا يعصه) بالوفاء بنذره؛ للإجماع على حرمة ارتكاب المعاصي، وهذا الذي ذكره المصنف لفظ حديث، وأما قوله: (ولا شيء عليه)، ليس من الحديث. والمعنى: أن ناذر المعصية لا شيء عليه سِوى الإثم، وإنما نص على ذلك للرد على أبي حنيفة في قوله: يلزمه كفارة يمين". وانظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن المالكي (2/ 30).
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"، للنووي (3/ 300)، حيث قال: "الملتزم بالنذر:
…
فالمعصية، كنذر شرب الخمر، أو الزنا، أو القتل، أو الصلاة في حال الحدث، أو الصوم في حال الحيض، أو القراءة حال الجنابة، أو نذر ذبح نفسه أو ولده، فلا ينعقد نذره؛ فإن لم يفعل المعصية المنذورة فقد أحسن، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع جمهور الأصحاب. وحكى الربيع قولًا في وجوبها. واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي للحديث:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"".
وانظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 223).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 275 - 276)، حيث قال:"نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض والنفاس ويوم العيد وأيام التشريق، فلا يجوز الوفاء به)، لقوله صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"
…
(ويكفر)، قاله ابن مسعود وابن عباس وعمران وسمرة. ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". رواه الخمسة من حديث عائشة، ورواته ثقات احتج به أحمد وإسحاق وضعفه جماعة، ولأن النذر حكمه حكم اليمين".
(2)
تقدَّم.
التي تأتي بصيغة الشَّرْطِ، هل تُعَدُّ من الأيمان أم من النذور، أم أنها ليست من هذا ولا ذاك.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ القَائِلِ: أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، هَلْ هُوَ يَمِين أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ
(1)
. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ ضِدَّ القَوْلِ الأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
. وَقِيلَ: إِنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهَا، فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ بِهَا، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(3)
.
وفي هذه المسألة يبين لنا المؤلِّف اختلاف العلماء في الفرق بين أن يأتي لفظ القَسَمِ مجردًا كقول الإنسان: (أشهد أن كذا قد حدث، أُقْسِمُ أن أفعل كذا)، وبين أن يأتي اللفظ مضافًا إلى اللّه أو إلى اسم من أسمائه أو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، كقوله:(أقسم بالله، أُشْهِدُ اللهَ، أَحلِفُ بالله، أُعَاهِدُ اللهَ، وَأَمَانَةِ اللهِ).
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (10/ 10)؛ حيث قال:"ولو قال: أقسمت أو أقسم أو حلفت أو أحلف) أو اليت أو أولي (بالله لأفعلن) كذا (فيمين إن نواها)، لاطراد العرف باستعمالها يمينًا وأيده بنيتها، (أو أطلق)، للعرف المذكور، وبه فارق شهدت أو أشهد بالله فإنه محتاج لنية اليمين به؛ لأنه لم يشتهر في اليمين، نعم هو في اللعان صريح كما مرَّ، أما مع حذف بالله فلغو، وإن نوى اليمين".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (3/ 7)؛ حيث قال: "ولو قال: أقسم بالله أو أحلف أو أشهد بالله أو أعزم بالله كان يمينًا عندنا وعند الشافعي لا يكون يمينًا إلا إذا نوى اليمين
…
فإن لم يظهر بأن قال: أقسم أو أحلف أو أشهد أو أعزم كان يمينًا في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يكون يمينًا".
(3)
يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 201 - 202)، حيث قال:" (وأقسم وأشهد) بضم الهمزة فيهما (إن نوى بالله) وأولى إن تلفظ به في الثلاثة، (وأعزم إن قال)؛ أي: لفظ (بالله) بأن قال: أعزم بالله لأفعلن كذا، فيمين لا إن لم يقل بالله فليس بيمين، ولو نوى بالله؛ لأن معناه أقصد وأهتم، فإذا قال بالله اقتضى أن المعنى أقسم".
فالعلماء في مجيء اللفظ مجردًا دون الإضافة لله على أقوال.
فالشافعي
(1)
في أحد قوليه: يرى أن هذه ليست بأيمانٍ.
وأبو حنيفة: يراها أيمانًا.
والمالكية: على الرجوع إلى مقصد قائلها؛ فإن أراد بها الله صارت يمينًا، وإن لم يرد الله بها لم تكن من الأيمان.
أما الإمام أحمد
(2)
: فعلى أنه إن نوى بها اليمين صارت يمينًا، وإن لم يَنْوِ بها اليمين فعلى قولين في المذهب:
- أحدهما: أن عليه كفارةً.
- والآخر: أن لا كفارة عليه.
> قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ المُرَاعَى اعْتِبَارُ صِيغَةِ اللَّفْظِ، أَوِ اعْتِبَارُ مَفْهُومِهِ بِالعَادَةِ، أَوِ اعْتِبَارُ النِّيَّةَ؟).
فالإنسان حينما يقول: (أُقْسِمْ) مجردةً هكذا، فهل يُرجَع في هذا إلى
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (10/ 10)؛ حيث قال:"أما مع حذف بالله فلغو، وإن نوى اليمين".
(2)
"مطالب أولي النهى"، للرحيجاني (6/ 360) "حيث قال:" (فإن لم يذكر اسم الله فيها)؛ أي: الكلمات السابقة، وهي أقسمت وما عطف عليها (كلها، ولم ينو يمينًا) فلا تكون يمينًا (أو ذكره)؛ أي: ذكر اسم الله تعالى (ونوى) بقوله: أقسمت بالله ونحوه (خبرًا فيما يحتمله) كنيته بذلك عن قسم سبق أو نوى بأقسم ونحوه الخبر عن يمين يأتي، أو نوى بأعزم القصد دون اليمين (فلا يمين)؛ أي: فلا يكون يمينًا، ويقبل منه ذلك، لاحتماله، وحيث كان صادقًا فلا كفارة".
وفي "المغني"، لابن قدامة (9/ 511)، قال:"فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلن. ولم يذكر بالله، فعن أحمد روايتان؛ إحداهما: أنها يمين، سواء نوى اليمين أو أطلق. وروي نحو ذلك عن عمر، وابن عباس، والنخعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه. وعن أحمد: إن نوى اليمين بالله كان يمينًا، وإلا فلا. وهو قول مالك، وإسحاق، وابن المنذر؛ لأنه يحتمل القسم بالله تعالى وبغيره، فلم تكن يمينًا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة".
نيته، أم يعتبر هذا منه قَسمًا على إطلاقه، فمن هنا جاء اختلاف العلماء الذي فَصَّلْنَا فيه القول.
> قوله: (فَمَنِ اعْتَبَرَ صِيغَةَ اللَّفْظِ قَالَ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ نُطْق بِمَقْسُومٍ بِهِ).
والمقسوم به: هو الله، فمن اعتبر صيغة اللفظ بنى هذا على أن القائل ذكر اللفظة مُجَرَّدَةً حين قال:(أُقْسِمُ)، دون أن يضيفها إلى الله سبحانه وتعالى، فَانْبَنَى على هذا حُكْمُهُ في المسألة بأنها ليست من الأيمان.
> قوله: (وَمَنِ اعْتَبَرَ صِيغَةَ اللَّفْظِ بِالعَادَةِ، قَالَ: هِيَ يَمِينٌ، وَفِي اللَّفْظِ مَحْذُوفٌ وَلَا بُدَّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى).
أي: أن الذي اعتَبَرَ العادة رَأَى أن العادة جاريةٌ بأن القَسَمَ والحَلِفَ إنما يكون بالله، ورأى أن عدم التصريح بإضافتها لله لا يُخرِجُها عن الأيمان، على اعتبار حذف المضاف إليه من السياق، فَحَكَمَ على المسألة بأنها تندرج تحت الأيمان.
> قوله: (وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ، وَاعْتَبَرَ النِّيَّةَ، إِذْ كانَ اللَّفْظُ صَالِحًا لِلْأَمْرَيْنِ، فَرَّقَ فِي ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ).
والرجوع إلى نِيَّةِ الإنسان في هذا أمرٌ طَيِّبٌ؛ فإن كان يَقصِد القَسَمَ صار قَسَمًا، وإن لم يَقصِد القَسَمَ فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ
وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا قِسْمَيْنِ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي الاسْتِثْنَاءِ.
القِسْمُ الثَّانِي: النَّظَرُ فِي الكَفَّارَاتِ).
ذكر المؤلف هنا مسألتين من المسائل المتعلقة باليمين؛ الأُولى: في الاستثناء. والثانية: في الكفارات.
(القِسْمُ الأَوَّلُ
وَفِي هَذَا القِسْمِ فَصْلَانِ؛ الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي شُرُوطِ الاسْتِثْنَاءِ المُؤَثِّرِ فِي اليَمِينِ. الفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَعْرِيفِ الأَيْمَانِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الاسْتِثْنَاءُ مِنَ الَّتِي لَا يُؤَثِّرُ).
لأهل العلم كلام مشهور في الاستثناء في اليمين، وشروطه، وهل هو مؤثر في كل يمين أم لا؟ وحكم الفصل بينه وبين ما استثني منه، إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بهذا الباب
(1)
.
وبدأ المؤلف رحمه الله في الكلام عن شروط الاستثناء المؤثرة في اليمين.
(الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي شُرُوطِ الاسْتِثْنَاءِ المُؤَثِّرِ فِي اليَمِينِ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ بِالجُمْلَةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حَلِّ الأَيْمَانِ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَجِبُ لَهُ هَذَا الحُكْمُ بَعْدَ أَنْ أَجْمَعُوا
(1)
سيأتي مفصلًا.
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 367). حيث قال: "وأجمعوأ أنَّ من وصل استثناءه بيمينه بالله، وقال: إن شاء الله، فقد ارتفع الحنث عنه، ولا كفارة عليه".
عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الاسْتِثْنَاءِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِقًا مَعَ اليَمِينِ، ومَلفُوظًا بِهِ، ومَقْصُودًا مِنْ أَوَّلِ اليَمِينِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَهُ اليَمِينُ)
(1)
.
اعلم أن إجماع العلماء على أن الاستثناء مؤثر في حَل الأيمان، هذا من حيث الجملة لا من حيث التفصيل، وإلا فإن هناك مسائل قد حصل فيها الخلاف بين العلماء.
واشترط العلماء لصحة الاستثناء في اليمين ثلاثة شروط، وإن كان بعضهم يضيف إليها غيرها:
الشرط الأول: أن يكون متسقًا مع اليمين، أي: متصلًا به.
الشرط الثاني: أن يكون منطوقًا به لا مجرد أن يكون موجودًا في الذهن.
الشرط الثالث: أن يكون مقصودًا، أي: قَصَد عندما استثنى أن هذا المستثنى غير داخل في اليمين المستثنى منه.
> قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَوَاضِعَ، أَعْنِي: إِذَا فَرَّقَ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ اليَمِينِ، أَوْ نَوَاهُ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ، أَوْ حَدَثَتْ لَهُ نِيَّةُ الاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ اليَمِينِ، وَإِنْ أَتَى بِهِ مُتَنَاسِقًا مَعَ اليَمِينِ).
أما مسألة التفريق بين المستثنى والمستثنى منه فقد تحصل ضرورة،
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 368). حيث قال: "واتفقوا أن من حلف باسم من أسماء الله عز وجل، ثم قاله بلسانه: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، أيُّ ذلك قال مُتَّصلًا بيمينه، ونوى حين لفظه باليمين أن يستثني قبل تمام لفظه باليمين - أنه لا كفارة عليه، ولا حنث إن خالف ما حلف عليه؛ متعمدًا أو غير متعمد".
كأن يفرق بينهما لغصة أصابته، أو كحة طرأت عليه، وقد يفرق بينهما بكلام أجنبي لا علاقة له بيمينه، وقد اختلف العلماء في هذه المسائل على النحو الذي سيورده المؤلف
(1)
.
> قوله: (فَأَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ اشْتِرَاطُ اتِّصَالِهِ بِالقَسَمِ: فَإِنَّ قَوْمًا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا بَأْسَ بَيْنَهُمَا بِالسَّكْتَةِ الخَفِيفَةِ كَسَكْتَةِ الرَّجُلِ لِلتَّذَكُّرِ أَوْ لِلتَّنَفُّسِ أَوْ لانْقِطَاعِ الصَّوْتِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ التَّابِعِينَ
(4)
: يَجُوزُ لِلحَالِفِ الاسْتِثْنَاءُ مَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَكانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(5)
يَرَى أَنَّ لَهُ الاسْتِثْنَاءَ أَبَدًا عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْهُ مَتَى مَا ذَكَرَ).
الأئمة الأربعة متفقون - من حيث الجملة - على أن الاستثناء لا بد أن يكون متصلًا بالقسم، لكن اختلفوا في تفاصيل ذلك، كأن يكون أصابته
(1)
سيأتي مفصلًا.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 129). حيث قال: "ثم أشار لشروط الاستثناء الأربعة بقوله: (إن اتصل) الاستثناء بالمستثنى منه، فإن انفصل لم يُفد كان مشيئة أو غيرها (إلا لعارض) لا يمكن رفعه؛ كسعال، أو عُطاس، أو انقطاع نَفَس، أو تثاؤب، لا لِتَذَكُّر، ورَدِّ سَلَام، ونحوهما، فيضر".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج " للهيتمي (8/ 61، 62). حيث قال: (يصح الاستثناء)
…
(بشرط اتصاله) بالمستثنى منه عرفًا بحيث يعد كلامًا واحدًا،
…
(ولا يضر) في الاتصال (سكتة تَنَفُّس وعي) ونحوهما؛ كعروض سعال، وانقطاع صوت، والسكوت للتذكر، كما قالاه في الأيمان، ولا ينافيه اشتراط قصده قبل الفراغ؛ لأنه قد يقصده حالًا، ثم يتذكر العدد الذي يستثنيه وذلك؛ لأن ما ذكر يسير لا يعد فاصلًا عرفًا بخلاف الكلام الأجنبي".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 194). حيث قال: "وكان قوم من التابعين يرون للحانث الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، منهم طاوس والحسن البصري".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 194). حيث قال: "وكان ابن عباس: يرى له الاستثناء أبدًا متى ما ذكر، ويتلو قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد".
سعلة
(1)
، أو غصة
(2)
في ريقه، أو عرض له عارض، أو انشغل بأمر يسير؛ فهل هذا يؤثر في الاستثناء أو لا؟
فاشترط المالكية الاتصال، لكن ما كان ضرورة فإنه لا يؤثر عندهم من حيث الجملة
(3)
.
وقال الشافعي: "لا بأس بالسكتة الخفيفة؛ كأن يحتاج إلى بلع ريقه، أو شىربة ماء، أو نحو ذلك من العوارض التي تحصل للإنسان
(4)
، وبه قال بعض السلف، وأيضًا هو قولٌ في مذهب الإمام أحمد
(5)
.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن له الاستثناء أبدًا، وإن انتهى كلامه، أو انشغل بغيره، أو خرج من مجلسه، فإن له أن يستثني
(6)
.
> قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي الأَمْرِ
(1)
سَعَلَ كنَصَرَ، سُعالًا وسُعلة، بضمهما، وهي: حركة تدفع بها الطبيعة أذى عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها. وسعال ساعل: مبالغة". انظر: "القاموس المحيط" (1/ 1014).
(2)
الغصة: الشجا
…
وغصصت باللقمة والماء، والجمع: الغصص. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (7/ 60).
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 271)، حيث قال: " (يشترط فيه)، أي: الاستثناء
…
(اتصال معتاد لفظًا أو حكمًا)
…
وحكمًا؛ (كانقطاعه بتنفس ونحوه)؛ كسعال وعطاس، قال الطوخي: فلا يبطله الفصل اليسير، ولا ما عرض من سعال ونحوه، ولا طول كلام متصل بعضه ببعض".
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 154)، حيث قال:"فلصحة الاستثناء شرائط: بعضها يعم النوعين، وبعضها يخص أحدهما، أما الذي يعمهما جميعًا فهو أن يكون الاستثناء موصولًا بما قبله من الكلام عند عدم الضرورة، حتى لو حصل الفصل بينهما بسكوت، أو غير ذلك من غير ضرورة لا يصح، وهذا قول عامة الصحابة رضي الله عنهم، وعامة العلماء إلا شيئًا روي عن عبد الله بن عباس أن هذا ليس بشرط، ويصح متصلًّا ومنفصلًا".
(6)
تقدَّم.
المَحْلُوفِ عَلَى فِعْلِهِ إِنْ كَانَ فِعْلًا، أَوْ عَلَى تَرْكهِ إِنْ كَانَ تَرْكًا، رَافِعٌ لِليَمِينِ، لِأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ هُوَ رَفْعٌ لِلُزُومٍ اليَمِينِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ المُنْذِرِ
(1)
: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَمْ يَحْنثْ"
(2)
.
يعني: لو إن إنسانًا حلف على فعل شيء، وقيده بقوله:(إن شاء الله) فله أن يفعل، وله ألا يفعل، فإن فعل فله الأجر والثواب، وإن لم يفعل فلا حنث عليه؛ لأن الاستثناء يرفع التزام المرء بما حلف عليه، وفي الحديث:"مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله، فقد استثنى"
(3)
، وفي رواية:"مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله، لم يحنث"، هذا الحديث رواه أبو داود
(4)
، والترمذي
(5)
، والنسائي
(6)
، وأحمد
(7)
، والبيهقي
(8)
، وغيرهم
(9)
، وله روايات متعددة، منها:"مَن حَلَفَ بالله فقد استثنى، فإن شاء فَعَلَ، وإن شاء تَرَك"
(10)
، وفي بعضها:"إن شاء رَجَع، وإن شاء تَرَك"
(11)
، والمقصود بالرجوع هنا: أن يرجع فيفعل الفعل، أو أن يترك.
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 120). حيث قال: "ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله، لم يَحنث".
(2)
أخرجه الترمذي (1532)، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن حلف على يمين، فقال: إن شاء الله - لم يَحنث"، وصححه الألباني في "الإرواء"(2570).
(3)
أخرجه أبو داود (3261)، عن ابن عمر، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله فقد استثنى"، وصححه الألباني في "الإرواء"(2570).
(4)
أخرجه أبو داود (3261)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2570).
(5)
أخرجه الترمذي (1532).
(6)
أخرجه النسائي (3855).
(7)
أخرجه أحمد (13/ 450).
(8)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 80).
(9)
أخرجه - أيضًا - ابن ماجه (2104)، وابن حبان (1185).
(10)
أخرجه أحمد (10/ 258)، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حلف أحدكم فقال: إن شاء الله، فهو بالخيار، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل"، وصححه الألباني في "الإرواء"(2570).
(11)
أخرجه ابن ماجه (2105)، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف =
وأما الرواية التي ذكرها المؤلف: "مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ لم يَحنث"
(1)
، فقد تكلم فيها أهلُ العلم من حيث أن فيها اختصارًا، واختلفوا هل هو من فِعل عبد الرزاق، أم مِن فعل مَعمر؟
> قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَل يُؤَثِّرُ فِي اليَمِينِ إِذَا لَمْ تُوصَل بِهَا أَوْ لَا يُؤَثِّرُ؟ لاخْتِلَافِهِمْ هَلِ الاسْتِثْنَاءُ حَالٌّ لِلانْعِقَادِ أَمْ هُوَ مَانِعٌ لَهُ؟ فَإِذَا قُلنَا: إِنَّهُ مَانِعٌ لِلانْعِقَادِ لَا حَالٌّ لَه، اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِاليَمِينِ، وإذَا قُلنَا: إِنَّهُ حَالٌّ، لَمْ يَلزَمْ فِيهِ ذَلِكَ).
وهذا الاختلاف فرع عن اختلافهم في الاستثناء: هل هو حال للانعقاد، أو هو مانع له؟
وفرق بين الأمرين؛ لأن الحل يحصل بعد أن يقع اليمين، فيأتي الاستثناء رافعًا للحكم بخلاف المنع. وهذا أمر متفق عليه عند الأصوليين والفقهاء
(2)
.
فإن قلنا: إنه مانع للانعقاد فيشترط أن يكون متصلًا باليمين؛ لأنه إذا كان مانعًا فلا بد أن يكون المانع متصلًا بالمستثنى منه.
وإذا قلنا: إنه حال لم يلزم ذلك؛ لأن الاستثناء رافع للحكم ملغٍ له، فلو قال إنسان: لأتصدقن بمائة ريال إن شاء الله؛ فإنه يكون بالخيار" إن شاء تصدق، وإن شاء لم يتصدق، لأنه فِعل مرتبط بمشيئة الله.
ومثله ما جاء في قصة سليمان بن داود عليهما السلام أنه قال:
= واستثنى - إن شاء رجع، وإن شاء ترك - غير حانث"، وصححه الألباني في " الإرواء" (2570).
(1)
يُنظر: "سنن الترمذي"(1532). حيث قال: "سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث خطأ، أخطأ فيه عبد الرزاق"، وانظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 408).
(2)
يُنظر: "مختصر الروضة" للطوفي (2/ 603). حيث قال: "ثم إن الاستثناء رافع، بناءً على أنه إخراج بخلاف التخصيص؛ فإنه مبين لا رافع".
"لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ - وفي رواية: سَبْعِين
(1)
- كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّه، فَلَمْ يَقُل: إِنْ شَاءَ اللَّه، فَلَمْ يَحْمِل مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ"
(2)
.
فأراد عليه السلام أن يُولد له مائة ولد يجاهدون في سبيل الله، يدافعون عن الحق وينافحون
(3)
عنه، لكنه نسى أن يربط ذلك بمشيئة الله، واللّه عز وجل يقول:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]، فلا يحصل أمر إلا بإرادة الله ومشيئته، ولذلك ينبغي للمسلم دائمًا أن يربط أعماله بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
> قوله: (وَالَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ اخْتَلَفُوا: هَل هُوَ حَالٌّ بِالقُرْبِ أَوْ بِالبُعْدِ عَلَى مَا حَكَيْنَا، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ حَالٌّ بِالقُرْبِ بِمَا رَوَاهُ سَعْدٌ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ"
(4)
، فَدَلَّ هَذَا أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ حَالٌّ لِليَمِينِ لَا مَانِع لَهَا مِنَ الانْعِقَادِ. قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ بِالقُرْبِ أَنَّهُ لَوْ كانَ حَالًّا بِالبُعْدِ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
(5)
، لَكَانَ الاسْتِثْنَاءُ يُغْنِي عَنِ الكَفَّارَةِ، وَالَّذِي قَالُوهُ بَيِّنٌ).
معنى القرب أو البعد: أي: بمجرد أن يقسم يربط ذلك الاستثناء بالمستثنى منه، أي: يربط المشيئة بيمينه دون فصل بينهما.
(1)
أخرجها البخاري (3424)، مسلم (1654).
(2)
أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654).
(3)
ينافح عنهم، أي: يذب عنهم. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 620).
(4)
أخرجه أبو داود (3286)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(4328).
(5)
تقدَّم.
وسبق أن بعضهم يرى أن الفصل الاضطراري أو العارض لا يؤثر كما لو توقف نَفَسُ الحالف، أو سَعَل، أو حصل له عارض، أو نحو ذلك - فإنه في هذه الحالة لا يؤثر، وهذا مذهب الجمهور
(1)
.
وأما المالكية؛ فليس الأمر كما ذكر المؤلف؛ لأن مذهبهم فيه تفصيل، لكن إن وجد عارض أجنبي فإن الشافعية والحنابلة - وهم ممن قالوا بجواز الاستثناء - على أنه يؤثر في الاستثناء ويقطعه، كما لو أقسم ثم دخل، في حديث أجنبي مع آخر
(2)
.
وفي رواية عند الحنابلة: أنه يستثني ما دام في مجلسه
(3)
.
وقد احتج مَن رأى أنه حالٌّ بالقرب بحديث عكرمة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا"، ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله"
(4)
، ولم يغزو قريشًا، وهذا استثناء.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف أيمانًا متكررة في مواعظه وفي خُطَبه ومجالسه قاصدًا تأكيد ذلك الأمر وتحقيقه
(5)
.
> قوله: (وَأَمَّا اشْتِرَاطُ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ، أَيَّ لَفْظٍ كَانَ مِنْ أَلفَاظِ الاسْتِثْنَاءِ، وَسَوَاءٌ
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 522، 523). حيث قال: "وعن أحمد رواية أُخرى: أنه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما. قال في رواية المروذي؛ حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "واللهِ لأغزون قريشًا"، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء الله"، إنما هو استثناء بالقرب، ولم يخلط كلامه بغيره
…
وحكى ابن أبي موسى، عن بعض أصحابنا، أنه قال: يصح الاستثناء ما دام في المجلس. وحكي ذلك عن الحسن وعطاء".
(4)
تقدَّم.
(5)
منها ما أخرجه البخاري (14) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فوالذي نفسي بيدِه، لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه مِن والده وولده".
كَانَ بِأَلفَاظِ الاسْتِثْنَاءِ، أَوْ بِتَخْصِيصِ العُمُومِ، أَوْ بِتَقْيِيدِ المُطْلَقِ، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ
(1)
، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَنْفَعُ الاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ بِغَيْرِ لَفْظٍ فِي حَرْفِ "إِلَّا" فَقَطْ، أَيْ: بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ "إِلَّا"، وَلَيْسَ يَنْفَعُ ذَلِكَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الحُرُوفِ
(2)
، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ ضَعِيفَةٌ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاخْتِلَافِ هُوَ: هَل تَلزَمُ العُقُودُ اللَّازِمَةُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ مَعًا، مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالعِتْقِ وَاليَمِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ).
ودليل هذا الاشتراط: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ"
(3)
، والمقصود: قول اللِّسان، لا قول القلب الذي هو اعتقاده. وهذا قول مُسلَّم به عند عامة العلماء
(4)
.
وقوله: (وأمَّا اشتراط النطق باللِّسان فإنه اختلف فيه
…
) هذا خلاف يسير لا أثر له ولا اعتداد به عند العلماء.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 368). حيث قال: "وأجمع كلُّ مَن يُحفظ عنه من أهل العلم: أن الحالف لا يكون مستثنيًا، حتى يتكلم بالاستثناء في نفسه، لم ينفعه حتى يظهره بلسانه".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 523). حيث قال: "وقد روي عن أحمد: إن كان مظلومًا فاستثنى في نفسه؛ رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه. فهذا في حق الخائف على نفسه؛ لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأول، وأما في حق غيره فلا".
(2)
يُنظر: "حاشية العدوي على شرح الخرشي"(3/ 56)." (قوله: على المشهور)، ومقابله: ما رواه أشهب: أن النية كافية إذا كان الاستثناء بإلا، أو إحدى أخواتها. وقيَّد ابن رشد الخلاف: بما إذا كانت اليمين لا يُقضى فيها بالحنث، أو كانت ولم تقم عليه بيِّنة، وأما إن قامت عليه بيِّنة، وهي مما يقضى فيها بالحنث، فلا يفيد القصد من غير نطق. وأما الاستثناء الرافع لجُملة المحلوف عليه في بعض الأحوال نحو: لأعطين زيدًا دينارًا إن قدم عمرو
…
فلا بد فيه من تحريك اللِّسان بلا خلاف".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
بم يكون الاستثناء؟
يكون الاستثناء بـ "إلا" أو إحدى أخواتها التي تنوب عنها كـ (غير وسوى وحاشا وخلا)، ويكون كذلك بالتخصيص أو بالتقييد.
مثال: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وقال:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فهذا عموم خصص بقوله صلى الله عليه وسلم:"أُحَلَّت لنا مَيْتَتَان ودَمان"
(1)
.
وقيل: إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف (إلا) فقط؛ لأنها هي الأصل في الاستثناء، ودلالتها واضحة، ولكن التفرقة بين (إلا) وبين غيرها من الحروف - تفرقة ضعيفة كما قال المؤلف؛ لأن مسألة النية واعتقاد القلب في هذه المسألة إنما يعول عليه في حال الإكراه.
وقَسَّم العلماء المكره إلى قسمين:
الأول: مكره يُلجأ إلى العمل، ويضطر إليه.
والثاني: مكره لا يُلجأ إلى العمل لكنه يهدد. واختلف العلماء في الصورتين
(2)
.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي الاخْتِلَافِ هُوَ: هَل تَلزَمُ العُقُودُ اللَّازِمَةُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ مَعًا، مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالعِتْقِ وَاليَمِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ): هذا تنبيه من المؤلف على مسألة الاستثناء في الطلاق والعتاق، وسيأتي تفصيل الكلام عنها إن شاء الله
(3)
.
> قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ: هَل تَنْفَعُ النِّيَّةُ الحَادِثَةُ فِي
(1)
أخرجه ابن ماجه (3314)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
عند قول المصنف: "والطلاق المُقَيَّد لا يخلو من قسمين: إمَّا تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء"، وقوله:"واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة".
الاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ اليَمِينِ؟ فَقِيلَ أَيْضًا فِي المَذْهَبِ: إِنَّهَا تَنْفَعُ إِذَا حَدَثَتْ مُتَّصِلَةً بِاليَمِينِ. وَقِيلَ: بَل إِذَا حَدَثَتْ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ النُّطْقُ بِاليَمِينِ).
يعني: أن يحلف الإنسان وبعد أن يفرغ من اليمين ينوي؛ فتكون النية لاحقة لليمين لا مقترنة به، فاختلفوا: هل تنفع تلك النية أو لا؟
قوله: (فقيل - أيضًا - في المذهب)، أي: مذهب مالك رحمه الله
(1)
.
> قوله: (وَقِيلَ: بَلِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى ضَرْبَيْنِ: اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عَدَدٍ، وَاسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومٍ بِتَخْصِيصٍ، أَوْ مِنْ مُطْلَقٍ بِتَقْيِيدٍ، فَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ العَدَدِ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا حُدُوثُ النِّيَّةِ قَبْلَ النُّطْقِ بِاليَمِينِ، وَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ العُمُومِ يَنْفَعُ فِيهِ حُدُوثُ النِّيَّةِ بَعْدَ اليَمِينِ).
لأن هذا فيه إجمال، والأول فيه نوع من التخصيص.
* قوله: (وَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ العُمُومِ يَنْفَعُ فِيهِ حُدُوثُ النِّيَّةِ بَعْدَ اليَمِينِ إِذَا وَصَلَ الاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا بِاليَمِينِ، وَالاسْتِثْنَاءُ مِنَ العُمُومِ يَنْفَعُ فِيهِ حُدُوثُ النِّيَّةِ بَعْدَ اليَمِينِ إِذَا وَصَلَ الاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا بِاليَمِينِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الاسْتِثْنَاءُ مَانِعٌ لِلعَقْدِ أَوْ حَالٌّ لَهُ؟ فَإِنْ قُلنَا: إِنَّهُ مَانِعٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ حُدُوثِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ اليَمِينِ. وَإِنْ قُلنَا: إِنَّهُ حَالٌّ، لَمْ يَلزَمْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَبْدُ الوَهَّابِ أَنْ يُشْتَرَطَ حُدُوثُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ اليَمِينِ لِلاتِّفَاقِ، وَزَعَمَ عَلَى أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ حَالٌّ لِليَمِينِ، كَالكَفَّارَةِ سَوَاءٌ)
(2)
.
(1)
سيأتي.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 135). حيث قال: " (وحاصله: أن النية المخصصة إن كانت أولًا نفعت، وإن كانت في الأثناء لم تنفعه، ولا بد من لفظ الاستثناء
…
قال القرافي: والمحاشاة: هي التخصيص بعينه من غير زيادة ولا نقصان، فليست =
وهذا عود من المؤلف إلى المسألة الأولى، وقد سبق الكلام عنها.
* قوله: (الفَصْلُ الثَّانِي مِنَ القِسْمِ الأَوَّلِ: فِي تَعْرِيفِ الأَيْمَانِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الاسْتِثْنَاءُ وَغَيْرِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الأَيْمَانِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا اسْتِثْنَاءُ مَشِيئَةِ اللَّهِ مِنَ الَّتِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا؛ فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابُهُ
(1)
: "لَا تُؤَثِّرُ المَشِيئَةُ إِلَّا فِي الأَيْمَانِ الَّتِي تُكَفَّر، وَهِيَ اليَمِينُ بِاللَّهِ عِنْدَهُمْ، أَوِ النَّذْرُ المُطْلَق، عَلَى مَا سَيَأْتِي).
هذا فَصْل عَقَدَه المؤلف ليبين الأيمان التي يُؤثر فيها الاستثناء فتلزم فيها الكفارة والتي لا يُؤثر؛ فأمَّا اليمين بالله أو النذر المطلق، فالجمهور على أنه تؤثر فيه المشيئة
(2)
.
> قوله: (وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالعِتَاقُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُعَلَّقَ الاسْتِثْنَاءُ فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ أَوِ العِتْقِ فَقَطْ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، أَوْ عَتِيقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَهَذِهِ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ يَمِينًا، وَإِمَّا أَنْ يُعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ كذَا، فَهِيَ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، أَوْ إِنْ كَانَ كَذَا، فَهُوَ عَتِيقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَأَمَّا القِسْمُ الأَوَّل، فَلَا خِلَافَ فِي المَذْهَبِ أَنَّ المَشِيئَةَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ
(3)
. وَأَمَّا القِسْمُ الثَّانِي (وَهُوَ اليَمِينُ بِالطَّلَاقِ): فَفِي المَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: إِذَا
= المحاشاة شيئًا غير التخصيص، وقال ابن رشد: شرط النية المخصصة حصولها قبل تمام اليمين، وهي بعده لغو، ولو وصلت به بخلاف الاستثناء به
…
".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير، ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 129). حيث قال: " (كالاستثناء بإن شاء الله) فإنه لا يفيد في غير اليمين بالله، ويفيد في الله، وفي النذر المُبهم، فإن قال: يلزمه الطلاق إن شاء الله لَزِمه، وإن قال: والله لا فعلتُ كذا، أو لأفعلنَّ إن شاء الله نفعه، ولا كفارة عليه".
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
تقدَّم.
صُرِفَ الاسْتِثْنَاءُ إِلَى الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الطَّلَاقُ صَحَّ، وَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى نَفْسِ الطَّلَاقِ لَمْ يَصِحَّ
(1)
. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: "الاسْتِثْنَاءُ يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، سَوَاءٌ قَرَنَهُ بِالقَوْلِ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الشَّرْطِ، أَوْ بِالقَوْلِ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الخَبَرِ". وَسَبَبُ الخِلَافِ مَا قُلنَاهُ مِنْ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ هَل هُوَ حَالٌّ أَوْ مَانِعٌ؟ فَإِذَا قُلنَا: مَانِعٌ، وَقُرِنَ بِلَفْظِ مُجَرَّدِ الطَّلَاقِ؟ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ، إِذْ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاق، (أَعْنِي: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ المَانِعَ إِنَّمَا يَقُومُ لِمَا لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ المُسْتَقْبَلُ. وَإِنْ قُلنَا: إِنَّهُ حَالٌّ لِلعُقُودِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأثِيرٌ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ، فَتَأَمَّل هَذَا؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ المَالِكِيَّةِ: إِنَّ الاسْتِثْنَاءَ فِي هَذَا مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ هُوَ مَانِعٌ لَا حَالٌّ، فَتَأَمَّلْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 129). حيث قال: "فإن قال: يلزمه الطلاق إن شاء الله لَزِمه، وإن قال: والله لا فعلتُ كذا، أو لأفعلنَّ إن شاء الله نَفَعَه، ولا كفارة عليه".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (4/ 136، 137). حيث قال: " (وإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله تعالى متصلًا لم يقعِ الطلاق)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حَلَفَ بطلاقٍ أو عتاق، وقال: إن شاء الله تعالى، مُتَّصلا به فلا حِنث عليه".
وينظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 243). حيث قال: "ولو قال: عبده حُرٌّ وعتيق إن شاء الله، صَحَّ فلا يعتق".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 470، 471). حيث قال: لا (ولو)(قال: أنت طالق إن) أو إذا أو متى مثلًا (شاء الله)، أو أراد، أو رضي، أو أحب، أو اختار، (أو) أنت طالق (إن) أو إذا مثلًا (لم يشأ الله، وقصد التعليق) بالمشيئة قبل فراغ اليمين ولم يفصل بينهما، وأسمع نفسه كما مَرَّ (لم يقع)
…
، (وكذا يمنع) التعليق بالمشيئة (انعقاد تعليق)؛ كأنت طالق إن دخلتِ الدار إن شاء الله
…
(وعتق) تنجيزًا أو تعليقًا، (ويمين) كـ والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، (ونذر) كعليَّ كذا إن شاء الله، (وكل تصرف) غير ما ذُكر من حلٍّ وعَقد وإقرار ونية عبادة".
أشار المؤلف هنا إلى عِدَّة مسائل:
المسألة الأولى: الاستثناء في الطلاق والعتاق، وصورته: أن يقول لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو يقول لعبده: أنت عتيق - أي: حر - إن شاء الله.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة؛ لورود النهي عن الاستثناء في الطلاق والعتاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا نَذْرَ ولا يمين في معصية، ولا يَمين في عتاق"
(1)
.
فذهب مالك وأحمد في المشهور عنه إلى أنه يقع
(2)
. وعنه في رواية: التفصيل
(3)
.
وذهب، أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد
(4)
في رواية إلى أنه لا يقع، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله، فقد استثنى"
(5)
، وهذا عام، ولو أراد استثناء الطلاق والعتاق لبيَّنه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(6)
والطلاق والعتاق من
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرجه أبو داود (3274)، ولفظه: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذر ولا يَمين فيما لا يملك ابنُ آدم، ولا في مَعصية الله
…
" الحديث، وضعفه الألباني.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 311). حيث قال: " (و) إن قال لزوجته: (يا طالق) إن شاء الله طلقت
…
(أو أنت طالق) إن شاء الله، (أو) قال: (عبدي حُر إن شاء الله
…
عتق العبد
…
وكذا لو قدم الشرط) بأن قال: إن شاء الله، أو إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله، فأنت طالق أو عبدي حُر".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 466)، حيث قال: "وعن أحمد ما يدل على أن الطلاق لا يقع، وكذلك العتاق
…
لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها، فلم يقع، كما لو عَلَّقَه على مشيئة زيد".
(4)
تقدَّم مفصلًا.
(5)
تقدَّم.
(6)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 688). حيث قال: "وصورته أن يقول: صَفُوا غدًا، ثم لا يبين لهم في غَدٍ كيف يصلون؟ أو: آتوا الزكاة عند رأس الحول، ثم لا يُبين لهم عند رأس الحول كم يؤدون؟ أو إلى مَن يؤدون؟ ونحو ذلك".
الأُمور التي تقع جدًّا وهزلًا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطلق فلماذا نفرق؟
المسألة الثانية: تعليق الطلاق بشرط من الشروط:
وصورته: أن يقول: إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله، أو إن حصل كذا فأنت طالق إن شاء الله، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في أبواب الطلاق إن شاء الله
(1)
، لكن لا خلاف عند المالكية في أن هذا الاستثناء لا أثر له
(2)
، بل يحصل به الطلاق والعتق، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(3)
.
المسألة الثالثة: اليمين بالطلاق.
ووقع فيه الخلاف بين المالكية على النحو الذي أشار إليه المؤلف.
وذهب الحنفية، والشافعية إلى أن الاستثناء يؤثر في ذلك كله، أي: سواء صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق، أو إلى نفس الطلاق، فلا يقع الطلاق، وكذلك الأمر بالنسبة للعتاق
(4)
.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله سبب الخلاف فقال: (وسبب الخلاف ما قلنا من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع؟
…
)، وهذا من وجهة نظر المؤلف، وإلا
(1)
عند قول المصنف: "والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين: إما تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء".
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 580). حيث قال: " (أو) علق (بما لا يمكن اطلاعنا عليه) حالًا ومآلًا؛ كمشيئة الله أو الملائكة أو الجن، (كـ: إن شاء): أي: كقوله: أنت طالق إن شاء (الله، أو) إن شاءت (الجن)، أو إلا أن يشاء الله، إلخ، فإنه ينجز عليه؛ لأن مشيئة مِن ذكر لا اطِّلاع لنا عليها. بخلاف إن شاء زيد، أو إلا أن يشاء زيد، فتنتظر مشيئته".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع " للبهوتي (5/ 311). حيث قال: " (و) إن قال لزوجته: (يا طالق) إن شاء الله طلقت
…
(أو أنت طالق) إن شاء الله، (أو) قال: (عبدي حُر إن شاء الله
…
عتق العبد
…
وكذا لو قدم الشرط) بأن قال: إن شاء الله، أو إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله، فأنت طالق، أو عبدي حر".
(4)
تقدَّم.
فالواقع أن الخلاف بين العلماء في هذه المسألة يختلف تمامًا عما ذكره المؤلف، فكما سبق أن الحنفية والشافعية يتمسكون بالأدلة: ومنها: "مَن حَلَفَ فقال: إن شاء الله، فقد استثنى"
(1)
، ولم يخص من ذلك الطلاق ولا العتاق، إذًا فهذا عام يشمل كل استثناء فيدخل فيه الطلاق والعتاق.
وأجاب المالكية والحنابلة عن ذلك بأن هذا الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في اليمين
(2)
، والذي هنا إنما هو تعليق على شرط، فهو غير داخل في باب الأيمان أصلًا.
(القِسْمُ الثَّانِي مِنَ الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ
وَهَذَا القِسْمُ فِيهِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ: الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مُوجِبِ الحِنْثِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ. الفَصْلُ الثَّانِي: فِي رَافِعِ الحِنْثِ، وَهِيَ الكَفَّارَاتُ. الفَصْلُ الثَّالِثُ: مَتَى تَرْفَعُ؟ وَكَمْ تَرْفَعُ؟).
هذه ثلاثة فصول فيما يتعلَّق بالكفارات، أشار إليها المؤلف جملة واحدة، ثم شرع في تفصيلها.
(الفَصْلُ الأوَّلُ فِي مُوجِبِ الحِنْثِ، وَشُرُوطِهِ، وَأَحْكَامِهِ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الحِنْثِ هُوَ المُخَالَفَةُ لِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 466). حيث قال: "فإن قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى. طلقت. وكذلك إن قال: عبدي حر إن شاء الله تعالى. عتق، نص عليه أحمد، في رواية جماعة، وقال: ليس هُما من الأَيْمان".
اليَمِينُ
(1)
، وَذَلِكَ إِمَّا فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَه، وَإِمَّا تَرْكُ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَرَاخَى عَنْ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ إِلَى وَقْتٍ لَيْسَ يُمْكِنُهُ فِيهِ فِعْلُه، وَذَلِكَ فِي اليَمِينِ بِالتَّرْكِ المُطْلَقِ، مِثْلَ: أَنْ يَحْلِفَ لَيأْكلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَيَأْكُلُهُ غَيْر، أَوْ إِلَى وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ الوَقْتِ الَّذِي اشْتُرِطَ فِي وُجُودِ الفِعْلِ عَنْدَه، وَذَلِكَ فِي الفِعْلِ المُشْتَرَطِ فِعْلُهُ فِي زَمَانِ مَحْدُودٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَاللهِ، لأَفْعَلَنَّ اليَوْمَ كذَا وَكلذَا، فَإِنَّهُ إِذَا انْقَضَى النَّهَار، وَلَمْ يَفْعَل، حَنِثَ ضَرُورَةً).
هذا فصل عقده المصنفُ في موجب الحنث وشروطه وأحكامه، ومتى يكون الإنسان حانثًا؟ فلو أقسم إنسان على أن يفعل شيئًا فلم يفعله حنث، وإذا حلف لزمته الكفارة، ولو أقسم على ألا يفعل شيئًا ففعله حنث، وتلزمه الكفارة.
والحنث معناه: العدول وعدم فعل ما التزم به
(2)
.
والذي ينبغي على العبد إذا حلف على أمر من الأُمور، ثم تبين له أن الخير في عدم فعله، أو إذا حلف على ترك أمر من الأُمور، ثم رأى أن المصلحة في فعله فإنه يُكَفِّر، ويأتي الذي هو خير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"والله إني إن شاء الله لا أحلفُ على يمين فأرى غيرَها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خير وتَحَلَّلْتُ"
(3)
، والله عز وجل يقول:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [النور: 22]، أي: أن تتحلل منها بالكفارة، وفي حديث الإفك
(4)
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 366). حيث قال: "وأجمع أهل العلم على أنَّ مَن حلف فقال: والله، أو بالله، أو تالله، فحنث أن عليه الكفارة".
(2)
الحنث: عدم البِر فيها، وقال ابن الأعرابي:"الحنث: الرجوع في اليمين: أن يفعل غير ما حلف عليه. والحنث في الأصل: الإثم، ولذلك شُرعت فيه الكفارة". انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (471).
(3)
أخرجه البخاري (6680)، ومسلم (1649).
(4)
أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
لما أقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح لما خاض في حديث الإفك - وكان من أقاربه - أنزل الله عز وجل قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، فإذا أقسم الإنسان على ألا يعمل عملًا من أعمال البر، ثم راجع نفسه وأدرك أن الخير في أن يفعله فليفعله وليُكفر عن يمينه، على النحو الذي أشار الله إليه في قوله:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
كذلك إذا حلف الإنسان على غيره بفعل أمر من الأُمور فإنه ينبغي على المحلوف عليه أن يَبَرَّ أخاه، كما في حديث الرجل الذي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يلحقه بالفاتحين، فقال رسول الله:"لا هجرة بعد الفتح"، فقال العباس: أقسم عليك كذا وكذا أن تُبايعه، فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده بيده برًّا بقسم عَمِّه وقال:"لا هجرة"
(1)
.
كذلك مَن حلف على فعل شيء في زمان محدود، كأن يقول: والله لآكلن اليوم كذا وكذا؛ فإن لم يفعله في يومه حَنث، وبعضهم يرى أنه لا بد أن يأكله في الحال
(2)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2116). عن صفوان بن عبد الرحمن القرشي قال: "لما كان يوم فتح مكة جاء بأبيه، فقال: يا رسول الله، اجعل لأبي نصيبًا من الهجرة، فقال: "إنه لا هجرة"، فانطلق فدخل على العبَّاس، فقال: قد عرفتني؟ قال: أجل، فخرج العباس في قميص ليس عليه رداء، فقال: يا رسول الله، قد عرفت فلانًا والذي بيننا وبينه، وجاء بأبيه لتبايعه على الهجرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّه لا هِجرة"، فقال العباس: أقسمتُ عليك، فمَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم يده، فمَسَّ يده، فقال: "أبررتُ عَمِّي، ولا هجرةَ"، وضعَّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه".
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (493)، حيث قال:"فإن قال في بعض اليوم: والله لا أكلمك اليوم، فاليَمينُ على باقي اليوم، فإذا غربت الشمس سَقطت اليَمين".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 142)، حيث قال: " (و) حنث (بسويق أو لبن)، أي: بشربهما (في) حَلفه: (لا آكل) طعامًا في هذا اليوم أو =
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا: إِذَا أَتَى بِالمُخَالِفِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا. وَالثَّانِي: هَل يَتَعَلَّقُ مُوجَبُ اليَمِينِ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ أَوْ بِجَمِيعِهِ؟ وَالمَوْضِع الثَّالِثُ: هَل يَتَعَلَّقُ اليَمِينُ بِالمَعْنَى المُسَاوِي لِصِيغَةِ اللَّفْظِ، أَوْ بِمَفْهُومِهِ المُخَصِّصِ لِلصِّيغَةِ وَالمُعَمِّمِ لَهَا؟ وَالمَوْضِعُ الرَّابِعُ: هَلِ اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الحَالِفِ أَوِ المُسْتَحْلِفِ؟).
فهذه أربعة مواضع ذكرها المؤلف جملة، وسيعطف بتفصيل الكلام عنها.
* قوله: (أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
يَرَى السَّاهِيَ وَالمُكْرَهَ
= لفلان؛ لأن شربَهما أكلٌ شرعًا ولغة، وهذأ إن قصد التضييق على نفسه بأن يدخل في بطنه طعامًا، إذ هما من الطعام، فإن قصد الأكل دون الشرب فلا حنث؛ (لا) بشرب (ماء)، ولو ماء زمزم فلا يَحنث إذ هو ليس بطعام عرفًا، وإن كان ماء زمزم طعامًا شرعًا، والعُرف يُقَدَّم كما تَقَدَّم".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 52)، حيث قال:"ولو قيل له: كَلِّم زيدًا اليوم، فقال: والله لا كَلَّمته. انعقدَت على الأبد ما لم يَنو اليوم، فإن كان في طلاق، وقال: أردت اليوم قُبِل في الحكم - أيضًا - للقرينة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 245)، حيث قال:" (ومنها أن يَحلف على فعل شيء أو) على (تركه وينوي في وقت) مُعَيَّن (مثل: أن يحلف لا يَتغَدَّى، وبريد اليوم، أو لا أكلمت، وبريد الساعة، أو دُعي إلى غداء، فحلف لا يتغدى سوى ذلك الغذاء)، لكن هذا المثال من النوع قبله (اختصت يمينه بما نواه) ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 234). حيث قال: " (إن لم يكره بِبِرٍّ) مطلق بأن كان طائعًا مطلقًا في يمين حَنث، أو بر، أو أكره في حنث، فهذه ثلاث صور منطوقة، ومفهومه: أنه إن أكره على الحنث ببر فلا كفارة عليه، لكن بقيود سِتَّة: أن لا يعلم بأنه يُكره على الفعل، وأن لا يَأمر غيره بإكراهه له، وأن لا يكون الإكراه شرعيًّا
…
".
وينظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 142). حيث قال: " (و) حنث (بالنسيان)، أي: بفعل المحلوف عليه نسيانًا (إن أطلق) في يمينه ولم يقل: لا أفعله ما لم أَنْسَ، وإلا فلا حِنث بالنسيان
…
".
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (3/ 710). حيث قال: "فيحنث =
بِمَنْزِلَةِ العَامِدِ، وَالشَّافِعِيُّ
(1)
يَرَى أَنْ لَا حِنْثَ عَلَى السَّاهِي، وَلَا عَلَى المُكْرَهِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} المائدة: 89]، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَامِدٍ وَنَاسٍ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(2)
، فَإِنَّ هَذَيْنِ العُمُومَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ).
ذكر المؤلف رحمه الله أَنْ لَا فرق عند مالك بين الناسي والساهي والمكره، وأنهم بمثابة العامد، وكذلك الملجأ وهو من هُدِّد وأُلجئ على أن يحلف يمينًا من الأيمان، والحقيقة أن في مذهبه تفصيلًا، فقد خالف في ذلك بعض المالكية وذكروا أن للناسي والمكره أحكامًا تخصهما
(3)
.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه لا شيء عليهما
(4)
.
وذهب الحنابلة إلى التفصيل، فوافقوا الشافعية في أنه لا شيء على المكره والناسي
(5)
.
= بفعل المحلوف عليه مكرهًا، خلافًا للشافعي، (وكذا) يَحنث (لو فعله وهو مُغمى عليه أو مجنون)، فيُكَفِّر بالحِنث كيف كان".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 3). حيث قال: "وأجمعوا على انعقادها ووجوب الكفارة بالحِنث فيها، وشرط الحالف يُعلم مما مَرَّ في الطلاق وغيره، بل ومما يأتي من التفصيل بين القصد وعدمه، وهو مُكَلَّف أو سكران مختار قاصد، فخرج صبيّ ومجنون ومكره ولاغ".
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن ماجه (2043) بلفظ: عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ الله قد تَجاوز عن أُمَّتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه"، وصححه الألباني في "الإرواء"(82).
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 234). حيث قال: " (قوله: وحنث بالنسيان)، أي: على المعتمد، خلافًا لابن العربي، والسيوري، وجمع من المتأخرين. حيث قالوا: بعدم الحنث بالنسيان، وفاقًا للشافعي".
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 237). حيث قال: " (الثالث: الحنث في يمينه)؛ =
وفي رواية أُخرى في المذهب أن الناسي لا شيء عليه
(1)
، وأما المكره فإنه ينقسم إلى قسمين: مكره أُلجئ على هذا العمل، بمعنى: أكره عليه، ومكره لم يُلجأ، ولكنه هدد فخاف، فالأول كالناسي لا شيء عليه
(2)
، وفي الثاني روايتان: رواية وافقوا فيها الشافعية، وأنه لا شيء عليه، والأخرى وافقوا فيها المالكية، وأنه بمثابة العامد
(3)
.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله سبب اختلافهم في هذه المسألة، وهو ما يبدو من تعارض بين ظاهر الآية والحديث؛ قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [لمائدة: 89]، وقال:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، فالآية مطلقة لم تفرق بين ناسٍ ومكره وعامد، وفي الحديث:"إنَّ اللهَ وَضَع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه"
(4)
.
والظاهر أن لا تعارض؛ فقد جاء الحديث مخصصًا لما جاء في
= لأن مَن لم يَحنث لم يَهْتِك حُرمة القسم (بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، ولو معصية)؛ لأن الحنث الإثم، ولا وجود له إلا بما ذكره (مختارًا ذاكرًا، فإن فعله مكرهًا أو ناسيًا فلا كفارة) ".
(1)
في المذهب روايات؛ أحدها: الحنث مطلقًا. والأُخرى: لا يَحنث الناسي والمُكره في غير الطلاق والعتاق. والثالثة: لا يحنث مطلقًا.
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 496). حيث قال: "جملة ذلك: أن من حلف أن لا يفعل شيئًا، ففعله ناسيًا، فلا كفارة عليه. نقله عن أحمد الجماعة، إلا في الطلاق والعتاق، فإنه يحنث
…
وعن أحمد رواية أُخرى: أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضًا
…
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يحنث في الجميع، وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة. وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والزهري، وقتادة، وربيعة، ومالك، وأصحاب الرأي".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 571). حيث قال: " (ولو حلف لا يدخل دارًا، فحُمل فأدخلها، ولم يُمكنه الامتناع لم يحنث)، نَصَّ عليه أحمد، هذا في رواية أبي طالب
…
ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنَّ الفعل غير موجود منه، ولا منسوب إليه".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 571، 572). حيث قال: "وإن أُكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها، لم يحنث في أحد الوجهين، وهو أحد قولي الشافعي، وفي الآخر يحنث. وهو قول أصحاب الرأي".
(4)
تقدَّم.
الآيتين، كما أن الناظر في أصول الشريعة ومقاصدها يجد أن للناسي والمكره أحكامًا تخصهما، وأنه قد خفف عنهما في كثير من الأحكام، كما قال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وعليه فإن القول باستثناء الناسي والمكره، والتفريق بينهما وبين العامد أَوْجَه، وهو الأقرب للُبِّ الشريعة وأصولها.
> قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّانِي، فَمِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَفَعَلَ بَعْضَه، أَوْ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا، فَلَمْ يَفْعَل بَعْضَهُ؛ فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
: إِذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ، فَأَكَلَ بَعْضَه، لَا يَبْرأُ إِلَّا بِأَكْلِهِ كُلِّهِ. وَإِذَا قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ أَنَّهُ يَحْنثُ إِنْ أَكَلَ بَعْضَه. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(3)
أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، حَمْلًا عَلَى الأَخْذِ بِأَكثَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْمُ).
يعني: لو حلف إنسان أن لا يفعل شيئًا ففعل بعضه، أو أن يفعل
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 142). حيث قال: " (و) حنث (بالبعض)؛ فمن حلف لا يأكل رغيفًا فأكل بعضه، ولو لقمة حنث، وهذا في صيغة البر، ولو قيد بالكل، وأما في صيغة الحنث، فلا يَبر بفعل البعض؛ فمن حلف لآكلن هذا الرغيف، وإن لم آكله فأنتِ طالق، فلا يبر بأكل بعضه، وهذا معنى قوله: (عكس البِر)، أي: في صيغة الحنث".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج " للرملي (8/ 204). حيث قال: " (أو ليأكلن هذه الرُّمَّانة، فإنما يَبر بجميع حَبِّها)، أي: أكله؛ لتعلق اليمين بالكل، ولهذا لو قال: لا آكلها، فترك حَبَّة لم يحنث".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 730). حيث قال: " (قوله: لم يحنث إلا بالكل)، أي: بكلام كل القوم المخاطبين، وأكل كل الرغيف، فلا يحنث بكلام بعضهم، ولا أكل لقمة
…
والأصل فيما إذا حلف لا يأكل مُعَيَّنًا، فأكل بعضه إن كان يأكله الرجل في مجلس، أو يشربه في شربة، فالحلف على جميعه، ولا يحنث بأكل بعضه؛ لأن المقصود الامتناع عن أكله، وكل ما لا يُطاق أكله في المجلس ولا شربه في شربة يَحنث بأكل بعضه؛ لأن المقصود من اليمين الامتناع عن أصله، لا عن جميعه".
شيئًا ففعل بعضه، كمن حلف على أن يأكل هذا الرغيف فأكل جُزءًا منه، فهل يكون بارًّا بيمينه أو حانثًا؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة؛ فذهب مالك: إلى أنه لو حلف أن يأكل رغيفًا فأكل بعضه فإنه لم يَبر بيمينه، بل يعتبر حانثًا، وعليه كفارة؛ لأنه ما أكل جميع الرغيف، ووافقه أحمد في هذه الصورة
(1)
.
وذهب الشافعية إلى التفصيل؛ فإن حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه، فإن تناوله أثناء اليوم يعتبر آكلًا له، وكذلك إن لم يأكل أو أكل أكثره فإنه يعتبر آكلًا له؛ لأن العبرة إنما هي بالأكثر، لكن لو أكل بعضه فقط فهم مع الجمهور في هذه الصورة
(2)
.
قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، حَمْلًا عَلَى الأَخْذِ بِأَكْثَرِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْمُ)، هذا فيه شبه تناقض، لأنه قال:(أكل بعضه، ثم حملًا على الأكثر)، لكن لو قال:(أكل أكثره)، فهذا هو مذهب الشافعية المُحَرَّر المعروف في هذه المسألة.
> قوله: (وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمْ يَجْرِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي التَّرْكِ بِأَقَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْمُ، وَأَخَذَ فِي الفِعْلِ بِجَمِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْم، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الاحْتِيَاطِ).
هذا الاعتراض من المؤلف إنما يَردُ على مذهب المالكية لا الحنابلة؛ لأنهم لم يوافقوا في تلك الصورة
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 137). حيث قال: " (و) إن حلف اليفعلن شيئًا لم يَبرأ حتى يفعل جميعه)؛ لأن اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبرأ إلا به؛ فمن حلف ليأكلن الرغيف، لم يبرأ حتى يأكله، أو حلف ليَدخُلَنَّ الدار، لم يَبرأ حتى يدخلها بجملته".
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 137). حيث قال: " (و) إن حلف على شيء (لا يفعله
…
ففعل) الحالف أو المحلوف عليه (بعضه)؛ كمن حلف لا يأكل الرغيف فأكل بعضه (لم يحنث)، نَصَّ عليه فيمن حلف".
قوله: (وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الاحْتِيَاطِ)، أي: مالك رحمه الله، الأحوط أن يُكَفِّر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"
(1)
، ولا شك أن هذا هو الأحوط.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَمِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ القَصْدُ إِلَى مَعْنًى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي لَفَظَ بِهِ أَوْ أَخَصَّ، أَوْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ وَيَنْوِي بِهِ مَعْنًى أَعَمَّ أَوْ أَخَصَّ، أَوْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي حَلَفطَ عَلَيْهِ اسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: لُغَوِيٌّ، وَالآخَرُ: عُرْفِيٌّ، وَأَحَدُهُمَا أَخَصُّ مِنَ الآخَرِ).
صورة المسألة: أن يحلف إنسان على أمر من الأُمور، لكن اللفظ الذي أقسم به يحتمل ذلك اللفظ الظاهر ويحتمل غيره، وكذلك تختلف الحال في اليمين بحسب نيته؛ هل نوى نفس اللفظ الذي نَطَقَ به، أو أنه أطلق، لأنه قد يكون ما في نيته موافقًا للفظ الذي نطق به، وقد يكون مخالفًا كأن يكون اللفظ الذي نطق به ينصرف إلى الخاص وهو يريد العام، أو ينصرف إلى العام وهو يريد الخاص، واختلف العلماء في مثل هذه المسائل، وهل نرجع إلى نيته أو نقف عند ظاهر اللفظ؟
فذهب بعض أهل العلم إلى الوقوف عند ظاهر اللفظ
(2)
، وأنه لا اعتبار للنية في هذا المقام، بدليل أن النية لا تُعتبر بالنسبة للأيمان، فلو نوى الإنسان أمرًا من الأُمور لا يعتبر يمينًا، وإنما تتحقق اليمين باللفظ بها.
وذهب بعضهم إلى أن النية معتبرة في ذلك
(3)
، ويُرجع إليها في كل مسألة شريطة أن يكون ذلك اللفظ محتملًا، فلو حلف إنسان ألا يأكل
(1)
أخرجه النسائي (2518)، وصححه الألباني في "المشكاة"(2773).
(2)
وهم الشافعية والحنفية، وسيأتي.
(3)
وهم الحنابلة، وسيأتي.
خبزًا، ثم قال: إنَّما نويت ألا أدخل دارًا، فلا اعتبار لنيته في هذه الحال، لأن اللفظ لا يحتمل.
وكذلك لو حلف على أمر له حقيقتان؛ إحداهما: عرفية، والأخرى: لغوية، لكن أحدهما أقرب إلى الذهن من الآخر، فهل ينصرف إلى المعنى اللغوي أو إلى المعنى العرفي؟
(1)
.
وكذلك إذا حلف الإنسان على أمر وكان مجملًا؛ فهل نرجع إلى قرائن الأحوال التي دعته إلى اليمين أو لا؟ فهذا كله مما
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 323)، حيث قال: "والأصل أن الأيمان مبنيَّة على العرف عندنا
…
؛ لأن المتكلم إنما يتكلم بالكلام العرفي، أعني: الألفاظ التي يراد بها معانيها التي وضعت في العرف، كما أن العربي حال كونه من أهل اللغة إنما يتكلَّم بالحقائق اللغوية، فوجب صرف ألفاظ المتكلِّم إلى ما عُهِد أنه المراد بها".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"شرح الخرشي"(3/ 69، 70)، حيث قال: "فإن لم يكن للحالف نية وليس ثَمَّ بِساط تُحمل يمينه عليه حُمِلت على العرف القولي؛ لأنه غالب قصد الحالف
…
(ص) ثم مقصد لغوي. (ش)، أي: ثم إن عدم ما ذكر اعتبر مخصصًا ومقيدًا مقصد لغوي، أي: مدلول لغوي، فيحمل اللفظ على ما يدل عليه لغة، كقوله: والله لا أركب دابة، وليس لأهل بلده عُرف في الدابة، بل لفظ الدابة عندهم يُطلق على معناه لغة، وهو كل ما دب، فإنه يحنث حينئذ بركوبه، ولو كتمساح".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 213)، حيث قال: " (ولو) تعارض المجاز والحقيقة المشتهرة قُدِّمت عليه
…
فإن كان المجاز مشتهرًا قُدِّم على الحقيقة المرجوحة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"(6/ 254 - 262)، حيث قال: "والاسم اللغوي، وهو الحقيقة، أي: اللفظ المستعمل في وضع أول (ما لم يغلب مجازه
…
فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل الشَّحم
…
ونحوه لم يحنث)؛ لأنه لا يُسمَّى لحمًا
…
، والعرفي: ما اشتهر مجازه حتى على حقيقته، أي: اللغوية (بحيث لا يعلمها أكثر الناس)؛ لأنه إذا لم يشتهر يكون مجازًا لغة، عرفيًّا لاستعمال أهل العرف له في غير المعنى اللغوي، وذلك أن اللفظ قد يكون حقيقة لغوية في معنى ثم يغلب على معنى آخر عرفي
…
(فإن حلف على وطء امرأة تعلقت يمينه بجماعها)؛ لأنه الذي ينصرف إليه اللفظ في العُرف".
اختلفت فيه أنظار العلماء، على النحو الذي سيُفَصِّله المؤلف رحمه الله تعالى.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا بِالمُخَالَفَةِ الوَاقِعَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الحَلِف، وَإِنْ كَانَ المَفْهُومُ مِنْهُ مَعْنًى أَعَمَّ أَوْ أَخَصَّ مِنْ قِبَلِ الدَّلَالَةِ العُرْفِيَّةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِيمَ أَحْسَبُ لَا يَعْتَبِرُونَ النِّيَّةَ المُخَالِفَةَ لِلَّفْظِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُونَ مُجَرَّدَ الأَلفَاظِ فَقَطْ)
(1)
.
من المباحث الأُصولية المعروفة مبحث العموم والخصوص، وأنه قد يُتلفظ بالعام ويراد به الخاص، وقد يطلق الخاص ويراد به العام
(2)
، ومن إطلاق الخاص وإرادة العام: قول الله سبحانه وتعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، فالقطمير: هنا المراد به اللفافة التي على النواة
(3)
، وقوله:{لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، وهي النقرة التي في ظهر النواة، والمراد هنا: المعنى العام لا الخاص.
ومنه قول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يخفرون بِذِمَّةٍ
…
ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَردل
(4)
(1)
سيأتي مفصلًا.
(2)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 336). حيث قال: "قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في كتاب البيع: والفرق بينهما: أن الذي أُريد به الخصوص ما كان المراد به أقل، وما ليس بمراد هو الأكثر. قال أبو علي ابن أبي هريرة: وليس كذلك العام المخصوص، لأن المراد به هو الأكثر، وما ليس بمراد هو الأقل. قال: ويفترقان في الحكم من جهة أن الأول لا يصحُّ الاحتجاج بظاهره، وهذا يمكن التعلق بظاهره اعتبارًا بالأكثر".
(3)
يُنظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 421). حيث قال: "القطمير: وهو اللفافة التي على نَواة التمرة".
(4)
البيت لقيس بن عمرو بن مالك، من قصيدة هجا بها ابنَ أُبي بن مقبل من بني العجلان. وينظر:"خزانة الأدب" لعبد القادر البغدادي (1/ 231).
في بعض روايات هذا البيت: (قُبيلة
…
)، وفي بعضها: (قبيلته
…
).
والشاهد قوله: (حبة خردل)، وحبة الخردل يسيرة جدًّا لا تكاد تُذكر، لكنه أراد نفي الظلم عنهم مطلقًا، فهذا من إطلاق الخصوص وإرادة العموم.
ومن إطلاق العام وإرادة الخاص: قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]، فالمقصود بالناس في قوله:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} : أبا سفيان.
ومنه قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] استدل المعتزلة على قولهم: إن القرآن مخلوق بهذه الآية، حيث قال سبحانه:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ، وقل في الآية الأُخرى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]، و (كل) من صيغ العموم، إذًا القرآن مخلوق. وهذا كلام غير صحيح، فإن القرآن إنما هو كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، تكلم به سبحانه وتعالى.
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} هذا من العام الذي أُريد به الخاص، فمعلوم أنها لم تدمر السماوات ولا الأرض، ولا مساكنهم قال تعالى:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]، وفي قراءة:{لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}
(1)
.
قوله: (إذا حلف على شيء بعينه
…
)، أي: إذا حلف ألا يأكل
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(22/ 129). حيث قال: "واختلفت القُرَّاء في قراءة قوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}؛ فقرأ ذلك عامة قُرَّاء المدينة والبَصرة: (لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبًا، بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: {لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، بالياء في (يُرى) ".
شيئًا أو لا يفعل شيئًا؛ فذهب الشافعية
(1)
، والحنفية
(2)
إلى الأخذ بظاهر اللفظ ولا اعتبار بالنية؛ لأن اللِّسان هو الدال على المقصود، وأما النية فلا يُرجع إليها؛ بدليل أنه لو لم يتلفظ بلسانه لما اعتبر قسمًا.
وذهب الحنابلة
(3)
إلى أن اليمين على نية الحالف؛ سواء كان موافقًا لظاهر اللفظ الأصلي بأن كان اللفظ والمعنى متطابقان، أو كان مخالفًا له؛ كأن يحلف على شيء ظاهره العموم ويراد به الخصوص، أو على شيء خاص يراد به العام، وقولهم هذا قريب من مذهب المالكية كما سيأتي؛ إذ يرون أن النية معتبرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الأعمالُ بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى"
(4)
.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ
(5)
، فَإِنَّ المَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ المُعْتَبَرَ
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 186). حيث قال: "والأصل في هذا وما بعده: أن الألفاظ تُحمل على حقائقها، إلا أن يكون المجاز متعارفًا ويريد دخوله فيدخل أيضًا، فلا يحنث أمير حلف: لا يبني داره وأطلق إلا بفعله، ولا مَن حلف لا يحلق رأسه فحلق غيره له بأمره".
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 743 - 745). حيث قال: " (الأيمان مبنيَّة على الألفاظ لا على الأغراض فلو) اغتاظ على غيره، و (حلف أن لا يشتري له شيئًا بفلس، فاشترى له بدرهم) أو أكثر (شيئًا لم يحنث؛ كمن حلف لا يخرج من الباب، أو لا يضربه أسواطًا، أو ليغدينه اليوم بألف، فخرج من السطح وضرب بعضها، وغدى برغيف). اشتراه بألف أشباه (لم يحنث)؛ لأن العبرة لعموم اللفظ إلا في مسائل حلف لا يشتريه بعشر، حنث بأحد عشر بخلاف البيع أشباه".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 245). حيث قال: " (يرجع فيها)، أي: الأيمان (إلى نية حالف إن كان) الحالف (غير ظالم) لها كان (ولفظه يحتملها)، أي: يحتمل النية، فتعلق يمينه بما نواه دون ما لفظ به
…
ولأن كلام الشارع يُصرف إلى ما دل الدليل على أنه أراده دون ظاهر اللفظ، فكلام المتكلِّم مع اطِّلاعه على إرادته أولى، (ويُقبل) منه (حكمًا) أنه أراد ذلك، (مع قرب الاحتمال من الظاهر وتوسطه)؛ لأنه لا يخالف الظاهر".
(4)
أخرجه البخاري (1).
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 136 - 140). حيث قال: "وهذا شروع فيما يخصص اليمين أو يقيدها، وهو خمسة: النية، والبساط، والعُرف القولي، والمقصد =
أَوَّلًا عِنْدَهُ فِي الأَيْمَانِ الَّتِي لَا يُقْضَى عَلَى حَالِفِهَا هُوَ النِّيَّة، فَإِنْ عُدِمَتْ فَقَرِينَةُ الحَالِ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَعُرْفُ اللَّفْظِ، فَإِنْ عُدِمَ فَدَلَالَةُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: لَا يُرَاعَى إِلَّا النِّيَّةُ أَوْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ فَقَطْ. وَقِيلَ: يُرَاعَى النِّيَّةُ وَبِسَاطُ الحَالِ
(1)
، وَلَا يُرَاعَى العُرْفُ).
شرع المؤلف رحمه الله في تفصيل مذهب مالك في هذه المسألة، فقوله:(الأيمان التي لا يُقضى على حالفها)، أي: الأيمان التي لا تُطلب منه في مجلس القضاء في حال الخصومة، فإن المعتبر حينئذ نية المستحلِف لا المستحلَف (الحالف)، لأنه من طلب اليمين، فاليمين هنا يرجع فيها إلى نية المستحلف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على نِيَّة المُستحلف"
(2)
، وفي الحديث الآخر:"يَمِينك على ما يُصدقك به صاحبك"
(3)
.
إذًا، المالكية والحنابلة
(4)
يفرقون بين أن يكون اليمين في مجلس القضاء ويترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية، أو أن يكون في غيره، فإن كان في مجلس القضاء فالمعتبر في ذلك إنما هو يمين المستحلِف، وإن كان في غيره فالمعتبر إنما هو نية الحالف؛ لأن القاضي يَطلب منه أن يحلف بالله، وفي هذه الحالة ليس له أن يحلف متأولًا، لأن القاضي إنما يقضي بين الخصمين على نحوٍ مما يَسمع، ومتى ظهر له الحق حَكَمَ به؛ عن طريق الحلف، أو عن طريق الشهادة، أو غير ذلك، ولذا قال
= اللغوي، والمقصد الشرعي
…
وما مشى عليه من تأخير الشرعي عن اللغوي ضعيف، والراجح تقديمه عليه".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 139). حيث قال: "وهو السبب الحامل على اليمين، إذ هو مَظِنَّة النية، فليس هو انتقالًا عن النية، بل هو نية ضمنًا".
(2)
أخرجه مسلم (20 - 1653).
(3)
أخرجه مسلم (21 - 1653) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمينُك على ما يُصَدِّقُك عليه صاحبُك".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع " للبهوتي (5/ 319 - 320). حيث قال: " (فإن كان الحالف ظالمًا كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده لم ينفعه تأويله)، قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه".
النبي صلى الله عليه وسلم: "لعلَّ أحدَكم يكون أَلحن في حُجَّته من الآخر فأقضي على نحو مما أسمع، فمَن قضيتُ له مِن حَقِّ أخيه شيئًا، أو من مال أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار؛ فإن شاء فليأخذها، وإن شاء فليدعها"
(1)
، فدل على أن قضاء القاضي لا يُبيح لك أمرًا تعلم أنك لا تستحقه، وذلك أن حكم القاضي مبني على ما ظهر له من أدلة وقرائن.
وأما في غير مجلس القضاء فتعتبر النية، فإذا لم تظهر النية فقرينة الحال، وتُعرف بالرجوع إلى الأسباب، فلو أن إنسانًا حلف على زوجته ألا يدخل هذه الدار، أو ألا يلبس ثوبًا من غزلها، فإنه يُرجع إلى قرائن الأحوال التي حصلت في المقام، فربما تحدد المقصود من هذا اليمين، فإن عُدمت فَعُرْف اللفظ، أي: العرف الذي اصطلح عليه، فلو أن إنسانًا حلف على أمر وأطلقه، فحينئذ نرجع إلى العُرف الذي اصطلح عليه الناس، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند اللّه سيئ، فإن عُدِم فدلالة اللغة، والمالكية على هذا الترتيب، وقد اختلف الحنابلة
(2)
فيه، والأقرب على ما ذكره المؤلف.
قوله: (وَقِيلَ: لَا يُرَاعَى إِلَّا النِّيَّةُ، أَوْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ فَقَطْ): هذا خلاف في مذهب مالك رحمه الله.
قوله: (وقيل: يراعى النية وبساط الحال، ولا يُرَاعى العُرف): البساط: النشر، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)} [نوح: 19]، أي: نشرها
(3)
، فبساط الحال، أي: نشر الشيء، فينظر إلى ما يكون له علاقة بهذه الحالة.
(1)
أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713).
(2)
يُنظر: "شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 455). حيث قال: "فإن عُدم ذلك، أي: ما تقدّم ذكره من النية والسبب (رجع إلى التعين)؛ لأنه أبلغ من دلالة الاسم على مسماه؛ لنفيه الإبهام". وانظر:، "المغني" لابن قدامة (9/ 556).
(3)
يُنظر: "تفسير ابن كثير"(8/ 234). حيث قال: " {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)}، أي: بسطها ومهدها، وقَرَّرها، وثَبَّتها بالجبال الراسيات الشُّمِّ الشامخات".
* قوله: (وَأَمَّا الأَيْمَانُ الَّتِي يُقْضَى بِهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ الحَالِفُ مُسْتَفْتِيًا، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ اليَمِينِ الَّتِي لَا يُقْضَى بِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كانَ مِمَّا يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا إِلَّا اللَّفْظ، إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ لِمَا يَدَّعِي مِنَ النِّيَّةِ المُخَالِفَةِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ قَرِينَةُ الحَالِ أَوِ العُرْفِ)
(1)
.
فرق بين مجلس الفتوى ومجلس القضاء؛ لأن حكم القاضي مُلزم بخلاف حكم المفتي، فمن جاء مستفتيًا فإنه يعامل معاملة الحالف في غير مجلس القضاء، فحكم المفتي ليس بملزم.
قوله: (وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ)؛ لأن القاضي إنما يحكم بما ظهر له من القرائن كشهادة الشهود مثلًا، ولا يلتفت إلى نية أحد الخصمين إلا أن تكون هناك قرائن مرجحة.
ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من شهادة الزور، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُحدثكم بأكبر الكبائر؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"الإشراك بالله وعقوق الوالدين". قال: وجلس وكان متكئًا فقال: "وشهادة الزور - أو - قول الزور"، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حتى قلنا: ليته سكت"
(2)
، وذلك لما يترتب على شهادة الزور من أمور خطيرة من ضياع الحقوق، أو إزهاق نفس ظلمًا، وغير ذلك.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 161). حيث قال: "النية المساوية للفظ تُقبل مطلقًا في الفتوى والقضاء، ولو بطلاق وعتق مُعَيَّن مع المرافعة
…
والنية إذا كانت تُقبل عند المفتي مطلقًا كانت اليمين بالله أو بغيره، ولا تقبل عند القاضي مع المرافعة إذا كانت اليمين بطلاق أو عتق معين
…
".
(2)
أخرجه البخاري (5976)، ومسلم (87).
* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اليَمِينَ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ فِي الدَّعَاوَى، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ الأَيْمَانِ عَلَى المَوَاعِيدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَى نِيَّةِ الحَالِفِ. وَقَالَ قَوْم: عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ"
(1)
، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكُ"
(2)
، خَرَّجَ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ مُسْلِمٌ. وَمَنْ قَالَ: اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الحَالِفِ، فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ المَعْنَى القَائِمَ بِالنَّفْسِ مِنَ اليَمِينِ لَا ظَاهِرَ اللَّفْظِ)
(3)
.
عاد المؤلف مرة أُخرى للتأكيد على أن اليمين في الدعاوى على نية المستحلِف الذي طلب اليمين، أو الذي طلبت له اليمين، وهذا محل اتفاق، فلا يجوز للحالف في هذه الحالة أن يتأول، وسبق أن التأويل على قسمين:
- تأويل يُراد به رفع الحرج ودفع الضرر، كأن يكون في مكان لو لم يحلف هذه اليمين ويتأول لأدى ذلك إلى قتله، أو إلحاق ضَرَر بأخيه، كما مر بنا في قصة سويد بن غفلة عندما كان معه وائل بن حجر، فإنه كاد أن يقتل؛ لأن أعداءه وضعوا أيديهم عليه، فقال: هذا أخي. ونفى ذلك، ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"صَدَقْتَ هو أخوك في الإسلام، المسلم أخو المسلم"
(4)
.
- وتأويل يراد به إبطال يُبطل حق الغير، فهذا لا ينفعه تأويله.
(1)
أخرجه مسلم (20 - 1653).
(2)
أخرجه مسلم (21 - 1653).
(3)
سيأتي مفصلًا.
(4)
أخرجه أبو داود (3256)، عن سويد بن حنظلة، قال:"خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجر، فأخذه عدو له، فتَحَرَّج القوم أن يَحلفوا، وحَلَفْتُ أنه أخي، فخَلَّى سبيله، فأتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تَحَرَّجوا أن يَحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: "صدقتَ؛ المسلمُ أخو المسلم"، وصححه الألباني.
واختلفوا في الأيمان على نية المواعيد، يعني: أن يحلف في أمر من الأُمور ويُوقته بوقت محدد، على قولين:
القول الأول: أنه على نية المستحلف
(1)
، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اليمين على نية المستحلِف"
(2)
، واستثنى العلماء ما يتعلَّق بالدعاوى والبينات؛ نظرًا لعموم أدلة الشريعة وقواعدها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا:"يَمِينك على ما يُصَدِّقُك به صاحبك"
(3)
، لا على ما تخدع به صاحبك.
القول الثاني: أنه على نية الحالف، وإليه ذهب المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، وعللوا ذلك بأن النية معتبرة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 20). حيث قال: "وأمَّا بيان أن اليمين بالله عز وجل على نية الحالف أو المستحلف؛ فقد روي عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم: أنه قال: "اليمين على نية الحالف إذا كان مظلومًا، وإن كان ظالمًا فعلى نية المُستحلف".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 319، 320). حيث قال: "فإن كان الحالف ظالمًا كالذي يستحلفه الحاكم على حقٍّ عنده لم ينفعه تأويله)، قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه
…
، (وإن كان) الحالف (مظلومًا كالذي يستحلفه ظالمٌ على شيء لو صَدَقَه)، أي: أخبره به على وجه الصدق (لظَلَمه أو ظَلَم غيره أو نال مسلمًا) قلت: أو كافرًا محترمًا - (منه ضرر، فهنا له تأويله) ".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 138)، حيث قال: "وقيدت إلا إن روفع فلا تُقبل نيته في الطلاق والعتق المعين، أو استحلف في حق فلا تنفعه مطلقًا. وحاصله: أنه إذا استحلف في وثيقة فلا تُقبل نيته مطلقًا كانت تلك النية مساوية لظاهر اللفظ، أو كانت مخالفة له قريبة من التساوي لا في الفتوى ولا في القضاء، كانت اليمين بالله أو بطلاق أو بعتق معين أو غير معين منجزًا أو معلقًا، وظاهره عدم القبول، ولو كان الحلف عند غير حاكم، وهو كذلك، وقوله: أو استحلف
…
إلخ، أفهم تعبيره بسين الطلب: أنه لو طاع باليمين في وثيقة حق لنفعته نيته، وهو أحد قولين، والمعتمد أنها لا تنفعه، وأن العبرة بنية الحالف مطلقًا".
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 182). حيث قال: "التورية في الأيمان نافعة، والعبرة فيها بنية الحالف، إلا إذا استحلفه القاضي بغير الطلاق والعتاق".
"إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(1)
، و"ما" من صيغ العموم
(2)
فتشمل كل ما نوى، والنية معتبرة في هذا المقام، لكن أولئك قالوا: أصل اليمين لا تصدر إلا باللفظ. قلنا: نعم، لا تكون إلا بقول اللِّسان لكن ما في القلب يصدقه، وهذا معتبر في هذا المقام في تفعيل المراد.
* قوله: (وَفِي هَذَا البَابِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ هَذِهِ المَسَائِلَ الأَرْبَعَ هِيَ أُصُولُ هَذَا البَابِ، إِذْ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الاخْتِلَافِ الوَاقِعِ فِي هَذَا البَابِ رَاجِعًا إِلَى الاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ، وَذَلِكَ فِي الأَكْثَرِ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأكُلَ رُؤوسًا، فَأَكَلَ رُؤوسَ حِيتَانِ، هَل يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَاعَى العُرْفَ قَالَ: لَا يَحْنَث، وَمَنْ رَاعَى دَلَالَةَ اللُّغَةِ قَالَ: يَحْنَثُ، وَمِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا، فَمَنِ اعْتَبَرَ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الحَقِيقِيِّ، قَالَ: لَا يَحْنَثُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْه، قَالَ: يَحْنَثُ)
(3)
.
أشار المؤلف إلى أن فروع هذا الباب كثيرة، لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب، ثم ذكر المؤلف بعض الأمثلة التي يقاس عليها غيرها من المسائل.
المثال الأول: لو حلف ألا يأكل رؤوسًا، فأكل رؤوس حيتان، فهل يحنث أم لا؟
ظاهر اللفظ أنه عام، فيشمل كل رأس سواءٌ كان رأس خروف،
(1)
أخرجه البخاري (1).
(2)
يُنظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 12). حيث قال في (ألفاظ العموم): "القسم الثالث: أدوات الشرط: كـ "مَن" فيمن يعقل، و"ما" فيما لا يعقل، و"أي" في الجميع، و"أين" و"أيان" في المكان، و"متى" في الزمان، ونحوه".
(3)
سيأتي.
أو رأس دجاجة، أو رأس طير، أو رأس سمكة، أو رأس حوت، أو غير ذلك. هذا من جهة اللغة فيحنث بذلك.
أما من جهة العرف فإنه لا يدخل فيه رأس الحيتان، فلا يحنث بذلك، والأحوط أن يأخذ بما دَلَّت عليه اللغة
(1)
.
المثال الثاني: لو حلف ألا يأكل لحمًا فأكل شحمًا، هل يحنث بذلك أم لا؟
ذهب الشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
إلى أنه لا يحنث، واعتبروا في ذلك دلالة اللفظ الحقيقي، أي: أننا إذا أطلقنا لفظ اللحم فإنه لا يدخل فيه الشحم؛ فمن أكل شحمًا لا يقال: إنه قد أكل لحمًا، وكذلك لو عكس
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 59). حيث قال: "وإن حلف لا يأكل رأسًا؛ فإن نوى الرؤوس كلها من السمك والغنم وغيرها، فأيّ ذلك أكل حَنث؛ لأن اسم الرأس يقع على الكل، وإن لم يكن له نية فهو على رؤوس الغنم والبقر خاصَّة في قول أبي حنيفة".
لمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (20316)، حيث قال:" (لا يأكل الرؤوس) أو الرأس أو لا يشتريها (ولا نية له - حَنث برؤوس تُباع وحدها)، وهي رؤوس الغنم قطعًا، وكذا الإبل والبقر على الصحيح؛ لأن ذلك هو المتعارف، وإن اختص بعضها ببلد الحالف، (لا) برؤوس (طيرٍ وحُوتٍ وصَيْد) وخَيل، (إلا ببلد تُباع فيه مفردة)؛ لكثرتها واعتياد أهلها، فيحنث بأكلها فيه؛ لأنه كرؤوس الأنعام في حق غيرهم".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 236)، حيث قال: " (و) من حلف
…
لا يأكل رأسًا حنث بأكل كل رأس حيوان من الإبل) والبقر والغنم (والصيود، وبأكل رؤوس طيور و) رءوس (سمك وجراد)؛ لعموم الاسم فيه حقيقة وعرف".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 204، 205). حيث قال: " (و) يحمل (اللحم) فيمن حلف لا يأكله (على) لحم (نَعَم) من إبل وبقر وغنم، (و) لحم (خيل)
…
لا (شحم بطن) وشحم عين؛ لمخالفتهما اللحم في الاسم والصفة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع"(6/ 254 - 262)، حيث قال: "والاسم اللغوي، وهو الحقيقة أي: اللفظ المستعمل في وضع أول (ما لم يغلب مجازه
…
، فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم
…
ونحوه لم يحنث)؛ لأنه لا يُسَمَّى لحمًا
…
".
عند الشافعية
(1)
، خلافًا للحنابلة
(2)
، فعندهم أنه لو حلف ألا يأكل شحمًا فأكل لحمًا حَنث؛ لأنه لا يمكن أن يوجد لحم بدون شحم.
وذهب المالكية
(3)
، والحنفية
(4)
إلى أنه يحنث؛ لأنه متولد منه؛ لأن اسم الشيء قد يُطلق على ما تولد منه.
كذلك لو حلف ألا يأكل لحمًا فأكل كبدًا أو كرشة أو طحالًا أو رئة، أو قوانص دجاج، فعلى القول الأول أنه لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في مُسمَّى اللحم، فاللحم المعروف هو الذي يكون من يد الحيوان، أو
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (7/ 84). حيث قال: "وإذا حلف أن لا يأكل لحمًا، فأكل شحمًا، أو لا يأكل شحمًا، فأكل لحمًا لم يحنث في واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما غير صاحبه".
وما ذكره الشيخ وجه عند الشافعية خلاف المشهور.
وينظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 505). حيث قال: "لو حلف لا يأكل شحمًا فأكل اللحم أو البياض الذي على اللحم لا يَحنث. وقال أبو حامد: لا يحنث بالألية بلا خلافٍ. وقد ذكرنا وجهًا آخر يحنث؛ لأنه يُسمَّى شحمًا، قال الله تعالى:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فاستثناه من الشحم، ودليلنا: أنه لا يُسمَّى شحمًا، ولهذا لا يُفرد عن اللحم، ولا يُسمَّى بائعه شحامًا، فلم يحنث به، وإنما يحنث بالشحم الذي ينفرد عن اللحم، وهو شحم الكُلية والكرش
…
".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 254)، حيث قال:"و (لا) يحنث من حلف لا يأكل شحمًا (باللحم الأحمر)؛ لأنه لا يظهر فيه شيء من الشحم".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 144)، حيث قال:" (و) حنث (بالشحم في) حلفه على ترك (اللحم)؛ لأنه جُزء اللحم (لا العكس) بأن حلف لا آكل شحمًا فأكل لحمًا".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع " للكاساني (3/ 58)، حيث قال: "ولو أكل أحشاء البطن مثل الكرش والكبد والفؤاد والكلى والرئة والأمعاء والطحال، ذكر الكرخي أنه يحنث في هذا كله إلا في شحم البطن، وهذا الجواب
…
في زمن أبي حنيفة وفي الموضع الذي يُباع مع اللحم. وأما في البلاد التي لا يباع مع اللحم - أيضًا - فلا يحنث به، فأما شحم البطن فليس بلحم، ولا يتخذ منه ما يتخذ من اللحم، ولا يباع مع اللحم أيضًا، فإن نواه يحنث؛ لأنه شَدَّد على نفسه، وكذلك الألية لا يحنث بأكلها؛ لأنها ليست بلحم، فإن أكل شحم الظهر أو ما هو على اللحم حنث؛ لأنه لحم لكنه لحم سمين".
من فخذيه، أو من ظهره، أو من رقبته، أما ما عدا ذلك فلا يُسمَّى لحمًا.
وعلى القول الثاني: أنه يحنث؛ لأنه يشمله اسم اللحم أيضًا.
والأولى للمسلم أن يتجنب مواضع الشبه، وأن يحتاط لدينه، وإذا ما تردد في أمر فليحتط ويكفر عن يمينه.
كذلك اختلفوا فيما لو حلف ألا يأكل تمرًا فأكل رطبًا، والصحيح أنه لا يحنث؛ لأن الرطب غير التمر، وكذلك لو حلف ألا يأكل بسرًا
(1)
فأكل رطبًا
(2)
، في مسائل أُخرى كثيرة يَصعب حصرها.
> قوله: (بالجُمْلَةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي المَسَائِلِ الفُرُوعِيَّةِ الَّتِي فِي هَذَا البَابِ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذ المَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَرَاجِعَةٌ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي دَلَالَاتِ الألفَاظِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا مَا هِيَ مُجْمَلَةٌ، وَمِنْهَا مَا هِيَ ظَاهِرَ، وَمِنْهَا مَا هِيَ نُصُوصٌ).
والعلماء - كما ذكر المؤلف - يُرجعون الاختلاف في هذه المسائل إلى دلالات الألفاظ من حيث كونها نصًّا أو ظاهرًا وما إلى ذلك، وإنما
(1)
البُسر، قال الجوهري: البُسر: أوله طلع، ثم خلال، ثم بلح، ثم بُسر، ثم رطب، ثم تمر، والواحدة: بُسْرَة وبُسَرَةٌ". انظر: "المطلع" للبعلي (474).
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 347). حيث قال: " (قوله: لا يأكل بُسرًا فأكل رطبا لا يحنث)، لأنه ليس ببسر".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 456)، حيث قال:"ولو حلف أن لا يأكل رطبًا لم يحنث بأكل البسر، وهذا لا خلاف فيه".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (7/ 207)، حيث قال:"ولا يتناول رطب تمرًا ولا بسرًا، ولا عنب زبيبًا، وكذا العكوس".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 256)، حيث قال: "وإن أكل البُسر من يمينه على الرُّطب، أو) أكل (الرطب من يمينه على البُسر لم يحنث)؛ لأنهما لم يفعلا ما حَلَفَا على تركه؛ لأنَّ كلًّا من البُسر والرطب مغاير للآخر
…
ولو حلف (لا يأكل رطبًا فأكل تمرًا أو بلحًا أو بسرًا، أو) حلف (لا يأكل تمرًا فأكل بسرًا أو بلحًا أو رطبًا أو دبسًا أو ناطفًا - لم يحنث) ".
أشار المؤلف إلى أصول المسائل التي يُرَدُّ إليها غيرها
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(والفَصْلُ الثَّانِي فِي رَافِعِ الحِنْثِ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الكَفَّارَةَ فِي الأَيْمَان هِيَ الأَرْبَعَةُ الأَنْوَاعِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ فِي كتَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الآيَةَ. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الحَالِفَ إِذَا حَنِثَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْهَا، أَعْنِي: الإِطْعَامَ، أَوِ الكِسْوَةَ، أَوِ العِتْقَ
(2)
، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنْ هَذِهِ الثَلَاثَةِ
(3)
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَلَّظَ اليَمِينَ، أَعْتَقَ أَوْ كسَا، وَإِذَا لَمْ يُغَلِّظْهَا أَطْعَمَ
(4)
).
(1)
تقدَّم مفصلًا.
(2)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 372)، حيث قال:"وأجمع أهل العلم على أنَّ الحالف في يمينه بالخيار؛ إن شاء أطعم، وإن شاء أعتق، وإن شاء كسا، أيُّ ذلك فَعَل يُجزئه".
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 372)، حيث قال:"واتفقوا أن من عجز عن رقبة، أو كسوة، أو إطعام، فصام ثلاثة أيام يجوز صيامها من حُر، أو عبد، أو ذَكر، أو أنثى في حين حِنثه، فكفر حينئذ ولم يُؤخر إلى تبَدُّل حاله، فصام ثلاثة أيام متتابعات أجزأه".
(4)
أخرجه مالك (2/ 479)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول:"مَن حلف بيمين فوكدها، ثم حنث. فعليه عتق رقبة. أو كسوة عشرة مساكين، ومَن حلف بيمين فلم يُؤكدها، ثم حنث فعليه إطعام عشرة مساكين. لكل مِسكين مُدٍّ من حنطة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام".
ملخص بمسائل اليمين:
- مَن حلف يمينًا بالله سبحانه أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته فإنه تَلزمه الكفارة إن لم يَبر بيمينه
(1)
.
- كفارة اليمين على ما بَيَّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه
(2)
.
- أن لغو اليمين لا كفارة فيه
(3)
؛ قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
- لا يجوز لمسلم أن يُقسم بغير الله سبحانه وتعالى مهما كانت مكانة هذا المُقسم به؛ سواء كانت الكعبة، أو مَلَكًا، أو رسولًا، أو بأبِ الإنسان، أو بغير ذلك
(4)
.
- حكم التشريك بين خمسة مساكين في الطعام أو الكسوة
(5)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 367)، حيث قال:"واتفقوا أن من حلف باسم من أسماء الله عز وجل كما ذكرنا: أن يفعل هو بنفسه في وقت كذا، فمر ذلك الوقت ولم يفعل هو بنفسه ما حلف عليه، عامدًا لذلك، ذاكرًا ليمينه مُؤثرًا للحنث، وكان الذي ترك دون الذي حلف على فعله في الخير أنَّه حانث، وأن الكفارة تلزمه".
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 367)، حيث قال:"وأجمعوا أن اللغو في اليمين لا يَجب فيه الكفارة".
(4)
يُنظر. "الإقناع" لابن القطان (1/ 366)، حيث قال:"وأجمعت الأمة أن من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليَصمت".
(5)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع " للكاساني (5/ 106). حيث قال: "ولو أطعم خمسة مساكين على وجه الإباحة وكَسَا خمسة مساكين، فإن أخرج ذلك على وجه المنصوص عليه لا يجوز لما ذكرنا أن الله تبارك وتعالى أوجب أحدَ شَيئين، فلا يجمع بينهما".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 133). حيث قال: " (ولا تجزئ) الكفارة حال كونها (مُلفقة) من نوعين فأكثر، كإطعام مع كسوة، وأما من صنفي نوع فيجزئ في الطعام، فيجوز تلفيقها من الأمداد والأرطال والشبع".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 192). حيث قال: "وخرج بقول المصنف: عشرة مساكين ما إذا أطعم خمسة وكسا خمسة، فإنه لا يجزئ
…
".=
- هل يجوز إعتاق نصف مملوك، وإطعام خمسة مساكين أو كسوتهم
(1)
.
- أوصاف المطعوم المجزئ في الكفارة
(2)
.
- حكم إطعام مسكين واحد عشرة أيام
(3)
.
- حكم إطعام خمسة مساكين على يومين
(4)
.
- إذا تعذر العشرة فهل يجزئ إطعام مسكين واحد عشر مرات؟
(5)
.
- حكم إطعام مسكين أهل الذِّمة
(6)
.
وقد أغفل المؤلف رحمه الله ذِكر أكثر هذه المسائل، وذكر بعضها على الإجمال، وهذا ما سنبيِّنه إن شاء الله تعالى
(7)
.
= ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 560). حيث قال: "مسألة، قال (ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين، وكسا خمسة)، وجملته: أنه إذا أطعم بعض المساكين، وكسا الباقين، بحيث يستوفي العدد - أجزأه، في قول إمامنا والثوري".
(1)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 112)، حيث قال:"وأما تكميله بالإطعام، كما لو حرر عنها نصف عبد، وأطعم عن الباقي لم يجز أيضًا عند أبي حنيفة؛ لأنها إنما تتأدى بإعتاق رقبة أو بإطعام مساكين مقدرة".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 133). حيث قال: " (ولا تجزئ) الكفارة حال كونها (ملفقة) من نوعين فأكثر، كإطعام مع كسوة، وأما من صنفي نوع فيجزئ في الطعام فيجوز تلفيقها من الأمداد والأرطال والشبع".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 192). حيث قال: "وخرج بقول المصنف: عشرة مساكين ما إذا أصعم خمسة وكسا خمسة، فإنه لا يجزئ، كما لا يجزئ إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 551). حيث قال: "كما لو أعتق نصف عبد في كفارة اليمين، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم، لم يجزئه".
(2)
ستأتي، عند قول المصنف:"فِي مِقْدَارِ الإِطْعَامِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِن العَشَرَةِ مَسَاكِين".
(3)
ستأتي عند قول المصنف: "فِي اشْتِرَاطِ العَدَدِ فِي المَسَاكِينِ".
(4)
ستأتي عند قول المصنف: "فِي اشْتِرَاطِ العَدَدِ فِي المَسَاكِينِ".
(5)
ستأتي عند قول المصنف: "فِي اشْتِرَاطِ العَدَدِ فِي المَسَاكِينِ".
(6)
ستأتي عند قول المصنف: "اشْتِرَاطُ الإِسْلَامِ وَالحُرِّيَّةِ فِي المَسَاكِينِ".
(7)
ستأتي مفصَّلَة.
حكم كفارة اليمين:
أمَّا كفارة اليمين من حيث حكمها فإنها ثابتة بالكتاب والسُّنة والإجماع:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89].
ومن السُّنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حلفتَ على يمين فرأيتَ غيرَها خيرًا منها فَأْتِ الذي هو خيرٌ، وكَفِّر عن يمينك"
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خير وتَحَلَّلْتُها"
(2)
، والله عز وجل يقول:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أنواع هذه الكفارة
(3)
.
أنواع الكفارة:
وهي أربعة:
الأول: إطعام عشرة مساكين.
والثاني: كسوتهم.
والثالث: تحرير رقبة. وهذه الثلاثة على التخيير، كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وهو عند أحمد وغيره قال:"ما جاء في كتاب الله بأو فهو مخير، وما جاء: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فالأول إلزام"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652).
(2)
أخرجه البخاري (6680)، ومسلم (1649).
(3)
تقدَّم.
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 102)، عن علي بن أبي طلحة، عن =
قوله: (إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غَلَّظ اليمين أعتق أو كسا، وإذا لم يُغلظها أطعم)
(1)
: هذا اجتهاد من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على أساس ترتيب المشقة فيها، فأشقها العتق ثم الكسوة، ثم الإطعام.
والرابع: صيام ثلاثة أيام، ولا ينتقل إليه إلا إذا تعذر ما سبق.
مسألة: المملوك إذا حنث في يمينه فإنه لا يُطالب بإطعام ولا بكسوة ولا بعتق؛ لأنه لا مال له، وإنما يطالب بالصيام، وليس لسيده أن يمنعه منه؛ لأنه حق ثبت لله عز وجل، فليس له أن يمنعه، كما أنه لا يمنعه من صيام شهر رمضان ومن أداء الصلوات؛ فإنها مفروضة في حقه، وإن كان له أن يمنعه من صلاة الجماعة أحيانًا، كما سبق بيان ذلك في أبواب الصلاة.
ولو أراد أحد أن يدفع عنه الكفارة فإنه لا يلزمه، ولا يعتبر بذلك واجدًا؛ لأن العبرة بالتملك.
وذهب الشافعية إلى أنه ليس له أن يقبل إلا الابن من والده، أو الوالد من ولده؛ لأنه لا مِنَّة فيها
(2)
.
= ابن عباس رضي الله عنهما في آية كفارة اليمين، قال:"هو بالخِيار في هؤلاء الثلاث الأول، فإن لم يجد شيئًا من ذلك فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وفي رواية ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"كل شيء في القرآن: (أو)، فهو مُخَيَّر، فإذا كان لم يجد، فهو الأول الأول".
(1)
تقدَّم.
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 478)، حيث قال: " (قوله: والعبد) مبتدأ خبره قوله: لا يجزئه إلا الصوم؛ لأن العبد لا يملك وإن ملك، والعتق والإطعام لا يصح إلا ممن يملك. (قوله: ولو مكاتبًا)
…
(لا يجزئه إلا الصوم) المذكور ولم يتنصف؛ لما فيها من معنى العبادة، وليس للسيد منعه منه".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 530)، حيث قال:"وأما العبد فإنما يُكفر بالصوم، فإن عجز بقيت دَيْنًا عليه في ذِمَّتِه ما لم يأذن له سيِّدُه في الإطعام".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 18)، حيث قال: " (ولا يكفر)
…
(عبد بمال) لعدم ملكه (إلا إذا ملكه سيده) أو غيره (طعامًا أو كسوة)؛ ليكفر بهما أو مطلقًا. (وقلنا) بالضعيف: (إنه يملك)
…
(بل يكفر)
…
(بصوم)؛=
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي سَبْعِ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي مِقْدَارِ الإِطْعَامِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ العَشَرَةِ مَسَاكين. الثَّانِيَةُ: فِي جِنْسِ الكِسْوَةِ إِذَا اخْتَارَ الكِسْوَةَ وَعَدَّدَهَا. الثَّالِثَةُ: فِي اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ الثَّلَاثَةِ الأَيَّامِ، أَوْ لَا اشْتِرَاطِهِ. الرَّابِعَةُ: فِي اشْتِرَاطِ العَدَدِ فِي المَسَاكينِ. الخَامِسَةُ: فِي اشْتِرَاطِ الإِسْلَامِ فِيهِمْ وَالحُرِّيَّةِ. السَّادِسَةُ: فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ فِي الرَّقَبَةِ المُعْتَقَةِ مِنَ العُيُوبِ. السَّابِعَةُ: فِي اشْتِرَاطِ الإِيمَانِ فِيهَا).
المسائل المتعلقة بهذا الباب - باب كفارة اليمين - قد تبلغ المائة مسألة، ذكر المؤلف منها سبع مسائل مشهورة.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا مِقْدَارُ الإِطْعَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَهْلُ المَدِينَةِ
(3)
: يُعْطَى لكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: المُدُّ خَاصٌّ بِأَهْلِ المَدِينَةِ فَقَطْ لِضِيقِ مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا سَائِرُ المُدُنِ، فَيُعْطُونَ الوَسَطَ مِنْ
= لعجزه عن غيره، (فإن ضره) الصوم في الخدمة (وكان حلف وحَنث بإذن سيده صام بلا إذن)، وليس له منعه، لإذنه في سببه".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 66)، حيث قال:(ويكفر العبد بالصيام)؛ لأنه لا مال له ولا مكاتبًا، لأن ملكه ضعيف".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132)، حيث قال: " (إطعام عشرة مساكين)
…
(لكل)، أي: لكل واحد (مُد) ممَّا يخرج في زكاة الفطر".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 182)، حيث قال:" (وإطعام عشرة مساكين كل مسكين مد حَبٍّ) أو غيره مما يُجزي في الفطرة؛ فيعتبر (من غالب قوت بلده)، أي: المُكَفِّر".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 200)، حيث قال: "وحدثني عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أنه قال: أدركتُ الناسَ وهم إذا أَعطوا في كفارة اليمين أَعطوا مُدًّا من حِنطة بالمُدِّ الأصغر، ورأوا ذلك مجزئًا عنهم
…
فذهب أهل المدينة إلى ما حكاه مالك".
نَفَقَتِهِمْ
(1)
، وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ
(2)
: يَجْرِي المُدُّ فِي كلِّ مَدِينَةٍ، مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: يُعْطِيهِمْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، قَالَ: فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أجَزْأَهُ)
(4)
.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن يعطي كل مسكين مُدًّا من حنطة - يعني: من البر - وبه قال مالك والشافعي وأهل المدينة، إلا أن مالكًا رحمه الله ذلك بأهل المدينة لضيق حالهم مقارنة بحال غيرهم كأهل الشام وفارس والعراق، لكن إن خرج منها يزيد على المد.
واختلف المالكية
(5)
في قدر الزيادة، فقال بعضهم: يخرج مدًّا ونصف المد، وقال بعضهم: يخرج مدًّا وثلث المد، وقال بعضهم: لا فرق بين المدينة وغيرها؛ لأنه حكم شرعي، ولا تتغير الأحكام باختلاف البلاد، فقال ابن القاسم: "إنه يجري المد في كل مدينة،
(1)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (1/ 591)، حيث قال: "قلت: أرأيت كم إطعام المساكين في كفارة اليمين؟ قال: قال مالك: مُدٌّ مُدٌّ لكل مسكين
…
وأما أهل البلدان فإنَّ لهم عيشًا غير عيشنا، فأرى أن يُكَفِّروا بالوسط من عَيشهم، يقول الله:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ".
(2)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (1/ 592)، حيث قال:"قال (ابن القاسم): هكذا فَسَّر لنا مالك كما أخبرتُك وأنا أرى إن كَفَّر بالمُدِّ؛ مُد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجزئ عنه حيثما كَفَّر به".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 101، 152)، حيث قال:" (وأما) الذي يرجع إلى مقدار ما يطعم، فالمقدار في التمليك: هو نصف صاع من حنطة، أو صاع من شعير، أو صاع من تمر، كذا روي عن سيدنا عمر وسيدنا عليٍّ وسيدتِنا عائشة".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع " للكاساني (5/ 102). حيث قال: " (وأما) المقدار في طعام الإباحة فأكلتان مُشبعتان غداء وعشاء، وهذا قول عامة العلماء. وعن ابن سيرين وجابر بن زيد
…
أنه يُطعمهم أكلة واحدة
…
والصحيع قول العامة".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132)، حيث قال:" (وندب بغير المدينة زيادة ثلثه)، قال أشهب: (أو نصفه)، قاله ابن وهب فـ "أو" لتنويع الخلاف، وعند الإمام الزيادة بالاجتهاد لا بحد، وهو الوجه".
وهذا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله"
(1)
.
القول الثاني: أن يعطي كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من غيره، وبه قال أبو حنيفة
(2)
، وأحمد
(3)
، ومستند تفريقهم بين الحنطة وغيرها حديث معاوية رضي الله عنه الذي خرجه مسلم
(4)
وغيره.
قوله: (فإن غَدَّاهم وعشَّاهم أجزأه): هو قول مالك أيضًا
(5)
.
وذهب الشافعي إلى أنه لا بد أن يدفع لكل واحد منهم مدًّا من حنطة، وذلك أنهم يتفاوتون في الأكل؛ فيعطى كل واحد ما يخصه
(6)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الروض المربع" للبهوتي (696)"فصل: في كفارة اليمين (يُخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مُد بر، أو نصف صاع من غيره".
(4)
أخرجه مسلم (985)، وغيره، عن أبي سعيد الخدري، قال:"كنا نُخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعًا من طعام، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب" فلم نزل نُخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا، أو معتمرًا فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كَلَّم به الناس أن قال:"إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تَعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أُخرجه كما كنت أخرجه، أبدًا ما عشتُ".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132). حيث قال: " (كشبعهم) مرتين كغداء وعشاء، أو غداءين أو عشاءين، وسواء توالت المَرَّتان أم لا فصل بينهما بطول أم لا مجتمعين - العشرة - أو متفرقين متساوين في الأكل أم لا، والمعتبر الشبع الوسط في المرتين، ولو أكلوا أكثر من العشرة الأمداد في كل مرة أو لم يبلغ الأمداد العشرة".
(6)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (8/ 79). حيث قال: "وقوله: (بإطعام) راعى فيه لفظ القرآن، والمراد: تمليكهم، وفي الحديث:(أطعم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجَدَّة السُّدُس)، أي: مَلَّكها، فلو غَدَّاهم وعَشَّاهم بذلك .. لم يجزئ كما في الزكاة
…
".
وهو مذهب الحنابلة في المشهور، ويُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 32). حيث قال: "ولو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه، سواء فعل ذلك بالقدر الواجب، أو أقل، أو أكثر، ولو غَدَّى كل واحد بمُدٍّ، لم يجزئه، إلا أن يُمَلِّكه إياه. وهذا مذهب الشافعي، وعن أحمد رواية أُخرى: أنه يُجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم".
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، هَلِ المُرَادُ بِذَلِكَ أَكلَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ قُوتُ اليَوْمِ، وَهُوَ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ؟ فَمَنْ قَالَ: أَكْلَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ: المُدُّ وَسَطٌ فِي الشِّبَعِ. وَمَنْ قَالَ: غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ، قَالَ: نِصْفُ صَاعٍ. وَلاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ تَرَدُّدُ هَذ الكَفَّارَةِ بَيْنَ كفَّارَةِ الفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ الأَذَى، فَمَنْ شَبَّهَهَا بِكَفَّارَةِ الفِطْرِ قَالَ: مُدٌّ وَاحِدٌ، وَمَنْ شَبَّهَهَا بِكَفَّارَةِ الأَذَى قَالَ: نِصْفُ صَاعٍ).
شرع المؤلف في ذكر أسباب الخلاف في هذه المسألة، وأنه راجع إلى أمرين:
الأول: اختلافهم في تأويل قول الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، والتوسط في الأُمور من سمات هذه الشريعة، ففي حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال:"إنك ستأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله"، ثم قال: "فأخبرهم أن الله فرض عليهم الصدقة تُؤخذ من أغنيائهم، وتُرد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإيَّاك وكرائم
(1)
أموالهم"
(2)
، أي: تجنب أنفس الأموال، وإنما خذ من أوساطها، وقال أيضًا:"خير الأُمور أوسطها"
(3)
، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
(1)
كرائم أموالهم: أي: نفائسها التي تتعلق بها نفس مالكها، ويختصها لها، حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها. وواحدتها: كريمة". انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 176).
(2)
أخرجه البخاري (4347)، ومسلم (19).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" بلاغًا (3/ 387)، عن عمرو بن الحارث قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرًا بين أمرين، وخير الأمور أوساطها". قال البيهقي: "هذا مُنقطع". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1252)، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(8/ 519) عن مطرف، قال:"خيرُ الأُمور أوساطها"، وقال الألباني:"إسناده صحيح موقوف". انظر: "السلسلة الضعيفة"(14/ 1164).
وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]، فالاعتدال مطلوب في الشريعة، فلا يكلف الإنسان أمرًا يشق عليه، فمبنى هذه الشريعة على التيسير ورفع الحرج.
وقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} : فقيل: المراد: أسرته التي ينفق عليها، ويعيش معها.
وقيل: أهل بلدته ومجتمعه الذي يحيط به.
ورجح الإمام ابنُ العربي المالكي المعنى الأول
(1)
.
الثاني: تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدًا في رمضان وبين كفارة الأذى.
وكفارة الأذى هي التي أشار إليها بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فمن شبهها بكفارة الفطر قال: مد واحد
(2)
، ومن شبهها بكفارة الأذى قال: نصف صالح
(3)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا، هَل يَكُونُ مَعَ الخُبْزِ فِي ذَلِكَ إِدَامٌ
(4)
أَمْ لَا؟
(5)
وَإِنْ كانَ، فَمَا هُوَ الوَسَطُ فِيهِ؟ فَقِيلَ: يَجْزِي الخُبْزُ قِفَارًا، وَقَالَ
(1)
يُنظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 158)، حيث قال:"وإنما يخرج الرجل مما يأكل. وقد زلتُ هاهنا جملة من العلماء؛ فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير، ويأكل الناس البُرَّ فليخرج مما يأكل الناس، وهذا سَهو بَيِّن، فإن المُكَفِّر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يُكَلَّف أن يُعطي لغيره سواه".
(2)
وهم المالكية والشافعية والحنابلة، وتقدَّم.
(3)
وهم الحنفية، وتقدَّم.
(4)
الإدام بالكسر، والأُدم بالضم: ما يُؤكل مع الخبز أي شيء كان. انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 31).
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132). حيث قال: " (أو) لكل (رطلان خبزًا) بالبغدادي أصغر من رطل مصر بيسير (بأدم) ندبًا فيجزئ بلا إدام على الراجح، والتمر والبقل إدام".
ابْنُ حَبِيبٍ: "لَا يَجْزِي". وَقِيلَ: الوَسَطُ مِنَ الإِدَامِ: الزَّيْتُ. وَقِيلَ: اللَّبَنُ وَالسَّمْنُ وَالتَّمْرُ"
(1)
).
من فروع هذه المسألة: اختلافهم فيما لو أخرجها من دقيق أو خبز؛ فهل يكفيه إخراجه قفارًا
(2)
، أي: ليس معه شيء أم لا بد من إضافة ما يؤتدم به من زيت أو عسل أو لحم ونحوه؟
فذهب ابن حبيب من المالكية إلى أنه لا يجزئ الخبز قفارًا.
واختلفوا في الوسط من الإدام، فقال ابن عمر فيما نقله عنه أحمد أنه قال في تفسير هذه الآية:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} : "هو التمر واللبن"، وروي عنه أنه قال:"السمن"، وروي عنه:"الخبز والزيت والخبيز والسمن".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "هو الخبز واللحم".
ولا شك أن اللحم أجود هذه الأنواع.
وسئل شريح عنه فقال: "هو الخبز والخل. قيل: فما بال الخبز واللحم؟ قال: ذاك أغلاه"
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 59). حيث قال: "ويندب أن يكون ذلك بأُدم من لحم أو لبن أو زيت أو بقل أو قطنية، ويجزئ قفار على الأصوب، قاله ابن ناجي، وهو مذهبها خلافًا لابن حبيب".
(2)
القفار: الطعام بلا أدم وأقفر الرجل: إذا أكل الخبز وحده، من القفر والقفار، وهي الأرض الخالية التي لا ماء بها. وجمعه:"قفار". انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 89).
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 540). حيث قال: "روى الإمام أحمد، في كتاب (التفسير)، بإسناده عن ابن عمر: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. قال: الخبز واللبن. وفي رواية عنه، قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن".
وقال أبو رزين: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} : خبز وزيت وخَل. وقال الأسود بن يزيد: الخبز والتمر. وعن علي: الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم. وعن ابن سيرين، قال: كانوا يقولون: أفضله: الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه: الخبز والتمر. وقال عبيدة: الخبز والزيت.=
* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: مَنِ الأهْلُ الَّذِينَ أَضَافَ إِلَيْهِمُ الوَسَطَ مِنَ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]؟ فَقِيلَ: أَهْلُ المُكَفِّرِ، وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُخْرَجُ الوَسَطُ مِنَ الشَّيءِ الَّذِي مِنْهُ يَعِيشُ؛ إِنْ قِطْنِيَّةً فَقِطْنِيَّةٌ، وَإِنْ حِنْطَةً فَحِنْطَةٌ. وَقِيلَ: بَل هُمْ أَهْلُ البَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَالمُعْتَبَرُ فِي اللَّازِمِ لَهُ: هُوَ الوَسَطُ مِنْ عَيْشِ أَهْلِ البَلَدِ لَا مِنْ عَيْشِهِ، أَعْنِي الغَالِبَ، وَعَلَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يُحْمَلُ قَدْرُ الوَسَطِ مِنَ الإِطْعَامِ، أَعْنِي الوَسَطَ مِنْ قَدْرِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَه، أَوِ الوَسَطَ مِنْ قَدْرِ مَا يُطْعِمُ أَهْلُ البَلَدِ أَهْلِيهِمْ إِلَّا فِي المَدِينَةِ خَاصَةً"
(1)
).
اختلف أصحاب مالك في المراد بالأهل الذين أضاف الوسط إليهم على النحو الذي مر ذكره، فعلى القول الأول يخرج من الوسط الذي منه يعيش وأهل بيته الذين تلزمهم نفقته.
قوله: (إن قطنية فقطنية): القطنية
(2)
، أي: الدائمة التي تلزم مكانها؛ مثل: العدس والفول والحمص وأمثال هذه الأشياء.
وعلى القول الثاني: يخرج من وسط عيش أهل البلد، لا من عيشه هو، وهذا يختلف باختلاف البلدان.
= وسأل رجل شريحًا ما أوسط طعام أهلي؟ فقال شريح: إن الخبز والخل والزيت لطيب. فقال له رجل: أفرأيت الخبز واللحم؟ قال: أرفع طعام أهلك وطعام الناس".
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 132). حيث قال: "هذا بخلاف الطعام فإن المعتبر فيه عيش أهل البلد على المعتمد، وقيل: المعتبر عيش المكفر، وقيل: المعتبر الأعلى منهما إن قدر على الأعلى".
(2)
القِطْنِيَّةُ: حُبوب كثيرة تُقْتَاتُ وتُختبز، فمنها الحمص والعَدَسِ، والبُلُس، ويقال له: البَلَسُ وهو التين، وسميت هذه الحبوب قطنية؛ لقطونها في بيوت الناس". انظر:"المطلع" للبعلي (166).
والأولى أن يخرجه من الوسط الذي يعيش منه؛ قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، فليس كل الناس على نَسَق واحد أو في درجة واحدة من حيث الغنى والفقر، فالوسط - إذًا - أن يكفر الإنسان على قدر حاله.
قوله: (إلا في المدينة خاصة)
(1)
، المقصود، أي: مدينة كانت من المدن الكبيرة كالتي تُسمَّى الآن بالعواصم، حيث تجمع جمعًا غفيرًا من الناس، وتكون محلًّا للتجارات والصناعات، وتكثر فيها الحركة عن المدن والقرى الصغيرة.
تتمة:
يندرج تحت هذه المسألة فروع لم يتعرض لها المؤلف، منها:
أولًا: من الذي يُطْعَم؟
وكان من المناسب أن يذكر المؤلف هذه المسألة أولًا؛ قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، فـ (مساكين) جاءت في الآية مطلقة فهل يدخل في ذلك الفقير أو لا؟ وهل يجزئ إطعام أي مسكين؛ سواء كان مسلمًا أو ذميًّا أو حربيًّا، أو أن هذا خاص بالمسلم؟
(2)
.
المسكين مأخوذ من المسكنة، كأنه لُصق بالتراب، والفقير مأخوذ من فقرات الظهر، فكأنه خلي ظهره من بعض فقراته، إذًا هو أمس حاجة؛ لأنه عاجز، ولذا ذهب الحنابلة
(3)
إلى أن الفقير أشد حاجة من المسكين، وذهب بعض العلماء
(4)
إلى أن المسكين أشد حاجة من الفقير، لكن لم
(1)
تقدَّم.
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 469)، حيث قال:"إلا أنَّ الفقير أشد حاجة من المسكين، من قِبَل أن الله تعالى بدأ به، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم".
(4)
وهم الحنفية، ويُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 43). حيث قال: "واختلف أهل التأويل واللغة في معنى الفقير والمسكين، وفي أن أيهما أشد حاجة وأسوأ حالًا،=
يختلفوا على أنه لو أوصى إنسانٌ لفقير دخل فيه المسكين، ولو أوصى لمسكين دخل فيه الفقير، ولو أوقف بيتًا على مساكين دخل الفقراء، ولو أوقفه على الفقراء دخل المساكين أيضًا.
إذًا هما لفظان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، ولذلك قال أهل العلم: إن هذه الشريعة لم تُفرق بين المسكين والفقير، ولم يفرق بينهما إلا في آية الزكاة، حيث جعلهما الله عز وجل صِنْفين؛ وذلك لأهمية الزكاة.
إذًا؛ الشرط الأول: أن يكون مسكينًا، فيخرج بذلك الغني، وأضاف بعضهم شرطًا آخر، وهو أن يكون مسلمًا؛ لأنه أحق من غيره، وهذا قول الجمهور
(1)
.
وذهب بعضهم إلى أنه يدخل في ذلك الذِّمي؛ لأنه يعيش بين المسلمين
(2)
.
وذهب سفيان الثوري إلى أنه يجوز أن يُعطى منها الذمي إذا لم يوجد غيره، أما إذا وجد مسلم فلا
(3)
.
ثانيًا: صفة المطعوم:
لا خلاف بين أهل العلم في جواز إخراجها حَبًّا، بل هو المتعين عند المالكية والشافعية، واختلفوا فيما لو أخرجها من دقيق أو من خبز، فهل يكفيه ذلك أم لا بد من إضافة ما يؤتدم به من زيت أو عسل أو لحم ونحوه؟
(4)
.
= قال الحسن: الفقير الذي لا يَسأل. والمسكين الذي يسأل، وهكذا ذكره الزهري. وكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا يدل على أن المسكين أحوج".
(1)
سيأتي.
(2)
وهم الحنفية، وسيأتي.
(3)
سيأتي.
(4)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(4793)، حيث قال: " (وإن) أراد =
ثالثًا: حكم إخراج القيمة:
ذهب الجمهور - المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
- إلى عدم جواز إخراج القيمة وإن زاد؛ لأن الله تعالى نَصَّ على الإطعام، خلافًا للحنفية الذين توسعوا في ذلك، وقالوا بجواز إخراجها قيمة
(4)
.
= الإباحة (فغَدَّاهم وعَشَّاهم)، أو غداهم وأعطاهم قيمة العشاء، أو عكسه، أو أطعمهم غداءين، أو عشاءين، أو عشاء وسحورًا وأشبعهم - (جاز)، بشرط إدام في خبز شعير وذرة إلا بُر".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 59). حيث قال: "ويندب أن يكون دلك بأدم من لم أو لبن أو زيت أو بقل أو قطنية، ويجزئ قفار على الأصوب، قاله ابن ناجي، وهو مذهبها خلافًا لابن حبيب".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 51). حيث قال: " (مما)، أي: من جنس الحَبِّ الذي (يكون فطرة)، فتخرج من غالب قوت بلد المكفر، فلا يجزئ نحو الدقيق والخبز".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهي" للرحيباني (5/ 529)، حيث قال:"وإخراج بُر أفضل عند أحمد من إخراج الدقيق والسَّويق، وتجزئان بوزن الحَب، وإن أخرجهما بالكيل زاد على كيل الحب؛ لأنه قد لا يكون بقدره وزنًا؛ لأن الحب إذا طحن توزع. (ولا يجزئ به خبز)؛ لخروجه عن الكيل والادخار؛ أشبه الهريسة، (ولا يجزئ) في كفارة (غير ما يجزئ في فطرة، ولو كان) ذلك (قوت بلده)؛ لأن الكفارة وجبت طهرة للمكفر عنه، كما أن الفطرة طهرة للصائم، فاستويا في الحكم".
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 272). حيث قال: "لا تجزي القيمة عن الإطعام والكسوة".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 119)، حيث قال:" (قلت: الواجب: الحَبُّ) حيث تعين فلا تجزئ القيمة اتفاقًا، ولا الخبز، ولا الدقيق، ولا السويق، ونحو ذلك؛ لأن الحَب يَصلح لما لا تصلح له هذه الثلاثة (السليم)، فلا يجزئ المسوس وإن كان يقتاته والمعيب؛ قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 388) حيث قال: " (ولا يجزئ إخراج القيمة)؛ لأن الواجب هو الإطعام، وإعطاء القيمة ليس بإطعام، (ويجب أن يملك المسكين القدر الواجب من الكفارة، فإن غَدَّى المساكين أو عشَّاهم ولو بمد فأكثر لكل واحد لم يجزئه)؛ لأن الإعطاء هو المنقول عن الصحابة، ولأنه مالك واجب للفقراء أشبه الزكاة". وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 35).
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 479)، حيث قال: "والحاصل: أن دفع القيمة إنما =
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ المُجْزِئُ مِنَ الكِسْوَةِ، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
رَأَى أَنَّ الوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكْسِيَ مَا يَجْزِي فِيهِ الصَّلَاة، فَإِنْ كسَا الرَّجُلَ، كسَا ثَوْبًا، وَإِنْ كسَا النِّسَاءَ، كسَا ثَوْبَيْنِ؛ دِرْعًا وَخِمَارًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ: إِزَارٌ، أَوْ قَمِيصٌ، أَوْ سَرَاوِيلُ، أَوْ عِمَامَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
(4)
: لَا تَجْزِي العِمَامَة، وَلَا السَّرَاوِيلُ).
مرجع اختلافهم في هذه المسألة: أن الله تعالى نص على الكسوة، ولم يُحدد نوعها، فبعضهم أخذ بمفهوم اللغة، فقال: ما ينطلق عليه الكسوة، وتوسَّع بعضهم، وبعضهم ربطها بأحكام الصلاة.
فذهب مالك وأحمد
(5)
إلى أن المُجزئ من الكسوة هو ما يُجزئ فيه
= يجوز لو دفع من غير المنصوص، أما لو دفع منصوصًا بطريق القيمة عن منصوص آخر لا يجوز إلا أن يَبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعًا، فلو دفع صالح تمر تبلغ قيمته نصف صالح بكر لا يجوز، وعليه أن يتم لمن أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه لهم، فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132). حيث قال: " (أو كسوتهم)، أي: العشرة، ويكفي الملبوس الذي فيه قوة على الظاهر؛ (للرجل ثوب) يستر جميع جسده لا إزار أو عمامة، (وللمرأة درع)، أي: قميص ساتر (وخمار، ولو غير وسط) كسوة (أهله) ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 17). حيث قال: " (أو كسوتهم بما يُسمَّى كسوة)، ويعتاد لبسه بأن يُعطيهم ذينك على جهة التمليك، وإن فَاوَتَ بينهم في الكسوة".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 105). حيث قال: "فأدنى الكسوة: ثوب واحد جامع لكل مِسكين؛ قميص، أو رداء، أو كساء، أو ملحفة، أو جُبَّة، أو قباء، أو إزار كبير، وهو الذي يستر البدن؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ الكسوة
…
، فكل ما يُسمَّى لابسه مكتسيًا يجزي، وما لا فلا".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 105). حيث قال: "وروي عن أبي يوسف أنه لا تجزي السراويل والعمامة، وهو رواية عن محمد في "الإملاء".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 242) حيث قال: " (أو قميص يجزئه أن يصلِّي=
الصلاة؛ لأهمية الصلاة، فما يكفيه فيها يكفيه في غيرها، فيكسو الرجل ثوبًا والمرأة ثوبًا - أي: درعًا - وخمارًا، والدِّرع: هو ثوب المرأة
(1)
، والخمار: ما تغطي به رأسها
(2)
.
وتصح صلاة الرجل في الثوب الواحد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُصَلِّي أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"
(3)
، ولحديث أنس رضي الله عنه قال: "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحًا
(4)
به"
(5)
، وفي رواية:"مُلتفًا به"
(6)
.
وأما ما يظنه البعض من لزوم لبس الطاقية أو الغُترة في الصلاة فليس بصحيح، بل هذا راجع لعادات الناس وتقاليدهم.
وقال أبو حنيفة والشافعي: "إن المجزئ من ذلك هو أقل ما ينطلق
= فيه الفرض نصًّا)، نقله حرب (بأن يجعل على عاتقه منه شيئًا) بعد ستر عورته، (أو ثوبان يأتزر بأحدهما، ويرتدي بالآخر، ولا يجزئه مئزر وحده ولا سراويل) وحده؛ لأن الفرض لا يجزئ فيه، (وللمرأة درع)، أي: قميص (وخمار يجزئها أن تُصَلِّي فيه)؛ لأن ما دون ذلك لا يجزئ لابسه في الصلاة، ويُسمَّى عريانًا، (وإن أعطاها) المكفر (ثوبًا واسعًا يمكن أن يستر) الثوب (بدنها ورأسها أجزأه) إناطة بستر عورتها".
(1)
درع المرأة: قميصها. انظر: "المطلع" للبعلي (80).
(2)
الخمار بكسر الخاء، وهو المعروف الذي تلفُّ به المرأة رأسها، سُمِّي بذلك لستره، وكل ما ستر شيئًا فهو خمار". انظر:"المطلع" للبعلي (37).
(3)
أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516)، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُصَلِّي أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء".
(4)
المتوشِّح: يُخالف بين طرفي ثوبه. انظر: "العين" للخليل (4/ 268).
(5)
أخرجه مسلم (518)، عن جابر، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي في ثوب واحد متوشحًا به".
وأخرجه النسائي عن أنس (785)، قال:"آخر صلاة صلَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم صَلَّى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر"، وصححه الألبانى في "صفة الصلاة"(1/ 83).
(6)
أخرجها مسلم (517)، عن عمر بن أبي سلمة، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفًا مخالفًا بين طرفيه"، زاد عيسى بن حماد في روايته، قال: على منكبيه".
عليه الاسم - أي: ما يُسمَّى بلغة العرب لباسًا - يصح، فلو أعطاه سِروالًا أو عمامة أو عباءة أو ثوبًا أو إزارًا أجزأه؛ لأنه أقل ما يطلق عليه في لغة العرب: أنه كساء، أو يطلق عليه أنه كساء، ولا نكبده فوق ما جاء به النص، لكنهم اختلفوا في تقدير ذلك، فاشترط أبو حنيفة أن يَدفع له من ذلك قميصًا أو إزارًا أو رداء أو كساء.
إذًا؛ الحنفية وسط في هذا الموضع بين الشافعية، وبين المالكية والحنابلة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُجْزِي العِمَامَة، وَلَا السَّرَاوِيلُ): أي: أنه يميل إلى مذهب المالكية والحنابلة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الوَاجِبُ الأَخْذُ بِأَقَلِّ دَلَالَةِ الاسْمِ اللُّغَوِيِّ أَوِ المَعْنَى الشَّرْعِيِّ؟).
ختم المؤلف هذه المسألة بتلك العبارة التي تصلح أن تكون قاعدة فقهية، ويُفرع عليها مسائل كثيرة، فقوله:(هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي)
(1)
يعد توضيحًا لقوله في مسائل المسح على الرأس متن كتاب (الطهارة): (هل العبرة الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟)، وإن كانت هي نفسها من العبارات المحيرة في هذا الكتاب.
(1)
يُنظر: "نهاية الوصول" للصفي الهندي (2/ 374). حيث قال: "اللفظ إن لم يكن له معنى سِوى اللغوي وَجَب حملُه عليه. وإن كان له بحسب العرف أو الشرع معنى آخر، فإن كانت دلالته عليه مساوية لدلالته على المعنى اللغوي، أو كانت راجحة عليها، لكن لم ينتبه الرجحان إلى أن يَصير المعنى اللغوي مهجورًا بالكلية، فإن اللفظ يكون كالمشترك بينهما، ورجحانه كرجحان بعض مفهومات المشترك على البعض، وإن صار مهجورًا بالكلية، فاللفظ يجب حمله على المفهوم العرفي أو الشرعي، وعند الاجتماع يجب تقديم المعنى الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي، ثم المجاز إن صدر اللفظ من الشارع، أمَّا إن صدر من أهل العرف أو اللغة، فإنه يجب تقديم المعنى العرفي أو اللغوي؛ لأن الظاهر من حال المتكلم أن يتكلم بكلامه".
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ تَتَابُعِ الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّيَامِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
وَالشَّافِعِيَّ
(2)
لَمْ يَشْتَرِطَا فِي ذَلِكَ وُجُوبَ التَّتَابُعِ، وَإِنْ كَانَا اسْتَحَبَّاه، وَاشْتَرَطَ ذَلك أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ شيئان، أَحَدُهُمَا: هَل يَجُوزُ العَمَلُ بِالقِرَاءَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي المُصْحَفِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:{فصيام ثلاثة أيام متتابعات} . وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ هَل يُحْمَلُ الأَمْرُ بِمُطْلَقِ الصَّوْمِ عَلَى التَّتَابُعِ، أَمْ لَيْسَ يُحْمَلُ؟ إِذَا كَانَ الأصْلُ فِي الصِّيَامِ الوَاجِبِ بِالشرْعِ إِنَّمَا هُوَ التَّتَابُعُ).
سبق أن المُكَفِّر بالخيار بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد انتقل إلى الصيام، واختلف العلماء هل لا بد فيه من التتابع أم لا؟
فذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة في رواية إلى عدم اشتراطه
(4)
، إلا أنه يستحب له ذلك.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 133). حيث قال: " (ثم) إذا عجز وقت الإخراج عن الأنواع الثلاثة بأن لم يكن عنده ما يُباع على المفلس لزمه (صوم ثلاثة أيام)، ونُدب تتابعها".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 192). حيث قال: " (فإن عجز عن) كل واحد من (الثلاثة) المذكورة (لَزِمه صوم ثلاثة أيام)؛ لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
…
(ولا يجب تتابعها في الأظهر)؛ لإطلاق الآية. والثاني: يجب؛ لأن ابن مسعود قرأ: {ثلاثة أيام متتابعات} .
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 727). حيث قال: " (وإن عجز عنها) كلها (وقت الأداء) عندنا
…
(صام ثلاثة أيام وِلاء)
…
(قوله: ولاء) بكسر الواو والمَدِّ، أي: مُتتابعة؛ لقراءة ابن مسعود وأُبَي: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات}، فجاز التقييد بها؛ لأنها مَشهورة، فصارت كخبره المَشهور".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 555). حيث قال: "وحكى ابن أبي موسى، عن أحمد رواية أُخرى: أنه يجوز تفريقها
…
؛ لأن الأمر بالصوم مطلق، فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأنه صام الأيام الثلاثة، فلم يجب التتابع فيه".
ووجه ذلك: أن الله عز وجل قال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ، ولم يُشر إلى التتابع، فينبغي العمل بظاهر الآية.
وذهب الحنفية والحنابلة في المشهور عنهم إلى اشتراط التتابع
(1)
.
وحجتهم: ما جاء في قراءة أُبي بن كَعب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}
(2)
، وقد حكاها عنهما الإمام أحمد وجماعة في كتب التفسير، فيجب الأخذ بها؛ لأنها من كتاب الله عز وجل.
وإن قلنا: بأنها ليست من القرآن، فتكون بمثابة التفسير، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم فَسَّرها، فسمع ذلك ابنُ مسعود منه، فظن ذلك قراءة، فأقل ما يقال فيها: إنَّها تفسير يَنبغي الأخذ به.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ اشْتِرَاطُ العَدَدِ فِي المَسَاكينِ فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، أَجْزَأَهُ).
وَهَذ المسألة لها عِدَّة صور:
الصورة الأولى: أن يُطعم مسكينًا واحدًا عشرة أيام يُغَدِّيه ويُعَشِّيه، أو يُعطيه كل يوم مدًّا.
الصورة الثانية: إذا لم يجد إلا مسكينًا واحدًا، فهل يكفي أم لا بد من العشرة؟
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 243)، حيث قال:" (ويجب التتابع في الصوم)؛ لقراءة أُبَي وابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}، حكاه أحمد، ورواه الأثرم، وكصوم الظِّهار، (إن لم يكن عذر)، فيَسقط به وجوب التتابع". وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 555).
(2)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 559 - 565). حيث قال: "عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: كان أُبيُّ بن كَعب يقرأ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} "، وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال:"في قراءة عبد الله: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} ".
الصورة الثالثة: إذا وجد خمسة فهل يجزئ أن يطعمهم أو يكسوهم مرتين أم لا يجزئ؟
وهذا كله مما اختلفت فيه أقوال العلماء.
فذهب المالكية إلى أنه لا يجزئه إلا أن يطعم عشرة مساكين
(1)
.
وذهب الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
إلى أنه إن وجد عشرة مساكين فإنه لا يجوز له أن يطعم دونهم، وإن لم يجد إلا مسكينًا واحدًا فإنه يطعمه عشرة أيام.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن أطعم مسكينًا واحدًا عشرة أيام أجزأه
(4)
.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الكَفَّارَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْعَدَدِ المَذْكورِ، أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى المُكَفِّرِ، فَقُدِّرَ بِالعَدَدِ المَذْكُورِ؟ فَإِنْ قُلنَا: إِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْعَدَدِ كَالوَصِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ العَدَدِ، وَإِنْ قُلنَا:
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 58). حيث قال: "وإنما عبر بالإطعام تبركًا بالقرآن، وإلا فالواجب تمليك عشرة، كما عَبَّر به في الظهار، وأما العدد فلا بد منه".
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (18/ 119). حيث قال نـ "فإذا لم يجد إلا مسكينًا واحدًا رَدَّد عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام، وبهذا قال أحمد وأبو ثور
…
".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 543). حيث قال: " (ومَن لم يُصِب إلا مسكينًا واحدًا رَدَّد عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام) ". ونَصُّوا عليها في الظِّهار، ويُنظر:"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 175)، حيث قال:" (ولا) يجزئ (ترديدها على مسكين) واحد (ستين يومًا) (إلا أن لا يجد) مسكينًا (غيره)، فيُجزئه؛ لتعذر غيره وترديدها إذن في الأيام المتعددة في معنى إطعام العدد؛ لأنه يدفع به حاجة المسكين في كل يوم، فهو كما لو أطعم في كل يوم واحدًا، فكأنه أطعم العدد".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 104). حيث قال: "وهل يشترط عدد المساكين سورة في الإطعام تمليكًا وإباحة؟ قال أصحابنا: ليس بشرط
…
حتى لو دفع طعام عشرة مساكين وذلك خمسة أصوع إلى مسكين واحد في عشرة أيام كل يوم نصف صالح، أو غَدَّى مسكينًا واحدًا أو عَشَّاه عشرة أيام أجزأ عندنا".
حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى المُكَفِّرِ، لكِنَّهُ قُدِّرَ بِالعَدَدِ، أَجْزَأَ مِنْ ذلِكَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عَلى عَدَدِ المَذْكُورِينَ، وَالمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ).
أي: هل الحكم مناط بالعدد أو بالمكفر، فيكون واجبه أن يطعم عشرة، سواء كانوا عشرة في العدد، أو واحدًا يطعمه عشر مرات أو يكسوه عشر مرات؟
فإن قلنا: إنه حق واجب للعدد كالوصية، فلا بد من اشتراط العدد، فلو أن إنسانًا أوصى لعدد من الفقراء، فلا يجوز أن تُصرف لواحد، بل لا بد من أن تُدفع إلى هذا العدد.
وإن قلنا: واجب على المُكَفِّر لكنه قُدِّر بالعدد، فإنه يجزئ من ذلك إطعام مسكين واحد عشر مرات.
وأخذ الجمهور بظاهر الآية، وأنها نص في إطعام العشرة، فلا ينبغي أن نتجاوز هذا العدد إلا إذا تَعَذَّر، وعجزنا عنه.
وذهب الحنفية إلى أن العدد ليس مقصودًا، وإنما القصد الإطعام، سواء أطعم العشرة أو أطعم واحدًا عشرة أيام في كل يوم مرة.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَهِيَ اشْتِرَاطُ الإِسْلَامِ وَالحُرِّيَّةِ فِي المَسَاكينِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
اشْتَرَطَاهُمَا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 132). حيث قال: " (إطعام عشرة مساكين
…
بالإطعام: التمليك، وبالمسكين: ما يعم الفقير، وشرطه: الحرية والإسلام، وعدم لزوم نفقته على المخرج".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 50). حيث قال: " (لا)
…
(كافرًا) ولو ذميًّا، (ولا هاشميًّا، و) لا (مطلبيًّا)، ومَن تلزمه نفقته؛ كزوجته وقريبه، ولا إلى مَكفي بنفقة قريب أو زوج، ولا إلى عبد ومُكاتب؛ لأنها حق لله تعالى، فاعتبر فيها صفات الزكاة".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 479). حيث قال: "ويجوز إطعام الذِّمي لا الحربي ولو مستأمنًا بحر. قال الرملي: وفي "الحاوي": وإن أطعم فقراء أهل الذمة جاز. وقال أبو يوسف: لا يجوز، وبه نأخذ".
ذكر المؤلف رحمه الله شرطين يجب توافرهما في المسكين الذي يستحق الإطعام، وهما: الإسلام والحرية، وأضاف بعض العلماء شرطًا آخر وهو: أن يكون ممن يتناول الطعام، فلا تُدفع إلى طفل صغير لم يُفطم بعد
(1)
.
فصارت الشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون مسلمًا.
الثاني: أن يكون حرًّا.
الثالث: أن يكون ممن يُطعم الطعام.
أما الإسلام والحرية؛ فهما شرطان عند مالك، والشافعي، وأحمد
(2)
، أما الإسلام فقياسًا على غيرها من المسائل التي جاءت مقيدة في الشريعة، كما في كفارة القتل الخطأ، وأما الحرية فلأن المملوك نفقته
(1)
وهم الحنفية، ويُنظر:"حاشية ابن عابدين"(4783). حيث قال: "
…
وأمَّا إطعام الصغير عن الكفارة فجائز بطريق التمليك لا الإباحة
…
وفي "التتارخانية": وإذا دعا مساكين وأحدهم صبي فَطيم، أو فوق ذلك لا يجزيه كذا ذكر في الأصل. وفي "المجرد": إذا كانوا غلمانًا يعتمد مثلهم يجوز". اهـ. وبه ظهر أيضًا أن المراد بالفطيم وبغير المراهق مَن لا يستوفي الطعام المعتاد".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 132). "والرضيع كالكبير فيهما)، أي: في الكسوة والإطعام بنوعيه الأمداد والخبز، بشرط أن يأكل الطعام، وإن لم يستغن به عن اللبن على الأصح؛ فيعطى رطلين خبزًا ولو لم يأكله إلا في مرات، ولا يكفي إشباعه المرتين إلا إذا استغنى عن اللبن، ويُعطى كسوة كبير".
ولمذهب الشافعي، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (8/ 78)، حيث قال:"ولا فرق في المسكين بين الكبير والصغير والرَّضيع والفطيم".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 528). حيث قال: " (ويجزئ دفعها)، أي: الكفارة الصغير من أهلها)، كما لو كان كبيرًا، (ولو لم يأكل الطعام)؛ لأنه حر مسلم محتاج؛ أشبه الكبير (ويقبض له وليه)، وكذا الزكاة. وتقدم، وأكله للكفارة ليس بشرط، ويصرف ما يعطى للصغير إلى ما يحتاج إليه مما تتم (به) كفايته، (و) يجزئ دفعها المكاتب)؛ لأنه يأخذ من الزكاة ما يحتاج إليه أشبه الحُر المسكين".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 242). حيث قال: " (فيُخَيَّر من لزمته بين ثلاثة أشياء إطعام عشرة مساكين مسلمين أحرارًا ولو صغارًا) كالزكاة".
على سيده، فلا يلزم الإنفاق عليه، واختلفوا في المكاتب
(1)
؛ فأجاز بعضهم أن يُعطى منها، وبعضهم منع؛ فقد جاء ذكر المملوك ضمن أهل الزكاة، كما في قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]، والمقصود: الحض على الإعتاق، ومع ذلك فإنه لا ذِكر له في كفارة اليمين؛ لأن المقصود منها سَدُّ حاجة المسكين في يومه وليلته، لكن هذا يحتاج إلى فك رقبته، فلا يُؤثر مع هذا القليل، ثم إن هذه قُصد بها الإطعام كما جاء في الآية، وتلك قُصد بها معنى آخر، فلا يدخل في ذلك العبد ولا حتى المكاتب، كما أن المكاتب الذي إذا لم يَستطع أن يؤدي ما كاتَبَ عليه، فإنه يعود حينئذٍ إلى سَيِّده فيُنفق عليه، ولذا اشترط أن يكون حرًّا.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فلم يشترطهما، أي: الحرية والإسلام.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ اسْتِيجَابُ الصَّدَقَةِ هُوَ بِالفَقْرِ
(1)
لا يجزئ دفعها لمكاتب عند المالكية والشافعية، خلافًا للحنفية والحنابلة.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (10/ 5142) حيث قال: "قال أصحابنا: يجوز دفع الكفارات إلى المكاتب، وقال الشافعي: لا يجوز، لنا: قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} ولم يُفَصِّل، ولأنها صدقة واجبة، فجاز دفعها إلى المكاتب كالزكاة".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"شرح الخرشي"(853)، حيث قال:"وأما العدد فلا بد منه، والمراد بالمساكين: المحتاجون، وأخرج الغني والرقيق؛ لغناه بسيده وإن بشائبة؛ لأنه - وإن لم يمكنه بيعهم - فمأمور بالنفقة عليهم، أو بتنجيز عتقهم، فيصيرون من أهلها". ويُنظر: "منح الجليل" للمواق (5/ 450)، حيث قال:"ومصرفه ستون مسكينًا، كاليمين بالله؛ (أحرارًا مسلمين)، قال مالك: لا يجزئ أن يطعم في الكفارات كلها إلا حرًّا مسلمًا مسكينًا".
ولمذهب الشافعية، يُنظر. "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 50). حيث قال: " (لا)
…
(كافرًا) ولو ذميًّا (ولا هاشميًّا، و) لا (مطلبيًّا)، ومَن تلزمه نفقته كزوجته وقريبه، ولا إلى مَكفي بنفقة قريب أو زوج، ولا إلى عبدٍ ومكاتب؛ لأنها حق لله تعالى، فاعتبر فيها صفات الزكاة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 528). حيث قال: " (و) يجزئ دفعها (لمكاتب)؛ لأنه يأخذ من الزكاة ما يحتاج إليه أشبه الحر المسكين".
فَقَطْ؟ أَوْ بِالإِسْلَامِ؟ إِذْ كَانَ السَّمْعُ قَدْ أَنْبَأَ أَنَّهُ يُثَابُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الفَقِيرِ الغَيْرِ المُسْلِمِ).
والمقصود: ما وجه استيجاب هذه الصدقة التي يجب على المُكفِّر أن يُخرجها هل هو الفقر فقط أو به وبالإسلام؟
فإن قلنا بالفقر، فلا فرق إذًا بين المسلم وغيره، وإن قلنا به وبالإسلام، فهذا يُخص به أهل الإسلام.
قوله: (إِذْ كَانَ السَّمْعُ قَدْ أَنْبَأَ أَنهُ يُثَابُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الفَقِيرِ الغَيْرِ المُسْلِم): هذا كلام مجمل، والمقصود: أنه قد ثبت ذلك عن طريق السمع، قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ، ثم قال في آخر الآية:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالكفارة لأهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية التي ذكرناها:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ، ثم قال في آخر الآية:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأله أحدٌ فليُعطه مِن أيِّ دين كان"
(1)
، فهذا السمع الذي أشار إليه المؤلف.
وفي "الصحيحين" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنَّ أمها قَدِمت إليها وهي مُشركة، فذكرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أُمَّها قد قدمت وهي مشركة، وأنها راغبة وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لها أن تَصِلَها، فقال لها صلى الله عليه وسلم:"صِلِي أُمَّك"
(2)
، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلتها مع كونها مشركة غير مسلمة ومع ذلك نجد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِلَتها.
وفي الحديث المتفق عليه: "في كُلِّ ذاتِ كبدٍ رَطبة أَجر"
(3)
، أي:
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 321)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2766).
(2)
أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1002).
(3)
أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم =
كل نَفْسٍ تَنبض
(1)
بحياة ففيها أجر؛ سواءٌ كان إنسانًا أو حيوانًا، وسواءٌ كان هذا الإنسان مسلمًا أو غير مسلم.
وجاء عن صفية رضي الله عنها أنها تصدقت على بعض أقاربها من اليهود
(2)
.
فاستدل الحنفية بهذه - وهي رواية عن الحنابلة أيضًا
(3)
- بهذه النصوص، والأدلة في هذا الباب كثيرة؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما في سنده مَطعن، لكن هذا هو السبب الذي أشار إليه المؤلف.
كما أن آية الكفارة جاءت مطلقة: {عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، فلم تُقيد الحنفية ذلك بالإيمان.
* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَ الكَفَّارَةَ بِالزكَاةِ الوَاجِبَةِ لِلمُسْلِمِينَ اشْتَرَطَ الإِسْلَامَ فِي المَسَاكينِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمْ هَذه الكَفَّارَة، وَمَنْ شَبَّهَهَا بِالصَّدَقَاتِ الَّتِي تكُونُ عَنْ تَطَوُّعٍ، أَجَازَ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ).
يعني: مَن ألحق الكفارة بالزكاة اشترط الإسلام، إذ لا تنبغي الزكاة إلا لمسلم، كما جاء النص بذلك
(4)
.
= قال: "بَيْنَا رجلٌ يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يَلهث يأكل الثَّرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بَلَغ بي؛ فمَلأ خُفَّه، ثم أمسكه بِفِيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال:"في كلِّ كبدٍ رطبة أجر".
(1)
نبض: تَحَرَّك وضرب. والنابض: العصب، صفة غالبة. والمنابض: مضارب القلب.
ونبضت الأمعاء، تنبض: اضطربت". انظر: "لسان العرب" لابن منظور (7/ 235).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 459)، عن عكرمة، أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لأخ لها يهودي:"أسلم ترثني، فسمع بذلك قومه، فقالوا: أتبيع دينك بالدنيا، فأبى أن يُسلم، فأوصت له بالثلث". وقال الطريفي في "التكميل"(1/ 99): "إسناده جيد، وبالجملة فالأثر حَسَن ثابت يَصلح للاحتجاج به".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 538). حيث قال: "وقال أبو ثور، وأصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى الذِّمي؛ لدخوله في اسم المساكين
…
، ولأنه مسكين من أهل دار الإسلام، فأجزأ الدفع إليه من الكفارة، كالمسلم".
(4)
أخرجه البخاري (4347)، ومسلم (19)، عن معاذ، قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم =
ومَن شبَّهها بالصدقات أجاز دفعها لغير المسلم، ومِن أهل العلم مَن أجاز إعطاءها للذِّمي بشرط ألا يُوجد مسلم
(1)
، فإن وجد مسلم فلا. كما سبق تفصيل ذلك.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي العَبِيدِ فَهُوَ: هَل يُتَصَوَّرُ فِيهِمْ وُجُودُ الفَقْرِ أَمْ لَا، إِذَا كَانُوا مَكْفِيِّينَ مِنْ سَادَاتِهِمْ فِي غَالِبِ الأَحْوَال، أَوْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ يُكْفَوْا؟ فَمَنْ رَاعَى وُجُودَ الفَقْرِ فَقَطْ قَالَ: العَبِيدُ وَالأَحْرَارُ سَوَاءٌ، إِذْ قَدْ يُوجَدُ مِنَ العَبِيدِ مَنْ يُجَوِّعُهُ سَيِّدُه، وَمَنْ رَاعَى وُجُوبَ الحَقِّ لَهُ عَلَى الغَيْرِ بِالحُكْمِ، قَالَ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ القِيَامُ بِهِمْ، وَيُقْضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ فَلَيْسَ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعُونَةِ بِالْكَفَّارَاتِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ
(2)
.
العبد المملوك الذي يقوم بخدمة سيده واجب على سيده أن يُنفق عليه، فلا يُعتبر هذا المملوك بحاجة إلى النفقة؛ لأن مسؤوليته على عاتق سيده، فكيف تُدفع له؟ وقد سبق ذكر الخلاف في العبد، وكذلك المكاتب، وبيان القول الراجح في هذه المسألة.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيعِهِ
…
)، يعني: إن كان سيده معسرًا فإنه يبيعه.
* قوله: (أَمَّا المَسْأَلَةُ السَّادِسَة، وَهِيَ: هَلْ مِنْ شَرْطِ الرَّقَبَةِ أَنْ
= قال: "إنَّك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله
…
، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإيَّاك وكرائمَ أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
(1)
وهو الثوري، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 538). حيث قال: "وقال الثوري: يُعطيهم إن لم يجد غيرهم".
(2)
وتقدم تفصيل مذاهبهم، وسبب اختلافهم عند قول الشارح:"واختلفوا في المكاتب".
تَكُونَ سَلِيمَةً مِنَ العُيُوبِ؟ فَإِنَّ فُقَهَاءَ الأَمْصَارِ شَرَطُوا ذَلِكَ
(1)
، أَعْنِي: العُيُوبَ المُؤَثِّرَةَ فِي الأَثْمَان. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهَا، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الوَاجِبُ الأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاسْم، أَوْ بِأَتَمِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟).
اشترط أهل العلم - من حيث الجملة - في الرقبة التي تجزئ في العتق ثلاثة شروط:
أولها: أن تكون مُؤمنة. وفيه خلاف
(3)
.
والثاني: أن تكون قد صَلَّت وصامت، أي: بلغت سنن التمييز، وهو سنن السابعة غالبًا، وأكثر الفقهاء على عدم اعتبار هذا الشرط؛ لأن المقصود بالإيمان هنا: إنما هو الإسلام؛ لما جاء في حديث معاوية بن الحكم أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجاربة فسألها: "أينَ اللهُ؟ ". قالت: في السَّماء، قال:"مَنْ أَنا؟ ". قالت: أنتَ رسول الله، قال:"أَعْتِقها فإنَّها مؤمنة"
(4)
، فحَكَم لها بالإيمان وهي جارية صغيرة.
والثالث: أن لا تكون مَعيبة، كأن يكون هرمًا، أو يكون مريضًا
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 373). حيث قال: "وأجمع كلُّ مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن مَن وَجَبت عليه كفارة يمين فاعتق عنها رقبة مؤمنة لا تجزئ إذا كان أعمى أو مُقعدًا، أو مقطوع اليدين، أو أشلهما، أو الرِّجْلَين". وسيأتي مفصلًا في المسألة السابعة.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 338). حيث قال: "ويجزئ في العتق في كل ذلك: الكافر، والمؤمن، والصغير، والكبير، والمَعيب، والسَّالم، والذَّكر، والأنثى، وولد الزنا، والمخدم، والمؤاجر، والمرهون، وأم الولد، والمدبرة، والمدبر، والمنذور عتقه، والمعتق إلى أجل، والمكاتب ما لم يُؤَدِّ شيئًا، فإن كان أدى من كتابته ما قَلَّ أو كثر لم يَجز في ذلك، ولا يجزئ مَن يعتق على المرء بحكم واجب، ولا نصفا رقبتين".
(3)
سيأتي مفصلًا.
(4)
أخرجه مسلم (537).
مرضًا أقعده، فلا يستطيع بعدُ الكسب ولا التَّقَوِّي على العبادات، بل يكون قادرًا يستطيع الكسب إذا تَحَرَّر فينفق على نفسه، وكذلك يستطيع أن يُقَدِّم الخير للمجتمع من حوله. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك الظاهرية، وسبب اختلافهم: هل الأَوْلَى الأخذ بأقل ما يدلُّ عليه الاسم، أو بأتم ما يدل عليه.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَهِيَ اشْتِرَاطُ الإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
اشْتَرَطَا ذَلِكَ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ).
ذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه
(4)
: إلى اشتراط الإيمان في الرقبة.
وأجاز أبو حنيفة - وهي رواية عن أحمد
(5)
- أن تكون الرقبة غير مؤمنة.
(1)
يُنظر: "شرح الصغير" للدردير (2/ 213). حيث قال: "وأشار للنوع الثالث بقوله: (أو عِتق رقبة مؤمنة سليمة) من العيوب (كالظِّهار) ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 191). حيث قال: " (يَتخير) المُكفر (في كفارة اليمين بين عتق) فيها (كالظِّهار)، أي: كعتق رقبة كفارته بالصفة السابقة في بابه من كونها رقبة مؤمنة، بلا عيب يُخل بعمل أو كسب".
(3)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نُجيم (4/ 314). حيث قال: "وأفاد بقوله: كما في الظِّهار، أي: التحرير والإطعام هنا كالتحرير والإطعام في كفارة الظهار، أنه يجوز الرقبة مسلمة كانت أو كافرة ذكرًا كان، أو أنثى صغيرة كانت، أو كبيرة ولا يجوز فائت جنس المنفعة ولا المدبر وأم الولد ولا المكاتب الذي أدى بعض شيء".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 379). حيث قال: "ولا يجزي في جميع الكفارات، وفي نذر العِتق المطلق إلا عتق رقبة مؤمنة)، حكاه ابن المنذر إجماعًا في كفارة القتل؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وما عدا كفارة القتل، فبالقياس عليها
…
(سليمة من العيوب المُضرة بالعمل ضررًا بَيِّنًا)؛ لأن المقصود تمليك الرقبة منافعها وتمكينها من التصرف لنفسها، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررًا بَيِّنًا".
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 547). حيث قال: "وعن أحمد رواية أُخرى: أن =
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَل يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَّفِقُ فِي الأَحْكَامِ، وَتَخْتَلِفُ فِي الأَسْبَابِ، كحُكْمِ حَالِ هَذِهِ الكَفَّارَاتِ مَعَ كفَّارَةِ الظِّهَارِ؟ فَمَنْ قَالَ: يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ فِي ذَلِكَ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الإِيمَانِ فِي ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وَمَنْ قَالَ: لَا يُحْمَل، وَجَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَبْقَى مُوجَبُ اللَّفْظِ عَلَى إِطْلَاقِهِ").
الجمهور في هذه المسألة على عدم الأخذ بظاهر الآية دون تقييدها، وهو الأَوْلَى إذ يترتب على عتق الرقبة المؤمنة مصالح عِدَّة، فإن العبد الذي كان في الرق فإنه يكون مشغولًا بطاعة سَيِّده عن طاعة خالقه، ويَفوته تحصيلُ بعض الواجبات، فإذا أعتق فإنه يتفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى والتقرب إليه بأعمال البر، ويزول عنه هذا النقص القائم به في بعض الأحكام فيصبح كاملًا كغيره من الأحرار، فإنَّ الرق سبب من أسباب النقص كما هو معلوم، ولذلك خَفَّف عنه في كثير من الأحكام، ففي عتق العبد المؤمن عِلَل ومزايا لا تتوفر في عتق الكافر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْل الثَّالِثُ مَتَى تَرْفَعُ الكَفَّارَةُ الحِنْثَ وَكَمْ تَرْفَعُ؟
وَأَمَّا مَتَى تَرْفَعُ الكَفَّارَةُ الحِنْثَ وَتَمْحُوه، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَفَّرَ بَعْدَ الحِنْثِ أَوْ قَبْلَهُ فَقَدِ ارْتَفَعَ الإِثْمُ
(1)
.
= الذمية تجزئ. وهو قول عطاء وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ لقول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وهذا مطلق، فتدخل فيه الكافرة".
(1)
سيأتي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْتَفِعُ الحِنْثُ إِلَّا بِالتَّكْفِيرِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الحِنْثِ لَا قَبْلَهُ
(1)
، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ القَوْلَانِ جَمِيعًا)
(2)
.
من المعلوم أن الحالف بالله أو باسم من أسمائه أو بصفةٍ من صفاته؛ فإنه إما أن يَبَرَّ بيمينه هذه
(3)
، وإما أن يَحْنَثَ فيها ولا يفي بها
(4)
، وحينئذٍ تَلزَمُه كفارةُ الحنث في اليمين.
والمؤلف هاهنا يَتناوَل كفارةَ الحنث في اليمين؛ فالعلماء يختلفون في أداء كفارة الحنث، فيما إذا كان يجوز أداؤها قبل الحنث أم أنه لا بد من أدائها بعد الحنث فقط على النحو التالي:
القول الأول: وهو جواز التكفير قبل الحنث، وعليه أكثر أهل العلم متن الشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وكذلك المالكية في إحدى الروايتين
(7)
؛
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
يقال: أبررتُ اليمينَ، إذا لم تخالفْها وأمضيتَها على ما خرجتْ عليه. انظر:"مطالع الأنوار على صحاح الآثار"، لابن قرقول (1/ 473).
(4)
الحِنْثُ في اليمين نَقضُها. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (1/ 449).
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (10/ 14/ 15)؛ حيث قال:" (وله)؛ أي: الحالف بعد اليمين (تقديم كفارة بغير صوم على حنث جائز)؛ أي: غير حرام، ليشمل الأقسام الخمسة الباقية للخبر الصحيح: "فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير"؛ لأن سبب وجوبها اليمين والحنث جميعًا، والتقديم على أحد السببين جائز كما مر آخر الزكاة، نعم الأولى تأخيرها عنهما خروجًا من الخلاف".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 374)؛ حيث قال:" (وتقديم الكفارة قبل الوجوب تعجيل لها قبل وجوبها لوجود سببها) وهو الظهار (كتعجيل الزكاة قبل الحلول بعد كمال النصاب) وكتقديم كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث".
وقال البهوتي أيضًا (6/ 243): " (وإن شاء) الحالف (كفر قبل الحنث فتكون) الكفارة (محللة لليمين وإن شاء) كفر (بعده)؛ أي: الحنث (فتكون مكفرة) ".
(7)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (2/ 103)؛ حيث قال: "واستحب =
لأن الله سبحانه وتعالى رَبَطَ الكفارةَ باليمين لا بالحنث، فقال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ، ثم قال بعدها:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقال في الآية الأُخرى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [تحريم: 2]، ولم يَذكُر الحنثَ في هذا المَقام
(1)
، فاتفقوا على جواز التكفير قبل وقوع الحنث، إلا أن الشافعية استثنوا من ذلك الصيامَ؛ لأنه من الأعمال البدنية التي لا تدخل في ذلك
(2)
.
القول الثاني: وهو عدم جواز التكفير قبل الحنث: وإليه ذهب الحنفية
(3)
، والمالكية في الرواية الأخرى
(4)
؛ حيث استدلوا بالدليل التعليليِّ، فَرَأَوْا أن التكفير قبل الحنث هو تكفيرٌ قبل وجود سببه؛ لأن الحنث عندهم هو سببٌ للتكفير، فإذا وُجِدَ التكفير قبل وقوع الحنث فيكون
= مالك الكفارة بعد الحنث، فإن كفر قبل الحنث أجزأه وكذلك المولي". وانظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 884).
وهو ما عليه المتأخرون، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير"(2/ 133)؛ حيث قال: " (وأجزأت) الكفارة، أي: إخراجها (قبل حنثه ووجبت به)؛ أي: بالحنث، وهو في البر بالفعل، وفي الحنث بعدمه".
(1)
هذا الدليل أيضًا هو حجة لمن قال بوجوب التكفير عن اليمين حتى لو برها وقام بها.
قال الماوردي: "فإن برَّ، فلا كفارة عليه، سواء كان برُّه فيها طاعة أو معصية، ذهب بعض إلى وجوب الكفارة عليه بعقد اليمين وإن لم يحنث فيها، وهو قول عائشة والحسن وقتادة؛ تعلقًا بقول الله تعالى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، فعلق الكفارة باليمين دون الحنث. والدليل على فساد هذا القول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا" فغزاهم ولم يكفِّر. وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}؛ يعني: وحنثتم". انظر: "الحاوي الكبير"(15/ 265 - 266).
(2)
سبق.
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 727)؛ حيث قال: " (قوله: ولم يجز التكفير
…
إلخ)؛ لأن الحنث هو السبب كما مر، فلا يجوز إلا بعد وجوده. وفي "القهستاني": واعلم أنه لو أخَّر كفارة اليمين أثم ولم تسقط بالموت والقتل".
(4)
سبق.
قد وُجِدَ قبل وجود السبب، فلم يجيزوه
(1)
.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ).
والحقيقة أن هناك سببين بالإضافة إلى ذلك التعليل الذي أَورَدَه المؤلفُ.
* قوله: (أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"
(2)
، فَإِنَّ قَوْمًا رَوَوْهُ هَكَذَا، وَقَوْمٌ رَوَوْهُ:"فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"
(3)
، وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الكَفَّارَةَ تَجُوزُ قَبْلَ الحِنْثِ، وَظَاهِرُ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا بَعْدَ الحِنْثِ).
فالسبب الأول من أسباب اختلاف العلماء في المسألة - كما ذَكرَ المؤلِّفُ -: هو اختلاف الروايات؛ حيث وَرَدَ في بعض الروايات مجيء الكفارة في آخر الحديث بما يعني أداءها بعد الحنث، وفي روايةٍ أُخرى
(1)
قال أبو جعفر الطحاوي: " (ومن كفر عن يمينه قبل حنثه فيها: لم يجزه ذلك، ووإن عليه أن يكفر عنها إذا حنث فيها). والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، وحفظها: مراعاتها لأداء كفاراتها عند الحنث، لا معنى لحفظ اليمين غير ذلك، وفي جواز أداء الكفارة قبل الحنث إسقاط حفظ اليمين مع بقائها؛ لأن الحفظ إنما هو لأداء الكفارة وقت الحنث". يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (7/ 408).
ويُنظر عند المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 884، 885)؛ حيث قال: "ووجه المنع: أنه حق في مالك يتعلَّق بسبب لحق الله فلم يجز تقديمه على وقت وجوبه كالزكاة، واعتبارًا بسائر الكفارات، ولأنه لم يحنث فلم يكن للكفارة حكم كما لو أخرجها قبل إليمين، ولأن الحنث هو الموجب للكفارة فلا يجوز أن يؤخذ من غير وجوبها".
(2)
أخرجه مسلم (13/ 1650) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه النسائي (3781) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وصححه الأرناؤوط في "سنن ابن ماجه"(3/ 247).
جاءت الكفارةُ أَوَّلًا بما يعني أن يُحَلِّلَ اليمينَ بالكفارة ثم بعدها يأتي الذي هو خيرٌ، مما يشير إلى جواز الأمرين
(1)
.
هكذا أورَدَها المؤلف، أما العلماء فإنهم يستدلون بما وَرَدَ في كتاب الله سبحانه وتعالى من رَبْطِ الكفارة باليمين لا الحنث، مما يعني جواز تَقَدُّم الكفارة على الحنث.
* قوله: (وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يُجْزِي تَقْدِيمُ الحَقِّ الوَاجِبِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ؟ لِأَنَّهُ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الحِنْثِ، كَالزَّكَاةِ بَعْدَ الحَوْلِ. وَلقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِإِرَادَةِ الحِنْثِ وَالعَزْمِ عَلَيْهِ، كالحَالِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَلَا يَدْخُلُهُ الخِلَافُ مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ).
وأما السبب الثاني من أسباب الخلاف في المسألة: فهو اختلاف العلماء في إجزاء تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه، فمن المعلوم أن ذلك جائز في بعض أحكام الشريعة، كما هو الحال في جواز تقديم زكاة المال
(2)
؛ فإن العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدَّمَها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَان فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّه، وَأَمَّا العَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا"
(3)
، أي: أنه قَدَّمَ زكاةَ مالِهِ فَزَكَّاهُ في العام الذي قَبْلَهُ.
فالظاهر أن الزكاة إنما تجب بحَوَلان الحوْل، لكن يجوز تقديمها قبل ذلك
(4)
.
* قوله: (وَكَانَ سَبَبُ الخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ المَعْنَى هُوَ: هَلِ الكَفَّارَةُ
(1)
قال القاضي عبد الوهاب: "وجه الجواز قوله صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير". "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" (2/ 884).
(2)
سبقت هذه المسألة.
(3)
أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983) عن أبي هريرة.
(4)
سبقت هذه المسألة.
رَافِعَةٌ لِلْحِنْثِ إِذا وَقَعَ، أَوْ مَانِعَةٌ لَهُ؟ فَمَنْ قَالَ: مَانِعَةٌ، أَجَازَ تَقْدِيمَهَا عَلى الحِنْثِ، وَمنْ قَالَ: رَافِعَةٌ، لَمْ يُجِزْهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ)
(1)
.
فهاهنا يعود المؤلف للتعليل الذي ذَكَرَهُ قبل ذلك، وهو تَأَرْجُحُ الكفارة بين أن تكون مانعةً للحنث أو رافعةً له.
* قوله: (وَأَمَّا تَعَدُّدُ الكَفَّارَاتِ بِتَعَدُّدِ الأَيْمَانِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا - فِيمَا عَلِمْتُ - أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ كفَّارَتَهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ).
والمؤلف هاهنا سيتناول مسائلَ متعددةً، وهذه المسائل مما تحتاج إلى دِقَّةٍ في التناول والتصوير، ولكن تناوُلَه لإحدى هذه المسائل شَابَهُ غموضٌ فصار مراده منها غير واضحٍ.
وبيان هذه المسائل كالتالي:
المسألة الأولى: إذا حَلَفَ يمينًا واحدةً على أشياءَ متعددةٍ، كأن يقول:(والله ما أكلتُ ولا شربتُ ولا لبستُ).
فهاهنا اتَّفَقَ أهل العلم على أنه لا تلزمه إلا كفارةٌ واحدةٌ، ولا خلافَ في ذلك.
المسألة الثانية: إذا حَلَفَ أيمانًا متعددةً على أشياءَ متعددةٍ، كأن يقول:(والله ما أكلت، والله ما شربتُ، والله ما لبستُ).
(1)
الذين جعلوا الكفاراة رافعة للحنث اعتبروها بمنزلة التوبة منه.
قال السرخسي في "المبسوط"(8/ 148، 149): "الكفارة توبة، كما قال الله تعالى في كفارة القتل: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}، والتوبة قبل الذنب لا تكون، وهو في عقد اليمين معظم حرمة اسم الله تعالى؛ فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى، فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة قبل الحدث بخلاف كفارة القتل، فإنه جزاء جنايته، وجنايته في الجرح؛ إذ لا صنع له في زهوق الروح، وبخلاف الزكاة؛ لأنه شكر النعمة، والنعمة المال دون مضي الحول".
وهاهنا ذَهَبَ العلماءُ إلى أنه تلزمه الكفارة على كل شيءٍ حَنَثَ فيه من هذه الإيمان؛ نَظَرًا لِتَكَرُّرِ اليمين، فإذا حَنَثَ فيها جميعًا لَزِمَتْهُ كفاراتٌ بعددها
(1)
.
(1)
في مذهب الأحناف تتعدَّد الكفارة بتعدُّد اليمين.
يُنظر: "الدر المختار"، للحصكفي (3/ 714)؛ حيث قال:"وفي "البحر" عن "الخلاصة" و"التجريد": وتتعدَّد الكفارة لتعدَّد اليمين، والمجلس والمجالس سواء؛ ولو قال: عنيت بالثاني الأول، ففي حلفه بالله لا يقبل، وبحجة أو عمرة يقبل. وفيه معزيًا للأصل: هو يهودي هو نصراني يمينان، وكذا والله والله أو والله والرحمن في الأصح. واتفقوا أن والله والرحمن يمينان، وبلا عطف واحدة".
وفي مذهب المالكية أن الكفارة تتكرر إذا قصد ذلك بيمينه.
يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 135، 136)، حيث قال:" (وتكررت) الكفارة (إن قصد) بيمينه (تكرر الحنث) كقوله: والله لا كلمت زيدًا ونوى أنه كلما كلمه لزمه الحنث فتكرر بتكرر المحلوف عليه (أو كان) تكرر الحنث (العرف)؛ أي: كان التكرر يستفاد منه لا من مجرد اللفظ (كعدم ترك الوتر) مثلًا فمن حلف لا يتركه حين عوتب على تركه فيلزمه كلما تركه كفارة؛ لأن العرف قال على أنه لا يتركه، ولا مرة واحدة؛ فكأنه قال: كلما تركته فعلي كفارة (أو) (نوى) بتعدُّد اليمين في نحو: والله لا أدخل والله لا أدخل والله لا أدخل، أو والله لا أدخل، ولا آكل، ولا ألبس (كفارات) فتتعدَّد بتعدُّد المقسم به؛ فإن قصد بتعدُّد اليمين التأكيد أو الإنشاء دون الكفارات لم تتعدَّد اتفاقًا في الأول، وعلى المشهور في الثاني حيث كان المحلوف عليه واحدًا أما لو تعدد فلا يتأتى فيه تأكيد".
وفي مذهب الشافعية، إذا كان تكرير اليمين للتأكيد كانت كفارة واحدة، أما إذا كانت للاستئناف ففيها وجهان، وهذا في الجنس الواحد، بخلاف الحلف على أجناس مختلفة.
يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (10/ 19، 20)؛ حيث قال: "تتكرر الكفارة بتكرر أيمان القسامة، كتكرر اليمين الغموس؛ لأن كلًا منها مقصود في نفسه بخلاف تكريرها في نحو: لا أدخل، وإن تفاصلت ما لم يتخللها تكفير، وبتعدُّد الترك في نحو لأسلمن عليك كلما مررت، عملًا بقضية كلما، ولأعطينك كذا كل يوم، وفي الجمع بين النفي والإثبات كـ: والله لآكلن ذا ولا أدخل الدار اليوم؛ لا يحنث إلا بترك المثبت وفعل المنفي معًا، ويأتي حكم لا فعلت ذا وذا مع نظائره". وفي "حاشية العبادي" قال: " (قوله: فرع تتكرر الكفارة
…
إلخ) في "مختصر الكفاية": فرع إذا تعددت اليمين واتَّحد المحلوف عليه إن قصد التأكيد اتحدت الكفارة، وإن قصد الاستئناف فوجهان، أصحهما عند النووي الاتحاد".=
* قوله: (وَكَذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانِ شَتَّى عَلَى شَيءٍ وَاحِدٍ أَنَّ الكَفَّارَاتِ الوَاجِبَةَ فِي ذَلِكَ بِعَدَدِ الأَيْمَان، كالحَالِفِ إِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى عَلَى أَشْيَاءَ شَتَّى).
المسألة الثالثة: وهي إذا حَلَفَ أيمانًا متعددةً على شيءٍ واحدٍ.
وكلام المؤلف فيها يَعتَرِيه غموضٌ، فإنه ذَكَرَ أن لا خلافَ في هذه المسألة، والحقيقة أن فيها شيئًا من الخلاف وليست من المسائل محل الاتفاق كما ذَكَرَ المؤلف، ويبدو أنه يقصد الحديث عن مسألة أخرى، وهي ما إذا حَلَفَ أيمانًا شتى بألفاظٍ مختلفةٍ، فحينئذٍ تختلف الصورة ويختلف الحُكم
(1)
.
المسألة الرابعة: إذا حَلَفَ يمينًا واحدةً على شيءٍ واحدٍ ولكنه كَرَّرَ اليمينَ، وهذه الصورة واضحة جدًّا لا لَبْس فيها، ومثالها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون
= وفي مذهب الحنابلة: إذا كانت اليمين على شيء أو أشياء من جنس واحد ففيه كفارة واحدة وإن تعددت الإيمان، ولا تتعدَّد الكفارة إلا إذا كانت على أجناس مختلفة مع تعدُّد الإيمان.
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 449)، حيث قال: " (ومن لزمته أيمان موجبها واحد ولو على أفعال) نحو: والله لا دخلت دار فلان، والله لا أكلت كذا
…
حنث في الكل (قبل تكفيره فكفارة واحدة) نصًّا؛ لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها كما لو زنى بنساء أو سرق من جماعة (وكذا حلف بنذور مكررة) ألا يفعل كذا وفعله أجزأه كفارة واحدة، (وإن اختلف موجبها)؛ أي: الكفارة (كظهار ويمين بالله تعالى لزمتاه)؛ أي: الكفارتان (ولم تتداخلا) لاختلاف جنسهما (ومن حلف يمينًا) واحدة (على أجناس) مختلفة كقوله: والله لا ذهبت إلى فلان ولا كلمته ولا أخذت منه (فـ) عليه (كفارة واحدة) سواء (حنث في الجميع أو في واحدة وتنحل) اليمين (في البقية)؛ لأنها يمين واحدة وحنثها واحد وإن حلف أيمانًا على أجناس، كقوله: والله لا بعت كذا والله لاشتريت كذا والله لا لبست كذا فحنث في واحدة وكفر ثم حنث في الأُخرى لزمته كفارة ثانية لوجوبها بالحنث بعد أن كفر عن الأُولى".
(1)
سبقت هذه المسألة.
قريشًا"، وفي بعض الروايات قال: "إن شاء الله"
(1)
، حيث كَرَّرَ الرسول صلى الله عليه وسلم اليمينَ بصيغةٍ واحدةٍ ولفظٍ واحدٍ وأقسَمَ على شيءٍ واحدٍ.
وهذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم فيما إذا كانت تستوجب كفارةً واحدةً أم ثلاثَ كفاراتٍ، وكذلك اختلفوا فيما إذا كان هناك فرقٌ بين أن يَفصِلَ الحالفُ بين هذه الأيمانِ بحرفٍ وألا يَفصلَ بينها، وكذلك اختلفوا في الفرق بين إرادة الحالف التأكيدَ وبين أن يريدَ بها التغييرَ
(2)
.
هذا إذا كان مراد المؤلف هو الصورة التي ذَكَرناها والتي مثالها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان قوله:(بأيمانٍ شتى) يقصد به (أيمانًا مختلفةً) فالحُكم فيها ليس كما ذَكَرَ، والمسألة فيها خلافٌ.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً).
فعبارة المؤلف فيها نقصٌ؛ ولذلك وُجِدَ الالتباسُ بين هذه وتلك، فقوله:(على شيءٍ واحدٍ بعينه) مثاله قوله الرسول صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا"، ولذلك فإن العبارة يعتريها شيءٌ من النقص، ويبدو أن فيها سَقطًا، ولذلك تَأَوَّلْنَاها.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: فِي ذَلِكَ كفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ).
وهو قول الحنابلة
(3)
.
* قول: (وَقَالَ قَوْمٌ: فِي كُلِّ يَمِينٍ كفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّأكيدَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ)
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3286)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(4328).
وكل الروايات التي وقفت عليها جاء فيها لفظ إن شاء الله.
(2)
سبقت.
(3)
تقدَّم ذكره.
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 278)؛ حيث قال: "ص (ووالله ثم والله وإن قصده)، ش: يعني: أن الحالف بالله أو بشيء من أسمائه أو صفاته إذا كرر اليمين =
وهو كذلك قول الحنفية
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: فِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّغْلِيظَ
(2)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ المُوجِبُ لِلتَّعَدُّدِ هُوَ تَعَدُّدُ الأَيْمَانِ بِالجِنْسِ أَوْ بِالعَدَدِ؟ فَمَنْ قَالَ: اخْتِلَافُهَا بِالعَدَدِ قَالَ: لِكُلِّ يَمِينٍ كفَّارَةٌ إِذَا كَرَّرَ. وَمَنْ قَالَ: اخْتِلَافُهَا بِالجِنْسِ قَالَ: فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ يَمِينٌ وَاحِدةٌ).
فسبب اختلاف الأقوال: هو الاختلاف بين أن يكون الموجِب إنما هو تعدد الإيمان بجنس اليمين وبين أن يكون بعدد الإيمان.
فمن قال: (بجنس اليمين). حَمَلَهَا على يمينٍ واحدةٍ.
ومن قال: (بعدد الأيمان) حَمَلَهَا على أن لكل يمينٍ كفارة
(3)
.
وهذا يؤكِّد ما ذَهَبْنَا إليه في المسألة الأولى مِن أن عبارة المؤلِّفِ يَعتَرِيها النَّقْصُ.
= على ذلك الشيء بعينه؛ فإنما عليه كفارة واحدة. قال ابن عرفة: وتتعدَّد الكفارة بتكرير اليمين على واحد بالشخص بنية تعدد الكفارة وتتحد بنية التأكيد، وإلا فطريقان".
(1)
يُنظر: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(1093)؛ حيث قال: "وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه قال: إذا قال الرجل: والله لا أكلم فلانًا فكلمه مرة إن نوى بالثاني التكرار والتأكيد يلزمه كفارة واحدة؛ لأنه جعل الاسم الثاني نعتًا للأول فكانت يمينًا واحدة كما لو قال: والله العزيز لا أفعل كذا". وهو كذلك مذهب الشافعية، كما سبق.
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 197)؛ حيث قال:"وقال سفيان الثوري إن حلف مرتين في شيء واحد فهي يمين واحدة إذا نوى يمينًا واحدة وإن كانتا في مجلسين، وإن أراد يمينًا أُخرى والتغليظ فيها فهي يمينان، وقد روي عنه أنهما يمين واحدة وإن حلف مرارًا".
(3)
سبق.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا حَلَفَ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ بِأَكثَرَ مِنْ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، هَلْ تُعَدَّدُ الكَفَّارَاتُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ اليَمِينُ أَمْ فِي ذَلِكَ كفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟).
فإذا حَلَفَ بقدرة الله وعَظَمَتِهِ وعِزَّتِهِ، فهل يُكتَفَى بكفارةٍ واحدةٍ، أم يَلزَم كفارةٌ عن كلِّ صفةٍ من هذه الصفات التي أَقسَمَ بها.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: الكَفَّارَةُ فِي هَذِهِ اليَمِينِ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ. فَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمِيعِ العَلِيمِ الحَكِيمِ كَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ عِنْدَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ أَرَادَ الكَلَامَ الأَوَّلَ وَجَاءَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ إِذْ كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً).
فمذهب مالكٍ: تتعدَّد الكفارة بتعدُّد الصفات
(1)
.
(1)
ومشهور المذهب أنها كفارة واحدة، يُنظر:"كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 30)؛ حيث قال:" (ومن قال: علي عهد الله وميثاقه في يمين فحنث فعليه كفارتان)؛ لأن العهد يمين والميثاق يمين فإذا جمعهما فقد حلف يمينين، وما ذكره خلاف المشهور فقد صرح في التوضيح بأن الكفارة لا تتعدَّد على المشهور، قال: وصححوا تأويله على المدونة، وأشار إلى التأويل الثاني بقوله: (وليس على من وكد اليمين فكررها في شيء واحد غير كفارة واحدة) مثله قول ابن حبيب وابن الحاجب. وإذا كرر اليمين على شيء واحد لم تتعدد". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 136).
وعند الأحناف؛ تتعدَّد الكفارة بتعدُّد الصفات، يُنظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(3/ 109)، حيث قال:"فرع: رجل قال: والله والرحمن والرحيم لا أفعل كذا ففعل في الروايات الظاهرة يلزمه ثلاث كفارات ويتعدَّد اليمين بتعدُّد الاسم إذا لم يجعل الثاني نعتًا للأول وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن عليه كفارة واحدة، وبه أخذ مشايخ سمرقند؛ لأن الواو بين الاسم الأول والثاني وبين الثاني والثالث واو القسم لا واو العطف فلم يتصل الثاني بالأول ولا الثاني بالثالث، وإذا ذكر الخبر عقيب الثالث اقتصر الخبر على الثالث وكانت يمينًا واحدة، وأكثر المشايخ على ظاهر الرواية".
ومذهب أكثر العلماء كالشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
: أنها يمينٌ واحدةٌ تَلزَمُها كفارةٌ واحدةٌ، هذا إذا أرادَ الكلامَ الأوَّلَ فيُحمَل حينئذٍ على أنه قولٌ واحدٌ ويمينٌ واحدةٌ، أما إذا لَم يُرِد ذلكَ فكفاراتٌ متعددةٌ.
* قول: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مُرَاعَاةُ الوَاحِدَةِ أَوِ الكَثْرَةِ فِي اليَمِينِ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى صِيغَةِ القَوْلِ، أَوْ إِلَى تَعَدُّدِ الأَشْيَاءِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا القَوْلُ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ يَمِينٍ؟ فَمَنِ اعْتَبَرَ الصِّيغَةَ قَالَ: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
(3)
، وَمَنِ اعْتَبَرَ عَدَدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ صِيغَةُ القَوْلِ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُقْسَمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَالَ: الكَفَّارَةُ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِهَا)
(4)
.
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 245)؛ حيث قال:" (فإن نوى اليمين بالكل انعقدت) يمين (واحدة والجمع) بين الألفاظ (تأكيد) كقوله: والله الرحمن الرحيم؛ فلا يتعلَّق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة ولو نوى بكل لفظ يمينًا كان يمينًا ولم يلزمه إلا كفارة واحدة، كما لو حلف على الفعل الواحد مرارًا ونوى بكل مرة يمينًا صرح به الأصل". ويُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (15/ 280).
(2)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 244)؛ حيث قال:" (ومن كرر يمينًا موجبها واحد على فعل واحد كقوله: والله لا أكلت والله لا أكلت) فكفارة واحدة؛ لأن سببها واحد، والظاهر أنه أراد التأكيد، (أو حلف أيمانًا كفارتها واحدة كقوله: والله وعهد الله وميثاقه وكلامه) لأفعلن كذا فكفارة واحدة لأنها يمين واحدة".
(3)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"، للعمراني (10/ 501)؛ حيث قال:"ودليلنا: أن الجمع بين هذه الألفاظ تأكيد لليمين، واليمين واحدة، فهو كقوله: والله الطالب، الغالب، المهلك، المدرك".
ويُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(7/ 97)؛ حيث قال: "إن حلف بالله، وبالرب، وبالرحمن، وبعهد الله وميثاقه. ونحو ذلك على شيء واحد، فكفارة واحدة؛ لأن ذلك يمين واحدة، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف، فهو كما لو قال: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب. إلى غير ذلك من تعداد الصفات".
(4)
قال القاضي عبد الوهاب: "دليلنا: أن كل واحدٍ من هذه الصفات إذا انفرد كان يمينًا، فإذا جمعها وفصل بينها بواو القسم كانت أيمانًا، كقوله: والله الرحمن الرحيم، إلا أن يريد التأكيد". يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(2/ 882).
فَمَن بَنَى الحُكْمَ على صيغة القول وأنها تَكرارٌ من أجل التأكيد حَمَلَها على أنها يمينٌ واحدةٌ تَلزَمُها كفارةٌ واحدةٌ.
وَمَن بَنَاهُ على تَعَدُّدِ الصِّفاتِ الواردة في اليمين رأى فيها كفاراتٍ بِعَدَدِ الصفات الواردة؛ لأن كل صفةٍ منها لو استقلَّت في يمينٍ لَلَزِمَتْها كفارةٌ مُستقِلَّةٌ.
والحقيقة: أن هذا يخضَع لقاعدةٍ فقهية، وهي:(أنه إذا اجتمَعَ أمران من جِنسٍ واحدٍ ولم يختلف مقصودهما دَخَلَ أحدُهما في الآخر تَبَعًا)، فكثيرٌ من أحكام الشريعة تتداخل، وهو ما يُعرَف بِتَدَاخُل العبادات
(1)
.
ومثال ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"
(2)
. لكن إذا جاءَ أحدُهم وَوَجَدَ الصلاةَ قد أُقِيمَت فإن صلاة الفريضة تكفيه حينئذٍ عن تحية المسجد.
ومثاله كذلك: لو أن أحدهم جاء إلى المسجد وكان الإمام قد كَبَّرَ للركوع، فإنه حينئذٍ يُكبِّر تكبيرةَ الإحرام وتَدخُلُ فيها حينئذٍ تكبيرة الركوع، ولا يجوز أن يُكَبِّرَ تكبيرةَ الركوع وينوي تكبيرةَ الإحرام فيها؛ لأن تكبيرة الإحرام رُكْنٌ، أما تكبيرة الركوع فهي واجبةٌ أو سُنَّةٌ عند البعض.
* قوله: (وَهَذَا القَدْرُ كافٍ فِي قَوَاعِدِ هَذَا الكِتَابِ وَسَبَبِ الاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ المُعِينُ بِرَحْمَتِهِ).
ويشير المؤلِّفُ هاهنا إلى أن ما ذَكَرَه من القواعد والمسائل في هذا الكتاب كافٍ لِلدَّارِسِ.
* * *
(1)
سبق بيان هذه القاعدة وتفصيلها.
(2)
أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[كِتَابُ النُّذُورِ]
(كتاب النذور): هو الكتاب الذي تذكَر فيه الأحكامُ المتعلِّقة بالنذور.
والمؤلف - كما ذَكَرْنَا - سارَ على منهجِ معيَّنٍ في هذا الكتاب، وهو أنه يَكتفي بِذِكر أمهات المسائل، وهي المسائل التي نَطَقَ بها النَّصُّ أو ما أُخِذَت من ظاهِرِهِ أو كانت على صلةٍ وثيقةٍ به، ولا يخرق ذلك المنهج إلا عندما يقتضي المَقامُ ذِكرَ بعض فروع المسائل، وإلا فهو يكتفي بذِكر أمهات المسائل التي تُعرَف بالقواعد الفقهية، ولذا فإن العلماء وَصَفُوا هذا الكتابَ بأنه من كُتُب القواعد الفقهية
(1)
.
والنذور: جَمْعُ نَذْرٍ
(2)
.
والنذر في اللغة: الالتزام بشيءٍ.
وفي الاصطلاح: هو أن يلتزم الإنسان بإيجاب أمرٍ على نفسه دون أن تُوجِبَه الشريعةُ
(3)
.
(1)
سبق ذكر هذا.
(2)
النَّذْرُ: واحد النُّذورِ، يُنظر:"الصحاح"، للجوهري (2/ 826).
(3)
يُنظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (3/ 128)، حيث قال:"النذر: إيجاب على نفسه بما شرعه الله على العباد".
ويُنظر في مذهب المالكية: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 249، 250)؛ حيث قال: " (النذر التزام مسلم) لا كافر (مكلَّف) لا صغير ومجنون ومكره (قربة) مقصودًا بها التقرُّب بلا تعليق نحو: لله عليَّ عتق عبد أو صوم يوم أو شهر، بل (ولو بالتعليق) =
ومن هذا الجانب يختلف النذر عن الفرائض والواجبات كالصلاة والزكاة والصوم والحج في أن هذه الفرائض إنما أَوجَبَها الشرعُ وأَوجَبَ الأحكامَ المترتبةَ عليها، أما النذر فإن الإنسانَ هو مَن أَوجَبَه على نفسه وَأَلزَمَ نفسَهُ به.
أحوال النذر:
النذر قد يكون مُنَجَّزًا وقد يكون مُعَلَّقًا.
النذر المُنَجَّزُ: كأن يقول الإنسان: (لله عَلَيَّ أن أُصَلِّيَ ركعتَيْن) أو: (أن أُصَلِّيَ أربع ركعاتٍ) يقصد بها التطوُّعَ لله بذلك.
النذر المُعَلَّقُ: كأن يقول الإنسان: (إن شَفَى اللهُ مريضِيَ سأصوم شهرًا)، بمعنى أن يُقَيِّدَ نَذْرَهُ بشَرْطٍ من الشروط متى ما وُجِدَ الشرطُ وَجَبَ الوفاء بالنذر.
وقد يحصل الشرط الذي شَرَطَهُ الإنسانُ للوفاء بنذره، ولكن يصادف أن يتعارض الوفاء بالنذر مع عبادةٍ مماثلةٍ، كأن يحصل الشرط في رمضان مثلًا ويكون النَّاذِرُ قد نَذَرَ صيامَ شهرٍ؛ فحينئذٍ يعالج العلماء هذا الإشكال بأن يصومَ النَّاذِرُ شهر رمضان لأنه رُكنٌ ويدخُلُ فيه صيام النذر تبعًا
(1)
،
= على معصية (أو غضبان) فأولى على غير معصية، وغير غضبان".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "غاية المحتاج"، للرملي (8/ 218)؛ حيث قال:"وشرعًا: الوعد بخير بالتزام قربة على وجه يأتي، فلا يلزم بالنية وحدها وإن تأكد في حقه أيضًا ما نواه".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 273)؛ حيث قال:" (وهو)؛ أي: النذر (إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئًا غير لازم بأصل الشرع كـ) قوله (عليَّ لله أو نذرت لله ونحوه) كـ: لله علي كذا، ونحوه مما يؤدي معناه".
(1)
هذا على مذهب الأحناف خلافًا للجمهور، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(1/ 440)؛ حيث قال: "ولو نذر صوم جميع عمره ثم وجب صوم شهرين عن ظهار أو أوجب صوم شهر بعينه ثم قضى فيه صوم رمضان جاز من غير أن يلحقه شيء". اهـ.
وهناك من العلماء من رأى أنه يصوم رمضان ثم يقضي صيامَ النذرِ بعده، وهو رأيٌ ليس بالقويِّ
(1)
.
فهناك أمثلة كثيرةٌ وصُوَرٌ متعددةٌ لمسائل النذر لم يَذكُرها الكتاب؛ لأنَّ مؤلِّفَه لا يتقَصَّى فيه جميع المسائل، وإنما يبحث في أمهاتها فقط؛ ولذا فإنه دَخَلَ في المسائل مباشَرةً دون التقديم لها بمقدِّماتٍ، ودون أن يُبَيِّنَ الأصلَ الذي بُنِيَ عليه كتاب النذر من أدلة الثبوت والمشروعية ومثل ذلك؛ فالنذر ثابتٌ من كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم على ذلك.
أدلة النذر من كتاب الله سبحانه وتعالى:
- قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7].
- وقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
(1)
في مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة: أن صوم رمضان لا يغني عن صوم النذر. يُنظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 265)؛ حيث قال: " (ص) وإن نوى برمضان في سفره غيره، أو قضاء الخارج، أو نواه ونذرًا لم يجزه عن واحد منهما (ش) يعني: أنه إذا سافر في رمضان سفرًا يباح له فيه الفطر فصام في سفره ذلك ونوى به التطوع، أو النذر، أو الكفارة، أو نوى به قضاء رمضان الذي خرج وقته، أو نوى بصومه فرضه ونذرًا، أو كفارة، أو قضاء أو تطوعًا لم يجز في الجميع عن واحد منهما
…
وقوله: أو نواه ونذرًا، أي: أو نواه وكفارة، أو نواه وتطوعًا، أو نواه وقضاء الخارج؛ فهذه ثمان صور في السفر ومثلها في الحضر وهو مفهوم سفر، وإنما خص السفر بالحكم لأحروية الحضر".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "حاشية العبادي على تحفة المحتاج"(3/ 396)؛ حيث قال: "قال في "الروض": ولو تحرَّى لشهر نذره فوافق رمضان لم يسقطا. قال في "شرحه": لأنه إنما نوى النذر ورمضان لا يقبل غيره قال ومثله ما لو كان عليه صوم قضاء فأتى به في رمضان. اهـ". ويُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 181).
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 280)؛ حيث قال:" (ولا يستحب كما في "الفروع" و"المنتهى" ويقضي نذر القدوم كـ) ما لو قدم زيد في (صوم في قضاء رمضان أو كفارة أو نذر مطلق. ومثل ذلك في الحكم: لو نذر صوم شهر من يوم يقدم فلان فقدم أول رمضان) فعليه قضاء النذر والكفارة (وعليه نذر الاعتكاف كالصوم) في جميع ما تقدَّم".
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]، فقوله تعالى:{وَلْيُوفُوا} جاء المضارع فيه متصلًا بلام الأمر
(1)
.
أدلة النذر من السُّنَّةِ:
الأحاديث في ذلك كثيرةٌ جدًّا يصعب تَقَصِّيها
(2)
، ومنها:
- قول الرِسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفَق عليه: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْه، وَمَنْ نَذرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ"
(3)
.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ"
(4)
.
فَمِنَ النذر ما يكون معصيةً لله، والواجب على الإنسان إذا نَذَرَ ما فيه معصيةٌ لله ألا يلتفت إليه بل يطرحه وراءه، وسيأتي الحديث في نذر المعصية فيما إذا كان له كفارةٌ أم لا.
- وكذلك ما ورد من: أنَّ رجلًا نَذَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ ينْحَرَ بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ
(5)
، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ " قَال: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ، فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ"
(6)
.
(1)
قال الخليل: "لام الأمر مكسورٌ أبدًا إذا كانت في الابتداء، فإن تقدمها واو أو فاء كانت ساكنة". انظر: "الجمل في النحو "(ص 267).
(2)
يُقال: استقصى في المسألة؛ أي: بالغ فيها. يُنظر: "شمس العلوم"، للحميري (8/ 5525).
(3)
أخرجه البخاري (6696) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ النسائي في "المجتبى"(3851) عن عمران بن حصين، وأخرجه مسلم (1641) بلفظ:"لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد".
(5)
بوانة - بضم أوّله وبالنون، على بناء فعالة -: موضع بين الشام وبين ديار بني عامر. يُنظر: "معجم ما استعجم"، للبكري (1/ 283).
(6)
أخرجه أبو داود (3313)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2872).
فلو كان في هذا النذر أمرًا من الأُمور المنهية لأَمَرَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن ذلك؛ حتى لا يقع في تعظيم الوَثَنِ أو العِيدِ مما يتنافى مع أصول الشريعة؛ فالله سبحانه وتعالى عندما أَمَرَ عبادَهُ بعَمَلِ الصالحات قَيَّدَ هذا الأمرَ بالإيمان، فقال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 124].
وقال سبحانه وتعالى في الآيةِ الأُخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
هل النذر واجبٌ أم مُستَحَبٌّ؟
النذر ليس واجبًا؛ لأن وجوبه لم يَرِدْ بأصل الشريعة، وإنما جاءَ وُجوبُهُ بإيجاب الإنسان له على نفسه.
أما استحبابه فقد اختلف العلماء فيه على النحو التالي:
القول الأول: عدم استحبابه؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستَخرَج به من البخيل"
(1)
؛ هذا لأن الإنسان لا يحتاج أن يَنذِرَ حتى يَفعَلَ الخيرَ، وإنما يفعله من تلقاء نفسه دون حاجةٍ لِلنَّذْرِ، فالباب مفتوحٌ لعمل الخيرات وفيه سَعةٌ
(2)
، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
(1)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639) واللفظ له.
(2)
قال الفاكهاني: "وكأن سبب الكراهة فيه: أن الناذر يصير ملتزمًا له، فيأتي به مع نوع من التكلف دون نشاط وانشراح، أو لكونه يأتي به لا على وجه التقرب المحض، بل على وجه المعاوضة للأمر الذي طلبه، أو يكون سبب الكراهة: أن بعض الجهلة يعتقد أن النذر يرد القدر، فنهى عنه خوفًا ممن يعتقد ذلك، ويقوي هذا: أن في بعض روايات مسلم: "أنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به متن الشحيح"، وفي رواية أُخرى: أنه عليه الصلاة والسلام: قال: "لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا". "رياض الأفهام" (5/ 325).
القول الثاني: أنه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ لا كراهةَ تحريمٍ
(1)
.
القول الثالث: أنه مباحٌ
(2)
، وهو ما نقول به؛ لأن الله سبحانه وتعالى أَثنَى على الذين يوفون بنذورهم، فقال سبحانه وتعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7]، فجاء ذلك في مَقام المدح
(3)
.
(1)
ينظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 273)؛ حيث قال:" (وهو)؛ أي: النذر بالمعنى المصدري (مكروه ولو عبادة) لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل". متفق عليه، والنهي عنه لكراهته لأنه لو كان حرامًا لما مدح الموفين به؛ لأن ذمهم بارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه، ولو كان مُستحبًّا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (لا يأتي)؛ أي: النذر (بخير) للخبر (ولا يرد قضاء) ولا يملك به شيئًا محدثًا. قاله ابن حامد".
(2)
لعله يقصد بالإباحة هنا الاستحباب؛ لأن هذا هو الذي يفهم من آية الوفاء بالنذر.
(3)
في مذهب الأحناف أن النذر المنجز قربة بخلاف النذر المعلق، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(2/ 21)؛ حيث قال في حديث النذر: "
…
وإنما يستخرج به من البخيل، والمتبادر منه إرادة النذر المعلَّق، كإن شفى الله مريضي فللَّه عليَّ كذا. ووجه النهي: أنه لم يخلص من شائبة العوض؛ حيث جعل القربة في مقابلة الشفاء ولم تسمح نفسه بها بدون المعلَّق عليه مع ما فيه من إيهام اعتقاد التأثير للنذر في حصول الشفاء
…
بخلاف النذر المنجز فإنه تبرع محض بالقربة لله تعالى وإلزام للنفس بما عساها لا تفعله بدونه فيكون قربة".
مذهب المالكية أن النذر على ثلاثة أقسام، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد (1373)؛ حيث قال: "فالنذر على مذهب مالك ينقسم ثلاثة أقسام:
نذر مستحب: وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرًا لله على ما كان ومضى.
ونذر جائر: وهو النذر المقيد بشرط يأتي.
ونذر مكروه: وهو المؤقت الذي يتكرر مع مرور الأيام؛ فقد كرهه في "المدونة" لشدته مخافة التفريط في الوفاء به، والله أعلم". ويُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 319).
في مذهب الشافعية، قولان يدوران بين الكراهة والاستحباب. والأكثرون على أنه قربة.
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 231)؛ حيث قال:"تنبيه: اختلفوا هل النذر مكروه أو قربة؟ نقل الأول عن النص، وجزم به المصنف في مجموعه لخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: "إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من =
* قول: (وَهَذَا الكِتَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ).
(وهذا الكتاب)، أي: كتاب النذر.
(فيه ثلاثة فصولٍ)، أي: ثلات قواعد يدور حَوْلَها كتاب النذر ومسائله؛ لأن القاعدة إنما هي حُكمٌ كُلَيٌّ ينطبق على جزئياته - أي: المسائل الفرعية - التي تتفرع منه
(1)
؛ فَمَن ضَبَطَ هذه الفصولَ سَهُلَ عليه الإلمامُ بالفروع بأن يَرُدَّهَا إلى أصلِها.
* قول: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَصْنَافِ النُّذُورِ).
فالنذور عدة أصنافٍ لا صنفٌ واحدٌ كما سيأتي.
* قول: (الفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَلْزَمُ مِنَ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَم، وَجُمْلَةُ أَحْكَامِهَا).
بمعنى: أنه ليس كل نَذْرٍ يَنذِرُه الإنسان يَلزَمه الوفاء به، فلو أن إنسانًا نَذَرَ أن يُصلِّيَ صلاة الفريضة الواجبة عليه، فهذا لا يُعَدُّ نَذْرًا في حقيقة الأمر
(2)
.
= البخيل" ونقل الثاني عن القاضي والمتولي والغزالي، وهو قضية قول الرافعي: النذر تقرب فلا يصح من الكافر، وقول المصنف في "مجموعه" في كتاب الصلاة: النذر عمدًا في الصلاة لا يبطلها في الأصح؛ لأنه مناجاة لله تعالى فهو يشبه قوله: سجد وجهي للذي خلقه وصوره
…
والقياس: وهو أنه وسيلة إلى القربة، وللوسائل حكم المقاصد، وأيضًا فإنه يثاب عليه ثواب الواجب كما قاله القاضي الحسين، وهو يزيد على النفل سبعين درجة كما في "زوائد الروضة" في النكاح عن حكاية الإمام، والنهي محمول على مَن ظن أنه لا يقوم بما التزمه، أو أن للنذر تأثيرًا كما يلوح به الخبر، أو على المعلق بشيء".
(1)
قال شهاب الدِّين الحموي: "القواعد: جمع قاعدة، وهي لغة: الأساس، واصطلاحًا: حكم كلِّي ينطبق على جميع جزئياته لتعرف أحكامها منه". يُنظر: "غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر"(1/ 51).
(2)
ينظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح"، للشرنبلالي (ص 262)؛ حيث قال:"ولا يصح نذر (الواجبات)؛ لأن إيجاب الواجب محال (بنذرها) ".=
وكذلك نَذْرُ الأُمور مُستحيلة التحقُّقِ، كأنْ يَنذِرَ إنسانٌ أن يُصَلِّيَ في الأمس؛ لأن هذا الأمس قد مَضَى، وإرجاع الأمس ليس بمقدوره ولا بمقدور أهل الأرض جميعًا
(1)
.
= ويُنظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 28)؛ حيث قال: "وقلنا المندوبة احترازًا عن نذر الواجب فلا معنى له؛ لأن فيه تحصيل الحاصل".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (10/ 80)؛ حيث قال:" (ولا) نذر (واجب) عيني كصلاة الظهر أو مخير كأحد خصال كفارة اليمين مبهمًا بخلاف خصلة معينة منها على ما بحث أو واجب على الكفاية تعين بخلاف إذا لم يتعين فيصح نذره احتيج في أدائه لمال كجهاد وتجهيز ميت أم لا كصلاة جنازة وذلك؛ لأنه لزم عينًا بإلزام الشرع قبل النذر فلا معنى لالتزامه".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (4/ 215)؛ حيث قال:"نذر الواجب كنذر صوم رمضان وصلاة الفرض، فقال أصحابنا: لا يوجب شيئًا؛ لأنه التزام للازم، فلم يصح لاستحالته، كنذر المحال، وقياس المذهب أن ينعقد موجبًا للكفارة إن تركه، كنذر المباح؛ لأن النذر كاليمين".
والمشهور على قياس المذهب، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 274)؛ حيث قال:" (وينعقد) النذر (في واجب كـ: لله علي صوم رمضان ونحوه) قال في "المبدع": أنه ينعقد موجبًا للكفارة بيمين إن تركه كما لو حلف لا يفعله ففعله؛ فإن النذر كاليمين. انتهى. وقال في "الاختيارات": ما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة؛ فإن هذه العقود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول؛ فيكون واجبًا من وجهين، ويكون تركه موجب الترك الواجب بالشرع والواجب بالنذر، وهذا هو التحقيق وهو رواية عن أحمد".
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 317)؛ حيث قال:"ألا يكون مستحيل الكون؛ فلو نذر صوم أمس أو اعتكاف شهر مضى لم يصح نذره كما في الولوالجية".
ومذهب المالكية: لم أقف عليه.
ويُنظر في مذهب الشافعية: "نهاية المطلب"، للجويني (18/ 452)؛ حيث قال:"إذا نذر صومَ يوم مُوقَعًا في بعض يوم، فهذا مستحيل، والمستحيل لا يُلتزَم، وليس يُكمَّل، وقد قال الأصحاب لو قال: لله عليَّ أن أحج في هذه السنة، وقد بقي يومٌ، وهو على مائة فرسخ، فالنذر باطل، وإذا بطل هذا لِعُسْر التوصل، فلأَنْ يبطل ما لا يتصور أولى". =
فالنذر إذَنْ ليس على نسَقٍ واحدٍ، وإنما هو أنواعٌ كما نرى.
* قوله: (الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ الشَّيءِ الَّذِي يَلْزَمُ عَنْهَا وَأَحْكَامِهَا).
يعني: معرفة الأُمور التي تَلزَمُ من هذا النذر والأحكام المترتبة عليه.
فإن الله سبحانه وتعالى قد جَعَلَ مَخرَجًا للناذر من نَذْرِهِ إذا نَذَرَ ما يَشُقُّ عليه الوفاءُ به؛ لأن الشريعة الإسلامية إنما بُنِيَت على أُسُس، من هذه الأُسُس التيسيرُ ورَفْعُ الحَرَجِ
(1)
.
ومثال ذلك: قصة الرجل الذي نَذَرَ أن يصوم ولا يَستظِلَّ وألا يَتَكَلَّمَ، فأنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"مُرُوهُ فَلْيَقْعُدْ، وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ"
(2)
.
وكذلك قصة المرأة التي أَقسَمَت أن تَحُجَّ ماشيةً فعَجَزَتْ
(3)
.
= ويُنظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (10/ 8)؛ حيث قال:"نذر المستحيل، كصوم أمس، فهذا لا ينعقد، ولا يوجب شيئًا؛ لأنه لا يتصور انعقاده، ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة". ويُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (6/ 432).
(1)
قال الشاطبي: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]. {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38]. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. وقد سمي هذا الدِّين "الحنيفية السمحة"؛ لما فيها من التسهيل والتيسير". "الموافقات"(1/ 520، 521).
(2)
أخرجه البخاري (6704) عن ابن عباس، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلّم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مره فليتكلَّم وليستظل وليقعد، وليتم صومه".
(3)
أخرج أبو داود (3295) عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت؛ يعني: أن تحج ماشية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2592).
وقصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لَمَّا أراد أن يصوم الدهر فَنَصحَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم لَمَّا تَقدَّمَ به السِّنُّ شَقَّ عليه الأمرُ
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي أصْنَافِ النُّذُورِ
وَالنُّذُورُ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَقِسْمٌ مِنْ جِهَةِ الأشْيَاءِ الَّتِي تُنْذَر، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ ضَرْبَانِ: مُطْلَقٌ، وَهُوَ المُخْرَجُ مَخْرَجَ الخَبَرِ، وَمُقَيَّدٌ: وَهوَ المُخْرَجُ مُخْرَجَ الشَّرْطِ، وَالمُطْلَقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالشَّيءِ المَنْذُورِ بِهِ، وَغَيْرُ مُصَرَّحٍ، فَالأَوَّلُ: مِثْلُ قَوْلِ القَائِلِ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَحُجَّ. وَالثَّانِي مِثْلُ قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، دُونَ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَخْرَجِ النَّذْرِ، وَالأوَّلُ رُبَّمَا صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ النُّذُورِ، وَرُبَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ).
(1)
أخرج البخاري (5052) واللفظ له، ومسلم (1159) عن عبد الله بن عمرو، قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"القني به"، فلقيته بعد، فقال:"كيف تصوم؟ " قال: كل يوم، قال:"وكيف تختم؟ "، قال: كل ليلة، قال:"صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم ثلاثة أيام في الجمعة"، قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال:"أفطر يومين وصم يومًا" قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة" فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقسام النذر:
للنذر تقسيمان ذَكرَهُما المؤلِّفُ:
- حيث قَسَّمَهُ من جهة لَفْظِ النذر إلى: نَذْرٍ مُطْلَقٍ، ونَذْرٍ مُقَيَّدٍ.
- وقَسَّمَهُ من جهة المعاني المنذور بها إلى: نذرٍ بأشياء من جنس القُرَب، ونذرٍ بأشياء من جنس المعاصي، ونذرٍ بأشياء من جنس المكروهات، ونذرٍ بأشياء من جنس المباحات.
*
أقسام النذر من جهة اللفظ:
أَوَلًا: النذر المُطْلَقُ:
وهو الذي يَخرُجُ مَخرَجَ الخبر، كقول الإنسان: الله عَلَيَّ نَذْرٌ كذا وكذا)، دون تقييده بشرطٍ من الشروط، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين:
- نَذْرٌ مُطلَقٌ مُصَرَّحٌ فيه بالشيء المنذور به، كأن يقول:(لله عَلَيَّ نذرٌ أن أَحُجَّ)؛ حيث صَرَّحَ الناذِرُ فيه بلفظ النذر وبالشيء المنذور وهو الحَجُّ.
- ونذرٌ مُطلَق غير مُصَرَّحٍ فيه بالشيء المنذور به، كأنْ يقولَ:(لله عَلَيَّ نذرٌ)؛ حيث أَطْلَقَ النذر ولم يَذكُر الشيءَ المنذورَ إذا كان حَجًّا أم صيامًا أم صدقةً أم غير ذلك
(1)
.
(1)
ينظر في مذهب الأحناف: "الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود (4/ 77)؛ حيث قال:" (ولو نذر نذرًا مطلقًا)؛ أي: بغير شرط ولا تعليق؛ كقوله: عليَّ صوم شهر أو نحوه (فعليه الوفاء به) لما تقدَّم (وكذلك إن علقه بشرط فوجد)؛ لأن المعلِّق بالشرط كالمنجز عنده، والأن النذر موجود نظرًا إلى الجزاء، والجزاء هو الأصل والشرط تبع، واعتبار الأصل أولى فصار كالمنجز". ويُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (7/ 419).
ويُنظر في مذهب المالكية: "التلقين في الفقة المالكي"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 102)، حيث قال: "النذور على وجهين مطلق ومقيد، فالمطلق: ما استقل بنفسه عن شيء يتعلَّق به، والمقيد: ما تعلق بما ذكرناه لقوله عقيب النذر: إن شفى الله =
* قوله: (وَأَمَّا المُقَيَّدُ المُخْرَجُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، فَكَقَوْلِ القَائِلِ: إِنْ كَانَ كَذَا، فَعَليَّ لِلَّهِ نَذْرٌ كَذَا، وَأَنْ أَفْعَلَ كذَا).
ثانيًا: النذر المُقَيَّدُ أو المُعَلَّقُ:
وهو النذر الذي يَخرُجُ مَخرَجَ الشرط، أي: يشتمل على شرطٍ وجوابِ بحيث إن تَحَقَّقَ الشرطُ وَجَبَ الوفاءُ بالنذر، كأن يقول:(إن رَدَّ اللَّهُ المُسافرَ فَعَلتُ كذا وكذا)، أو:(إن نَجحَ ابني تصدَّقتُ بكذا)، أو:(إن شَفَاني اللَّهُ فعلتُ كذا)
(1)
.
وينبغي أن يكون ذلك في حدود الشريعة، لا أن يتعدَّاها إلى نَذْرِ المعصية بحالٍ
(2)
.
* قوله: (وَهَذا رُبَّمَا عَلَّقَهُ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ
= مرضي أو قدم غائبي". ويُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 28)؛ حيث قال: "وقسم النذر على ثلاثة أقسام: قسم معلق وهو ما علق بمتوقع، ومطلق، وهو ما لم يقيد بشيء، ومبهم، وهو ما ليس له مخرج".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"(4/ 370)؛ حيث قال: "فأما غير المعين فضربان: مطلق، ومقيد؛ فأما المقيد فهو أن يقول: لله عليَّ أن أهدي كذا فعليه أن يهدي ما سماه سواء جاز أضحية أم لا حتى لو سمَّى بيضة لم يلزمه غيرها، فإن نوى هدي شيء من غير أن يتلفظ به لم يلزمه بخلاف المعين قولًا واحدًا. وأما المطلق فهو أن يقول لله عليَّ أن أهدي هديًا ويطلق من غير أن يعينه في شيء ولا يقيده لشيء". ويُنظر: "غاية المحتاج"، للرملي (8/ 222).
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 274)؛ حيث قال:" (والنذر المنعقد أقسامه) ستة: (أحدها) النذر (المطلق كعليَّ نذر أو لله عليَّ نذر) سواء (أطلق أو قال: إن فعلت كذا) وفعله (ولم ينو) بنذره (شيئًا) معينًا (فيلزمه كفارة يمين) ".
(1)
تقدَّم.
(2)
قال ابن القطان: "واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها، واختلفوا أيلزمه لذلك كفارة أم لا؟ ". "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 375).
يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، فعَلَيَّ نَذْرٌ كَذَا وَكذَا، وَرُبَّمَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلَيَّ نَذْرٌ كَذَا، وَهَذَا هوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الفُقَهَاءُ أَيْمَانًا)
(1)
.
أي: أن هذا النذر المُعَلَّقَ ربما عَلَّقَهُ النَّاذِرُ بفعلٍ من الأفعال التي لا تَصدُرُ إلا عن الله كالشفاء والعز والرزق، ومثل هذه الأمور التي لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يَرفَع ويَخفضُ ويذل ويعز، كما قال تعالى سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
وربما عَلَّقَهُ بفعلٍ من الأفعال العادية كَفِعلِ نفسِهِ، كأن يقولَ:(إن فعلتُ كذا فعَلَيَّ نَذْرٌ كذا وكذا).
فهذه النذور المتعلقة بفِعل الإنسان يُسَمِّيها الفقهاء أَيْمَانًا
(2)
، بخلاف النذور المتعلقة بفِعل الله سبحانه وتعالى؛ فالتفرقة بين الأمرين إنما هو من كمال العقيدة.
* قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَيمَانٍ).
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (6/ 314)؛ حيث قال:"ومن المدونة قال مالك: ومن قال: إن فعلت كذا فعليَّ هدي فحنث؛ فإن نوى شيئًا فهو ما نوى، وإلا فعليه بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد وقصرت نفقته؛ رجوت أن تجزي عنه شاة، وكان مالك يزحف بالشاة كرهًا، وقال: البقر أقرب شيء إلى الإبل. وقال مالك في كتاب الحج: من قال لله على هدي فالشاة تجزيه. م: قيل: الفرق بين المسألتين أن هذه يمين، والتي في كتاب الحج بغير يمين؛ فلذلك كانت أخف".
(2)
قال ابن رشد الجد: "وأما إن قيد ما أوجب على نفسه من ذلك بشرط من فعل يقدر على فعله وتركه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا فعليَّ كذا وكذا فليس بنذر وإنما هي يمين مكروهة، لقول رسول صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"، إلا أنها لازمة عند مالك فيما يلزم فيه النذر من الطاعات". "المقدمات الممهدات"(1/ 405). يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 494).
وهاهنا يعارِضُ المؤلِّفُ هذه العبارةَ؛ لأنه لا يراها يمينًا، وإنما هي عنده داخلةٌ في النذر
(1)
.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النُّذُورِ مِنْ جِهَةِ الصِّبَغِ).
أي: أن ما سبق من أنواع إنما هو مندرج تحت التقسيم الأول، وهو تقسيم النذر من جهة لفظه وصيغته.
* قوله: (وَأَمَّا أَصْنَافُهُ مِنْ جِهَةِ الأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جِنْسِ المَعَانِي المَنْذُورِ بِهَا، فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: نَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ القُرَبِ، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ المَعَاصِي، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ المَكْرُوهَاتِ، وَنَذْرٌ بِأَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ المُبَاحَاتِ)
(2)
.
(1)
وهو ما حرره المتأخرون، يُنظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 408)؛ حيث قال:"قال العلامة بهرام: النذر كيف ما صدقت أحواله لا يقضى به، وإن وجب الوفاء به، ومقتضى ذلك أن: إن فعلت كذا فلله عليَّ عتق عبدي أو التصدق بهذا الدينار غير يمين، مع أن التعريف يقتضي أنها يمين؛ لأن قائلها لم يقصد بها القربة بل قصد الامتناع من أمر، وقد قال ابن عرفة في تعريف النذر: لا لامتناع من أمر هذا يمين. وصريح كلام العلامة الأجهوري يقتضي أنها ليست يمينًا مع أنها معلقة على أمر مقصود عدمه، وعلَّل ذلك بأنها صيغة صريحة في النذر لا تخرج عنه، ولو علقت".
(2)
يُنظر في مذهب الأحناف: "تحفة الفقهاء"، لأبي بكر السمرقندي (2/ 339)؛ حيث قال:"إذا نذر لله سبحانه وتعالى بما هو قربة وطاعة يجب عليه الوفاء به ولم يجب عليه غير ذلك، وإن كان مباحًا لا يجب عليه شيء، وإن كان معصية لم يجب عليه الوفاء به وعليه كفارة اليمين إذا فعله".
ويُنظر في مذهب المالكية: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد (1/ 404)؛ حيث قال:"النذر ينقسم على أربعة أقسام: ندر في طاعة يلزم الوفاء به. ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 575)؛ حيث قال:" (وهو)؛ أي: النذر قسمان (نذر تبرر) سمي به؛ لأنه طلب به البر والتقرب إلى الله تعالى (و) نذر لجاج بفتح اللام سمي به لوقوعه حالة اللجاج والغضب".=
*
أقسام النذر من جهة المعاني المنذور بها:
أَوَّلًا: نذرٌ بأشياء من جِنس القُرَب:
والقُرَبُ جَمْعُ قُربَةٍ، وهي: ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ
…
" إلى آخر الحديث
(1)
.
فالقُرَبُ: هي الطاعات وأفعال الخير والبِرِّ.
ثانيًا: نذرٌ بأشياء من جِنس المعاصي:
بِأَنْ يَنذِرَ ما فيه معصية لله سبحانه وتعالى، كَأنْ يَنذِرَ أن يَشرَبَ الخمرَ، ومعلومٌ
= وفي "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 234):"الصيغة إن احتملت نذر اللجاج ونذر التبرع رجع فيها إلى قصد الناذر؛ فالمرغوب فيه تبرر والمرغوب عنه لجاج، وضبطوا ذلك بأن الفعل إما طاعة أو معصية أو مباح، والالتزام في كل منها تارةً يتعلَّق بالإثبات، وتارةً بالنفي بالإثبات في الطاعة".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (4/ 357، 358)؛ حيث قال: "والنذر المنعقدة أقسام:
أحدها: المطلق: كعليَّ نذر أو لله عليَّ نذر: أطلق، أو قال: إن فعلت كذا ولم ينوِ شيئًا فيلزمه كفارة يمين.
الثاني: نذر اللجاج والغضب وهو تعليقه بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه والتصديق عليه، كقوله: إن كلمتك أو إن لم أضربك فعليَّ الحج أو صوم سنة
…
فيخير بين فعله وكفارة يمين إذا وجد الشرط
…
الثالث: نذر المباح، كقوله: لله عليَّ أن ألبس ثوبي أو أركب دابتي فيخير بين فعله وكفارة يمين: كما لو حلف ليفعلنه فلم يفعل.
الرابع: نذر مكروه: كطلاق ونحوه؛ فيستحب أن يكفر ولا يفعله فإن فعله فلا كفارة عليه.
الخامس: نذر المعصية: كشرب الخمر وصوم يوم الحيض
…
السادس: نذر التبرر؛ كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف وعيادة المريض والحج والعمرة ونحوها من القرب
…
".
(1)
أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة.
أنها مُحَرَّمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ ذلك بقوله: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ"
(1)
، أو يَنذِرَ أن يَسرِقَ أو يزني أو يقطع طريقًا أو يحارِب اللَّهَ ورسولَهُ أو يشيع الفاحشة بين المؤمنين أو يسعى بينهم بالنميمة؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]؛ ولذا فكل ذلك إنما هو نَذْرُ معصيةٍ لا يجوز الوفاءُ به بحالٍ.
ثالثًا: نذرٌ بأشياء من جِنس المكروهات:
رابعًا: نذرٌ بأشياء من جِنس المباحات:
فهناك أشياءُ ليست من الطاعات ولا من المعاصي، وإنما قد تكون من المكروهات أو المباحات؛ فالأحكام التكليفية خمسة أحكامٍ كما نعلم
(2)
، وهي:
الواجب: وهو الذي يُثاب فاعِلُه ويعاقَبُ تاركُه، كالصلوات الخمس والزكاة وغيرها.
والمندوب: وهو الذي يُثاب فاعِلُه ولا يُعاقَب تاركُه، كركعتي الفجر والسُّنَن الرواتب وغيرها.
والمباح: وهو الذي يستوي فيه الطرَفان بحيث لا يترتب عليه حُكمٌ، وإنما يُثاب فاعِلُه لو ابتغى به وَجْهَ الله سبحانه وتعالى، كما يشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(3)
؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يُضيعُ أجْرَ مَن أَحسَنَ عَمَلًا.
كأنْ يَنذِرَ الإنسانُ أن يلبس ثوبه أو يركب دابته أو سيارته أو يأكل
(1)
أخرجه مسلم (2003) عن ابن عمر.
(2)
يُنظر هذه الأحكام في: "المستصفى"، للغزالي (ص 59)، و"الإحكام في أصول الأحكام"، للآمدي (1/ 121 - 126).
(3)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، ولفظه:"إنما الأعمال بالنية".
الطعام أو يشرب الماء، فكل هذه من الأُمور المباحة التي تدخل في قول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
والمكروه: ما يُثابُ تارِكُهُ ولا يُعاقَبُ فاعِلُهُ.
والحرام: ما يُعاقَبُ فاعِلُهُ ويُثابُ تارِكُهُ.
ومِن العلماء مَن يتجاوز في ذلك ويقول إن اللجاجَ والغضبَ هو النوع الخامس من أنواع النذر، وهذا النوع لم يَذكُره المؤلِّفُ؛ لأن حُكمَ نَذْرِ اللجاج يرتبط بالأيمان، كما في قوله تعالى:{بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21].
ونَذْرُ اللجاج معناه: أنه قد حَصَلَتْ معانَدةٌ واشتدَّ الأمرُ حتى أَلزَمَ الناذرُ نفسَه بهذا النَّذْرِ؛ ولذلك سُمِّيَ بـ (ندر اللجاج) أو: (نذر الغضب)، أو:(نذر المُغلَق).
وحُكْمُهُ حُكْمُ الإيمان؛ بحيث إن فيه كفارةَ يمينٍ
(1)
.
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 738)؛ حيث قال: "اعلم أن المذكور في كتب ظاهر الرواية أن المعلَّق يجب الوفاء به مطلقًا؛ أي: سواء كان الشرط مما يراد كونه؛ أي: يطلب حصوله كإن شفى الله مريضي أو لا كإن كلمت زيدًا أو دخلت الدار فكذا، وهو المُسمَّى عند الشافعية نذر اللجاج وروي عن أبي حنيفة التفصيل المذكور هنا، وأنه رجع إليه قبل موته بسبعة أيام وفي "الهداية": أنه قول محمد وهو الصحيح".
وفي ذكر الكفارة، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (3/ 110)؛ حيث قال:"إن لم يسم شيئًا في المطلق والمعلق تجب عليه كفارة يمين، لكن في المطلق تجب للحال وفي المعلق إذا وجد الشرط وإن سمَّى شيئًا ففي المطلق يجب الوفاء به، وكذا في المعلق إن كان التعليق بشرط يراد كونه وإن كان لا يراد كونه قيل يجب عليه الوفاء بالنذر وقيل يجزيه كفارة اليمين إن شاء، وإن شاء أوفى بالمنذور، وهو الصحيح رجع إليه أبو حنيفة رضي الله عنه قبل موته بثلاثة أيام، وقيل: بسبعة".
ويُنظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 161)؛ حيث قال:"ومنه نذر اللجاج، وهو أن يقصد منع نفسه من شيء ومعاقبتها نحو لله علي كذا إن كلمت زيدًا وللزمه النذر، وهذا من أقسام اليمين عند ابن عرفة، والمصنف يرى أنه من النذر". وانظر: "التاج والإكليل"، للمواق (3/ 390).=
وهناك مِن العلماء مَن يزيد في هذا التقسيم، بأن يجعَلَ النَّذر المُطلَقَ نوعين، فيكون هناك نذر مطلَق ونذر مُبهَمٌ
(1)
.
ومِنهُم مَن زادَ النَّذرَ الواجبَ، كأنْ يَنذِرَ الإنسانُ أن يُصلِّيَ اليومَ صلاةَ العشاءِ التي هي واجبة عليه في الأصل، لكنه نَذَرَ أن يُؤدِّيَها
(2)
.
فحاصل الأمر: أن هناك من العلماء من جَعَلَ أقسامَ النذر سبعةَ أقسامٍ، ولكن - كما ذَكَرْنَا - فإن نَذْرَ اللجاج والغضب إنما يُذكَر في الأيمان؛ لأن كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يمينٍ؛ ولذا فإنه يأخذ أحكام الأيمان.
= ويُنظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر (10/ 69)؛ حيث قال: " (
…
نذر لجاج) - بفتح اللام - وهو التمادي في الخصومة، ويُسمَّى نذر ويمين اللجاج والغضب والغلق بفتح المعجمة واللام، وهو أن يمنع نفسه أو غيرها من شيء أو يحث عليه أو يحقق خبرًا غضبًا بالتزام قربة (ك: إن كلمته) أو إن لم أكلمه أو إن لم يكن الأمر كما قلته (فللَّه علي) أو فعليَّ (عتق أو صوم) أو عتق وصوم وحج (وفيه) عند وجود المعلق عليه (كفارة يمين) ".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للبهوتي (4/ 357)؛ حيث قال:"نذر اللجاج والغضب وهو تعليقه بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه والتصديق عليه، كقوله: إن كلمتك أو إن لم أضربك فعليَّ الحج أو صوم سنة أو عتق عبدي أو مالي صدقة أو إن لم أكن صادقًا فعليَّ صوم كذا فيخير بين فعله وكفارة يمين إذا وجد الشرط".
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف؛ "بدائع الصنائع"، للكاساني (5/ 92)؛ حيث قال:"وإن كان معلقًا بشرط يحنث عند الشرط؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين". والمراد منه النذر المبهم الذي لا نية للناذر فيه، وسواء كان الشرط الذي علَّق به هذا النذر مباحًا أو معصية، بأن قال: إن صمت أو صليت فللَّه عليَّ نذر، ويجب عليه أن يحنث نفسه، ويكفر عن يمينه".
وينظر في مذهب المالكية: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 112) "حيث قال:"أما المنذور فعلى نوعين: مبهم ومعين؛ فالمبهم ما لا يبين نوعه كقوله لله علي نذر ففيه كفارة يمين وحكمه كاليمين باللّه في الاستثناء واللغو".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 473)؛ حيث قال:" (وأنواع) نذر (منعقد ستة. أحدها) النذر (المطلق ك) قوله: الله عليَّ نذر أو إن فعلت كذا) فللَّه علي نذر (ولا نية) له بشيء (وفعله)؛ أي: ما علق عليه نذره (ف) عليه (كفارة يمين) ".
(2)
سبق.
قوله: (وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ).
يعني: أقسام النذر من جهة المعاني المنذور بها، تنقسم إلى قسمين، وهما:
قوله: (نَذْرٌ بِتَرْكهَا، وَنَذْرٌ بِفِعْلِهَا).
- نذرٌ بتركِهَا: كأن يكون له أخطاء يرتكبها، فيَنذِر أن يَترُكَها.
- ونذرٌ بفِعلِها: وهو أن يَنذِرَ فِعلَ شيءٍ مُعَيَّنٍ كصلاةٍ أو صدقةٍ أو غيرها من القُربات.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
(الفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَلْزَمْ مِنَ النُّذورِ وَمَا لا يَلْزَمُ
وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ مِنْ هَذ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ).
العلماء مُجمِعون على وجوب الوفاء بنذر الطاعة، ووجوب ترك الوفاء بنذر المعصية، لا خلاف في هذا
(1)
، أما باقي مسائل هذا الكتاب - أعني: باقي الأصناف السبعة -، فليست من المسائل المُجمَع عليها، بل إن بعضها فيه خلافٌ، فالشافعية لا يَرَوْنَ النذرَ المُطْلَقَ
(2)
ولا الكفارةَ فيه
(3)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 374)؛ حيث قال:"وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من قال: إن شاف الله مريضي أو شفاني من علتي أو قدم (غائبي) أو ما أشبه ذلك؛ فعليَّ من الصوم كذا ومن الصلاة كذا، ومن الصدقة كذا فكان كما قال أن عليه الوفاء بنذره".
(2)
النذر المطلق الذي لا يُعلّق باستدفاع أو استسعافٍ وسؤال، وهو أن يقول القائل: لله عليَّ عتق رقبة، أو صدقة، أو غيرها، مما يلتزم. يُنظر:"نهاية المطلب"، للجويني (18/ 410).
(3)
في المذهب قولان، يُنظر:"نهاية المطلب"، للجويني (18/ 423)؛ حيث قال: "النذر =
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ المُطْلَقِ فِي القُرَبِ).
فالاتفاق إنما هو على وجوب الوفاء بالنذر المُطلَقِ في الطاعات
(1)
.
قوله: (إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّذْرَ المُطْلَقَ لَا يَجُوزُ).
بعضهم يُطلِقُ ذلك فيقول: خلافًا للشافعية، والصواب أن القائلين بعدم جواز النذر المُطْلَقِ هم بعض أصحاب الشافعي
(2)
، أما الشافعية، فلهم رأيٌ آخر سَيَذكُرُها المؤلِّفُ في مسألةٍ أُخرى.
قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ المُطْلَقِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا لَا عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ، وَصُرِّحَ فِيهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ لَا إِذَا لَمْ يُصَرَّحْ).
فالشافعية يبنون هذا الرأي استنادًا إلى أن النذر المُطلَق لم يُقيَّد
= المُطلق، وهو الذي لا يرتبط بشرط نعمة، أو دفع بليَّة، وفيه قولان مشهوران؛ أحدهما: أنه لا يُلتزَم؛ فإنه تبرعٌ لا استناد له إلى واجب، وليس كالضمان؛ فإنه يستند إلى دين واجب، فبعُد الالتزام ابتداء، وليس كنذر التبرع؛ فإنه أثبت على صيغة الأعواض تشكِّرًا، فلم يبعُد وجوبه". ولم أقف عليه في "المعتمد".
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق"، لابن نجيم (4/ 305) "حيث قال:" (قوله: واليمين باللّه تعالى والرحمن والرحيم وجلاله وكبريائه وأقسم وأحلف وأشهد، وإن لم يقل: بالله ولعمر الله وأيم الله وعهد الله وميثاقه وعليَّ نذر ونذر الله، وإن فعل كذا فهو كافر) بيان لألفاظ اليمين المنعقدة".
ويُنظر في مذهب المالكية: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 210)؛ حيث قال:"وشبه في المنعقدة أمورًا ثلاثة يجب فيها الكفارة بقوله: (كالنذر المبهم)؛ أي: الذي لم يسمِّ له مخرجًا: (كـ: علي نذر) أو لله علي نذر (أو: إن فعلت كذا)، أو: إن شفى الله مريضي فعلي نذر، أو فللَّه علي نذر؛ فأمثلته أربعة فيه كفارة يمين".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 274)؛ حيث قال:" (والنذر المنعقد أقسامه) ستة: (أحدها): النذر (المطلق كعلي نذر أو لله عليَّ نذر) سواء (أطلق أو قال: إن فعلت كذا) وفعله (ولم ينوِ) بنذره (شيئًا) معينًا (فيلزمه كفارة يمين) لحديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين".
(2)
تقدَّم.
بشيءٍ، وما دام لم يُقَيَّدْ بشيءٍ فكأنه لَم يَكُنْ في مذهبهم
(1)
.
واللجاج: هو ما يَحصُل أثناء المعارَضة والمخاصَمَة، وهو إنما يلحق بالأيمان، ولذلك فكفارته هي كفارة يمينٍ
(2)
.
ولذا؛ فإن أهل العلم اتفقوا على لزوم النذر المطلَق إذا كان على وجه الرضا وإذا صُرِّحَ فيه بلفظ النذر؛ هذا لِيُخرِجُوا خلافَ الشافعية، وكذلك لِيُخرِجُوا خلافَ القائلين بتقييده بالرضا
(3)
.
قوله: (وَسَوَاءٌ أكَانَ النَّذْرُ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالشَّيءِ المَنْذُورِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُصَرَّحٍ).
فالمُصَرَّحُ فيه بالمنذور، كأن يقول:(الله عليَّ نذرٌ أن أحُجَّ).
أما غير المُصَرَّحِ، فكأن يقول:(الله عليَّ أَنْ أَحُجَّ) ولم يَقُل: نَذْرًا
(4)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ نَذْرًا بِقُرْبَةٍ)
(5)
.
كأن يقول: (إن حَصَلَ كذا فعلتُ كذا)، فأهل العلم قد اتفقوا على لزوم هذا النذر إذا كان نَذْرَ طاعةٍ، أما إذا كان نَذْرَ معصيةٍ فلا يُوَفَّى ولا يُؤَدَّى.
قوله: (وَإِنَّمَا صَارُوا لِوُجُوبِ النَّذْرِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وَلأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَدَحَ بِهِ،
(1)
سبق.
(2)
تقدَّم.
(3)
سبق.
(4)
سبق.
(5)
سبق ذكر الإجماع.
فَقَالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْر} [الإنسان: 7]، وَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ العِقَابِ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
والمؤلِّفُ هاهنا يشير إلى حُكْمِ النذر، استنادًا منه لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ؛ حيث أَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عباده بالوفاء بالعهود والعقود، والناذر إنما قد عَقَدَ العزم على شيءٍ وعاهَدَ اللَّهَ على الوفاء به، ومِن هذا الباب فإن النذر يجب الوفاء به ما لم يكن فيه معصيةٌ.
واستدل كذلك بمدح الله سبحانه وتعالى لِلذين يوفون بنذورهم في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} .
وبِذَمِّ اللهِ لِمَن كَذبُوا في عهدهم مع الله، في قوله تعالي:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] حيث إنهم لَمَّا عاهدوا اللَّهَ أن يتصدَّقوا ثم أخلفوا مع اللَّهِ عَهْدَهُمْ عاقَبَهُمُ اللَّهُ بأَنْ أَعْقَبَهُم نفاقًا في قلوبهم.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ النَّذْرِ فِي النَّذْرِ المُطْلَقِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَجِبُ النَّذْرُ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ مَعًا أَوْ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ؟).
فمن العلماء مَن ذَهَبَ إلى الاكتفاء بالنية فقط بحيث لا يَلزَم التصريح بلفظ النذر
(1)
، ومنهم مَن ذَهَبَ إلى وجوب اجتماع النية واللفظ
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (5/ 87)؛ حيث قال:"ولو قال: لله علي إطعام عشرة مساكين وهو لا ينوي أن يطعم عشرة مساكين، إنما نوى أن يطعم واحدًا ما يكفي عشرة أجزأه؛ لأن الطعام اسم للمقدار، فكأنه أوجب مقدار ما يطعم عشرة، فيجوز أن يطعم بعضهم".
معًا
(1)
، ومنهم مَنْ ذَهَبَ إلى أنه وإن لم يُصَرِّحْ باللفظ إلا أن الصيغة الواردة في ذلك تكون صيغةَ نَذْرٍ
(2)
.
فالنية معتَبَرَةٌ لا شكَّ، ولها تأثيرٌ كبيرٌ في الأعمال، بل إن مدار الأعمال عليها، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
وقوله: "إِنَّكَ لَا تَعْمَلُ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهِ"
(3)
.
وقوله: "مَنْ جَاهَدَ فِي سَبيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
(4)
.
قوله: (فَمَنْ قَالَ بِهِمَا مَعًا إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كذَا وَكذَا؛ وَلَمْ يَقُلْ: نَذْرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ شَيْءٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِجِهَةِ الوُجُوبِ).
معناه أنه لو قال: (الله علَيَّ أن أصومَ)، ولم يقل:(الله علَيَّ أن أصومَ نذرًا)، فهل تكفيه نِيَّتُهُ في الصيغة الأُولى التي لم تتضمن ذِكْرَ النذر أم لا بد من الإتيان بلفظ النذر؟
(1)
وهم المالكية، يُنظر:"شرح الزرقاني على مختصر خليل"(3/ 163)؛ حيث قال: "يُنظر في النذر كاليمين إلى النية ثم العرف ثم اللفظ". وثنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 667).
(2)
في مذهب الشافعية أنه لا يصح بالنية، ثنظر:"فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 252)؛ حيث قال:"و (شرط) في الصيغة لفظ يشعر بالتزام (وفي معناه ما مر في الضمان وهذا وما قبله من زيادتي) كالله عليَّ (كذا) أو على (كذا) كعتق وصوم وصلاة فلا يصح بالنية كسائر العقود".
في مذهب الحنابلة أن النذر لا يلزم بالنية وأن الاعتبار فيه باللفظ، يُنظر:"كشاف القناع"(6/ 278)؛ حيث قال: " (وإن نذر الصدقة بمال ونيته ألف) أو نحوه (مختصة يخرج ما شاء)؛ لأن اسم المال يقع على القليل، وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم، والنذر لا يلزم بالنية".
(3)
أخرجه البخاري (4409)، ومسلم (1628) بلفظ:"إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة".
(4)
أخرجه البخاري (123)، ومسلم (1904).
فهؤلاء قالوا: إنه لا يلزمه شيءٌ؛ لأن النذر ليس مقرَّرًا بأصل الشرع، وإنما قد أَلْزَمَ النَّاذِرُ نفسَهُ به
(1)
.
لكن الله سبحانه وتعالى قد أَقَرَّهُ على ما أَلْزَمَ به نفسَه، وكما بَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم أن "النذر لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستَخرَج به مِن البخيل"
(2)
؛ فالبخيل من عادته أنه لا يُنفِقُ ولا يُحِبُّ الإنفاقَ فيأتي النَّذْرُ فيكون دافعًا ومجبِرًا له على ذلك مما يعود بالفائدة على الفقراء والمحتاجين عند أدائه الكفارةَ.
أما فِعْلُ الطاعات فالأصل فيه أنه لا يَحتاج إلى نَذْرٍ وإنما ينبغي التنافُسُ في الطاعة، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وكما قال سبحانه:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
قوله: (وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اللَّفْظُ قَالَ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ واِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِهِ)
(3)
.
من المعلوم اشتراطُ النية في العبادات، لكن التلفظ بالنية ليس شرطًا
(1)
مذاهب الجمهور؛ عدم اشتراط ذكر لفظ النذر.
يُنظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (2/ 43)؛ حيث قال:" (نذر مطلقًا) نحو: لله عليَّ صوم هذا الشهر".
وكذا في مذهب المالكية، على الرغم من أنهم قالوا كما سبق بوجوب النية واللفظ معًا.
يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 112)؛ حيث قال:"ويجب الوفاء به سواء ذكر لفظ النذر أو لم يذكره، إلا إن قصد الإخبار فلا يجب عليه شيء". ويُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 317).
وينظر في مذهب الشافعية: "منهج الطلاب"، لزكريا الأنصاري (ص 180)؛ حيث قال:"وفي الصيغة لفظ يشعر بالتزام: لله عليَّ أو علي كذا".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 610)، حيث قال:" (وإن نذر هديًا وأطلق) بأن قال: لله عليَّ هدي ولم يقيده بلفظه ولا نيته (فأقل مجزئ) عن ناوه (شاة) ".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
وهو مذهب الجمهور كما سبق.
فيها، إلا في الحَجِّ
(1)
؛ لِفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك فيقول الحاجُّ: (لَبَّيْكَ حَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً، لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً)، أما في باقي العبادات فلا يُشتَرَطُ ذلك، فإذا نويتَ أداءَ صلاةٍ بعينها مثَلًا فإنَّكَ تكتفي بهذه النية ولا يَلزَمُكَ التلفُّظُ بها، هذا مُرادُ المؤلِّفِ من هذه العبارة.
قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).
بل هو مذهب الأئمة الأربعة
(2)
.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ النَّذْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُ).
معناه: أن النذر يَلزَمُهُ وإن لم يُصَرَّحْ بلفظ النذر، فإن قال:(للَّه عَلَيَّ أن أَحُجَّ)، أو:(للَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أن أَحُجَّ)، فكلاهما ينعقد به النذر ويَلزَمُه به سواء صَرَّحَ بلفظ النذر أو لم يُصرِّحْ
(3)
.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ، لَكِنْ رَأَى أَنَّ حَذْفَ لَفْظِ النَّذْرِ مِنَ القَوْلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ إِذْ كانَ المَقْصُودُ بِالأَقَاوِيلِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ النَّذْرِ النَّذْرَ وإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ النَّذْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ)
(4)
.
ومراد المؤلِّفِ هاهنا: أنه بالرغم من أن الأصل في مذهب المالكية هو عدم لزوم النذر في حق الناذر إلا بوجود النية واللفظ معًا، إلا أن هذه الصَّيَغ التي تَخرُجُ مَخرَجَ النذر لا تحتاج للتقَيُّدِ بهذا القيد؛ لأنها في العُرْفِ صيغة نَذْرٍ.
(1)
سبق ذكر هذه المسألة في كتاب الحج.
(2)
تقدَّم ذكره.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
قوله: (وَالأَوَّلُ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ)
(1)
.
وهو مِن كبار التابعِين.
قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يَرَ لُزُومَ النَّذْرِ المُطْلَقِ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ حَمَلَ الأَمْرَ بِالوَفَاءِ عَلَى النَّدْبِ).
الآن يَذكُر المؤلِّفُ تعليلَ مذهب الشافعية؛ أي: هذا شبيهٌ بذاك التعليل؛ بسبب مذهب من يقول بعدم الكفارة في النذر المُطْلَق؛ لِيُخرِجَ نَذْرَ اللجاج.
قوله: (وَكَذَلِكَ مَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ الرِّضَا، فَإِنَّمَا اشْتَرَطَهُ؛ لِأَنَّ القُرْبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى جِهَةِ الرِّضَا، لَا عَلَى جِهَةِ اللَّجَاجِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ).
القربة هي الطاعة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، والطاعات إما أن تكون طاعاتٍ واجبةً افترَضَها الله على عباده فهذه يَلزَمُهُم أداؤها، وإما أن تكون من الأُمور المندوبة كنوافل الصلاة والصيام والصدقات والإحسان وأنواع البِرِّ وغير ذلك مما يَفعَله الإنسان بقصد التقرب به إلى الله سبحانه وتعالى وطَلَبِ الثواب منه
(2)
.
فالإمام الشافعي يشترط في النذر أن يكون على جهة الرِّضا لا على
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 172، 173)؛ حيث قال: "قال أبو عمر: أظن سعيد بن المسيب جعل قول القائل "عليَّ المشي" من باب الإخبار بالباطل؛ لأن الله تعالى لم يوجب عليه مشيًا في كتابه ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا قال: "نذر مشي " كان قد أوجب على نفسه المشي؛ فإن كان في طاعة لزمه الوفاء به، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فهم لا يرون في قول الرجل: "عليَّ المشي" شيئًا حتى يقول: "نذرت" أو "عليَّ نذر مشي" أو "عليَّ لله المشي"، وذا على وجه الشكر لله وطلب البر والحمد فيما يرجو من الله".
(2)
تقدَّم ذكر هذا.
جهة اللجاج والغضب؛ لأن القربات إنما تُفعَل على جهة الرضا وقَصْدِ التقرُّبِ إلى الله
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ، فَالنَّذْرُ عِنْدَهُ لَازِمٌ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ وَقَعَ
(2)
؛ فَهَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ الأَشْيَاءِ المَنْذُورِ بِهَا، فَإِنَّ فِيهِ مِنَ المَسَائِلِ الأُصُولِ اثْنَتَيْنِ).
والمؤلِّفُ هاهنا يريد التأكيد على أنه لَمْ يتناول كلَّ مسائل الكتاب، وإنما اقتَصَرَ على الأُصول وحدها دون الفروع.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأَولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً).
أما الحديث الوارد في ذلك فهو صريحٌ؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْه، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ"
(3)
.
فلا نَذْرَ إذَنْ في معصية الله، ومن فعل ذلك فيجب عليه عدم الوفاء به، ولكن الكلام الآن فيما إذا كانت تجب عليه كفار حينئذٍ أم لا.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ: لَيْسَ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَان، وَالكُوفِيُّونَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ، وَاللَّازِمُ عِنْدَهُمْ فِيهِ هُوَ كفَّارَةُ يَمِينٍ، لَا فِعْلُ المَعْصِيَةِ).
وهذا القول من المؤلِّف يعتريه عدم الدقة، لأن جمهور العلماء قد انقسموا في ذلك إلى فريقين:
الفريق الأول: أنه لا يلزمه في ذلك شيءٌ، وهو مذهب مالكٍ
(4)
،
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم ذكر هذا.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 415)، حيث قال: " (ومن نذر أن يعصي الله) سبحانه وتعالى بشيء كسرقة أو زنا أو قتل (فلا يعصه) بالوفاء بنذره للإجماع على =
والشافعيِّ
(1)
، وروايةٌ عن أحمد
(2)
.
الفريق الثاني: أنه يَلزَمُهُ في ذلك كفارةُ يمينٍ، وهو مذهب أبي حنيفةَ
(3)
، والرواية الأُخرى عن أحمد
(4)
، ومذهب سفيان الثوري والكوفيِّين
(5)
.
فاللازم عند الفريق الثاني إنما هو كفارة اليمين لا فِعْلُ المعصية.
= حرمة ارتكاب المعاصي، وهذا الذي ذكره المصنف لفظ حديث، وأما قوله:(ولا شيء عليه) ليس من الحديث. والمعنى: أن ناذر المعصية لا شيء عليه سوى الإثم، وإنما نص على ذلك للرد على أبي حنيفة في قوله: يلزمه كفارة يمين لتمسكه بما ورد في بعض الأحاديث التي ضعفها غيره".
(1)
يُنظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 252، 253)؛ حيث قال: " (فلو نذر غيرها)؛ أي: غير القربة المذكورة واجب عينى كصلاة الظهر أو مخير كأحد خصال كفارة اليمين مبهمًا أو معصية كشرب خمر
…
(لم يصح) نذره
…
وأما المعصية؛ فلخبر مسلم: "لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما لا يملكه ابن آدم "
…
ولم يلزمه (بمخالفته) كفارة (حتى في المباح لعدم انعقاد نذره)، وأما خبر:"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"، فضعيف باتفاق المحدثين".
(2)
يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (11/ 122)؛ حيث قال:"ويحتمل ألا ينعقد نذر المباح، ولا المعصية. ولا تجب به كفارة) كما تقدم. وهو رواية مخرجة. قال الزركشي: في نذر المعصية روايتان. إحداهما: هو لاغٍ. لا شيء فيه. قال الإمام أحمد - -رحمه الله تعالى- - فيمن نذر لَيهدمن دار غيره لَبِنة لَبِنة: لا كفارة عليه. وجزم به في "العمدة"".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 736)؛ حيث قال: "قال الطحاوي: إذا أضاف النذر إلى المعاصي ك: لله علي أن أقتل فلانًا كان يمينًا ولزمته الكفارة بالحنث".
(4)
وهي الرواية المعتمدة في المذهب، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 474)؛ حيث قال:" (الخامس نذر) فعل (معصية كشرب خمر وصوم يوم عيد أو) يوم (حيض أو أيام التشريق) أو ترك واجب (فيحرم الوفاء به) لحديث: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال (ويكفر من لم يفعله) إن نذر المعصية كفارة يمين".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 184)؛ حيث قال: "
…
وهو قول من قال: إن من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين وممن قال بذلك أبو حنيفة وسفيان والكوفيون".
فالعلماء مُجمِعُون على أنه لا يُوَفِّي بنذر المعصية
(1)
، لأن فِعلَ المعصية لا يجوز، ولقول الله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69].
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ).
هناك عدة أحاديث في هذا الباب، وكل فريقٍ من الفريقين يَستَدِلُّ بما يراه هو الأَوْلَى والأقوى منها.
فمراد المؤلِّفِ من قوله: (الآثار) هي الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن عادته أنه يُطلِقُ الأثرَ ويريد به الحديثَ، ومن المعروف عند علماء الحديث والمصطَلَحِ أن الحديثَ هو ما كان مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأثرَ ما كان موقوفًا على الصحابيِّ، ولكن إطلاق لفظ الأثر على الحديث النبويِّ يجوز؛ لأنه أُثِرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورُوِيَ عنه
(2)
.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا البَابِ حَدِيثَان: حَدِيثُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْه، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ"، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ بِالعِصْيَانِ.
هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في الصحيح، وأصحاب السُّنَن
(3)
،
(1)
سبق ذكر الإجماع.
(2)
يُنظر: "التقريب والتيسير"، للنووي (ص 33)؛ حيث قال:"الموقوف، وهو المروي عن الصحابة قولًا لهم أو فعلًا أو نحوه متصلًا كان أو منقطعًا، ويستعمل في غيرهم مقيدًا، فيقال: وقفه فلان على الزهري ونحوه، وعند فقهاء خراسان تسمية الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر، وعند المحدثين كله يُسمَّى أثرًا".
(3)
أخرجه أبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (3807)، وابن ماجه (2125).
وأحمد
(1)
، وكثيرٌ من أئمة الحديث
(2)
، وهو:"مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْه، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ".
فقوله: "فَلْيُطِعْهُ" أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، وقوله:"فَلَا يَعْصِهِ" نهيٌ، والنهي يقتضي التجنب والابتعاد؛ فالحديث يفيد الأمر بفِعلِ الطاعة والنهي عن فِعلِ المعصية.
ولكن مع تركِ المعصية هل يَلزَمُه أن يُكَفِّرَ أم لا يَلزَمُه؟
فأصحاب الرأي الأول
(3)
يقولون بأنه لا يلزمه شيءٌ، استنادًا منهم إلى هذا الحديث الذي لم يَرِدْ فيه ذِكْرُ الكفارة، وكذلك استنادًا منهم لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ"
(4)
، وفوله صلى الله عليه وسلم:"لَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ سبحانه وتعالى "
(5)
، فاستدلوا من هذه الأحاديث على عدم وجوب الكفارة في نَذْرِ المعصية؛ بِناءً على ما استنبطوه من هذه الأدلة من أن نَذْرَ المعصية لا ينعقد ابتداءً.
قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
(6)
الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(24075).
(2)
أخرجه الدارمي في "سننه"(2383)، وابن خزيمة في "صحيحه"(3/ 352)، وأبو يعلى في "مسنده"(8/ 277).
(3)
وهم الجمهور كما سبق.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
أخرجه أبو داود (2192)، قال الألباني:"إسناده حسن". "صحيح أبي داود - الأم"(1902).
(6)
الصواب: أنه حديث عائشة - وهو حديث آخر خلاف حديث عائشة الذي أخرجه البخاري - كما سيأتي في كلام ابن عبد البر، وقد أشار لذلك الشارح.
أما حديث أبي هريرة في هذا الباب: فليس فيه ذكر الكفارة، وإنما لفظه:"لا نذر في غلط". أخرجه ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال"(8/ 360) عن أبي هريرة مرفوعًا. قال ابن عدي: "وهذه الأحاديث للوليد مع ما لم أذكر من حديثه عامتها غير محفوظة".
قَالَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ")
(1)
.
هنا وَقَعَ المؤلِّفُ - عفا الله عنه - في عدة أخطاء، وهي:
- الخطأ الأول: أنه قال: (الثابت)، ومن منهج المؤلِّفِ أنه لا يُطلِقُ لفظ الثابت إلا على ما ثبت في "الصحيحين" أو في أحدهما.
فأما حديث عمران بن حصين الذي ذَكَرَه المؤلِّف فليس هو الحديث الثابت في صحيح مسلم، وإنما الذي ورد في صحيح مسلم:"لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم"
(2)
.
أما الحديث الذي أورده المؤلف عن عمران بن حصين فليس في "صحيح مسلمٍ"، وإنما هو حديث ضعيفٌ تكلم العلماء فيه، ومنهم ابن عبد البر، وسيأتي بيان ذلك
(3)
.
- الخطأ الثاني: أنه قال: (وحديث أبي هريرة)، فالحديث ليس عن
(1)
أخرجه النسائي (3840) عن عمران بن حصين.
وأخرجه أبو داود (3292) عن عائشة.
حديث عمران: ضعفه الألباني: فقال في "إرواء الغليل"(2587) في رواية عمران: "قلت: وهذا إسناد ضعيف جدًّا، محمد بن الزبير هذا متروك، كما قال الحافظ في "التقريب".
قلت: وقد اضطربوا عليه في إسناده، فرواه عبد الوهاب وهو ابن عطاء عنه هكذا.
أما حديث عائشة: فصححه الألباني في "الإرواء" ورد على مَن ضعفه. انظر: "إرواء الغليل"(8/ 214 - 216).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(5/ 184 - 185): "وإن احتج محتج بحديث عمران بن حصين وحديث عائشة جميعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين". قيل له: هذان حديثان مضطربان لا أصل لهما عند أهل العلم بالحديث؛ لأن حديث عائشة إنما يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث، وعنه رواه ابن شهاب لا يصح عنه غير ذلك، وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه زهير وزهير أيضًا عنده مناكير".
أبي هريرة، وإنما هو عن عائشة
(1)
.
فأما حديث عمران، فهو:"لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم"
(2)
(3)
، وحديث عائشة:"لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين"
(4)
.
فحديث عائشة إنما يحتج به القائلون بوجوب الكفارة
(5)
؛ حيث وَرَدَ فيه التصريح بالكفارة ولم يَرِد في حديث عمران
(6)
، لكن حديث عائشة مُختَلَفٌ فيه
(7)
، وسيأتي حديث آخر، وهو حديث:"ليس في النذر كفارة، أو النذر الذي لم يُسَمَّ كفارته كفارة يمين"
(8)
، وهو حديث صحيح سيأتي الكلام عنه.
قوله: (وَهَذَا نَصٌّ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ).
أي: أن الحديث الثاني يَنُصُّ على لزوم الكفارة
(9)
.
قوله: (فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا
(10)
، قَالَ: الحَدِيت الأَوَّلُ تَضَمَّنَ الإِعْلَامَ بِأَنَّ المَعْصِيَةَ لَا تَلْزَم، وَهَذَا الثَّانِي تَضَمَّنَ لُزُومَ الكَفَّارَةِ
(11)
.
(1)
سبق هذا التنبيه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
ليس هذا هو حديث الباب وإنما حديث الباب لفظه: "فكفارته كفارة يمين"، وهو نفس حديث عائشة كما سبق.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
وهم الأحناف ورواية عن الحنابلة كما سبق.
(6)
الشارح يتكلم عن حديث آخر، وإنما حديث عمران هو نفس حديث عائشة كما سبق. وهو من عمدة القائلين بالكفارة في نذر المعصية.
(7)
سبق ذكره، وقد ضعفه الأكثرون، وصححه الشيخ الألباني كما سبق.
(8)
أخرجه أبو داود (3322) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من نذر نذرًا لم يُسمِّه، فكفارته كفارة يمين
…
". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5862).
(9)
وهو حديث عمران وعائشة.
(10)
أي: بين حديث عائشة الأول وحديث عمران وعائشة الثاني.
(11)
ينظر في مذهب الأحناف: "تحفة الفقهاء"، لأبي بكر السمرقندي (2/ 339)، حيث قال: "وإن كان معصية لم يجب عليه الوفاء به وعليه كفارة اليمين إذا فعله، وأصله:=
فمن جَمَعَ بين الحديثين
(1)
رأى أن الحديث الأول بَيَّنَ أن نَذْرَ المعصية لا ينبغي الوفاء به، وأن الحديث الثاني زاد أن الكفارة لازمةٌ.
والحديث الثاني - في حقيقة الأمر - تكلَّمَ العلماءُ في شأنه
(2)
، ولذلك فالإمام أحمد له في المسألة روايتان
(3)
.
قوله: (فَمَنْ رَجَّحَ ظَاهِرَ حَدِيثِ عَائِشَةَ
(4)
، إِذْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
(5)
، قَالَ: لَيْسَ يَلْزَمُ فِي المَعْصِيَةِ شَيْءٌ).
الآن عندنا حديثان، الحديث الأول: مُطْلَقٌ، لم يُثْبِت الكفارةَ ولم يَنْفِهَا، ولكنه تناول عدم جوازِ الوفاء بنذر المعصية
(6)
، أما الحديث الثاني
(7)
: فقد جاء بزيادةٍ تتضمَّن حُكْمَ الكفارة، وهذه الزيادة لا شكَّ أنها
= قوله عليه السلام: "من نذر نذرًا أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، وقال عليه السلام:"النذر يمين وكفارته كفارة يمين"".
ويُنظر دليل رواية الجواز عند الحنابلة في: "المغني"، لابن قدامة (10/ 5 - 7)؛ حيث قال:"ووجه الرواية الأُولى: ما روت عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "
…
وعن أبي هريرة، وعمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
…
ولأن النذر يمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة، لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فلم تطقه:"تكفر يمينها". قال أحمد: إليه أذهب. وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها: "كفِّري يمينك". ولو حلف على فعل معصية، لزمته الكفارة، فكذلك إذا نذرها. فأما أحاديثهم، فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله. وهذا لا خلاف فيه، وقد جاء مصرحًا به هكذا في رواية مسلم
…
".
(1)
وهم الأحناف ورواية عن الحنابلة كما سبق.
(2)
سبق.
(3)
تقدَّم.
(4)
وهو حديث البخاري: "ومن ندر أن يعصي الله فلا يعصه".
(5)
الصواب: أنه حديث عمران وعائشة، والذي فيه:"لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين"، كما سبق.
(6)
وهو حديث عائشة عند البخاري كما سبق.
(7)
وهو حديث عمران وعائشة في "السنن".
تُقبَل إن جاءت في حديثٍ صحيحٍ، ولكن الحديث الذي وَرَدَت به هذه الزيادة هو حديثٌ مختلَفٌ في صحته.
فأصحاب الرأي الثاني في المسألة
(1)
يحتجون بهذا الحديث، ويعللون ذلك بأن الحديث له من الطُّرُق والشواهد ما يجعله صالحًا للاحتجاج به، وأما أصحاب الرأي الأول فيتركون الاحتجاج به ولا يأخذون بالحُكم الوارد فيه، ويعللون ذلك بأن جميع طُرُق الحديث إما فيها راوٍ متروكٌ أو ضعيفٌ أو غير ذلك
(2)
.
فمراد المؤلِّف هاهنا: أن مَن رَجَحَ عندهم الحديث الأول ولم يصح لديهم الحديث الثاني المشتمل على زيادة حُكْم الكفارة فهؤلاء يأخذون بظاهر الحديث الأول ولا يرَوْنَ في كفارةً في نَذْرِ المعصية.
قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ).
فهناك عدة مسالك يسلكها العلماء عند التعارض، منها الجمع بين النصوص، حيث إن الجمع بينها أَوْلَى من أخذ بحضها وترك البعض الآخر، وهذا المسلك إنما يكون عندما تكون النصوص المتعارضةُ صحيحةً كلها، أما إذا كان بعضها صحيحًا وبعضها ضعيفًا فلا يُجمَع بينها وإنما يتعين الترجيح حينئذٍ
(3)
، كما هو الحال في مسألتنا هذه.
والمؤلف هاهنا يريد أن يقول: إن مَن ذَهَبَ إلى الجمع بين الحديثين أَوجَبَ في نَذْرِ المعصية كفارة يمينٍ.
(1)
وهم الأحناف، ورواية عن الحنابلة كما سبق.
(2)
سبق ذكر هذا من كلام ابن عبد البر.
(3)
قال الغزالي في سبل الجمع بين الأدلة: "وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى. وتقوي الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته، وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن". انظر: "المستصفى"(ص 376).
قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ضَعَّفَ أَهْلُ الحَدِيثِ حَدِيثَ عِمْرَانَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ
(1)
، قَالُوا: لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ
(2)
يَدُورُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الحَدِيثِ)
(3)
.
وكلام المؤلَّف هاهنا دليلٌ على أن الحديث ليس لأبي هريرة، فالحديت الذي يدور على سليمان بن أرقم إنما هو حديث عائشة.
قوله: (وَحَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ يَدُورُ عَلَى زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ، وَزُهَيْرٌ أَيْضًا عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ، وَلَكِنَّهُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ).
وهنا خطأ آخرُ من المؤلِّفِ - عفا الله عنه -؛ لأن حديث عمران إنما يدور على محمد بن الزبير الحنظلي، وليس على زهير بن محمد كما ذَكَرَ المؤلِّفُ
(4)
.
(1)
الصواب: أنه حديث عمران وعائشة، كما جاء عن ابن عبد البر كما سبق.
(2)
الصواب: حديث عائشة.
(3)
تقدَّم ذكره، وقد رد الألباني على هذا التضعيف كما سبق.
(4)
قال أبو الفيض الغُماري في "الهداية في تخريج أحاديث البداية"(6/ 148 - 149): "اشتملت هذه الجملة على أخطاء عديدة لم يقع للمؤلِّف مثلها من أوَّل الكتاب إلى هنا، ويبعد أن تكون صادرة من ابن عبد البر؛ فلا ندري كيف وقع فيها
…
ثانيها: قوله: لأنَّ حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك، وليس لأبي هريرة حديث في هذا الباب، وإِنَّما هو حديث عائشة؛ فهو الذي وقع في إسناده سليمان بن أرقم
…
ثالثها: قوله: وحديث عمران يدور على زهير بن محمد عن أبيه وليس في إسناد حديث عمران زهير بن محمّد وإِنما فيه محمَّد بن الزّبير الحنظلي التَّميمي وحاله كما قال ابن عبد البَرِّ
…
خامسها: قوله لكن خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر فإِنَّ حديث عقبة المخرّج في "صحيح مسلم" قد سبق بلفظ: "كفارة النذر كفارة يمين" وليس فيه التعرُّض للنذر في المعصية ولا إثبات الكفَّارة فيه".
قوله: (وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ المَالِكِيَّةِ أَنَّ يَحْتَجُّوا لِمَالِكٍ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ ألا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ"، قَالُوا: فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كانَ طَاعَةً لِلَّهِ، ويتْرُكَ مَا كانَ مَعْصِيَةً
(1)
.
وهذا الرجل المذكور في الحديث هو مَن يُعرَف بأبي إسرائيل، وقد حَرَّمَ الكلامَ على نفسه، وهو مما لا يُشرَع، وكذلك حَرَّمَ على نفسه أن يَستظِلَّ أو أن يَجلِسَ، بالرغم من أن الوقوف في الشمس فيه إضرارٌ بصحة الإنسان، وقد أتَت الشريعة المُطَهَّرة بالنهي عن الضرر في قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"
(2)
، فلا يجوز إضرار الإنسان نفسَه ولا إضراره بغيره.
وإنما جاء الشرع بالأمر بالتعاون على البِرِّ والتقوى، فقال سبحانه وتعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ولذلك أَنكَرَ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وَوَجَّهَهُ إلى أن الشريعة لم تأتِ للتشديد على الناس، وأن الله صلى الله عليه وسلم لا يكلف عباده فوق طاقتهم، وإنما كما قال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، فالعبادات مدارها على السماحة واليُسر ورَفْعِ الحَرَجِ.
فالطاعة التي أمَرَهُ الوسول صلى الله عليه وسلم بإتمامها هي الصيام؛ لأن الصيام في الأصل إنما هو عبادةٌ، فأَمَرَهُم صلى الله عليه وسلم بإرشاد الرجل إلى إتمام عبادة الصيام لأنها من القُرُبَاتِ والطاعات، بخلاف الامتناع عن الكلام الذي هو في الأصل لا حاجة له ولا فائدة منه، وكذلك ترك الجلوس الاستظلال اللَّذَيْن يعودان بالضرر لا النفع.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2340) عن عبادة بن الصامت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(896).
قوله: (وَلَيْسَ بِالظَّاهِرِ أَنَّ تَرْكَ الكَلَامِ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نَذْرُ مَرْيَمَ).
فتَرْكُ الكلام ليس معصيةً، ولكنه أمر فيه مَشَقَّةٌ، وهو كذلك مِمَّا يَندَرج تحت إيجاب ما لم يَجِبْ شَرْعًا.
أما نذر مريم ليس كنذر هذا الرجل، وقصة مريَمَ تختلف عن قصته، وهي المذكورة في قوله سبحانه وتعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].
قوله: (وَكذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ القِيَامُ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ إِتْعَابِ النَّفْسِ، فَإِنْ قِيلَ: فِيهِ مَعْصِيَةٌ، فَبِالقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ).
لا شكَّ أن الله سبحانه وتعالى قد حرَّمَ ما فيه ضررٌ، ولكن هناك من الطيبات ما يمنعه الله سبحانه وتعالى وقتٍ معيَّنٍ لحكمةٍ مَا، كما هو الحال في الصيام الذي يَحرُمُ فيه الطعامُ والشرابُ وجِماعُ الأهل في أوقات النهار، وهي أمورٌ ليست مُحَرَّمةً في نفسها، وإنما حُرِّمَت في هذا الوقت فقط؛ لأن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده ويختبرهم بالطاعات، وليس أنه سبحانه يشق عليهم ويضيقَ؛ فاللّه سبحانه غنيّ عن هذا، كما قال سبحانه وتعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].
أما أن يُبادِرَ الإنسانُ فيَفرِض على نفسه ما لم يفرضه الله عليه فهذا ليس من الشرع، وإنما قد كَلَّفَ نفسه بما يشق عليها؛ ولذلك أَمَرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يُوَجِّهُوه إلى الكَفِّ عن هذا.
قوله: (فَالأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مِنَ المُبَاحَاتِ).
فالذي يُفهَم من عموم الأدلة هو أن القيام في الشمسِ بالرغم أن الأصل فيه أنه مِن جُملة المباحات إلا أن هذا الرجل لَمَّا نَذرَهُ بالصورة التي تضر به وتشق عليه فحينئذٍ نَهَى الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن هذا.
ومثال هذا كذلك: ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا رأى رجلًا قد شَقَّ عليه السَّفَر، فقال:"ما هذا؟ ". قالوا: صائمٌ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"
(1)
.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ المُبَاحَاتِ).
يجب على الإنسان - في الحقيقة - ألا يُحَرِّمَ على نفسه ما أَحَلَّ اللَّهُ له؛ لأنَّ ما أَحَلَّ اللَّهُ للإنسان إنما هو من جِنس النِّعَم التي تَستَحِقُّ مُقابَلَتَها بالشكر والحمد.
ومن أدلة ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87].
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51].
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ؛ لَا يَلْزَمُ مَا عَدَا الزَّوْجَةَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ).
فلدينا إِذَنْ ثلاثة أقوالٍ في هذه المسألة:
القول الأول: قول مالكٍ، وهو أن ذلك لا يَلْزَمُ فيما عدا أن يُحَرَّمَ على نَفْسِهِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ؛ فعند مالكٍ لا يَلزَمُه شيءٌ من تحريم الطعام والشراب وسائر المباحات على نفسه، وإنما يَلزَمُه فقط ما حَرَّمَهُ على نفسه من وَطْءِ زَوْجَتِهِ
(2)
.
القول الثاني: قول أهل الظاهر، وهو أن ذلك ليس فيه شيءٌ
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 262)؛ حيث قال:" (ولا يلزم) النذر (بمباح)؛ نحو: لله علي لآكلن هذا الرغيف أو ليطأن زوجته". وانظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 418).
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (4/ 428)؛ حيث قال: "فإن نذر ما ليس طاعة =
القول الثالث: قول أبي حنيفة
(1)
، وأحمد
(2)
، وهو أن في ذلك كفارة يمينٍ.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارضَةُ مَفْهُومِ النَّظَرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]: 1]، وَذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ هُوَ اعْتِقَادَ خِلَافِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ أَعْنِي: مِنْ تَحْرِيمِ مُحَلَّلٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مُحَرَّمٍ).
فالنذر لا يُقصَد به مخالَفة الشريعة؛ ولذلك وَرَدَ النهي عن الوفاء بنذر المعصية لبطلان مخالَفة الشريعة؛ لأن النذر ليس من معناه إباحة مُحرَّمٍ أو تحريم مباحٍ، فإباحة المُحَرَّمَات وتحريم المباحات من كبائر الذنوب، بل هو من الكفر باللّه سبحانه وتعالى.
= ولا معصية كالقعود في دار فلان أو ألا يأكل خبزًا مأدومًا أو ما أشبه هذا لم يلزمه، ولا حكم لهذا إلا استغفار الله تعالى منه؛ لأن إيجاب النذر شريعة، والشرائع لا تلزم إلا بنص ولا نص إلا في نذر الطاعة فقط".
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (3/ 114)؛ حيث قال:"قال رحمه الله: (ومن حرم ملكه لم يحرم)؛ أي: مَن حرم على نفسه شيئًا مما يملكه بأن يقول مالي عليَّ حرام أو ثوبي أو جاريتي فلانة أو ركوب هذه الدابة لم يصر محرمًا عليه لذاته؛ لأنه قلب المشروع وتغييره ولا قدرة له على ذلك، بل الله تعالى هو المتصرف في ذلك بالتبديل قال رحمه الله: (وإن استباحه كفَّر)؛ أي: إن أقدم على ما حرمه يلزمه كفارة اليمين؛ لأنه ينعقد به يمينًا فصار حرامًا لغيره".
(2)
يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (4/ 357)؛ حيث قال:"نذر المباح: كقوله: لله عليَّ أن ألبس ثوبي أو أركب دابتي فيخير بين فعله وكفارة يمين: كما لو حلف ليفعلنه فلم يفعل".
وفي مذهب الشافعية خلاف، والمعتمد عدم لزوم الكفارة.
يُنظر: "الإقناع"، للشربيني (2/ 608)؛ حيث قال:"النذر على فعل مباح أو تركه لا ينعقد باتفاق الأصحاب فضلًا عن لزومه، ولكن هل يكون يمينًا تلزمه فيه الكفارة عند المخالفة أو لا اختلف فيه ترجيح الشيخين؛ فالذي رجحاه في "المنهاج" و"المحرر" اللزوم؛ لأنه نذر في غير معصية الله تعالى، والذي رجحاه في "الروضة" و"الشرحين"، وصوَّبه في "المجموع": أنه لا كفارة فيه وهو المعتمد لعدم انعقاده".
ولذلك لَمَّا نَزَلَ قولُ الله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قال عدي بن حاتمٍ: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أليسوا يُحَرِّمون ما أَحَلَّ اللَّهُ فتُحَرِّمونَهُ؟ ويُحِلُّون ما حَرَّمَ اللَّهُ فتُحِلُّونه؟ ". قال: بلى. قال: "فتلك عبادتهم"
(1)
.
أي: أنكم اتخذتموهم مُشَرِّعِين يُشَرِّعُون لكم من دون الله، فَمَنْ حَكَمَ بغير شريعة الله مُعتقِدًا أنَّ الحق في غير شريعة الله، أو سَوَّى بين شريعة الله وشريعة المخلوقِين فهو كافرٌ باللّه تعالى، إلا إذا كان مُكْرَهًا على ذلك أو وَقَعَ في ذلك جاهِلًا؛ لقوله سبحانه وتعالى:{لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقوله في الآية الأُخرى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقوله في الآية الثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي هَذَا إِنَّمَا هُوَ لِلشَّارعِ).
لأن الشَّارعَ - وهو الله سبحانه وتعالى هو صاحب الحق في تشريع الأحكام وتقريرها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو مُبَلِّغٌ لهذه الأحكام عن الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
ومن أجل ذلك اشترَطَ اللَّهُ على عباده ثلاثةَ أمورٍ لكي يحققوا الإيمان الكامل، وهي المجموعة في قوله سبحانه وتعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، أي: أن الإنسان ينبغي عليه الرجوع إلى
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 129) عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: "يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال:"أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(3293).
كتاب الله صلى الله عليه وسلم وسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، كما ينبغي عليه أن يكون حينئذٍ منشرح الصدر راضيًا بما حَكَمَ به الله سبحانه وتعالى، وكذلك أن يُسَلَّمَ تمام التسليم لهذا الحُكم الإلهي وينقاد له، مُعتقِدًا أن الحق فيه لا في غيره، عالِمًا أن هذا هو شرع الله الذي قال في كتابه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِمَكَان هَذَا المَفْهُومُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُه، كمَا لَا يَلْزَمُ إِنْ نَذَرَ تَحْلِيلَ شيءٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، أَثَرُ العَتَبِ عَلَى التَّحْرِيمِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الكَفَّارَةُ تَحُلُّ هَذَا العَقْدَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالفِرْقَةُ الأُولَى تَأَوَّلَتِ التَّحْرِيمَ المَذْكورَ فِي الآيَةِ أَنَّهُ كَانَ العَقْدُ بِيَمِينٍ
(1)
. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ
(2)
، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَرْبَةِ عَسَلٍ)
(3)
.
ومدار الكلام هو قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 1، 2].
(1)
يُنظر: "المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (8/ 74، 75)"حيث قال: "(وإن حرم أمته، أو شيئًا من الحلال) كطعام ولباس ونحوهما، سوى الزوجة (لم يحرم) على المذهب؛ لأنه تعالى سماه يمينًا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} . واليمين على الشيء لا تحرمه، فكذا إذا حرمه، ولأنه لو كان محرمًا لتقدمت الكفارة عليه، كالظهار، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، وسماه خيرًا، (وعليه كفارة يمين إن فعله) نص عليه، لقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، يعني: التكفير".
(2)
قال الماوردي: "اختلفت الرواية في الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه فروى الأكثرون، أنه حرم مارية". انظر: "الحاوي الكبير"(15/ 461).
(3)
بل وجاء ذلك في البخاري أيضًا كما سيأتي.
وسبب نزول الآية: هو ما رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَوَاطَيْتُ
(1)
أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ
(2)
، إِني أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَال:"لَا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَه، وَقَدْ حَلَفْت، لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"، فَنَبَّهَ اللَّهُ تعالى رسولَه الكريمَ صلى الله عليه وسلم إلى أن ذلك لا ينبغي.
وهذا الحديث متَّفَقٌ عليه
(3)
، فقد وردَ في "الصحيحين"، وقد جاء في بعض الروايات أنهما عائشة وحفصة
(4)
، وفي بعض الروايات أنهما عائشة وسودة
(5)
.
والحديث يَدُلُّنَا على مدى ما بالنساء من غيرةٍ على أزواجهن مهما بلغَت المرأة من القدر في الطاعة والصلاح والخير، كما يَدُلُّنا على ذلك ما قد مَرَّ بنا أثناء دراسة باب الاعتكاف مِن أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لما اعتَكَفَ تسابَقَتْ زوجاته على الاعتكاف، فجعَلَ صلى الله عليه وسلم اعتكافَه في شَهْر شَوَّال؛ لأنه
(1)
أي: توافقنا، وأصله الهمز. انظر:"مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (2/ 285).
(2)
المغافير: واحدها: مُغْفور - بضم الميم -، وهو شيء ينضجه العرفط حُلْو كالناطف وَله ريح مُنكرَة. انظر:"غريب الحديث"، لابن قتيبة (1/ 314 - 315).
(3)
أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
كما سبق.
(5)
أخرجه البخاري (5268) واللفظ له، ومسلم (1474) عن عائشة: أنها قالت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذاك، قالت: تقول سودة: فواللّه ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أباديه بما أمرتني به فرقًا منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال:"لا" قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل"، فقالت: جرست نحله العرفط، فلما دار إليَّ قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال:"لا حاجة لي فيه".
خَشِيَ أن يكون الدافع لهنَّ في هذه العبادة هو التنافُسُ عليه وليس العبادة الخالصة لله سبحانه وتعالى
(1)
.
فالغيرة موجودة في المرأة مهما بلغَت من العقل والخير والصلاح، ولكن المرأة العاقلة الصالحة يمنعها صلاحُها من ارتكاب المعصية بسبب غيرتها، بحيث لا تضيق على ضرتها
(2)
أو تسعى في طلاقها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ "أَنْ تَسَألَ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِيَ مَا فِي صحفتها
(3)
فَإِنَّ اللَّهَ رَازِقُهَا"
(4)
، وهذا من بلاغته الدقيقة صلى الله عليه وسلم، فكأن هذه المرأة التي تطلب طلاق ضرتها إنما تُرِيقُ ما بين يديها في إنائها وتسكبه؛ ولذلك سُمِّيَت الزوجة الأُخرى بالضرة؛ لأنها تجد في نفسها وتأكلها الغيرة على الزوج، وهو أمرٌ طبيعيٌّ جُبِلَت عليه النساء وليس بمُستَغرَبٍ.
قوله: (وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَبْهِ امْرَأَتَه، فَهُوَ يَمِين يُكَفِّرُهَا").
(1)
أخرجه البخاري (2041) واللفظ له، ومسلم (1172) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتكف في كل رمضان، وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي أعتكف فيه، قال: فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها، فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة، فضربت قبة، وسمعت زينب بها، فضربت قبة أُخرى، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب، فقال:"ما هذا؟ "، فأخبر خبرهن، فقال:"ما حملهن على هذا؟ آلبر؛ انزعوها فلا أراها"، فنزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال.
(2)
ضرة المرأة: امرأة زوجها. وسمِّيت ضرة لما في اشتراكهما من الضرر، ويسمُّونها جارة؛ لمجاورتها الأُخرى. انظر:"الصحاح"، للجوهري (2/ 720)، و"مطالع الأنوار"، لابن قرقول (2/ 181).
(3)
كَفَأَ الإناءَ؛ أي: قَلَبَه، والصَّحْفَةُ التي على نِصْف القَصْعةِ. انظر:"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 39).
وقال المُطَرِّزيُّ في "المغرب"(ص 411): "ويُرْوَى: "لِتَكْتَفِيَ إناءَها"، ويُروَى: "لِتَكْفَأَ ما في إنائِها" والمعنَى: لِتَخْتار نَصيبَ أُخْتِها وتَجْتَرَّه إلى نَفْسها".
(4)
أخرجه البخاري (5152)، ومسلم (1408) واللفظ له، عن أبي هريرة، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، أو أن تسأل المرأة طلاق
أختها لتكتفئ ما في صحفتها؛ فإن الله عز وجل رازقها".
وهذا ثابتٌ في "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
ومعناه: أن علي الزوج كفارة يمينٍ إذا حَرَّمَ زوجَتَه على نفسه.
قوله: (وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
ومعنى هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون قدوتَنَا وأسوَتَنا في كل حُكمٍ من أحكام هذه الشريعة المطَهَّرة، فإذا لم نجد له قولًا أو فعلًا نقتدي به اقتَدَينا بأصحابه الذين زَكَّاهُم الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومات وهو راضٍ عنهم، والذي زكاهم ربُّنا سبحانه وتعالى في كتابه ورضي عنْهم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
(الفصل الثالث في مَعْرِفَةِ الشَّيءِ الَّذي يَلْزمُ عَنْهَا وَأَحْكَامهَا
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَاذَا يَلْزَمُ فِي نَذْرِ نَذْرٍ مِنَ النُّذُورِ وَأَحْكَامِ ذَلِكَ؟ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا كثِيرًا، لَكِنْ نُشِيرُ نَحْنُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَشْهُورَاتِ المَسَائِلِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عَادَتِنَا فِي هَذَا الكِتَابِ، وَفِي ذَلِكَ مَسَائِلُ خَمْسٌ).
أي: أن مقصود المؤلف ليس استقصاء المسائل، وإنما يقصد الاقتصار على مشهورات المسائل وأمهاتها؛ لأن المقام يضيق عن تَتَبُّعِها وتَقَصِّيها
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (5266)، ومسلم (1473) واللفظ له.
(2)
تقصَّى المسألةَ واستقصاها؛ أي: بالغ فيها. يُنظر: "شمس العلوم"، للحميري (8/ 5525).
[المسألة الأولى: الواجب في النذر المطلق]
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الوَاجِبِ فِي النَّذْرِ المُطْلَقِ الَّذِي لَيْسَ يُعَيِّنُ فِيهِ النَّاذِرُ شَيْئًا سِوَى أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْزٌ).
النذر المُطلَق هو أن يقول الناذر: (الله عليَّ نَذْرٌ)، دون أن يُعَيِّنَ إن كان نَذْر هذا صلاةً أم صيامًا أم حجًّا أم صدقةً أم غير ذلك من أنواع القربات
(1)
.
وعند الحنابلة يقسمون النذر المُطلَقَ قسمين، فيجعلون قوله:(الله عليَّ نَذْرٌ) مُبهَمًا، ويجعلون قوله: الله عليَّ نذرٌ حَجٌّ) مُطلَقًا
(2)
.
وقد مَرَّ بنا أن المؤلف يعتبر في النذر أمرين، وهما النية ولفظ النذر، وقد بيَّنَّا أن النية معتَبَرَةٌ بلا شكٍّ، أما اللفظ فلا يُشترَط ورود ذِكر كلمة النذر ما دامت الصيغة متعارَفًا عليها ومشتمِلةً معنى النذر، وسَبَقَ أن ذَكَرْنا تعليل المالكية لهذا الأمر
(3)
.
قوله: (فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ: فِي ذَلِكَ كفَّارَةُ يَمِينٍ لَا غَيْرَ.
(1)
سبق ذكر حده.
(2)
الذي وقفت عليه عند الحنابلة: أن النذرَ المطلق والمبهم شيء واحد.
يُنظر: "الكافي"، لابن قدامة (4/ 212)؛ حيث قال:"القسم الثاني: النذر المبهم، أن يقول: لله علي نذر، فيجب كفارة اليمين".
وفي تسميته بالنذر المطلق، يُنظر:"الشرح الكبير"، لعبد الرحمن المقدسي (11/ 333)؛ حيث قال:" (والنذر المنعقد على خمسة أقسام: (أحدها): النذر المطلق، وهو أن يقول: لله عليَّ نذر فيجب به كفارة يمين في قول أكثر أهل العلم". أما الصيغة التي ذكرها الشارح، وهي: لله عليَّ نذر حج، وجعلها من النذر المطلق فلم أقف على من قال بها في المذهب.
(3)
تقدَّم.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ مِنَ القُرَبِ: صيَامُ يَوْمٍ، أَوْ صَلَاةُ رَكعَتَيْنِ).
فلدينا إِذَنْ في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم، أن في ذلك كفارةَ يمينٍ لا غير، وهو مذهب الأئمة الأربعة فيما عدا الشافعية الذين خالَفوا في هذا وقالوا: لا كَفَّارَةَ في النذر المُطلَق، إذ النذر المطلَق لا يَترَتَّب عليه حُكْمٌ مِن الأحكام عندهم، بسبب عدم ذِكر المنذور
(1)
، واستثنى الشافعية من هذا ما لو كان النذر مُقَيَّدًا بوصفٍ، كأن يقول الناذرُ:(لله عليَّ نَذْرٌ صَلَاةٌ) أو: (صِيَامٌ) أو: (صَدَقَةٌ)، فقالوا: حينئذٍ نرجع إلى أقل ما يَنطَلِق عليه اسم القُربة التي نَذَرَها
(2)
.
القول الثاني: أنَّ فيه كفارةَ ظِهارٍ، وهو قولٌ بعيدٌ عن الصحة؛ ولذلك لم يُسَمِّ المؤلِّفُ أصحاب هذا القول.
القول الثالث: أن فيه أقل ما ينطلق عليه اسم القربة، بمعنى أنه لو نذرَ أن يصلِّيَ ولم يُعيِّنْ عدد ركعات هذه الصلاة فحينئذٍ يكون عليه صلاة ركعتين؛ لأنه أقل ما ينطلق عليه اسم الصلاة، ولو نَذَرَ أن يصومَ ولم يُعَيِّن عدد أيام الصيام فحينئذٍ يكون عليه صيام يومٍ، لأنه أقل الصيام، حيث لا يُشرَعُ صيام جُزء من اليوم أو صيام ساعةٍ
(3)
، لقوله تعالى: {وَكُلُوا
(1)
سبق تفصيل المذاهب في هذه المسألة.
(2)
يُنظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 256)، حيث قال:" (أو) نذر (صومًا) مطلقًا أو مقيدًا؛ بنحو: دهر كحين: (فيوم) يحمل عليه؛ لأنه أقل ما يفرد بالصوم، (أو أيامًا)؛ أي: صومها (فثلاثة)، لأنها أقل الجمع (أو) نذر (صدقة فبمتمول) يتصدق به وإن قلَّ، وكذا لو نذر التصدق بمال عظيم؛ لأن الصدقة الواجبة لا تنحصر في قدر؛ لأن الخلطاء قد يشتركون في نصاب فيجب على أحدهم شيء قليل وتعبيري بمتمول أولى من قوله فيما كان؛ إذ لا يكفي بما لا يتمول (أو) نذر (صلاة فركعتان) تكفيان؛ لأنهما أقل واجب منها".
(3)
وهو مذهب الشافعية كما سبق.
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]؛ أي: أن الصيام المشروع هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِوُجُوبِ كفَّارَةِ اليَمِينِ فِيهِ، لِلثَّابِتِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "كفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ)
(1)
.
وهذا الحديث نَصٌّ صريحٌ في أن من نَذَرَ ولم يُوفِ بنذره فإنه يُكفِّر كفارةَ يمينٍ؛ ولذلك استَحَبَّ العلماء لِمَن نَذَرَ تحريمَ امرأته على نفسه أَلَّا يُطلِّقَها وأن يُكَفِّرَ عن هذا كفارةَ يمينٍ
(2)
، أما فيما يرتبط بالعبادة فالأَوْلَى في حقه أن يُوفِيَ بِنَذْرِهِ ويَفعَلَ الطاعات التي نَذَرَهَا، بل إن بعض العلماء
(1)
أخرجه مسلم (1645).
(2)
يُنظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(2/ 430)، حيث قال:" (قوله: ولو حلف) بأن قال: امرأته طالق إن لم تفطر، كذا في "السراج"، وكذا قوله: على الطلاق لتفطرن، فإنه في معنى تعليق الطلاق كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى (قوله: أفطر)، أي: المحلوف عليه ندبًا دفعًا لتأذي أخيه المسلم (قوله: ولا يحنثه) أفاد أنه لو لم يفطر يحنث الحالف ولا يبر بمجرد قوله: أفطر سواء كان حلفه بالتعليق كما مر أو بنحو قوله: واللّه لتفطرن".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 576)، حيث قال:" (أو إن فعلته فللَّه عليَّ أن أطلقك فكقوله: إن فعلت) كذا (فوالله لأطلقنك يلزمه كفارة يمين بموت أحدهما) قبل التطليق وبعد الفعل".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (4/ 358)؛ حيث قال:"نذر مكروه: كطلاق ونحوه فيستحب أن يكفر ولا يفعله فإن فعله فلا كفارة عليه".
أما في مذهب المالكية فإنه يجب عليه طلاق امرأته. يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 417)، حيث قال:" (وإن حلف) المكلف (بالله) أو بصفة من صفاته التي تنعقد بها اليمين (ليفعلن معصية) مثل أن يقول: واللّه لأشربن الخمر أو لأقتلن زيدًا (فليكفر) وجوبًا (عن يمينه، ولا) يجوز له أن (يفعل ذلك) المحلوف عليه، ومثل الحلف باللّه الحلف بالنذر المبهم، وأما لو كانت اليمين مما لا تكفر كالحلف بالطلاق أو العتق لوجب عليه طلاق الزوجة وعتق العبد لكن بحكم حاكم، بدليل أنه لو فعل المعلق عليه قبل الحكم عليه لبر".
يُلزِمُه بهذا كالرواية الموجودة عند الحنفية
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: صِيَامُ يَوْمٍ، أَوْ صَلَاةُ رَكعَتَيْنِ؛ فَإِنَّمَا ذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ المُجْزِئَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْم، وَصَلَاةُ رَكعَتَيْنِ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّذْرِ)
(2)
.
لأن من أصول الشريعة أن يُرَدَّ الأمرُ المُبهَمُ أو المُطْلَقُ إلى أقرب الأشياء شبهًا به.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: فِيهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ؛ فَخَارجٌ عَنِ القِيَاسِ وَالسَّمَاعِ).
والمؤلِّفُ لم يُسَمِّ أصحابَ هذا القول كما ذَكَرْنَا، ويا ليته سَمَّاهم، وربما كان قولًا لأهل الظاهر، وهو - على أية حال - مما يحتاج إلى بحثٍ ونظرٍ.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ بِالمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَعْنِي: إِذَا نَذَرَ المَشْيَ رَاجِلًا)
(3)
.
هناك مَن يَنذِرُ أن يَحُجَّ إلى بيت الله ماشيًا، وهناك من يَنذِرُ أن يمشي إلى بيت الله ليصلي فيه.
فالمراد هاهنا هو: لو أن إنسانًا نَذَرَ أن يمشي إلى بيت الله؛ أي: يَذهَبَ إليه ماشيًا، لأنهم يقسِّمون المشي في اللغة قسمين، وهما: المشي راكبًا، كمن يَركَب دابَّةً أو سيارةً، والمشي راجلًا، وهو مَن يذهب إلى مقصده ماشيًا على قدميه.
والعلماء تحدَّثوا في هذه المسألة وبَيَّنُوا أن مَن نَذَرَ أن يمشي إلى بيت الله راجِلًا فإنه لا يخلو من أمرين:
(1)
سبق.
(2)
وهو مذهب الشافعية كما سبق.
(3)
راجِل: أي: ماشٍ. وجمعُه رجال. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (2/ 204).
الأمر الأول: أن يكون قادرًا على ذلك، فهذا يَلزَمُهُ الوفاءُ بنذره
(1)
.
الأمر الثاني: أن يعجز عن هذا الفعل، فحينئذٍ يَعدِلُ عنه ويؤدي الكفارة
(2)
،
(1)
يُنظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"، للحصكفي (3/ 826)؛ حيث قال:" (ويجب حج أو عمرة ماشيًا) من بلده (في قوله: عليَّ المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة وأراق دمًا إن ركب لإدخاله النقص، ولو أراد ببيت الله بعض المساجد لم يلزمه شيء ولا شيء بالخروج أو الذهاب بعلي بيت الله أو المشي) إلى (الحرم أو) إلى (المسجد الحرام) أو باب الكعبة أو ميزابها (أو الصفا أو المروة) أو مزدلفة أو عرفة لعدم العرف".
ويُنظر في مذهب المالكية؛ "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 255)؛ حيث قال:" (و) لزم (مشي لمسجد مكة) إن نذره أو حنث في يمينه، هذا إذا نذر المشي له لحج أو عمرة، بل (ولو) نذره (لصلاة) فيه فرضًا أو نفلا (كمكة): تشبيه في لزوم المشي؛ أي: أن من نذر المشي إلى مكة أو حلف به فحنث، (أو) إلى (البيت) أو نذر (أو) حلف بالمشي إلى (جزئه)؛ أي: البيت: أي المتصل به كالركن والحجر والحطيم والشاذروان، فإنه يلزمه المشي (كغيره)؛ أي: كما يلزمه المشي إذا سمَّى غير جزئه كزمزم وقبة الشراب".
وينظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (10/ 88)؛ حيث قال:" (وإن نذر المشي) إلى الحرم أو جُزء منه (أو) نذر (أن يحج أو يعتمر ماشيًا فالأظهر وجوب المشي) من المكان الآتي بيانه إلى الفساد أو الفوات أو فراغ التحللين وإن بقي عليه رمي بعدهما أو فراغ جميع أركان العمرة".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 282، 283)؛ حيث قال: " (وإن نذر المشي أو الركوب إلى بيت الله الحرام أو) إلى (موضع من الحرم كالصفا والمروة وأبي قبيس أو مكة وأطلق) فلم يقيده بشيء (أو قال: غير حاج ولا معتمر لزمه إتيانه) ".
(2)
يُنظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (4/ 499)؛ حيث قال:" (ولو ركب أراق دما لأنه أدخل نقصًا فيه) ش: أي في جعله على نفسه أن يحج ماشيًا، وبه قال الشافعي رحمه الله في قول: عند العجز".
ويُنظر في مذهب المالكية: "التوضيح"، لخليل (3743)؛ حيث قال: "الناذر للمشي يلزمه مشي الجميع، فإن عجز ركب، فإن كان ما ركبه يسيرًا لم يؤمر بالرجوع للحرج ويسارة المتروك، ولزمه هدي؛ لنقصه ذلك المشي. قوله:(ثم إن قدر) يعني: إذا زال عذره بعد الركوب اليسير عاد إلى المشي، وإن لم يزل استمر، ثم يَنظر فيما ركبه، هل هو يسير أو كثير؟
ويُنظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 245)؛ حيث قال: "وإذا =
كما كان في قصة أخت عقبة بن عامر التي نَذَرَت المشي إلى بيت الله، وستأتي القصة معنا
(1)
.
وقد كان العلماء فيما مضى يسافرون في كثير من أسفارهم راجِلِين إلى أماكن بعيدةٍ جدًّا كي يلتقي الواحد منهم بعالِمٍ من العلماء، فيَقطَع المسافات البعيدة جدًّا ويتخطَّى السهلَ والوَعرَ
(2)
ويقابل الوحوشَ والشدائدَ، كل هذا كي يلتقي بعالِمٍ يَطلُب على يديه العلم أو يسمع منه حديثًا يحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَشية أن يموت ذلك العالِمُ فيضيع معه ما يحفظه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ح فيتحمل في سبيل ذلك كل هذه الصعاب، لأنه يعلم أن من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَجَزَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ).
وهذه مسألة متفرعة عن المسألة السابقة.
ومراد المؤلِّف منها: ما إذا نَذَرَ إنسان أن يمشيَ إلى بيت الله الحرام، ومَضَى في الوفاء بهذا النذر، ثم في أثناء الطريق لَحِقَهُ مِن المَشَقَّة ما عَجَزَ معه عن إكمال السَّيْرِ.
والقاعدة الفقهية هاهنا تقول: "إذا ضَاقَ الأمْرُ اتَّسَعَ، وإذا اتَّسَعَ ضَاقَ"
(3)
.
= أوجبنا المشي فركب لعذر أجزأه وعليه دم في الأظهر، أو بلا عذر أجزأه على المشهور وعليه دم".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (4/ 362)؛ حيث قال:"فإن ترك المشي المنذور أو الركوب المنذور لعجز أو غيره فكفارة يمين".
وفي رواية: أنه يلزمه دم، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (10/ 13)؛ حيت قال:"وعن أحمد رواية أُخرى: أنه يلزمه دم".
(1)
سبقت.
(2)
الوعْرُ: المكانُ الصُّلْب. انظر: "العين"، للخليل (2/ 241).
(3)
يُنظر هذه القاعدة في: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 49)، و"المنثور في القواعد الفقهية"، للزركشي (1/ 121).
فمثلًا: إذا ضاق الأمر في حق المسافر صار بإمكانه أن يأكل من الميتة، وإذا اتَّسَعَ الأمرُ في حقه ووجد كبشًا ميتًا ضاقَ في حقه من جهة أنه لا يمكنه أن يتزوَّدَ من الميتة حينئذٍ ويحمل معه منها ما شاء، وإنما يكفيه أن يأكل منها قدر كفايته.
فشريعة الإسلام شريعةٌ عظيمةٌ، مليئةٌ بالأسرار والحِكَم، بحيث كلما أَمْعَنَ
(1)
الإنسانُ النظرَ فيها تَبَيَّنَ مَدَى عِظَمِها، ولذا كان الناس يتسابقون على الدخول في هذا الدِّين أفواجًا
(2)
في زمن الوسول صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة رضي الله عنهم، لأن الشريعة كانت تُنقَلُ لهم على وجهها الصحيح، ولأنهم كانوا يرونها مُطَبَّقةً في الداخل والخارج، فكان الآمِرُ بمعروفٍ إنما يأمر به ويفعله في ذات نفسه، والناهي عن مُنكَرٍ ينهى عنه الناسَ ويَكُفُّ نفسَه عنه.
لذلك كان المسلمون الأوائل قبل أن يفتحوا البلادَ بالسيوف والسنان
(3)
إنما يفتحون قلوب أهلها بهدي القرآن، فكان الناس يتقبلون الدِّينَ ويحبونه لأنهم يرونه مُطَبَّقًا على مَن يدعونهم إليه، فَمِنْ أقبح الأُمور أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أن تنهى عن المنكر وتأتيه، ولذلك قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2]، وكما قال الشاعر:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَاتِيَ مِثْلَهُ
…
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
(4)
(فَقَالَ قَوْمٌ: لَا شَيءَ عَلَيْهِ
(5)
. وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَاذَا عَلَيْهِ
(1)
أَمْعَنَ النظرَ في الشيءِ وأنْعَمَه، أطالَ الفِكْرةَ فيه. انظر:"تاج العروس"، للزبيدي (33/ 512).
(2)
أفواج: جمع فوج، وهم: القطيع من الناس. انظر: "العين"، للخليل (6/ 190).
(3)
السِّنان: نَصْلُ الرُّمْحِ. انظر: "القاموس المحيط"، للفيروزآبادي (ص 1207).
(4)
البيت من الكامل، وهو في "كتاب سيبويه"(3/ 14، 42) منسوب للأخطل، و"خزانة الأدب"، للبغدادي (8/ 567) منسوب لأبي الأسود الدؤلي، وهو المشهور، كما أفاد بذلك البغدادي.
(5)
وهو أحد قولي الشافعية، يُنظر:"المهذب"، للشيرازي (1/ 447، 448)؛ حيث قال: =
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ أَهْلُ المَدِينَةِ إِلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ حَيْثُ عَجَزَ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ)
(1)
.
يقصد بالمدينة: الفقهاء الذين كانوا قبل مالك.
قوله: (وَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: عَلَيْهِ هَدْيٌ دُونَ إِعَادَةِ مَشْيٍ
(2)
. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الأمْرَان جَمِيعًا؛ يَعْنِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ فَيَمْشِي مِنْ حَيْثُ وَجَبَ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَالهَدْيُ عِنْدَهُ بَدَنَهٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ إِنْ لَمْ يَجِدْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً)
(3)
.
ومن العلماء مَن ذَهَبَ إلى أن عليه كفارة يمينٍ
(4)
؛ استنادًا إلى أنَّ كفارةَ النَّذْرِ هي كفارةُ يمينٍ.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُنَازَعَةُ الأُصُولِ لِهَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَمُخَالَفَةُ الأَثَرِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَبَّهَ العَاجِزَ إِذَا مَشَى مَرَّةً ثَانِيَةً بِالمُتَمَتِّعِ وَالقَارِنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ القَارِنَ فَعَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي سَفَرَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ؛
= "وإن لم يقدر على المشي فله أن يركب؛ لأنه إذا جاز أن يترك القيام الواجب في الصلاة للعجز جاز أن يترك المشي، فإن ركب، فهل يلزمه دم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه، لأن حال العجز لم يدخل في النذر.
والثاني: يلزمه؛ لأن ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالطيب واللباس".
ومشهور المذهب أن عليه دمًا كما سبق.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 175)؛ حيث قال:"وقد روي عن علي قول رابع فيمن نذر المشي إلى الكعبة في حج أو عمرة أنه يخير إن شاء مشى وإن شاء ركب وأهدى".
(2)
قال ابن عبد البر: "فتوى أهل مكة بالهدي بدلًا من المشي". انظر: "الاستذكار"(5/ 174).
(3)
قال ابن عبد البر: "أجمع مالك عليه الأمرين جميعًا احتياطًا لموضع تعديه المشي الذي كان يلزمه في سفر واحد، وجعله في سفرين قياسًا على المتمتع والقارن". انظر: "الاستذكار"(5/ 174).
(4)
وهي الرواية المشهورة عن الحنابلة كما سبق.
وَهَذَا فَعَلَ مَا كانَ عَلَيْهِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي سَفَرَيْنِ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيُ القَارِز أَوِ المُتَمَتِّعِ. وَمَنْ شبَّهَهُ بِسَائِرِ الأَفْعَالِ الَّتِي تَنُوبُ عَنْهَا فِي الحَجِّ إِرَاقَةُ الدَّمِ قَالَ: فِيهِ دَمٌ).
وهذا من باب القياس على ما يُؤَدِّيهِ الحاجُّ إذا أتى محظورًا من محظورات الإحرام، كمَن جامَعَ قبل التحلل الأول فعليه أن يُهْدِيَ بدنةً، إلى غير ذلك من محظورات الإحرام، فبعض العلماء قَاسَ هذا على ذاك، فَذهَبَ إلى أن عليه أن يُهْدِيَ.
ومنهم مَن ذَهَبَ إلى أن مَن نَذَرَ المشي إلى بيت الله الحرام ثم عَجَزَ عن ذلك أنَّ عليه أن يُكَفِّرَ.
ومنهم مَن ذَهَبَ إلى أن عليه أن يصومَ
(1)
.
قوله: (وَمَنْ أَخَذَ بِالآثَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذَا البَابِ قَالَ: إِذَا عَجَزَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالسُّنَنُ الوَارِدَةُ الثَّابِتَةُ فِي هَذَا البَابِ دَلِيلٌ عَلَى طَرْحِ المَشَقَّةِ
(2)
، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَأَحَدُهَا: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: "نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عز وجل، فَأَمَرَتْنِي
(1)
هذان القولان قال بهما الحنابلة.
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 11)؛ حيث قال:"من نذر طاعة لا يطيقها، أو كان قادرًا عليها، فعجز عنها، فعليه كفارة يمين؛ لما روى عقبة بن عامر، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "لتمش، ولتركب". ولأبي داود:"وتكفر يمينها". وللترمذي: "ولتصم ثلاثة أيام". وإن كان صيامًا. فعن أحمد روايتان؛ إحداهما: يلزمه لكل يوم إطعام مسكين. قال القاضي: وهذه أصح؛ لأنه صوم وجد سبب إيجابه عينًا، فإذا عجز عنه، لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، كصيام رمضان. والثانية: لا يلزمه شيء آخر من إطعام ولا غيره؛ لقوله عليه السلام: "ومن نذر نذرًا لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين". وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 176)؛ حيث قال:"السنة الثابتة في هذا الباب دالة على طرح المشقة فيه عن كل متقرب إلى الله بشيء منه".
أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ لَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لِتَمْشِ وَلتَرْكَبْ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ)
(1)
.
وهذا الحديث في "الصحيحين"، وهو أن أخت عقبة بن عامر نَذَرَت أن تمشي إلى بيت الله، ثم لَمَّا لَحِقَتْها المشقةُ والعجز عن ذلك طَلَبَت من أخيها عقبة بن عامرٍ أن يَسألَ لها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول:"مُرْهَا لِتَرْكَبْ"، دون أن يشير إلى كفارةٍ أو شيءٍ.
وهناكَ رواية أُخرى عند أبي داود وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قالَ: "وَلْتَصُمْ"
(2)
، وبلفظٍ آخر:"وَلْتُكَفِّرْ"
(3)
.
فَمَنْ قالوا بالكفارة عَلَّلوا ذلك بأنَّ زيادة الكفارة وَرَدَ ذِكْرُها في روايةٍ صحيحةٍ، كأنَّ الراوي اقتَصَرَ على بعض الحديث في بعض الروايات، وجاءت الزيادةُ في رواياتٍ صحيحةٍ أُخرى، وليس هناك تَعَارُضٌ بين الروايتين مما يدعو إلى الأخذ بها.
فكان هذا سببًا مِن أسباب الخلاف في المسألة.
قوله: (وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُهَادَى).
(يُهَادَى) أَيْ: يُحْمَلُ
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (1866)، ومسلم (1644) عن عقبة بن عامر.
(2)
أخرجه أبو داود (3293) عن عقبة بن عامر: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال:"مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام".
والحديث ضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2592).
(3)
أخرجه أبو داود (3295) عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت يعني أن تحج ماشية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها". وحسنه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"(ص 181).
(4)
يُهَادَى، أي: يمشي بينهما متكئًا عليهما، والتهادي: المشي الثقيل مع التمايل يمينًا وشِمالًا". انظر: "مطالع الأنوار" ابن قرقول (6/ 118).
قوله: (بَيْنَ ابْنَتَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْه، فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ"، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ)
(1)
.
هذا الرجل المذكور في الحديث إنما قد شَقَّ على نفسه بإلزامها ما لم يجب عليها بالشرع؛ فإذا به يهادَى بين ابنتيه حتى يُتِمَّ ذلك النَّذْرَ الذي أَلْزَمَ به نفسَه، واللّه سبحانه وتعالى غنيٌّ عن تعذْيب عباده؛ فحينما حَدَّ اللَّهُ الحدودَ وفَرَضَ الفرائض وبَيَّنَ المنكَرات الواجب اجتنابها راعى فيها اليُسْرَ وعدم المشقة؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا رأى ذلك وَضَّحَ أنَّ هذا ليس مرادَ الشرع وأن الله عز وجل غنيٌّ عن هذا، وأَمَرَ الرَّجُلَ بسلوك الطريق الذي ينبغي سلوكُهُ في طاعة الله سبحانه وتعالى.
وقد سَبَقَ أن ذَكَرْنَا حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ"
(2)
؛ ولهذا فإن العلماء قد اختلفوا في حُكْمِ النذر، فيما إذا كان مباحًا أم مُستَحَبًّا أم مكروهًا.
- فكثيرٌ مِن العلماء ذهبَ إلى أنه مكروهٌ؛ لأن هذه هي أقل درجاته عندهم.
- ومِن العلماء مَن ذَهَبَ إلى أنه مباحٌ؛ لأن الإنسانَ يجوز له أن يُخْرِجَ ما يجب عليه إخراجُه من مالٍ أو عبادةٍ أو سائر أنواع الطاعات دون أن يُلزِمَ نفسَه بهذا
(3)
.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا - بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى لُزُومِ المَشْيِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ - فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا).
(1)
أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642) لكن بلفظ:"ابنيه".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
سبقت هذه المسألة.
قد مَرَّ معنا أنه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب المشي في الحج أو العمرة في حق مَن نَذَرَ ذلك، والآن يشير المؤلِّفُ إلى أن الخلاف بينهم إنما هو فيمن نَذَرَ المشيَ إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى المسجد الأقصَى بقصد الصلاة في أيٍّ منهما، والحقيقة أن هذه المساجد الثلاثة - المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى - قد وَرَدَ النَّصُّ ببيان فضلها على غيرها من المساجد، إلا أن هناك تفاوُتًا بينها في الدرجات، فأفضلها مَنْزلَةً هو المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى
(1)
.
فَمَنْ نَذَرَ المشيَ إلى أحد هذه المساجد إنما هو يَنذِرُ أن يأتيَهُ لِيُصَلِّيَ فيه، والصلاة في هذه المساجد إما أن تكون صلاةً مفروضةً أو صلاةً غَيْرَ مفروضةٍ، ومن هنا نشأ الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، فيما إذا كان الناذِرُ نَذَرَ أن يصلي في هذه المساجد صلاةً مفروضةً أم غير مفروضةٍ
(2)
، وهذا الخلاف يتعلَّق بخلافٍ سابقٍ، وهو اختلاف العلماء فِيمَن نَذَرَ على نفسه شيئًا واجبًا
(3)
، كمن نَذَرَ أَن يصلِّيَ صلاةَ الظهر أو صلاة العصر، مما يتوجب عليه أداؤه سواءٌ نَذَرَ ذلك أو لم يَنذِرْهُ؛ فيما إذا كان يَلزَمُهُ مع أدائها كفارةٌ أم لا، وهو خلافٌ يحتاج إلى مزيد بيانٍ، وسوف يتعرض المؤلف له فيما يأتي.
وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن هذه المساجد إنما تُقصَدُ وتُشَدُّ الرحال
(4)
إليها دون غيرها من المساجد من أجل الصلاة فيها؛ لقول
(1)
أخرجه البزار في "مسنده"(10/ 77) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال؛ قال رسول صلى الله عليه وسلم: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة". والحديث ضعيف. انظر: "السلسلة الضعيفة"، للألباني (5355).
(2)
ستأتي.
(3)
سبقت.
(4)
الرِّحال: جمع رَحْل، وهو مَرْكَب البعير؛ أي: محل الركوب المنسوب للبعير. انظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 37).
الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدُ الحَرَام، وَمَسْجِدِى هَذَا، وَالمَسْجِدُ الأَقْصَى"
(1)
؛ فالمشروع هو شَدُّ الرِّحالِ إلى هذه المساجد من أجل الصلاة.
أما غير ذلك من الأعمال - كَشَدِّ الرِّحال إلى القبور أو الطواف حولها أو التقرب إلى أصحابها - فهو من المنكَرات غير الجائزة شرعًا، بل قد يَصِلُ إلى الشِّرك باللّه سبحانه وتعالى
(2)
.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ المَشْيُ).
بل الأئمة الثلاثة يتفقون في هذه المسألة، وهم مالكٌ
(3)
، والشافعيُّ
(4)
، وأحمدُ
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصحابة والتابعين والأئمة لم يعرف عنهم نزاع في أن السفر إلى القبور وآثار الأنبياء داخل في النهي، كالسفر إلى الطور الذي كلَّم الله عليه موسى وغيره، وإن كان الله سماه الوادي المقدس وسماه البقعة المباركة ونحو ذلك، فلم يعرف عن الصحابة نزاع أن هذا وأمثاله داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، كما لم يعرف عنهم نزاع أن ذلك منهي عنه". انظر: "الإخنائية"(ص 114).
(3)
يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 106)؛ حيث قال:"ومشى للمدينة أو إيلياء إن لم ينوِ صلاة بمسجديهما أو يسمهما فيركب (ش) هذا عطف على اليسير، والمعنى: أن مَن نذر المشي إلى المدينة أو إلى بيت المقدس فإنه يلزمه ذلك لا ماشيًا ولا راكبًا؛ فإن نوى صلاة أو صومًا أو اعتكافًا بمسجديهيا أو سمَّى مسجد المدينة أو إيلياء؛ أي: وإن لم ينوِ الصلاة فيهما فإنه حينئذ يلزمه الإتيان إليهما راكبًا أو ماشيًا، ولا يلزمه المشي؛ لأنه لما سماها فكأنه قال: عليَّ أن أصلي فيهما وظاهره ولو كانت الصلاة نافلة".
(4)
ينظر: "فتح الوهاب"(1/ 150)؛ حيث قال: " (ولو عين) الناذر (في نذره مسجد مكة أو المدينة أو الأقصى تعين) فلا يقوم غيرها مقامها لمزيد فضلها قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". رواه الشيخان، (ويقوم الأول) وهو مسجد مكة (مقام الأخيرين) لمزيد فضله عليهما وتعلُّق النسك به (و) يقوم (الثاني) وهو مسجد المدينة (مقام الثالث) لمزيد فضله عليه".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 480)؛ حيث قال: " (وإن نذر المشي إلى =
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَحَيْثُ صَلَّى أَجَزْأَه، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ).
وهاهنا قد يُفهَم من إشارة المؤلِّفِ مَذهَبَ أبي حنيفة على غير وَجْهِهِ، والحقيقة أن أبا حنيفةَ في مسألة نَذْرِ الصلاة في المسجد النبوي أو المسجد الأقصى بعد شدِّ الرِّحالِ إليهما، إنما يَرَى أن الصلاةَ فيهما غير مُتعَيِّنةٍ في حق الناذر، بل تُجزِئُه الصلاة أينما صَلَّى، ويضيف إليهما أن المسجد الحرام لا يختص عن هذين المسجدين بشيءٍ فيما يتعلَّق بالصلاة فيه، وإنما حُكمُه حُكمُهما، ولكنه ينفرد عنهما فيما يتعلَّق بالحج والعمرة ليس إلا.
فأبو حنيفة هاهنا لا يخالف الأئمة الثلاثة في هذه النقطة وإنما يتفق معهم فيها، ويخالفهم في مسألة لزوم المشي، إذ يَرَوْنَ لزومَه، ويرى أبو حنيفة عدم لزومه إلا في الحج والعمرة فقط
(1)
.
قوله: (وَإِنَّمَا وَجَبَ عِنْدَهُ المَشْيُ إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ لِمَكَان الحَجِّ وَالعُمْرَةِ)
(2)
.
= مسجد المدينة) المنورة (أو) إلى المسجد (الأقصى لزمه ذلك)؛ أي: المشي إليه. (و) لزمته (الصلاة فيه) ركعتين إذ القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذرهم كنذر المشي إلى بيت الله الحرام حيث وجب به أحد النسكين".
(1)
يُنظر: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 263)؛ حيث قال:" (وتجزئ صلاة ركعتين) فأكثر إذا صلى المنذور (بمصر) مثلًا وقد كان (نذر أداءهما)؛ أي: صلاتهما (بمكة) أو المسجد النبوي أو الأقصى؛ لأن الصحة باعتبار القربة لا المكان؛ لأن الصلاة تعظيم الله تعالى بجميع البدن وفي هذا المعنى الأمكنة كلها سواء وإن تفاوت الفضل".
(2)
قال الكاساني: "وإن أضاف إيجاب شيء من هذه الأفعال إلى المكان الذي لا يصح الدخول فيه بغير إحرام؛ يُنظر: فإن أضاف إيجاب ما سوى المشي إليه لا يصح، ولا يلزمه شيء لما ذكرنا أن التحول من مكان إلى مكان ليس بقربة في نفسه، وإن أضاف إيجاب المشي إليه، فإن ذكر سوى ما ذكرنا من الأمكنة من الكعبة وبيت الله تعالى ومكة وبكة والمسجد الحرام والحرم، بأن أوجب على نفسه المشي إلى الصفا والمروة ومسجد الخيف وغيرها من المساجد التي في الحرم لا يصح نذره بلا =
هذا لأن الأصل في قَصْدِ البيت الحرام عنده أن يكون للحَجِّ والعمرة، ولأن الحج والعمرة ورد من النصوص في القرآن والسُّنة ما يدل على وجوبهما، كقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا"
(1)
.
كما جاء بيان الوجوب في حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإن لم يكن في "الصحيحين"
(2)
، وسيأتي عند دراسة أحكام الحَجِّ تفصيلُ كلام العلماء في مسألة الوجوب.
قوله: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُهُ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، لَزِمَه، وَإِنْ صَلَّى فِي البَيْتِ الحَرَامِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذَلِكَ)
(3)
.
= خلاف وإن ذكر الكعبة وبيت الله - عز شأنه - أو مكة أو بكة، يصح نذره ويلزمه حجة أو عمرة ماشيًا، وإن شاء ركب وذبح لركوبه شاة، وهذا استحسان، والقياس ألا يصح ولا يلزمه شيء". انظر:"بدائع الصنانع"(5/ 83، 84).
(1)
أخرجه مسلم (1337) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا
…
" الحديث.
(2)
كلام الشارح ينصرف إلى العمرة. وقد جاء في الحديث ما يدل على وجوبها. فأخرج البيهقي في "السنن الصغير"(1/ 12) وغيره عن عمر وفيه: فقال: يا محمد، ما الإسلام؟ فقال: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة
…
" الحديث.
وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(173).
وأصل الحديث أخرجه مسلم (8).
(3)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (12/ 6516)؛ حيث قال:"قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا أوجب صلاة في مكان فصلاها في غيره؛ أجزأه. وروى الحسن عن أبي يوسف: أنه إن صلاها في أفضل منه، مثل أن يوجب صلاة في مسجد النبي عليه السلام فصلى في المسجد الحرام؛ أجزأه، وإن كان دونه لم يجزِ، مثل أن يوجب في المسجد الحرام فيصلي في مسجد النبي عليه السلام وبه قال الشافعي رحمه الله".
أبو يوسف: هو أحد صاحبي أبي حنيفة، والصاحب الآخر لأبي حنيفة هو محمد بن الحسن.
وقبل ذِكْرِ قول أبي يوسف تجدر الإشارة إلى أن الفقهاء - رحمهم الله تعالى - لم تتفق أقوالهم في كل مسألة من المسائل؛ والسبب في ذلك هو كونهم جميعًا يريدون الوصول إلى الحق والصواب في كل مسألة مِن أقرب طريق، ومن أجل هذا كثيرًا ما نرى اختلافَ الأئمة الأربعة في مسألةٍ من المسائل، وأحيانًا أُخرى يلتقون في مسألةٍ مَا، وربما اتفقوا في مسألةٍ من المسائل ثم كان الخلاف فيها دائرًا في وسط مذهب من المذاهب، كالحال في مسألتنا هذه التي وقع الخلاف في حُكمِها بين الإمام أبي حنيفة وصاحِبِه أبي يوسف.
وحاصل قول أبي يوسف في هذه المسألة كالتالي:
- أن مَن نَذَرَ الصلاةَ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الأقصى فإنه يَلزَمه أن يصلي فيه.
- وَمَن نَذَرَ أن يُصَلِّيَ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الأقصى ثم صَلَّى في المسجد الحرام فإن صلاته في المسجد الحرام تجزئه عن نذره هذا وتكفيه
(1)
.
ويُستَدَلُّ على هذا: بقصة الرجل الذي نَذَرَ أن يُصَلِّيَ ركعتين في المسجد الأقصى إن فَتَحَ الله سبحانه وتعالى مَكَّةَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فُتِحَت مكةُ أَخبَرَ الرجلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنذره، فقال له رسول الله:"هَاهُنَا صَلِّ" وكرَّرها ثلاثًا، ولكن كانت نَفْسُ الرجل متعلقةً بالوفاء بنذره والصلاة في المسجد الأقصى، فحينئذٍ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هَذَا شَأْنُكَ، وَشَأْنُكَ ذَا"
(2)
.
فهذا الحديث هو حجةٌ لأبي يوسف والحنابلة فيما ذَهَبُوا إليه في هذه المسألة.
(1)
سبق.
(2)
أخرجه أبو داود (3305)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(8/ 222).
قوله: (وَأكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لِمَا سِوَى هَذِهِ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا يَلْزَمُ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا تُسرَجُ المَطِيُّ
(1)
إِلَّا لِثَلَاثٍ"، فَذَكرَ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَمَسْجِدَه، وَبَيْتَ المَقْدِسِ)
(2)
.
وهاهنا مأخَذٌ آخَرُ نأخذه على المؤلِّفِ - عفا الله عنه -: وهو استشهادُهُ بهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في "سُنَنِهِ"
(3)
، مع وجود حديثٍ آخر في "الصحيحين" وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدُ الحَرَام، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدُ الأَقْصَى"
(4)
. فالحديث الأول صحَّحَه بعضُ العلماءِ ووَثَّقُوا رُواته، وأَعَلَّهُ بعض العلماء الآخرين
(5)
، فكان الأَوْلَى بالمؤلِّفِ أن يَستشهِدَ بالحديث المتَّفَق عليه.
فهذا من المآخذ التي تؤخَذ على مؤلِّفِ الكتاب: أنه أحيانًا يَستَدِلُّ بحديثٍ ضعيفِ السَّنَدِ أو حديثٍ ليس في "الصحيحين" مع وجودِ حديثٍ آخَرَ فيهما صريحٍ في المسألة، وأنه كذلك يأتي أحيانًا بأدلةٍ عقليةٍ مع وجود أدلةٍ نقليةٍ.
أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسْرَجُ المَطِيُّ"، فمعناه: لا يوضَعُ السَّرجُ
(6)
على المطِيِّ إلا لهذه المساجد الثلاثة.
(1)
قال ابن الأثير: "أي: لا تُحَثُّ وتُساق. يقال: أَعْمَلْتُ النَاقَةَ فعَمِلَت، وناقةٌ يَعْمَلَة، ونُوقٌ يَعْمَلَات". "النهاية في غريب الحديث والأثر"(3/ 301).
(2)
أخرجه النسائي (1430) وغيره، ولفظه:"لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجدة المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس". وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(2761).
(3)
هذا اللفظ ليس في "سنن أبي داود".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
الذي أعله العلماء رواية أُخرى ذكر فيها مسجد الخيف بدلًا من المسجد الأقصى. قال الذهبي: "خثيم بن مروان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: سمع منه كلثوم بن جبير: "لا تشد المطي إلا إلى مسجد الخيف، ومسجدي، ومسجد الحرام". لا يتابع في مسجد الخيف. ولا يعرف لخثيم سماع من أبي هريرة. وقال الأزدي: ضعيف". انظر: "ميزان الاعتدال"، للذهبي (1/ 650).
(6)
السُّرج: جمع سِراج، وهو المصباح. انظر:"مطالع الأنوار"، لابن قرقول (5/ 474).
فما بالنا بِمَنْ يَشُدُّونَ الرِّحالَ إلى قُبورِ مَن يَدَّعُون أنهم أولياء أو صالحون، فَيَزُورُونَهُمْ رَجَاءَ أنْ يَنفَعُوهم أو يَدفَعُوا عنهم الضُّرَّ ويَكشِفُوا عنهم ما نَزَلَ بهم مِن المُلِمَّاتِ
(1)
؟!
لا شكَّ أن هذا كله لا يجوز؛ لأن هذه الأُمور كلها إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى وحده، لا بيد أحدٍ من خَلقِهِ؛ ولهذا حَذَّرَ اللَّهُ عبادَه من هذا ونهاهم عنه بقوله سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} [الأحقاف: 5].
قوله: (وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ إِلَى المَسَاجِدِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا فَضْل زَائِدٌ وَاجِبٌ
(2)
، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِوَلَدِ
(1)
أي: النوازل. يقال: أصابته ملمة من ملمات الدهر؛ أي: نازلة من نوازله. انظر: "أساس البلاغة"، للزمخشري (2/ 182).
(2)
قال بهذا بعض المالكية، شريطة أن تكون قريبة منه.
يُنظر: "المعلم بفوائد مسلم"، للمازري (2/ 124)؛ حيث قال:"وإن نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة فلا يأتي إليها إذا لم يكن ببلده. قال بعض أصحاب مالك: إلا أن تكون قريبة على أميال يسيرة فيأتيها، وإن نذر أن يأتيها ماشيًا أتى ماشيًا كما قال. ورأى أن ذلك خارج عن شد الرحال المذكور في الحديث، قال ابن حبيب مثل: أن ينذِر صلاة في مسجد بموضعه ومسجد جمعته والذي يصلي فيه. وألزم ابن عباس المدني إذا نذر الصلاة بمسجد قُبَا أن يأتيه. واحتج لهذا ابن حبيب بما ذكره مسلم بعد هذا لأنه عليه السلام كان يأتيه كلّ سبت".
ومذهب الجمهور، على أنه إذا نذر المشي ونحوه إلى غير المساجد الثلاثة فإنه لا يلزمه ذلك وأنه يصح أن يقوم به في موضعه.
يُنظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (5/ 83)؛ حيث قال:"والأفعال التي يوجبها على نفسه شبه ألفاظ المشي والخروج والسفر والركوب والذهاب والإياب؛ فإن أوجب على نفسه شيئًا من هذه الأفعال وأضافه إلى مكان يصح دخوله فيه بغير إحرام لا يصح إيجابه؛ لأنه أوجب على نفسه التحول من مكان إلى مكان، وذا ليس بقربة مقصودة، ولا يصح النذر بما ليس بقربة". =
المَرْأَةِ الَّتِي نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَمَاتَتْ: أَنْ يَمشِيَ عَنْهَا)
(1)
.
أما مسجد قُبَاءَ فمن المعلوم أن الصلاةَ فيه تَعدِلُ عُمرَةً
(2)
، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَذهَب إليه راكبًا وماشيًا
(3)
.
= ويُنظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 547)؛ حيث قال:" (و) لزم إتيان (المساجد الثلاثة فقط) (لناذر عكوف) أو صوم أو صلاة (بها)؛ أي: فيها (وإلا) بأن نذر العكوف بساحل أو عكوفًا أو صومًا كصلاة بغيرها كالأزهر وجامع عمرو (فبموضعه) الذي نذر فيه الاعتكاف أو الصلاة أو الصوم بفعل المنذور وظاهره ولو قرب جدًّا. والحاصل: أن من نذر شيئًا من الثلاثة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الذهاب إليه كساحل في نذر صوم أو صلاة لا اعتكاف فيفعله في موضعه، وأما غير الساحل والمساجد الثلاثة فبموضعه إن بعد، وإلا فقولان".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (3/ 466) "حيث قال:"ولا يتعين غير الثلاثة بالتعيين لكن المعين أولى".
وقال الماوردي في "الحاوي الكبير"، (3/ 491)؛ "ما يستحب له الوفاء به ولا يلزمه وهو كل مسجد سوى المساجد الثلاثة فإن اعتكف في غيره جاز".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 352 - 353)؛ حيث قال:" (ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير) المساجد (الثلاثة، فله فعله)؛ أي: المنذور من اعتكاف أو صلاة (في غيره)؛ لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعًا فلم يتعين بالنذر، ولو تعين لاحتاج إلى شد رحل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
…
"".
(1)
وهو ما ذهب إليه بعض المالكية كما سبق. وكذا قال به بعض الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 438)؛ حيث قال:"وألحق بعضهم بالثلاثة مسجد قباء، لخبر: "صلاة في مسجد قباء كعمرة". رواه الترمذي وصححه ابن الصلاح والنووي، وفي البخاري: "كان صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكبًا وماشيًا فيصلي فيه ركعتين"".
والمشهور عندهم هو عدم الجواز. ينظر: "مغني المحتاجِ"، للشربيني (6/ 251)، حيث قال:"ولا يلحق بالمساجد الثلاثة مسجد قباء، خلافًا لما بحثه الزركشي، وإن أخرج الترمذي صلاة فيه كعمرة".
(2)
أخرجه الترمذي (324)، ولفظه:"الصلاة في مسجد قباء كعمرة". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3872).
(3)
أخرجه البخاري (1194)، ومسلم (1399) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم =
وأما هذه الرواية فقد ورَدَت في "المُوَطَّأِ"
(1)
، والمشهور منها أن الفتوى كانت لابنة المرأة لا لولدها كما أورَدَ المؤلِّف، وفيها أن امرأةً نَذَرَت أن تُصلِّيَ في مسجد قُبَاءَ، فماتت قبل الوفاء بنذرها، فجاءَت ابْنَتُهَا عبدَ اللّه بنَ عباسٍ رضي الله عنهما حَبْرَ هذه الأُمَّةِ تستفتيه في ذلك، فأفتاها بأن تُصلِّيَ عنها
(2)
.
وهذه المسألة فيها خلافٌ كثيرٌ
(3)
، وقد تَحَدَّثْنَا في أحكام الصيام عن هذا الخلاف، وعَرَفْنَا أن هناك من العلماء مَن يَرَى ذلك مُطْلَقًا دون قَيْدٍ، ومنهم مَنْ يَخُصُّهُ بالنذر كما هو الحال عند الحنابلة، وأن منهم مَن يَمنَعُ مِن ذلك مُطلَقًا كما هو المشهور في مذهب مالكٍ.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّذْرِ إِلَى مَا عَدَا المَسْجِدَ الحَرَامَ اخْتِلَافُهُمْ فِي المَعْنَى الَّذِي إِلَيْهِ تُسْرَجُ المَطِيُّ إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثِةِ مَسَاجِدَ، - هَلْ ذَلِكَ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ الفَرْضِ فِيمَا عَدَا البَيْتَ الحَرَامَ أَوْ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ النَّفْلِ؟).
أي: أن سبب اختلافهم في النذر إلى المسجد النبوي والمسجد الأقصى هو اختلافهم فيما إذا كانت هذه المساجد تُقصدُ مِن أَجلِ شَدِّ الرحال إليها فقط، أم أنها تُقصَد مِن أَجلِ أداء الصلاةِ الواجبةِ، أم مِن أَجلِ أداء السُّنَن، أم مِن أَجلِ أداء الصلاة على وَجْهِ الإطلاقِ سواء كانت واجبةً أم غير واجبةٍ.
= يأتي مسجد قباء راكبًا وماشيًا". زاد ابن نمير: حدثنا عبيد الله، عن نافع: "فيصلي فيه ركعتين".
(1)
أخرج مالك في "موطئه" رواية محمد بن الحسن الشيباني (744) قال: أخبرنا عبد اللّه بن أبي بكر، عن عمته، أنها حدثته عن جدته:"أنها كانت جعلت عليها مشيًا إلى مسجد قباء، فماتت، ولم تقضه، فأفتى ابن عباس ابنتها أن تمشي عنها".
وصححه الألباني بشواهده في "إرواء الغليل"(2593).
(2)
الذي جاء في الرواية المشي لا الصلاة كما ذكر الشارح.
(3)
وهي مسألة قضاء العمل عن الميت.
قوله: (فَمَنْ قَالَ: لِمَوْضِعِ صَلَاةِ الفَرْضِ؛ وَكانَ الفَرْضُ عِنْدَهُ لَا يُنْذَرُ إِذْ كانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قَالَ: النَّذْرُ بِالمَشْيِ إِلَى هَذيْنِ المَسْجِدَيْنِ غَيْرُ لَازِمٍ).
سبب الخلاف هاهنا: هو اختلاف العلماء فيما إذا كانت الكفارةُ تَلزَمُ في نذر الواجبات أم لا تَلزَمُ
(1)
.
والمؤلِّفُ هاهنا يشير إلى تعليل القائلين بعدم لزوم المشي إلى هذين المسجدين في حق مَن نَذرَ ذلك؛ لأن الناذرَ إنما جاء إلى هذين المسجدين ليتفرَّغَ فيهما إلى الله سبحانه وتعالى ويَتقَرَّبَ إليه بالصلاة فيهما، وهذه الصلاة إنما تجب عليه بأيِّ مكانٍ لا في هذين المسجدين على جهة الخصوص، هذا بخلاف البيت الحرام الذي ينفرد بأن فريضةَ الحَجِّ لا تقام إلا فيه
(2)
.
فالفرض واجبٌ ولازمٌ بأصل الشرع، أما النذر فليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما الإنسان هو مَن يُوجِب النذرَ على نفسه ويلتزم به؛ ولذا فإن الإنسان عندما يَنذِرُ أن يَتصدَّقَ أو يُصَلَّيَ تَطَوُّعًا أو يَفْعَلَ شيئًا من الخير؛ فهذا لا شَكَّ أنه نَذْرُ طاعةٍ، أما إذا نَذَرَ أداءَ شيءٍ من الواجبات كأن يُصلِّيَ الفريضةَ أو أن يصومَ رمضانَ أو أن يُخرِجَ زكاةَ مالِهِ فحينئذٍ نقول له: إن هذه الأشياءَ إنما هي من الأُمور الواجبة عليكَ بأصل الشرع
(1)
سبقت هذه المسألة.
(2)
وهو مذهب الأحناف كما سبق، خلافًا لأبي يوسف، يُنظر:"التجريد"، للقدوري (12/ 6516 - 6516) "حيث ذكر علة ذلك؛ فقال:"لنا: ما روى عطاء عن جابر: أن رجلًا قال يوم فتح مكة: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس. فقال له: "صل هاهنا". فأعادها على النبي عليه السلام مرتين أو ثلاثًا، فقال عليه السلام: "شأنك إذن". فدل على أن الصلاة لا تختص بمكان، وإن خصهن ولأن كل صلاة جاز أداؤها في المسجد، جاز في غيره كالمكتوبة، ولأن كل مكان يجوز أن تؤدى فيه المكتوبة يجوز أداء النذر فيه بكل حال، أصله: المكان الذي عينه بنذره".
والمُتَحَتِّمَةِ في حَقِّكَ ابتداءً، فهي أُمورٌ لا بد مِن فِعلِها سواء نَذَرَ الإنسانُ ذلك أو لَم يَنذِر.
أما إذا نَذَرَهَا وَأَدَّاهَا فحينئذٍ هل تَلزَمُه كفارةُ يمينٍ أم لا
(1)
؟
بعض العلماء: ذَهَبَ إلى وجوب الكفارة في حقه؛ لأنه إنما أدى الواجب عليه بأصل الشرع لا النذر.
وبعضهم: ذَهَبَ إلى عدم لزوم الكفارة؛ لأنه عندما أدَّى الواجبَ فإنه قد أدَّى وفاءَ النذر أيضًا.
قوله: (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَكُونُ فِي الوَاجِبِ، أَوْ أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يُقْصَدُ هَذَانِ المَسْجِدَانِ لِمَوْضِعِ صَلَاةِ النَّفْلِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ"
(2)
، وَاسْمُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ الفَرْضَ وَالنَّفْلَ، قَالَ: هُوَ وَاجِبٌ)
(3)
.
(1)
سبقت هذه المسألة.
(2)
أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).
(3)
في مذهب الشافعية والحنابلة، قالوا باللزوم باعتبار شد الرحال إليها وصلاة النافلة بها.
يُنظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 191)، حيث قال: " (وكذا مسجد المدينة، و) مسجد (الأقصى) إذا عينهما الناذر في نذره تعينًا (في الأظهر) ولا يجزئ دونهما؛ لأنهما مسجدان تشد إليهما الرحال فأشبها المسجد الحرام.
والثاني: لا؛ لأنهما لا يتعلَّق بهما نسك فأشبها بقية المساجد، وأشعر كلامه أنه لو عين مسجدًا غير الثلاثة لم يتعين وهو كذلك في الأصح، لكن ما عينه أولى من غيره كما مر، ولشعر أيضًا تعبيره بالاعتكاف أن نذر الصلاة في المساجد الثلاثة لا يتعين وليس مرادًا، بل هي أولى بالتعيين، وقد نص عليها الشافعي والأصحاب".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 480)، حيث قال: " (وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة) المنورة (أو) إلى المسجد (الأقصى لزمه ذلك)؛ أي: المشي إليه. (و) لزمته (الصلاة فيه) ركعتين إذ القصد بالنذر القربة والطاعة، وإنما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذرهم كنذر المشي إلى بيت الله =
وهذا القول بأن النذر يكون في الواجبات كما يكون في السُّنَن مع قلة القائلين به إلا أنه موجودٌ في بعض المذاهب، كمذهب الشافعية ومذهب الحنابلة، على خلافٍ بينهم داخل المذهبين في المسألة
(1)
.
قوله: (لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ حَمَلَ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى الفَرْضِ مَصِيرًا إِلَى الجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صَلَاةُ أَحَدِكمْ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا المَكْتُوبَةَ"
(2)
، وَإِلَّا وَقَعَ التَّضَادُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ أَنْ تَكُونَ مِنَ البَابِ الثَّانِي أَحَقُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَذَا البَابِ)
(3)
.
= الحرام حيث وجب به أحد النسكين". وأنظر. "الكافي"، لابن قدامة (4/ 216).
وفي مذهب المالكية باعتبار شد الرحال ومضاعفة الأجر فيها. يُنظر: "المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 654)؛ حيث قال:"ومن نذر المشي إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى بيت المقدس للصلاة فيهما لزمه ذلك خلافًا للشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
…
" فذكر مسجده وبيت المقدس، ولأنهما مسجدان تضاعف الصلاة فيهما بألف كالمسجد الحرام، ولا يلزم نذر المشي إلى غيرها للخبر، ولأن المعنى فيهما معدوم في غيرهما". ويُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 37).
ومذهب الأحناف، سبق.
(1)
الأكثرون على لزوم النذر في المسجد النبوي والمسجد الأقصى باعتبار مشروعية شد الرحال إليهما وقصدهما لقضاء النوافل، أما في مسألة الفرائض، فقال ابن حجر الهيتمي:"لو عين المسجد للفرض لزمه، وله فعله في مسجد غيره، وإن لم يكن أكثر جماعة فيص يظهر خلافًا لمن قيد به؛ لأنا إنما أوجبنا المسجد لأنه قربة مقصودة في الفرض من حيث كونه مسجدًا؛ فليجزئ كل مسجد لذلك، ويظهر أن ما يسن فيه من النوافل كالفرض". انظر: "تحفة المحتاج"(10/ 95).
(2)
أخرجه أبو داود (1044)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(959).
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (7/ 500)؛ حيث قال:"معنى قوله: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام": إنما هو في المكتوبة؛ لأن فضيلة الصلاة في المسجد إنما هي المكتوبة التي تُصلَّى جماعة في المسجد. يدل عليه ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"".
هذا الحديث رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وهذه الرواية صحَّحَها العلماء، ولكن يُؤخَذُ على المؤلِّفِ هاهنا أيضًا أنه جاءَ بهذا اللفظ مع وجود لفظٍ آخَرَ للحديث مُتَّفقٍ عليه
(1)
، وهو:"أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا المَكْتُوبَةَ"
(2)
.
وقد يُشكِلُ على بعض الناس وَيتعَجَّبُ مِن كَون صلاة تَطَوُّع الرَّجل في بيته أَفْضَلَ مِن صلاته في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والعلة من ذلك قد بَيَّنَهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قوله:"اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا"
(3)
؛ لأن الإنسانَ إذا هَجَرَ بيتَهُ ولم يُصَلِّ فيه فإنَّ بَيْتَهُ حينئذٍ يَكُون أَشْبَهَ ما يَكُون بالمَقْبَرَةِ، فالمَقْبَرَة لا يُصلَّى فيها لأنها غير مُعَدَّةٍ للصلاة؛ ولذا فإنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَ إلى أهمية صلاة السُّنَنِ في البيوت، أما صلاة الفريضة فلا ينبغي أن تُؤَدَّى إلا في المسجد.
قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الوَاجِبِ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ).
المؤلِّفُ هاهنا في هذه المسألة قد خالَفَ منهجه؛ فإنه قد التَزَمَ في هذا الكتاب بأنه لن يَذْكُرَ من المسائل إلا الأمهات والأُصول دون الخوض في المسائل الفرعية، ولكنه في هذه المسألة خَرَّجَ على مسألةٍ فرعيةٍ قد لا توجد في بعض كتب المذاهب مع شمولها وتفصيلها، فهذه المسألة قد ذُكِرَت في بعض كتب الفقهاء، ويبدو أن المؤلِّفَ تابَعَ فيها كتاب "الاستذكار" لابن عبد البَرِّ.
ومبحث هذه المسألة: يدور حول ما لو نَذَرَ إنسانٌ أن يَنْحَرَ ابنَهُ أو
(1)
الظاهر أن ما ذهب إليه الشارح مرجوح؛ وذلك لأن حديث "الصحيحين" ليس فيه التفضيل لصلاة المرء في بيته على مسجد الرسول، بينما في "سنن أبي داود" ذكر هذا.
(2)
أخرجه البخاري (731) واللفظ له، ومسلم (781).
(3)
أخرجه البخاري (432)، ومسلم (777).
ابنَتَه، سواءٌ نَذَرَ أن يَفعَلَ ذلك عند مقام إبراهيم أو أَطلَقَ نَذْرَهُ دون تحديد المكان.
ولا شَكَّ أن هذا النذر لا يجوز الوفاء به؛ لِمَا يَشتمل عليه من معصيةٍ للّه، ولأن فيه قَتْلًا للنفس التي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَها إلا بالحق، واللّه تعالى يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُّ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ"
(1)
.
ولذا؛ فإن الوفاءَ بهذا النذر لا يجوز؛ إذْ لا يجوز الوفاء بنذر المعصية؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ".
ولكن ما الذي يترتَّبُ على عدم الوفاء بهذا النذر؟
فهذا موضع اختلافٍ بين أهل العلم، وقد نُقِلَ في هذا عدة رواياتٍ عن عبد اللّه بن عباسٍ رضي الله عنهما.
فبعض العلماء: ذَهَبَ إلى أن مَن نَذَرَ ذلك لَزِمَتهُ كفارةُ يمينٍ.
وبعضهم: ذَهَبَ إلى أن عليه ذَبْحَ شاةٍ.
وبعضهم قال: يَذبَح جَزُورًا.
وبعضهم قال: يَذْبَحُ مائةً من الإبل.
وبعضهم قال: يَتَصَدَّقُ بقيمة نِيَّتِهِ.
وبعضهم قال: يحج به.
وبعضهم قال: يحج ويُهدِي.
وبعضهم قال: يَذْبَحُ كَبْشًا؛ إلحاقًا بِسُنَّةِ إبراهيم عليه السلام.
(1)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
فتعدَّدَت أقوال العلماء في ذلك حتى وَصَلَت إلى عشرات الأقوال
(1)
.
وقصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام معروفةٌ مشهورةٌ، والتي ذَكَرَها اللَّهُ سبحانه وتعالى في كتابه في قوله:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 102 - 107].
فهاهنا تأتي المسألة الأصولية المعروفة: (هل شَرْعُ مَن قبلنا شَرْعٌ لنا أم لا؟ وهل هناك فرقٌ بين أن يَرِدَ النَّسخُ أو لا يَرِدَ؟)، وهذه المسألة سيشير إليها المؤلِّف، وسنتوقَّفُ عندها لتفصيلها وبيانها إن شاء الله
(2)
.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْحَرُ جَزُورًا فِدَاءً لَهُ).
وقد يقيده بمقام إبراهيم قياسًا على قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام، وقد يُطلِقُ ذلك لو نَذَرَ أن يَذْبَحَ ابنَه في أي مكانٍ، فالحكم فيهما لا يختلف
(3)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْحَرُ شَاةً
(4)
، وَهُوَ أَيْضًا
(1)
ستأتي هذه الأقوال.
(2)
ستأتي.
(3)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 905)؛ حيث قال:"إذا نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة فعليه الهدي، دليلنا: ما روي عن الصحابة أنهم قالوا عليه هدي، وروي عن علي، وابن عباس، وابن عمر، ولأنه أراد نذره على وجه القربة فلما أراد فداه؛ لأن ذلك معهود في الشرع أن نحر الابن قد يكون على وجه القربة، لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم تعبد بذلك، وصارت الأضحية أصلًا في شرعنا شبهًا به، فكان النَّاذر على وجه القربة كناذر الفداء". ويُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 343).
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 739)؛ حيث قال: " (قوله: نذر أن يذبح ولده فعليه شاة) المسألة منصوصة في "كافي الحاكم الشهيد" وغيره، وفي=
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَنْحَرُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ).
وهذه الأقوال مَروَّيَّةٌ عن عبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما، وقد رواها البيهقي في "سُنَنِه"
(1)
، وابن عبد البَرِّ
(2)
، وابن قدامة ذَكَرَ شيئًا من ذلك في "المغني"
(3)
، كما ذَكَرَها النوويُّ في "المجموع"
(4)
، وذَكَرَها آخرون في مصنَّفاتهم، وغيرهم.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُهْدِي دِيَتَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
(5)
. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ).
= "شرح المجمع" و"شرح درر البحار": أنه يجب به ذبح كبش في الحرم أو في أيام النحر في غير الحرم، وأنه يشترط لصحة النذر به في عامة الروايات أن يقول: في النذر عند مقام إبراهيم أو بمكة وفي رواية عنه: لا يشترط، وفي الاختيار، ولو نذر ذبح ولده أو نحره لزمه ذبح شاة عند أبي حنيفة ومحمد وكذا النذر بذبح نفسه أو عبده عند محمد".
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 124)، ولفظه:"أتت امرأة إلى عبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما، فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك؛ فقال شيخ عند ابن عباس جالس: وكيف يكون في هذا كفارة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3]، ثم جعل فيه من الكفارة ما قد رأيت". وفي رواية جعفر: فقال له شيخ: وكيف تكون كفارة في طاعة الشيطان؟ فقال: بلى، أليس الله يقول
…
" فذكر معناه. هذا إسناد صحيح وكذلك رواه الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري وخالفه عكرمة عن ابن عباس فقال: "يذبح كبشًا".
(2)
ينظر هذه الأقوال مفصَّلة في: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 185 - 186).
(3)
ينظر هذه الأقوال في: "المغني"، لابن قدامة (9/ 516 - 517).
(4)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (8/ 453)؛ حيث قال:"أو نذر ذبح نفسه أو ولده وشبه ذلك؛ فلا ينعقد نذره؛ فإذا لم يفعل المعصية المنذورة فقد أحسن ولا كفارة عليه، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور، وفي القول الذي حكاه المصنف عن الربيع: أنه يلزمه الكفارة. واختاره الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي للحديث المذكور: "كفارة النذر كفارة يمين". وحمل الجمهور هذا الحديث على نذر اللجاج والغضب؛ قالوا: ورواية الربيع من تخريجه لا من كلام الشافعي".
(5)
وهي إحدى الروايات عنه، يُنظر:"الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 187)؛ حيث قال:=
وَللَّيْثِ روايتان:
- إحداهما: أنه يَحُجُّ به
(1)
.
- والثانية: أنه يَحُجُّ به ويَذبَحُ له هَدْيًا
(2)
.
وهذه المسألة رغم تَعَدُّدِ الأقوال فيها وتَشَعُّبِها إلا أنها لا تحتاج إلى وقفاتٍ كثيرةٍ؛ لأن الأصل فيها هو عدم جواز ذَبْحِ الإنسان ابنَهُ؛ لِمَا تَوَافَرَ في ذلك من الأدلة الصحيحة الصريحة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ)
(3)
.
= "وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في رجل نذر أن ينحر ابنه فقال: "يهدي ديته"، وقد روي عن علي قال "يهدي شاة"".
(1)
يُنظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 669)؛ حيث قال:"قال بعضهم: بل يحج، وهو قول الليث".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"(5/ 186)؛ حيث قال: "قال الليث في الرجل أو المرأة يقول: هو ينحر ابنه عند البيت؛ قال: يحج بابنه وينحر هديًا".
(3)
يُنظر: "التجريد"، للقدوري (12/ 6507)؛ حيث قال:"قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه: إذا نذر نحر ولده، فعليه شاة. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يلزمه شيء. وبه قال الشافعي رحمه الله. لنا: أن إبراهيم عليه السلام نذر نحر ولده ونسي، فرأى في المنام أن يفي بالنذر، ثم فداه الله تعالى بكبش".
أما مذهب الشافعية؛ فقد سبق ذكره في كلام النووي في المجموع من أنه لا شيء عليه، وحكي عن بعضهم القول بكفارة يمين.
يُنظر: "روضة الطالبين"، للنووي (3/ 300)؛ حيث قال:"وحكى الربيع قولًا في وجوبها. واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي للحديث: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"".
وفي مذهب المالكية يلزمه هدي إن تلفظ به أو ذكر قصة إبراهيم مع ولده. يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير (2/ 264)؛ حيث قال: "
…
(كعليَّ نحر فلان) لم يلزم به شيء، (إن لم يلفظ بالهدي أو ينوه أو يذكر) حال قوله: للّه علي نحر فلان (مقام إبراهيم)؛ أي: قصته مع ولده، فإن تلفظ بالهدي: كعليَّ هدي فلان أو ابني أو نوى الهدي أو ذكر مقام إبراهيم عليه السلام (فهدي) يلزمه".
وهي كذلك روايةٌ عن الحنابلة
(1)
: أن نَذْرَ المعصية لا يُوفَى به ولا تَلزَمُ به الكفار".
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، أَعْنِي: هَلْ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ؟).
والآيات الواردة في سورة الصافات واضحةٌ جَلِيَّةٌ في ذلك، فإبراهيم عليه السلام إنما امتُحِنَ هو وابنُه بالرؤيا التي رآها في المنام، فَصَدَقَا القولَ مع ربِّهِما سبحانه وتعالى، إذْ بادَرَ إبراهيمُ عليه السلام إلى تنفيذِ الأمر الإلهي، وبادَرَ ابنُه إسماعيلُ عليه السلام إلى تسليم أَمْرِهِ إلى اللّه، فقال:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ، هذا على الرغم مِمَّا في هذا الأمر من المشقة التي تصعُب على النفس ويَضيقُ بها القلب إلا أنه وَعَدَ أباه بأنه سيستسلم لأمر اللّه وسيكون صابرًا، ثم لَمَّا بادَرَ إبراهيمُ عليه السلام إلى تنفيذِ الأمر وأَمْسَكَ ابنَه لِيَذبَحَه حَسَمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى المسألةَ ونَجَّى إسماعيلَ عليه السلام فقال تعالى:{(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} .
فكان موقف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مثالًا يُحتَذَى ويُقتَدَى به، سواء في طاعتهما للّه سبحانه وتعالى أو في طاعة الابن لِأَمْرِ أَبِيهِ وَبِرِّهِ بِهِ؛ إذْ قَرَنَ اللّه سبحانه وتعالى طاعةَ الوالِدَين بطاعته، فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا
(1)
يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (11/ 125)؛ حيث قال: "قوله: (إلا أن ينذر ذبح ولده) وكذا نذر ذبح نفسه (ففيه روايتان)
…
إحداهما: أن عليه الكفارة لا غير. وهو المذهب.
والرواية الثانية: يلزمه ذبح كبش".
ومشهور المذهب، على أنه ليس عليه إلا كفارة اليمين فقط. يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 276)؛ حيث قال:" (ومن نذر ذبح معصوم ولو نفسه كفر كفارة يمين)، وهو قول ابن عباس لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"، ولأنه نذر معصية أشبه نذر ذبح أخيه".
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24]، كما لم تَخْلُ السُّنَّةُ المُطَهَّرَةُ من الكثير من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التي تَحُضُّ الأبناءَ وتوصيهم بِبِرِّ آبائهم وأمهاتهم وطاعتهم والإحسان إليهم.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ خُصَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَازِمٌ لنَا قَالَ: النَّذْرُ لَازِمٌ)
(1)
.
(1)
الذين قالوا بعدم لزوم النذر، وهم: أبو يوسف، وزفر، والشافعية، والرواية الأظهر عند الحنابلة؛ أرجعوا ذلك إلى أنه نذر معصية؛ فقالوا بأنه ليس عليه شيء، وقال الحنابلة: فيه كفارة يمين ولم يوجبوا عليه هديًا.
يُنظر في مذهب الحنفية: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 739)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف وزفر: لا يصح شيء من ذلك لأنه معصية فلا يصح".
ويُنظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (4/ 473)؛ حيث قال:"دليلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم"".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (9/ 516)؛ حيث قال: "
…
عليه كفارة يمين. وهذا قياس المذهب؛ لأن هذا نذر معصية، أو نذر لجاج، وكلاهما يوجب الكفارة. وهو قول ابن عباس، فإنه روي عنه: أنه قال لامرأة نذرت أن تذبح ابنها: "لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك"".
والذين قالوا بلزوم الهدي وهم الأحناف والمالكية بشروط ذكروها كما سبق، وبعض الشافعية ورواية عن الحنابلة، ذكروا العلة التي نص عليها المؤلف.
ويُنظر في مذهب المالكية: "أحكام القرآن"، لابن العربي (4/ 33)؛ حيث قال:"ودليلنا: أن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعًا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح الشاة، وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يجب أن يلزمه ذبح شاة؛ لأن اللّه تعالى قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}. والإيمان إلزام أصلين والنذر إلزام فرعي؛ فيجب أن يكون عليه محمولًا".
ويُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 516، 517)؛ حيث قال: "والرواية الثانية: كفارته ذبح كبش، ويطعمه للمساكين. وهو قول أبي حنيفة. ويروى ذلك عن ابن عباس أيضًا؛ لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذر ذبح شاة، بدليل أن اللّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، وكان أمرًا بذبح شاة، وشرع مَن قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه، ودليل أنه أمر بذبح شاة: أن اللّه لا يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي، وذبح الولد من كبائر المعاصي؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ".
وهذه هي المسألة الأصولية التي أَشَرْنَا لها فيما مضى، وهي:(هَلْ شرع مَنْ قَبْلَنَا شرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟).
وهي مسألة من مسائل الأُصول التى اختلَفَ العلماءُ فيها وأطالوا الكلامَ في بَحثِها وتَناوُلِها.
فبعض العلماء قال: بأن شَرْعَ مَن قَبْلَنا شرعٌ لنا ما لَم يَرِدْ نَصٌّ بنسخه.
وبعضهم قال: بأنه ليس شرعًا لنا على الإطلاق، وبعضهم ذَهَبَ إلى أنه ليس شرعًا لنا إلا إن وَرَدَ في شَرْعِنَا ما يَشهَدُ له ويُؤَيِّدُهُ
(1)
.
قوله: (وَالخِلَافُ فِي هَلْ يَلْزَمُنَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَشهُورٌ، لَكِنْ يَتَطَرَّق إِلَى هَذَا خِلَافٌ آخَر، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الفِعْلِ أَنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْعًا لِأَهْلِ زَمَانِهِ، وَعَلَى هَذَا، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لنَا أَمْ لَيْسَ بِشَرْعٍ؟).
هذه المسألة تَكَلَّمَ فيها أهل التفسير والفقه، فبعضهم ذَهَبَ إلى هذا القول الذي ساقَهُ المؤلِّف، وهو أن ظاهِرَ القصة يُفِيدُ خُصُوصِيَّةَ هذا الفعل بإبراهيم عليه السلام، وبعض العلماء كذلك أشار إلى عُمومِ الفعل
(2)
.
(1)
يُنظر: "روضة الناظر"، لابن قدامة (1/ 457، 459)؛ حيث قال: "شرع من قبلنا: إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، هل هو شرع لنا؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبَّدًا بعد البعثة باتباع شريعة من قبله؟ فيه روايتان:
إحداهما: أنه شرع لنا اختارها التميمي، وهو قول الحنفية.
والثانية: ليس بشرع لنا.
وعن الشافعية كالمذهبين
…
".
(2)
الذين قالوا بأن عليه شاة وهم الأحناف وغيرهم كما سبق قاسوه على فعل إبراهيم وجعلوا فعله عامًّا وليس خاصًّا به، والذين قالوا بعدم الكفارة كالشافعية قالوا: إن هذا خاص به وهو وحي من الله. يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (15/ 489)؛ حيث قال: "وأما الجواب عن استدلالهم بحال الخليل إبراهيم - عليه الصلاة =
وحاصل المسألة في الأصل: أن هذا نذرٌ فيه معصية فلا يُوفَّى به، ولكن المسألة تبحث فيما إذا كان فيه كفارةٌ أم لا، وما هي الكفارة الواجبة في ذلك
(1)
.
قوله: (وَالذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ شَرْعٌ، إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الوَاجِبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي هَلْ يُحْمَلُ الوَاجِبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الوَاجِبِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَمْ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ القُرَبِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَذَلِكَ إِمَّا صَدَقَة بِدِيَتِهِ، وَإِمَّا حَجٌّ بِهِ، وَإِمَّا هَدْيُ بَدَنَةٍ).
أي: أنهم اختلَفُوا في أمورٍ، منها:
- أنهم اختَلَفُوا فيما إذا كان الكَبْشُ الذي وَجَبَ على إبراهيمَ عليه السلام هو بعينه ما يجب على كُلِّ مَن نَذَرَ أن يَذْبَحَ ابنَه أم أنه يُزادُ على ذلك.
- واختَلَفُوا فيما إذا كانت الكفارة تنحصر في بهيمة الأنعام وحدها أو تتعداها إلى غير ذلك.
- وكذلك اختَلَفُوا فيما إذا كانت هذه الكفارةُ كفارةَ يمينٍ أم لا.
وكل هذا قد سَبَقَت الإشارةُ إليه
(2)
.
وأما قوله: (القُرَب الإسلامية)، فيعني به: الطاعات التي يَتقَرَّبُ بها العبدُ إلى اللّه سبحانه وتعالى قاصدًا به وَجْهَهُ وحده؛ فهذا يختلف عن التقرُّب للمَخلُوقِين بأُمورٍ جائزةٍ في الشرع أو غير جائزةٍ، كأن تُقَدِّمَ هديَّةً لصديقِكَ فهذا أمر جائزٌ شرعًا إذا لم يَدخُل فيه غرضٌ غيرُ محمودٍ، ولكنه ليس من باب القربات الإسلامية الذي نتناوله هاهنا.
= والسلام -؛ فهو أنه رأى في المنام أنه يذبح ابنه كما قال تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . ورؤيا الأنبياء في المنام كالوحي في اليقظة، فصار ذلك أمرًا من اللّه تعالى ليختبر صبره وطاعة ابنه".
(1)
سبق ذكر هذا.
(2)
سبق بيان هذا.
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ
(1)
، فَذَهَبُوا إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ المُطَّلِبِ).
وحديث عبد المطلب هذا هو ما أخرجه الحاكم في قوله: "مستدركه" وأشار إليه الطبريُّ في "تفسيره" من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الصُّنَابِحِيِّ أنه قَالَ: "حَضَرْنَا مَجْلِسَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَتَذَاكَرَ القَوْمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيل، وَقَالَ بَعْضهُمْ: بَلْ إِسْحَاقُ الذَّبِيح، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: سَقَطْتُمْ عَلَى الخَبِيرِ، كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، خَلَّفْتُ البِلَادَ يَابِسَةً وَالمَاءَ يَابِسًا، هَلَكَ المَالُ وَضَاعَ العِيَال، فَعُدْ عَلَيَّ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ؛ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَمَا الذِّبِيحَانِ؟ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ لَمَّا أَمَرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ إِنْ سهَّلَ اللَّهُ أَمْرَهَا أَنْ يَنْحَرَ بَعْضَ وَلَدِهِ، فَأَخْرَجَهُمْ، فَأَسْهَمَ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَ السَّهْمُ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَأَرَادَ ذَبْحَه، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَالُوا: أَرْضِ رَبَّكَ وَافْدِ ابْنَكَ. قَالَ: فَفَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ. قَالَ: فَهُوَ الذَّبِيحُ وَإِسْمَاعِيلُ الثَّانِي"
(2)
.
فهناك خلافٌ مشهورٌ بين المُفَسِّرِينَ فيما إذا كان الذبيح هو إسماعيل
(1)
وهو مروي عن ابن عباس: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 461) في رجل نذر لينحرن نفسه قال: "ليهد مائة بدنة".
وقد أجاب الشافعية على هذا، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (15/ 489)؛ حيث قال:"وأما الجواب عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما فالرواية مختلفة، فروي عنه أن عليه مائة من الإبل، وروي عنه أن عليه شاة، وليست إحدى الروايتين أولى من الأُخرى وقد سقطت إحداهما، فوجب أن تسقط الأُخرى".
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 604)، والطبري في "تفسيره" (19/ 597). قال الألباني:"قلت: إسناده واهٍ، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" بعد أن ذكره من هذا الوجه من رواية ابن جرير: وهذا حديث غريب جدًّا". "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/ 502).
أم إسحاق عليهما السلام
(1)
، وفي هذا الحديث إشار إلى هذا الخلاف الذي وَقَعَ كذلك في مجلس معاوية رضي الله عنه واختَلَفَ الحاضرون في الذَّبِيحِ، فقال معاوية:"سَقَطْتُمْ عَلَى الخَبِيرِ"، وقَصَّ عليهم قصةَ الأعرابيِّ الذي جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشَكَا له ضِيقَ الحال وناداه بابن الذبيحين، فلما تساءَلَ الصحابةُ عن ذلك أَخبَرَهُم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِ جَدِّهِ عبد المُطَّلِبِ لَمَّا نَذَرَ إن سَهَّلَ اللَّهُ له حَفْرَ زَمْزَمَ لَيَنْحَرَنَّ بَعْضَ وَلَدِهِ
…
إلى آخر القصة التي أشار إليها المؤلِّف، وهو حديثٌ ضعيفٌ
(2)
، لكننا نَسُوقُهُ إتمامًا للفائدة ولأنَّ المؤلِّفَ أشارَ إليه.
قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامسَةُ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ البِرِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ)
(3)
.
(1)
قال ابن عرفة في "تفسيره"(3/ 121): "قال ابن عطية: الجمهور على أن الذبيح إسماعيل. وقال ابن رشد في "المقدمات": الأكثرون على أنه إسحاق. وقال اللخمي: الأصح أنه إسماعيل".
(2)
سبق ذكر هذا.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (3/ 178) حيث قال: "ولو قال: كل مالي أو جميعه، هدى، فعليه أن يهدي ماله كله، ويمسك منه قدر قوته، فإذا أفاد مالًا تصدق بقدر ما أمسك".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (3/ 103) حيث قال: " (و) لزم الحالف بمالي في سبيل الله تعالى إن فعلت كذا أو لأفعلنه وحنث، فيلزمه (ثلثه)، أي: المال من عين وعددين أو قيمته وعرض".
ومذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (9/ 359)، وفيه قال:" (وإن نذر في ذمته) أضحية كعليَّ أضحية (ثم عين) المنذور بنحو: عينت هذه الشاة لنذري، ويلزمه تعيين سليمة إلا أن يلتزم معيبة، تعين وزال ملكه عنها بمجرد التعيين (لزمه ذبحه فيه)، أي: الوقت؛ لأنه التزم أضحيةً في الذمة، وهي مؤقتة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 278) حيث قال: " (ومَنْ نذر الصدق بكل ماله) أجزأه ثلثه (أو) نذر الصدقة (بمعين وهو كل ماله) أجزأه ثلثه (أو) نذر الصدقة (بألف ونحوه) كمائة (وهو كل ماله أو يستغرق كل ماله) بأن كان المنذور أكثر من ماله (نذر قربة لا) نذر (لجاج وغضب أجزأه ثلثه ولا كفارة) عليه".
هذا الإنسان ينذر أنه سيتصدق بهذا المال كله، ولا يترك له شيء، ففي قصة أبي بكر وعمر عندما كان عمر رضي الله عنه يسارع إلى فعل الخيرات حتى إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على الصدقات ذات يوم، لكن عمر تصدق بنصف ماله، فوجد أن أبا بكر تصدق بجميع ماله
(1)
.
فوقف العلماء عند هذه المسألة، فقالوا: إن كان الذي يتصدق بماله جميعًا عنده من القدرة والخبرة والصلة بالتجار ما يجعله يعود ويستغني عما في أيدي الناس "فلا شيء في ذلك، أما أن يأتي إنسان ويخرج جميع ما في يديه ثم يجلس يتكفف الناس لا يدري يحسنون إليه أو لا، ويترك أبناءه عالةً على الناس، فلا.
وقد ورد في قصة سعد بن أبي وقاص عندما جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذكر له أنه يريد أن يتصدق بماله، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"لا"، ثم قال سعد: فالثلثان؟ قال: "كثير"، ثم قال النصف؟ قال:"كثير"، ثم قال: الثلث؟ قال: "نعم، والثلث كثير"، فذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحكم مربوطًا بعلة، وهو الثلث، ثم قال:"إنَّك إنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالةً يتكفَّفون الناس"
(2)
.
فالإنسان إذا مَاتَ وترك وراءه أطفالًا صغارًا ذكورًا وإناثًا، يتركهم عالةً يحتاجون إلى الناس، يمدُّون أيديهم إلى الناس، قد يعطونهم وقَدْ لا يُعْطونهم، فينبغي أن يتركهم في غنًى ليترفعوا عن ذلك، ولا يذلوا
(1)
أخرجه أبو داود (1678)، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سَمعتُ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أبقيت لأهلك؟ "، قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ما أبقيت لأهلك؟ "، قال: أبقيت لهم اللّه ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا، وأخرجه الترمذي (3675)، وقال: حسن صحيح، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن الترمذي"(3675).
(2)
أخرجه البخاري (5668) ومسلم (1628).
أنفسهم للناس، ولينشغلوا بأمورٍ أهم بدل أن ينشغلوا بمثل هذه الأُمور، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يسأل الناس، يأتي يوم القيامة وليس في وجهة مزعة من لحم"
(1)
.
وقَدْ أرشدَ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك السائل، وأعطاه ليشتري حبلًا وفأسًا ليحتطب ويتكسب
(2)
، ولذلك في الحديث:"الغنى ما جاء عن كسب"
(3)
، وقوله:"أفضل الصدقة ما كانت عن غنًى"
(4)
، فَخَير ما يَتَقدَّم به الإنسان مَا يكون عن غنًى، لكن لَيْس للإنسان أن يخرج جميع ماله، وَإِنْ كان السلف رضي الله عنهم قد تَسَابقوا في هذا الميدان، لكن يَنْبغي للإنسان أن يعرف المقَام الذي يعيش فيه، هل لو أخرج ماله جميعًا يترتب عليه ضررٌ؟ هل المصلحة في إخراج هذا المال؟ فهذه المسألة تحتاج إلى الدقة.
ونرى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أشد المواقف بالنسبة إلى التائبين ما أقرَّهم بأن يخرجوا جميع أموالهم، ففي حديث أبي لُبَابة لما قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنَّ من توبتي أن أنخلع عن مالي (جميع مالي) إلى اللّه ورسوله للتقرُّب إلى اللّه سبحانه وتعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال لى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"يجزيك الثلث"، أيْ: يَكْفيك الثلث
(5)
.
(1)
أخرجه النسائي (2585)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن النسائي" (2585) ولفظه: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة من لحم".
(2)
أخرجه البخاري (2373)، ومسلم (1042)، ولفظه: قال رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يحتزم أحدكم حزمةً من حطب، فيَحْملها على ظهره فيبيعها، خيرٌ له من أن يسأل رجلًا، يعطيه أو يمنعه".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
أخرجه البخاري (5355)، ومسلم (1034).
أخرجه البخاري (5355)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصدقة ما ترك غنى".
ومسلم (1034)، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة - أو خير الصدقة - عن ظهر غنى".
(5)
أخرجه أبو داود (3319)، ولفظه: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها =
وفي قصة كعب بن مالك، وهو ممَّن تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وقصة كعب بن مالك وردت في "الصحيحين"
(1)
فيها الحِكَمُ والعبر، وفيها الدروس والمواعظ ما لو قرأها المسلم بقلب خاشع، وبصيرة ودقة لاستفاد منها دروسًا ومواعظ، وتجنب المعاصي، والمؤلف لم يشر إليه.
قوله: (وَأَنَّهُ لَيْسَ تَرْفَعُهُ الكَفَّارَة، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ نَذْرًا عَلَى جِهَةِ الخَبَرِ
(2)
لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ يَمِينًا).
تكلمنا عن صيغ النذر، وأنه أحيانًا تأتي بصيغة الخبر كقَوْله:"عليَّ نَذرٌ"، وأحيانًا يقول الإنسان: إنْ شفى اللّه مريضي، فَعلتُ كذَا، وتَصدَّقت
= الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة، قال:"يجزئ عنك الثلث"، صحَّح إسناده الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن أبي داود".
(1)
أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
(2)
مذاهب العلماء في النذر على طريقة الخبر مثل: للّه عليَّ نذر أن أحج:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 77) حيث قال: " (ولو نذر نذرًا مطلقًا)، أي: بغير شرط ولا تعليق؛ كقوله: عليَّ صوم شهر أو نحوه (فعليه الوفاء به) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 162) حيث قال: " (وإنما) (يلزم به)، أي: بالنذر (ما ندب)، أي: طلب طلبًا غير جازم، فيشمل السنة والرغيبة، وسواء أطلقه (كـ: لله عليَّ أو عليَّ) بدون لله (ضحية)، أو ركعتا الفجر أو الضحى أو صدقة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 234) حيث قال: " (وإن لم يعلقه) الناذر (بشيءٍ كـ: لله)، أي: كقوله ابتداء للّه (عليَّ صوم) أو حج أو غير ذلك (لزمه) ما التزمه (في الأظهر) لعموم الأدلة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 276) حيث قال: " (السادس نذر التبرر)، أي: التقرب يقال: تبرر تبررًا، أي: تقرب تقربًا (كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف وعيادة المريض والحج والعمرة ونحوها من القرب)؛ كتجديد الوضوء وغسل الجمعة والعيدين (على وجه التقرب سواء نذره مطلقًا أو معلقًا) بشرط لا يقصد به المنع والحمل (كقوله: إن شفى اللّه مريضي أو سلم مالي أو طلعت الشمس، فللَّه عليَّ كذا، أو فعلت كذا نحو: تصدقت بكذا، ونص عليه) أحمد (في: إن قدم فلان تصدقت بكذا، فهذا نذر) صحيح".
بكذا .. إن قدم والدي فعلت كذا .. هذا هو المرتبط بالشرط، فهذا على طريق الخبر، وهذا على طريق الشرط
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَالِي لِلْمَسَاكينِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَفَعَلَهُ؛ فَقَالَ قَوْمٌ
(2)
: ذَلِكَ لَازِمٌ كَالنَّذْرِ عَلَى جِهَةِ الخَبَرِ وَلَا كفَّارَةَ فِيهِ وَهوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي النُّذُورِ الَّتِي صِيَغُهَا هَذِهِ الصِّيَغُ أَعْنِي أَنَّهُ لَا كفَّارَةَ فِيهِ، وَقَالَ قَوْمٌ
(3)
: الوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي النُّذُورِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِحُكْمِ الأَيْمَانِ).
عاد المؤلف مرةً أُخرى ليُحرِّر المسألة لتلتقي مع أقوال الأئمة
(4)
.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَأَلْحَقَهَا بِحُكْمِ النُّذُورِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا
(1)
مذاهب العلماء في النذر على طريقة الشرط مثل: إن شفى اللّه مريضي، فعلت كذا .. سيأتي مذهب المالكية والشافعية عند كلام ابن رشد.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 77) حيث قال بلزوم الوفاء به: " (وكذلك إن علقه بشرط فوجد)؛ لأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده، ولأن النذرَ موجود نظرًا إلى الجزاء، والجزاء هو الأصل، والشرط تبع، واعتبار الأصل أَوْلَى، فصار كالمنجز. (وعن أبي حنيفة: أنه يجزئه كفارة يمين إذا كان شرطًا لا يريد وجوده)، كقوله: إن كلمت فلانًا، أو دخلت الدار، فعليَّ صوم سنةٍ أو صدقة ما أملكه، وهو قول محمد رحمه الله".
مذهب الحنابلة، تقدم النقل.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 163) حيث قال:" (و) لزم الناذر (ثلثه)، أي: ثلث ماله الموجود (حين يمينه) لا ما زاد بعده (إلا أن ينقص) يوم الحنث عن يوم اليمين (فما بقي)، أي: يلزمه ثلثه؛ سواء كانت يمينه على بر أو حنث".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 252) حيث قال. "فإن علَّق قوله المذكور بدخول مثلًا كقوله: إن دخلت الدار فمالي صدقة فنذر لجاج، فإما أن يتصدق بكل ماله، وإما أن يكفر كفارة يمين".
(4)
تقدَّم.
فِي كتَابِ الأَيْمَان، وَالَّذِينَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ إِخْرَاجِ مَالِهِ فِي المَوْضِعِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ اخْتَلَفُوا فِي الوَاجِبِ عَلَيْهِ).
الوَاجبُ علَيه في هذا المقام هو لو أن إنسانًا نذر أن يتصدق بماله، وأن ينخلع عن جميع ماله كما ينخلع الإنسان عن ملابسه، هل يلزمه الوفاء بذلك أم لا؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرِجُ ثُلُثَ مَالِهِ فَقَطْ)
(1)
.
وَهُوَ قَوْل الإمَام أحمد
(2)
أيضًا، وهو: لو أن إنسانًا نذر أن يخرجَ جميع ماله، أو أن يَتَصدَّق به، فإنه في هذه الحالة يقتصر فقط على الثُّلُث، وهذا هو مَذْهب الإمامين مالك وأحمد.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ جَمِيعِ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَزُفَرُ)
(3)
.
إبراهيم النخعي هو من التابعين، وزفر من أصحاب أبي حنيفة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: يُخْرِجُ جَمِيعَ الأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا).
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (3/ 103) حيث قال: " (و) لزم الحالف بمالي في سبيل اللّه تعالى: إِنْ فَعلتُ كذا أو لأفعلنه، وحنث فيلزمه (ثلثه)، أي: المال من عين وعددين أو قيمته وعرض".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 278) حيث قال: " (ومن نذر الصدقة بكل ماله) أجزأه ثلثه (أو) نذر الصدقة (بمعين وهو كل ماله) أجزأه ثلثه (أو) نذر الصدقة (بألف ونحوه) كمائة (وهو كل ماله أو يستغرق كل ماله) بأن كان المنذور أكثر من ماله (نذر قربة لا) نذر (لجاج وغضب أجزأه ثلثه ولا كفارة) عليه".
(3)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 134) حيث قال: "بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا: يتصدق بماله كله، ويمسك منه قدر قوته، فإذَا أفاد مالًا، يتصدق بقدر ما أمسك، وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال: مالي صدقة، فقال: في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له، وهو قول زفر".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (3/ 178) حيث قال: "وفي الاستحسان =
تَعدَّدت روايات أبي حنيفة في هذه المسألة، فمرةً يرى أن ليس عليه شيء، ومرة يرى أنه يخرج المال الذي يجب فيه الزكاة، وهناك قول وهو أن الانسانَ يُخْرج مقدار زكاته مالًا
(1)
.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَخْرَجَ مِثْلَ زَكاةِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ. وَفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ المَالُ كثِيرًا أَخْرَجَ خُمُسَهُ وَإِنْ كَانَ وَسَطًا أَخْرَجَ سُبُعَهُ وَإِنْ كانَ يَسِيرًا أَخْرَجَ عُشْرَهُ)
(2)
.
فلو أن إنسانًا نذر أن يتصدق بشيءٍ من ماله، كأن يتصدق مثلًا بعشرة آلاف، لا يخرج العشرة، بل يخرج بعضها. وقال الفُقَهاء فيما مَضَى: لَوْ نذَر أن يتصدَّق بألفين من ماله، لا يخرج الألفين. وبعضهم قال: يخرج ألفًا. والبعض قال: خمسمائة. وبعضهم قال: يخرجها جميعًا
(3)
.
قوله: (وَحَدَّ هَؤُلَاءِ الكَثِيرَ بِأَلْفَي وَالوَسَطَ بِأَلْفٍ، وَالقَلِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ)
(4)
.
هذا مصطلح الفقهاء فيما مضى، وتغيرت الأُمور، وأصبح الألف في هذا الزمن لا يساوي شيئًا، إذ تغيرت الأحوال، لكن مَنْ كان يملك ألفًا، أو ألفين، أو أكثر، أو أقل من ذلك، ثم يتصدق منه، كان ذلك عملًا عظيمًا.
= ينصرف إلى مال الزكاة خاصةً بخلاف ما إذا قال: جميع ما أملك"، ويُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 135).
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 9) حيث قال: "وعن جابر بن زيد: قال: إن كان كثيرًا، وهو ألفان، تصدق بعشره، وإن كان متوسطًا وهو ألف، تصدق بسبعه، وإن كان قليلًا، وهو خمسمائة، تصدق بخمسه".
(3)
تقدَّم.
(4)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 486)، عن قتادة، عن جابر بن زيد، سئل عن رجلِ جعل ماله هديًا في سبيل اللّه، فقال:"إنَّ الله عز وجل لم يرد أن يغتصب أحدًا ماله، فإن كان كثيرًا فليهدِ خمسه، وإن كان وسطًا فسبعه، وإن كان قليلًا فعشره"، قال قتادة:"والكثير ألفان، والوسط ألف، والقليل خمسمائة".
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذ المَسْأَلَةِ أَعْنِي مَنْ قَالَ: المَالُ كلُّهُ أَوْ ثُلُثُهُ مُعَارَضَةُ الأَصْلِ فِي هَذَا البَابِ لِلأَثَرِ).
هناك قاعدة ثابتة في ذلك، وهناك أحاديث وردت، فالأصل هو أن هذا الإنسان يملك ماله، فهو حرٌّ فيه، أو يتبرع به، فجاء الأثر فعارض هذا الأصل وقيده، وهو أن الإنسان يتصدق بثلث ماله، فالإنسان يوصي بثلث ماله، وأن الإنسان إذا نذر يكتفي بإخراج ثلث ماله على الخلاف المذكور آنفًا.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ ابْنِ عَبْدِ المُنْذِرِ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ)
(1)
.
وهو من الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ونعلم أن مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك أنواعٌ، فيهم المنافقون، وهناك من تخلَّف متعذرًا لبعض الأعذار غير المقبولة، ومنهم أبو لبابة، وهو لما تخلَّف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، لم يكلمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقاطعه المسلمون، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأخذ على نفسه سبعة أيام لا يأكل، ولا يفك رباطه، وحلف أنه لن يأكل إلا أن تُقْبل توبته إلى أن سقط مغشيًّا عليه، وقد حلف أنه لا يفك قيده إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(5/ 405)، عن الزهري، قال: كان أبو لُبَابة ممَّن تخلف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، ثم قال: واللهِ، لا أحلُّ نفسي منها، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب اللّه عليَّ، فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعامًا ولا شرابًا حتى كان يخر مغشيًّا عليه، قال: ثمَّ تاب اللّه عليه، فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: واللّه لا أحلُّ نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحلني بيده، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول اللّه، إنَّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى اللّه وإلى رسوله، قال:"يجزيك الثلث يا أبا لبابة"، وأخرجه أحمد مختصرًا (15750). قال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ"، هُوَ نَصٌّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ).
وكذلك نص في مذهب أحمد
(1)
، فهم متفقون في هذه المسألة؛ لكن الخلاف عند بعض العلماء الذين عارضوا هذين الحديثين، فبعضهم يعلل ذلك؛ لأن الحديثين ليس المقصود بهما المال، وإنما هي الصدقة، وقالوا: للإنسان أن يتصدق بجميع ماله
(2)
.
قوله: (وَأَمَّا الأَصْلُ فَيُوجِبُ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ جَمِيعُ مَالِهِ حَمْلًا عَلَى سَائِرِ النَّذْرِ).
الأَصْلُ اللازمُ أن يخرج جميع ماله ما دام أنه نذر أن يخرج الجميع، هذا هو الأصل، فلماذا اقتصر على الثلث؟! فقد ورد في قصة سعد بن أبي وقاص أنه عرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه صاحب مال، وأنه ليس له عيال، ويريد أن يتصدق بجميع ماله، فلم يوافقه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم عرض عليه الثلثين إلى أن انتهى إلى الثلث، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"الثُّلُث، والثُّلث كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس"، وبيَّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك أن الإنسان لو أخرج جميع ماله، فلماذا يترك نفسه، ويترك أولاده عالةً
(3)
؟!
"قوله: (أَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي قَصَدَه، لَكِنَّ
(1)
تقدَّم.
(2)
وهو مذهب الشافعي، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 175) حيث قال: " (وفي استحباب الصدقة بما فضل عن حاجته) المارة من حاجة نفسه وممونه يومهم وليلتهم وكسوة فصلهم ووفاء دينه (أوجه) أحدهما: تسن مطلقًا. ثانيها: لا مطلقًا. ثالثها. وهو (أصحها): أنه (إن لم يشق عليه الصبر استحب)؛ لأن الصديق تصدق بجميع ماله".
(3)
عَال يَعيلُ عَيْلًا وعَيْلَةً وَعُيولًا ومَعيلًا: افْتقَر. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (2/ 245).
الوَاجِبَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ، إِذْ قَدِ اسْتَثْنَاهَا النَّصُّ).
الأَصْلُ أن الإنْسَانَ إذا نذرَ فعلًا من الأفعال؛ فعليه أن يُوَفِّي، أو يكفر، وفيما يتعلَّق بتَرْك أَمْرٍ من الأُمور، عليه أن يتركه، وإنْ لم يتركه فعليه الكفَّارة، وإنْ كان لا يجوز أن نفعله أصلًا، لكن هذين الحديثين خلاف تلك القاعدة وذلك الأصل، حيث نص على أن الإنسان إذا نذر أن يتصدَّق بجميع ماله؛ فإنه يُكْتفى بالثلث.
قوله: (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا
(1)
لَمْ يَلْزَمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَصْلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا لَزِمَهُ وَإِنْ كانَ كُلُّ مَالٍ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ عِنْدَهُ إِنْ عَيَّنَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ وَهُوَ أَكْتَرُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ مَا رَوَاهُ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ، وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للَّذِي جَاءَ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: أَصَبْتُ هَذَا مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا).
جاء بقطعة من ذهب كالبيضة، وقدمها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليتصدق بها، فأنكر عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَهْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ مِنْ خَلْفِهِ، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَذَفَهُ بِهِ، فَلَوْ أَصَابَهُ بِهَا لأَوْجَعَه، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "يَأْتِي أَحَدُكمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى
(2)
).
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (3/ 106) حيث قال: " (و) لزم الناذر (ما سمَّى) بشد الميم من ماله إذا كان شائعًا كربعه وتسعة أعشاره بل (وإن) كان المسمى (معينًا) بفتح الياء كعبدي أو داري؛ سواء أبقى لنفسه شيئًا أو (أتى) ذلك المعين (على الجميع) ".
(2)
أخرجه أبو داود (1673)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(3/ 415).
إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يحض الصدقات، وحتى إنه قال للنساء عندما جمعهم:"تصدقن لتقينَ حر جهنم"
(1)
، نجد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُعْرض عن هذا الرجل؛ لأنه قدم جميع ما يملك ليخرج من هذا الذي يملكه، ويبقى بعد ذلك فقيرًا يحتاج إلى أن يُحسِنَ إليه الناس، لكن لو كان هذا الإنسان لديه من القوة والخبرة في التجارة؛ فإنه يستطيع أن يعيدَ ماله.
فهو يحتاج إلى ما عند الناس، ولا يدري أعطوه أو منعوه، ثم يبقى ذليلًا، فبعد أن ستره اللّه سبحانه وتعالى وأعزه ورفعه حتى لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، يأتي فيخرج جميع ماله، فيحتاج إلى الناس، وكان الأَوْلَى أن يُبْقي شيئًا مما عنده، وأن تكون حاجته دائمًا إلى اللّه سبحانه وتعالى.
والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بيَّن علة إعراضه عنه يمينًا وشمالًا، ولماذا لم يستجب له، ولماذا رمى عليه صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب التي تشبه البيضة؛ لأنه لا يملك غيرها، وبإخراجها يكون فقيرًا، ثم بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ما كانت عن ظهر غنًى، فخير الصدقة وأفضلها ما كان عن ظهر غنًى.
قوله: (وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ المَالُ المُعَيَّنُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ وَكَانَ جَمِيعَ مَالِهِ؛ وَلَعَلَّ مَالِكًا لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الآثَار، وَأَمَّا سَائِرُ الأَقَاوِيلِ الَّتِي قِيلَتْ فِي هَذ المَسْأَلَةِ فَضِعَافٌ وَبِخَاصَّةٍ مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ غَيْرَ الثُّلُثِ، وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِي أُصُولِ هَذَا الكِتَابِ، وَاللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ).
يريد المؤلف أن يقول: ما عرضناه من مسائل هي كافية في أصول هذا الكتاب، وأن القارئ في هذا الكتاب عليه أن يلحق ما عداه.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (304)، ومسلم (79)، ولفظه:"يا معشرَ النِّساء، تصدَّقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فَقَالت امرأةٌ منهن جزلة: وما لنا يا رسول اللّه أكثر أهل النار؟ قال: "تكثرن اللَّعن، وتكفرن العشير".
[كِتَابُ الضَّحَايَا]
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
[البَابُ الأوَّلُ فِي حُكْم الضَّحَايَا وَمَنِ المُخَاطَبُ بِهَا]
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(وَهَذَا الكِتَابُ فِي أُصُولِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، البَابُ الأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الضَّحَايَا، وَمَنِ المُخَاطَبُ بِهَا؟ البَابُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا. البَابُ الثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ الذَّبْحِ. البَابُ الرَّابعُ: فِي أَحْكَامِ لُحُومِ الضَّحَايَا. البَابُ الأَوَّلُ فِي حُكْمِ الضَّحَايَا، وَمَنِ المُخَاطَبُ بِهَا؟ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الأُضْحِيَّةِ: هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ؟ فَذَهَبَ
(1)
الأضاحي: مشدد الياء جمع في واحدته أربع لغات: أضحية، وإضحية - بضم الهمزة وكسرها وتشديد الياء - وضحية بوزن سرية، والجمع ضحايا، وأضحاة والجمع أضحى. ينظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 242).
مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
إِلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ المُؤَكَّدَةِ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لِلْحَاجِّ فِي تَرْكهَا بِمِنًى
(3)
، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الحَاجِّ وَغَيْرِهِ
(4)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
: الضَّحِيَّةُ وَاجِبَة عَلَى المُقِيمِينَ فِي الأمْصَارِ المُوسِرِينَ، وَلَا تجِبُ عَلَى المُسَافِرِينَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّد، فَقَالَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ
(6)
، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ
(7)
مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: هَلْ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ صلى الله عليه وسلم الضَّحِيَّةَ قَطُّ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ حَتَّى فِي السَّفَرِ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ، قَالَ: "ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُضْحِيَّتَه، ثُمَّ قَالَ: يَا ثَوْبَان، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ
(1)
يُنظر. "منح الجليل" لعليش (2/ 465) حيث قال: "سن لحر غير حاجٍّ بمنى ضحية لا تجحف".
(2)
يُنْظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 131) حيث قال: " (سنة) مؤكدة في حقنا على الكفاية ولو بمنى إن تعدد أهل البيت، وإلا فسنة عين".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 312) حيث قال: "وشرائطها:
(الإسلام والإقامة واليسار الذي يتعلَّق به) وجوب (صدقة الفطر) ".
(6)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 313) حيث قال: "والوجوب هو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعنه أنها سُنَّةٌ".
لعل ما نقله ابن رشد تبع فيه ابن عبد البر، يُنظر:"الاستذكار"(5/ 228) حيث قال: "وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليست الأضحية بواجبة، ولكنها سنة غير مرخص فيها لمَنْ وجد السبيل إليها".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 227) حيث قال: "فقال مالك: على الناس كلهم ضحية المسافر والمقيم إذا قدر عليها، ومَنْ تركها من غير عُذْرٍ، فبئس ما صنع".
ومَذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 21) حيث قال: "وهي (سنة مؤكدة لمسلم) تام الملك".
الضَّحِيَّةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ"
(1)
. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي أَحْكَامِ الضَّحَايَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ:"إِذَا دَخَلَ العَشْر، فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ"
(2)
. قَالُوا: فَقَوْلُهُ: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ"، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَلَمَّا أَمَرَ عليه الصلاة والسلام أَبَا بُرْدَةَ بِإِعَادَةِ أُضْحِيَّتِهِ إِذْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ
(3)
، فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ الوُجُوبَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ لَا وُجُوبَ. قَالَ عِكْرِمَةُ:
(4)
بَعَثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي بِهِمَا لَحْمًا، وَقَالَ: مَنْ لَقِيتَ، فَقُلْ لَهُ: هَذِهِ ضَحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ
(5)
أَنَّهُ ضَحَّى بِدِيكٍ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ بِوَارِدٍ فِي الغَرَضِ الَّذِي يُحْتَجُّ فِيهِ بِهِ، فَالاحْتِجَاجُ بِهِ ضَعِيفٌ.
(1)
أخرجه مسلم (1975).
(2)
أخرجه مسلم (1977) ولفظه: "إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعرًا، ولا يقلمن ظفرًا".
(3)
أخرجه البخاري (5556). ومسلم (1961) ولفظ البخاري: ضحى خالٌ لي يقال له: أبو بردة، قبل الصلاة، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"فاتك شاة لحم"، فقال: يا رسول اللّه، إن عندي داجنًا جذعة من المعز، قال:"اذبحها، ولن تصلح لغيرك"، ثم قال:"مَنْ ذبح قبل الصلاة فإنَّما يذبح لنفسه، ومَنْ ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسُكه، وأصاب سُنَّة المسلمين".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 230) حيث قَالَ: "قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري له بهما لحمًا، وقال: مَنْ لقيت فقل: هذه أضحية ابن عباس".
وقال: "ومعلوم أن ابن عباس إنما قصد بقوله: إن الضحية ليست بواجبة، وأن اللحم الذي ابتاعه بدرهمين أغناه عن الأضحى؛ إعلامًا منه بأن الضَّحيَّة غير وَاجِبَةٍ، ولا لَازمَةٍ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 230) حيث قال: "وهذا نحو فعل بلال فيما نقل
عنه أنه ضحى بديك"، قال بعدها: لو صح.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَلْزَمُ الَّذِي يُرِيدُ التَّضْحِيَةَ أَلَّا يَأْخُذَ مِنَ العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ
(1)
، وَالحَدِيثُ بِذَلِكَ ثَابِتُ)
(2)
.
(البَابُ الثانِي فِي أَنْوَاع الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا
وَفِي هَذَا البَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٌ، إِحْدَاهَا: فِي تَمْيِيزِ الجِنْسِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي تَمْيِيزِ الصِّفَاتِ. وَالثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ السِّنِّ. وَالرَّابِعَةُ: فِي العَدَدِ).
إنَّ هذا الكتاب يمتاز بترتيبه البليغ، فربما لو قرأت في الكتب المطولة وغيرها تدخل في المسائل، لكن هذا أعطانا تصورًا مجملًا عما سيتكلم عنه، والذي يشتمل عليه هذا الباب أربع مسائل وضع لها عناوين
(1)
ذهب الجمهور إلى أنه يُسْتحب لمن أراد أن يضحي ألا يزيل من شعره، ولا ظفره شيئًا، وخالف الحنابلة، فقالوا بالوجوب.
مذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (12/ 6344) حيث قال: "قال أصحابنا رحمهم الله: إذا دخل العشر؛ وأراد الإنسان أن يضحي أو عين أضحيته، لم يلزمه أن يجتنب حلق الشعر وقص الأظفار".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 474) حيث قال: " (و) ترك (قلم) لظفر (لمضح)، أي: مريد تضحية حيث يُثَاب عليها".
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 132) حيث قال: " (ويسن لمريدها) غير المحرم أي التضحية (ألا يزيل شعره، ولا ظفره)، أي: شيئًا من ذلك (في عشر ذي الحجة حتى يضحِّي) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 23) حيث قال: (ومَنْ أراد التضحية)، أي: ذبح الأضحية (فدخل العشر، حرم عليه وعلى مَنْ يضحِّي عنه أخذ شيءٍ من شعره وظفره وبشرته إلى الذبح، ولو بواحدةٍ لمن يُضحِّي بأكثر) ".
(2)
تقدَّم.
بمثابة قواعد فقهية، هي مدخل إلى كل مسألة من هذه المسائل.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الضَّحَايَا مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)
(1)
.
كما قال اللّه تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]، فلا خلاف بين العلماء في أن الأضحية تجوز في أيِّ صنفٍ من أصناف بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، لكن الخلاف بينهم فيما هو الأفضل كما سيأتي، فهل الأفضل: الإبل أم البقر أم الغنم؟ أو أن الأفضل من ذلك إنَّما هي الغنم، ثم بعد ذلك الإبل، ثم البقر، الخلاف هنا بين الإمام مَالِكٍ وبين الجمهور في هذه المسألة، وسيأتي كلام المؤلف رحمه الله، وسنذكر أدلة ذلك إضافةً إلى ما أشار إليه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
إِلَى أَنَّ الأَفْضَلَ فِي الضَّحَايَا الكِبَاش، ثُمَّ البَقَر، ثُمَّ الإِبِلُ).
"الكباش": جمع كبش، وهو فحل الضأن
(3)
، يُسمَّى كبشًا، وهو معروفٌ، وهناك الشاة، وهي الأنثى، فَمَالكٌ فضَّل الكبش؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتهر عنه أنه كان يضحي بالكبش
(4)
، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يضحي بالكبش لأنه أفضل؟ أم لأن لحمه أجود؟ أم أنه كان يضحي بالكبش؛ لأن قيمته أقل وهو أيسر بالنسبة للناس؟
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 301) حيث قال: "ويجزئ في الضحايا الجذع من الضأن، والثني من المعز، ومن سائر الأنعام بإجماع".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: " (و) ندب (ضأن مطلقًا)، فحله فخصيه فأنثاه (ثم) يليه (معز) كذلك (ثم هل) يليه (بقر) كذلك (وهو الأظهر) عند ابن رشد (أو إبل خلاف) ".
(3)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 338) حيث قال: "الكبش: واحد الكباش والأكبش. ابن سيده: الكبش فحل الضأن في أي سنٍّ كان. قال الليث: إذا أثنى الحمل فقد صار كبشًا، وقيل: إذا أربع. وكبش القوم: رئيسهم وسيدهم".
(4)
سيأتي.
نحن لا نشك بأن الإبل أكثر لحمًا، وأغلى ثمنًا، أما الكبش فإنك تجده ما فيه من اللحم والشحم والعظم، فهو قليل لا يساوي سُبُع بدنة، ولا سُبُع بقرة، فَوِجْهَة الإمام مالك في ذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وهو لا يختار إلَّا ما هو الأفضل، إذ إنه صلى الله عليه وسلم: "ضحَّى بكبشين أملحين
(1)
أقرنين"
(2)
، وضحى صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى صلاة العيد بكبش وقال:"اللَّهمَّ هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي"
(3)
.
إذًا، هذَا هو الذي ضحَّى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المشهور عنه.
ويَقُول المالكية: نحن نجد أن اللّه صلى الله عليه وسلم عندما اختار لإسماعيل أو لإسحاق أيهما الذبيح
(4)
، اختار له كبشًا، فقال تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]، وهذا الذبح إنما هو كبش، فاللّه سبحانه وتعالى لا يختار لنبيه فداءً إلا ما هو أفضل، وكونه اختار كبشًا دليل على أفضليته.
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 602) حيث قال: "قال الكسائي وأبو زيد وغيرُهُما: الأملح الذي فيه بياض وسواد، ويكون البياض أكثر، وقد أملح الكبش إملحاحًا: صار أملح".
(2)
أخرجه البخاري (5564) ومسلم (1966).
(3)
أخرجه أبو داود (2810)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(4/ 349).
(4)
واختلفوا في الذبيح على قولين:
أحدهما: أنه إسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم بن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير. وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام. وقيل: طويت له الأرض حتى حمَله إلى المنحر بمنى في ساعة.
والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد اللّه بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط. انظر:"زاد المسير"، لابن الجوزي (3/ 547).
وَأمَّا جمهور العلماء: أبو حنيفة
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
، يقولون: إن الأفضلَ هي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ودليل ذلك أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أورد ذَلكَ في مَوْضع أعلى مما يكون من الثناء ورفع الدرجات عندما تحدث عن فضيلة السعيً مبكرًا يوم الجمعة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"من راح في الساعة الأُولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، ثم تطوى الصحف"
(4)
.
فرتب وقدم: الإبل (بدنة) ثم البقرة ثم الكبش، فجعله في الدرجة الثالثة، هناك من يعلل فيقول: لأنه تقريب للبدنة كاملة، وهذا يختلف عن تقريب الكبش، وهكذا، لكن هذا من أدلة الجمهور، ومالك وافق الجمهور بالنسبة للهدايا ليرى أن الهديَ الأفضلُ فيه البدنة ثم البقرة ثم الكبش؛ لكنه وقف عند ظاهر النص:"مَنْ راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة"، أي: أهدى، فهذا هو تعليل المالكية في هذه المسألة.
قوله: (بِعَكْسِ الأَمْرِ عِنْدَهُ فِي الهَدَايَا
(5)
. وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: الإِبِل،
(1)
مذهب الحنفية، انظر: حاشية ابن عابدين "رد المحتار"(2/ 532)، وفيه قال:" (قوله: وذبح)، أي: شاة أو بدنة أو سبعها، ولَا بدَّ من إرَادة الكل للقربة وإن اختلفت جهتها، حتى لو أراد أحدهم اللحم لم يجز كما سيأتي في الأضحية؛ والجزور أفضل من البقر، والبقر أفضل من الشاة، كذا في الخانية وغيرها. نهر. زاد في "البحر": والاشتراك في البقر أفضل من الشاة. اهـ.". وانظر النص على هذا التفضيل في الأضاحي في "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (7/ 326).
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 133) حيث قال: " (وأفضلها) عند الانفراد (بعير) لكثرة اللحم (ثم بقرة)؛ لأنها كسبع شياه (ثم ضأن) لطيبه (ثم معز) ".
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 530) حيث قال: " (والأفضل فيهما)، أي: في الهدي والأضحية (إبل، ثم بقر إن أخرج كاملًا، ثم غنم) ".
(4)
أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850).
(5)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 421) حيث قال: "قال مالك: الإبل في الهدايا أفضل ما تقرب به".
ثُمَّ البَقَر، ثُمَّ الكِبَاشُ)
(1)
.
وهذا الذي قيل عنه هو القول الضعيف، والرواية المرجوحة، وهذه تلتقي مع مذهب الجمهور، وهي أقوى.
قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ)
(2)
.
وأبو حنيفة
(3)
، وأحمد
(4)
.
قوله: (إِلَى عَكْسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا: الإِبِل، ثُمَّ البَقَر، ثُمَّ الكِبَاش، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ
(5)
، وَابْنُ شَعْبَان
(6)
).
وهما من المالكية.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِدَلِيلِ الفِعْلِ).
يريد بالقياس هنا على الهدايا، أي: أن نقيسَ الضحايا على الهدايا،
(1)
لَمْ أَجِدْ ذلك، بل نقل عدم الخلاف، يُنظر:"البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (3/ 346) حيث قال: "لا اختلاف في المذهب أن الغنم في الضحايا أفضل من الإبل والبقر بخلاف الهدايا".
والذي جاء فيه قولان، هو أفضلية البقر على الإبل أو العكس، لكن تقديم الضأن في الأضاحي ليس فيه خلاف. انظر:"التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (3/ 263)، وفيه قال:"والأفضل الضأن ثم المعز، وفي أفضلية الإبل على البقر أو العكس قولان".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (3/ 347) حيث قال: "وقال أشهب في "ديوانه": الضحية بالغنم أحب إليَّ بالأمصار، وبالإبل والبقر أحب إليَّ بمنى، ولا ضحية على الحاج بمنى".
(6)
ابن شعبان يرى أفضلية الغنم، لكنه يقدم الإبل على البقر، يُنظر:"البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (3/ 346) حيث قال: "وقال ابن شعبان: بعد إناث المعز ذكور الإبل، ثم إناثها ثم ذكور البقر ثم إناثها".
فإن أخذنا بالقياس قدمنا، والجمهور لا يقولون بالقياس، وإنما يقولون: هذا نص وردت فيه رفع الدرجات، وقدمت فيه الإبل، فينبغي أن نجعلها الأُولى.
قوله: (وَذَلِكَ "أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ ضَحَّى إِلَّا بِكَبْشٍ"
(1)
، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الكِبَاشَ فِي الضَّحَايَا أَفْضَلُ).
هذا يعتبر وهمًا من المؤلف عفا اللّه عنه؛ لأنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ضحى، هذا أيضًا من الأخطاء التي يقع فيها الكثير، فقد ثَبتَ في "الصَّحيحَين" أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضحَّى عن نسائه بالبقر
(2)
، وهذا في البخاري ومسلم، وليس كما يقول المؤلف:"لم يثبت عنه". بل ثبت عنه.
والأمر الآخر أيضًا أنه جاء في "سنن البيهقي" أن الرسول صلى الله عليه وسلم: "كان يضحي بالجزور، فإن لم يجد فإنه يضحي بالكبش"
(3)
، فهذا دليل على أنه ضحى بالإبل.
إذًا، قول المؤلف ليس سليمًا فيما ذكره، وقد يعلل بأن مراده أنه لم يضحِّ لنفسه، ولكن الحال لا تختلف ما دام ضَحَّى لنسائه، فنساؤه صلى الله عليه وسلم هو الراعي والقيِّم عليهن، فما دَام ضحى لهن بالبقر، فذلك دليل على أنه ضحى بها، ولكن الظاهر والمشهور أن الأقلَّ ثمنًا إنما هو الكبش، ولذلك
(1)
لعله كان يقصد أن ذلك الأكثر، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 9) حيث قال: "وأكثر ما ضحى بالكباش صلى الله عليه وسلم ".
(2)
أخرجه البخاري (5548)، واللفظ له، ومسلم (1211)، عن عائشة، قالت:"فلما كنا بمنى، أتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضاحى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر".
(3)
"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 456)، ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 12) ثم قال:"فلو كان ثابتًا، لكان نصًّا في موضع النزاع، لكن في سنده عبد اللّه بن نافع، وفيه مقال".
نجد أن أقرب شيءٍ إلى الإنسان عندما يذهب إلى الحج هو الكباش، فَهُوَ يُوَازن بينَ ما يذبح من الغنم والبقر والإبل، فنجد فرقًا كبيرًا.
قوله: (وَذَلِكَ فِيمَا ذَكرَ بَعْضُ النَّاسِ. وَفِي البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ:"كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالمُصَلَّى"
(1)
).
أورد المؤلف حديثًا، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر بالمصلى وذبح، والنحر للإبل، والذبح إنما يكون للغنم، فهذا نصٌّ آخر في المسألة.
قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ: فَلِأَنَّ الضَّحَايَا قُرْبَة بِحَيَوَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الأَفْضَلُ فِيهَا الأَفْضَلَ فِي الهَدَايَا).
هذا تعليلٌ لمَذْهب الجمهور، فالمؤلف كأنه يميل إلى مذهب جمهور العلماء.
قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِمَذْهَبِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كبْشًا". الحَدِيثَ
(2)
، فَكَانَ الوَاجِبُ حَمْلَ هَذَا عَلَى جَمِيعِ القُرَبِ بِالحَيَوَانِ).
هذا الحَديث علَّق عليه العلماء، وتكلَّمنا عن هذا الأمر في باب الجمعة: "مَنْ رَاح في السَّاعة الأُولى
…
"، وجاء في الحديث الآخر: "لو أنَّكمْ تتوكَّلون على اللّه حقَّ توكُّله، لرَزَقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا"
(3)
، وأن الغدوَّ إنما يكون في الصباح، والرَّواح إنَّما
(1)
أخرجه البخاري (5552).
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه الترمذي (2344)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن الترمذي"(5/ 344).
يكون في المساء، أي: بعد الظهيرة، وهنا عبَّر عن الغدوِّ بالرواح، وهذا جَائزٌ في لغة العرب
(1)
، وهو معروفٌ، وَلَه شواهد، وقد تكلمنا عنها تفصيلًا فيما مضى، وذكرت ذلك خشية أن يُشْكل على البعض.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ، فَحَمَلَهُ عَلَى الهَدَايَا فَقَطْ).
أي: حمل مالكٌ التفضيلَ على الهدايا، أما الأضحية فيرى أن الكباشَ أفضل.
قوله: (لِئَلَّا يُعَارِضَ الفِعْلُ القَوْلَ، وَهُوَ الأَوْلَى).
أي: حَمَل مالكٌ ذلك على الهدايا جمعًا بين الأدلة حتى لا يحصل تعارضٌ بين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قوله، فالفعل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند المالكية لم يذبح إلا كبشًا، لكننا قلنا: إنَّ الصحيح هو على خلاف ذلك، وقَدْ أَوْرَدنا حَديثًا في "الصحيحين"، وحديثًا في "سنن البيهقي"، فَتَبيَّن تقرير ذلك، وأنَّ قَصْرَ ذلك على الكباش ليس مسلَّمًا، وبذلك يضعف الاحتجاج لهذا الفريق، ويبقى مذهب جمهور العلماء في نظري أنه الأقوى، وهو الأولى، وبذلك يحصل اتحاد بين الهدايا وبين الضحايا، ولا ينبغي أن يفرق بينهما في تشابههما وتداخلهما في كثيرٍ من الأحكام، حتى أنه لم يرد نصّ بالنسبة للهدايا - فيما أعلم - بكيفية توزيعها، ولكن العلماء ألحقوها بالضحايا، فيأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، فجعلوها ملحقةً بهذه.
أقول: لا تعارضَ بين القول والفعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم ذبح مرةً كباشًا، وَحَصل أنه صلى الله عليه وسلم ضحَّى بالبقر وبالجزور، وبذلك لا يوجد تعارضٌ، وكون الكباش أكثر؛ لأنها متوفرة، ومتداولة بين الناس، وثمنها أقل.
(1)
يُنظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 368) حيث قال: "والرواح: نقيض الصباح، وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل".
قوله: (وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لاخْتِلَافِهِمْ سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ: هَلِ الذِّبْحُ العَظِيمُ الَّذِي فَدَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ سُنَّةٌ بَاقِيَةٌ إِلَى اليَوْمِ، وَأَنَّهَا الأُضْحِيَّةُ).
هي سُنَّةٌ باقيةٌ، لَكن لا يلزم أن يكون كونه فداه بكبش أن هذا هو السُّنة التي ينبغي له، إنما نحن نأخذ هذا من قول وفعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (118)} [الصافات: 118]، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا، قَالَ: الكِبَاشُ أَفْضَلُ
(1)
، وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَتْ سُنَّةً بَاقِيَةً، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الكِبَاشَ أَفْضَل، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِالأَمْرَيْنِ جَمِيعًا"
(2)
).
بَلْ إنه ورد في حديثٍ صحيحٍ أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدل البدنة بعشرٍ من الشِّياه
(3)
، ولكن هذا ليس في الأضحية، وإنَّما في القسمة، أي: اعتبر لحم الجمل مساويًا للحم عشرٍ من الكباش، وهذا أمر معروف؛ لأن الإبل - كما هو معلوم - تحتوي على لحم كثير، ثم يليها البقر.
قوله: (وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالوَاجِبُ المَصِيرُ إِلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الضَّحِيَّةُ بِغَيْرِ بَهِيمَةِ الأَنْعَام)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 9) حيث قال: "واحتج بَعْضهم في ذلك بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} ".
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه الترمذي (1600)، عن رافع بن خديج، قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فتقدم سرعان الناس، فتعجلوا من الغنائم، فاطبخوا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أُخرى الناس، فمَرَّ بالقُدُور فأمر بها، فأُكْفئت، ثم قسم بينهم، فعدل بعيرًا بعشر شِيَاهٍ. وصححه الأَلْبَانيّ في "صحيح سنن الترمذي"(1600).
(4)
تقدَّم.
ومعه أبو حنيفة
(1)
، وأحمد
(2)
؛ لأن الخلاف شاذ، واللّه تعالى يقول:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]، وبهيمة الأنعام إنما هي الإبل والبقر والغنم، فهذا نص
(3)
، ولأنه لم يضحِّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا ببهيمة الأنعام، فاقتصر الحكم على ذلك، ولكن هل يضحَّى بالبقر الوحشي أم لا؟
جمهور العلماء على أن ذلك لا يجوز
(4)
، وهناك قولٌ نسب إلى الحنفية
(5)
أنهم يجيزون أن يضحَّى بها إذا كان أحد الأبوين غير متوحش.
قوله: (إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ
(6)
أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِبَقَرَةِ الوَحْشِ عَنْ سبْعَةٍ، وَالظَّبْيِ عَنْ وَاحِدٍ).
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
سُمِّيت البهيمة بذلك؛ لأنها لا تتكلَّم، والأنعام: الإبل والبقر والغنم. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"(ص 157).
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (12/ 45) حيث قال: " (والأضحية من الإبل والبقر والغنم)، قال القدوري: الأضحية من هؤلاء الثلاثة لا غير".
ومَذْهب المالكيَّة، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال فيما لا تجوز التضحية به: " (وذي أم وحشية)، وأبوها من الإنسي بأن ضربت فحول الإنسي في إناث الوحشي اتفاقًا، وكذا عكسه على الأصح".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 132) حيث قال: " (ولا تصح)، أي: التضحية (إلا من إبل وبقر) عراب أو جواميس (وغنم) ضأن أو معز".
ومَذْهب الحَنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 530) حيث قال: " (ولا يجزئ في الأضحية الوحشي)، إذ لا يحصل المقصود به مع الورود (ولا) يجزئ أيضًا في الأضحية من (أحد أبويه وحشي) تغليبًا لجانب المنع".
(5)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (12/ 48) حيث قال في التضحية بالمولود بين الأهلي والوحشي: "والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم؛ لأنها هي الأصل في التبعية".
(6)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (12/ 45) حيث قال: "وحُكِيَ عن الحسن بن صالح أن بقرة الوحشي تجزئ عن سَبْعةٍ، والظبي عن وَاحِدٍ".
لكن لا دليل على ذلك، فينبغي أن نقف عند مورد النص.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى اجْتِنَابِ العَرْجَاءِ البَيِّنِ عَرَجُهَا فِي الضَّحَايَا)
(1)
.
وَرَد في حديث البَرَاء بن عازب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "أربعةٌ لا تَجُوز في الأضاحي: المريضة البيِّن مرضها، والعوراء البيِّن عورها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والكبيرة أو الهزيلة أو العجفاء التي لا مخَّ فيها"
(2)
.
قوله: (وَالمَرِيضَةِ البَيِّنِ مَرَضُهَا).
وَالمَريضة البَيِّن مرضها، أي: مرضها واضح، ومؤثر فيها.
قوله: (وَالعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تُنْقِي
(3)
).
هَذَا الحديثُ ورَد بأخبارٍ عديدةٍ، منها: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ لا تجوز من الأضاحي
…
"، ثمَّ عدَّها كما ذكر المؤلف.
قوله: (مَصِيرًا لِحَدِيثِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئلَ: مَاذَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: "أَرْبَعٌ"، وَكَانَ البَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَبَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
ذَكَر يدَه على يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من باب التقدير، وتقدير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو الاحترام وتنزيله المنزلة اللائقة، وألا يتجاوز في حقه كونه بشرًا وعبدًا للّه سبحانه وتعالى، فهو أفضَل الخَلْق، وأفضل الأنبياء والمرسلين، واللّه سبحانه وتعالى خصَّه بالخصائص التي نزلت على غيره.
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 153) حيث قال: "واتفقوا أن العوراء البين عورها، والعمياء البينة العمى، والعرجاء البينة العرج التي لا تدرك السرح، والمريضة البينة المرض، والعجفاء التي لا مخ لها أنها لا تجزئ في الأضاحي".
(2)
أخرجه أبو داود (2802)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(4/ 361).
(3)
يُنظر: "حلية الفقهاء" للقزويني (ص 203) حيث قال: "وأما قولنا: العجفاء التي لا تنقي، فهي التي لا نقي فيها، والنقي: المخ".
قوله: (العَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالعَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي)
(1)
.
قوله: (العَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا)، وَصَفها الرَّسول صلى الله عليه وسلم وقيَّدها بالبَيِّن عَرجها، والعَرْجاء الذي ظهر فيها العيب واضحًا بحيث إنها لا تستطيع أن تُسَاير غيرها، ولا أن تسبق تلك الغنمَ إلى المرعى لتأكل ما في ذلك المرعى، وهذا يظهر على نُموِّ جسمها، فيكون جسمها ضعيفًا، أما إذا كان العرج بسيطًا يسيرًا لا يؤثر عليها، بمعنى أنها تساير الغنم، وتمشي معه، ولا تتخلف عنه؛ فهذا لا يؤثر؛ لأنها ستدرك بقية الغنم، وترعى معها، وستأخذ نصيبَها من ذلك المرعى .. هذا هو المقصود.
قوله: (وَالعَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا).
وَهي الَّتي قد انخسفت عينها، بمعنى أنها زالت، وليس معناها أن تكون عليها سحاب؛ لأن ذلك لا يؤثر، فالمقصود من (البين عورها): التي فقدتها؛ لأن العين هي مقصودة، وهي هدف من الأهداف.
قوله: (وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا).
أيُّ مَخْلوقٍ في هذة الحياة مما يتمتع بالحياة حتى الممات يأتي إليه المرض، فيكون أحيانًا فيه أوجه من الصفرة، ويصاب بأي مرض، ولكن بعد ذلك يطيب، كذلك الحيوان؛ فالحيوانات قد تكون في غاية قوتها ونشاطها، ويعتريها مرضٌ من الأمراض، لكنها لا تطيب، فإذا كان هذا المرض يؤثر فيها، فَكَما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"المريضة البيِّن مرضها"، أي: الذي ظهر عليها، فهذه مريضة ترى آثار المرض عليها؛ في جسمها، في هزالها، في أي أمرٍ من الأُمور التي تظهر على هذا الحيوان الضعيف، إذًا هذا المرض ظهر عليها، وأثَّر فيها، فهذا هو المقصود بالبين مرضها.
(1)
تقدَّم.
قوله: (وَالعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي).
العجفاء بمعنى الهزيلة، "لا تُنْقي" أي: ضعف مخها
(1)
؛ لأنها هزيلة جدًّا، ليس لديها القوة التي تدفعها أن تُسَايرَ غيرها من الحيوانات، فإذا ذَبَحها الإنسان، وجدَ اللحم قليلًا، وما يظهر فيها من العظام إنما هي عظام متجمعة، قال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "
…
إنَّ اللَّهَ طَيبٌ لا يَقْبل إلا طَيبًا"
(2)
.
إذًا، على المسلم أن يختار الشاة أو الكبش السمين، فإنه سيخرجه للّه سبحانه وتعالى.
قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كانَ مِنْ هَذِهِ الأَرْبَعِ خَفِيفًا، فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الإِجْزَاءِ)
(3)
.
وقد نبَّهنا على اليسير من ذَلك، فلا تأثيرَ له.
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه مسلم (1015).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 323) حيث قال: "قال القهستاني: واعلم أن الكل لا يخلو عن عيب، والمستحب أن يكون سليمًا عن العيوب الظاهرة، فما جوَّز ههنا جوَّز مع الكراهة".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: " (كبين مرض)، أي: مرض بَيِّن فلا تجزئ، وهو ما لا تتصرف معه تصرف السليمة بخلاف الخفيف (و) بين (جرب وبشم)، أي: تخمة بخلاف خفيفهما".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال بعد ذكر العيوب: " (ولا يضر يسيرها)، أي: يسير الأربعة لعدم تأثيره في اللحم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 466) حيث قال:، "فإن كان على عينها بياض، ولم يذهب أجزأت؛ لأن عورها ليس ببَيِّن، ولا ينقص به لحمها".
قوله. (وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِيمَا كَانَ مِنَ العُيُوبِ أَشَدَّ مِنْ هَذهِ المَنْصُوصِ عَلَيْهَا).
المؤلف يعلمنا بمفهوم الموافقة
(1)
، وهو مفهومٌ مساوٍ، وقد يكون مفهومًا أعلى وأولى، وقد يكون مفهومًا أدنى، فاللّه سبحانه وتعالى قال:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، فاللّه سبحانه وتعالى ينهى الابن أن يتجبر على والديه، فكيف بمَنْ يرفع صوته عليهما، ويَتَجاوز إلى أن يسبَّ أحدهما؟! لا شكَّ أنَّ ذلك أخطَر وأشنَع وأكبر وأعلى ظلمةً.
إذًا، هذا مفهوم أولى، وقد يكون مفهومًا مساويًا، فالمؤلف ذكر لنا حديثًا أولى، فهل نقتصر على النص ولا نتجاوزه إلى غيره؟ فمثلًا ورد:"العرجاء البين عرجها"، أي: مكسورة إحدى رجليها أو إحدى يديها، أليس الكسر أشد من العرج؟! ألَيْست العمياء أشد من العوراء؟! بلى كذلك، وقَدْ يكون هناك عيبٌ من العيوب مساويًا.
قوله: (مِثْلَ العَمَى وَكَسْرِ السَّاقِ)، وَالثَّانِي: فِيمَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي إِفَادَةِ النَّقْصِ وَشَيْنِهَا).
يقول المؤلف: لدينا نصٌّ، فهل يقتصر، على مورد النص ولا يتجاوز به إلى غيره؟ أو أننا نتجاوزه إلى ما هو أشد ضررًا من هذا؟ وهل ننقل الحكم إلى ما كان مساويًا؟
(1)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (5/ 126) حيث قال: "وهذا المفهوم تارةً يكون أولى بالحكم من المنطوق، إما في الأكثر كدلالة تحريم التأفيف من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم الضرب، وسائر أنواع الأذى، فإن الضرب أكثر أذى من التأفيف، وإما في الأقل كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، مفهومه أن أمانته تحصل في الدرهم بطريق الأَوْلَى. وتارةً يكون مساويًا، كدلالة جواز المباشرة من قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة: 187] على جواز أن يصبح الرجل صائمًا جنبًا؛ لأنه لو لم يجز ذلك، لم يجز للصائم مده المباشرة إلى الطلوع، بل وجب قطعها مقدار ما يسع فيه الغسل قبل طلوع الفجر".
قوله: (أَعْنِي مَا كانَ مِنَ العُيُوبِ فِي الأُذُنِ وَالعَيْنِ وَالذَّنَبِ وَالضِّرْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْضَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسِيرًا، فَأَمَّا المَوْضِعُ الأَوَّلُ: فَإنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ مَا كانَ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ العُيُوبِ المَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تَمْنَعَ الإِجْزَاءَ
(1)
، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَمْنَعُ الإِجْزَاءَ)
(2)
.
يُقْصد بالجمهور هنا الأئمة الأربعة وأتباعهم.
وأهل الظاهر يقولون بظواهر النصوص، ولذلك سموا بأهل الظاهر، ويقولون: هذا نصّ ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والرَّسول صلى الله عليه وسلم يُبيِّن، يقول اللّه سبحانه وتعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فَالرَّسولُ صلى الله عليه وسلم مطالب بالبيان، ولا يجوز له أن يخفي البيان عن وقت
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (9/ 514) حيث قال: " (ولا يضحي بالعمياء والعوراء والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك، ولا العجفاء) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 468) حيث قال: " (وفائت)، أي: ذاهب وناقص (جزء) فالمعنى: لا يجزئ فائت جُزء كيدٍ أو رِجْلٍ بقطع أو خلقة كان الجزء أصليًّا أو زائدًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 135) حيث قال: " (و) ذات (عور) وعلم منه امتناع العمياء بالأَوْلَى".
وَمَذْهب الحَنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 5) حيث قال: " (ولا تجزئ) فيهما (عمياء وإن لم يكن عماها بيِّنًا) كقائمة العينين مع ذهاب إبصارهما؛ لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقتها، ويمنع مشاركتها في العلف؛ ولأن في النهي عن العوراء تنبيهًا على النهي عن العمياء"، وقال:"ولا تجزئ كسيرة".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 10) حيث قال: "ولا تجزي في الأضحية العرجاء البين عرجها، بلغت المنسك أو لم تبلغ، مشت أو لم تمشِ، ولا المريضة البين مرضها - والجرب مرض - فإن كان كل ما ذكرنا لا يبين، أجزأ، ولا تجزي العجفاء التي لا تنقي، ولا تجزي التي في أذنها شيءٌ من النقص أو القطع، أو الثقب النافذ، ولا التي في عينها شيءٌ من العيب، أو في عينيها كذلك، ولا البتراء في ذنبها، ثم كل عيب سوى ما ذكرنا، فإنها تجزي به الأضحية".
الحاجة
(1)
، وَقَد اقتصر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع الذي يُبيِّن فيه للناس الحكمَ على الأُمور الأربعة، فلماذا نأتي بأمورٍ لم يذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فينبغي أن نقفَ على النصِّ، ولا نتجاوزه.
ولَكن بقيَّة العلماء خالفوهم في هذا العمل، فهناك عيوبٌ تُعرف عند الأُصُوليِّين بالعام، والعامُّ أقسامٌ، فَهُنَاك عامٌّ ورد عليه الخصوص، وعامٌ باقٍ على عمومه، وعام مخصوص، وعام مطلق
(2)
.
إذًا، العامُّ أحيانًا يُرَاد به العموم، وأحيانًا يراد به الخصوص، وأحيانًا يأتي مطلقًا، ونحن نعرف العام الذي يُرَاد به العموم، كمَا في قَوْل اللّه سبحانه وتعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، فهذا حكمٌ عامٌّ.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وهذه أيضًا قضية عامة، فهذه سنن إلهية لا تتغير ولا تتبدل، فَاللَّهُ يحيط بكلِّ شَيءٍ، عالم بكل شَيءٍ، فما من دابَّة على الأرض إلا على اللّه رزقها، حتى الوحوش في البحور يأتيها رزقها؛ ولكن نتوكَّل على اللّه، ولا نجلس في أماكننا، ونقول: سيأتينا الرزق، فلنتوكل على اللّه حق توكله كما جاء في الحديث الصحيح:"لو أنكم كنتم توكَّلون على اللّه حق توكله، لَرَزقكم كما يرزق الطير، ألا ترون أنها تغدو خماصًا، وتروح بطانًا"، هذه نِعْمَةٌ منَ اللّه سبحانه وتعالى.
(1)
يُنظر: "المستصفى" للغزالى (ص 192) حيث قال: "لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب مَنْ يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة، فجائز عند أهل الحق خلافًا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر".
(2)
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 224) حيث قال: "واعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقًا؛ كقولك: زيد، وهذا الرجل، وإما عام مطلقًا كالمذكور والمعلوم، إذ لا يخرج منه موجود، ولا معدوم، وإما عام بالإضافة كلفظ: "المؤمنين"، فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالإضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين".
إذًا، كل دابة في الأرض رزقها على اللّه سبحانه وتعالى، وأحيانًا يرد لفظ عامٌّ ولكن يُرَاد به الخُصُوص، كقَوْل اللّه سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، إذن قيده اللّه سبحانه وتعالى بالاستطاعة، بل هناك أُمور أُخرى أضافها العلماء لمَنْ يجب عليه الحج، وهو أن يكون عاقلًا بالغًا، أما غير هذا فلا يجب عليه الحج.
إذن، قد يأتى النص عامًّا، ولكن قَدْ ترد قرينةٌ فتُخصِّصه، وقد يأتي النص مطلقًا لا توجد معه قرينة تدلُّ على أن المرادَ منه العموم، أو المراد منه الخصوص، فيَبْقى على النص مطلقًا، كقَول اللّه سبحانه وتعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228]، فهذه الظاهرة عامة على المطلقات، لكن جاء بعد ذلك المتوفَّى عنها زوجها، فعدتها تنتهي بوضع الحمل، قال تعالى:{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
كذلك أيضًا الخاص الذي يُرَاد به الخُصُوص، وهو غير الخَاص المخصوص، فَالخاصُّ المخصوصُ أوسعُ وأشملُ من الخاصِّ الذي يُرَاد به الخصوص.
قَالَ: (وَلَا يُتَجَنَّبُ بِالجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ العُيُوبِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هَذَا اللَّفْظُ الوَارِدُ هُوَ خَاصٌّ أرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ
(1)
، أَوْ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ العُمُوم؟)
(2)
.
(1)
انظر: "الفصول في الأصول" للجصاص (1/ 136)، وفيه قال:"وقد يرد اللفظ الخاص، والمراد به الخصحوص؛ كقَوْله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وَنَظَائره".
(2)
انظر: "التقريب والإرشاد"(الصغير)، للقاضي الباقلاني (3/ 13)، وفيه قال:"خاص أريد به العام، فالمعنى فيه أنه خاصٌّ من جهة لفظه، وحكم الوضع في اللسان، وعام من جهة قَصْد المتكلم به".
ومعنى هذا: أنه إذا كان خاصًّا، أريد به الخصوص، فإنه يقتصر على هذه العيوب الذي ذكرت، بخلاف مَنْ قال بأنه خاصٌّ أريد به العموم، فيشمل كل عَيْبٍ كان على شاكلة ما ذكر.
الخاص الذي أريد به الخصوص من الأصل جاء مرادًا منه الحصوص، والخاص المخصوص يختلف عنه؛ فهو العام الذي خصص له
(1)
.
قوله: (فَمَنْ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ الخُصُوص، وَلذَلِكَ أَخْبَرَ بِالعَدَدِ، قَالَ: لَا يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ إِلَّا هَذِهِ الأَرْبَعَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ العُمُومُ؛ وَذَلِكَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّنْبِيهُ بِالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى، قَالَ: مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ المَنْصُوص عَلَيْهَا، فَهوَ أَحْرَى أَلَّا يُجْزِئ).
أَيْ: قد ينبه النص على أمرٍ، ويترك فيه ما هو أعلى منه دخولًا أوليًّا.
قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّانِي: أَعنِي مَا كانَ مِنَ العُيُوبِ فِي سَائِر الأَعْضَاءِ مُفِيدًا لِلنَّقْصِ عَلَى نَحْوِ إِفَادَةِ هَذِهِ العُيُوبِ المَنْصوصِ عَلَيْهَا لَه، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَمْنَعُ الإِجْزَاءَ
(1)
يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 166) حيث قال: "فالعام المخصوص أعمُّ من العام الذي أريد به الخصوص، ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولًا ما دل عليه ظاهره من العموم، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ: كان عامًّا مخصوصًا، ولم يكن عامًّا أريد به الخصوص".
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 225) حيث قال: "فإن قيل: فما معنى قولهم:
خصص فلان عموم الآية، والخبر إن كان العام لا يقبل التخصيص؟ قلنا: تخصيص العام محال كما سبق، وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لإرادة العموم، والخصوص، فيقال على سبيل التوسُّع لمن عَرَف ذلك أنه خصص العموم، أي: عرف أنه أريد به الخصوص".
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 462) حيث قال: "واعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقًا، نحو: زيد، وهذا الرجل، وإما عام مطلق كالمذكور والمعلوم، إذ لا يخرج منه موجود، ولا معدوم. وإما عام بالإضافة كلفظ "المؤمنين"، فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين، خاص بالإضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين".
لم أجد مَنْ عَبَّر بنحو تعبير المؤلف (الخاص المخصوص).
كمَنْعِ المَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَهُوَ المَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الكُتُبِ المَشهُورَةِ)
(1)
.
القَوْل الأوَّل: أنها تمنع الإجزاء، إنما كان مساويًا لمورد النَّصِّ في العلة، أي: في وجود العيب، فإن ذلك لا يجوز أن يضحى به.
قوله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الإِجْزَاءَ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ اجْتِنَابُهَا، وَبِهِ قَالَ ابْن القَصَّار وَابْنُ الجَلَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ البَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(2)
.
هذا هو الرأي الأكثر، لكن ليس على إطلاقه أيضًا، فهناك أُمور مثل
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال فيما يمنع التضحية به: " (وبتراء)، وهي التي لا ذنب لها خلقة أو طروًّا (وبكماء) فاقدة الصوت (وبخراء) متغيرة رائحة الفم".
ومذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 323) حيث قال: " (ومقطوع أكثر الأذن أو الذنب"،" (والسكاء) التي لا أذن لها خلقة، فلو لها أذن صغيرة خلقة أجزأت. زيلعي. (والجذاء) مقطوعة رؤوس ضرعها أو يابستها، ولا الجدعاء: مقطوعة الأنف، ولا المصرمة أطباؤها: وهي التي عُولجَت حتى انقطع لبنها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 135) حيث قال: " (ومقطوعة بعض أذن) أبين وإن قل لذهاب جزءٍ مأكولٍ، وأفهم كلامه عدم إجزاء مقطوعة كلها بالأولى".
ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 5) حيث قال: " (ولا) تجزئ (عضباء) بالعين المهملة، والضاد المعجمة. (وهي التي ذهب أكثر أُذُنها) أو قرنها) ".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل" للمواق (4/ 368) حيث قال: "قال ابن القصار: هذه الأربعة لا تَمْنع الإجزاء، وإنما تمنع الاستحباب. ابن عرفة: مذهب الجلاب وابن القصار والبغداديين قصر منع الإجزاء على الأربعة المذكورة في حديث البراء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أربعة لا تجزئ في الأضاحي
…
"، فذكر العوراء والعرجاء والمريضة والعجفاء. ابن عرفة: والمشهور لحوق بين العيب بهذه الأربعة، وهذا الخلاف مبني على تقديم القياس على مفهوم العدد وعكسه".
العرجاء، والتي ذهب أكثر من نصف قرنها أو نصف أذنها، فالجمهور يرون أنها لا يضحى بها، لأنها وردت في نصِّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الإِجْزَاءَ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَجَنُّبُهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(1)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَان، أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ. وَالثَّانِي: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ).
الحديث المتقدم هو حديث البراء الذي ذكر فيه الأربعة عيوب.
قوله: (أَمَّا الحَدِيثُ المُتَقَدِّم، فَمَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ، أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ، قَالَ: لَا يَمْنَعُ مَا سِوَى الأَرْبَعِ مِمَّا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا).
مَنْ رآه من باب الخاصِّ، أريد به الخاص أي: ما يلحق ويشمل مورد النص ما يلحق به، تجاوز به، ومَنْ رآه من باب الخاصِّ الذي أريد به العامّ، قال: يتجاوز به ذلك العدد.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ - وَهُمُ الفُقَهَاءُ - فَمَنْ كانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالأدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَقَطْ؛ لَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالمُسَاوِي عَلَى المُسَاوِي، قَالَ: يَلْحَقُ بِهَذِهِ الأَرْبَعِ مَا كانَ أَشَدَّ مِنْهَا، وَلَا يَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ مُسَاوِبًا لهَا فِي مَنْعِ الإِجْزَاءِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الاسْتِحْبَابِ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي: عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ المَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَه، قَالَ: تَمْنَعُ العُيُوبُ الشَّبِيهَةُ بِالمَنْصُوصِ عَلَيْهَا الإِجْزَاءَ، كمَا يَمْنَعُهُ العُيُوبُ الَّتِي هِيَ أَكبَرُ مِنْهَا، فَهَذَا هُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ الخِلَافِ فِي هَذِهِ المَسْالَةِ، وَهُوَ مِنْ
(1)
تقدَّم ذكره.
قِبَلِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ المَعْنَى الخَاصُّ، أَوِ المَعْنَى العَامُّ).
هَلْ هذه الأُمور الأربع يريد بها الخصوص؟ أم يُرَاد بها العموم؟
فالجمهور يقول: أريد بها ما هو عام، وأهل الظاهر يقولون: هو خاص أريد به الخصوص.
قوله: (ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ العَامَّ؛ فَأَيُّ عَامِّ هُوَ؟ هَلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَوِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ وَالمُسَاوِي مَعًا عَلَى المَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ؟ وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي؟ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا البَابِ مِنَ الأَحَادِيثِ الحِسَانِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ).
هَذَا خطأٌ من المؤلف، فليس هو حديث أبي بردة، وإنما هو حديث البراء، والحديث رواه الخمسة
(1)
، وليس النسائي وحده.
قوله: (فَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْرَهُ النَّقْصَ يَكُونُ فِي القَرْن وَالأُذُن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا كرِهْتَهُ فَدَعْه، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى غَيْرِكَ").
كَمَا ورَد في حديث البَرَاء بن عَازب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "أربعة لا تجوز في الأضاحي: المريضة البيِّن مرضها، والعوراء البيِّن عورها، والعرجاء
(1)
أخرجه أبو داود (2802)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(4/ 361).
وأخرجه الترمذي (1497) دون لفظ: "قلت للبراء: إني أكره أن يكون في السِّنِّ نقص، أو في الأذن نقص، أو في القرن نقص، فقال: فما كرهت منه فدعه، ولا تحرِّمه على أحد"، وصححه الأَلْبَانيٌّ في "صحيح سنن الترمذي"(3/ 497).
وأَخْرَجه النسائي (4369)، وصَححه الأَلْبَاني في "صحيح سنن النسائي"(9/ 441).
وأخرجه ابن ماجه (3144)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن ابن ماجه"(7/ 144).
وأخرجه أحمد (18510)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(4/ 361).
البيِّن ضلعها، والكبيرة أو الهزيلة أو العجفاء التي لا مخ فيها"
(1)
.
قوله: ("وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
(2)
قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ وَالأُذُنَ، وَلَا يُضَحَّى بِشَرْقَاءَ).
"نَسْتَشرف العين"
(3)
، أي: نُدقِّق بِهِما لنعرف أنها خاليةٌ من العيب، ونقل عن الإمام الشافعيِّ
(4)
أنه فسر قوله: "أن نستشرف العين والأذن": أن تكون العين واسعةً، والأذن طويلة، بمعنى أنه ليس فيهما عيب، والقصد من ذلك التَّحرِّي عن عدَم وجود عَيْبٍ في العين والأذن.
قَالَ: (وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا بَتْرَاءَ. وَالشَّرْقَاءُ: المَشْقُوقَةُ الأُذُن. وَالخَرْقَاءُ: المَثْقُوبَةُ الأُذُن. وَالمُدَابَرَةُ: الَّتِي قُطِعَ مِنْ جَنَبَتَي أُذُنِهَا مِنْ خَلْفٍ").
"الشَّرْقاء"
(5)
: مشقوقة الأذن.
و"الخرقاء"
(6)
: هي ما ثقب أذنها.
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه أبو داود (2804)، قال الأَلْبَانيُّ في "الإرواء" بعد إيراده طرق الحديث: الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح (1149).
(3)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (9/ 171) حيث قال: "وفي حديث عليٍّ كرم الله وجهه: أمرنا في الأضاحي أن نستشرف العين والأذن؛ معناه أي: نتأمل سلامتهما من آفةٍ تكون بهما، وآفة العين عورها، وآفة الأذن قطعها".
(4)
يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (8/ 41) حيث قال: "قَوْله: "نستشرف العين والأذن" يعني: أي نضحي بواسع العينين، طويل الأذنين".
(5)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 177) حيث قال: "وأذن شرقاء: قُطعَتْ من أطرافها، ولم يبن منها شيءٌ. ومعزة شرقاء: انشقت أذناها طولًا ولم تبن. وقيل: الشرقاء: الشاة يشق باطن أذنها من جانب الأذن شقًّا بائنًا، ويترك وسط أذنها صحيحًا".
(6)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 75) حيث قال: "والخرقاء من الغنم التي يكون في أذنها خرق. وقيل: الخرقاء أن يكون في الأذن ثقب مستدير".
و"المدابرة"
(1)
: التي شقت أذنها من الخلف.
و"البتراء"
(2)
: هي التي قطع ذيلها، ويفسرونها تفسيرًا آخر وهي التي قطع ذيلها وهي حية، أما لو خُلقَت بغير ذلك؛ فيجوز التضحية بها، وهذه يعتبرونها من الأُمور المكروهة لا الممنوعة.
قوله: (فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: لَا يُتَّقَى إِلَّا العُيُوبُ الأَرْبَع، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ بِأَنْ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى اليَسِيرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الكَثِيرِ الَّذِي هُوَ بَيِّنٌ، أَلْحَقَ بِحُكْمِ المَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا، وَلذَلِكَ جَرَى أَصْحَابُ هَذَا المَذْهَبِ إِلَى التَّحْدِيدِ فِيمَا يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ مِمَّا يَذْهَبُ مِنْ هَذِهِ الأعْضَاءِ، فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ ذَهَابَ الثُّلُثِ مِنَ الأذُن وَالذَّنَبِ
(3)
، وَبَعْضُهُمُ اعْتَبَرَ الأكثَرَ
(4)
، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِي ذَهَابِ
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 272) حيث قال: "وأذن مدابرة: قطعت من خلفها وشقت".
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 37) حيث قال: "وفي حديث الضحايا: أنه نهى عن المبتورة، وهي التي قطع ذنبها".
(3)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 323) حيث قال: "واختلف أصحابنا في الفاصل بين القليل والكثير؟ فعن أبي حَنيفَة أربع روايات. روى محمد عنه في الأصل والجامع الصغير أن المانع ذَهَاب أكثر من الثلث، وعنه أنه الثلث، وعنه أنه الربع، وعنه أن يكون الذاهب أقل من الباقي أو مثله".
(4)
وَهُوَ مَذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: "وندب (جيد) بأَنْ يكون من أعلى النعم (وسالم من العيوب) التي تجزي معها كخفيف مرض، وكسر قرن برئ، ومنه ما أشار له بقوله: (وغير خرقاء)، وهي التي في أذنها خرق مستدير (و) غير (شرقاء) مشقوقة الأذن (و) غير (مقابلة)، وهي التي قطع من أذنها من قبل وجهها، وترك معلقًا (و) غير (مدابرة) قطع من أذنها من خلفها، وترك معلقًا".
الأَسْنَانِ
(1)
وبَتْرَاءُ
(2)
الثَّدْيِ).
لمَّا ورد نصٌّ، لم يقع خلافٌ بين العلماء في الأُمور الأربع، لكن لمَّا تجَاوز العلماء ما هو أشد، اختلفوا فيما هو أشد من هذه العيوب، وما هو دون ذلك اختلفوا فيه أكثر، ولهذا يتبيَّن أن هذه الخلافات الفقهية التي تعرض للفقهاء القصد منها الوصول إلى الحق.
قوله: (وَأَمَّا القَرْن، فَإِنَّ مَالِكًا
(3)
قَالَ: لَيْسَ ذَهَابُ جُزْءٍ مِنْهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَدْمِي، فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ المَرَضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ المَرَضَ البَيِّنَ يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: " (ومكسورة سن) إن زاد على الواحدة، وأما كسر واحدة، فلا يمنع الجزاء على الأصح، وأراد بالكسر ما يشمل القلع بدليل قوله: (لغير إثغار أو كبر)، وأما لهما فتجزئ، ولو لجميعها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال: "وتجزئ فاقدة بعض الأسنان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 6) حيث قال: " (ولا) تجزئ (هتماء وهي التي ذهبت ثناياها من أصلها) قال في "التلخيص": وهو قياس المذهب".
(2)
في نسخة التحقيق: وأطباء الثدي.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 119) حيث قال: " (وإن) كانت (جماء)، وهي ما لا قرن لها في نوع ماله قرن كالبقر (ومقعدة)، أي: عاجزة عن القيام (لشحم) كثر عليها (ومكسورة قرن) من أصله أو طرفه إن برئ (لا إن أدمى)، أيْ: لم يبرأ فلا تجزئ (كبين مرض)، أي: مرض بين فلا تجزئ، وهو ما لا تتصرف معه تصرف السليمة بخلاف الخفيف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال: " (ولا فقد قرن)، إذ لا يتعلَّق بالقرن كبير غرض وإن كانت القرناء أفضل، نعم إن أثر انكساره في اللحم ضر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 5) حيث قال: " (ولا) تجزئ (عضباء) بالعين المهملة والضاد المعجمة. (وهي التي ذهب أكثر أذنها) أو قرنها) ".
"يدمي"، أي: يخرج منه دمٌ، فيرى العلماء أنها إذا كانت مقطوعةً أكثر من نصف القرن أو أكثر من نصف الأذن، فإنه لا يُضحَّى بها.
قوله: (وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ أَعْضَبِ
(1)
الأُذُنِ وَالقَرْنِ"
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّكَّاءِ (وَهِيَ الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا أُذُنَيْنِ).
"الجَمَّاءُ"
(3)
: هي التي تُولَد ولا قرن لها، حيوان أجم: لا قرن له.
وَ"الصَّنعَاء"
(4)
: هي التي تُولَد صغيرة الأذنين، وهنا ذكر الصكَّاء
(5)
؛ لأن المُرَاد: التي خُلقَت بلا أذن أصلًا، أي: مغلقة، لكن المعروف عند الفقهاء والتي ينصون عليها أنها الجماء، وكذلك الصنعاء، أي: التى ولدت أذنها صغيرة، فهل هذا يؤثر أم لا؟
يَقُولُ العُلَماءُ
(6)
: التي تُولَد لا قرن لها، وأذنها صغيرة، فهذه يجوز التضحية بها؛ لأن هذه خلقة اللّه، ففرقٌ بين حيوان يولَد فيكسر قرنه أو يقص أذنه، وبين حيوان يولد بهذا الشكل صغير الأذن.
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 609) حيث قال: "ناقة عضباء: مشقوقة الأذن، وكذلك الشاة؛ وجمل أعضب: كذلك. والعضباء من آذان الخيل التي يجاوز القطع ربعها. وشاة عضباء: مكسورة القرن".
(2)
أخرجه أبو داود (2805)، قال الأَلْبَانيُّ في "الإرواء" (4/ 361): منكر.
(3)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 108) حيث قال: "والجماء: التي لا قرني لها".
(4)
لعلها صمعاء، يُنظر:"لسان العرب" لابن منظور (8/ 206) حيث قال: "صمعت أذنه صمعًا، وهي صمعاء: صغرت ولم تطرف وكان فيها اضطمار ولصوق بالرأس، وقيل: هو أن تلصق بالعذار من أصلها، وهي قصيرة غير مطرفة".
(5)
يُنظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (1/ 282) حيث قال: "والسكك مصدر من باب تعب وهو صغر الأذنين وأذن سكاء واستكت مسامعه بمعنى صمت"، أما الصكاء فهي التي يصطك عرقوباها، وبها صكك، وأصله من الصك الضرب". انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"(ص 270).
(6)
نص على ذلك المالكية، كما سبق.
كذلك ما لا قرن له، فالحال مختلف، ولكن إذا أردنا صفة الكمال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أي: لهما قرنان، وأَمْلَحان إما أبيضان، أو الغالب فيهما البياض.
كذلك العلماء نبَّهوا إلى أن يُخْصى الفحل، وهذا لا أثر له؛ لأنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين
(1)
، كذلك قال صلى الله عليه وسلم:"يَا معشرَ الشَّبَاب، مَن استطَاع منكم الباءة فليتزوَّج، ومَنْ لم يَسْتطع فَعَليه بالصوم، فإنَّه له وجاءٌ"
(2)
، أي: يكسر شهوته.
و"الوجاء"
(3)
: أنْ تُرَضَّ أُنْثَيا الفَحْل رَضًّا شَديدًا يُذْهِبُ شَهْوةَ الجِماع، وهذا يُسَاعد على نُموِّ هذا الحيوان وكبره، وزيادة لحمه، إذًا هذا ليس عيبًا فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم ضحى بذلك.
قَالَ: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
إِلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(6)
(1)
أخرجه أبو داود (2795)، وحسَّن إسنادَه الأرناؤؤط، وَضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف سنن أبي داود".
(2)
أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).
(3)
يُنظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (2/ 650) حيث قال: "ويطلق الوجاء أيضًا على رض عروق البيضتين حتى تنفضخا من غير إخراج، فيكون شبيهًا بالخصاء؛ لأنه يكسر الشهوة".
(4)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: " (وصمعاء) بالمد صغيرة الأذنين (جدًّا) كأنها خُلقَت بلا أذن".
(5)
ومذهب الشافعية، يُنظر:، "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 135) حيث قال:" (ومقطوعة بعض أذن) أبين وإنْ قل لذهاب جُزء مأكولٍ، وأفهم كلامه عدم إجزاء مقطوعة كلها بالأولى".
(6)
معتمد مذهب الحنفية أن السكاء لا تجزئ، وهي مقطوعة الأذن كلها خلقة، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 323) حيث قال: " (والسكاء) التي لا أذن لها خلقة، فلو لها أذن صغيرة خلقة أجزأت. زيلعي".
ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 5) حيث قال: " (ولا) تجزئ (عضباء) بالعين المهملة، والضاد المعجمة. (وهي التي ذهب أكثر أذنها) أو قرنها) "، أما إنْ كان خلقة فيجزئ. يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 6) حيث قال: "تجزئ الصمعاء، وهي الصغيرة الأذن، وما خلقت بلا أذن".
إِلَى أَنَّهُ إِذَا كانَ خِلْقَةً، جَازَ كالأَجَمِّ
(1)
، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الجُمْهُورُ أَنَّ قَطْعَ الأُذُنِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ عَيْبٌ، وَكلُّ هَذَا الاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاه، وَاخْتَلَفُوا فِي الأَبْتَرِ
…
).
"الأبتر"
(2)
: هي التي قطعت ليَّتها.
* قوله: (فَقَوْمٌ أَجَازُوهُ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَظَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اشْتَرَيْتُ كَبْشًا لِأُضَحِّيَ بِهِ، فَأَكَلَ الذِّئْبُ ذَنَبَه، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ضَحِّ بِهِ"
(3)
، وَجَابِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ المُحَدِّثِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ
(4)
، وَقَوْمٌ أَيْضًا مَنَعُوهُ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ المُتَقَدِّمِ
(5)
. وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَة، وَهِيَ مَعْرِفَةُ السِّنِّ المُشْتَرَطَةِ فِي الضَّحَايَا).
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 108) حيث قال: "الشاة الأجم: هو الذي لا قرنَ له".
(2)
يُنظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للخوارزمي (ص 34) حيث قال: "ومنه نُهِيَ عن المبتورة في الضحايا، وهي التي بتر ذنبها".
(3)
"السنن الكبرى" للبيهقي (19193)، ولفظه:"اشتريت شاةً لأُضحِّي بها، فَخَرجت، فأخذ الذئب أليتها، فَسَألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضَحِّ بها". قال ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 169): وقد روي في الأبتر حديث مرفوع ليس بالقوي، وفيه نظر.
(4)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 486) حيث قال: "وبمعناه رواه شعبة بن الحجاج، وشريك بن عبد الله، عن جابر الجعفي إلا أن جابرًا غير محتجٍّ به"، قال النسائي: جابر بن يزيد الجعفي كوفي متروك الحديث. وقال محمد بن بشار: ترك عبد الرحمن بن مهدي حديث جابر الجعفي. وقال يحيى بن معين: جابر الجعفي ليس بشيء، ولم يدع جابر ممن رآه إلا زائدة، وكان جابر كذابًا". انظر:"الكامل في ضعفاء الرجال"، لابن عدي (2/ 328).
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 323) حيث قال فيما يمنع التضحية به: "ومقطوع أكثر الأذن أو الذنب".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال فيما يمنع التضحية به: " (وبتراء)، وهي التي لا ذنب لها خلفة أو طروًّا".
وَمَذْهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاجِ" للرملي (8/ 135) حيث قال: "ولا يضر فَقْد ألية خلقة، إذ المعز لا أَلْية له ولا فقْد ضرع إذ الذكر لا ضرع له، ويفارق ما=
فَهَلْ هنَاك سنٌّ ينبغي الالتزام بها أم لا؟
قد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ضحَّى بالشاة وبالكبش
(1)
، وبالبقرة
(2)
، وكذلك بالبدنة، لكن هل هذا على إطلاقه أو لا بدَّ من تقييد ذلك بسنٍّ مُعيَّنةٍ، وهل هذه الحيوانات تختلف أم لا؟
* قوله: (فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الجَذَعُ مِنَ المَعَزِ، بَلِ الثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ)
(3)
.
وهذا قد اتَّضح في قصة حديث البراء لما ذكر أن خالًا له يُسمَّى أبا بردة ضحَّى قبل الصلاة.
* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَبِي بُرْدَةَ لَمَّا أَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ: "يُجْزِيكَ، وَلَا يُجْزِي جَذَعٌ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِكَ"
(4)
).
وَفِي بعض الرِّوايات أنه قال: "اذْبَحها، ولا تصلح لأَحَدٍ غيرك"
(5)
، فالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم خصَّه بها؛ لأن الرَّجل ذبح جاهلًا قبل الصلاة، فأخبر
= مر في فَقْد الأذن بأنها عضو لازم غالبًا، نعم لو قطع من الألية جُزء يسير لأجل كبرها، فالأَوْجَه الإجزاء".
وَمَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 6) حيث قال: " (و) تجزئ (الجماء، وهي التي خُلقَت بلا قرن والصمعاء، وهي الصغيرة الأذن، وما خلقت بلا أذن، والبَتْراء التي لا ذنب لها خلقة أو مقطوعًا)؛ لأن ذلك ألا يخل بالمقصود".
ويُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 407) حيث قال: "روينا عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسًا أن يضحي بالأبتر، وبه قال ابن المسيب ونبيل، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والنخعي، والحكم".
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 301) حيث قال: "ويجزئ في الضحايا الجذع من الضأن، والثني من المعز، ومن سائر الأنعام بإجماع".
(4)
تقدَّم.
(5)
أخرجه البخاري (5556).
الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عنده جذع من الماعز، ووصفه بصفات طيبة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"اذبحها"، أي: هَذه الجذعة "ولَا تَصحُّ لأَحَدٍ غيرك"، فبالنسبة للماعز لا يجوز إلا الثنيُّ.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، فَالجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ
(2)
: بَلِ الثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْخُصُوصِ).
جاءَت أحاديثُ صحيحةٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يُضحِّي بالجذع من الضأن، فلا ينبغي أن يختلف في هذا الحكم.
* قوله: (فَالخُصُوصُ هُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ"
(3)
.
وَفِي بعض الروايات: "إنْ عسرَ عليكم، فاذبحوا جذعةً من
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 321) حيث قال: " (وصح الجذع) ذو ستة أشهر (من الضأن) إن كان بحيث لو خلط بالثنايا لا يمكن التمييز من بعد. (و) صح (الثني) فصاعدًا من الثلاثة، والثني (هو ابن خمس من الإبل، وحولين من البقر والجاموس، وحول من الشاة) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 119) حيث قال: "وهي بجذع ضأن (وثني معز، و) ثني "بقر وإبل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 193) حيث قال: "ولا يجزئ من الضأن إلا الجذع أو الجذعة، ولا من الإبل والبقر والمعز إلا الثني أو الثنية".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 531) حيث قال: " (ولا يجزئ) في الأضحية، وكذا دم تمتع ونحوه (إلا الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر) ".
وقال: " (و) لا (يجزئ إلا الثني مما سواه)، أي: الضأن".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 250) حيث قال: "وكان ابن عمر يقول: لا يجزئ في الهدي إلا الثني من كل شيءٍ". وهو قول ابن حزم، سيأتي.
(3)
أخرجه مسلم (1963).
الضأن"
(1)
، إذن:"لَا تَذْبحوا إلا مسنَّة"، هذا هو الأفضل والأصح، "فإن عسر عليكم فاذبحوا
…
"، وجاء في رواياتٍ أُخرى النص على أنه يذبح الجذع دون هذا القيد الذي ورد في هذا الحديث: "لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم فاذبحوا جذعًا من الضأن".
* قوله: (خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
خَرَّجه مسلمٌ وغيره، إذ رواه الجماعة إلا البخاري، أي: أصحاب السنن
(2)
وأحمد
(3)
، وغير هؤلاء، لكن المؤلف اقتصر على مسلم؛ لأنه إذا وجد في "الصحيحين" أو في أحدهما، فهذا يكفي.
* قوله: (وَالعُمُومُ هُوَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ خَرَّجَهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَلَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"، فَمَنْ رَجَّحَ هَذَا العُمُومَ عَلَى الخُصُوصِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ
(4)
فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ).
لَكن هذَا بالنسبة لأبي بردة، وهذَا إنَّما هو في الماعز، ونصَّ على ذلك، وليس في الضأن.
ذَكَره أبو محمد بن حزم في كتابه "المحلى"، وَهُو إمام معروف من أئمة الظاهرية، وكتابه من الناحية العلمية كتاب قيم، لكنه في الحقيقة عليه مآخذُ كثيرةٌ، فلا يدرس فيه إلا إنسان متمكن من طلاب العلم، لأنه في الحقيقة - عفا الله عنا وعنه - عباراته أحيانًا يتناول فيها بعضَ العلماء،
(1)
لم أجد اللفظ.
(2)
أخرجه أبو داود (2797)، وأخرجه النسائي (4378)، وأخرجه ابن ماجه (3141)، وصحح رفعه ابن حجر في "الفتح"(10/ 15)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1145).
(3)
أخرجه أحمد (14348).
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 13) حيث قال: "ولا تجزي في الأضاحي جذعة ولا جذع أصلًا؛ لا من الضأن، ولا من غير الضأن".
وربما يجرحهم، فمثل هذ الأمر من الأُمور التي لا يَتقبَّلها أهلُ العلم وطلابُهُ.
* قوله: (لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ
(1)
، وَالمُدَلِّسُ عِنْدَهُمْ
(2)
مَنْ لَيْسَ يُجْرِي العَنْعَنَةَ مِنْ قَوْلِهِ مَجْرَى المُسْنَدِ؛ لِتَسَامُحِهِ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بِنَاءِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ عَلَى مَا هُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ جَذَعَ الضَّأْنِ المَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الحَدِيثَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَفُّور
(3)
، وَخَطَّأَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ حَزْمٍ فِيمَا نَسَبَ إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ فِي غَالِبِ ظَنِّي فِي قَوْلٍ لَهُ رَدَّ فِيهِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ).
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 20) حيث قال: "وأما نحن فلا نُصحِّحه؛ لأن أبا الزبير مدلس ما لم يقل في الخبر أنه سمعه من جابر، هو أقرَّ بذلك على نفسه، رُوِّينا ذلك عنه من طريق الليث بن سعد".
(2)
يُنظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 256) حيث قال: "تدليس الإسناد بأن يروي عمَّن عاصره ما لم يسمعه منه موهمًا سماعه، قائلًا: قال فلان، أو عن فلان ونحوه، وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره ضعيفًا أو صغيرًا؛ تحسينًا للحديث".
وانظر في عنعنة المدلس: "نزهة النظر" لابن حجر (ص 221) حيث قال: "ويرد المدلس بصيغةٍ من صيغ الأداء تحتمل وقوع اللقي بين المدلس ومن أسند عنه، ك "عن"، وكذا "قال"، ومتى وقع بصيغة صريحة لا تجوز فيها، كان كذبًا، وحكم مَنْ ثبت عنه التدليس إذا كان عدلًا: ألا يقبل منه إلَّا ما صرح فيه بالتحديث على الأصح".
(3)
لعله مُصحَّفٌ، وصوابه: أبو بكر بن مفوز، وهو من شيوخ القاضي عياض. انظر:"الغنية في شيوخ القاضي عياض"(ص 108)، وابن مفوز له ردود على ابن حزم في الحديث، وقد ذكر ابن عبد الهادي شيئًا من هذا، فقال في حديث اغتسال الرجل بفضل المرأة:"وقد ضعَّفه ابن حزم. قال ابن عبد الهادي: وقد تكلَّم على هذا الحديث ابن حزم بكلام أخطأ فيه، وردَّ عليه ابن مُفَوَّز وابنُ القطَّان وغيرهما"، لكني لم أعثر على هذا الموضع.
الأولى هو تقديم الخاص؛ لأن العام يَشْتَمل على عدَّة أمورٍ، ويأتي هذا الخاص فيخص بعض أفراده، كما قال تعالى:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أُحلَّت لنا ميتتان ودمان"
(1)
، تخصيصًا لقول الله تبارك وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم
…
بقية الحديث.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ عَدَدُ مَا يُجْزِي مِنَ الضَّحَايَا عَنِ المُضَحِّينَ).
في الحج تكفي البدنة عن سبعة، وكذلك البقرة، لكن هناك خلاف يسير، فبعضهم يرى أن البدنةَ تكفي عن عشرة، وهذا فهمٌ خاطئٌ؛ لأنَّ الحديثَ الذي ورَد في ذلك إنَّما هو بالقسمة
(2)
، وَهُوَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم البدنة، جعلها تعدل عشرًا، وإنما بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أنها عن سبعة، وأن البقرة عن سبعة، ولكن هل الكبش يختص به الواحد أم لا؟
(3)
، هذا محل الخلاف.
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ الرَّجُلُ الكَبْشَ أَوِ البَقَرَةَ أَوِ البَدَنَةَ مُضَحِّيًا عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ بِالشَّرْعِ)
(4)
.
هذا كلام الإمام مالك مجملًا.
(1)
أخرجه ابن ماجه (3314)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(3/ 111).
(2)
تقدَّم هذا الحديث.
(3)
سيأتي تحريره.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 119) حيث قال: " (بلا شرك) في ثمنها أو لحمها، فإن اشتركوا في الثمن بأن دفع كل واحدٍ جزءًا منه، أو في اللحم بأن كانت مشتركةً بينهم، فلا تجزئ عن واحدٍ منهم (إلا) الاشتراك (في الأجر) قبل الذبح فيجزي، ويسقط طلبها عنه".
* قوله: (وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الهَدَايَا
(1)
، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَجَمَاعَةٌ
(4)
أَنْ يَنْحَرَ الرَّجُلُ البَدَنَةَ عَنْ سَبْعٍ).
وكَذَلك أحمد
(5)
.
* قوله: (وَكذَلِكَ البَقَرَةُ مُضَحِّيًا أَوْ مُهْدِيًا)
(6)
.
فَلَا فَرْقَ بين هؤلاء الثلاثة، لَكن الخلَاف عندهم في الكبش، هل يقتصر فيه على فرد واحد أم يجوز للإنسان أن يذبح كبشًا عنه وعن أهل بيته
(7)
؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، فلما جاء بالكبش الآخر قال:
(1)
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 468) حيث قال: "قلت: فإن كان الرجل يشتري الهدي التطوع، فيريد أن يشرك أهل بيته في ذلك، لم يُجِزْهُ في قول مالك؟ قال: نعم، لا يجوز في قول مالكٍ أن يشرك في شيءٍ من الهدي، لا في تَطوُّعه، ولا في واجبه".
(2)
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 133) حيث قال: " (و) يجزئ (البعير والبقرة عن سبعة) للنص فيه كما يجزئ عنهم في التحلُّل للإحصار".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 317) حيث قال: " (وصح) (اشتراك ستة في بدنة شريت لأضحية) ".
وقال: "إذا اشترى بدنة لمتعة مثلًا، ثم أشرك فيها ستةً بعدما أوجبها لنفسه خاصةً لا يسعه"، إلى أن قال:"وإنْ نوى أن يشرك فيها ستةً، أجزأته".
(4)
كسفيان الثوري والأوزاعي، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 239) حيث قال: "وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي: تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، مضحين ومهدين".
وقال: "وبهذا كله قال أحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وداود، والطبري".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 532) حيث قال: " (وتجزئ الشاة عن واحد ونص) الإمام (وعن أهل بيته وعياله، مثل امرأته وأولاده ومماليكه) ".
وقال: " (و) تجزئ كلٌّ من (البدنة والبقرة عن سبعة) ".
(6)
تقدَّم.
(7)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 315) حيث قال: "التضحية: (عن نفسه لا عن طفله) على الظاهر بخلاف الفطرة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 133) حيث قال: "والشاة عن واحد فقط، بل لو اشترك اثنان في شاتين في تضحية أو هدي لم يجز".
"هذا لمن لم يضحِّ من أمتي"
(1)
، فعم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فَذهَب بعض العلماء - ومنهم الحنابلة
(2)
- إلى أنه يجوز للإنسان أن يضحي بكبش عن نفسه، وعن أهل بيته.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الكَبْشَ لَا يُجْزِي إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ).
وهذا خطأٌ، فهذا الإجماع الذي ذكره المؤلف ليس إجماعًا، فقد خالف في ذلك الحنابلة وبعض الصحابة، حتى في بعض المذاهب أيضًا خلاف، فدَعْوى الإجماع غير صحيحةٍ، فلو قال: ذَهَب الجمهور أو ذهب الأكثر، لكان الكلام صحيحًا، أما هذا فليس إجماعًا.
* قوله: (إِلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ
(3)
مِنْ أَنَّهُ يُجْزِي أَنْ يَذْبَحَهُ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْنِهِ).
إذن، هو نقض الإجماع على ما رواه مالك، وأنه يجوز أن يذبح الإنسان عن نفسه وعن أهل بيته، وهذا نقل أيضًا عن أحمد وعن غيره من السلف
(4)
، فليست القضية قضية إجماع كما يقول.
* قوله: (لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرِكةِ، بَلْ إِذَا اشْتَرَاهُ مُفْرَدًا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:"كنَّا بِمِنًى، فَدُخِلَ عَلَيْنَا بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْنَا: مَا هُوَ؟ فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ"
(5)
".
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
روى مالكٌ في "الموطإ"(1770): "كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعد، فصارت مباهاةً"، قال مالك:"وأحسن ما سمعتُ في البدنة والبقرة والشاة، أن الرجل ينحر عنه وعن أهل بيته البدنة، ويذبح البقرة والشاة الواحدة هو يملكها، ويذبحها عنهم، ويشركهم فيها".
(4)
يُنظر: "مصنف عبد الرزاق"(8151) حيث روى: "عن معمر، عن الزهري، عن رجل، عن أبي هريرة قال: لا بأس أن يضحي الرجل بالشاة عن أهله".
(5)
أخرجه البخاري (5548) ومسلم (1211).
هذا الحديث الذي أشرنا إليه هناك عندما ناقشنا ما هو الأفضل: هل هي الإبل أم البقر أم الغنم؟ وَرَأينا أنَّ مالكًا قدم الكباش بدعوى أنه لم يضحِّ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالكباش
(1)
، وذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر كما في "الصحيحين".
* قوله: (وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
عَلَى وَجْهِ الكَرَاهَةِ لَا عَلَى وَجْهِ عَدَمِ الإِجْزَاءِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الأَصْلِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ المَبْنِيِّ عَلَى الأَثَرِ الوَارِدِ فِي الهَدَايَا، وَذَلِكَ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَلَّا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ الاشْتِرَاكِ فِي الضَّأْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الأَصْلَ هُوَ أَلَّا يُجْزِي إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ).
الأصلُ أنه لكلِّ واحدٍ إلا ما ورد فيه نصٌّ، هذا هو مراد المؤلف.
* قوله: (لِأَنَّ الأَمْرَ بِالتَّضْحِيَةِ لَا يَتَبَعَّضُ إِذْ كَانَ مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي ضَحِيَّةٍ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُضَحٍّ إِلَّا إِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى ذَلِكَ).
الَّذي ذَكَره المؤلف فيه تكلُّفٌ بالنسبة للبقر والإبل، فالمَسْألة ورَد فيها النُّصُوص، وبالنسبة للغنم أيضًا ثبتَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى وقال:"هذا عنِّي وعَمَّن لم يضحِّ من أمتي"
(3)
.
* قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ القِيَاسُ المُعَارِضُ لِهَذَا الأَصْلِ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: "نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 239) حيث قال: "وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي: تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة مضحين ومهدين، قد وجب عليهم الدم من متعة أو فراق أو حصر بمرض أو عدو، ولا تجزئ البدنة والبقرة عن أكثر من سبعة، ولا تجزئ الشاة إلا عن واحد".
(3)
تقدَّم.
الحُدَيْبِيَةِ البَدَنَةَ عَنْ سَبْع"
(1)
. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ: "سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ"
(2)
).
جَاءَ في عدَّة أحاديث أن البدنة عن سبعةٍ، وأن البقَرة عن سبعةٍ، هذا ورَد فيه عدة أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَقَاسَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الضَّحَايَا فِي ذَلِكَ عَلَى الهَدَايَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَجَّحَ الأصْلَ عَلَى القِيَاسِ المَبْنِيِّ عَلَى هَذَا الأَثَرِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَلَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ صَدَّ المُشْرِكونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ البَيْتِ
(3)
، وَهَدْيُ المُحْصَرِ بَعْدُ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ عِنْدَهُ فِيهِ الاشْتِرَاك، وَلَا يَجُوزُ الاشْتِرَاكُ فِي الهَدْيِ الوَاجِبِ
(4)
، لَكِنْ عَلَى القَوْلِ بِأَنَّ الضَّحَايَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ يُمْكِنُ قِيَامُهَا عَلَى هَذَا الهَدْيِ).
سبق فيما مضى أن بيَّنَّا الاختلاف في حكم الأضاحي، وأن الأكثر على أنها سُنَّةٌ، وأن الحنفية ومَنْ معهم قالوا بوجوبها.
* قوله: (وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ القَاسِمِ
(5)
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الاشْتِرَاكُ لَا فِي
(1)
أخرجه مسلم (1318).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 240) حيث قال: "وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا: حدثني قاسم قال: حَدَّثني إسماعيل بن إسحاق قال: حَدَّثني مسدد قال: حَدَّثني عبد الواحد قال: حَدَّثني مجالد قال: حدثني الشعبي عن جابر قال: سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزور عن سبعة، والبقرة عن سبعة".
(3)
قصة الحديبية، أخرجها البخاري (2731).
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 237) حيث قال: "ولما لم يكن الهدي واجبًا عند مالك عام الحديبية، إذ نحروا البدنة والبقرة عن سبعةٍ، لم ير الاشتراك في الهدي الواجب، ولا في الضحية".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 238) حيث قال: "وروى ابن القاسم عن مالكٍ أنه لا يشترك في هدي واجب، ولا في هدي تطوع، ولا في نذر، ولا في جزاء صيد ولا فدية، وهو قول ابن القاسم".
هَدْيِ تَطَوُّعٍ، وَلَا فِي هَدْيِ وُجُوبٍ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ لِمَكَانِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ فِي ذَلِكَ).
هذا يردُّ به المؤلف دَعْوى مَنْ يرى أنه بالنسبة للبدنة تكفي عن عشرة، وهذا هو القول الصحيح، أن البدنة ومثلها البقرة إنما يشترك فيها سبعة، وأما ما ورد بالنسبة للبدنة أن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قسمها عشرًا، أي: تعدل عشرَ شِيَاهٍ، فهذا - كما قلنا - في القسمة وليس في الأضحية، ولا في الهدي، فَلَحْمها يوازي ويُسَاوي عشرًا من الضأن، وليس أن من يضحي ببدنة أنه يشترك عشرة في بدنة.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ
(1)
، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ:"البَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ"
(2)
).
هذا جاء تفصيلُهُ في بعض الأحاديث بأنه في القسمة، وليس ذلك فيما يتعلَّق بالهدي والأضحية، وإذا أخذت لحم البدنة، فإنها تُسَاوي عشرةً فأكثر.
* قوله: (وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ
(3)
: وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 303) حيث قال: "قال الطبري: اجتمعت الحجة على أن البدنة والبقرة لا تجزئ عن أكثر من سبعةٍ".
(2)
أخرجه البخاري (2488).
(3)
يُنظر: "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (7/ 14) حيث قال: "عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فضحينا البعير عن عشرة .. فكان جوابنا له في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه - أن هذا الحديث قد رُوِيَ كما ذكر، ولكنه قد وافق جابرًا في السبعة، وزاد عليه ما فوقها، فصارت السبعة إجماعًا، وما فوقها يُطْلَب الدليل عليه".
يَشْتَرِكَ فِي النُّسُكِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الآثَارَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ).
بَلْ صَحَّ في ذلك حديث؛ لكن العلماء فسروه وبينوا أن المراد به القسمة، وهي المعادلة.
* قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ مَالِكٌ لِجَوَار تَشْرِيكِ الرَّجُلِ أَهْلَ بَيْتِهِ فِي أُضْحِيَّتِهِ أَوْ هَدْيِهِ، لِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا بَدَنَةً وَاحِدَةً أَوْ بَقَرَةً وَاحِدَةً" (1)، وَإِنَّمَا خُولِفَ مَالِكٌ فِي الضَّحَايَا فِي هَذَا المَعْنَى (أَعْنِي: فِي التَّشْرِيكِ)؛ لِأَنَّ الإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى مَنْعِ التَّشْرِيكِ فِيهِ فِي الأَجَانِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الأَقَارِبُ فِي ذَلِكَ فِي قِيَاسِ الأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الأَجَانِبِ وَالأَقَارِبِ لِقِيَاسِهِ الضَّحَايَا عَلَى الهَدَايَا فِي الحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ)، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ إِذَا رَجَعَ إِلَى تَعَارُضِ الأَقْيِسَةِ فِي هَذَا البَابِ أَعْنِي: إِمَّا إِلْحَاقُ الأَقَارِبِ بِالأَجَانِبِ، وَإِمَّا قِيَاسُ الضَّحَايَا عَلَى الهَدَايَا).
لدينا أدلَّة بالنسبة للاشتراك في البدنة والبقرة، سواء كان ذلك في الهدايا أو الأضحيات، أمَّا ما يتعلَّق بالكبش، فقَدْ ثبَت، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ضحَّى بالكبش، وقال:"عَنِّي وعن أهل بيتي، ومَنْ لم يَضحِّ من أمتي"، ومن هنا أخذ العلماء بذلك، فألحقوا فيه غيره، فقالوا: يجوز للرجل أن يضحِّي عن نفسه وعن أهل بيته بشاةٍ أو بكبشٍ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الذَّبْحِ)
هذا الباب خصَّصه المؤلف لجملةٍ من المَسَائل أدرج بَعْضها ضمن بعض، وبعضها أفردها بمسائلَ تتعلَّق بأحكام الذبح، والذبح يقابله النحر، والذبح له موضع خاص ببعض الحيوانات، والنحر له مواضع أُخرى، ويمكن أن يستبدل كل منهم بالآخر إذا جاز.
* قوله: (وَيَتَعَلَّقُ بِالذَّبْحِ المُخْتَصِّ بِالضَّحَايَا النَّظَرُ فِي الوَقْتِ وَالذَّبْحِ).
يختصُّ بهذا الباب النظر في الوقت، أي: الوقت الذي يتمُّ فيه ذبح الأضاحي بدايةً ونهايةً.
* قوله: (أَمَّا الوَقْت، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي ابْتِدَائِهِ وَفِي انْتِهَائِهِ، وَفِي اللَّيَالِي المُتَخَلِّلَةِ لَهُ).
أولًا: متى يبدأ الذبح أو النحر؟
وثانيًا: هل هذا الذبح خاصٌّ بالأيام، أي: بالنهار، أو يشمل ذلك الليل؟ وعلى القول بأنه لا يذبح ليلًا، فما المانع من ذلك؟ هل ورد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع ذلك؟ أو أن هناك تعليلات وأقيسة يتمسك بها بعض الفقهاء الذين منعوا ذلك؟ الجواب: نعم.
وَمَعْلومٌ أن يوم النحر هو أول يومٍ قبل أيام التشريق، ثم يليه اليوم الثاني والثالث على القول لمَنْ يقتصر على الأيام الثلاث، وعلى القول لمَنْ يرى أنه يمتد لثالث أيام التشريق، فيكون الذبح لأربعة أيام.
* قوله: (فَأَمَّا فِي ابْتِدَائِهِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ)
(1)
.
هَذَا مَوْضعُ اتِّفَاقٍ بين العلماء؛ لأنها وردت في عدة أحاديث صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تمنع الإنسان أن يُضحِّي قبل الصلاة، وهي أحَاديث في "الصحيحين"، وفي غيرهما، ومن تلكم الأحاديث حديث أنس، وهو متفق عليه، قوله صلى الله عليه وسلم:"من ضحَّى قبل الصلاه فليُعِد"
(2)
.
وقوله: "فليُعِدْ"؛ أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب
(3)
، فعندما يأتي نص صحيح، لا يختلفون فيه، وإنما يلتفون حوله، ويستظلون بظله.
* قوله: (لِثُبُوتِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ"
(4)
، وَأَمْرِهِ بِالإِعَادَةِ لِمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ
(5)
، وَقَوْلِهِ:"أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا هُوَ أَنْ نُصَلِّيَ ثمَّ نَنْحَرَ"
(6)
).
فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بيَّن أن أول ما يبدأ به هو الصلاة، والذبح يكون بعد الصلاة.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 304) حيث قال: "وأجمعوا أن الذبح لأهل الحضر لا يجوز قبل الصلاة".
(2)
أخرجه البخاري (954)، ومسلم (1962).
(3)
يُنظر: "الورقات" للجويني (ص 13) حيث قال: "والأمر استدعاء الفعل بالقول ممَّن هو دونه على سبيل الوجوب".
(4)
أخرجه مسلم (1961) ولفظه: "ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم".
يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 173) حيث أورده بسنده بلفظ: "مَنْ كان ذبح قبل الصلاة، فتلك شاة لحم، ومَنْ لم يكن ذبح، فليذبح على اسم الله".
(5)
تقدَّم.
(6)
أخرجه البخاري (951)، ومسلم (1961).
* قوله: (إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ لآثَارِ الثَّابِتَةِ الَّتِي فِي هَذَا المَعْنَى. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَبْحِ الإِمَامِ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ).
هَذِهِ مسألةٌ أُخرى فيمَنْ ذبح قبل ذبح الإمام، وبعد الصلاة، فهل الحكم منوط بالصلاة أم هو منوط بحكم آخر ألا وهو ذبح الإمام؟
* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ ذَبْحُ أُضْحِيَّتِهِ قَبْلَ ذَبْحِ الإِمَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ
(3)
: يَجُوزُ الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَبْلَ ذَبْحِ الإِمَامِ).
وَمَذْهب أَبي حنيفَة فيه تفصيلٌ حتى أنه يرى أن الَّذين يعيشون في القرى ولا يُصلُّون وراء الإمام، فَوَقْتُ الذبح لهم يبدأ بطلوع الفجر الصادق
(4)
.
وأمَّا الشافعي
(5)
، وأحمد
(6)
، فمُتَقاربان في ذلك: يرون أنه بعد
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: "وابتداء وقتها كائن (من) فراغ (ذبح الإمام) في اليوم الأول، فإن لم يذبح، اعتبر زمن ذبحه، وأما وقت ذبحه هو فبعد الصلاة والخطبة، فلو ذبح قبلها لم يجزه".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 318) حيث قال: " (وأول وقتها) (بعد الصلاة إن ذبح في مصر)، أي: بعد أسبق صلاة عيد، ولو قبل الخطبة لكن بعدها أحب". وانظر: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (2/ 518).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 224) حيث قال: "وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والليث بن سعد: لا يجوز ذبح الأضحية قبل الصلاة، ويجوز بعدها قبل أن يذبح الإمام".
(4)
يُنظر: "الدر المختار"، و"حاشية ابن عابدين" (6/ 318) حيث قال:"فأول وقتها في حق المصري والقروي طلوع الفجر إلا أنه شرط للمصري تقديم الصلاة عليها، فعدم الجواز لفقد الشرط لا لعدم الوقت".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال: " (ويدخل وقتها)، أي: التضحية (إذا ارتفعت الشمس كرمح يوم النحر) وهي عاشر - الحجة (ثم مضى قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين) ".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (83) حيث قال: " (ووقت ابتداء ذبح أضحية وهدي =
الصلاة، أو يَمْضي وقتٌ تَكُون الصلاةُ قد أُدِّيتْ فيه، لكن الحنابلة لهم تفصيلٌ أكثر
(1)
في هذه المسألة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِهَا:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ لِمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ"، وَفِي بَعْضِهَا:"أَنَّهُ أَمَرَ لِمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَبْحِهِ أَنْ يُعِيدَ"، خَرَّجَ هَذَا الحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ هَذَا المَعْنَى مُسْلِمٌ
(2)
).
مرافى المؤلف ما جاء على هذه المسألة: الذَّبح بعد الصلاة، وأيضًا مَنْ يذبح بعد الصلاة، لَكن قبل ذبح الإمام.
* قوله: (فَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَوْطِنَيْنِ، اشْتَرَطَ ذَبْحَ الإِمَامِ فِي جَوَازِ الذَّبْحِ، وَمَنْ جَعَلَ لِذَلِكَ مَوْطِنًا وَاحِدًا، قَالَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي إِجْزَاءِ الذَّبْحِ الصَّلَاةُ فَقَطْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:"أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصلَاةِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ"
(3)
).
= ونذر أو تطوع و) دم (متعة وقران: يوم العيد بعد الصلاة) ".
وقال: " (ولو سبقت صلاة إمام في البلد) الذي تتعدَّد فيه العيد (جاز الذبح) لتقدم الصلاة عليه (أو بعد) مضي (قدرها)، أي: قدر زمن صلاة العيد (بعد حلها)، أي: دخول وقتها (في حق مَنْ لا صلاة في موضعه) ".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 9) حيث قال: " (فإن فاتت الصلاة)، أي: صلاة العيد (بالزوال) بأَنْ زالت الشمس في موضع تُصلَّى فيه، كالأمصار والقرى قبل أن يُصلُّوا، لعذرٍ أو غيره (ضحى إذن) ".
(2)
أخرجه مسلم (1964/ 14)، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: صلَّى بنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ كان نحر قبله أن يعيدَ بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم".
(3)
تقدَّم.
لكن الرواية التي تَصْلح هي الرواية التي أيدها حديث أنسٍ: "مَنْ كان ذبح قبل الصلاة فليُعِد"
(1)
، أي: صلاة عيد الأضحى، فليعد ذبيحته؛ لأنها أصبحت شاةً من الشياه، ولحمًا من اللحم، وله أن يتصدق به.
* قوله: (وَفِي بَعْضِهَا: "أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ ذَبْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ"
(2)
، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟ فَحَمْلُ قَوْلِ الرَّاوِي أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلِ الآخَرِ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْطِنٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ ذَبَحَ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
الأحوطُ هنَا أن ينتظرَ الإنسان حتى يصلي، ثم يذبح الإمام ثم يذبح هو، وهذا صعبٌ في هذا الزمان، فمن الصعب معرفة متى يذبح الإمام، لكننا نقدر وقتًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال:"دَعْ ما يريبك إلى ما لا يَريبك"
(3)
، فما المَانعُ أن تتأخَّر بعض الوقت حتى تصيب سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ المُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ الإِجْزَاءِ إِنَّمَا هُوَ الذَّبْحُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، كَمَا جَاءَ فِي لآثَارِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ:"أَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ"، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْصِيلَ هَذَا الحُكْمِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ بِمَفْهُومِ الخِطَابِ
(4)
دَلَالَةً قَوِيَّةً أَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُجْزِئ، لِأَنَّهُ لَوْ كانَ هُنَالِكَ شَرْطٌ آخَرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِجْزَاءُ الذَّبْحِ، لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّ فَرْضَهُ التَّبْيِينُ).
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه الترمذي (2518)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(7/ 155).
(4)
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 271) حيث قال في دليل الخطاب: "الدرجة الخامسة: الشرط، وذكر أن الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط، فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط، أما أن يدل على عدمه عند العدم، فلا".
أي: لو كان ذلك لا يجوز، لَبيَّنه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كَمَا قال العلماء:"لا يَجُوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"
(1)
.
* قوله: (وَنَصُّ حَدِيتِ أَنَسٍ هَذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيُعِدْ").
أما مَنْ ذبح بعد الصلاة، فقد أدى أضحيته؛ لكن شريطة أن تتوفر فيها الشروط التي عرفناها.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي فَرْعٍ مَسْكُوتٍ عَنْه، وَهُوَ: مَتَى يَذْبَحُ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مِنْ أَهْلِ القُرَى؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يَتَحَرَّوْنَ ذَبْحَ أَقْرَبِ الأَئِمَّةِ إِلَيْهِمْ).
أَيْ: نفرض أن أناسًا في قرية ليس لهم إمامٌ، وقريبٌ منهم مصرٌ من الأمصار وفيه إمامٌ، فإنهم يتحرون ويجتهدون، ولا بد أن يكون ذلك بعد طلوع الشمس.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يَتَحَرَّوْنَ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَالخُطْبَةِ وَبَذْبَحُونَ).
وهذا مذهب الإمام أحمد
(4)
.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
: مَنْ ذَبَحَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الفَجْرِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ
(6)
: بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: " (إلا) الذابح (المتحري أقرب إمام)، لكونه لا إمام له في بلده".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
تقدَّم.
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 226) حيث قال: "وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس".
فِي فَرْعٍ آخَرَ، وَهُوَ: إِذَا لَمْ يَذْبَحِ الإِمَامُ فِي المُصَلَّى، فَقَالَ قَوْمٌ
(1)
: يُتَحَرَّى ذَبْحُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ) ..
ولذلك، من الحكمة، وما يلتقي مع روح الشريعة هو قول الذين يقولون: إن الذبح بعد الصلاة؛ لأن هذا يلتقي مع سماحة الإسلام، ومع روح الشريعة.
* قوله: (وَأَمَّا آخِرُ زَمَانِ الذَّبْحِ، فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
قَالَ: آخِرُهُ اليَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، فَالذَّبْحُ عِنْدَهُ هُوَ فِي الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَه، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(6)
، وَالأَوْزَاعِيُّ
(7)
: الأَضْحَى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ
(8)
أَنَّهُمْ قَالُوا: الأَضْحَى يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ خَاصَّةً).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: "فإن لم يذبح، اعتبر زمن ذبحه".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 120) حيث قال: "ويستمرُّ وقتها (لآخر) اليوم (الثالث) من أيام النحر".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 318) حيث قال: "وآخره قبيل غروب يوم الثالث".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 9) حيث قال: " (وأخَّره)، أي: أخَّر وقت ذبح أضحية وهدي نذر، أو تطوع أو متعة أو قران (آخر اليوم الثاني من أيام التشريق) ".
(5)
مذهب الثوري، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 244) حيث قال: "وقال مالكٌ وأبو حنيفة والثوري وأصحابهما: الأضحى ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده".
(6)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال: " (ويبقى) وقت التضحية وإن كره الذبح ليلًا إلا لحاجة أو مصلحة (حتى تغرب) الشمس (آخر) أيام (التشريق) ".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 245) حيث قال: "وقال الأوزاعي والشافعي وأصحابه: الأضحى أربعة أيام: يوم النحر وأيام التشريق كلها ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو قول ابن شهاب الزهري وعطاء والحسن".
(8)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 244) حيث قال: "وروي عن ابن سيرين أنه قال: الأضحى يوم واحد: يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة".
نُقِلَ هذا عَن ابن سيرين.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ
(1)
: الذَّبْحُ إِلَى آخِرِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ).
يُنْسب هذا إلى عطاء بن يسار.
* قوله: (وَهُوَ شَاذٌّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَكلُّ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ مَرْوِيَّةٌ عَنِ السَّلَفِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ مَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]؟).
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، فالإنسان عند الذَّبح يسمِّي، ويكبِّر الله.
* قوله: (فَقِيلَ
(2)
: يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَه، وَهُوَ المَشْهُور، وَقِيلَ
(3)
: العَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الحِجَّةِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الخِطَابِ فِي هَذِهِ الآيَةِ لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ فِجَاجِ
(4)
مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ"
(5)
".
(1)
قد تقدَّم النقل عن عطاء، لكنه مرويٌّ عن الحسن البصري، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 245) حيث قال: "وروي عنه الأضحى إلى آخر يومٍ من ذي الحجة، فإذا أَهلَّ هلال المحرم، فلا أضحى".
(2)
يُنظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (5/ 365) حيث قال: "قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده".
(3)
يُنظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (5/ 364) حيث قال: "عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به".
(4)
يُنْظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (2/ 462) حيث قال: "الفج الطريق الواضح الواسع، والجمع فجاج".
(5)
أخرجه ابن حبان (3854)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان"(6/ 62).
هَذا حديثٌ طويلٌ فيه عدة فقرات، والمؤلف استشهد بآخره، وهذا الحديث أخرجه أحمد
(1)
وغيره.
* قوله: (فَمَنْ قَالَ فِي الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ: إِنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَيوْمَانِ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ).
وهذا هو رأي الجمهور
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (16751)، قال ابن حجر:"لكن في سنده انقطاع، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات". "فتح الباري"(10/ 10).
(2)
كَلَام الشارح رحمه الله يحتاج إلى تَأمُّلٍ؛ فقد اختلف الفقهاء في تعيين الأيام المعلومات في هذه الآية، فمذهب الشافعية ومشهور مذهب الحنابلة أنها الأيام العشر من ذي الحجة، وهو قول جمهور المفسرين. وللحنابلة روايتان أُخريان، وَذَهَب الأحناف إلى أنها يوم عرفة، ويومان بعده، وذهب المالكية إلى أنها يوم النحر، ويومان بعده.
انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(2/ 34)، وفيه قال:"أما الأيام المعلومات في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، فقد اختلفوا فيه، قال أصحابنا: هي ثلاثة أيام: يوم عرفة ويوم النحر واليوم الحادي عشر، وهو اليوم الأول من أيام التشريق .. كذا النقل".
وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 274)، وفيه قال:" (والأيام المعلومات) في الآية المراد بها (أيام النحر الثلاثة) الأول وتالياه، سُمِّيت بذلك؛ لأنها معلومة للذبح".
وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 310)، وفيه قال:"وأما المعلومات، فهي المذكورة في سورة الحج في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وهي العشر الأول من الحجة".
وانظر في مذهب الحنابلة: "الفروع وتصحيح الفروع"، لابن مفلح (3/ 211)، وفيه قال:"وأيام العشر: الأيام المعلومات "و هـ ش"، وأيام التشريق المعدودات "و"، وعنه: عكسه، وعنه: المعلومات يوم النحر ويومان بعده "و م"، وعنه: يوم النحر وأيام التشريق". وانظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 191).
والعشر هو مشهور المذهب. انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 203)، وفيه قال:"وأيام العشر الأيام المعلومات. وأيام التشريق الأيام المعدودات".
وقَالَ القرطبيُّ في "تفسيره"(3/ 3): "وقد روي عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهُوَ قَوْل الجمهور".
وقَالَ ابن رَجَبٍ كمَا في "تفسير ابن رجب الحنبلي"(2/ 564): "وجمهورُ العلماءِ =
* قوله: (وَرَجَّحَ دَلِيلَ الخِطَابِ فِيهَا عَلَى الحَدِيثِ المَذْكورِ قَالَ: "لَا نَحْرَ إِلَّا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ"، وَمَنْ رَأَى الجَمْعَ بَيْنَ الحَدِيثِ وَالآيَةِ وَقَالَ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا، إِذِ الحَدِيثُ اقْتَضَى حُكْمًا زَائِدًا عَلَى مَا فِي الآيَةِ، مَعَ أَنَّ الآيَةَ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنْهَا تَحْدِيدَ أَيَّامِ الذَّبْحِ).
الآيةُ مجملةٌ، ولم تكن نصًّا صريحًا في أيام الذبح.
* قوله: (وَالحَدِيثُ المَقْصُودُ مِنْهُ ذَلِكَ قَالَ: يَجُوزُ الذَّبْحُ فِي اليَوْمِ الرَّابِعِ إِذْ كانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهمْ أَنَّ الأَيَّامَ المَعْدُودَاتِ
(1)
هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَأَنَّهَا ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
(2)
أَنَّهُ قَالَ: "يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ"، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ عَلَى القَوْلَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ المَعْلُومَاتِ هِيَ العَشْرُ الأُوَلُ. قَالَ: وَإِذَا كان الإِجْمَاعُ قَدِ انْعَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ مِنْهَا إِلَّا فِي اليَوْمِ العَاشِرِ، وَهِيَ مَحَلُّ الذَّبْح المَنْصُوصُ عَلَيْهَا؛ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ)
(3)
.
هذَا من باب مَفْهوم المخالفة، وهو أن يثبتَ بالمُخَالفة حكم
= على أنَّ هذه الأيامَ المعلوماتِ هي عَشْرُ ذي الحجَّةِ، منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ والحسنُ وعطاء ومجاهد وعكرمةُ وقتادةُ والنَخعي، وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ في المشهورِ عنه".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 243) حيث قال: "وأما الأيام المعدودات، فلا
أعلم خلافًا بين العلماء في أنها أيام التشريق، وأيام منى ثلاثة أيام بعد يوم النحر،
وليس النحر منها".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 243) حيث قال: "ولم يقل أحد علمناه أن يوم النحر من أيام التشريق غير سعيد بن جبير في هذه الرواية، وهي رواية واهية لا أصل لها".
(3)
روي عن ابن سيرين كما تقدَّم.
المسكوت عنه حكم المنطوق به، وهو يَنْقسم إلَى قِسْمَيْنِ
(1)
.
ومفهوم المخالفة محل خلاف بين العلماء
(2)
، وذكر العلماء ضمن أنواع مفهوم المخالفة:
* مفهوم الغاية، ومن ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وكذلك أسلوب الشرط؛ كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
ومفهوم الوصف، كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وهناك مفهوم اللقب
(3)
، وهو أضعفها.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي اللَّيَالِي الَّتِي تَتَخَلَّلُ أَيَّامَ النَّحْرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ
(4)
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
(1)
المفهوم ينقسم إلى قسمين، يُنظر:"شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 705) حيث قال: "فالأول يُسمَّى منطوقًا، كفهم وجوب الزكاة في السائمة، في قوله عليه الصلاة والسلام: "في سَائمَة الغَنم الزكاة"، وكفهم تحريم التأفيف في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. والثاني: يُسمَّى فحوًى ومفهومًا، كفهم عَدَم وجوب الزكاة في المعلوفة من الحديث، وتحريم الضرب من الآية".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 725) حيث قال: "قال الآمدي: أثبته الشافعي، ومالك، وأحمد، والأشعري، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، وأبو عبيدة، وجماعة من أهل العربية، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه، والقاضي أبو بكر، وابن سريج، والقفال، والشاشي، وجمهور المعتزلة".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 766) حيث قال في مفهوم اللقب: "تخصيص اسم بحكم، وأنكَره الأكثرون؛ مشتقًّا كان أو غير مشتقٍّ، وإلا لمنع التنصيص على الأعيان الستة جريان الربا في غيرها".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: " (والنهار شرط) في الضحايا كالهدايا، فَلَا يجزي ما وقع منهما ليلًا، وأول النهار طلوع الفجر".
الذَّبْحُ فِي لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَا النَّحْرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَجَمَاعَةٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِك).
وكذلك أبو حنيفة
(2)
، وهي رواية أُخرى للإمام أحمد
(3)
.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي اسْمِ اليَوْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَرَّةً يُطْلِقُهُ العَرَبُ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، وَمَرَّةً يُطْلِقُهُ عَلَى الأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]، فَمَنْ جَعَلَ اليَوْمَ اليَوْمِ يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ مَعَ النَّهَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، قَالَ: يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ يَتَنَاوَلُ اسْمُ اليَوْمِ اللَّيْلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَالَ: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ وَلَا النَّحْرُ بِاللَّيْلِ).
هُوَ أظهر في النهار، لكن ليسَ هناك دليلٌ قطعيٌّ على أنه يخرج الليل، لكن نحن في هذه المسألة رأينَا اختلافَ العلماء، وأنَّ من العلماء مَنْ يمنع الذبح ليلًا، ومنهم مَنْ يجيزه، والذي يجيزه يقول: أليس الرمي وهو نسك يجوز في الليل
(4)
؟ إذًا، فلماذا لا يجوز الذبح وهو نسك
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136) حيث قال: " (ويبقى) وقت التضحية وإنْ كره الذبح ليلًا إلا لحاجة أو مصلحة (حتى تغرب) الشمس (آخر) أيام (التشريق) ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 320) حيث قال: " (وكره) تنزيهًا (الذبح ليلًا) لاحتمال الغلط".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 9) حيث قال: " (ويجزئ) ذبح ما ذكر (في ليلتهما)، أي: ليلة يومي التشريق الأولين".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 10) حيث قال: "لأنَّ الليلَ زمن يصحح فيه الرمي، أي: في الجملة، كالسقاة والرعاة، وداخل في مدة الذبح، فجاز فيه كالأيام".
أيضًا؟ ولماذا نُفرِّق بينهما، وهذه طَاعةٌ لله وهَذِهِ طاعةٌ لله أيضًا؟ هذه تؤدَّى في مناسك الحج، وهذه تؤدَّى ضمن مناسك الحج؟! وَهو تعيينٌ مقبولٌ.
أمَّا الآخَرون، فيقولون: اللَّيل إنما هو سكنٌ، وليس محلًّا للذبح، والذبح يَنْبغي أن يكون بالنهار، لكن ليس هناك دليل قطعي ثابت على أنه لا يذبح في الليل، والأحوط للإنسان أن يتجنب الخلاف، وأن يدع المختلف فيه، ويذهب إلى المتفق عليه.
* قوله: (وَالنَّظَرُ: هَلِ اسْمُ اليَوْمِ أَظْهَرُ فِي أَحَدِهِمَا مِنَ الثَّانِي، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَظْهَرُ فِي النَّهَارِ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ، لَكِنْ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَلَالَتَهُ فِي الآيَةِ هِيَ عَلَى النَّهارِ فَقَطْ، لَمْ يُمْنَعِ الذَّبْحُ بِاللَيلِ إِلَّا بِنَحْوٍ ضعِيفٍ مِنْ إِيجَابِ دَلِيلِ الخِطَابِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ ضِدِّ الحُكْمِ بِضِدِّ مَفْهُومِ الاسْمِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الخِطَابِ هُوَ مِنْ أَضعَفِهَا، حَتَّى أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا قَالَ بِهِ أَحَدُ المُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الدَّقَّاقُ فَقَطْ
(1)
، إِلَّا أَنْ يَقُولَ القَائِلُ: إِنَّ الأَصْلَ هُوَ الحَظْرُ فِي الذَّبحِ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالنَّهَارِ، فَعَلَى مَنْ جَوَّزَهُ بِاللَّيْلِ الدَّلِيل، وَأَمَّا الذَّابِحُ فَإِنَّ العُلَمَاءَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ المُضَحِّي هُوَ الَّذِي يَلِي ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ بِيَدِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوكِّلَ غَيْرَهُ عَلَى الذَّبْحِ
(2)
. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تَجُوزُ الضَّحِيَّةُ إِنْ ذَبَحَهَا غَيْرُهُ
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 771) حيث قال: "قال الآمدي: ليس بحجة، خلافًا للحنابلة، والدقاق من الشافعية".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 328) حيث قال: " (وأن يذبحٍ بيده إن علم ذلك وإلا) يعلمه (شهدها) بنفسه، ويأمر غيره بالذبح كي لا يجعلها ميتة".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: " (و) ندب للمضحي، ولو امرأة أو صبيًّا (ذبحها بيده) اقتداءً بسيد العالمين؛ ولما فيه من مزيد التواضع، وتُكْرَه الاستنابة مع القدرة على الذبح".=
بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ
(1)
، وَقِيلَ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا أَوْ وَلَدًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، أَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ صَدِيقًا أَوْ وَلَدًا، وَلَمْ يَخْتَلِفِ المَذْهَبُ فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ)
(2)
.
قال العُلَماء: لا مانع ما دام قد عيَّن الأضحية.
قال المصنف رحمه الله:
= ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 132) حيث قال: " (و) يسن (أن يذبحها)، أي: الأضحية رجل (بنفسه) إن أحسن الذبح اقتداءً به صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأنها قربة، فندبت مباشرتها، وكذلك الهدي، وأفهم كلامه جواز الاستنابة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 8) حيث قال: " (والأفضل: تولي صاحبها)، أي: الذبيحة، هديًا كانت أو أضحية (ذبحها بنفسه) ".
وقَالَ: " (وإن وَكَّل مَنْ يصحُّ ذبحه ولو ذميًّا) كتابيًّا أبواه كتابيان (جاز، ومسلم أفضل) ".
(1)
يُنظر: "الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 330) حيث قال: "لو شَرَاها بنية الأضحية، فذبحها غيره بلا إذنه، فإن أخذها مذبوحةً ولم يضمنه أجزأته، وإن ضمنه لا تجزئه، وهذا إذا ذبحها عن نفسه، أما إذَا ذَبَحها عن مالكها، فلا ضمانَ".
يُنْظر: "الذَّخيرة" للقرافي (4/ 155) حيث قَالَ: "قال اللخمي: وإذا ذبح بغير وَكَالة من لا شَأْنه القيام بأمر الذابح خُيِّر بين تضمينه القيمة وأخذها، وما نقصها الذبح. وقال أشهب: لا يجزئ الذبح بغير وكالةٍ ولو كان ولدًا".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 155) حيث قال: "إذا ذبحها ولدك أو بعض عيالك ممن فعله ليكفيك مؤنتها بغير أمرك، أجزأ، وأما غيره فلا، ويضمن القيمة".
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 123) حيث قال: " (وإلا) بأن كان كقريبٍ، ولا عادة له، أو أجنبيًّا له عادة (فتردد) في صحة كونها ضحية وعدمها؛ نظرًا لعدم الاستنابة، وأما أجنبي لا عادة له، فلا تجزئ قطعًا".
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 14) حيث قال: " (وإنْ نَوَاها)، أي: نوى الذابح الأضحية (عن نفسه مع علمه أنها أضحية الغير، لم تجز مالكها) ".
(البَابُ الرَّابعُ فِي أَحْكَام لَحُومِ الضَّحَايَا
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المُضَحِّيَ مَأْمُورٌ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْم أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَصَدَّقَ)
(1)
.
بينَّا أهمِّيَّة الأضحية، وأنها عند كَثِيرٍ من العلماء أفضل من الصدقة ولو بقيمتها
(2)
، وأنَّ إراقة الدم تقربًا إلَى الله سبحانه وتعالى مما يرفع درجات المؤمن عند ربه عز وجل؛ لأنه بذلك يُخَالف أولئك الَّذين يتقرَّبون إلى معبوداتهم من الأصنام وغيرها، وبينَّا ما جاء في الأحاديث من فضل الأضحية، وما يترتب على ذلك من الثواب، والمؤلف سيبحث في هذا الباب ما يتعلَّق بلحوم الأضاحي، كيف تتم الاستفادة من ذلك؟ وهل للمضحي أن يأكل
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 305) حيث قال: "وأَجْمَعوا على إباحة الطعام للفقراء المسلمين من لحوم الضحايا، وليس أَكْل المُضحِّي من أضحيته بواجب، ولكنه يَجُوز له ويستحب، وبه قال الفقهاء كلهم، وحُكِيَ عن قومٍ أن أكله منها واجب".
(2)
مذهب الحنفية، وجوب الأضحية، فهي أفضل من الصدقة، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (9/ 506) حيث قال: " (الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه، وعن ولده الصغار) ".
مَذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيِخ الدردير و "حاشية الدسوقي"(2/ 121) حيث قال: " (و) فضلت (ضحية) لكونها سُنَّةً وشعيرةً من شعائر الإسلام (على صدقة وعتق)، ولو زاد ثمن الرقبة على أضعاف ثمن الضحية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 131) حيث قال: "ويُكْره تركها لمن تُسَن له للخلاف في وجوبها، ومن ثَمَّ كانت أفضل من صدقة التطوع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 21) حيث قال: " (وذبح العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها)، وكذا الهدي، صرح به ابن القيم في "تحفة الودود"، وابن نصر الله في "حواشيه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء، ولو كانت الصدقة أفضل لَعَدلوا إليها".
من تلك الأضحية؟ أو أنه يتصدق بها جميعًا، فيكون نَفْعها خاصًّا بالفقراء، ولا يطعم منها شيئًا، أو أنه يُهْديها إلى الأصدقاء والجيران، فيكون قَدْ حصرها في جانبٍ واحدٍ، أو أنه يوزعها بين صنفين: يأكل هو ومَنْ هو تحت سلطته، وبَعد ذلك يَتَصدَّق بنصفها الآخر، أو أنَّه يُوزِّعها أثلاثًا، فيأكل ثلثًا، وَيَتصدَّق بثُلُثٍ، ويُهْدي ثلثًا، هذا كلُّه حقيقةً تكلَّم عنه العلماء، وقَدْ وردت في ذلك ايتان تتعلَّقان بهذا الموضوع، وَجَاءتْ أيضًا بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في كيفية تقسيم هذه الأضحية.
* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]).
الآيةُ الكَريمَة قد أَوْضَحَتْ أمرين:
* أنَّ للمضحِّي أن يأكلَ من أضحيته {فَكُلُوا مِنْهَا} ، ولا شكَّ أن أسرته ومَنْ هم تحت سلطته ويده تابعون له في ذلك.
* وقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
(1)
الْفَقِيرَ}، هذه الآية ذَكَرتْ صنفين فقط، وَالآيةُ الأُخْرى ذكرت صنفين آخرين {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
(2)
وَالْمُعْتَرَّ
(3)
} [الحج: 36]، إذًا الآية الثانية ذكرت أصنافًا ثلاثة، فالأولى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ، إذن يأكل المرء منها، ويطعم منها الفقراء والمساكين، والآية الثانية:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، فمَنْ هو القانع ومَنْ هو المعتر؟ ورد في ذلك عدة تفاسير، أشهرها أن القانع: هو السائل .. والمعتر: هو الَّذي يعترض الإنسان في طريقه، أَيْ: يقابله دون أن يسأله، فيُعْطيه منها.
(1)
يُنظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (5/ 417) حيث قال: "قال عكرمة: هو المضطرُّ الذي علَيه البؤس، والفقير المتعفف. وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده".
(2)
يُنظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/ 33) حيث قال: "فالقانع: السائل، وسُمِّي قانعًا لإقباله على مَنْ يسأله".
(3)
يُنظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 34) حيث قال: "فأما المعتر الذي هو الفقير، والذي يعترك ويتعرض لك".
فَمِنْ هنا الَّذين قَالوا: تُقسَّم الأضحية أثلاثًا، اعتبروا بأن هذه الآية حجة لهم {فَكُلُوا مِنْهَا} ، هذا هو الصنف الأول، ثم بعد ذلك {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} ، والقانع هو السائل .. والمعتر هو الذي يقابلك في طريقك ويعترضك، فتعطيه منها، فكأنه هو الذي تُهْدي إليه، فهذه أصناف ثلاثة.
وَجَاء في أثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه بيَّن أنَّ رسول صلى الله عليه وسلم: "كان يُجزِّئ أضحيته ثلاثًا، فيأكل الثلث مع أهله، ويُهْدي الثلث، ويتصدق بالثلث"
(1)
.
وجاء أيضًا ذلك عن عبد الله بن عمر
(2)
.
وَجَاء عَنْ عبد الله بن مَسْعودٍ
(3)
: "كان إذا ذبح أضحيةً، أمرَ بأن تُوزَّع في هَذِهِ الأصناف الثلاثة: يأكل مع أهله، وبتصدق، ويُهْدي لمن يحتاج إلى الهدية".
فمن العلماء مَنْ قال: توزع أثلاثًا، ومنهم من قال: تقسم بين صنفين.
ولكن، هل يجوز للإنسان أن يأكلها؟ أو يتصدق بها؟ هذا لا خلاف
(1)
رواه الحافظ أبو موسى الأصبهاني في "الوظائف"، وقال: حديث حسن، يُنظر:"إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل"(4/ 374) حيث قال: ولا أدري أراد بذلك حسن المعنى، أم حسن الإسناد، والأول هو الأقرب، وَاللَّهُ أَعْلَم".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 313) حيث قال: "ومن طريق وكيع عن ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا: ثلث لأهلك، وثلث لك، وثلث للمساكين". قال الطريفي في "التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل"(ص 182): إسناده حسن، عبد العزيز بن أبي روَّاد تكلم فيه، وتكلم ابن حبان في روايته عن نافع، وحديثه يُحْمَل على الاستقامة ما لم يُخَالف".
(3)
يُنْظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 49) حيث قال: "فإن ذكروا ما روينا من طريق إبراهيم الحربي عن الحكم بن موسى عن الوَليد عن طلحة بن عمروٍ عن عطاء عن ابن مسعود "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأكل منها ثلثًا، ونتصدق بثلثها، ونطعم الجيران ثلثها"، فطلحة مشهورٌ بالكذب الفاضح، وعطاء لم يدرك ابن مسعود، ولا ولد إلا بعد موته، ولو صح لقلنا به مسارعين إليه".
فيه بين العلماء، فبعض العلماء يقول: لا بد أن يأكل منها ولو شيئًا قليلًا في مذهب الحنابلة
(1)
، وأهل الظاهر
(2)
، وبعضهم يقول: لو تصدق من جميعها ولم يأكل لجاز له ذلك، ولو أهداها جميعًا لجاز له ذلك؛ لكن الأفضل في ذلك والأَوْلَى أن نتَّبع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أُثِرَ عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
قال بَعْضُ العلماء: لم ينقل خلاف عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، فيكون قول هؤلاء الصحابة إجماعًا، إذ لم يرد ولم يوقف علَى مَنْ خالفهم من الصحابة.
* قوله: (وقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]).
فسرت بأن "القانع" هو السائل .. و"المعتر" هو: الذي يقابلك ويعترضك في طريقك، ومنهم مَنْ فسر "القانع" بأنَّه هو الذي يقيم في بيتِهِ، ويقبع فيه ولا يخرج، وأن المعترَّ هو السائل، لَكن التفسير الأوَّل هو الذي يكون حُجَّةً لأولئك الذين يرون التقسيم أثلاثًا، وهو يلتقي مع أثر ابن عباس، وأيضًا ما ذكر عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعًا.
* قوله: (وَلقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّحَايَا: "كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا"
(3)
).
هذا حديث متفق عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر المُضحِّي بأن يأكلَ ويتصدقَ ويدخر، وفي الآثار التي مرَّت بأنه يهدي، والادخارُ قَدْ يُفْهم منه معنى الإهداء؛ لأن الإنسان إذا ادخر شيئًا، فله أن يُهْدي منه.
(1)
سيأتي عند كلام ابن رشد.
(2)
سيأتي عند كلام ابن رشد.
(3)
أخرجه البخاري (5569) ولفظه: "كلوا وأطعموا وادخروا"، ومسلم (1973) ولفظه:"كلوا، وأطعموا، واحبسوا"، أو "ادخروا".
* قوله: (وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: هَلْ يُؤْمَرُ بِالأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ مَعًا، أَمْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الأَمْرَيْنِ؟
(1)
).
مُرَاد المؤلِّف: هل هناك إلزامٌ في مذهب مالك على الجمع بينهما؟ أم أن للإنسان أن يقتصر على الأكل وحده أو على الصدقة وحدها؟
* قوله: (أَعْنِي: أَنْ يَأْكُلَ الكُلَّ، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِالكُلِّ؟).
تَكلَّمنا عن أهمية الأضحية وما بها من الفضل، وأن الإنسان إذا ذبح هذه الأضحيَّة، فكَمْ من النفوس التي تشتاق إليها، وتتعلَّق بها، وكَمْ من أُنَاسٍ تمرُّ عليهم الشهور دون أن يطعموا لحمًا، فما أجمل أن يأخذ المسلم قطعةً من هذه الأضحية، أو عدة قطع، فيُوزِّعها على الفقراء والمحتاجين في هذا المقام، وهذه لا شك أنها قربةٌ، وهي فضيلةٌ وصدقةٌ من الصدقات، والله سبحانه وتعالى سيدخر له هذا الجزاء، وسيجده الإنسان مسجلًّا ومدونًا في كتاب الله، فلا تجد صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها في يومٍ هو أحوج ما يكون إلى الحسنة الواحدة.
إذًا، هَذَا عملٌ جليلٌ، ولقد كان الصحابة والسلف رضي الله عنهم يُعْنون بهذه الأُمور، وفيما يتعلَّق بالصدقات تجد أنَّ بعضهم يعس في الليل يتفقد أحوال الفقراء، يساعد هذا، ويرفع الحاجة عن هذا، ويساعد المنكوب، ويعين مَنْ أصابه عسرٌ
…
إلى غَير ذلك.
فَهذِهِ من الأُمُور الَّتي توجدُ رباطًا وثيقًا بين المؤمنين، وهذا هو التكافل الاجتماعي الذي أقامته هذه الدولة الإسلامية بعد أن كان العَرَبُ في تفككٍ وتمزقٍ، وسنشير إلى ذلك - إن شاء الله - عندما نأتي إلى الزكاة. إذًا، هذا عملٌ عظيمٌ، فخيرٌ للمرء أن يأكل؛ لأن هذه أضحيته، فينبغي أن يتمتع منها، ونحن نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذبح، أمَرَ بأن يؤخذ من كل واحدةٍ منها قطعةً، وأن تطبخ، فطبخت فأكل منها صلى الله عليه وسلم ومعه
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 122) حيث قال: " (و) ندب للمضحي (جمع أكل)، أي: جمع بين أكل منها (وصدقة، وإعطاء) ".
علي بن أبي طالب، وجاء أنه ذبح خمسًا من البدن، فلم يأكل منها الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالأَوْلَى أن الإنسانَ يأكل من أضحيته هو وأهل بيته، ولا ينبغي أن يقطعها وَيَضعها في ثلاجته كما يفعل بعض الناس، وأن يُهْدي إلى أصدقائه وجيرانه؛ لأن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"تَهَادوا تَحَابوا"
(1)
؛ لأنَّ هذه الهدية وإن كانت يسيرةً، فهي مما توثق المودة والمحبة بين المؤمنين، لكن لا ينبغي أن يكون وراء الهدية هدف غير محمودٍ، كذلك أن تعطي الفقراء، فكلُّ هَذَا عملٌ طيبٌ، فمن أَجَلِّ الأقوَال قول مَنْ يرى أنه يُوزِّعها أثلاثًا.
* قوله: (وَقَالَ ابْنُ المَوَّازِ
(2)
: لَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الأَمْرَيْنِ).
ابن المواز هذا من المالكية، ونجد عند الحنابلة
(3)
، وكذلك رواية للشَّافعية
(4)
، وقول أهل الظاهر
(5)
: أنه يُوزِّعها ثلاثًا، لكن ليس هذا ملزمًا، المهم أن يوزعها ليأكل منها، وأن يتصدق، وأن يهدي، لكن لو وَزَّعها ثلاثًا لكان أفضل.
(1)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(594)، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(6/ 44).
(2)
يُنظر: "المنتقى شَرْح الموطإ" للباجي (943) حيث قال: "وقد روي عن مالكٍ: ولو أن رجلًا تصدق بأضحيته كلها لاستغنائه عنها، ولم يأكل منها شيئًا، لَكَان مخطئًا كما لو أَكَلها ولم يطعم منها. وقال ابن المواز: يستحبُّ له أن يتصدَّق ببعض لحم أضحيته ولو لم يَتَصدَّق بشَيءٍ منه ما جاز له".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 19) حيث قال: " (ويستحبُّ أن يأكل من هديه التطوع، ويهدي ولهدي ويتصدق أثلاثًا) ".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 141) حيث قال: " (ويأكل ثلثًا)، أي: يندب للمضحي عن نفسه ألَّا يزيد في الأكل عليه لا أن المراد ندب أكل ذلك المقدار، إذ السنة ألّا يأكل منها إلا لقمًا يسيرةً يتبرك بها، ودون ذلك أكل الثلث والتصدق بالباقي، ودونه أكل ثلث وتصدق بثلث وإهداء ثلث".
(5)
لكن أهل الظاهر يوجبون ذلك، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (6/ 48) حيث قال: "فرض على كل مُضحٍّ أن يأكل من أضحيته، ولا بد لو لقمةً فصاعدًا، وفرض عليه أن يتصدق أيضًا منها بما شاء؛ قلَّ أو كثر ولا بد، ومباح له أن يطعم منها الغني، والكافر، وأن يهدي منها إن شاء ذلك".
والمشهور في مذهب الشافعية
(1)
أنه يقسمها قسمين: يأكل النصف، ويتصدَّق بالنصف {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، فالشَّافعيَّة بمَذْهبهم المشهور وَقَفوا عند ظاهرِ هَذِهِ الآية؛ لكن الآخرين أخذوا بالآية الأُخرى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، قالوا: فذكر صنفين؛ لكن قول القائلين بأنها توزع أثلاثًا يؤيدها الآثار التي جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم.
" قوله: (وَاسْتَحَبَّ كثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ
(2)
أَنْ يُقَسِّمَهَا أَثْلَاثًا: ثُلُثًا للادِّخَارِ، وَثُلُثًا لِلصَّدَقَةِ، وَثُلُثًا لِلْأَكْلِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا"
(3)
. وَقَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ فِي الأَكْلِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي المَذْهَبِ خِلَافًا لِقَوْمٍ أَوْجَبُوا ذَلِكَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 141) حيث قال: " (وفي قول) قديم يأكل (نصفًا)، أي: يندب ألا يزيد عليه، ويتصدق بالباقي".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 328) حيث قال: "والأفضل أن يتصدق بالثلث، ويتخذ الثلث ضيافةً لأقربائه وأصدقائه، ولدخر الثلث؛ ويستحب أن يأكل منها، ولو حبس الكل لنفسه جاز؛ لأن القربة في الإراقة والتصدق باللحم تطوع".
مذهب المالكية: عدم التحديد، بل يجمع بين الأكل والتصدُّق، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 122) حيث قال: " (و) ندب للمُضحِّي (جمع أكل)، أي: جمع بين أكل منها (وصدقة، وإعطاء)، أي: إهداء ولو عبر به كان أوْلَى؛ لأن الإعطاء أعم (بلا حدٍّ) في ذلك بثُلُثٍ، ولا غيره".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 141) حيث قال: " (ويأكل ثلثًا)، أي: يندب للمضحي عن نفسه ألا يزيد في الأكل عليه، لا أن المراد ندب أكل ذلك المقدار، إذ السنة ألا يأكل منها إلا لقمًا يسيرة يتبرك بها، ودون ذلك أكل الثلث، والتصدق بالباقي، ودونه أكل ثلث، وتصدق بثلث، وإهداء ثلث".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 19) حيث قال: " (ويستحب أن يأكل من هديه التطوع، ويهدي ويهدي ويتصدق أثلاثًا) ".
(3)
تقدَّم.
(4)
انظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 667)، وفيه قال: "ويستحب للرجل أن يأكل من لحم أضحيته؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا =
مَنْ أوجب ذلك: أهل الظاهر، فَهم يقولون:"يَجب عليه أن يأكل منها ولو قليلًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل"
(1)
، والذين يقولون بعدم الوجوب قالوا:"إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذبح خمسًا من البدن، ولم يأكل منها، وقال: "مَنْ شاء فليقتطع"
(2)
، كما ورد في الحديث الصحيح.
فالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ما أكل منها، وأكلَ منها مَرَّةً أُخرى، فَهَذا دليلٌ على عدم الوجوب، وَهَذا هو الأَوْلَى.
* قوله: (وَأَظُنُّ أَهْلَ الظَّاهِرِ يُوجِبُونَ تَجْزِئَةَ لُحُومِ الضَّحَايَا إِلَى الأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الحَدِيثُ).
الظنُّ هنا بمعنى اليقين، وهذا هو مَذْهب أهل الظاهر، وقَدْ نص عليه ابن حزم في كتابه "المحلى"
(3)
.
* قوله: (وَالعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ - فِيمَا عَلِمْتُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِهَا)
(4)
.
= وَأَطْعِمُوا}، وقال صلى الله عليه وسلم:"فكُلُوا وادَّخِرُوا"، وليس بوَاجِبٍ خلافًا لقومٍ، اعتبارًا بسائر الذبائح".
(1)
تقدَّم.
(2)
أخرجه أبو داود (1765)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن أبي داود".
(3)
نص ابن حزم على وجوب الأكل والتصدق ليس على وجوب أن تكون أثلاثًا، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (6/ 48) حيث قال: "فرض على كل مضحٍّ أن يأكل من أضحيته ولا بد لو لقمةً فصاعدًا، وفرض عليه أن يتصدق أيضًا منها بما شاء؛ قلَّ أو كثر ولا بد، ومباح له أن يطعم منها الغني، والكافر، وأن يهديمما منها إن شاء ذلك".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 328) حيث قال: " (فإن) (بيع اللحم أو الجلد به)، أي: بمستهلك (أو بدراهم) (تصدق بثمنه)، ومفاده صحة البيع مع الكراهة، وعن الثاني باطل؛ لأنه كالوقف مجتبى. (ولا يعطى أجر الجزار منها)؛ لأنه كبيع".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و "حاشية الدسوقي"(2/ 124) حيث قال: " (ومنع) (البيع) من الأضحية كجلد أو لحم أو عظم أو شعر، ولا يُعْطى الجزار في مقابلة جزارته أو بعضها شيئًا منها".=
كما جاء في الحديث المتفق عليه، وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"أَمَرنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسِّم جلودَها وجلالها، وألا أعطي الجازر منها شيئًا، وقال: نحن نعطيه من عندنا"
(1)
.
فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَكَّل عليَّ بنَ أبي طالبٍ بأن يذبح بدنه، وأمره بأن يقسِّم جلودها وجلالها (الجلود) وهو الذي يغطي الحيوان، وأما الجلال: فهو الغطاء الذي يُوضَع عليها
(2)
كاللحاف ونحوه الذي يقيها البَرْد، أو غير ذلك من الأُمور التي يحفظ بها جسمها.
إذن، نجد أنه تصدق بجلودها وبجلالها، وأمره ألا يعطي الجازر (أي: الجزَّار) منها شيئًا، وقال:"نحن نعطيه من عندنا"، فَهَذا اعتبره جمهور العلماء حُجَّة لهم بأنه لا يجوز للإنسان أن يبيعَ منها.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جِلْدِهَا وَشَعْرِهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا).
جمهور العلماء يرى أن جلدها لا يُبَاع
(3)
؛ لكن نقل عن الحسن
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 142) حيث قال: "ويحرم عليه وعلى وارثه بيعه كسائر أجزائها وإجارته وإعطاؤه أجرة للجزار".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 13) حيث قال: " (و) يحرم (بيع شيءٍ منها)، أي: الذبيحة، هديًا كانت أو أضحيةً (ولو كانت تطوعًا؛ لأنها تعينت بالذبح) ".
(1)
أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317).
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (11/ 119) حيث قال: "وجل الدابة وجلها: الذي تلبسه لتُصَان به".
(3)
مَذْهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 124) حيث قال: " (ومنع) (البيع) من الأضحية كجلد أو لحم أو عظم أو شعر، ولا يُعْطى الجزار في مقابلة جزارته أو بعضها شيئًا منها".
ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 142) حيث قال في الجلد:=
البصري من التابعين
(1)
، وقال بعض العلماء: يباع جلدها، ويُشْترى به ما يحتاج إليه من أثاث البيت مثل: المنخل والغربال، ونحو ذلك من الأشياء الخفيفة التي يحتاج إليها الإنسان في بيته.
* قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنانِيرِ: أَيْ: بِالعُرُوضِ. وَقَالَ عَطَاءٌ
(3)
: يَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ المُعَاوَضَةَ بِالعُرُوضِ هِيَ مِنْ بَابِ الانْتِفَاعِ، لإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ).
أبو حنيفة رحمه الله لا يجيز بيعَه بالدراهم والدنانير؛ لكن عروض مقابل عروض، وهو يرى أنها سلعة بسلعة، لكن مَنْ رأى أنها تباع بالدراهم - كما قلنا - إنما هو الحسن وبعض العلماء، أما بقية العلماء (الأئمة الثلاثة) فلا يرون بيعها، ولا بيع جلدها.
* قوله: (وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِي قَوَاعِدِ هَذَا الكِتَابِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ).
= "ويَحْرم علَيه وعلَى وارثه بيعه كسائر أجزائها، وإجارته وإعطاؤه أجرة للجزار".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 13) حيث قال: " (و) يحرم (بيع شيءٍ منها)، أي: الذبيحة، هديًا كانت أو أضحيةً (ولو كانت تطوعًا؛ لأنها تعينت بالذبح) ".
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 52) حيث قال: "وصح عن الحسن البصري: انتفعوا بمسوك الأضاحي، ولا تبيعوها".
يُنظر: "التجريد" للقدوري (12/ 6349) حيث قال: "قال أصحابنا: يجوز أن يتخذ جلد الأضحية آلةً في البيت كالنطع والغربال والسفرة والسقاية ينتفع به من يعار، ويجوز أن يبدل الجلد بذلك".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 328) حيث قال: " (ويتصدق بجلدها أو يعمل منه نحو غربال وجراب) وقربة وسفرة ودلو (أو يبدله بما ينتفع به باقيًا) ".
(3)
يُنْظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 51) حيث قال: "ورُوِّينا من طريق عطاء أنه قال: إذا كان الهدي واجبًا يتصدق بإهابه، وإنْ كان تطوعًا باعه إن شاء. وقال أيضًا: لا بأس ببيع جلد الأضحية إذا كان عليك دين".
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَاب الذَّبَائِحِ]
(1)
[البَابُ الأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ]
هذا الكتَابُ سيبحث فيه المؤلف أحكامًا تتعلَّق بالذبائح، وهي من الحيوانات مما يجوز أكله، ومما تشرع فيه الذكاة، ومنها ما لا تُشْترط فيه الذكاة أي: يجوز أكله ميتًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالقَوْلُ المُحِيطُ بِقَوَاعِدِ هَذَا الكِتَاب يَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ. البَابُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ، وَهُوَ المَذْبُوحُ أَوِ المَنْحُورُ. البَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ).
هناك ما يُعْرف بالذبح
(2)
، وهناك ما يعرف بالنحر
(3)
، فغير الإبل
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 436) حيث قال: "قال الأزهري: الذبيحة اسم لما يذبح من الحيوان".
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 436) حيث قال: "الذبح: قطع الحلقوم من باطن عند النصيل، وهو موضع الذبح من الحلق".
(3)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 195) حيث قال: "ونحر البعير ينحره نحرًا:=
تُذْبح، وأما الإبل فإنها تُنْحر، ولو عكس الأمر فذلك جائز أيضًا
(1)
.
* قوله: (البَابُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ الآلَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ).
هَل الآلة مقصورةٌ على السكين؟ فهل يجوز للإنسان أن يذبح بحَجَرٍ أو قطعة من حَدِيدٍ؟ وسيأتي حديث صحيح في قصة المرأة أو الأَمَة التي أُصيبَت عندها شاةٌ، فأخذت حجرًا وذبحتها به، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"كلوا"، وهي شاةٌ لكعب بن مالكٍ
(2)
.
وهل الحجر يذبح به؟ وإن قلنا: يذبح به، فهل يشترط أن يسن حتى يكون طرفه حادًّا يفري الأوداج، ويقطع العروق؟ هذا كله سيأتي - إن شاء الله - مفصَّلًا.
* قوله: (البَابُ الرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الذَّكاةِ. البَابُ الخَامِسُ: فِي مَعْرِفَةِ الذَّابِحِ وَالنَّاحِرِ، وَالأُصُولُ هِيَ الأَرْبَعَةُ).
هل هناك صفاتٌ تُشْتَرط في الذابح أم لا؟ وهل المجنون والمرأة والطفل يذبح؟ وهل يذبح غير المسلم؟ وَإنْ قلنا: غير المسلم يذبح، فهل هذا خاصٌّ بالكتابيِّ أم بغَيْر المسلم بصفة عامة كالمجوسي وغيره؟
* قوله: (وَالشُّرُوطُ يُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ فِي الأَرْبَعَةِ الأَبْوَابِ، وَالأَسْهَلُ فِي التَّعْلِيمِ أَنْ يُجْعَلَ بَابًا عَلَى حِدَتِهِ).
= طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر".
ونقل عن صاحب "الصحاح": "الناحران عرقان في صدر الفرس".
(1)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 436) حيث قال: "والذبيحة: الشاة المذبوحة.
وشاة ذبيحة، وذبيح من نعاج ذبحى وذباحى وذبائح، وكذلك الناقة".
(2)
أخرج البخاري (5505)، عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ، أخبره: أن جاريةً لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا بسلع، فأُصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"كُلُوها".
قُلْنا: من مزايا هذا الكتاب أنه انفرد بميزة قد لا تتوفر إلا نادرًا في الكتب القديمة: حسن التدوين والترتيب، فهنا يجعلها أبوابًا أربعةً، وأنه ربما تُوزَّع الشروط على هذه الأربعة، لكنَّه استحسن ورأى أن الأفضل أن تُجْعل في مَوْضعٍ مستقلٍّ ليكونَ ذلك جمعًا لشَتَاتها، وربطًا لجزئيَّاتها، وهذا ملحظٌ طيبٌ من المؤلف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ
وَالحَيَوَانُ فِي اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِي أَكْلِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِذَكَاةٍ).
نحوَ: بَهِيمَةِ الأنعام، لَا يحلُّ أن تؤكلَ إلا بذكاةٍ، أي: بذبحٍ.
(وَحَيَوَانٌ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ).
كحيوان البحر، ولذلك لما قال الله سبحانه وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أُحلَّت لنا ميتتان ودمان
…
"
(1)
، الميتتان إنما هما: الحوت والجراد، وأما بالنسبة للدمان: فالكبد والطحال، فالرسول صلى الله عليه وسلم استثنى ذلك من عموم الآية.
* قوله: (وَمِنْ هَذِهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).
هناك أُمُورٌ موضعُ اتِّفاقٍ لا نزاعَ فيه بين العلماء، وَمنها مَا هو مَوْضع خِلَافٍ؛ لأنه قَدْ يوجد من الحيوان الذي يعيش في البحر ما يَعيش في
(1)
أخرجه ابن ماجه (3314)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(8/ 164).
البَر، فهل يلحق حكمُهُ بحيوانات البحر؟ لأنَّ الأصلَ أنه يعيش فيه، أو يلحق بحَيَوانات البَر؟
* قَالَ: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الحَيَوَانَ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ الذَّبْحُ هُوَ الحَيَوَانُ البَرِّيُّ ذُو الدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ).
هُوَ أوَّلًا حيوانٌ، وفي نَفْس الوقت يعيش في البَر، ولَه دَمٌ، وهذَا التعريف يخرج منه الجراد، والجراد فيه خلافٌ؛ فالمالكية انفردوا من بين العلماء
(1)
بأنه يُذكَّى، وغيرهم لا يَرى ذلك، والمؤلف لم يَعْرض له، هل يشوى في النار أم لا؟ وإنما يُقَص ريشه، ويُوضَع في القدور، وهذا هو الأَوْلَى، وهذه المسألة يتكلَّم عنها العلماء؛ لكن الصحيح أنه لا يُمْنع من ذلك.
وَأيضًا أن يكونَ غير محرَّم؛ لأنَّ من الحيوانات ما هو محرَّم، وسيأتي الخلاف في جلود السباع إذا ذُكِّيت، وهل ذكاتها تبيح جلودها؟
* قوله: (وَلَا مَنْفُوذِ المَقَاتِلِ)
(2)
.
أَيْ: الَّذي أُصِيبَ في مَقْتلٍ من المَقَاتل، وهذا ينصُّ علَيه المالكيَّة أكثَر من غَيْرهم، مثل حيوانٍ قطَع نخاعه، والنخاع الَّذي يَأْتِي من جهة الظهر والرأس، فلو قطع نخاعه مات، فهل هذا يعتبر قد انتهى أم لا؟ كذلك أيضًا لو ضُرِبَ في رأسه فَسَالت دماؤه، أو قُطعَتْ أوداجه، أو اعتدى عليه حيوانٌ، أو شق بطن الحيوان، ثمَّ بعد ذلك سالت قصباته
(1)
سيأتي تحرير تلك المسائل في موضعها عند كلام ابن رشد.
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 113) حيث قال: " (إلا الموقوذة)، أي: المضروبة بحجر أو عصا (وما) ذكر (معها) في الآية قبلها أو بعدها كالمنخنقة بحبل ونحوه، والمتردية من شاهقٍ أو في بئرٍ أو حفرةٍ والنطيحة من أُخرى، وما أكل بعضها السَّبُع (المنفوذة) بعض (القاتل)، فلا تعمل فيها الذكاة".
وغيرها، فهل هذا يؤكل ويذكى أم لا؟ هذه كلها أُمورٌ هي التي يقصدها المؤلف.
* قوله: (وَلَا مَيْئُوسٍ مِنْهُ بِوَقْذٍ).
الميؤوس عنه بأن يكون مريضًا.
* قوله: (أَوْ نَطْحٍ أَوْ تَرَدٍّ أَوِ افْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ مَرَضٍ، وَأَنَّ الحَيَوَانَ البَحْرِيَّ لَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِي الحَيَوَالق الَّذِي لَيْسَ يَدْمَى مِما يَجُوزُ آكْلُهُ مِثْلَ الجَرَادِ وَغَيْرِهِ، هَلْ لَهُ ذَكاةٌ أَمْ لَا، وَفِي الحَيَوَان المُدْمَى الَّذِي يَكُونُ تَارَةً فِي البَحْرِ، وَتَارَةً فِي البَرِّ مِثْلَ السُّلَحْفَاةِ وَغَيْرِهِ؟).
أَيْ: عندما يُصَاد الجراد، هل يُوضَع في القِدْرِ مباشرةً، أم يُذْبح ثم بعد ذلك يُوضَع في القدر؟
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي الأَصْنَافِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ)
(2)
.
هي الأُمور الخمسة، بعد أن قال الله سبحانه وتعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وَهَذَا هو الذي سيأتي الخلاف فيه، وَسَيَبْحث المؤلف هذه المسألة بحثًا مطولًا.
قَالَ رحمه الله تعالى: (وَفِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِيمَا لَا يَحِلُّ آكْلُهُ أَعْنِي: فِي تَحْلِيلِ الانْتِفَاعِ بِجُلُودِهَا، وَسَلْبِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا، فَفِي هَذَا البَابِ - إِذًا - سِتُّ مَسَائِلَ أُصُولٌ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي تَأْثِيرِ الذَّكاةِ فِي
(1)
سَيُعِيدُ بن رشد صياغة تلك المسائل وترتيبها، ويأتي تحريرها.
(2)
سيأتي ذكرها.
الأَصْنَافِ الخَمْسَةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا فِي الآيَةِ إِذَا أُدْرِكتْ حَيَّةً. المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي الحَيَوَانِ المُحَرَّمِ الأَكْلِ).
مثل السباع، فلو أن إنسانًا ذبح منها شيئًا، هل هذه الذكاة تكون سببًا في طهارة جلده فيُسْتخدم أم لا؟ هذا سيأتي أيضًا، وهذه كلها مقدمة ذكرها المؤلف، وبعد ذلك يبدأ في تفصيلها.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي المَرِيضَةِ. المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَلْ ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ أَمْ لَا؟).
فإذا ذُبِحَتِ الأم وفي بطنها جنين، هل تكفي ذكاة الأم أم لا؟ ويظهر الخلاف أكثر فيما لو خرج الجنين ميتًا، فالمسألة فيها خلاف.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ لِلْجَرَادِ ذَكاةٌ أَمْ لَا؟ المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْوِي فِي البَرِّ تَارَةً وَفِي البَحْرِ تَارَةً ذَكاةٌ أَمْ لَا؟).
هذه كلها مقدمةٌ جعلها المؤلف ليطلعنا على هذه المسائل الأمهات التي سيتكلم عنها.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا المُنْخَنِقَةُ
(1)
، وَالمَوْقُوذَةُ
(2)
، وَالمُتَرَدِّيَةُ
(3)
، وَالنَّطِيحَةُ
(4)
، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 466) حيث قال: "المنخنقة: اسم فاعل من انخنقت الشاة ونحوها، فهي منخنقة إذا خنقها شيءٌ فماتت".
(2)
يُنظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (2/ 668) حيث قال: "وشاة موقوذة قُتلَت بالخشب أو بغيره، فَمَاتت من غير ذكاة".
(3)
يُنظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (1/ 225) حيث قال: "وتردَّى في مهواة: سقط فيها ورديته ترديةً، ونُهِيَ عن الشاة المتردية؛ لأنها ماتت من غير ذكاة".
(4)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 466) حيث قال: "والنطيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منطوحة، نطحت فماتت به".
(5)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 466) حيث قال: "وأكيلة السبع =
ليس المقصود بـ "أكل السَّبُع" أنه أكلها وانتهت؛ بل المقصود أنه أكل منها؛ كأن يكون قطع أليتها، أو شق بطنها ولا تزال على قيد الحياة، و"المتردية" التي سقطت من أعلى، و"النطيحة" التي نطحتها دابة أُخرى، و"الموقوذة" هي الَّتي يَضْربها الإنسان بحَجَرٍ وتدرك حياتها، أو يصيبها بالبندقية.
وَلذلك، لمَّا سُئِلَ عبد الله بن عبَّاس عن شاةٍ شق الذئب بطنها، فقال:"تؤكل إذا كانت حيةً، وذكر له السائل أنه أدركها قبل موتها، فقال: تؤكل، ولكن تجتنب تلك الأُمور التي خرجت منها"
(1)
.
ويفرِّق العلماء بين أن تخرج منها مشققةً، وبين أن تخرج منها مخرقةً، يعني: كالمصران وغيره
(2)
.
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا - فِيمَا أَعْلَمُ - أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الخَنْقُ مِنْهَا أَوِ الوَقْذُ مِنْهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يُرْجَى فِيهِ أَنَّ الذَّكاةَ عَامِلَةٌ فِيهَا، أَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ الظَّنُّ أَنَّهَا تَعِيش، وَذَلِكَ بِأَلَّا يُصابَ لَهَا مَقْتَلٌ)
(3)
.
= أيضًا، فعيلة بمعنى مفعولة، أي: مأكولة السبع، ودخلته الهاء لغلبة الاسم عليه، والمراد: ما أكل السبع بعضها، وإلا فما أكلها جمعًا قد صارت معدومةً لا حكم لها".
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 149) حيث قال: "ومن طريق سفيان بن عيينة عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: عدَا الذئبُ على شاة، ففرى بطنها، فسقط منه شيءٌ إلى الأرض، فسألت ابن عباس؟ فقال: انظر ما سقط منها إلى الأرض فلا تأكله، وأمره أن يذكيها فيأكلها".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 113) حيث قال: " (وثقب)، أي: خرق (مصران) بضم الميم جمع مصير كرغيف ورغفان، وجمع الجمع مصارين كسلطان وسلاطين، وأحرى قطعه بخلاف مجرد شقه، فلَيْس بمقتل، واحترز بالمصران عن ثقب الكرش، فليس بمَقْتل على المعتمد".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين"(6/ 308) حيث قال: " (ذبح شاة) مريضة (فتحركت أو خرج الدم)(حلت وإلا لا إِنْ لم تدر حياته) عند=
أَيْ: إذَا خنقت وَانتهَت حَيَاتها، وأَصبحت ميتةً، أو تردَّت وماتت وانتهت، لَكن الكلام في هذه الأُمور الخمسة التي بَقِيَ فيها شيءٌ من الحياة، فلم تُفَارق الحياة بعد، فهل تُذْبح ويُؤكل لَحْمها؟ أيْ: هل تُذكَّى أم لا؟ وكل الخلاف يدور حول قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، فهل الاستثناء هنا متصل أو أن الكلام قد انتهى؟ وقوله:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، أي: من حيوان آخر غير هذه المذكورة، وهذا رأي المالكية وهو في نظري أضعف من رأي الجمهور، أما رأي الأئمة الثلاثة {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، هو استثناء متصل ولا يمنع أنه ذكر الميتة؛ لأن الميتة لا تذكى.
= الذبح، وإن علم حياته (حلت) مطلقًا (وإن لم تتحرك ولم يخرج الدم)، وهذا يتأتى في منخنقة ومتردية ونطيحة، والتي فقر الذئب بطنها، فذكاة هذه الأشياء تحلل، وإن كانت حياتها خفيفةً، وعليه الفتوى".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" لاصثيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 112) حيث قال: " (وأكل المذكى) (وإن أيس من حياته) بحيث لو ترك لمَات بسبب مرضٍ أو ترديةٍ من شاهقٍ لم ينفذ مقتله أو أكله عشبًا، فانتفخ (بتحرك قوي) كخبط يد أو رجل (مطلقًا) صحيحة أو مريضة".
قال في الحاشية: " (قوله: وإن أيس من حياته) دخل فيما قبل المبالغة محقق الحياة، ومرجوها ومشكوكها"، يستثنى من ذلك منفوذة المقاتل، وسيأتي.
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع" للنووي (9/ 88) حيث قال: "لو جرح السَّبُع شاةً أو صيدًا، أو انهدم سقف على بهيمة، أو جرحت هرة حمامة، ثم أدركت حية فذبحت، فإن كان فيها حياة مستقرة حلت، وإن تيقن هلاكها بعد يوم ويومين لما ذكره المصنف".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 207) حيث قال: " (وكلما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة وهي التي تخنق في حلقها، والموقوذة، وهي التي تضرب حتى تشرف على الموت والمتردية وهي الواقعة من علو، والنطيحة وهي التي نطحتها دابة أُخرى، وأكيلة السبع، وهي التي أكل السبع بعضها، والمريضة وما صيد بشبكة أو أحبولة أو فخ أو أنقذه من مهلكة فذكاه وفيه حياة مستقرة يمكن زيادتها على حركة المذبوح سواء انتهت المنخنقة ونحوها (إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو يعيش حلت) ".
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا تَهْلِكُ مِنْ ذَلِكَ بِإِصَابَةِ مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِهِ).
هَذِهِ جزئياتٌ يَتَحدَّث عنها المؤلف، والكلام العام في هذه الأُمور إذا أدركت وفيها حياة، أو بقية حياة، وذكيت، هل تكون ذكاتها سببًا في جواز أكل لحمها؟ يقول الجمهور: نعم، وعند المالكية: لا.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(1)
، وَالمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ)
(2)
.
وأحمد
(3)
، بل جمهور العلماء، وهو روايةٌ للمالكية
(4)
.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ
(5)
، وَابْنِ عَبَّاسٍ
(6)
. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَعْمَلُ الذَّكاةُ فِيهَا
(7)
. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الوَجْهَانِ، وَلَكِنَّ الأَشْهَرَ
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
هذا سيذكره المؤلف بقوله: وهي المنفوذة المقاتل.
انظر: "المقدمات الممهدات"، لمحمد بن رشد (1/ 424)، وفيه قال:"فمَنْ ذهب إلى أن الاستثناء في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، هو من الاستثناء المتصل، أجاز ذكاة المنخنقة وأخواتها، وإن صارت البهيمة ممَّا أصابها من ذلك إلى حال اليأس ما لم ينفذ ذلك مقتلًا، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في "المدونة" و"العتبية"، وإحدى روايتي أشهب عنه في العتبية أيضًا".
(5)
لم أجده.
(6)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 494)، عن أبي طلحة، قال: عدا الذئب على شاةٍ، فأفرى بطنها، فسقط منه شيءٌ إلى الأرض، فسألت ابن عباس، فقال:"انظر إلى ما سقط من الأرض، فلا تأكله، وأَمَره أن يذكيها فيأكلها".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 253) حيث قال: "قال المزني: وأحفظ للشافعي قولًا آخر: أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السَّبُع أو التردي إلى ما لا حياة معه. قال المزني: وهو قول المدنيين".
أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِي المَيْئُوسِ مِنْهَا
(1)
وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَ فِي المَذْهَبِ أَنَّ المَيْؤُوسَ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَيْؤُوسَةٌ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَمَيْؤُوسَةٌ مَقْطُوعٌ بِمَوْتِهَا، وَهِيَ المَنْفُوذَةُ المَقَاتِلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي المَقَاتِلِ)
(2)
.
وَ"المَنْفُوذة"
(3)
: هي الَّتي قطع نخاعها، أو سالت دماؤها، أو قطعت أوداجها، بمعنى ذبحت، وشقت أوداجها، أو كذلك أُخْرجت أمعاؤها فسُلَّت منها، هذا ما يطلق عليه المالكية:"نَفَذَ إلى مقاتلها".
* قوله: (قَالَ: فَأَمَّا المَيْؤُوسَةُ المَشْكُوكُ فِيهَا، فَفِي المَذْهَبِ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَمَّا المَنْفُوذَةُ المَقَاتِلِ، فَلَا خِلَافَ فِي المَذْهَبِ المَنْقُولِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَتَخَرَّجُ فِيهَا الجَوَازُ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ).
العُلَماءُ انقسَموا في هذه الأُمور الخمسة إلى أقسامٍ: إذا أدركت فيها الحياة هل الذكاة تبيح لحمها أم لا؟
* عند الجمهور: نعم.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، و"حاشية الدسوقي" (2/ 113) حيث قال:" (قوله: فإن لم تكن منفوذة مقتل عملت فيها)، أي: اتفاقًا إنْ كانت مرجوَّة الحياة، وكذا إنْ كانت ميؤوسًا منها أو مشكوكًا فيها على قول ابن القاسم وروايته. وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: لا تعمل فيها الذكاة. ثالثها: تعمل في المشكوك فيها دون الميؤوس منها، وهو الذي يفهم من العتبية".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(2/ 113) حيث قال: "ولما أوهم قوله: وإن أيس من حياته شموله لمنفوذة المقاتل مع أن ذكاتها لغو اتفاقًا، استثناها مشيرًا لتفسير الآية بقوله: (إلا الموقوذة)، أي: المضروبة بحجر أو عصا (وما) ذكر (معها) في الآية قبلها أو بعدها كالمنخنقة بحبل ونحوه، والمتردية من شاهقٍ أو في بئرٍ أو حفرةٍ، والنطيحة من أُخرى، وما أكل بعضها السَّبُع (المنفوذة) بعض (المقاتل)، فلا تعمل فيها الذكاة، فإن لم تكن منفوذة مقتل، عملت فيها، وجرى على ما تقدَّم من الحركة القوية، وسيل الدم".
(3)
تقدَّم.
* وفي روايةٍ للمالكية: لا.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]).
فَهَذِهِ جاءت بعد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، فَهَذا الاستثناء يَعُود للأمور الخمسة، فيكون استثناءً متصلًا، ويكون حجةً قويةً للجمهور، أو أنه يكون استثناءً منقطعًا، فيكون حجةً للمالكيَّة.
ومن أقوى الأدلَّة التي يردُّ بها جمهور العلماء على المالكية قولهم: أنتم ترون أن البهيمة إذَا مَرِضَت مرضًا شديدًا لو أُدْركت؛ فإن الذكاة تَعْمل فيها وَتبيحها، فلمَاذا فرقتم بين هذه وتلك؟! وكلها أُدْركت فيها الحياة، ولا نرَى فرقًا بينهما، فلماذا أجزتم هذه، ومنعتم تلك؟
* قوله. (هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ).
والاستثناء المتصل: هو الذي له علاقةٌ بالمتصل منه، أما المنقطع فهو مَن انقطع عن الكلام
(1)
، كقولهم: ما قام إلا زيدٌ، هذا استثناء متصل، أما قوله: قام القوم إلا حمارًا، هذا استثناء منقطع.
* قوله: (فَيَخْرُجُ مِنَ الجِنْسِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظ، وَهُوَ المُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَة، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ عَلَى عَادَةِ الاسْتِثْنَاءِ المُتَّصِلِ، أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الجُمْلَةِ المُتَقَدِّمَةِ،
(1)
يُنظر: "أوضح المسالك" لابن هشام (2/ 222) حيث قال في المنقطع: "فإذا استثنى بـ "إلا"، وكان الكلام غير تامٍّ، وهو الذي لم يذكر فيه المستثنى منه، فلا عمل لى "إلا"، بل يكون الحكم عند وجودها مثله عند فَقْدها، ويُسمَّى استثناءً مفرغًا، وشرطه: كون الكلام غير إيجاب".
وقال في المتصل: "وإن كان الكلام تامًّا: فإن كان موجبًا، وَجَبَ نصب المستثنى".
إِذْ كَانَ هَذَا أَيْضًا شَأْنَ الاسْتِثْنَاءِ المُنْقَطِعِ فِي كَلَامِ العَرَبِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ قَالَ: الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي هَذِهِ الأَصْنَافِ الخَمْسَةِ).
المنقطع لا صلة له بما مضى، فكونه متصلًا، أي: متصل الحكم بما تقدم، أي: ما قبله متصل بما بعده.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الاسْتثْنَاءَ مُتَّصِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِي المَرْجُوِّ مِنْهَا، قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا، فَهُوَ مُتَّصِلٌ. وَقَدِ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ رَأَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الأَصْنَافِ الخَمْسَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ المَوْتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إِنَّمَا هُوَ لَحْمُ المَيْتَةِ).
هذا التعليل ضعيف؛ لأن "الميتة" لا تُذكَّى كما هو معلوم، وما بعدها "الدم" لا يدخل في قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ، فَهَذه كلُّها غير داخلة، وإنَّما الكلامُ عن تلكم الأُمُور التي تطرَّق إليها سببٌ من الأسباب، وَعَيبٌ من العُيُوب، هَل تَنْفع فيها الذكاة أم لا؟ لو رجعتم مثلًا إلى كتاب القرطبي
(1)
عندما يناقش هذه المسألة، وهو مالكيٌّ، تجد أنه يرد على المالكية ويقول:"سبحان الله! كيف نقول بأن هذه لا تنفع فيها الذكاة، ولا تعمل، وأنتم تجيزون المريض مرضًا شديدًا"، يَعْني: هو نفسه يرد على مذهبه، ويبطل حجته، وهذا هو شأن الفقيه المنصف.
(1)
يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 50) حيث قال: "قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات، وفيه حياة، فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأنَّ حق الاستثناء أن يكون مصروفًا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعًا إلا بدليلٍ يجب التسليم له".
* قوله: (وَكَذَلِكَ لَحْمُ المَوْقُوذَةِ وَالمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَسَائِرِهَا أَيْ: لَحْمُ المَيْتَةِ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ سِوَى الَّتِي تَمُوتُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى مَيْتَةً أَكثَرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ العَرَبِ أَوْ بِالحَقِيقَةِ. قَالُوا: فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ المَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقَ التَّحْرِيمِ بِأَعْيَانِ هَذِهِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِهَا بَعْدَ المَوْتِ؛ لِأَنَّ لَحْمَ الحَيَوَانِ مُحَرَّمٌ فِي حَالِ الحَيَاةِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِيهَا).
الجُمْهورُ معهم الأصل، فما دام هذا الحيوان الذي يباح أكله بالذكاة لا تزال الحياة قائمة فيه، فلا ينبغي أن نُحرِّمه.
* قوله: (وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَا قُطِعَ مِنَ البَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهُوَ مَيْتَةٌ")
(1)
.
هَذا حَديثٌ اختلفَ فيه العلماء، وهو مرفوعٌ أو مرسلٌ، وقد صحَّ المرسل منه، وضعف المرفوع.
* قَالَ: (وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، لَكِنَّ الحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ كيْفَمَا كَانَ الأَمْرُ فِي الاسْتِثْنَاءِ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِيهَا).
معنى "كيفما كان"، أَيْ: الحال والشأن، أَيْ: كيفما كان على أيِّ كيفية كانت، فالحكم هو كذا وكذا.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ عَلَّقْنَا التَّحْرِيمَ بِهَذ الأَصْنَافِ فِي الآيَةِ بَعْدَ المَوْتِ، وَجَبَ أَنْ تَدْخُلَ فِي التَّذْكيَةِ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ حَيَّةٌ الأَصْنَافُ
(1)
أخرجه أبو داود (2858)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن أبي داود".
وأخرجه الترمذي (1480) وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم".
الخَمْسَةُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً مُسَاوِيَةً لغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ مِنَ الحَيَوَانِ).
حديث المرأة أو الأمة التي كانت ترعى في جبلٍ يشهد بمذهب جمهور العلماء، وسيأتي هذا الحديث.
* قوله: (أَعْنِي أَنَّهَا تَقْبَلُ الحِلِّيَّةَ مِنْ قِبَلِ التَّذْكيَةِ الَّتِي المَوْتُ مِنْهَا هُوَ سَبَبُ الحِلِّيَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، فَلَا خَفَاءَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمُومَ التَّحْرِيمِ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ تَنَاوُلُ أَعْيَانِ هَذِهِ الخَمْسَةِ بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْلَهُ كَالحَالِ فِي الخِنْزِيرِ الَّذِي لَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكاة، فَيَكُونُ الاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا رَافِعًا لِتَحْرِيمِ أَعْيَانِهَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى عَمَلِ الذَّكَاةِ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْ مَا اعْتَرَضَ بِهِ ذَلِكَ المُعْتَرِضُ مِنَ الاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا).
المؤلف كلامه يتأرجح، لكن هو يميل - فيما يبدو - إلى مذهب الجمهور.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ المَنْفُوذَةِ المَقَاتِلِ وَالمَشْكُوكِ فِيهَا
(1)
، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ تَأْثِيرُ الذَّكاةِ فِي المَرْجُوَّةِ بِالإِجْمَاعِ)
(2)
.
كما في أثر ابن عبَّاس لما سُئِلَ عن شاةٍ اعتدى عليها ذئبٌ وشق بطنها، أو أن صاحبها أدرك ذكاتها، فقال:"كُلْها، وَاجْتَنب تلك الأُمُور"
(3)
، يعني: ما خَرج من بطنها.
(1)
وهو مذهب مالك، وقد تقدَّم النقل.
(2)
تقدَّم نقل مذهب جماهير العلماء.
(3)
تقدَّم.
قَالَ: (وَقَاسَ المَشْكُوكَةَ عَلَى المَرْجُوَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَلَكِنَّ اسْتِثْنَاءَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ المَوْقُوذَةِ بِالقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَاةَ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تَعْمَلَ فِي حِينِ يُقْطَعُ أَنَّهَا سَبَبُ المَوْتِ، فَأَمَّا إِذَا شُكَّ هَلْ كَانَ مُوجِبُ المَوْتِ الذَّكَاةَ أَوِ الوَقْذَ أَوِ النَّطْحَ أَوْ سَائِرَهَا، فَلَا يَجِبُ أَنْ تَعْمَلَ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ هِيَ حَالُ المَنْفُوذَةِ المَقَاتِلِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ المَنْفُوذَةَ المَقَاتِلِ فِي حُكْمِ المَيْتَةِ، وَالذَّكَاةُ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَرْفَعَ الحَيَاةَ الثَّابِتَةَ لَا الحَيَاةَ الذَّاهِبَةَ، المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا هَلْ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِي الحَيَوَانَاتِ المُحَرَّمَاتِ الأكْلِ حَتَّى تَطْهُرَ بِذَلِكَ جُلُودُهُمْ؟ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا مَا عَدَا الخِنْزِيرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ المَذْهَبُ فِي كَوْنِ السِّبَاعِ فِيهِ مُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كتَابِ الأطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ
(3)
).
اختلفت الرواية عن مالك رحمه الله في جلود الميتة إذا دبغت
(4)
:
فالظاهر من الروايتين: أنها لا تطهر
(5)
، ولكنها تستعمل في الأشياء
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 54)؛ حيث قال في الأعيان النجسة: " (وجلد) إذا لم يدبغ بل (ولو دبغ) فلا يؤثر دبغه طهارة في ظاهره ولا باطنه
…
(ورخص فيه)؛ أي: في جلد الميتة (مطلقًا) سواء كان من جلد مباح الأكل أو محرمه (إلا من خنزير) فلا يرخص فيه مطلقًا ذكي أم لا؛ لأن الذكاة لا تعمل فيه إجماعًا فكذا الدباغ عدى المشهور".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1 - 25 - 26)؛ حيث قال: " (وكل إهاب دبغ فقد طهر)
…
إلا جلد الخنزير والآدمي) ".
(3)
عند قول المصنف: "وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها: لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع".
(4)
دبغ فلان إهابه يدبغه ويدبغه دبغًا ودباغة ودباغًا، وفي الحديث:"دباغها طهورها".
والدباغ أيضًا: ما يدبغ به. انظر: "الصحاح"، للجوهري (4/ 1318).
(5)
تقدَّم.
اليابسة وفي الماء خاصة من بين سائر المائعات
(1)
، فإنه قال في الماء: أتقيه في نفسي خاصة، ولا أضيقه على الناس
(2)
.
والرواية الأُخرى
(3)
: أنها تطهر طهارة تامة، وهذا في كل جلد ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الذكاة لا تعمل فيه؛ فالدباغة أولى، وسائر الحيوان غيره تتأتى فيه الذكاة.
ووافق أبو حنيفة الرواية الثانية، فقال: تطهر، إلا في الخنزير
(4)
.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الذَّكاةُ تَعْمَلُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ مُحَرَّمِ الأكْلِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَالانْتِفَاعُ بِهَا مَا عَدَا اللَّحْمَ)
(5)
.
بل إنَّ الشافعي رحمه الله قال: تطهر، إلا في الكلب والخنزير.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 54)؛ حيث قال: " (في يابس) كالحبوب (و) في (ماء) لأن له قوة الدفع عن نفسه لطهوريته فلا يضره إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة لا في نحو عسل ولبن وسمن ".
(2)
يُنظر: "المدونة"، للإمام مالك (4/ 438)؛ حيث قال:"قال مالك: والاستقاء في جلود الميتة إذا دبغت في نفسي منه شيء ولست أشدد فيه على غيري ولكني أتقيه في نفسي خاصة ولا أحرمه على الناس، ولا بأس بالجلوس عليها ويغربل عليها".
(3)
لم نقف على هذه الرواية. ويُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 101)؛ حيث قال:"قال في التوضيح اختلفت عبارة أهل المذهب في جلد الميتة المدبوغ فقال أكثرهم: مطهر طهارة مقيدة؛ أي: يستعمل في اليابسات والماء وحده. وقال عبد الوهاب وابن رشد: نجس ولكن رخص في استعماله في ذلك، ولذلك لا يصلى عليه وهو خلاف لفظي ولفظ ابن رشد في سماع أشهب من كتاب الطهارة المشهور من قول مالك المعلوم من مذهبه أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ وإنما يجوز الانتفاع به في المعاني التي ذكرت".
(4)
تقدَّم بيان مذهبه.
(5)
ومذهب الشافعي يطهر غير الكلب والخنزير. يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 17)؛ حيث قال: " (والدباغ)
…
(يطهر)؛ أي: الاندباغ (جلد غير كلب، وخنزير، وفرعهما) ".
وقال أحمد: لا تطهر، ولكنه لا يبيح الانتفاع بها في شيء؛ لأنها كلحم الميتة
(1)
.
وقال داود
(2)
: يطهر جلد جميع الحيوان بالدباغ حتى الخنزير، وقد حكي عن أبي يوسف مثله
(3)
.
وقال الأوزاعي وأبو ثور: يطهر جلد ما يؤكل من الحيوان ولا يطهر جلد ما لا يؤكل
(4)
.
وقال الزهري: يجوز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ مع كونها نجسة لا أنها طاهرة
(5)
.
• قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الحَيَوَانِ تَابِعَةٌ لِلَّحْمِ فِي الحِلِّيَّةِ وَالحُرْمَةِ، أَمْ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلَّحْمِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلَّحْمِ، قَالَ: إِذَا لَمْ تَعْمَلِ الذَّكَاةُ فِي اللَّحْمِ، لَمْ تَعْمَلْ فِيمَا سِوَاهُ).
(1)
المشهور من مذهب أحمد أنه جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، ويستعمل بعده في يابس.
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 54)؛ حيث قال: " (ولا يطهر جلد ميتة نجس بموتها بدبغه)
…
(ويجوز استعماله)؛ أي: الجلد المدبوغ من ميتة طاهرة في الحياة فقط (في يابس بعد دبغه) ".
(2)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (1/ 128)؛ حيث قال:"وتطهير جلد الميتة أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك - فإنه بالدباغ - بأي شيء دبغ - طاهر، فإذا دبغ حل بيعه والصلاة عليه، وكان كجلد ما ذكي مما يحل أكله، إلا أن جلد الميتة المذكور لا يحل أكله بحال، حاشا جلد الإنسان، فإنه لا يحل أن يدبغ ولا أن يسلخ، ولا بد من دفنه وإن كان كافرًا".
(3)
يُنظر: "درر الحكام"، للملا خسرو (1/ 24)؛ حيث قال:"وذكر في الخلاصة عن أبي يوسف أن الخنزير إذا ذبح طهر جلده بالدباغ".
(4)
يُنظر: "المغني"(1/ 49)؛ حيث قال: "وعن أحمد رواية أُخرى: أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرًا في حال الحياة. وروي نحو هذا عن عطاء، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ويحيى الأنصاري، وسعيد بن جبير، والأوزاعي".
(5)
يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (2/ 259)؛ حيث قال:"قال معمر: وكان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال".
هؤلاء قالوا: أجزاء الحيوان تابعة للحم، وإذا لم تتمكن الذكاة من تطهير اللحم حتى يؤكل، فلا يمكن لها أن تطهر بقية الأجزاء فتستعمل.
• قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي اللَّحْمِ، فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي سَائِرِ أَجْزَاءِ الحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّهَا تَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الأجْزَاءِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالدَّلِيلِ المُحَرِّمِ لِلَّحْمِ
(1)
عَمَلُهَا فِي اللَّحْمِ بَقِيَ عَمَلُهَا فِي سَائِرِ الأجْزَاءِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ).
وهؤلاء قالوا: أجزاء الحيوان ليست تابعة للحم، وإذا لم تتمكن الذكاة من تطهير اللحم حتى يؤكل، فلا يمنع أن تطهر بقية الأجزاء فتستعمل.
والدليلُ إنَّما دلَّ على تحريم اللحم، ولم يتكلَّم عن سائر الأجزاء، فلا يُمكن منع استعماله.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ الذَّكَاةِ فِي البَهِيمَةِ الَّتِي أَشْرَفَتْ عَلَى المَوْتِ مِنْ شِدَّةِ المَرَضِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَمَلِ الذَّكَاةِ فِي الَّتِي لَا تُشْرِفُ عَلَى المَوْتِ
(2)
، ................................
(1)
يُنظر: "تفسير الجلالين"(35)؛ حيث قال: " {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}؛ أي: أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها".
(2)
واختلفوا في تفصيل ذلك.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 308)؛ حيث قال: " (ذبح شاة) مريضة (فتحركت أو خرج الدم)(حلت وإلا لا إن لم تدر حياته) عند الذبح
…
(قوله فتحركت)؛ أي: بغير نحو مد رجل وفتح عين مما لا يدل على الحياة".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 112)؛ حيث قال: " (قوله: إن صحت) المراد بها غير الميئوس منها فالمريضة إذا كانت غير ميؤوس منها فهي كالصحيحة تؤكل بسيلان الدم أي، وإن لم تتحرك، وإذا كانت ميئوسا منها ففي إعمال الذكاة فيها خلاف".
ولمذهب الشافعية ينظر: "حاشيتا قليوبي وعميرة"(4/ 243)؛ حيث قال: " (فإن لم يدرك فيه حياة مستقرة)؛ أي: لم يغلب على ظنه إدراكه بها فلا تحل إذا شك في =
فَالجُمْهُورُ
(1)
عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِيهَا، وَهُوَ المَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ
(2)
، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الذَّكاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا
(3)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأثَرِ، فَأَمَّا الْأَثَر، فَهُوَ مَا رُوِيَ:"أَنَّ أَمَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كُلُوهَا"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
المؤلف رحمه الله لم يذكر الأدلة النقلية التي أوردناها، وإنما بحث المسألة بحثًا عقليًّا، بينما الصحيح ما ذكرناه في الدليلين.
وهذه المسألة مرتبطة بما سبق
(4)
؛ لذلك يذكرها العلماء عادةً مع الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة
(5)
، لكن المؤلف فصَّلها هنا؛ لأن المالكية يفرِّقون بين تلك الأشياء وبين المريضة
(6)
.
= وجودها فيه، والحياة المستقرة ما يكون معها حركة اختيارية، وتعرف بالحركة القوية أو تفجر الدم أو القيام".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهي الإرادات"، للبهوتي (3/ 420)؛ حيث قال: " (وما أصابه سبب الموت)
…
(ومريضة)
…
ولم يصل إلى ما لا تبقى الحياة معه (فذكاه وحياته تمكن زيادتها على حركة مذبوح حل) أكله".
(1)
تقدَّم تفصيل مذاهبهم.
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي"(2/ 174)؛ حيث قال: " (وأكل المذكي وإن أيس
…
(بإضناء مرض)
…
(بقوة حركة)؛ أي: أن محل أكل ما أيس من حياته بالذكاة أن يصحبها قوة حركة عقب الذبح
…
".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 112)؛ حيث قال: " (قوله: إن صحت) المراد بها غير الميئوس منها فالمريضة إذا كانت غير الميؤوس منها فهي كالصحيحة تؤكل بسيلان الدم؛ أي: وإن لم تتحرك، وإذا كانت ميؤوسًا منها ففي إعمال الذكاة فيها خلاف".
(4)
عند قول المصنف: "المسألة الأولى: أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ فإنهم اتفقوا فيما أعلم: أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيه أن الذكاة عاملة فيها؛ أعني: أنه إذا غلب الظن أنها تعيش، وذلك بألا يصاب لها مقتل".
(5)
تقدَّم الكلام علي الموقوذة ونحوها في موضعه.
(6)
تقدَّم قبل قليل.
ومن الأوهام التي حصلت للمؤلف: أنه ذكر أن الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأعتقد أن الحديث لم يخرجه مسلم
(1)
، إنما أخرجه البخاري وجماعة من المحدثين، والحديث قد ورد بعدة روايات أُخرى فيها شيء من التفصيل منها:"أن هذه الأمة رأت شاةً قد دبَّ إليها الموت فأسرعت إلى حجر فكسرته ثم ذبحتها بذلك الحجر، فتوقفوا عن أكلها"
(2)
، وفي بعض الووايات:"أنهم سألوا رسول الله"
(3)
، وفي بعض الروايات: أنهم أرسلوها هي فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما عملته فقال: "كلوا إن شئتم"
(4)
.
• قوله: (وَأَمَّا القِيَاس، فَلأنَّ المَعْلُومَ مِنَ الذَّكاةِ أَنَّهَا إِنَّمَا تُفْعَلُ فِي الحَيِّ، وَهَذِهِ فِي حُكْمِ المَيِّتِ، وَكُلُّ مَنْ أَجَازَ ذَبْحَهَا، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا دَليلٌ عَلَى الحَيَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الدَّلِيلُ المُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمُ اعْتَبَرَ الحَرَكَةَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَبِرْهَا، وَالأوَّلُ: مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي. مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(5)
؛ وَبَعْضُهُمُ اعْتَبَرَ فِيهَا ثَلَاثَ حَرَكَاتٍ: طَرْفُ العَيْنِ،
(1)
وهو كما قال.
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (5502) ولفظه: عن نافع، عن رجل، من بني سلمة أخبر عبد الله:"أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنمًا له بالجبيل الذي بالسوق، وهو بسلع، فأصيبت شاة، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها".
(3)
أخرجه البخاري (2304): "
…
فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله، وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها".
(4)
أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 211):
…
فقال لها: اذهبي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل أدريت الأوداج؟ "، قالت: نعم. قال: "كل ما فرى الأوداج ما لم يكن قرض سن أو حز ظفر".
(5)
أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 256) عن أبي مرة، مولى عقيل بن أبي طالب قال: "رجعت إلى أهلي، وقد كان لهم شاة، فإذا هي ميتة فذبحتها فتحركت، فأتيت =
وَتَحْرِيكُ الذَّنَبِ وَالرَّكْضُ بِالرِّجْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ المَوَّازِ
(1)
، وَبَعْضُهُمْ شَرَطَ مَعَ هَذِهِ التَّنَفُّسَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَبِيبٍ
(2)
).
هذه المسألة لم يرد فيها دليل، ولذلك تعددت الآراء فيها، لكن إن وجدت الحياة تدب في جسم الحيوان فهو لا يزال حيًّا، وادِّعاء من يدعي بأنه ميتة أو شبه ميتة يطالب بدليل ولا دليل على ذلك، وقد رأينا قصة هذه الشاة مع هذه الأمة أو المرأة كما في بعض الروايات أنها تصرفت فكسرت حجرًا وأخذت الحادَّ منه فذبحت هذه الشاة، وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلوها"
(3)
، أما إذا انقطعت الحياة فهذه ميتة ولا يؤثر فيها الذبح.
واختلف العلماء في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض، فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها، وقد استدلوا على ذلك بدليلٍ من النقل، ودليلٍ من العقل، وقد اتفق الجمهور على ألا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة
(4)
.
والمؤلف سيعرض لنا فيما بعد علامات الحياة من الحركة، وتحريك الطرف، ووجود نفس في هذه الشاة ونحو ذلك.
= أبا هريرة، فذكرت ذلك له فأمرني بأكلها قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فذكرت له أمرها فقال: إن الميت يتحرك". وانظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 261).
(1)
يُنظر: "المنتقى"، للباجي (3/ 116)؛ حيث قال:"قال محمد: ويعرف ذلك بحركة الرجل والذنب. قاله زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب قال محمد: والعين تطرف أو يستفيض نفسها في جوفها أو منحرها؛ فإن هذه الحركات ما كان منها عند مر الشفرة بحلقها".
(2)
يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (5/ 141)؛ حيث قال:"قال ابن حبيب إذا كانت الذبيحة تطرف فهي ذكية، ولو طرفت بأحد أطرافها بعين أو رجل أو ذئب أو يد مع مجرى النفس فهي ذكية".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم مفصلًا.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تَعْمَلُ ذَكَاةُ الأُمِّ فِي جَنِينِهَا أَمْ لَيْسَ تَعْمَلُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَيْتَةٌ، أَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِ الأُمِّ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَكَاةَ الأُمِّ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
).
اختلف الفقهاء، هَلْ تَعْمَلُ ذَكاةُ الأُمِّ فِي جَنِينِهَا أَمْ لا على أقوال:
مذهب الجمهور: وهم الشافعي، وأحمد
(3)
، وصاحبا أبي حنيفة
(4)
، ومالك رحمه الله مع تفصيلات زادها مالك
(5)
: أنّ ذكَاةَ الأمِّ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا بغير شرط؛ لأن الحديث
(6)
لم يضع قيدًا ولا شرطًا، فينبغي أن نقف عنده، ولا نضع شروطًا لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان ثمة شرطٌ أو قيدٌ لَبيَّنه رسول صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد ورد ذلك في عدة مناسبات.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 114) حيث قال: " (وذكاة الجنين) يوجد ميتًا بسبب ذكاة أمه تحقيقًا أو شكًّا لا إن كان ميتًا من قبل حاصله: (بذكاة أمه) فذكاة أمه ذكاة له (إن تم) خلقه؛ أي: استوى خلقه، ولو كان ناقص يد أو رجل (بشعر)؛ أي: مع نبات شعره؛ أي: شعر جسده، ولو بعضه لا شعر عينيه أو رأسه أو حاجبه فلا يعتبر (وإن) (خرج) تامًّا بشعره (حيًّا) حياة محققة أو مشكوكة (وذكي) وجوبًا، وإلا لم يؤكل".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 158)؛ حيث قال: " (ويحل جنين وجد ميتًا) أو عيشه عيش مذبوح، سواء أشعر أم لا (في بطن مذكاة)
…
أو إرسال سهم أو كلب عليها".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 209)؛ حيث قال:" (وتحصل ذكاة جنين مأكول خرج من بطن أمه بعد ذبحها بذكاة أمه إذا خرج ميتًا أو متحركًا كحركة المذبوح) سواء (أشعر)؛ أي: نبت شعره (أو لم يشعر) ".
(4)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 293)؛ حيث قال: " (ولم يتذك جنين بذكاة أمه)؛ أي: لا يصير الجنين مذكًّى بذكاة أمه حتى لا يحل أكله بذكاتها وهذا عند أبي حنيفة
…
وقال أبو يوسف ومحمد وجماعة أخر: إذا تم خلقه حل أكله بذكاتها".
(5)
تقدَّم مفصلًا.
(6)
سيأتي مفصلًا.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ خَرَجَ حَيًّا، ذُبِحَ وَأُكِلَ، وإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا، فَهُوَ مَيْتَةٌ)
(1)
.
وهذا هو المذهب الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أنه ينتظر حتى خروج الحيوان ثم ينظر، ومما لا خلاف فيه أنه إذا خرج الجنين ميتًا فهو ميتة، سواء كانت الأم ذُبحت أم لم تذبح
(2)
، وإن خرج حيًّا يذبح ويؤكل
(3)
.
• قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَكَاةَ الأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ
(4)
، بَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ تَمَامَ خِلْقَتِهِ، وَنَبَاتَ شَعْرِهِ
(5)
، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ).
وهذا هو المذهب الثالث في المسألة: وهو مذهب المالكية؛ فقد وافقوا الجمهور، غير أنهم اشترطوا أن يخرج الجنين تام الخلقة، وقد نبت شعر رأسه.
• قوله: (وَسَبَبُ اختِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الأثَرِ المَرْوِيِّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ).
ضعف الحنفية حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
(6)
، ولكن لا اعتبار
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 293)؛ حيث قال:" (ولم يتذكَّ جنين بذكاة أمه)؛ أي: لا يصير الجنين مذكًّى بذكاة أمه حتى لا يحل أكله بذكاتها وهذا عند أبي حنيفة".
(2)
تقدَّم بيان مذاهبهم، وما ذكره الشارح هنا هو مذهب الحنفية ولعله سبق لسان.
(3)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 321)؛ حيث قال:"وأجمعوا أن الجنين إذا خرج حيًّا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له".
(4)
وهم الجمهور.
(5)
وهم المالكية، وتقدَّم مفصلًا.
(6)
تأول الحنفية هذا الحديث، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 304)؛ حيث قال: =
لمخالفتهم هذه؛ لأن الحديث صحيحٌ
(1)
، وقد وردت له طرقٌ عديدةٌ
(2)
، حتى أوصله بعض العلماء لرتبة التواتر؛ لكثرة طرقه
(3)
.
• قوله: (مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلأُصُولِ).
لأن الأصل فيما يؤكل أن يذكّى، وهذا أكل بغير ذكاة، لكننا نقول: إنه داخل ضمن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"
(4)
: أن الجنين يدخل في تذكية أمه؛ لأنه جُزء منها فلا ينفصل عنها.
• قوله: (وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هُوَ: قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن البَقَرَةِ، أَوِ النَّاقَةِ، أَوِ الشَّاةِ يَنْحَرُهَا أَحَدُنَا، فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا، أَنَأْكُلُهُ أَوْ نُلْقِيهِ؟ فَقَالَ:"كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ"
(5)
. وَخَرَّجَ مِثْلَهُ التِّرْمِذِيُّ
(6)
،
= "حمله الإمام على التشبيه؛ أي: كذكاة أمه، بدليل أنه روي بالنصب، وليس في ذبح الأم إضاعة الولد لعدم التيقن بموته". يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (7/ 270)؛ حيث قال:"قيل له: لم يثبت هذا اللفظ في الحديث لاتفاق الرواة على إسقاطه، سوى أبي خالد الأحمر، ويحتمل أن يكون أبو خالد حمله على المعنى عنده؛ لأنه لما كان المعنى عنده أنَّ معنى: "كاته ذكاة أمه": أن ذكاته في ذكاة أمه، نقل ذلك".
(1)
صححه الألباني في "الإرواء"(2539). وانظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 385).
(2)
أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199)، وغيرهم، وانظر:"نصب الراية"، للزيلعي (4/ 189 - 192).
(3)
يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 385)؛ حيث قال:"قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: هو حديث صحيح؛ وتبع في ذلك إمامه؛ فإنه قال في "الأساليب": هو حديث صحيح لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده".
(4)
أخرجه أبو داود (2828)، وصححه الألباني.
(5)
أخرجه أبو داود (2827)، وغيره، وصححه الألباني.
(6)
أخرجه الترمذي (1476).
وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِي تَصْحِيحِ هَذَا الأثَرِ، فَلَمْ يُصَحِّحْهُ بَعْضُهُمْ
(2)
، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَحَدُ مَنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)
(3)
.
فائدتان:
1 -
كلمة "أو نلقيه" تنصرف إلى الميت لأن الحي لا يقال عنه: يلقى.
2 -
الإمام الترمذي رحمه الله لم يخرج حديث جابر رضي الله عنه، وإنما خرج حديث أبي سعيد رضي الله عنه
(4)
، وحديث أبي سعيد رواه الإمام أحمد
(5)
والخمسة إلا النسائي
(6)
، أما حديث جابرٍ فقد رواه أبو داود
(7)
، والحاكم
(8)
، والبيهقي
(9)
وغير هؤلاء
(10)
، وقد حسن الحديث، وليس كما قال المؤلف:"وصححه"
(11)
.
أما الذين لم يصححو الحديث فقولهم ضعيف؛ لأن الحديث قد صحَّ، فقد جاء عن بعض الطرق أنه حسنٌ، وعن بعضها أنه صحيحٌ
(12)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2828) عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ذكاة الجنين ذكاة أمه"، وصححه الألباني.
(2)
وممن ضعفها ابن حزم. ويُنظر: "المحلى"(6/ 96)؛ حيث قال: "وبالعيان ندري أن ذكاة الأم ليست ذكاة للجنين الحي
…
وقد احتج المخالفون بأخبار واهية
…
".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدم، وقال عقب روايته: "في الباب عن جابر
…
" وسيأتي.
(5)
أخرجه أحمد في "المسند"(11343).
(6)
أخرجه أبو داود (2828)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199)، وابن حبان (5889).
(7)
تقدَّم.
(8)
أخرجه الحاكم (4/ 127)
(9)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 561).
(10)
وأخرجه أيضًا الدارمي (2022)، والطبراني في "الأوسط"(8/ 101).
(11)
قال الترمذي (1476): "وفي الباب عن جابر، وأبي أمامة، وأبي الدرداء، وأبي هريرة: هذا حديث حسن".
(12)
يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 384 - 390)، و"نصب الراية"، للزيلعي (4/ 189 - 192)، و"التنقيح"، لابن عبد الهادي (4/ 648 - 651).
• قوله: (وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الأصْلِ فِي هَذَا البَابِ لِلأثَرِ، فَهُوَ أَنَّ الجَنِينَ إِذَا كانَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ بِمَوْتِ أُمِّهِ، فَإِنَّمَا يَمُوتُ خَنْقًا، فَهُوَ مِنَ المُنْخَنِقَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهَا).
يعتبر موت الحيوان خنقًا إذا لم يكن جُزءًا من أمه، أما كونه جُزءًا منها فلا يطلق عليه اسم الخنق، وقد بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مباح، ووجد هذا في عدة وقائع، بل إنه عندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: تذبح الناقة أو البقرة أو الشاة ويوجد في بطنها جنين ما يفعلون به أيلقون به؟ قال: "إن شئتم فكلوه"
(1)
؛ فكيف يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل، وهو من المنخنقة كما قال المؤلف.
• قوله: (وَإِلَى تَحْرِيمِهِ ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَلَمْ يَرْضَ سَنَدَ الحَدِيثِ)
(2)
.
لم يرض محمد بن حزم رحمه الله سند الحديث فضعفه، غير أن قوله ليس بحجة؛ لأن هناك من العلماء مَن هم أكثر منه علمًا وأمكن منه صنعة في الحديث، قد صحَّحوا وحسَّنوا هذا الحديث بجميع طرقه.
• قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُ القَائِلِينَ بِحِلِّيَّتِهِ فِي اشْتِرَاطِهِمْ نَبَاتَ الشَّعْرِ فِيهِ أَوْ لَا اشْتِرَاطِهِ، فَالسَّبَبُ فِيهِ مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْقِيَاسِ).
هذه الدعوى التي قالها المؤلف في المعارضة ليس مسلَّمًا بها، لأنه كما قال العلماء المحققون من الأصوليين الذين حققوا هذه المسألة: يستحيل أن يوجد قياسٌ صحيحٌ يعارض نصًّا صحيحًا صريحًا.
• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "ذَكَاةُ
(1)
تقدَّم تخريجه مفصلًا.
(2)
تقدَّم بيانه.
الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ"
(1)
، يَقْتَضِي أَلَّا يَقَعَ هُنَالِكَ تَفْصِيلٌ، وَكَوْنُهُ مَحَلًّا لِلذَّكَاةِ يَقْتَضِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الحَيَاةُ قِيَاسًا عَلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا التَّذْكيَةُ).
أدخل المؤلف قول أبي حنيفة مع قوله مالك، وجاء بقضية إكمال الشعر وكمال الخَلق وذكر ما يتعلَّق بالحياة
(2)
، أي: كونه خرج من بطن أمه ميِّتًا فلا يؤكل، فنجيب بأنَّ الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث هو الذي أحل لنا هذا.
• قوله: (وَالحَيَاةُ لَا تُوجَدُ فِيهِ إِلَّا إِذَا نَبَتَ شَعْرُه، وَتَمَّ خَلْقُه، وَيُعَضِّدُ هَذَا القِيَاسَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(3)
، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:"كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: إِذَا أَشْعَرَ الجَنِين، فَذَكَاتُهُ ذَكاةُ أُمِّهِ"
(4)
، وَرَوَى ابْنُ المُبَارَكِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ، أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ"
(5)
، إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الحِفْظِ عِنْدَهُمْ).
كل ما ذكره العلماء في هذه المسألة إنما هو احتياطًا، لكن أن يقال: بأنه لا يجوز أكله لأن الحديث عام، فهذه دعوى لا دليل عليها، فنبقى عند ظاهر النص، طالما أن النص لم يعارض بدليل مساوٍ له أو أقوى منه.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
وقصد المؤلف الاستدلال للقولين معًا، فالمالكية وإن قالوا بأن الجنين إن خرج ميتًا أُكل إلا أنهم اشترطوا نبات الشعر وتمام الخلقة فهذا دليل الحياة عندهم وأنه مات بالذكاة، كما سيبين.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(14/ 500)، عن نافع، عن ابن عمر، قال في الجنين:"إذا خرج ميتًا، وقد أشعر، أو وبر فذكاته ذكاة أمه".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 500).
(5)
أخرجه الدارقطني (5/ 489)، وصحح وقفه.
• قوله: (وَالقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَكاتُهُ فِي ذَكاةِ أُمِّهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا).
يؤكد المؤلف مرة أُخرى على مذهب جمهور العلماء بدليل عقلي، والقياس يقتضي أن تكون ذكاة أمه ذكاةً له لأنه جُزء منها، فهو بضعة منها، وما دام بضعة منها فهو يعامل معاملتها، لكن إذا انفصل عنها وخرج حيًّا فحينئذٍ تغيرت الحال، أو خرج عنها ميتًا وهي حية فحينئذٍ يختلف الحال أيضًا.
• قوله: (وَإِذَا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لاشْتِرَاطِ الحَيَاةِ فِيهِ
(1)
، فَيَضْعُفُ أَنْ يُخَصَّصَ العُمُومُ الوَارِدُ فِي ذَلِكَ بِالقِيَاسِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(2)
).
المؤلف رحمه الله مع أنه مالكي المذهب، وهو لا يرجح كثيرًا، لكنه عندما يرجِّح لا يميل أو يتعصب لمذهب مالك، بل يأخذ بالدليل الذي يظهر عنده، وهو بشر قد يجتهد في مسألة فيصيب وقد يخطئ، لكن الظاهر أنه يتحرى في الوصول إلى الصواب، وهذا من إنصافه رحمه الله.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الجَرَادِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، وَذَكَاتُهُ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ إِمَّا بِقَطْعِ رَأْسِهِ، أَوْ يِغَيْرِ ذَلِكَ
(3)
،
(1)
وهو مذهب الحنفية في شرط الحياة، ومذهب المالكية في اشتراط الإشعار، كما تقدَّم بيانه.
(2)
يقصد قوله: كونه محلًّا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسًا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية، والحياة لا توجد فيه إلا إذا نبت شعره وتم خلقه.
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 114)؛ حيث قال: " (وافتقر) على المشهور (نحو الجراد) من كل ما ليس له نفس سائلة (لها)؛ أي: للذكاة بنية وتسمية لكن ذكاته (بما)؛ أي: بأي فعل (يموت به) إن عجل الموت كقطع الرقبة بل (ولو لم يعجل)؛ أي: كان شأنه عدم تعجيله (كقطع جناح) أو رجل أو إلقاء في ماء بارد، ولا يؤكل =
وَقَالَ عَامَّةُ الفُقَهَاءِ
(1)
: يَجُوزُ أَكْلُ مَيْتَتِهِ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ
(2)
، وَذَكَاةُ مَا لَيْسَ بِذِي دَمٍ عِنْدَ مَالِكٍ كذَكَاةِ الجَرَادِ
(3)
).
يقول علماء اللغة: الجراد جمع جرادة، وإنما سُمِّي جرادًا؛ لأنه يجرد ما يقع فيه أي: يمسحه
(4)
، وقال بعضهم: سُمِّي جرادًا؛ لأنه أملس فهو مأخوذ من مادة جرد يجرد فكأنه أجرد؛ أي: أملس
(5)
.
والجراد هو الحيوان الذي يطير، وهو نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، لكن قد يترتب عليه أضرار كبيرة كأكل المحصولات ونحوها؛ فيكون ضرره أكبر من نفعه، أما في الأزمنة السابقة فإنهم كانوا يتسابقون ويعلنون ذلك في الملأ، فتجد المنادي ينادي أن الجراد يوجد في المكان الفلاني، فيخرج كل إنسان بكيس أو نحو ذلك، ثم يجمعون من ذلك مجموعة كبيرة ويتقوَّتون منه طول العام؛ لأنه بمثابة اللحم والدجاج.
اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم أكل الجراد:
مذهب مالك رحمه الله: أن يقطع رأسه ويشوى؛ أي: أن نضع شيئًا من الزيت على النار فنقليه فيه، أو نأتي إلى قدر قد حُمِّي في النار فنلقيه في
= ما قطع منه، ولكن لا بد من تعجيل الموت، فإن لم يحصل تعجيل فإنه بمنزلة العدم، ولا بد من ذكاة أُخرى بنية وتسمية، كذا قيدها أبو الحسن واعتمد بعضهم الإطلاق".
(1)
سيأتي تفصيل مذاهبهم.
(2)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (3/ 129)؛ حيث قال: "أما ما يحتاج إلى ذكاة فهو كالجراد والحلزون
…
فإن ماتت بغير سبب بعد أن اصطيدت حية فقد أجاز أكلها سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وقالا: أخذها ذكاتها ولو وجدت ميتة لم يجز عندهما أكلها وأجاز ذلك مطرف من رواية ابن حبيب عنه".
(3)
تقدَّم قبل قليل بيانه.
(4)
يُنظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 446)؛ حيث قال:"وسمي الجراد جرادًا لأنه يجرد الأرض فيأكل ما عليها".
(5)
لم نقف على هذا الوجه.
هذا القدر حتى يستوي
(1)
.
وعنده أيضًا ما لا دم له سائل كالنمل ونحوه يزكي كزكاة الجراد
(2)
.
مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
وبه قال مطرّف
(6)
: أن الجراد لا يحتاج إلى أن يذبح، بل لو وجد ميتًا فإنه يجوز أكله ولا أثر لذلك.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَيْتَةِ الجَرَادِ، هُوَ: هَلْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ المَيْتَةِ أَمْ لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وَللْخِلَافِ سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ: هَلْ هُوَ نَثْرَةُ حُوتٍ
(7)
أَوْ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ).
ناقش المؤلف هذه المسألة مناقشة عقلية مع أن فيها دليلين من السُّنة:
- الدليل الأول: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد"
(8)
.
- والدليل الثاني: حديث عبد الله بن أبي أوفى المتفق عليه: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل فيها الجراد"
(9)
.
(1)
تقدَّم بيانه.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 294)؛ حيث قال: " (حرم حيوان من شأنه الذبح) خرج السمك والجراد فيحلان بلا ذكاة".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 113)؛ حيث قال:" (وتحل ميتة السمك والجراد) بالإجماع، وسواء في ذلك ما صيد حيًّا ومات وما مات حتف أنفه".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 203)؛ حيث قال: " (فلا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه من الصيد والأنعام والطير إلا بالذكاة إن كان مما يعيش في البر)
…
(إلا الجراد وشبهه)
…
(ولو مات بغير سبب من كبس وتغريق) ".
(6)
تقدَّم بيانه.
(7)
يُنظر: "عمدة القاري"، للعيني (10/ 164)؛ حيث قال:"واختلف في قوله: (نثرة حوت)، فقيل: عطسته، وقيل: هو من تحريك النثرة، وهو طرف الأنف".
(8)
أخرجه ابن ماجه (3314)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(9)
أخرجه البخاري (5495)، أخرجه مسلم (52 - 1952).
إذن؛ قد ورد نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اجتهاد مع النص
(1)
، إذن الأمر لا ينبغي أن يكون فيه خلاف.
أما من اختلف من الفقهاء في حكم ميتة الجراد فيرجع سبب اختلافهم إلى سببين:
- السبب الأول: هل الجراد يتناوله اسم الميتة أم لا؟
يجاب عن ذلك: يتناوله اسم الميتة لكن الآية وهي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} خُصت بحديث: "أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد"
(2)
.
- السبب الثاني: هل الحوت ينثره فيخرج إلي البر وينتشر، أو هو من الأصل توالد في البر
(3)
.
الجواب: هذه مسألة أُخرى لا تهمنا، لأن معنا حديثين
(4)
ثبتا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد أقرَّ بذلك، وأقرَّه أصحابه رضي الله عنهم عليه؛ فلا ينبغي أن يكون ثمة خلاف في هذه المسألة.
• قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ
(5)
،
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 352) عن عطاء بن يسار: "أن كعب الأحبار أقبل من الشام في ركب
…
ثم لما كانوا ببعض طريق مكة مرت بهم رجل من جراد؛ فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه، فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا له ذلك فقال: ما حملك على أن تفتيهم بهذا؟ قال: هو من صيد البحر. قال: وما يدريك؟ قال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين".
(4)
تقدَّم تخريجهما.
(5)
لا يحل عند الحنفية والشافعية أكله. ويُنظر: "حاشية ابن ى بدين"(6/ 146)؛ حيث قال: " (وما يعيش في بر وبحر كضفدع)
…
(وسرطان)
…
(وحية)
…
وسلحفاة
…
وتمساح (حرام) ".
وينظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 146)؛ حيث قال:"وما يعيش في بر وبحر: كضفدع وسرطان وحية حرام".
هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَكاةٍ أَمْ لَا؟ فَغَلَّبَ قَوْمٌ فِيهِ حُكْمَ البَرِّ
(1)
، وَغَلَّبَ آخَرُونَ حُكْمَ البَحْرِ
(2)
، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ حَيْثُ يَكُونُ عَيْشُهُ وَمُتَصَرَّفُهُ مِنْهُمَا غَالِبًا
(3)
).
اتفق الفقهاء جميعًا على أن طائر الماء الذي يخرج من الماء طائرًا لا بدَّ من تزكيته
(4)
.
(1)
وهم الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 204)؛ حيث قال: " (وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر ككلب الماء وطيره وسلحفاة وسرطان ونحو ذلك لم يبح المقدور عليه منه إلا بالتذكية)
…
(وذكاة السرطان أن يفعل به ما يموت به) بأن يعقر في أي موضع كان
…
".
(2)
وهم المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، للمواق (1/ 124)؛ حيث قال:" (والبحري ولو طالت حياته ببر) ابن عرفة: رابع الأقوال قول مالك: إن البحري ولو طالت حياته ببر كالضفدع والسلحفاة وترس الماء طاهر، قال في "العتبية": إنما يذبح ترس الماء استعجالًا لموته
…
وأما ميتة الضفادع البرية فنجسة".
(3)
مذهب لبعض المالكية، ويُنظر:"المنتقى"، للباجي (3/ 129)؛ حيث قال:"وروى عيسى عن ابن القاسم ما كان مأواه في الماء فإنه يؤكل بغير ذكاة، وإن كان يرعى في البر وكان مأواه ومستقره في البر فإنه لا يؤكل إلا بذكاة وإن كان يعيش في الماء".
(4)
وهو قول الجمهور، خلافًا لعطاء فقد جعله من صيد البحر.
وينظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 216)؛ حيث قال:"وحكي عن عطاء أنه قال: حيث يكون أكثر، فهو صيده".
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 472)؛ حيث قال: "ذكر في الخانية إن وقع في ماء فمات لا يؤكل لعل أن وقوعه في الماء قتله، ويستوي في ذلك طير الماء لأن طير الماء إنما يعيش في الماء غير مجروح".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"شرح الزرقاني على خليل"(1/ 40)؛ حيث قال: " (والبحري ولو طالت حياته ببر) ابن مرزوق لا يؤكل طير الماء إلا بذكاة خلافًا لعطاء".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 109)؛ حيث قال: "لو رمى طير الماء، وهو فيه فأصابه، ومات حل، والماء له كالأرض لغيره، وإن كان الطير في هواء الماء
…
ولو كان الطير خارج الماء فرماه فوقع في الماء سواء كان الرامي في الماء أم خارجه حرم". =
واختلف الفقهاء في الحيوان الذي يعيش في البر والبحر، مثل السلحفاة والضفدع وغيرهما.
يرى بعض الفقهاء أن الذي يعيش في البر من حيوانات البحر كله يحتاج إلى ذكاة، إلا أنهم يستثنون من ذلك السرطان؛ لأنه لا دم له وهم الحنابلة
(1)
، وبعضهم يستثني من ذلك الضفدع وهم الشافعية
(2)
.
• قوله: (فَغَلَّبَ قَوْمٌ فِيهِ حُكْمَ البَرِّ، وَغَلَّبَ آخَرُونَ حُكْمَ البَحْرِ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ حَيْثُ يَكُونُ عَيْشُهُ وَمُتَصَرَّفُهُ مِنْهُمَا غَالِبًا)
(3)
.
سبب اختلاف الفقهاء في ذلك: اختلافهم هل يعيش في البر أو في البحر، فإن كان يعيش في البر فلا بد من تزكيته، وإن كان في البحر فلا حاجة لتزكيته.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّانِي فِي الذَّكَاةِ
وَفِي قَوَاعِدِ هَذَا البَابِ مَسْأَلَتَان، المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ المُخْتَصَّةِ بِصِنْفٍ صِنْفٍ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ. الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الذَّكاةِ).
= ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 211)، حيث قال." (وإن ذبحه فغرق المذبوح في ماء) يقتله مثله (أو وطئ عليه شيء يقتله مثله لم يحل) لحديث عدي بن حاتم في الصيد:"وإن وقت في الماء فلا تؤكل"، ولأن ذلك سبب يعين على زهوق الروح فيحصل الزهوق من سبب مبيح ومحرم فيغلب التحريم؛ فإن كان مما لا يقتله مثله كطير الماء يقع فيه أو طير وقع بالأرض لم يحرم".
(1)
تقدَّم بيان مذهبهم.
(2)
بل عند الشافعية لا يحل أكله، وتقدم قبل قليل.
(3)
تقدَّم مفصلًا.
بهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم، وهي التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله:{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28].
• قوله: (المَسْأَلَةُ الأوْلَى: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الذَّكاةَ فِي بَهِيمَةِ الأنْعَامِ نَحْرٌ وَذَبْحٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الغَنَمِ وَالطَّيْرِ الذَّبْحَ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الإِبِلِ النَّحْرَ، وَأَنَّ البَقَرَ يَجُوزُ فِيهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ)
(1)
.
السنة في الغنم: الذبح سواء كان ضأنًا أو ماعزًا، وكذلك الطيور، والسنة في الإبل أن تنحر، وأما البقر فيجوز فيه الأمرين، الذبح والنحر فيه سيان.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ النَّحْرُ فِي الغَنَمِ وَالطَّيْرِ، وَالذَّبْحُ فِي الإِبِلِ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّحْرُ فِي الغَنَمِ وَالطَّيْرِ، وَلَا الذَّبْحُ فِي الإِبِلِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ
(2)
. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَة مِنَ العُلَمَاءِ)
(5)
.
(1)
يُنظر: "الاقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 317)؛ حيث قال:"والأمة مجمعة على أن ما نحر من الإبل وذبح من البقر والغنم مذكٍّى"، وسيأتي مفصلًا.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 107)؛ حيث قال: " (و) وجب (نحر إبل) وزرافة (و) وجب (ذبح غيره) من غنم وطير، ولو نعامة فإن نحرت، ولو سهوًا لم تؤكل
…
(إن قدر وجازا للضرورة)، أي: جاز الذبح في الإبل والنحر في غيرها للضرورة كوقوع في مهواة أو عدم آلة ذبح أو نحر".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 104)؛ حيث قال:" (ويجوز) بلا كراهة كما في أصل "الروضة" (عكسه) وهو ذبح إبل ونحوها ونحر بقر وغنم ونحوهما لعدم ورود نهي فيه".
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 303)؛ حيث قال: " (وحب) بالحاء (نحر الإبل) في سفل العنق (وكره ذبحها، والحكم في غنم وبقر عكسه) فندب ذبحها (وكره نحرها لترك السُّنة) ".
(5)
يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 43)؛ حيث قال: "اختلفوا في ذبح ما ينحر من =
اختلف الفقهاء في جواز النحر في الغنم والطير، والذبح في الإبل: أكثر العلماء وهم الشافعي وأبو حنيفة وأحمد
(1)
والثوري: يجيزون ذلك من غير كراهة، وهم قد أخذوا برحابة الشريعة، واتساع أفقها في التيسير ورفع الحرج.
أما المالكية: فلا يجيزون النحر في الغنم والطير، ولا الذبح في الإبل في غير الضرورة، وهم في هذه المسائل يدققون ويحتاطون أكثر من غيرهم.
• قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(2)
: إِنْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ أُكِلَ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ).
أشهب رحمه الله من أصحاب مالك
(3)
، ويلاحظ أن المؤلف في هذه الأبواب خرم قاعدته، فبدأ يدخل في الفروع والتفصيلات في مذهب مالك، حتى نسي أن يذكر آراء بقية الفقهاء، ومن المعلوم أن الذبح والنحر يشبه كل منهما الآخر، فقول أشهب بالكراهة قول يحتاج إلى دليل.
• قوله: (وَفَرَّقَ ابْنُ بُكَيْرٍ بَيْنَ الغَنَمِ وَالإِبِلِ، فَقَالَ: يُؤْكَلُ البَعِيرُ وَلَا تُؤْكَلُ الشَّاةُ بِالنَّحْرِ
(4)
، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ
= الإبل، وبنحر ما يذبح من البقر والغنم، فأباح أكثر أهل العلم؛ أي: فعل ذلك المذكى جاز، هذا قول عطاء بن أبي رباح، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والنعمان، وأبي ثور، وهو قول الزهري، وقتادة، والثوري، والليث بن سعد".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 207)؛ حيث قال:" (فإن عكس) بأن ذبح البعير ونحر غيره (أجزأه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنهر الدم بما شئت"".
(2)
يُنظر: "المقدمات"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 429)؛ حيث قال: "وقد اختلف فيمن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح من غير ضرورة
…
وقال أشهب: يؤكل كان ساهيًا أو متعمدًا".
(3)
يُنظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء"، للذهبي (9/ 500 - 551).
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 429)؛ حيث قال "وقال ابن بكير: إن ذبح البعير أكل، وإن نحرت الشاة لم تؤكل، وتذبح النعامة ولا تنحر. قاله ابن القاسم".
فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ)
(1)
.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لنا قاعدة ثابتة: "ما أنهر الدم"
(2)
فأمرنا بأن نأكل منه.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الفِعْلِ لِلْعُمُومِ، فَأَمَّا العُمُومُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا"
(3)
، وَأَمَّا الفِعْلُ فَإِنَّهُ ثَبَتَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الإِبِلَ وَالبَقَرَ وَذَبَحَ الغَنَمَ"
(4)
).
سبب اختلاف الفقهاء: هو العموم الذي جاء في الحديث: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر"
(5)
كما جاء في الحديث؛ أي: سال دمه.
وأما الفعل: فقد ثبت أن رسول صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثًا وستين بدنة نحرها بيده صلى الله عليه وسلم وأعطى عليًّا باقيها، كما جاء في حديث جابر الطويل الذي وصف لنا كيف كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيح
(6)
؛ إذن هذا أثبت النحر بالنسبة للإبل، وثبت أن رسول صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين ذبحهما بيده
(7)
، إذن ثبت الذبح بالنسبة للغنم، وثبت في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحَّى ببقرة ذبحها لنسائه
(8)
، وورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر البقرة، إذن بالنسبة للبقر ثبت النحر والذبح، وبالنسبة للإبل ثبت النحر فقط، وبالنسبة للغنم ثبت الذبح فقط.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 107)؛ حيث قال: " (وجازا للضرورة)؛ أي: جاز الذبح في الإبل والنحر في غيرها للضرورة كوقوع في مهواة أو عدم آلة ذبح أو نحر".
(2)
أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968).
(3)
تقدَّم.
(4)
سيأتي.
(5)
تقدَّم.
(6)
أخرجه مسلم (1218).
(7)
أخرجه البخاري (1551)، ومسلم (1966).
(8)
أخرجه البخاري (1720)، ومسلم (1211)، "
…
قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه".
• قوله: (وإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَبْحِ البَقَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وَعَلَى ذَبْحِ الغَنَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]).
مراد المؤلف أن الله سبحانه وتعالى عندما أشار إلى البقر في سورة البقرة قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، وعندما جاء الكلام عن الذبيح قال سبحانه:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} ذِبح؛ أي: مذبوح، وهذا المذبوح إنما هو كبش
(1)
.
فديننا دين اليسر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"
(2)
، وقال:"إن الدِّين يسر ولن يشادَّ الدِّين أحد إلا غلبه"
(3)
أما أن نتشدد في بعض المسائل دون أن يكون عندنا مستند فهذا لا ينبغي، فالتشدد يكون في مسائل العقيدة لأنها توقيفية لا يجوز للإنسان أن يتصرف فيها، أو في بعض العبادات التوقيفية التي وردت فيها نصوص قطعية على مسائل معينة لا تحتمل غيرها، أما المسائل التي فيها خلاف، وتتعارض فيها النصوص، أو فيها نصوص عامة، فلا ينبغي أن نقيد هذه النصوص بقياس من الأقيسة أو برأي من الآراء، بل يلزم أن نتوقف ونتحرى ونحرر المسائل.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا صِفَةُ الذَّكاةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ الوَدَجَان
(4)
، وَالمَرِيءُ
(5)
، وَالحُلْقُومُ
(6)
، مُبِيحٌ
(1)
يُنظر: "تفسير الجلالين"(594)، " {وَفَدَيْنَاهُ}؛ أي: المأمور بذبحه وهو إسماعيل أو إسحاق قولان {بِذِبْحٍ} بكبش {عَظِيمٍ} من الجنة".
(2)
أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1732).
(3)
أخرجه البخاري (39).
(4)
الودجان: عرقان عظيمان عن يمين ثغرة النحر ويسارها. انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (6/ 256).
(5)
المريء: مدخل الطعام والشراب. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (8/ 84).
(6)
الحلقوم والحنجور وهو مخرج النفس: لا يجري فيه الطعام والشراب. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (4/ 216).
لِلْأَكْلِ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ)
(2)
.
الودجان: هما عرقان كبيران يكونان في مقدمة العنق، يقال: يفري
(3)
الودجين كما جاء في الحديث
(4)
، أو يقطع الودجين.
والمريء: هو الذي يمر به الطعام.
والحلقوم: هو الذي يمر به النفس.
وحتى تكون الذبيحة حلالًا لا بدَّ من قطع هذه الأربعة، وقد اتفق الفقهاء أن قطع هذه الأربعة مبيحٌ للأكل وهذا هو الأكمل والأشمل
(5)
، واختلف الفقهاء في قطع بعضها
(6)
.
الشافعية
(7)
، والحنابلة
(8)
، قالوا: يكفي قطع الحلقوم والمريء.
(1)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 318)؛ حيث قال:"واتفق الجميع على أن الرجل إذا ذبح وسمَّى وقطع الحلقوم والمريء و (الودجين) جميعًا وأسال الدم أن الشاة ذكية".
(2)
سيأتي مفصلًا.
(3)
أي: شققها فأخرج ما فيها من الدم. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (15/ 174).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 467)، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض ناب أو حز ظفر".
وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2029).
(5)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 318)؛ حيث قال:"واتفق الجميع على أن الرجل إذا ذبح وسمَّى وقطع الحلقوم والمريء و (الودجين) جميعًا وأسال الدم أن الشاة ذكية".
(6)
سيأتي مفصلًا.
(7)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (6/ 103)؛ حيث قال:"وذكاة كل حيوان قدر عليه بقطع كل الحلقوم، وهو مخرج النفس والمريء وهو مجرى الطعام، ويستحب قطع الودجين".
(8)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 202)؛ حيث قال: "الشرط (الثالث أن يقطع الحلقوم
…
وأن يقطع المريء)
…
(ولا يشترط قطع الودجين) ".
الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، قالوا: لابدَّ من قطع ثلاثة من أربعة
(3)
.
والخلاف يدور حول حديث: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا"
(4)
؛ فإنهار الدم هل يحصل بقطع الحلقوم والمريء أو لا يحصل، وهل يحصل بقطع الودجين فقط أم لا.
• قوله: (أَحَدُهَا: هَلِ الوَاجِبُ قَطْعُ الأَرْبَعَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا؟ وَهَلِ الوَاجِبُ فِي المَقْطُوعِ مِنْهَا قَطْعُ الكُلِّ أَوِ الأكثَرِ؟).
عندما يقطع الحلقوم لا يلزم أن يستأصله، وكذلك المريء، بل يكفي أن يشكه وينفذ إليه، وعلى كلٍّ فالغاية إنما هو ذهاب الحياة وألا يعذِّب الحيوان، فلا ينبغي للمسلم أن يأتي بسكينة رديئة ويُجرجر في الحيوان؛ فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"
(5)
.
• قوله: (وَهَلْ مِنْ شَرْطِ القَطْعِ أَلَّا تَقَعَ الجَوْزَةُ إِلَى جِهَةِ البَدَنِ، بَلْ إِلَى جِهَةِ الرَّأْسِ؟)
(6)
.
الجوزة: هي رأس الحلقوم
(7)
، وقيل: هي اللحم الذي يأتي بين الرأس والعنق؛ أي: الذي يأتي في المفصل وهما قريبان من بعض،
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 295)؛ حيث قال: " (والمريء)
…
(والودجان) مجرى الدم (وحل) المذبوح (بقطع؛ أي: ثلاث منها)
…
".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي"(2/ 154 - 155)؛ حيث قال: "الذبح
…
(قطع مميز)
…
(مسلم أو) كافر (كتابي)
…
(جميع الحلقوم)
…
(و) جميع (الودجين)
…
ولا يشترط قطع المريء".
(3)
وهذا مذهب الحنفية، ومذهب المالكية قطع الحلقوم مع الودجين، وتقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
أخرجه مسلم (1955).
(6)
سيأتي تفصيله.
(7)
الجوزة: التي هي الغلصمة، انظر:"شرح زروق على الرسالة"(1/ 582).
وبعضهم يقول: ما يفصل العنق عن الرقبة، وهي أقوال متقاربة
(1)
.
• قوله: (وَهَلْ إِنْ قَطَعَهَا مِنْ جِهَةِ العُنُقِ جَازَ أَكلُهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ إِنْ تَمَادَى فِي قَطْعِ هَذِهِ حَتَّى قَطَعَ النُّخَاعَ، جَازَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟)
(2)
.
من المسائل أيضًا: إذا رفع الذابح يده فذبح قريبًا من اللحية فحينئذ لم يقطع الأربعة التي يجب قطعها، فهل هذا الذبح إذا أنهر الدم يكون مبيحًا للحيوان، في المسألة خلاف
(3)
، وأكثر المذاهب تيسيرًا في ذلك هم الشافعية والحنابلة
(4)
.
من المسائل التي ستبحث أيضًا: إذا جاء بالحيوان من الخلف وذبحه حتى وصل إلى الودجين والحلقوم والمريء هل يكون هذا مبيحًا للحيوان أم لا؟
هذا خلاف السُّنة، لكن إذا نفذ ففيه خلاف بين العلماء.
المالكية
(5)
يمنعون الأكل من هذا الحيوان؛ لأنه ينفذ إلى المقاتل، وربما يموت الحيوان قبل أن يصل إلى المواضع المشروعة في الذبيحة.
من المسائل أيضًا: إذا تمادى الإنسان في الذبح فقطع الحلقوم والمريء والودجين، واستمر في سكينة حادة حتى قطع النخاع هل هذا يؤثر إن قطع الرأس كلها خرج أو أنه كما هو السنة يقطع هذه الأُمور الأربعة أو بعضها، ثم يترك هذا الحيوان يخلو دمه ويرتاح ثم بعد ذلك يتم ذلك
(6)
، هذا هو الذي جاء في الحديث:"أحسنوا الذبحة"
(7)
.
(1)
قيل: الموضع الناتئ في الحلق، وقيل: الغلصمة اللحم الذي بين الرأس والعنق، وقيل: متصل الحلقوم بالحلق إذا ازدرد الآكل لقمته فزلت عن الحلقوم، وقيل: هي العجرة التي على ملتقى اللهاة والمريء. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (12/ 441).
(2)
ستأتي مفصلة.
(3)
سيأتي تفصيله.
(4)
تقدَّم ذكرها.
(5)
سيأتي بيانه.
(6)
سيأتي مفصلًا.
(7)
تقدَّم.
• قوله: (وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ أَلَّا يَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُتِمَّ الذَّكاةَ أَمْ لَا؟)
(1)
.
ينبغي للذي يذبح أن يكون على علم بالذبح، فبعض الناس تعلوه رهبة؛ لأنه لم يتعود أن يذبح الحيوان، إذن لا بدَّ أن يكون الذابح جريئًا، ولا ينبغي له أن يعذب الحيوان، فيقطع قليلًا من الودجين مثلًا ثم يرفع السكين.
• قوله: (فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ: فِي عَدَدِ المَقْطُوعِ، وَفِي مِقْدَارِهِ، وَفِي مَوْضِعِهِ، وَفِي نِهَايَةِ القَطْعِ، وَفِي جِهَتِهِ، أَعْنِي: مِنْ قُدَّامٍ أَوْ خَلْفٍ، وَفِي صِفَتِهِ. أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولي وَالثَّانِيَةُ فَإِنَّ المَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ هُوَ قَطْعُ الوَدَجَيْنِ وَالحُلْقُومِ
(2)
، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ عَنْهُ: بَلِ الأَرْبَعَةُ
(3)
. وَقِيلَ: بَلِ الوَدَجَانِ فَقَطْ
(4)
، وَلَمْ يَخْتَلِفِ المَذْهَبُ فِي أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَطْعِ الوَدَجَيْنِ هُوَ اسْتِيفَاؤُهُمَا
(5)
.
المالكية لهم في هذه المسألة عدة أقوال
(6)
:
(1)
سيأتي.
(2)
تقدَّم بيان مذهبه.
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 210)؛ حيث قال:"فإن قطع الحلقوم والودجين دون المريء فالمشهور صحة الذكاة، وروى أبو تمام أنها لا تصح إلا بقطعه، وعزا ابن زرقون هذا القول لأبي تمام لا لروايته وعزاه عياض لرواية العراقيين".
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 210)؛ حيث قال:"وإن قطع الودجين، وترك الحلقوم لم تؤكل على المنصوص، وأخذ اللخمي وابن رشد عدم اشتراط الحلقوم من مسألة الصيد يفري أوداجه، وقول مالك فيها قد تمت ذكاته وقوله في "المبسوط": إذا ذبح ذبيحة فقطع أوداجها، ثم وقعت في ماء لا بأس بأكلها".
(5)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: " (و) قطع جميع (الودجين)، وهما عرقان في صفحتي العنق يتصل بهما أكثر عروق البدن، ويتصلان بالدماغ فلو قطع أحدهما، وأبقى الآخر أو بعضه لم تؤكل".
(6)
تقدَّمت مفصَّلة.
الأول: هو أنه لابدَّ من قطع الودجين والحلقوم وهذا هو المشهور عن مالك رحمه الله.
الثاني: أنه لا بدَّ من قطع الأربعة.
الثالث: الواجب هو قطع الودجين فقط.
لكن المالكية لم يختلفوا في وجوب استيفاء قطع الودجين، فلا يجزئ جرحهما فقط دون قطعهما.
• قوله: (وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الحُلْقُومِ عَلَى القَوْلِ بِوُجُوبِهِ، فَقِيلَ: كُلُّهُ
(1)
، وَقِيلَ: أَكْثَرُهُ
(2)
. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، فَقَالَ: الوَاجِبُ فِي التَّذْكيَةِ هُوَ قَطْعُ ثَلَاثَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأرْبَعَةِ، إِمَّا الحُلْقُومُ وَالوَدَجَانِ، وَإِمَّا المَرِيءُ وَالحُلْقُوم، وَأَحَدُ الوَدَجَيْنِ، أَوِ المَرِيءُ وَالوَدَجَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: الوَاجِبُ قَطْعُ المَرِيءِ وَالحُلْقُومِ فَقَطْ).
في مذهب أبي حنيفة رحمه الله يصح له أن يقطع الودجين ومعهم الحلقوم، أو يقطع الحلقوم والمريء وواحد من الودجين.
أما عند الإمام الشافعي وأحمد
(5)
: لو اقتصر على المريء والحلقوم لكفاه ذلك.
وسبب هذا الخلاف والتشدد عند بعض الفقهاء: هو الاحتياط؛ لأن
(1)
وهو المشهور. وينظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: " (تمام)؛ أي: جميع (الحلقوم) ".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: " (تمام)؛ أي: جميع (الحلقوم)، ولو عبر به كان أولى، وهو المصبة التي يجري فيها النفس فلو انحازت الجوزة كلها إلى البدن لم تؤكل على الراجح، وذهب ابن وهب وغيره إلى جواز أكلها
…
جرى على قوله ابن القاسم وسحنون في "الاكتفاء" بنصف الحلقوم، وعدمه".
(3)
تقدَّم بيان مذهبه.
(4)
تقدَّم بيان مذهبه.
(5)
تقدَّم بيان مذهبه.
هذا حيوان سيذكى، وهذه الذكاة هي السبب المبيح لأكل هذا الحيوان.
• قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: الوَاجِبُ قَطْعُ أَكْثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَرْبَعَةِ)
(1)
.
رأي محمد بن الحسن هو أن يُمر على الأربعة، فيقطع أكبر جُزء من كل واحد من الأربعة، ولا يشترط أن يستأصلها كاملة.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ شَرْطٌ مَنْقُولٌ، وإِنَّمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي إِنْهَارَ الدَّمِ فَقَطْ، وَالآخَرُ يَقْتَضِي قَطْعَ الأَوْدَاجِ مَعَ إِنْهَارِ الدَّمِ؛ فَفِي حَدِيثِ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ"
(2)
، وَهُوَ حَدِيث مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
سبب اختلاف الفقهاء: أنه لم يأتِ نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شرط منقول، إنما قال:"ما أنهر الدم"، وجاء في حديث آخر ضعيف ذكر الودجين
(3)
؛ فإذا أخذنا بإطلاق هذا الحديث: "ما أنهر الدم"، والذبائح تتكرر في الأضاحي والهدي وفي المناسبات مثل الزواج وغيره، ومع ذلك لم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك وإنما أطلق، فكأنما هذا كان أمرًا معروفًا عندهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فحين يقول صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدم" يضع لنا القاعدة، التي نبني عليها التزكية الصحيحة، وهي سَيَلان الدم، وشبه الدم بأنه نهر يجري، وأضاف إليها الرسول صلى الله عليه وسلم التسمية، وهذا الحديث كما قال المؤلف متفق على صحته ورواه أيضًا غير البخاري ومسلم
(4)
.
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 291)؛ حيث قال:"وعن محمد لا بد من قطع أكثر كل واحد من هذه الأربعة".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
أخرجه أيضًا أبو داود (2821)، وغيره.
• قوله: (وَرُوِيَ عَن أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا فَرَى الأَوْدَاجَ فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ رَضَّ نَابٍ، أَوْ نَخْوَ ظُفُرٍ)
(1)
.
يقال: فلان يفري فريًا؛ أي: يقطع قطعًا، "فكلوا ما لم يكن رضَّ نابٍ أو نخر ظفر"، لكن هذا الحديث ضعيف
(2)
، وهذا الذي جعل الشافعية والحنابلة يتمسكون برأيهم ويقفون عنده؛ لأن الحديث لو صح لتغيَّر الحكم.
ورض ناب
(3)
إنما هو شيء من القطع، تأتي بناب فتقرض فيه الشيء، وكذلك النخر بالظفر
(4)
، وسيأتي الكلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى من ذلك السن والظفر
(5)
، واختلفوا في العظم، مع أنه ورد في حديث "الذبح بالعظم وبالحجر"
(6)
.
• قوله: (فَظَاهِرُ الحَدِيثِ الأوَّلِ يَقْتَضِي قَطْعَ بَعْضِ الأَوْدَاجِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ إِنْهَارَ الدَّمِ يَكُونُ بِذَلِكَ، وَفِي الثَّانِي قَطْعُ جَمِيعِ الأَوْدَاجِ، فَالحَدِيثَان - وَاللهُ أَعْلَمُ - مُتَّفِقَان عَلَى قَطْعِ الوَدَجَيْنِ؛ إِمَّا أَحَدُهُمَا، أَوِ البَعْضُ مِنْ
(1)
لم نقف عليه بلفظ المؤلف، وأخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 467) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض ناب أو حز ظفر". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2029).
(2)
ضعفه ابن حزم وغيره.
يُنظر: "المحلى"(6/ 124)؛ حيث قال: "قال أبو محمد: وهذا خبر في نهاية السقوط لأنه من رواية يحيى بن أيوب وقد شهد عليه مالك بن أنس بالكذب، وأخبر أنه روى عنه الكذب، وضعفه أحمد بن حنبل وغيره، وهو ساقط ألبتة".
(3)
الرض: الدق الجريش. انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 1077).
(4)
ولعلها حز كما في رواية البيهقي كما تقدم، حزه واحتزه؛ أي: قطعه. والتحزز: التقطع. انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 873).
(5)
أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968)، عن رافع بن خديج
…
: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
(6)
سيأتي.
كِلَيْهِمَا، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلذَلِكَ وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"مَا فَرَى الأَوْدَاجَ"، البَعْضُ لَا الكُلُّ؛ إِذْ كَانَتْ لَامُ التَّعْرِيفِ فِي كلَامِ العَرَبِ قَدْ تَدُلُّ عَلَى البَعْضِ).
لو صح الأثر الثاني لقلنا بهذا القول، لكن الحديث التاني ضعيف.
*
فائدة:
إذا أردت أن تجمع بين حديثين فينبغي أن يكونا كلاهما صحيحين، أما أن تأتي بحديث صحيح في "الصحيحين" وغيرهما، وتأتي بحديث آخر ضعيف وتجمع بينهما؛ فهذا هو سبب خلاف الفريق الآخر.
• قوله: (وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ قَطْعَ الحُلْقُومِ وَالمَريءِ، فَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ مِنَ السَّمَاعِ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مَنِ اشْتَرَطَ المَرِيءَ وَالحُلْقُومَ دُونَ الوَدَجَيْنِ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الوَاجِبَ هُوَ قَطْعُ مَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ
(1)
؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي التَّحْلِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ فِيمَا يُجْزِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الوَاجِبُ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الاسْتِثْنَاءِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ مَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى إِجْزَائِهِ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الصَّحَّةِ).
الحديث الذي نص فيه على الودجين ضعيف
(2)
، ولو صح ذلك لكان
(1)
حكي عن محمد بن الحسن، وتقدَّم، وهو قول ابن المنذر.
وينظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 432)؛ حيث قال:"قال أبو بكر: الشاة محرمة في حال الحياة، إلا بالذكاة وغير جائز أن يكون ذكية إلا بأن يجمعوا عليه، وذلك إذا قطع الحلقوم، والمريء، والودجين".
(2)
تقدَّم.
أمرًا لازمًا، لكن لم يرد حديث أو نص فيه الاقتصار على المريء والحلقوم، وإنما الذي جاء في الحديث الصحيح:"ما أنهر الدم"
(1)
.
• قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَوْضِعِ القَطْعِ: وَهِيَ إِنْ لَمْ يَقْطَعِ الجَوْزَةَ فِي نِصْفِهَا، وَخَرَجَتْ إِلَى جِهَةِ البَدَنِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ فِي المَذْهَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ القَاسِمِ: لَا تُؤْكَل؛ وَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ وَابْنُ وَهْبٍ: تُؤْكَلُ)
(2)
.
قد شرحنا الجوزة وفصلنا القول فيها، ورأي الأكثرين من العلماء أنها تؤكل
(3)
.
• قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ قَطْعُ الحُلْقُومِ شَرْطٌ فِي الذَّكَاةِ أَوْ لَيْسَ بِشَرْطٍ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ شَرْطٌ، قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تُقْطَعَ الجَوْزَةُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَطَعَ فَوْقَ الجَوْزَةِ، فَقَدْ خَرَجَ الحُلْقُومُ سَلِيمًا؛ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، قَالَ: إِنْ قَطَعَ فَوْقَ الجَوْزَةِ، جَازَ)
(4)
.
الجوزة هي: الغلصمة، وهي: التي تكون بين العنق وبين الحلقوم
(5)
.
ولا شك أن الدليل هو ما أنهر الدم، فإذا سال الدم فإنه هو الحجة في ذلك.
• قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ إِنْ قَطَعَ أَعْضَاءَ الذَّكَاةِ مِنْ
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: "فلو انحازت الجوزة كلها إلى البدن لم تؤكل على الراجح، وذهب ابن وهب وغيره إلى جواز أكلها".
(3)
تقدَّم بيان مذاهبهم.
(4)
تقدَّم مفصَّلًا.
(5)
تقدَّم.
نَاحِيَةِ العُنُقِ؛ فَإِنَّ المَذْهَبَ لَا يَخْتَلِفُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
(1)
، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَبِ، وَابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِمْ
(2)
. وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ)
(5)
.
هذا سبق شرحه.
عند الحنابلة
(6)
: أن الحيوان إذا قطع من الخلف فأصاب مواضع الذبح جاز ذلك، وإلا فلا.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: "
…
(من المقدم) متعلق بقطع فلا يؤكل ما ذبح من القفا".
(2)
يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 436)؛ حيث قال:"روينا عن سعيد بن المسيب أنه قال: في دجاجة ذبحت من قفاها فقال: لا إلا من مذبحها"
…
وبه قال إسحاق".
(3)
أجازه إن قطع الحلقوم والمريء وبه حياة مستقرة. ويُنظر: "مغني المحتاج"(6/ 103)"حيث قال: "(ولو ذبحه)؛ أي: الحيوان المقدور عليه (من قفاه) أو من صفحة عنقه (عصى) بذلك لما فيه من التعذيب (فإن أسوع) في ذلك (فقطع الحلقوم والمريء، وبه حياة مستقرة) أول قطعهما (حل)؛ لأن الذكاة صادفته وهو حي، كما لو قطع يد الحيوان ثم ذكاه (وإلا) بأن لم يسرع قطعهما ولم يكن فيه حياة مستقرة بل انتهى إلى حركة مذبوح (فلا) يحل؛ لأنه صار ميتة فلا يفيده الذبح بعد ذلك".
(4)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 292)؛ حيث قال: " (وكره النخع وقطع الرأس والذبح من القفا)
…
وتؤكل في جميع ذلك لأن الكراهية لمعنى زائد وهي زيادة الألم فلا توجب الحرمة".
(5)
يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 435)؛ حيث قال:، (فممن رولنا عنه أنه رخص في أكل الدجاجة تذبح فيقطع رأسها: ابن عمر، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال الشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، والنعمان، ومحمد وروينا ذلك عن علي بن أبي طالب في بعير ضرب عنقه بالسيف. وعن عمران بن الحصين: في بطة فعل ذلك ورخص الشعبي: في ديك ذبح من قفاه، وبه قال الشافعي، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور، والنعمان، ومحمد".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 207)، حيث قال: " (وإن ذبحها من قفاها ولو عمدًا فأتت السكين على موضع ذبحها) وهي الحلقوم والمريء (وفيها حياة مستقرة =
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِي المَنْفُوذَةِ المَقَاتِلِ أَمْ لَا تَعْمَل، وَذَلِكَ أَنَّ القَاطِعَ لِأَعْضَاءِ الذَّكَاةِ مِنَ القَفَا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِالقَطْعِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ النُّخَاعِ، وَهُوَ مَقْتَلٌ مِنَ المَقَاتِلِ، فَتَرِدُ الذَّكَاةُ عَلَى حَيَوَانٍ قَدْ أُصِيبَ مَقْتَلُه، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ الخِلَافِ فِي هَذهِ المَسْأَلَةِ).
قصد المؤلف أن الذي يبدأ بالقطع من الخلف من الرقبة، عندما يصل إلى مواضع القطع المشروعة التي هي الحلقوم، المريء، الودجين، يكون قد نفذ القتل إلى ذلك الحيوان.
• قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَهِيَ أَنْ يَتَمَادَى الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ حَتَّى يَقْطَعَ النُّخَاعَ؛ فَإِنَّ مَالِكًا كَرِهَ إِذَا تَمَادَى فِي القَطْعِ وَلَمْ يَنْوِ قَطْعَ النُّخَاعِ مِنْ أَوَّلِ الأَمْرِ
(1)
؛ لِأَنَّهُ إِنْ نَوَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ نَوَى التَّذْكِيَةَ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الجَائِزَةِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ المَاجِشُونِ: لَا تُؤْكَلُ إِنْ قَطَعَهَا مُتَعَمِّدًا دُونَ جَهْلٍ، وَتُؤْكَلُ إِنْ قَطَعَهَا سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا)
(2)
.
= أكلت)
…
(ويعلم ذلك)
…
(بوجود الحركة) بعد قطع الحلقوم والمريء فهو دليل بقاء الحياة المستقرة قبله".
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي"(2/ 173 - 174)؛ حيث قال: " (و) كره (تعمد إبانة الرأس) ابتداء بأن نوى أنه يقطع الحلقوم والودجين، ويستمر حتى يبين الرأس من الجثة، وتؤكل إن أبانها وهذا هو المعول عليه. وتؤولت أيضًا على أنه إن قصدها ابتداء لم تؤكل، واتفقوا على أنه إذا لم يقصد ذلك ابتداء وإنما قصده بعد قطع الحلقوم والودجين، أو لم يقصد أصلًا وإنما غلبته السكين حتى قطعت الرأس فإنها تؤكل".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (3/ 118)؛ حيث قال:"وتأول مطرف وابن الماجشون والتونسي عليه قوله فيها لمالك من ذبح فترامت يده إلى أن أبان الرأس أكلت ما لم يتعمد ذلك وتأوله ابن القاسم على الكراهة ابن يونس وهو القياس، والأول استحسان وإلى تأويل غير ابن القاسم أشار بقوله: (وتؤولت أيضًا على عدم الأكل إن قصده أولًا) ".
المقصود: أن يتجاوز مواضع الذبح فيقطع النخاع، أو ينتظر حتى ترتاح الذبيحة، ثم بعد ذلك يستمر في قطع الرأس، هذا خلاف مشروع، لكن أكثر العلماء يجيزون ذلك.
• قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ السَّادِسَة، وَهِيَ: هَلْ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ أَنْ تَكُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ؟ فَإِنَّ المَذْهَبَ لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الذَّكاةِ، وَأَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الذَّبْحِ، ثُمَّ أَعَادَهَا، وَقَدْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الذَّكَاةَ لَا تَجُوزُ)
(1)
.
مراد المؤلف: أن الإنسان إذا بدأ في ذبح الحيوان ثم رفع يده لأمر عارض قبل تمام الذبح، ثم أعادها، كأن يسنَّ شفرته، إن كان الرفع يسيرًا جاز، وإلا فلا ينبغي ذلك.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَعَادَ يَدَهُ بِفَوْرِ ذَلِكَ بِالقُرْبِ، فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ أَعَادَ يَدَهُ بِالفَوْرِ أُكِلَتْ
(2)
. وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا تُؤْكَلُ
(3)
، وَقِيلَ: إِنْ رَفَعَهَا لِمَكَانِ الاخْتِبَارِ، هَلْ تَمَّتِ الذَّكَاةُ أَمْ لَا، فَأَعَادَهَا عَلَى الفَوْرِ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَتِمَّ، أُكلَتْ، وَهُوَ أَحَدُ مَا تُؤُوِّلَ عَلَى سَحْنُونٍ، وَقَدْ
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: " (بلا رفع) للآلة (قبل التمام) فإن رفع يده قبله ثم عاد لم تؤكل إن طال، وسواء رفع يده اختيارًا أو اضطرارًا، فإن عاد عن قرب أكلت رفع يده اختيارًا أو اضطرارًا، والقرب والبعد بالعرف فالقرب مثل أن يسن السكين أو يطرحها ويأخذ أُخرى من حزامه أو قربه، وهذا كله إن كان أنفذ بعض المقاتل كأن قطع بعض الودجين، أما إن لم يكن أنفذ ذلك بأن كانت لو تركت لعاشت فإنها تؤكل مطلقًا رجع عن قرب أو بعد؛ لأنها ابتداء ذكاة مستقلة حينئذ".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال عقب التفصيل المذكور أعلاه: "وهذا التفصيل أحد أقوال خمسة، وهو قول ابن حبيب ورجحه ابن سراج قياسًا على من سلم ساهيًا، وعاد عن قرب، وأصلحها كما في المواق".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: "الثاني قول سحنون لا تؤكل إذا رفع يده قبل التمام عاد عن قرب أو بعد".
تُؤُوِّلَ قَوْلُهُ عَلَى الكَرَاهَةِ. قَالَ أَبُو الحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: وَلَوْ قِيلَ عَكْسُ هَذَا، لَكَانَ أَجْوَدَ؛ أَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ الذَّكاةَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأَعَادَهَا أَنَّهَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الأَوَّلَ وَقَعَ عَنْ شَكٍّ، وَهَذَا عَنِ اعْتِقَادٍ ظَنَّهُ يَقِينًا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الذَّكَاةِ قَطْعَ كُلِّ أَعْضَاءِ الذَّكَاةِ، فَإِذَا رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ تُسْتَتَمَّ، كَانَتْ مَنْفُوذَةَ المَقَاتِلِ غَيْرَ مُذَكَّاةٍ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا العَوْدَة؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ ذَكَاةٍ طَرَأَتْ عَلَى المَنْفُوذَةِ المَقَاتِلِ
(1)
).
بعد أن يبدأ بالذبح يرفع، ثم يعود مرة أُخرى مسرعًا، فهذه فيها خلاف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّالِثُ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الذَّكاةُ
أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الأوْدَاجَ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ صَخْرٍ أَوْ عُودٍ أَوْ قَضِيبٍ أَنَّ التَّذْكيَةَ بِهِ جَائِزَةٌ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "الذخيرة"، للقرافي (4/ 137)، حيث قال:"قال اللخمي: من شرط الذكاة الفور فإن رفع يده قبل كمال الذكاة ثم أعادها بعد طول لم تؤكل، أو بفور ذلك أكلت عند ابن حبيب. وقال سحنون: لا تؤكل، وقال أيضًا: تكره وتأول بعضهم قوله، بما إذا رفع يده مختبرًا فأتم على الفور فتؤكل، وإن رفع جازمًا لم تؤكل قال ولو عكس لكان أبين لأنه أعذر من الشك، قال: ورأى أن تؤكل في الحالين لأن الفور كالمتحد".
(2)
سيأتي تفصيل مذاهبهم. ويُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (61)؛ حيث قال:"وأجمعوا على أن المرء إذا ذبح ما يجوز الذبح به، وسمَّى الله، وقطع الحلقوم والودجين، وأسال الدم: أن الشاة مباح أكلها".
الذبح يكون بالسكين التي هي من الحديد، وأيضًا من النحاس ومن الألمنيوم، وكذلك الرخام فلو أخذت قطعة من الرخام وجعلتها حادة فهذه أحيانًا قوتها تزيد عن السكين ونحو ذلك، والحجر أيضًا فإذا أتيت بحجر وسننته فجعلت طرفه كالسكين، فهذا كلها آلات يجوز الذبح بها.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ: فِي السِّنِّ، وَالظُّفْرِ، وَالعَظْمِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَازَ التَّذْكِيَةَ بِالعَظْمِ، وَمَنَعَهَا بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ
(1)
، وَالَّذِينَ مَنَعُوهَا بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مَنْزُوعَيْنِ، أَوْ لَا يَكُونَا مَنْزُوعَيْنِ
(2)
).
السن والظفر أن يكون متصلًا بغيره كلحم أو نحوه فلا يجوز، أما إن كان منفردًا جاز الذبح بشرط أن يكون حادًّا.
• قوله: (فَأَجَازَ التَّذْكِيَةَ بِهِمَا إِذَا كانَا مَنْزُوعَيْنِ، وَلَمْ يُجِزْهَا إِذَا كانَا مُتَّصِلَيْنِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الذَّكَاةَ بِالسِّنِّ وَالعَظْمِ مَكْرُوهَةٌ كَيْرُ مَمْنُوعَةٍ
(3)
،
(1)
وهم الحنابلة، وسيأتي بيانه.
(2)
وهم الحنفية والمالكية.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 291)؛ حيث قال:"وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك إظهارًا للجلد، ولأنها آلة جارحة فيحصل بها ما هو المقصود وهو إخراج الدم فصار كالحجر والحديد بخلاف غير المنزوع؛ فإنه يقتل بالثقل فيكون في معنى الموقوذة، وإنما يكره لأن فيه زيادة الألم وقد نهينا عنه".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(2/ 432)؛ حيث قال: " (إن انفصلا)، أي: العظم والسن فإن اتصلا فلا يجوز بهما".
(3)
وهو قول لأصحاب مالك. يُنظر: "المنتقى"، للباجي (3/ 106)؛ حيث قال:"وقد اختلف أصحابنا العراقيون في ذلك فقال القاضي أبو الحسن في كتابه الظاهر من مذهب مالك: إنه لا يستبيح الذكاة بالسن والظفر ورأيت لبعض شيوخنا من أصحابه أنه مكروه".
ولَا خِلَافَ فِي المَذْهَبِ أَنَّ الذَّكَاةَ بِالعَظْمِ جَائِزَةٌ إِذَا أَنْهَرَ الدَّمَ
(1)
).
لأنه ثبت في الحديث الصحيح.
• قوله: (وَاخْتُلِفَ فِي السِّنِّ وَالظُّفْرِ فِيهِ عَلَى الأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي: بِالمَنْعِ مُطْلَقًا
(2)
، وَالفَرْقِ فِيهِمَا بَيْنَ الانْفِضَالِ وَالاتِّصَالِ
(3)
، وَبِالكَرَاهِيَةِ لَا بِالمَنْعِ
(4)
).
الانفصال والاتصال بين أن يكون العظم أو السن أو الظفر منفردًا مستقلًّا ليس متعلقًا بغيره كلحم ونحوه، فإن كان متعلقًا بغيره فلا يجوز، وهذا بالنسبة للسن والظفر، لأنه قد ورد النهي عنهما في الحديث، وأما العظم فألحقه العلماء بهما
(5)
.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ النَّهْيِ الوَارِدِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِيهِ قَالَ: يَا
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 107)؛ حيث قال: "وفي جواز (الذبح بالعظم) أراد به الظفر، وكان عليه أن يعبر به، وأما لو ذكى بقطعة عظم محددة فلا خلاف في الجواز".
(2)
وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
ولمذهب الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاح"، للشربيني (6/ 108)؛ حيث قال: "بكل محدد)
…
(يجرح)؛ أي: يقطع (كحديد)؛ أي: محدد حديد (و) محدد (نحاس)
…
(وذهب) وفضة (وخشب وقصب وحجر وزجاج)(إلا ظفرًا وسنا وسائر)؛ أي: باقي (العظام) متصلًا كان أو منفصلا من آدمي أو غيره".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 205 - 206)؛ حيث قال: " (الثاني: الآلة وهو)
…
(أن يذبح بآلة محددة تقطع أو تخرق بحدها لا) إن قطعت وخرقت (بثقلها من حديد كانت) الآلة (أو) من (حجر أو خشب أو قصب أو عظم أو غيره إلا السن والظفر)
…
(متصلين أو منفصلين) ".
(3)
وهم الحنفية، وتقدَّم.
(4)
وهو قول للمالكية، وتقدَّم.
(5)
تقدَّم مفصلًا.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
إِنَّا لَاقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ"
(1)
).
هذا حديث متفق عليه.
المدى: جمع مدية
(2)
، وهي السكينة التي كانوا يذبحون بها، "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر"
(3)
؛ أي: ما عدا السن والظفر فإنه لا يذبح بهما.
• قوله: (وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِ أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لَيْسَ فِي طَبْعِهَا أَنْ تُنْهِرَ الدَّمَ غَالِبًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ شَرْعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ
(4)
).
اختلف العلماء هل النهي تعبدي غير معقول المعنى، أم معلل؛ لأن من العبادات ما هو معقول المعنى ومنها ما هو غير معقول المعنى
(5)
؛ ولذلك اختلف العلماء في إيجاب النية في الوضوء؛ فذهب بعض العلماء
(1)
تقدَّم.
(2)
المدى: جمع مدية، وهي السكين والشفرة. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (4/ 310).
(3)
تقدَّم.
(4)
وهم الشافعية والحنابلة.
(5)
يُنظر: "الفقيه والمتفقه"، للخطيب البغدادي (1/ 548)؛ حيث قال: "التعبد من الله تعالى لعباده على معنيين:
أحدهما: التعبد في الشيء بعينه لا لعلة معقولة، فما كان من هذا النوع لم يجز أن يقاس عليه.
والمعنى الثاني: التعبد لعلل مقرونة به، وهي الأُصول التي جعلها الله تعالى أعلامًا للفقهاء، فردوا إليها ما حدث من أمر دينهم، مما ليس فيه نص بالتشبيه والتمثيل عند تساوي العلل من الفروع بالأصول".
إلى أن الوضوء عبادة معقولة المعنى المقصود بها: النظافة
(1)
، وذهب بعضهم: إلى أنها عبادة توقيفية غير معللة يقصد بها إلى جانب النظافة أمر تعبدي
(2)
.
• قوله: (وَالَّذِينَ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ شَرْعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ
(3)
، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْه، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الكَرَاهَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الحَظْرِ، فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ المَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُنْهِرُ الدَّمَ غَالِبًا، قَالَ: إِذَا وُجِدَ مِنْهُمَا مَا يُنْهِرُ الدَّمَ، جَازَ، وَلذَلِكَ رَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا مُنْفَصِلَيْنِ إِذْ كانَ إِنْهَارُ الدَّمِ مِنْهُمَا إِذَا كَانَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْكَنَ، وَهوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(4)
).
لكن الأولى للمسلم أن يتجنب مثل هذه الأُمور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنهما {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
(1)
وهم الحنفية، وتقدم مفصلًا عند قول المصنف:"المسألة الأولى من الشروط اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا".
(2)
وهم الجمهور، وتقدم مفصلًا، عند قول المصنف:"المسألة الأولى من الشروط اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا".
(3)
يُنظر: "التلخيص في أصول الفقه"، للجويني (1/ 481 - 482)؛ حيث قال:"هذا مما اختلف فيه الفقهاء والمتكلمون فما ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين: أن النهي عن الشيء يدل على فساده كما أن الأمر بالشيء يدل على إجزائه، ثم اختلف هؤلاء فذهب بعضهم أن النهي دال على فساد المنهي عنه من جهة وضع اللسان، وذهب آخرون إلى أن النهي إذا ثبت فإنما يعلم فساد المنهي عنه بموجب الشرع دون قضية لفظ النهي في اللغة، وذهب الجمهور من المتكلمين أن النهي لا يدل على الفساد، ثم أجمع هؤلاء على أنه كما لا يدل على فساد المنهي عنه لا يدل على صحته وإجزائه".
(4)
تقدَّم.
• قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُمَا هُوَ مَشْرُوعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْه، قَالَ: إِنْ ذُبِحَ بِهِمَا، لَمْ تَقَعِ التَّذْكِيَةُ؛ وَإِنْ أُنْهِرَ الدَّمُ
(1)
. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ: إِنْ فَعَلَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ أَثِمَ، وَحَلَّتِ الذَّبِيحَةُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ عَلَى وَجْهِ الكَرَاهِيَةِ، كَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يُحَرِّمْه، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ العَظْمِ وَالسِّنِّ؛ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ عَلَّلَ المَنْعَ فِي السِّنِّ بِأَنَّهُ عَظْمٌ).
إذن، السن والظفر قد ورد فيهما النص، أما العظم فقد قِيس على السن والحجر، لأن السن نوع من أنواع العظم، والحجر قد ورد في الحديث الصحيح وهو قصة المرأة أو الأمة
(2)
.
• قوله. (وَلَا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَيْرُ الحَدِيدِ مِنَ المَحْدُودَاتِ مَعَ وُجُودِ الحَدِيدِ)
(3)
.
عند غير مالك كل ما يتحقق به الذبح فإنه يؤدي الغرض، سواء كان من حديد، أو من قصب، أو من غير ذلك
(4)
.
• قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللهَ كتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَه، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"
(5)
، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
اهتم الإسلام بكل شيء حتى الحيوانات العجماوات، وهذا إن دلَّ
(1)
وهم الشافعية والحنابلة.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 108)؛ حيث قال: "وحاصله: أنه إن وجد الحديد تعيَّن الذبح به، أي: ندب ندبًا مؤكدًا".
(4)
تقدَّم مفصلًا.
(5)
حديث (1955).
فإنما يدل على الرأفة التي خصت بها الشريعة الإسلامية حتى مع الحيوان، فقد أمر عليه الصلاة والسلام بإحسان ذبح الحيوان؛ لذا ينبغي على الإنسان أن يبادر عند ذبحه بالإسراع في ذبحه، وأن تكون السكين التي يذبح بها قد حُدت، وأن يستخدم جميع الوسائل التي تعين على إراحة الذبيحة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الرَّابعُ فِي شُرُوطِ الذَّكَاةِ)
هناك شروط ينبغي أن تتوفر في الحيوان المذكى، أولها: أن يكون الذابح قد أنهر الدم، والثاني: وجوب التسمية، وسنذكر شروطًا أُخرى فيما يتعلَّق بالإسلام والبلوغ والعقل والذكورية والعدالة، وسنذكر الخلاف في ذلك بين الفقهاء، وإذا جازت التذكية من أهل الكتاب فهل تجوز بشروط أو على إطلاقها، وهل تجوز التذكية من غير أهل الكتاب من غير المسلمين، وهناك خلاف أيضًا في تذكية المرأة والمملوك والصغير، وتذكية المسروق فلو سرق إنسانٌ شاة أو اغتصبها من حق غيره وزكاها فهل تصبح حلالًا أو لا، هذه كلها مسائل ناقشها الفقهاء رحمهم الله
(1)
.
• قوله: (وَفِي هَذَا البَابِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ؛ المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ. الثَّانِيَةُ: فِي اشْتِرَاطِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ. الثَّالِثَةُ: فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ).
(1)
سيأتي مفصلًا.
هناك أمران لا بد من تحققهما عند ذبح الحيوان:
أولهما: القصد: والقصد هو النية
(1)
؛ فإذا أراد إنسان أن يصيب صيدًا لا بد أن يقصده.
ثانيهما: التسمية. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه"
(2)
.
وفي الصيد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله"
(3)
.
وفي حديث آخر له: "إذا أرسلت سهمك وسمَّيت الله"
(4)
.
إذن؛ إنهار الدم مطلوب، وكذلك التسمية، لكن اختلف العلماء في حكم التسمية هل هي واجبة أو غير واجبة؟ وهل هي واجبة على الإطلاق، أم هي واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان، إذن الأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
* هناك من يرى أنها واجبة مطلقًا
(5)
:
وأدلتهم على ذلك:
- أن عموم أدلة الكتاب والسُّنة تشهد بذلك قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]؛ فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين العامد وبين الناسي.
(1)
نويته: أنويه قصدته. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 631).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم بهذا اللفظ (1929)، ونحوه في البخاري (175).
(4)
أخرجه النسائي (4299) عن عدي بن حاتم، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد، فقال: "إذا أرسلت سهمك وكلبك وذكرت اسم الله فقتل سهمك فكل
…
". وصححه الألباني في "الإرواء" (2556).
(5)
وهو مذهب الظاهرية، وسيأتي.
ويُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 250)؛ حيث قال:"ولا أعلم أحدًا روى عنه أنه لا يؤكل ممن نسي التسمية على الصيد أو الذبيحة إلا ابن عمر والشعبي وابن سيرين". وهو مذهب أحمد في الصيد خاصة، وسيأتي.
- والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه"
(1)
، "إذا أرسلت سهمك وسميت"
(2)
؛ أي: سمِّيت الله.
إذن؛ هذه أدلة أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان هناك فرق بين الناسي وبين المتعمد أو الجاهل لبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(3)
، لكن الرسول لم يبين فدل ذلك على وجوبها.
أما جوابهم عن قول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وحديث:"إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(4)
.
قالوا: لا نخالف في هذا لكن الله تعالى قال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ؛ أي: أن الخطأ والنسيان يرفعان الإثم فقط.
نقرب لكم هذه المسألة: لو أن اثنين دخلَا في الصلاة وكلاهما على غير طهارة؛ أحدهما: تعمد أن يصلي على غير طهارة سواء كانت عليه جنابة أو أحدث حدثًا أصغر فهذا يأثم لأنه تعمد أن يصلي بغير طهارة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتطهر"
(5)
، ويقول:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول"
(6)
؛ إذن الطهارة واجبة، لكن الذي نسي معذور لأنه لا يدري، إذن الناسي عفي عنه الإثم، والمتعمد وقع عليه الإثم؛ لأنه سيترتب على ذلك ضياع ماله،
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "روضة الناظر"، لابن قدامة (1/ 534)؛ حيث قال:"ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".
(4)
لم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن ماجه (2045) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". وصححه الألباني في "الإرواء"(82).
(5)
لم نجده بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (6954)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ".
(6)
أخرجه مسلم (224).
والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال وإضاعة المال
(1)
؛ إذن المتحمد تسبب في
إضاعة مال بغير حق، أما الناسي فإنه معذور.
* وهناك من يرى أنها واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان
(2)
.
وأدلتهم على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، منها:
- أما الكتاب: دقول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ} هنا نهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه
(3)
، ثم قال: {وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، إذن التسمية واجبة لأن الله نهى عن تركها، والنهي
عن تركها يدل على وجوبها.
عموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، وقوله
تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].
- وأما السنة: فا لأحاديتَ كثيرة، منها:
الحديث المتفو عليه: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2408)، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم
عليكم. عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومفع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة
السؤال، وإضاعة المال".
(2)
وهم الحنفية والمالكية والحنابلة.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 299)؛ حيث قال: "ولا تحل
ذبيحة من تعمد ترك اك سمية مسلمًا أو كتابيًّا
…
(قوله: فإن تركها ناسيًا حل) قدمنا
عن "الحقائق" و"البزازية" أن في معنى الناسي من تركها جهلًا بشرطيتها".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 106)؛ حيث قال: " (وتسمية) عند
التذكية وعند الإرسال في العقر (إن ذكر)، وقدر فلا تجب على ناس، ولا أخرس،
ولا مكره فالشرط رأجع للتسمية فقط ومحل اشتراطها إن كان المذكي مسلمًا، وأما
النية؛ أي: قصد الفعل لتؤكل لا قتلها؟ أي: مجرد إزهاق روحها".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 209)؛ حيث قال: " (فإن
ترك) المذكي (التسمية عمدًا أو جهلًا) منه باعتبارها (لم تبح) الذبيحة لقوله تعالى:
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (و) إن ترك التسمية (سهوًا) فإنها (تباح) ".
(3)
تقدَّم الكلام علي هذه القاعدة.
(4)
تقدَّم.
ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعدي بن أبي حاتم: "إذا أرسلت كلبك وسمَّيت"
(1)
.
وفي الحديث الآخر: "إذا أرسلت سهمك وسمَّيت"
(2)
.
إذن؛ دل الكتاب العزيز والسُّنة الصحيحة على وجوب التسمية.
أما سبب تفريقهم بين العامد والناسي:
- الاستدلال بعموم قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قالوا: فالله تعالى فرَّق في الحكم بين العامد وبين الناسي، فجعل حكم الناسي بخلاف حكم المتعمد، وهذا قد نسي أن يسمِّي الله، إذن ذبيحته صحيحة.
- وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(3)
، فالله تجاوز عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما تقع فيه من الخطأ، وما يحصل أيضًا من النسيان، وما هو مستكره عليه.
* وهناك من يرى أنها سنة: وهذا مذهب الشافعية
(4)
، ويستدلون بحديث ضعيف، ورد فيه أن التسمية ليست بواجبة، وسيأتي ذكره عند المؤلف
(5)
.
* ولو أدخلنا فيها الصيد، تصير الأقوال أربعة؛ لأن الحنابلة يفرقون بين الصيد وبين الذبيحة فيوجبون التسمية في الصيد ذكر أو لم يذكر، ويفرقون في ذلك في الذبيحة بين الذكر وغيره
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (5476)، ومسلم (1929).
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب (6/ 105)؛ حيث قال: " (و) يسن أن
…
(وأن يقول) عند ذبحها (باسم الله) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] ولا تجب، فلو تركها عمدًا أو سهوًا حل".
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 227)؛ حيث قال:" (وإن تركها)؛ أي: التسمية (عمدًا أو سهوًا) أو جهلًا (لم يبح) الصيد".
الخُلاصة: من العلماء مَن يرى أن التسمية سنة وهذا هو مذهب الشافعية، وهناك من ذهب إلى وجوبها، لكنهم فرقوا بين الذكر والنسيان، وهذا هو رأي أكثر العلماء من المالكية والحنابلة والحنفية، والرأي الثالث: أنها شرط فلا تسقط لا سهوًا ولا عمدًا، وهذا رأي لبعض أتباع المذاهب
(1)
، وهذا الرأي الأخير عموم الأدلة تشهد له، فعلينا أن نُعنى بهذا الأمر وألا نتساهل فيه.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ التَّسْمِيَة عَلَى الذَّبِيحَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ فَرْضٌ مَعَ الذِّكْرِ، سَاقِطَةٌ مَعَ النِّسْيَانِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَبِالقَوْلِ الأوَّلِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
، وَابْنُ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ
(3)
، وَبِالقَوْلِ الثَّانِي قَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ
(6)
، وَبِالقَوْلِ الثَّالِثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
(7)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
(8)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الكِتَابِ فِي ذَلِكَ لِلأثَرِ،
(1)
تقدَّم بيانه.
(2)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (6/ 87)؛ حيث قال:"ولا يحل أكل ما لم يسم الله تعالى عليه بعمد أو نسيان".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
تقدَّم.
(6)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 250)؛ حيث قال:"فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي إن تركها عمدًا لم تؤكل الذبيحة ولا الصيد، وإن نسي التسمية في ذلك أكلت".
(7)
تقدَّم.
(8)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 250)؛ حيث قال:"وقال الشافعي وأصحابه تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعًا تعمد في ذلك أو نسيه وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وعطاء، وأبي رافع، وطاوس، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقتادة".
فَأَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وَأَمَّا السُّنَّةُ المُعَارِضَةُ لِهَذ الآيَةِ فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ نَاسًا مِنَ البَادِيَةِ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ وَلَا نَدْرِي أَسَمَّوُا اللَّهَ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سَمُّوا اللهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا"
(1)
).
بلحمان وفي بعضها بلحم
(2)
، كان هؤلاء الناس قريبو عهد بإسلام وكانوا يأتون بهذا اللحم ولا يدري هؤلاء أسمي عليه أو لا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"سمُّوا الله وكلوا"، وهذا في الأمر المشكوك فيه، حتى ولو جاءك من أهل الكتاب فتسمي عليه وتأكل، وسيأتي الخلاف الواسع فيما يتعلَّق بذبائح أهل الكتاب.
• قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الآيَةَ نَاسِخَةٌ لِهَذَا الحَدِيثِ، وَتَأَوَّلَ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ كَانَ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ
(3)
، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الحَدِيثَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ بِالمَدِينَةِ، وَآيَةُ التَّسْمِيَةِ مَكِّيَّةٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِمَكَانِ هَذَا مَذْهَبَ الجَمْعِ بِأَنْ حَمَلَ الأمْرَ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى النَّدْبِ، وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ الذِّكْرَ فِي الوُجُوب، فَمَصِيرًا إِلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(4)
).
ليس في الحديث دليل صريح لمذهب الشافعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "سمُّوا الله وكلوا"، وهذا يكون في الأمر المشكوك فيه، وهو يختلف
(1)
أخرجه البخاري (7398).
(2)
أخرجها ابن ماجه (3174) عن عائشة أم المؤمنين: أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونا بلحم لا ندري ذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال:"سموا أنتم وكلوا". وكانوا حديث عهد بالكفر. وصححه الألباني في "المشكاة"(4069).
(3)
يُنظر: "الموطأ" لمالك (2/ 488)؛ حيث قال: "قال مالك: وذلك في أول الإسلام".
(4)
تقدَّم.
عن الأمر الذي لم يسمَّ عليه، لأن الشاكَّ لا يدري أسمَّى أم لا، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يبني عليه حكمه، ولذلك أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع هذا اللَّبس فقال سموا وكلوا.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ القِبْلَةِ بِالذَّبِيحَةِ؛ فَإِنَّ قَوْمًا اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ، وَقَوْمًا أَجَازُوا ذَلِكَ، وَقَوْمًا أَوْجَبُوه، وَقَوْمًا كَرِهُوا أَلَّا يُسْتَقْبَلَ بِهَا القِبْلَة، وَالكَرَاهِيَةُ وَالمَنْعُ مَوْجُودَانِ فِي المَذْهَبِ)
(1)
.
اختلف العلماء في حكم استقبال القبلة للذبيحة:
جمهور العلماء: وهم الحنفية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وهو مروي عن جماعة من السلف كأبي هريرة من الصحابة، وابن سيرين وعطاء من التابعين: يرون أن ذلك مستحب، فلو ترك الذابح استقبال القبلة حالة الذبح فإن ذلك لا يؤثر؛ بل يكون ترك أمرًا فاضلًا وأخذ بالمفضول
(5)
.
مذهب المالكية: عندهم في هذه المسألة أقوال
(6)
:
(1)
سيأتي بيان مذاهبهم مفصَّلة في كلام الشارح.
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 296)؛ حيث قال: " (و) كره (ترك التوجه إلى القبلة) لمخالفته السنة".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 105)؛ حيث قال:" (و) يسن أن (يوجه) الذابح (للقبلة ذبيحته) للاتباع، ولأنها أفضل الجهات، والأصح أنه يوجه مذبحها لا وجهها ليمكنه أيضًا هو الاستقبال، فإنه يندب الاستقبال للذابح أيضًا".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 210)؛ حيث قال:"يسن توجيه الذبيحة إلى القبلة)، لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى وجه أضحيته إلى القبلة وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (4/ 246)؛ حيث قال:"وكره ابن عمر وابن سيرين أن يؤكل من ذبيحة من لم يستقبل بذبيحته القبلة، وأباح أكلها جمهور العلماء منهم إبراهيم، والقاسم، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، ويستحبون مع ذلك أن يستقبلوا القبلة".
(6)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 331 - 332)؛ حيث قال: " (وتوجهه) من المدونة قال ابن القاسم: من السنة توجيه الذبيحة إلى القبلة، فإن لم يفعل أكلت =
- يكره عدم استقبال القبلة حالة الذبح.
- الجواز.
- الاستحباب
(1)
.
- يحرم عدم استقبال القبلة حالة الذبح.
• قوله: (وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَالأصْلُ فِيهَا الإِبَاحَةُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ).
دليل الجمهور في هذه المسألة: أن الله أباح ذبائح أهل الكتاب قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وابن عباس فسرها بذلك
(2)
، ومعلوم أن أهل الكتاب لا يستقبلون القبلة فالمسلم من باب أولى أيضًا.
• قوله: (وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ شَيْءٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا تُقَاسُ عَلَيْهِ هَذ المَسْأَلَةُ إِلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهَا قِيَاسٌ مُرْسَلٌ، وَهُوَ القِيَاسُ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ مَخْصُوصٍ).
ليس في الشرع دليل على وجوب استقبال القبلة، بل الذي في الشرع يدل على خلاف ذلك:
أولًا: لأنه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم دليل يدل على استقبال القبلة.
ثانيًا: أن أهل الكتاب لا يستقبلون القبلة، وقد أباح الله أكل ذبائحهم، إذن استقبال القبلة ليس شرطًا في إباحة أكل الذبائح.
= وبئس ما صنع، ونهى مالك الجزارين يدورون حول الحفرة يذبحون حولها وأمرهم بتوجيهها إلى القبلة. محمد: ترك توجيهها للقبلة سهوًا عفو وعمدًا لا أحب أكلها. ابن حبيب: إن كان عمدًا لا جهلًا لم تؤكل".
(1)
وهو المشهور، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 221)؛ حيث قال:" (وتوجهه) إنما كان على جهة الندب لعدم دلالة النصوص على الأمر بها بخلاف التسمية، ولما كانت الذبيحة لا بد لها من جهة اختيرت جهة القبلة؛ لأنها أفضل الجهات".
(2)
سيأتي.
من المعلوم عند الأصوليين: أن قياس المرسل
(1)
وقياس الشبه
(2)
كلها أقيسة ضعيفة، أما القياس القوي فهو قياس العلة، وهو إلحاق فرع لأصل في حكم لعلة تجمع بينهما
(3)
، كإلحاقك الأرز بالقمح فهما متفقان في العلة، سواء قلنا هي الطعم أو الكيل أو الوزن وغير ذلك إذن؛ العلة موجودة وهي متوفرة في الفرع والأصل.
• قوله: (عِنْدَ مَنْ أَجَازَه، أَوْ قِيَاسُ شَبَهٍ بَعِيدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ القِبْلَةَ هِيَ جِهَةٌ مُعَظَّمَةٌ، وَهَذِهِ عِبَادَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا الجِهَة، لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ تُشْتَرَطُ فِيهَا الجِهَةُ مَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَقِيَاسُ الذَّبْحِ عَلَى الصَّلَاةِ بَعِيدٌ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُ عَلَى اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ بِالمَيِّتِ).
الله سبحانه وتعالى إنما شرط استقبال القبلة في الصلاة فقط، قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]؛ فلا تجوز الصلاة إلا إلى القبلة في الفريضة، ولا يسقط استقبال القبلة إلا لضرورة، أما الذبائح فلا تقاس على الصلاة؛ لأن الجامع بينهما بعيد.
(1)
يُنظر: "إرشاد الفحول"، للشوكاني (2/ 184)؛ حيث قال:"قال الغزالي: هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب عقلًا، ولا يوجد أصل متفق عليه. وقال ابن برهان: هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي، وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب. الأول: منع التمسك بها مطلقًا. وإليه ذهب الجمهور".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة"، للطوفي (3/ 424)؛ حيث قال: "وقياس الشبه: قيل: إلحاق الفرع المتردد بين أصلين بما هو أشبه منهما
…
وقيل: الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما من جلب مصلحة أو دفع مفسدة
…
وفي صحة التمسك به قولان لأحمد والشافعي رضي الله عنهما ".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الروضة"، للطوفي (3/ 436)؛ حيث قال:"قياس العلة هو الجمع بين الأصل، والفرع بعلته، كالجمع بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار".
• قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِيهَا، فَقِيلَ فِي المَذْهَبِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ
(1)
، وَلَا أَذْكُرُ فِيهَا خَارِجَ المَذْهَبِ فِي هَذَا الوَقْتِ خِلَافًا فِي ذَلِكَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: قَوْلٌ بِالوُجُوبِ، وَقَوْلٌ بِتَرْكِ الوُجُوبِ)
(2)
.
يقصد المؤلف هنا وغيره عندما يتكلمون عن النية في كتاب الصيد وفي كتاب الذبائح: إنما هو القصد؛ فأنت عندما تأخذ مثلًا سلاح التي تريد به أن تصطاد أنت تقصد هذا الصيد؛ إذن القصد موجود وهي النية، وفي نفس الوقت أيضًا أنت ينبغي أو يجب عليك أن تسمي الله سبحانه وتعالى، كذلك الحال بالنسبة للذبيحة الأضحية فالإنسان إذا ذهب واشترى
…
تتعين عندما يعينها بذاته أما من سيضحي ويشتري له أن يستبدلها كما
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 106)؛ حيث قال: " (ووجب) في الذكاة بأنواعها (نيتها)؛ أي: قصدها، وإن لم يلاحظ حلية الأكل احترازًا عما لو ضرب حيوانًا بآلة فأصابت منحره أو أصابت صيدًا أو قصدًا مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية لم يؤكل
…
".
(2)
والحنفية يشترطون القصد في التسمية. يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 288)؛ حيث قال:"ثم التسمية في ذكاة الاختيار يشترط أن تكون عند الذبح قاصدًا التسمية على الذبيحة ولو سمَّى ولم تحضره النية صح" لأنه أتى بالتسمية وظاهر حاله يدل على أنه قصد به التسمية على الذبيحة فيقع عنها، ولو سمَّى وأراد به التسمية لابتداء الفعل كسائر الأفعال لا يحل كمن قال: الله أكبر، وأراد به متابعة المؤذن لا يصير شارعًا في الصلاة".
والشافعية والحنابلة يشترطون القصد.
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (9/ 331)؛ حيث قال:" (و) يشترط في الذبح قصد العين، أو الجنس بالفعل فحينئذ (لو كان بيده سكين فسقط، وانجرح به صيد)، ومات (أو احتكت به شاة، وهو في يده فانقطع حلقومها، ومريئها) لم تحل لفقد القصد".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 205)؛ حيث قال:" (فلو وقعت الحديدة على حلق شاة فذبحتها) لم تبح (أو ضرب إنسانًا بسيف فقطع عنق شاة لم تبح) الشاة لعدم قصد التذكية".
مر إلى غيرها وإلى عكسها
(1)
، لكن القصد مطلوب، إذن النية مطلوبة في هذا المقام أن ينوي الإنسان بهذه الذبيحة أنها أضحيه لا أنه يريد أن يذبحها ليأكل ونحو ذلك.
• قوله: (فَمَنْ أَوْجَبَ قَالَ: عِبَادَةٌ، لاشْتِرَاطِ الصِّفَةِ فِيهَا وَالعَدَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ).
اشترط العلماء صفات تشترط في الذبيحة، هذه الصفات تتعلق أحيانًا بنفسها، كألا تكون عرجاء بيِّنًا عرجها، ولا عوراء بيِّنًا عورها، ولا مريضة بيِّنًا مرضها، وتتعلَّق بالسن أحيانًا، وتتعلَّق بالعدد، أي: أن تذبح في أيام معدودات في أيام معلومات
(2)
.
• قوله: (وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا قَالَ: فِعْلٌ مَعْقُولٌ، يَحْصُلُ عَنْهُ فَوَاتُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ المَقْصُودُ مِنْه، فَوَجَبَ أَلَّا تُشْتَرَطَ فِيهَا النِّيَّةُ كمَا يَحْصُلُ مِنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ إِزَالَة عَيْنِهَا).
المقصود من الذبيحة هو أكلها بعد إزهاق روحها؛ ولذلك قالوا: سميت السكين بالمدية؛ لأنها تودي بالذبيحة؛ أي: تنهي مدتها
(3)
، وهناك غرض آخر من الذبح وهو: أنك تتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى لذلك ينبغي أن تخصص في الذبح وتحدد نيتك، إن كانت هديًا أو أضحية أو صدقة ونحو ذلك، فالتعيين مطلوب.
وأما النجاسة فلا يشترطون فيها النية؛ لأن المقصود منها إنما هو ذهاب العين، بخلاف الوضوء والتيمم والغسل
…
فالنية شرط في صحتهم
(4)
.
(1)
تقدَّم في كتاب الضحايا.
(2)
تقدَّم في كتاب الضحايا.
(3)
قال الفارسي: "قال أبو إسحاق: سمِّيت مدية لأن انقضاء المدى يكون بها، قال: ولا يعجبني". انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (39/ 514).
(4)
تقدَّم في مواضعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الخَامِسُ فِيمَنْ تَجُوزُ تَذْكيَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ)
هذه مسائل مهمة وهي شروط التزكية، من الذي تجوز تزكيته؟ هل يشترط أن يكون مسلمًا، وأن يكون بالغًا، وأن يكون ذكرًا، وأن يكون عدلًا، هذه صفات كمال أم صفات يجب أن تتوفر فيه، لكن لو قُدر أنه كتابي غير مسلم، فإن كان كتابيًّا جاز بالشروط التي ستأتي تفصيلًا وسنبينها، وأن يكون عاقلًا فهل يخرج المجنون أو لا، وكذلك الصغير أيضا، يعني: أن يكون بالغًا؛ لأنه ورد في حديث الجارية أنها أمة
(1)
، والأمة تفسر أحيانًا بما دون المرأة، أيضًا ينبغي أن يكون عدلًا يعني: أن يكون من المعروفين بالعدالة، لا يكون فاسقًا من المتساهلين في الصلاة أو يرتكب المعاصي؛ فهذه من الأُمور التي لا تنبغي، كذلك ألا تكون هذه الذبيحة مسروقة، وكذلك ألا يكون هذا الذابح ممن يرتكب المعاصي كالسُّكْر مثلًا، وبعضهم قيده بأنه قد شرب حتى غاب ذهنه
(2)
.
• قوله: (وَالمَذْكُورُ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَصنَافٍ: صِنْفٌ اتُّفِقَ عَلَى جَوَازِ تَذْكيَتِهِ، وَصِنْفٌ اتُّفِقَ عَلَى مَنْعِ ذَكَاتِهِ، وَصِنْفٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا الصِّنْفُ الَّذِي اتُّفِقَ عَلَى ذَكَاتِهِ: فَمَنْ جَمَعَ خَمْسَةَ شُرُوطٍ: الإِسْلَامَ وَالذُّكُورِيَّةَ وَالبُلُوغَ وَالعَقْلَ وَتَرْكَ تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الَّذِي اتُّفِقَ عَلَى مَنْعِ
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي بيان هذه المسائل مفصَّلًا في هذا الباب.
تَذْكِيَتِهِ: فَالمُشْرِكُونَ عَبْدَةُ الأَصْنَامِ
(1)
، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، وَلقَوْلِهِ:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3].
الناس على ثلاثة أصناف:
- صنف اتُّفق على جواز تذكيته وهم من جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضييع الصلاة.
- وصنف متفق على منع ذكاته، وهم: عبدة الأوثان، والمشركون عمومًا عدا أهل الكتاب، ويدخل المجوس ضمن عبدة الأوثان خلافًا لأبي ثور
(2)
.
- وصنف ثالث: مختلف فيه
(3)
.
• قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ اخْتُلِفَ فِيهِمْ، فَأَصْنَافٌ كثِيرَةٌ، لَكِنَّ المَشْهُورَ مِنْهَا عَشَرَةٌ: أَهْلُ الكِتَابِ).
وأهل الكتاب فيهم تفصيل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
• قوله: (وَالمَجُوسُ)
(4)
.
والمجوس اختُلِف في شأنهم إن كانوا أهل كتاب أم لا
(5)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 321)؛ حيث قال:"وأجمعوا أن المجوسي والوثني لو سمى الله لم تؤكل ذبيحته".
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 330)، "ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب، وتحل نساؤهم وذبائحهم".
(3)
سيأتي مفصَّلًا.
(4)
تقدَّم نقل الإجماع على حرمة ذبائحهم.
(5)
والجمهور على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان لهم كتاب فرفع، وهو أحد قولي الشافعي.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (4/ 211)؛ حيث قال: "وذكر =
• قوله: (وَالصَّابِئُونَ).
اختلف أيضًا في الصابئون:
فمن العلماء من يقول: إنهم من أهل الكتاب وأنهم على دين إبراهيم ومثلهم أيضًا السامرة
(1)
(2)
.
= ابن إسحاق في "تفسيره" عن علي رضي الله عنه جواز نكاح المجوسية بناءً على ما روي عنه أن المجوس أهل كتاب
…
ولئن كان الأمر على ما قال علي رضي الله عنه، ولكن بعدما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 337)، حيث قال:" (وتؤخذ): الجزية (من المجوسي): نسبة إلى محله لقوله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: "سنُّوا لهم سُنَّة الكتاب" قال كثير من العلماء: معنى ذلك في أخذ الجزية منهم وليسوا أهل كتاب، فعلى هذا لم تتعدَّ السُّنة إلى ذبائحهم، وهذا قول مالك وجمهور الصحابة".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج"، للدميري (7/ 190)؛ حيث قال:"وفي المجوس للشافعي رضي الله عنه قولان: أشبههما: أن لهم كتابًا غير التوراة والإنجيل وقد نسوه وبدلوه، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية منهم. والثاني: أنهم لا كتاب لهم".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 85)؛ حيث قال: " (وأهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل)
…
(لا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم كالمجوس وأهل الأوثان) ".
وأثر علي رضي الله عنه: أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 317) عن نصر بن عاصم: "
…
فقال علي رضي الله عنه: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم، فدعا أهل مملكته، فلما أتوه قال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد كان ينكح بنيه من بناته، وأنا على دين آدم، ما يرغب بكم عن دينه؟ قال: فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم، فهم أهل كتاب
…
"، وقال ابن عبد البر: "وأكثر أهل العلم يأبون ذلك ولا يصححون هذا الأثر". وانظر: "التمهيد" (2/ 120).
(1)
السامرة: قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم، وإليهم نسب السامري الذي اتخذ العجل الذي سمع له خوار. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (12/ 293).
(2)
وهو قول مجاهد والحسن، ويُنظر:"تفسير الطبري"(2/ 146)، وهو مذهب الحنفية، والشافعية إن لم يخالفوا أهل الكتاب في أصل دينهم، ومذهب الحنابلة نحو ذلك، وسيأتي مفصلًا.
وبعضهم يقول: إنما خرجوا عن أهل الكتاب
(1)
.
• قوله: (وَالمَرْأَة، وَالصَّبِيُّ، وَالمَجْنُون، وَالسَّكْرَان، وَالَّذِي يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ، وَالسَّارِق، وَالغَاصِبُ
(2)
، فَأَمَّا أَهْلُ الكِتَابِ: فَالعُلَمَاءُ مُجْمِعُون عَلَى جَوَازِ ذَبَائِحِهِمْ
(3)
، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، وَمُخْتَلِفُونَ فِي التَّفْصِيلِ
(4)
).
قال ابن عباس: "مباح"
(5)
.
لكن يبقى هناك خلاف إذا تعمدوا عدم ذكر اسم الله أو لم يسموا أصلًا
(6)
، أو أنهم سموا عليها اسمًا غير الله (كالمسيح)، أو كاليهود (عزير)، أو أنهم ذبحوا لكنائسهم وأعيادهم، كذلك لو كان هناك حيوان حرَّمه الله عليهم
(7)
: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 145، 146]؛ إذن حرمها الله سبحانه وتعالى، وهناك أُمور حرموها على أنفسهم، كذات الظفر وقد فسرها بعض العلماء بمثل
(1)
وهو قول السدي، ويُنظر:"تفسير الطبري"(2/ 147)، وهو قول المالكية، وسيأتي مفصَّلًا.
(2)
سيأتي تفصيله.
(3)
يُنظر: "الإقناع"، لابن القطان (1/ 319)؛ حيث قال:"وأجمعوا في ذبيحة الكتابي أنها تؤكل - وإن لم يسمِّ الله تعالى عليها - ما لم يسمِّ عليها غير الله".
(4)
سيأتي.
(5)
يُنظر: "تفسير ابن كثير"(3/ 40)؛ حيث قال: " {
…
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال ابن عباس، وأبو أمامة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، والحسن، ومكحول، وإبراهيم النخعي، والسدي، ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم".
(6)
تقدَّم نقل الإجماع على إباحتها ما لم يسموا غير الله، وسيأتي مفصلًا أيضًا.
(7)
سيأتي بيان ذلك كله.
النعام والبط
(1)
، وبعضهم قال: هي الإبل
(2)
، وقد حرم الله عليهم الشحوم، فهل إذا ذبحوا الحيوانات التي حرمت عليهم وهي حلال لنا، أو تلكم الشحوم التي حرمت عليهم وهي حلال لنا هل نأكل منها أو لا؟ هذه مسألة فيها كلام للعلماء.
• قوله: (فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ
(3)
).
ونصارى تغلب هم نصارى لكن لا كتاب لهم
(4)
.
• قوله: (وَلَا مُرْتَدِّينَ، وَذَبَحُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَمَّوُا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَبِيحَتِهِمْ، وَكَانَتِ الذَّبِيحَةُ مِمَّا لَمْ تحَرَّمْ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا حَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْهَا مَا عَدَا الشَّحْمَ).
والمرتد
(5)
: هو من ذاق حلاوة الإسلام وطعمه ثم ارتد عن الإسلام، وقد جاء في الحديث:"من بدل دينه فاقتلوه"
(6)
.
وقد اختلف العلماء في ذبيحة المرتد
(7)
:
فبعضهم: لا يجيز ذلك.
(1)
وهو تفسير ابن عباس، ويُنظر:"تفسير الطبري"(12/ 198)؛ حيث قال: "البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابِّ".
(2)
وهو قول ابن زيد، ويُنظر:"تفسير الطبري"(12/ 200)؛ حيث قال: "قال ابن زيد في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر)، الإبل قط".
(3)
واختلفوا في نصارى بني تغلب، فمذهب الحنفية والمالكية والحنابلة حل ذبائحهم، خلافًا للشافعية فلا تحل عندهم، وسيأتي مفصلًا.
(4)
نصارى العرب قبائل من العرب تنصروا وهو تنوخ وبهراء وبنو تغلب بفتح التاء وبالغين المعجمة. يُنظر: "تحرير ألفاظ التنبيه"، للنووي (319).
(5)
المرتد هو: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر. انظر: "المطلع"، للبعلي (ص 462).
(6)
أخرجه البخاري (3017).
(7)
يُنظر: "الإجماع"، لابن القطان (1/ 321)؛ حيث قال:"وأجمعوا أن ذبائح المرتدين حرام على المسلمين إلا الأوزاعي، فإنه أحلها"، وسيأتي مفصَّلًا.
وبعضهم قال: إذا ارتد إلى النصرانية تجوز ذبيحته لأنها الأقرب، وهو رأي نقل عن إسحاق بن راهويه
(1)
.
أما إذا ذبح أهل الكتاب مما لم يحرمه الله ولا يحرمونه هم، وسمَّوا الله تعالى فهذا أمر لا خلاف فيه، وكذلك إذا نسوا التسمية عند مَن يرى أن التسمية لا تجب إلا مع الذكر فهذه أيضا يجوز الأكل منها
(2)
، حتى لو جهلنا نحن هل سموا أو لم يسموا فنسمي ونأكل
(3)
؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم من هؤلاء أنهم ربما سموا أو أنهم لم يسموا، وربما سموا عليها غير الله، ومع ذلك الله تعالى قال: {
…
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}؛ فلا ينبغي لنا أن نتتبع هذه الأُمور ونشغل أنفسنا بالبحث والتنقيب والتفتيش، إن شككت فسمِّ، وإن ترددت فدع هذا الأمر.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مُقَابِلَاتِ هَذِهِ الشُّرُوطِ؛ أَعْنِي: إِذَا ذَبَحُوا لِمُسْلِمٍ بِاسْتِنَابَتِهِ).
أي: الأشياء التي تقابلهم، فلو أن مسلمًا كلف كتابيًّا أن يذبح له، هذه المسألة تعود إلى النية، فإذا قلنا باشتراط النية في الذبيحة فلا تجوز، لأن النية عبادة والكافر لا تجوز منه العبادة.
• قوله: (أَوْ كَانُوا مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، أَوْ مُرْتَدِّينَ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ سَمَّوُا اللَّهَ، أَوْ جُهِلَ مَقْصُودُ ذَبْحِهِمْ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا غَيْرَ اللَّهِ مِمَّا يَذْبَحُونَهُ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ، أَوْ كَانَتِ الذَّبِيحَةُ مِمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْرَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]، أَوْ
(1)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 388)؛ حيث قال:"وقال الأوزاعي، وإسحاق: تباح ذبيحته إذا ذهب إلى النصرانية أو اليهودية؛ لأن من تولَّى قومًا فهو منهم".
(2)
تقدَّم نقل الإجماع.
(3)
سيأتي.
كَانَتْ مِمَّا حَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِثْلَ الذَّبَائِحِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ اليَهُودِ فَاسِدَةً مِنْ قِبَلِ خِلْقَهٍ إِلَهِيَّةٍ، وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الشُّحُومِ
(1)
(2)
.
هناك حيوانات لا يجوز أكلها، لكنها مباحة عندهم كلحم الخنزير والميتة، وهناك لحوم هم حرموها على أنفسهم وقد أباحها الله، والله تعالى يقول:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87][المائدة: 87].
• قوله: (فَأَمَّا إِذَا ذَبَحُوا بِاسْتِنَابَةِ مُسْلِمٍ، فَقِيلَ فِي المَذْهَب عَنْ مَالِكٍ
(3)
: يَجُوز، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ)
(4)
.
جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز، وهذا هو الذي نراه
(5)
؛ لأن استنابة الكافر معناها أنها توكيل له، وإذا ذبح الكافر فالنية مطلوبة وهذا لا تصح منه النية، لكن بالنسبة له يرى أن الله استثنى ذلك وأباحه لنا.
• قوله: (وَسَبَبُ الاخْتِلَافِ: هَلْ مِنْ شَرْطِ ذَبْحِ المُسْلِمِ اعْتِقَادُ تَحْلِيلِ الذَّبِيحَةِ عَلَى الشُّرُوطِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ
(1)
الشحم: معروف، وهو جوهر السمن، والجمع: شحوم. انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (32/ 456).
(2)
سيأتي تفصيله.
(3)
وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
ولمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (6/ 9)؛ حيث قال:" (وكره ذبح الكتابي)؛ لأنه قربة، وهو ليس من أهلها، ولو أمره فذبح جاز؛ لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(6/ 125)؛ حيث قال: "والأفضل أن يستنيب مسلمًا فقيها بباب الأضحية، ويكره استنابة كتابي وصبي وأعمى".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (83)؛ حيث قال:" (وإن وكل مَن يصح ذبحه ولو ذميًّا) كتابيًّا أبواه كتابيان (جاز، ومسلم أفضل) من ذمي".
(4)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(6/ 102)؛ حيث قال: " (وفي) حل (ذبح كتابي) حيوانًا مملوكًا (لمسلم)، وكله على ذبحه فيجوز أكلها وعدم حله فلا يجوز (قولان) ".
(5)
مذهب الجمهور صحة استنابة الكتابي مع الكراهة، وتقدَّم.
النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الذَّبِيحَةِ، قَالَ: لَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الكِتَابِيِّ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وُجُودُ هَذِهِ النِّيَّةِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ ليْسَ بِشَرْطٍ، وَغَلَّبَ عُمُومَ الكِتَابِ، أَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، قَالَ: يَجُوزُ
(1)
، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ نِيَّةَ المُسْتَنِيبِ تُجْزِي، وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ
(2)
).
قول العلماء على أن ذلك لا يجوز
(3)
.
• قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ ذَبَائِحُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَالمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ
(4)
عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَ النَّصَارَى مِنَ العَرَبِ حُكْمُهَا
(1)
وهم الجمهور، وتقدَّم مفصَّلًا.
(2)
لم أقف على قول ابن وهب. ويُنظر: "المنتقى"، للباجي (3/ 89)؛ حيث قال:"وإن استناب كتابيًّا فهل يجزئه أم لا؟ قال ابن القاسم في "المدونة": يعيدها ولو أمر بذلك مسلمًا أجزأه. وروى عنه أشهب أنه قال: يجزئه. وجه قول ابن القاسم: أن الكافر لا تصح منه نية القربة، وإن صحت منه نية الاستنابة والأضحية قربة فإذا ذبحها الكتابي لم تكن أضحية وكانت ذبيحة مباحة ووجه قول أشهب إن صح ذبحه لغير الأضحية صح ذبحه للأضحية كالمسلم".
(3)
تقدَّم مفصَّلًا.
(4)
وهو قول الجمهور خلاف للشافعية.
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (11/ 532)؛ حيث قال:"وقال الكرخي في "مختصره": ولا بأس بذبح نصارى بني تغلب الفلاحين وغيرهم؛ وذلك لأنهم على دين النصارى وإن لم يتمسكوا بكل شرائعهم فصاروا كالنصارى الأصليين إذا لم يتمسكوا ببعض الشرائع".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 99)؛ حيث قال: " (يناكح)؛ أي: تنكح أنثاه، ولو عبر به كان أولى فدخل الكتابي ذكرًا أو أنثى، ولو أمة فالمفاعلة ليست على بابها".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 205)؛ حيث قال:" (ولا تعتبر) لصحة الذكاة (إرادة الأكل) اكتفاء بإرادة التذكية (مسلمًا كان الذابح أو كتابيًّا ولو حربيًّا أو من نصارى بني تغلب) ".
حُكْمُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الكِتَابِ
(1)
، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يجِزْ ذَبَائِحَهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
(3)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه
(4)
).
اختلف العلماء في نصارى نجران، الأكثرون من العلماء: يرون جواز أكل ذبائحهم؛ لأنهم أهل الكتاب والله تعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، وبعضهم أجاز ذلك، وفي مذهب أحمد قولان بالجواز وعدمه
(5)
.
• قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ يَتَنَاوَلُ العَرَبَ المُتَنَصِّرِينَ اسْمُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، كمَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الأُمَمَ المُخْتَصَّةَ بِالكِتَابِ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَالرُّومُ.
وَأَمَّا المُرْتَدُّ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تُؤْكَلُ
(6)
. وَقَالَ
(1)
تقدَّم مفصلًا.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 477) عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"كلوا ذبائح بني ثعلبة، وتزوجوا نساءهم". فإن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم".
(3)
وهو المشهور، يُنظر:"النجم الوهاج"، للدميري (9/ 454)؛ حيث قال: "وتحرم ذبائح المجوس والمرتدين وعبدة الأوثان، وكذلك نصارى العرب
…
". ويُنظر: "الاستذكار" (5/ 258).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 477) عن علي: "أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب ونساءهم، ويقول: هم من العرب".
(5)
والمشهور منهما جواز ذبائحهم، وتقدَّم. ويُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 347)؛ حيث قال: "اختلفت الرواية عن أبي عبد الله في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، فعنه لا يحل ذلك
…
والرواية الثانية، تحل ذبائحهم ونساؤهم. وهذا الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وكان آخر الروايتين عنه
…
وهذا قول ابن عباس". وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 8).
(6)
وهو قول الأئمة الأربعة.
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (6/ 60)؛ حيث قال: " (وحرم صيد =
إِسْحَاقُ: ذَبِيحَتُهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَكْرُوهَة
(1)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ المُرْتَدُّ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ أَهْلِ الكِتَابِ؛ إِذْ كَانَ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ أَهْلِ الكِتَابِ أَوْ يَتَنَاوَلُهُ؟).
والصحيح: أن ذبيحة المرتد لا تؤكل.
وقال إسحاق بن راهويه: لو ارتد إلى المسيحية جازت ذبيحته
(2)
.
• قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ سَمَّوا اللَّهَ عَلَى الذَّبِيحَةِ).
إذا ذبح أهل الكتاب الذبيحة ولم نعلم إن كانوا سموا الله عليها أو لا، الصحيح أننا نأكل منها، فقد جاء في الحديث في قصة الذين جاؤوا إلى جماعة بلحم فقالوا: يا رسول الله، إن جماعة من الأعراب يأتوننا بشيء من اللحم لا ندري أسموا أو لم يسموا، فقال: "سموا الله
= المجوسي والوثني والمرتد)؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة في حالة الاختيار فكذا في حالة الاضطرار".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 209)، حيث قال في شروط الذابح: "الشرط الثاني أن يكون يناكَح - بفتح الكاف -؛ أي: يجوز للمسلم أن يتزوج منهم
…
والمرتد والزنديق والصابئ، والصابئة: طائفة بين النصرانية والمجوسية يعتقدون تأثير النجوم".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج"، للدميري (9/ 454)، حيث قال:"وتحرم ذبائح المجوس والمرتدين وعبدة الأوثان، وكذلك نصارى العرب".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 205) "حيث قال:" (ولا) تباح (ذكاة مرتد وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب ولا مجوسي ولا وثني ولا زنديق وكذا الدروز والتيامنة والنصيرية بالشام) ".
(1)
يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 444)؛ حيث قال: "واختلفوا في ذبيحة المرتد
…
وقال الثوري: يكرهونها
…
وقال إسحاق: في المرتد إذا ذهب إلى النصرانية فذبيحته جائزة".
(2)
تقدَّم.
وكلوا"
(1)
، والله تعالى لما قال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} لم يفصل وإنما أطلق.
• قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ: تُؤْكلُ
(2)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
(3)
، وَلَسْتُ أَذْكرُ فِيهِ فِي هَذَا الوَقْتِ خِلَافًا، وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الاحْتِمَالُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الأَصْلَ هُوَ أَلَّا يُؤْكلَ مِنْ تَذْكِيَتِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى شُرُوطِ الإِسْلَامِ، فَإِذَا قِيلَ عَلَى هَذَا: إِنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرْطِ التَّذْكِيَةِ، وَجَبَ أَلَّا تُؤْكلَ ذَبَائِحُهُمْ بِالشَّكِّ فِي ذَلِكَ).
مذهب الجمهور: جواز أكل ذبيحة الكتابي إذا لم يعلم أسمَّى الله عليها أم لا.
• قوله: (وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا ذَلِكَ لِأَعْيَادِهِمْ وَكنَائِسِهِمْ؛ فَإِنَّ
(1)
تقدَّم.
(2)
لمذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (8/ 191)؛ حيث قال: " (وحل ذبيحة مسلم وكتابي)
…
ويشترط ألا يذكر فيه غير الله تعالى
…
قال في "العناية": الكتابي إذا أتى بالذبيحة مذبوحة أكلنا فلو ذبح بالحضور فلا بد من الشرط وهو ألا يذكر غير اسم الله".
ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(2/ 158)، حيث قال:" (فالشرط) في جواز أكل ذبيحته: (أن لا يغيب) حال ذبحها عنا، بل لا بد من حضور مسلم عارف بالذكاة الشرعية خوفًا من كونه قتلها أو نخعها أو سمَّى عليها غير الله (لا تسميته) فلا تشترط، بخلاف المسلم فتشترط كما يأتي".
والشافعية لا يوجبون التسمية كما تقدَّم، يُنظر:"حاشية الشرواني علي نهاية المحتاج"(9/ 326)؛ حيث قال: "فأباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وبأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وهم لا يسمون غالبًا فدل على أنها غير واجبة".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 209)؛ حيث قال: "وإن ذبح الكتابي باسم المسيح أو غيره لم تبح) الذبيحة
…
(وإذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا أو) لم يعلم (أذكر اسم غير الله أم لا؟) فالذبيحة (حلال) ".
(3)
لم نقف عليه.
مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ كَرِهَه، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَه، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَه، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ
(3)
).
ونقل عن بعض العلماء أنه أجازه كأبي حنيفة
(4)
، وهي رواية عن الإمام أحمد، والرواية الثانية بعدم الجواز
(5)
.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ عُمُومَيِ الكِتَابِ فِي هَذَا البَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، إِذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الآخَرِ، فَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}).
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 318)؛ حيث قال:"كره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم".
(2)
يُنظر: "منح الجليل"، لعليش (2/ 414)؛ حيث قال:"وقال في سماع عبد الملك من أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال: لا بأس بأكله".
(3)
يُنظر: "المجموع"(9/ 78)؛ حيث قال: "واختلفوا في ذبائحهم لكنائسهم
…
ومذهبنا تحريمه".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (7/ 341) حيث قال:"أو أوصى بأن يذبح لعيدهم، أو للبيعة أو لبيت النار ذبيحة جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يجوز".
(5)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 391)؛ حيث قال:"قال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال: لا يؤكل؛ يعني: ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم؛ لأنه أهل لغير الله به. وقال في موضع: يدعون التسمية على عمد، إنما يذبحون للمسيح. فأما ما سِوى ذلك، فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم وأعيادهم مطلقًا. وهو قول ميمون بن مهران؛ لأنه ذبح لغير الله. وروي عن أحمد إباحته".
المؤلف يريد أن يضبط سبب الخلاف في هذه المسألة قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} والآية الأُخرى قِوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، فهل هذه مخصصة لتلك أو تلك مخصصة لهذه؛ أما إذا ذبحوا الذبيحة لغير الله فلا يجوز الأكل منها.
• قوله: (قَالَ: لَا يَجُوزُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِلْكَنَائِسِ وَالأَعْيَادِ. وَمَنْ عَكَسَ الأَمْرَ قَالَ: يَجُوز، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الذَّبِيحَةُ مِمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ: يَجُوزُ
(1)
، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ
(2)
، وَقِيلَ: بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ بِالتَّوْرَاةِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، أَعْنِي: بِإِبَاحَةِ مَا ذَبَحُوا مِمَّا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمَنْعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
(3)
، وَقِيلَ: يُكْرَهُ وَلَا يُمْنَع، وَالأَقَاوِيلُ الأَرْبَعَة مَوْجُودَةٌ فِي المَذْهَبِ: المَنْعُ عَنِ ابْنِ القَاسِمِ، وَالإِبَاحَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ، وَالتَّفْرِقَةُ عَنْ أَشْهَبَ)
(4)
.
(1)
وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البناية"، للعيني (11/ 529)؛ حيث قال:"ولو ذبح الكتابي ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه مثل كل ذي ظفر قال قتادة رضي الله عنه: هي الإبل والنعام والبط وما ليس مشقوق الأصابع، أو ذبح دابة لها شحم يخير عليه يحل عند الأكثر".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"أسني المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 553)؛ حيث قال: " (الأول الذابح أو الصائد وشوطه مسلم أو كتابي يناكح أهل ملته)
…
وسواء اعتقد إباحته كالبقر والغنم أم تحريمه كالإبل".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 211)؛ حيث قال: " (وإن ذبح كتابي ما يحرم عليه يقينا كذي الظفر
…
(أو) ذبح كتابي (ما زعم أنه يحرم عليه ولم يثبت عندنا تحريمه عليه
…
لم يحرم علينا) لأنه من أهل الذكاة وذبح ما يحل لنا أشبه المسلم
…
وإن ذبح) الكتابي (حيوانًا غيره)؛ أي: غير ما يحرم عليه (مما يحل له لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم) ".
(2)
قول ابن القاسم من المالكية، وسيأتي.
(3)
وهو المشهور عند المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(3/ 158)؛ حيث قال: "فعلم أن ما حرم عليه بشرعنا لم يؤكل إن ذبحه أو نحره
…
(وكره) لنا (ما حرم عليه بشرعه) إذا ذبحه بأن أخبرنا بأنه يحرم عليه في شرعه الدجاج مثلًا".
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 318)؛ حيث قال: " (أو غير حل له إن ثبت =
وأما بقية العلماء فمنهم من أباح ذلك ومنهم من منع، وقد ذكرنا أقوالهم فيما سبق.
• قوله: (وَأَصْلُ الاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ عُمُومِ الآيَةِ لاشْتِرَاطِ نِيَّةِ الذَّكَاةِ، أَعْنِي: اعْتِقَادَ تَحْلِيلِ الذَّبِيحَةِ بِالتَّذْكيَةِ. فَمَنْ قَالَ: ذَلِكَ شَرْطٌ فِي التَّذْكيَةِ، قَالَ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الذَّبَائِحُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَهَا بِالتَّذْكيَةِ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا، وَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الآيَةِ المُحَلِّلَةِ قَالَ: تَجُوزُ هَذِهِ الذَّبَائِح، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أكْلِ الشُّحُومِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِه)
(1)
.
جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة يجيزون الأكل من الشحوم أو الذبائح التي حرموها على أنفسهم
(2)
، أما مالك فهو الذي خالف في ذلك فله رأيان في المسألة: رواية بالجواز كمذهب الجمهور، والرواية الأُخرى انفرد بها: لا يجوز
(3)
.
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الشُّحُومَ مُحَرَّمَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ.
= بشرعنا إلا كره). اللخمي: قال أشهب: كل ما كان محرفا بكتاب الله في قوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} إلى {شُحُومَهُمَا} الآية. فلا يأكل المسلم من ذبائحهم ولا بأس بما حرموه على أنفسهم. وقال ابن القاسم: لا يؤكل هذا ولا هذا ثم قال: إنهم يعتقدون أن ذلك التحريم باق وأن هذه الذكاة ليست بذكاة قال: وإلى هذا ذهب ابن القاسم أنها ذكاة بغير نية".
وينظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (4/ 367 - 368)؛ حيث قال:"وأجاز أشهب أكل ما حرموه على أنفسهم مما ليس في النص تحريمه عليهم، وقال ابن القاسم: لا يؤكل هذا ولا هذا. وقال ابن وهب لا بأس أن يؤكل هذا وهذا، وقاله محمد بن عبد الحكم".
(1)
سيأتي.
(2)
تقدَّم ذكر مذاهبهم.
(3)
سيأتي.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَكْرُوهَة، وَالقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُبَاحَة
(1)
، وَيَدْخُلُ فِي الشُّحُومِ سَبَبٌ آخَرُ مِنْ أَسْبَاب الخِلَافِ سِوَى مُعَارَضَةِ العُمُومِ لاشْتِرَاطِ اعْتِقَادِ تَحْلِيلِ الذَّبِيحَةِ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ: هَلْ تَتَبَعَّضُ التَّذْكيَةُ أَوْ لَا تَتَبَعَّضُ؟ فَمَنْ قَالَ: تَتَبَعَّض، قَالَ: لَا تُؤْكلُ الشُّحُوم، وَمَنْ قَالَ: لَا تَتَبَعَّضُ قَالَ: يُؤْكَلُ الشَّحْمُ).
مراد المؤلف: إذا ذبحت ذبيحة فيها شحم ولحم، فهل نقول: إن بعضها حلال وهو اللحم، والشحم ليس بحلال، الجمهور قالوا: الكل حلال، لأن الله حرمه عليهم ولم يحرمه عليكم.
• قوله: (وَبَدُلُّ عَلَى تَحْلِيلِ شُحُومِ ذَبَائِحِهِمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: "إِذْ أَصَابَ جِرَابَ الشَّحْمِ يَوْمَ خَيْبَرَ"
(2)
، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كتَابِ الجِهَادِ).
هذا الحديث متفق عليه، وقصته: أن عبد الله بن مغفل رأى جرابًا دلي من قصر خيبر فأسرع ليأخذه فلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلَيه، فهذا دليل على جوازه، لأن هذا شحم ودُلي من ذلك المكان وهرول إليه عبد الله ليأخذه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يحصل الخلاف مع وجود هذا الدليل القطعي.
(1)
يُنظر: "المنتقى"، للباجي (3/ 112)؛ حيث قال: "وما حرم عليهم من شحوم الحيوان الذي يستبيحونه
…
قال ابن حبيب: ما كان من هذا محرمًا بنص التنزيل فلا يحل لنا أكله بعينه ولا أكل ثمنه، وما لم يكن محرمًا عليهم في التنزيل مثل الطريف وشبهه فإنه مكروه أكله وأكل ثمنه قال: وهذا قول مالك وبعض أصحابه، وحكى القاضي أبو محمد أن شحوم اليهود المحرمة عليهم مكروهة عند مالك ومحرمة عند ابن القاسم وأشهب. وقد روي عن مالك
…
هي مباحة غير مكروهة".
(2)
أخرجه البخاري (3153)، ومسلم (1772) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال:"كنا محاصري خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت".
• قوله: (وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ شَرْعِهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالَ: مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرٌ حَقٌّ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَتَعْمَلُ فِيهِ التَذْكيَةُ).
لأنه ليس لهم أن يحرموا ما أحل الله، وليس لهم أن يحللوا ما حرم الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين بلغ قول الله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال له عدي: يا رسول الله، لا نعبدهم، قال:"أليسوا يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله"، قال: بلى. قال: "تلك عبادتهم"
(1)
.
الذي يشرع الأحكام هو الله سبحانه وتعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن ربه بواسطة جبريل، إذًا ليس لأحد أن يشرع شرعًا أو يسن حكمًا من الأحكام إلا الله سبحانه وتعالى وما عداه فهو باطل، قال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50].
• قوله: (قَالَ القَاضِي).
هو ابن رشد رحمه الله.
• قوله: (وَالحَقُّ أَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، أَوْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ فِي وَقْتِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ أَمْرٌ بَاطِلٌ؛ إِذْ كَانَتْ نَاسِخَةً لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ أَلَّا يُرَاعَى اعْتِقَادُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُشتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ فِي تَحْلِيلِ الذَّبَائِحِ اعْتِقَادَ المُسْلِمِينَ، وَلَا اعْتِقَادَ
(1)
أخرجه الترمذي (3095) عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن"، وسمحته يقرأ في سورة براءة:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال:"أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه". وصححه الألباني في "الصحيحة"(3293).
شَرِيعَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ، لمَا جَازَ أَكلُ ذَبَائِحِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، لِكَوْنِ اعْتِقَادِ شَرِيعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخًا، وَاعْتِقَادِ شَرِيعَتِنَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَذَبَائِحُهُمْ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - جَائِزَةٌ لَنَا عَلَى الإِطْلَاقِ، وَإِلَّا ارْتَفَعَ حُكْمُ آيَةِ التَّحْلِيلِ جُمْلَةً، فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا المَجُوسُ: فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ ذَبَائِحُهُمْ، لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ
(1)
، وَتَمَسَّكَ قَوْمٌ فِي إِجَازَتِهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ"
(2)
.
حكى بعض العلماء الإجماع أن ذبائح المجوس لا تجوز، أما صيدهم من السمك فهذا أمر متفق عليه
(3)
ولم يخالف فيه إلا مالك في
(1)
يُنظر: "الإجماع"، لابن القطان (1/ 321)؛ حيث قال:"وأجمعوا أن المجوسي والوثني لو سمَّى الله لم تؤكل ذبيحته"، وتقدَّم بيان ذلك في مسألة المرتد قبل قليل.
(2)
أخرجه مالك (1/ 278)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1248).
(3)
وهو قول الأئمة الأربعة، وحكي إجماعًا، ويُنظر:"المغني"، لابن قدامة (9/ 393)، وإنما خلاف مالك والليث في الجراد كما سيأتي.
لمذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (11/ 616)؛ حيث قال:"فوائد: وفي "الكافي" للحاكم: ولا يحل صيد المجوسي ولا ذبيحته إلا فيما يحتاج إليه من التذكية من سمكة أو جرادة وبيضة يأخذها، وما أشبه ذلك، وكذلك المرتد". ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(2/ 182)، حيث قال: "واعلم أن ميتة البحر
…
وسواء وجد ذلك الميت راسيًا في الماء أو طافيًا أو في بطن حوت أو طير، سواء ابتلعه ميئا أو حيًّا ومات في بطنه، ويغسل ويؤكل وسواء صاده مسلم أو مجوسي".
ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (9/ 317)؛ حيث قال:" (ولو صادهما)، أو ذبح السمك (مجوسي) لحل ميتتهما فلم يؤثر فيهما فعله".
ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"الشرح الكبير"، لابن أبي عمر (27/ 360): حيث قال: "فأما ما لا يفتقر إلى الذكاة، كالحوت والجراد، فيباح إذا صاده المجوسي ومن لا تباح ذبيحته، وقد أجمع على ذلك أهل العلم"
جوازه
(1)
، أما ذبائحهم فلا تجوز عند جمهور العلماء، ولم يجز ذلك إلا أبو ثور، واعتبر العلماء خلافه شاذًّا لا يعتد به.
وقد استدل الذين أجازوا ذبائحهم بدليلين:
- الأول: حديث: "سنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"
(2)
.
- الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر، وطلب منهم الإسلام أو الجزية
(3)
). قالوا: فدلَّ ذلك على أنهم كأهل الكتاب.
إذن؛ الدليل الأول: الحديثان، وثانيًا: أخذ الجزية، وأخذ الجزية لا يأخذ إلا من أهل الكتاب؛ إذن يعاملون معاملة أهل الكتاب.
وجمهور العلماء على أن ذلك لا يجوز وقالوا: إن بقية الحديث: "سنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" - "غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم"
(4)
.
وجاء في الحديث الآخر الذي عند البيهقي
(5)
وعبد الرزاق في "مصنفه"
(6)
، وكذلك ابن أبي شيبة
(7)
: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر يدعوهم للإسلام فإن أبوا فيدفعوا الجزية غير ألا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"، هذا هو دليل الجمهور.
وأولئك قالوا: إنه بالنسبة للحديث الأول: "غير ناكحي نسائهم غير
(1)
خالف مالك في الجراد، وتقدَّم قوله في السمك.
ويُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (4/ 357)، حيث قال:"ومن العتبية قال أشهب عن مالك: ولا يجوز صيد المجوسي لها إن قتلها بفعله إلا أن تؤخذ منه حية فتعمل فذلك جائز) ".
(2)
تقدم
(3)
أحرجه البخاري (3157).
(4)
قال الحافظ في "الدراية"(2/ 205): لم أجده. وذكر رواية نحوها عزاها لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسيأتي تخريجهما.
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 192).
(6)
أخرجه عبد الرزاق (6/ 69 - 70).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 488).
آكلي لحومهم" قالوا: هذا مدرج، وقد تكلم عنه الحافظ ابن حجر بأنه مدرج
(1)
أيضًا
(2)
، والحديث الآخر إنما هو مرسل
(3)
(4)
.
لكن مذهب الجمهور هو الصحيح في هذه المسألة.
قوله: (وَأَمَّا الصَّابِئُونَ: فَالاخْتِلَافُ فِيهِمْ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي: هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؟)
(5)
.
أما ذبيحة الصابئين وهم فرقة من النصارى:
فعند أبي حنيفة: تؤكل إذا كانوا يؤمنون بنبي ويقرّون بكتاب، وإن كانوا يعبدون الكواكب ولا يقرَون بنبوة عيسى عليه السلام لم تؤكل
(6)
.
ومذهب مالك: أنها لا تؤكل على معنى الكراهة
(7)
.
(1)
الحديث المدرج: هو أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوي، فحسبها من يسمعها مرفوعة في الحديث، فيرويها كذلك. انظر:"الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث"، لابن كثير (ص 73).
(2)
يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (3/ 375)؛ حيث قال:"تنبيه: تبين أن الاستثناء في حديث عبد الرحمن مدرج".
(3)
الحديث المرسل: هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: "معرفة علوم الحديث"، للحاكم (ص 25).
(4)
يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (3/ 375)، حيث قال:"وفي رواية عبد الرزاق غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم وهو مرسل وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف".
(5)
تقدَّم مفصلًا.
(6)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 297)؛ حيث قال في شروط الذابح: " (قوله: ذميًّا أو حربيًّا)
…
وكذا الصابئة لأنهم يقرون بعيسى عليه السلام
…
وفي البدائع: كتابهم الزبور ولعلهم فرق، وقدم الشارح في الجزية أن السامرة تدخل في اليهود لأنهم يدينون بشريعة موسى عليه السلام ".
(7)
والمشهور المنع. يُنظر: "حاشية الصاوي"(2/ 154)؛ حيث قال: "ولا الصابئين وإن كان أصلهم نصارى، لكن لعظم مخالفتهم للنصارى ألحقوا بالمجوس، كذا قال أهل المذهب".
وعن أحمد روايتان؛ مأخذهما: هل هم من النصارى أم لا؟
(1)
.
وقيل: إنها حرام، وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وهم قوم بين المجوسية والنصرانية
(2)
.
وسبب منعهم ذبيحة الصابئين؛ لأنهم بين النصرانية والمجوسية.
والشافعية يفصلون؛ فيقولون: الصابئون إن وافقوا أهل الكتاب في أصول العقائد تؤكل ذبائحهم، وإن لم يوافقوهم وكان دينهم بين المجوسية والنصرانية، أو يعتقدون بتأثير النجوم، فلا تؤكل ذبائحهم
(3)
.
• قوله: (وَأَمَّا المَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ: فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ جَائِزَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(4)
، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَبُو المُصْعَبِ
(5)
).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير على المقنع"، لأبي الفرج المقدسي (10/ 589) حيث قال: "اختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر: بلغني أنهم يسبتون فإذا أسبتوا فهم من اليهود
…
والصحيح ما ذكر هاهنا، من أنه ينظر فيهم، فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليسوا منهم. ويروى عنهم أنهم يقولون: الفلك حي ناطق، وإن الكواكب السبعة آلهة. فإن كانوا كذلك، فهم كعبدة الأوثان".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (4/ 366) حيث قال:"ولا تؤكل ذبيحة الصابئ وليس بحرام، كتحريم ذبائح المجوس. وقد حرم الحسن وسعيد بن جبير ذبائحهم ونكاح نسائهم وقيل: أنهم بين المجوسية والنصرانية".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (7/ 326)؛ حيث قال: "وإن خالفت السامرة اليهود)
…
(والصابئون) من صبأ إذا رجع (النصارى) وهم طائفة منهم (في أصل دينهم)
…
(حرمن)
…
(وإلا)
…
(فلا) يحرمن إن وجدت فيهم الشروط السابقة ما لم تكفرهم اليهود والنصارى كمبتدعة ملتنا وقد تطلق الصابئة أيضًا، على قوم أقدم من النصارى كانوا في زمن إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم منسوبين لصابئ عم نوح صلى الله عليه وسلم يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها ويزعمون أنه لفلك حي ناطق وليسوا مما نحن فيه؛ إذ لا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم مطلقًا ولا يقرون بجزية
…
".
(4)
يُنظر: "منح الجليل"، لعليش (2/ 406)، حيث قال: " (الذكاة قطع مميز)
…
قطع مميز مسلم أو كتابي حرًّا كان أو رقًّا، ذكرًا كان أو أنثى".
(5)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (3/ 214) حيث قال:"والمشهور أن المرأة والمميز كالبالغ وكرهه أبو مصعب. انتهى من "التوضيح"".
كلُّ مَن أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب، إذا ذبح حل أكل ذبيحته، رجلًا كان أو امرأة، بالغًا أو صبيًّا، حرًّا كان أو عبدًا، ليس في هذا خلاف
(1)
.
• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: نُقْصَانُ المَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وإنَّمَا لَمْ يَخْتَلِفِ الجُمْهُورُ فِي المَرْأَةِ، لِحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ سَعِيدٍ: "أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى بِسَلْعٍ
(2)
، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"لَا بَأْسَ بِهَا، فَكُلُوهَا"
(3)
، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
ففي هذا الحديث إباحة ذبيحة المرأة، والأمة، والحائض؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل.
• قوله: (وَأَمَّا المَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ: فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يُجِزْ ذَبِيحَتَهُمَا
(4)
، وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(5)
).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 432)؛ حيث قال:"أجمع عوام أهل العلم الذين حفظنا عنهم على إباحة أكل ذبيحة الصبي والمرأة، إذا أطاقا الذبح، وأتيا على ما يجب أن يؤتى عليه".
(2)
"سلع": هو بفتح سين وسكون لام جبل بالمدينة. انظر: "مجمع بحار الأنوار"، للكجراتي (3/ 100).
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "حاشية الصاوي"(2/ 154)، حيث قال:" (وهو)، أي: الذبح، أي: حقيقته: (قطع مميز) من إضافة المصدر لفاعله، خرج غير المميز لصغر أو جنون أو إغماء أو سكر، فلا يصح ذبحه لعدم القصد الذي هو شرط في صحتها".
وهو مذهب الحنفية كذلك، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 297)؛ حيث قال: "قال في الجوهرة: لا تؤكل ذبيحة الصبي الذي لا يعقل والمجنون والسكران الذي لا يعقل".
وهو مذهب الحنابلة أيضًا، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 205)؛ حيث قال:" (ولا ذكاة مجنون وسكران وطفل غير مميز) لأنه لا قصد لهم".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 115)؛ حيث قال: " (ويحل ذبح صبي مميز) سواء =
قال مالك: يشترط في المذكِّي أن يكون عاقلًا، فإن كان طفلًا، أو مجنونًا، أو سكران لا يعقل، لم يصح منه الذبح.
وقال الشافعي: لا يعتبر العقل.
• قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ، فَمَنِ اشْتَرَطَ النِّيَّةَ مَنَعَ ذَلِكَ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ مِنَ المَجْنُون، وَلَا مِنَ السَّكْرَان، وَبِخَاصَّةٍ المُلْتَخُّ
(1)
).
والصواب: أنَّ الذكاة يعتبر لها القصد، فيعتبر لها العقل؛ كالعبادة؛ فإنَّ من لا عقل له لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها.
• قوله: (وَأَمَّا جَوَازُ تَذْكِيَةِ السَّارِقِ وَالغَاصِبِ: فَإِنَّ الجُمْهُورَ
(2)
عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيهِ
(3)
).
مذهب أبي حنيفة
(4)
، ومالك
(5)
، والشافعي
(6)
: إباحة أكل ذبيحة
= كان مسلمًا أو كتابيًّا؛ لأن قصده صحيح (وكذا غير مميز) يطيق الذبح (ومجنون وسكران) لا تمييز لهما أصلًا فيحل ذبحهم (في الأظهر) لأن لهم قصدًا وإرادة في الجملة، ومنه يؤخذ عدم حل ذبح النائم، نعم يكره لأنهم قد يخطئون المذبح".
(1)
سكران مرتخ وملتخ بالراء واللام؛ أي: طافح. انظر: "تاج العروس"، للزبدي (7/ 257).
(2)
سيأتي تفصيل مذاهبهم.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 256)؛ حيث قال:"فممن ذهب إلى تحريم أكل ذبيحة السارق والغاصب ومن أشبههما إسحاق بن راهويه وداود بن علي وتقدمهما إلى ذلك عكرمة وهو قول شاذ عنهم".
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 193)؛ حيث قال: " (فإن ذبح شاة غيره) ونحوها مما يؤكل (طرحها المالك عليه وأخذ قيمتها أو أخذها وضمنه نقصانها
…
(قوله: أو أخذها وضمنه نقصانها)؛ لأنه إتلاف من وجه لفوات بعض المنافع كالحمل والدر والنسل، وبقاء بعضها وهو اللحم".
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (4/ 310)؛ حيث قال:"وتؤكل ذبيحة السارق لأنه إنما حرم عليه السرقة لا عين الذبح".
(6)
يُنظر: "أسنى المطالب"، للأنصاري (2/ 350)؛ حيث قال: " (وإن نقصت الصفة =
السارق والغاصب وسائر من تعدَّى بذبح مال غيره لصاحبها ومن أذن له صاحبها
(1)
.
وقال طاوس، وعكرمة، وإسحاق بن راهويه: يُكره
(2)
.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لَا يَدُلُّ؟ فَمَنْ قَالَ: يَدُلُّ، قَالَ: السَّارِقُ وَالغَاصِبُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَكَاتِهَا وَتَنَاوُلهَا وَتَمَلُّكِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَكَّاهَا، فَسَدَتِ التَّذْكِيَةُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَدُلُّ إِلَّا إِذَا كَانَ المَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ ذَلِكَ الفِعْلِ، قَالَ: تَذْكِيَتُهُمْ جَائِزَة
(3)
، لِأَنَّهُ لَيْسَ صِحَّةُ المِلْكِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ التَّذْكيَةِ).
فالجمهور قالوا: تؤكل ذبيحة السارق؛ لأنه إنما حرم عليه السرقة لا عين الذبح.
وتصريح المؤلف بأنَّ أحدًا قال بفساد تزكيتهم
(4)
، فيه نظر!
• قوله: (وَفِي "مُوَطَّإ ابْنِ وَهْبٍ""أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَلَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا"
(5)
، وَقَدْ جَاءَ إِبَاحَةُ ذَلِكَ مَعَ الكَرَاهِيَةِ فِيمَا رُوِيَ عَنِ
= فقط)، أي: دون الكل والجزء (كمن ذبح شاة أو طحن حنطة) أو نحوهما مما لا يسري إلى التلف (ردها) لخبر: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"(مع الأرش) ولو كان قدر القيمة".
(1)
وهو مذهب أحمد أيضًا في المشهور، يُنظر:"كشات القناع"، للبهوتي (6/ 206)؛ حيث قال:" (ويباح المغصوب لربه ولغيره إذا ذبحه غاصبه أو غيره سهوًا أو عمدًا طوعًا أو كرهًا ولو بغير إذن ربه) ".
(2)
تقدَّم النقل عنهم.
(3)
وهم الجمهور كما تقدَّم.
(4)
تقدَّم أن القول بعدم صحة تذكيتهم رواية عن أحمد، كما تقدَّم النقل عن إسحاق بن راهويه.
(5)
يُنظر: "الاستذكار"(5/ 256)؛ حيث قال: "وقد ذكر ابن وهب في "موطئه" بإثر حديث مالك عن نافع هذا. قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد الليثي عن ابن =
النَّبِيِّ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام فِي الشَّاةِ الَّتِي ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَطْعِمُوهَا الأُسَارَى"
(1)
).
ووجه الاستدلال: أنَّ الأُسارى ممن تجوز عليهم الصدقة مثلها، ولو لم تكن ذكية ما أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِي أُصُولِ هَذَا الكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
* * *
= شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه:"أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فلم ير بها بأسًا"".
وحديث نافع في البخاري (5502) عن نافع، عن رجل، من بني سلمة أخبر عبد الله:"أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنمًا له بالجبيل الذي بالسوق، وهو بسلع، فأصيبت شاة، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها".
(1)
أخرجه أبو داود (3332)، أخبرنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل، من الأنصار، قال:
…
فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه، ثم قال:"أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها"، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة، أن أرسل إليِّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطعميه الأسارى". وصححه الألباني.