الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[كتاب الصيد
(1)
]
[الباب الأول في حكم الصيد وفي محل الصيد]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهذا الكتاب في أصولِهِ أيضًا أربعةُ أبواب، الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الصَّيْدِ وَفِي مَحَلِّ الصيد).
(1)
الصيد: "صاد الرجل الطير وغيره يصيده صيدًا فالطير مَصِيدٌ. والرجل صائد وصيَّاد. وخرج يتصيَّد. والصيد بمعنى المصيدِ". انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 353)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 294).
وفي اصطلاح الفقهاء:
عرفه الحنفية بأنه: "اسم لما يتوحش ويمتنع، ولا يمكن أخذه إلا بحيلة، إما لطيرانه أو لعدوه". انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 35).
عرفه المالكية بأنه: لم نقف لهم على تعريف.
عرفه الشافعية بأنه: لم نقف لهم على تعريف.
عرفه الحنابلة بأنه: "اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا غير مملوك ولا مقدور عليه". انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 213).
أولًا: الصيد ليس واجبًا، لكن أحيانًا قد ينتقل الصيدُ من الإباحة إلى الوجوبِ
(1)
، قد يسأل سائل فيقول: كيف ذلك؟ قد يكون الإنسان في قطعةٍ منَ الفلاة، في صحراءَ ليس فيها أنيسٌ، فتدركه المجاعة، الله سبحانه وتعالى، حرَّم علينا الميتَةَ، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3]، وقال. تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، إذن الميتة لا يجوز أكلها، لكن لو اضطرَّ الإنسان إليها بأنْ خافَ الهلاك على نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يأكل من المَيتَةَ، كذلك قد يكون الإنسانُ في مكانٍ ما، فلا يجد ما يسُدُّ رمقَهُ ولا ما يدفع عنه الموت، فيرى قُدورًا قريبةً منه، أو يجدُ صَيْدًا من الصيد قريبًا منه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يصطادَ وأن يأكلَ، لأنَّ الله تعالى يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقد يكون الصيد أيضًا منْدوبًا
(2)
، فقد لا يكون الإنسان قد وصل إلى ما يُؤَدِّي بِهِ إلى الهلاك، لكنه بحاجةٍ شديدةٍ إلى الصيد فيكون مَنْدُوبًا أي: مسنونًا في حقّه. أما في سائر الأمور فهو مباحٌ
(3)
، لكن إذا كان قصدُ الإنسان هو التشَهِّي بالصيد
(4)
، بمعنى: أنَّ لديه هوايةً في قتل الصيد دون أن يكون محتاجًا إلى ذلك، فهذا لا ينبغي له، وهذا يدخل في الحديث الذي مرَّ بنا، وهو أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ إنسان يَقْتُلُ عصفورًا"، وهذا الحديث فيه مقالٌ لكن جاء من عدَّة طرق، وعموم الأدلة تشهد له، والعصفور: هو الطائر الصغير "فما فوقها بغير حَقِّها إلا سأله الله عنها يوم القيامَةِ" قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: "أن تذْبَحَها فتأكُلَها"
(5)
،
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
سيأتي.
(4)
سيأتي.
(5)
أخرجه النسائي في الكبرى (4/ 489) عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من إنسان يقتل عصفورًا، فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها"، قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: "يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها" وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5157).
يعني: أن تصيد هذا الطير فتكون بحاجة إليه، لا أنْ تقتله ثم ترمِيَه في الزبالة أو في غيره، هذا من باب الأذَى، والأذى غيرُ مطلوبٍ.
(البابُ الثَّاني: فِيمَا بِهِ يَكُونُ الصَّيْدُ).
يعني: يكون الصيد بآلةٍ، والآلةُ قد تكون بحيوانٍ، والله سبحانه وتعالى قد نصَّ على الكلاب كما في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، ونصَّ أيضًا على الرِّماح بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94].
• قوله: (الثالثُ: في صِفَةِ ذَكَاةِ الصَّيْدِ والشَّرَائِطِ المُشْتَرَطَةِ في عَمَلِ الذَّكَاةِ بالصَّيد. الرابع: "فيمن يجوز صيده").
الصيد أنواع، هناك نوع قد توجِّه سهْمَك له فتقتله، فأنت في هذه الحالة إذا توفرت الشُّروط تأكل منه، حتى وإن أدركته ميِّتًا، أو ترسل عليه حيوانًا معلَّمًا فيصيده أي: يجرحه، ففي هذه الحالة تأكلُ منه، حتى وإن أدْرَكْتَه ميِّتًا، لكن لو أرسلت كلبًا غير معلَّمٍ أو طائرًا غير معلَّم فصاده لك، فإنك تأكل منه إن أدركت ذكاته، لأنَّ هناك شروطًا يشترطها العلماء في الصيد
(1)
، بعضهم يوصلها إلى سبعةٍ وبعضهم إلى دون ذلك، بعضها متفق عليه، وبعضها محِلُّ خِلافٍ بين العلماء، وقد ذكرنا بعضًا منها أثناء دراستنا لأحكام الأضحية والذبائح.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الصَّيْدِ وَمَحَلِّهِ).
إذن سيتكلم المؤلف أولًا عن حكم الصيد، هل هو واجب؟ هل هو مندوب؟ هل هو مكروه؟ هل هو مستحَبٌّ؟ هل هو مُباح؟ فهناك أحكامٌ تكليفية خمسةٌ معروفةٌ: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرَّم، والمكروه، فأيُّ الأحكام الخمسة تنطبقُ على الصيد
(2)
؟ الذي ينطبق عليه
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
إنَّما هو حكم الإباحة، لأنَّ الله - تعالى - بعد أن نهى عنه، فقال:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] قال عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، يعني: إذا ارتفع الحظرُ أُبِيحَ لكم الصيدُ.
• قوله: (فَأَمَّا حُكْمُ الصَّيْدِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ
(1)
، لِقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]).
يعني: الإنسانُ إذا كان مُحرِمًا فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أباحَ له الصَّيد، لكنَّ الله سبحانه وتعالى بالنسبة لصيد البر حَظَره علينا ما دُمنا مُحرِمِين، أو كذلك لو كنَّا في الحرم، فإنَّ الحرم لا يُنَفَّرُ صيدُه
(2)
لكن الكلام في غير الحَرَم.
• قوله: (ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]).
(1)
مذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) على إباحة الصيد خلافًا للمالكية الذي ذكروا أنه حكمه ينقسم إلى خمسة أقسام.
مذهب الحنفية: "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 50)، حيث قال:"لأنه نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك فكان مباحًا كالاحتطاب ليتمكن المكلف من إقامة التكاليف".
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 118)، حيث قال:"أما حكمه فينقسم خمسة أقسام مباح للمعاش ومندوب للتوسعة على العيال وواجب لإحياء نفس عند الضرورة ومكروه للهو".
مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية البجيرمي على الخطيب"(4/ 293)، حيث قال:"قوله: {فَاصْطَادُوا} بالاصطياد يقتضي حل المصيد، والأمر فيه للإباحة". وانظر: "كفاية الأخيار" للحصنى (ص: 515).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 213)، حيث قال:"و (هو) أي الصيد (مباح لقاصده) إجماعا لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}. والسنة شهيرة بذلك منها حديث عدي بن حاتم وأبي ثعلبة".
(2)
أخرجه البخاري (1587) واللفظ له، ومسلم (1353) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرَّمه الله لا يُعْضَدُ شوكُه، ولا ينفَّر صيده، ولا يلتقط لُقَطتُه إلا من عرفها".
إذن نهى الله سبحانه وتعالى عنه في حالة التلبس بالإحرام، وقد مرَّ بالكثير منا قبل فترة:"وأما إذا حَلَلْنَا" وها نحن قد حلَلْنا فإنه يجوز الصيد
(1)
.
لكنْ أيضًا في المدينة لا ينبغي أن يُصاد في الحَرَم
(2)
كالحال بالنَّسبة لمكة، وإنْ اختلفت المدينةُ عن مكةَ من حيث تفصيل الأحكام
(3)
.
• قوله: (وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كمَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فِي قوله تعالى: {فَإِذَا
(1)
سيأتي.
(2)
أخرج مسلم (1362) عن جابر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرَّمت المدينة ما بين لَابَتَيْها، لا يُقطع عِضَاهها، ولا يُصاد صيدها".
(3)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 522) حيث قال: "أما افترق فيه حرم مكة والمدينة، افترقا في أمور؛ أحدها: أن على قاصد حرم مكة الإحرام بحج أو عمرة ندبًا أو وجوبًا وليس ذلك في المدينة. الثاني: أن في صيده وشجره الجزاء بخلاف حرم المدينة على الجديد وعلى القديم فيه الجزاء بسلب القاتل والقاطع بخلاف حرم مكة فإن فيه الدم أو بدله فيفترفان أيضًا. الثالث: لا تكره الصلاة في حرم مكة في الأوقات المكروهة بخلاف حرم المدينة.
الرابع: أن المسجد الحرام يتعين في نذر الاعتكاف به بلا خلاف وفي مسجد المدينة قولان.
الخامس: لو نذر إتيان المسجد الحرام لزم إتيانه بحج أو عمرة بخلاف ما لو نذر إتيان مسجد المدينة فإنه لا يلزمه إتيانه في الأظهر. السادس: الصلاة تضاعف في المسجد الحرام زيادة على مضاعفتها في مسجد المدينة مائة صلاة.
السابع: أن التضعيف في حرم مكة لا يختص بالمسجد بل يعم جميع الحرم، وفي المدينة لا يعم حرمها، بل ولا المسجد كله، وإنما يختص بالمسجد الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم. الثامن: صلاة التراويح لأهل المدينة ست وثلاثون ركعة وليس ذلك لأهل مكة ولا غيرهم. التاسع: تكره المجاورة بمكة ولا تكره بالمدينة بل تستحب".
وقال ابن قدامة في "الكافي "(1/ 508) "ويفارق حرم مكة، في أن من أدخل إليها صيدًا من خارج، فله إمساكه وذبحه؛
…
ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛
…
فأما صيد وج وشجره، وهو واد من أودية الطائف، فحلال؛ لأن الأصل الحل".
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
أَعْنِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِبَاحَة)
(1)
.
الله سبحانه وتعالى قال في شأن الجمعة، أيْ صلاة الجمعة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ولا شكَّ أنَّ السعي إلى الجمعة إنما هو واجبٌ
(2)
، لأنَّ الجمعة فريضةٌ
(3)
، والجمعة فرضيتها آكدُ من فرضية صلاة الجماعة
(4)
، والرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(18/ 108)، حيث قال:"هذا أمر إباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، أي: من رزقه".
(2)
يُنظر: "الفروق" للقرافي (3/ 111 - 112)، حيث قال:"القاعدة: أن الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها فوسيلة المحرم محرَّمة ووسيلة الواجب واجبة، وكذلك بقية الأحكام غير أنها أخفض رتبة منها، ووسيلة أقبح المحرمات أقبح الوسائل، ووسيلة أفضل الواجبات أفضل الوسائل".
(3)
يُنظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص: 45)، حيث قال:"وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالغين المقيمين الذي لا عذر لهم". وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 218).
(4)
لأنها فرض عين على كل مكلف غير أصحاب الأعذار والنقص. أما صلاة الجماعة فالجمهور على أنها سُنَّة، وقد سبقت في أبواب الصلاة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 89)، حيث قال:"الصلاة في الأصل أربعة أنواع: فرض، وواجب، وسنة، ونافلة والفرض نوعان: فرض عين، وفرض كفاية وفرض العين نوعان: أحدهما: الصلوات المعهودة في كل يوم وليلة، والثاني: صلاة الجمعة".
مذهب المالكية، يُنظر:"التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 46)، حيث قال:"لا خلاف في المذهب أنها فرض عين، ولم يصح غيره". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 73).
مذهب الشافعية، يُنظر:"التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 245)، حيث قال:"الجماعة في صلاة الجمعة فرض عين، وفي سائر الصلوات ليست بفرض عين". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 247).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (1/ 189، 190)، حيث قال: "وهي فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستوطن ببناء يشمله اسم واحد ولو =
يقول: "من ترك ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا طبع الله على قَلبه"
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام:"لينتهين أقوَامٌ عن ودعهم الجمعات"
(2)
يعني: عن تركهم الجمعات، "أو ليختمنَّ اللهُ على قُلوبهم" أي: ليطبع على قلوبهم "ثم ليكونُنَّ من الغافلين"
(3)
، فهل يرضى المسلم أنْ يُختم على قلبِهِ، فلا يميِّز بين الخير وبين الشر وأن تكون نهايته من الغافلين، هو لا يريد ذلك، بل هو يريد أنْ يكون من الموفَّقين الذين يعرفون الحقَّ فيتَّبعونه، ويعرفون الضلالة والشر فيبتعدون عنهما.
ثم قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 9]، وهذه الآية لها سببٌ
(4)
، فإنَّ جمعًا من الصحابة كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا علموا بقدُوم العير وكان ذلك فرِحًا، ليس انشغالًا عن العبادة، فالصحابة رضي الله عنهم كانت الدنيا لا تساوي عندهم ولا جناح بعوضة بالنَّسبة لأمور الآخرة، لكنَّ النَّاس كانوا بحاجة إلى قوَّة فيما يتعلق بأبدانهم وفيما يتعلق بقوتهم الدفاعية، فجاءت هذه العير، فنتيجة الفرح والسرور، وهذه النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على المؤمنين أن أوصل هذه التجارة بسلامة
= تفرق يسيرًا، فإن كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة لزمته ولو كان بينه وبين موضعها فراسخ ولو لم يسمع النداء".
(1)
أخرجه أبو داود (1052)، وغيره، وصححه الألباني في:"مشكاة المصابيح"(1371).
(2)
ودعهم الجمعات: أي عن تركهم إياها والتخلف عنها. يقال: ودع الشيء يدعه ودعًا، إذا تركه. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 166).
(3)
أخرجه مسلم (865/ 40) عن ابن عمر.
(4)
أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 387) عن قتادة: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت منهم عصابة، فقال: "كم أنتم؟ " فعَدُّوا أنفسهم فإذا اثنا عشرَ رجلًا وامرأة؛ ثم قام في الجمعة الثانية فجعل يخطبهم؛ ويعظهم ويذكرهم، فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت منهم عصابة، فقال: "كم أنتم"، فعدوا أنفسهم، فإذا اثنا عشر رجلًا وامرأة؛ ثم قام في الجمعة الثالثة فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت منهم عصابة، فقال: "كم أنتم؟ " فعدوا أنفسهم، فإذا اثنا عشر رجلًا وامرأة، فقال: "والذي نفسي بيده لو اتَّبَع آخرُكم أوَّلَكم لالتهب عليكم الوادي نارًا
…
" الحديث.
خرجوا ليطمئنوا، لكن الله سبحانه وتعالى عاتَبهم؛ لأنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا، قال - سبحانه -:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} ، [الجمعة: 11] أنت تكون في مسجدك مقبلًا على الله سبحانه وتعالى مدبرًا عما سواه، أنت في تجارة الآخرة، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لنْ يضيِّعك؛ لأنَّك لو توكلت على الله حق توكله، لرزقك كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا
(1)
، كما في الحديث الصحيح
(2)
.
ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في شأن الله عُمَّار بيوته {فِي بُيُوتٍ} أي: في المساجد {
…
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36 - 37] ما هو السبب؟ {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، والنتيجة {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 38]، فعطاء الله لا حدود له، لا ينتهي عند قدرٍ ولا يقف عند حدٍّ، فكنوز الله سبحانه وتعالى عظيمة، ويمينُ الله مَلأى سحاء
(3)
لو أنفق منها ليلًا ونهارًا لا تنقص إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر
(4)
، إذن كنوزُ الله عظيمة، وفضل الله سبحانه وتعالى علينا عظيمٌ، فأذكركم مرةً وقد ظفرنا بهذه النعمةِ العظيمةِ، وسعدنا بتلك السعادة الكريمة،
(1)
تغدو خماصًا وتروح بطانًا: أي تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. انظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 80).
(2)
أخرجه الترمذي (2344) عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم كنتم تَوَكَّلُون على الله حق توكُّله، لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانًا"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(310).
(3)
سحاء: أي: دائمة العطاء، والسح: الصب. انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميدي (ص: 348). "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 209).
(4)
معنى حديث أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنفق عليك"، وقال:"يدُ الله مَلأى لا تُغِيضها نفقةٌ سحَّاء الليل والنهار"، وقال: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض، فأنه لم يغض ما في يده
…
" الحديث.
ورجعنا بهذه الأعمال الطيبة، وبهذه الحسنات الكثيرة، ينبغي ألا نفرِّط فيها وألا نضيع شيئًا منها، بل علينا أن نضيف إلى رصيدنا رصيدًا آخر حتى نَلْقى الله - تعالى - وهو راضٍ عنا.
إنَّ الأعمال إنما هي بالخواتيم
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعَمَلِهِ" قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: "ولا أنا إلا أن يتغَمَّدَنِي الله برَحْمتِهِ"
(2)
، إذن نحن نعمل الأعمال الطيبة، ونبادر فيها، ونحرص عليها، والتوفيق إنما هو من الله سبحانه وتعالى، لكن لا ننسى أنَّ الله تعالى كما قال:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]،
والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.
• قوله: (أَعْنِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِبَاحَة؛ لِوُقُوعِ الْإمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ، وَإِنْ كانَ اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ؟ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي عَلَى أَصْلِهِ الْوُجُوبَ؟).
هذه مسألةٌ أصوليةٌ اختلف فيها الأصوليُّون
(3)
، هل إذا ورد أمرٌ ثم
(1)
جُزء من حديث أخرجه البخاري (6607) وفيه: "
…
إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم".
(2)
أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يُدْخِل أحدًا عملُه الجنَّة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا".
(3)
يُنظر: "المسودة في أصول الفقه" للمجد بن تيمية (ص: 16)، حيث قال: "مسألة صيغة الأمر بعد الحظر لا تفيد إلا مجرد الإباحة عند أصحابنا، وهو قول مالك وأصحابه، وهو ظاهر قول الشافعي وبعض الحنفية، وحكاه ابن برهان، وقال أكثر الفقهاء: حكمها حكم ورودها ابتداء، وحكي عن بعض أصحابنا وللشافعية فيه وجهان والثاني اختيار أبي الطيب وذكر أن القول بالإباحة ظاهر المذهب، قال: وإليه ذهب أكثر من تكلم في أصول الفقه. قلت: واختار الجويني في لفظ الأمر بعد الحظر أنه على الوقف بين الإباحة والوجوب
…
وحكي عن أبي إسحاق الإسفرائيني أن النهي بعد الأمر على الحظر بالإجماع .. ".
جاء بعد ذلك ما يتعلق بالإباحة، هل هذه الإباحة تصرفُ الأمر عن أصله وهو الوجوب أو يبقى؟ الصحيح أنَّ هذا يحتاج إلى قَرائن، فهنا المنع كان لأجلِ الإحرام، والإحرام قد ارتفع، إذن أصبح الأمرُ مباحًا فلا إشكال فيه، وهذا مما اتفق عليه العلماء على أنَّ الصيد مباح، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أباحَ لنا أكْلَه.
• قوله: (وَكرِهَ مَالِكٌ الصَّيْدَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ السَّرَفُ)
(1)
.
الإمام مالك بن أنسٍ رحمه الله هو إمام دار الهجرة، ذلكم الإمامُ الفذُّ الجليلُ الذي كانت تضرب إليه أكباد الإبلِ
(2)
من مشارق الأرض ومغاربها
(3)
، يأتون إليه في هذا المسجد الكريم، ينهل من مَعينه ليستَفِيدوا من علمه، ليأخذوا من دروسه، وليستفيدوا من سيرته النَّيِّرة، التي كان يصحبها الورع، والزهد، وعفة اللسان، وتقوى الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي بسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بسنته صلى الله عليه وسلم، هذا هو إمام دار الهجرة، ينبِّه إلى أنه لا ينبغي أن يكون قصدنا ونحن نتَتَبَّعُ الصيد هو الإسراف؛ لأنَّ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراف، قال تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال في شأن الإنفاق:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67] أي: يكونون وسطًا في الأمور، والرسول صلى الله عليه وسلم نهانا عن الإسراف حتى في العبادات، والوضوء شرطٌ في صحة الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (18/ 74)، حيث قال: "مذهب مالك أن الصيد مكروه لما فيه من الالتهاء به إلا لمن كان عيشه منه، أو قرم إلى اللحم
…
ولم يجز قصر الصلاة لمن خرج مسافرًا إلى الصيد على وجه التلهي لأنه سفر مكروه، لما في ذلك من اللهو والطرب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة".
(2)
"فلان تُضْرَبُ إليه أكبادُ الإبل، أي: يُرْحَلُ إليه في طلب العلم وغيره". انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 530).
(3)
معنى حديث أخرجه الترمذي (2680) عن أبي هريرة، رواية:"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة". وضعفه الألباني في "المشكاة"(246).
أحدث حتَّى يتوضَّأ"
(1)
، ومع ذلك نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنَّه لو كان أحدنا على جانب نَهْرٍ
(2)
، أي: لو كان يتوضأُ ويغتسلُ من نهرٍ، فلا ينبغي له أن يُسْرِفَ وأن يبالغَ في ذلك، إذن الإسراف ممنوعٌ؛ لأنَّ هذه شريعةٌ وسطيةٌ جاءت بالعدل، بأنْ يكونَ الناس على وسط، جاءت بالتيسير، بالسماحة، باليسر؛ ليكونَ الناسُ في مسيرتهم على وَفق هذه الشريعةِ الغراءِ الخالدة.
• قوله: (وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ
(3)
، مَحْصُولُ قَوْلِهِمْ فِيهِ: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ وَاجِبٌ
(4)
).
يعني: لو اضطر الإنسانُ إلى الصَّيد أو إلى الميتة، حتى ولو كان مُحرِمًا وهو ممنوعٌ من الصيد واضطرَّ إلى الأكل ليحفظَ مُهجة نفسه، فإنه يصيدُ الصيدَ، ويأكل ويؤدي الفدية التي أوجبها الله عليه، وأوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مَنْدُوبٌ)
(5)
.
مندوب إذا كانت هناك حاجة لكنَّها لا تصل إلى درجة المخمصَة.
(1)
أخرجه البخاري (6954) واللفظ له، ومسلم (225) بلفظ:"لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" عن أبي هريرة.
(2)
معنى حديث أخرجه ابن ماجه (425) عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسَعْدٍ، وهو يتوضأ، فقال:"ما هذا السَّرَف" فقال: أفي الوضوء إسراف، قال:"نعم، وإن كنت على نهر جار". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(140).
(3)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 118)، حيث قال:"أما حكمه فينقسم خمسة أقسام: مباح للمعاش، ومندوب للتوسعة على العيال، وواجب لإحياء نفس عند الضرورة، ومكروه للهو، وأباحه ابن عبد الحكم، وحرام إذا كان عبثًا لغير نية؛ للنهي عن تعذيب الحيوان لغير فائدة".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 108)، حيث قال:"ووجب لسد خلة واجبة".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 108)، حيث قال:"وندب لتوسعة معتادة، أو سد خلة غير واجبة، أو كف وجه عن سؤال أو صدقة".
• قوله: (وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مَكْرُوهٌ
(1)
، وَهَذَا النَّظَرُ فِي الشَّرْعِ تَغَلْغُلٌ فِي الْقِيَاسِ).
مراد المؤلِّف أنَّ هذا لم ترد فيه نصوصٌ صريحةٌ، وأنَّ هذا الذي ذهب إليه بعضُ الفقهاء من باب التَّعمقِ والغوصِ في أعماق الفقه الإسلامي، يعني: في هذه القضايا عندما ندرس قضيةً كليةً نحاول أن نفهمَ أصلَ هذه القاعدة، هل لها مستندٌ من الكتاب والسُّنَّة؟، غالبُ قواعدنا الأساس نجد لها أدلَّة أو هي مأخوذةٌ من استقراء الشريعة وعموماتها، فلما نأتي إلى هذه ونحاول أن نتعمَّق في الوصول في جُزْئياتها، إذن نحن لمَّا ندقق النظر في ذلك، نعم الله أباح لنا الصيد، لكن ينبغي أن تكون أعمالنا تسير على وفق هذه الشريعة، لأنَّ هذه الشريعة كل لا يتجَزَّأ، لأنَّ الشريعة عقيدة، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ
…
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177]، وقال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]، كذلك أيضًا الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
(2)
، فالشريعة تشتمل على العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" على الشرح الكبير للدردير (2/ 108)، حيث قال:" (وكره) أي الاصطياد للهو، وهذا عطف على قول المصنف وحرم اصطياد مأكول إلخ (قوله: مما لا يؤكل) أي فيجوز اصطياده لا بنية ذكاته بل بنية قتله".
(2)
معنى حديث أخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كَفَّيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيمَ الصلاة، وتُوتي الزكاةَ، ونصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله، ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن =
إذن ثم هي من حيث الجملة تنقسم إلى قسمين: هناك علاقة تربطك بخالقك أي: تنظم العلاقة بين المخلوق وبين الخالق، وعلاقةٌ تنظم العلاقة بين المخلوقين، وفي كلا الأمرين ينبغي أن نحافظ على ذلك، ينبغي أن تكون علاقَتُنَا مع الله مستمدةٌ من كتاب الله عز وجل ومن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون علاقاتُ بعضنا ببعض أيضًا مستمدةً من رحاب الإسلام ومن عِقَاله، من مصدريه الأساسيين الكتاب والسُّنَّة، فالمسلم في علاقته بأخيه يجب أن يتعاونَ معه على البرِّ والتقوى ولا يتعاون على الإثم والعدوان، لا يجوز أن يعتدي على حُرمَتِهِ، ولا على ماله، ولا على نفسه، كل المسلم على المسلم حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعرضه
(1)
، لا ينبغي له أن يتعدَّى على مال الآخرين، ولا على مال اليتيم، ولا أن يسفِكَ دمًا، ولا أنْ يظلمَ غيره ولا أنْ يتكلَّم في حقِّ غيره، وهذا الكلام فيه يطول.
وهناك أخلاقٌ عظيمةٌ، هناك خلُق الإحسان، وخلُق الإيمان، وخلُق البرِّ، وخلُق الوفاء، وخلُق الشجاعة، وخلُق الكرم، وخلُق صلة الرحم، وعلاقة الجار بجاره، وعلاقتك بأبويك، وحقوق الضيفِ عليك، حقوقُ أخيك المسلم، صيانة اللسان، أنْ تحفَظَ لسانَك إلى غير ذلك من أمور، إذن الإسلام عبادةٌ، ومعاملة، وأخلاق، نظام أسرة كما تعلمون أحكام النكاح وغيره، علاقات دولية، روابط تربط بين المجتمع حتى الإسلام
= بالقدر خيرِهِ وشَرِّهِ"، قال: صدقت، قال: فأحبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: "أن تلد الأمَةُ رَبَّتَها، وأن ترى الحفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان"، قال: ثم انطلق فلبثت مَلِيًّا، ثم قال لي: "يا عمر أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (2564) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضكُم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُه ولا يخذُلُه، ولَا يحقره التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".
بعضه ببعض، وهناك علاقة المسلمين بغيرهم أيضًا من غير المسلمين، هذه علاقات نظمها الفقه الإسلامي، وبيَّنها غايةَ البيان.
• قوله: (وَبُعْدٌ عَنِ الْأُصُولِ الْمَنْطُوقِ بِهَا فِي الشَّرْعِ).
يعني: ليس مرادُ المؤلِّف هنا أن ينقد ذلك، لا، بل يقصد أنَّ هذا تغلغلٌ وعمقٌ وغوصٌ في أعماق الشريعة، وغوصٌ في أعماقِ الفقه، لكنه لم يأت النطق به في الأصول التي مرَّت بنا في الآيات والأحاديث، لكن كما تعلمون أيها الإخوة أنَّ العلماء رحمهم الله عندما تلقَّوا هذا الكنز العظيم، هذا العلم العظيم، الذي جاء به كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، وما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيانٍ، وما نقل علينا من أقوال الصحابة، ثم حمَلَهُ التابعون، ثم أتباع التابعين، ثم جاء الأئمة، ثم جاء تلاميذ الأئمة، وهكذا إلى أن بدأ العلماء يُعنون بهذا الكنز العظيم، الفقه، فبدؤوا يبحثون عن علل الأحكام، ما هي الأصول التي اعتمد عليها الأئمةُ في مدى تحرير المسائل، وفي تأصيلها، فوقفوا عند أصول الأئمة، فبدؤوا يخرجون عليها.
إذن هذا نوعٌ من التخريج، لأنَّ الشريعة الإسلامية إما أن تأتي وقد نطق بها النص، أو ما هو قريبٌ من النص، لأنها إما أن يكون الدليل في كتاب الله عز وجل، أو فيما صحَّ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنْ يكون هناك إجماعٌ، أو أن يكونَ هناك قياسٌ صحيحٌ، أو أن نفهمَ ذلك من خلال استقراء الشريعة الإسلامية، وهذه كلها أمورٌ قد تكلم عنها العلماء - رحمهم الله تعالى - وبينوها.
• قوله: (فَلَيْسَ يَلِيقُ بِكِتَابِنَا هَذَا؛ إِذْ كَانَ قَصْدُنَا فِيهِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ الْمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ مَا كَانَ قَرِيبًا - مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ).
بيَّنَ المؤلف العفَة في أنه لم يستطرد في بيان ذلك، وفي الغوصِ في هذا الأمر، لأنه وضع هذا الكتاب ليكون قاصِرًا على أصول المسائل، لا أنه يشتمل على جميع المسائل والجزئيات، فلما كان الأمر كذلك لو دخل
في الأمور القياسية وفي تتبع الفروع وفي جزئيات المسائل لطال به الأمر، ولخرج عن الخط الذي رسمه لنفسه، والقاعدة التي تمثل السير عليه.
• قوله: (إِذْ كَانَ قَصْدُنَا فِيهِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ الْمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ)، يعني: ما جاء منطوقًا به بالنص {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] هذه نطَقَ بها النصُّ، أو ما هو قريبٌ من النَّصِّ، يعني: نفهمه من ظاهر النصِّ.
• قوله: (وَأَمَّا مَحَلُّ الصَّيْدِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ، وَهُوَ السَّمَكُ وَأَصْنَافُهُ
(1)
).
العلماء رحمهم الله تكلَّموا عن أحكام الصيد، فقد وضعوا شروطًا لهذا الصيد: أوَّلها: أن يكون الصَّائدُ من أهل الذكاة، أنا أريد أن أصيدَ يشترط أن أكون قد توفَّرت بي شروط الذكاة، تعلمون الذكاة مرت بنا فيما مضى عندما تكلمنا عن الأضحية وعن الذبائح؛ يشترط في المذكي، أن يكون مسلِمًا أو كتابيًا
(2)
؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 310)، حيث قال:"واتفقوا أن السمك المتصيد من البحار والأنهار والبرك والعيون إذا صيد حيًّا [وذبح، وتولى ذلك منه مسلم بالغ عاقل ليس بسكران] أنه أكله حلال".
(2)
وهو مذهب (الحنفية والشافعية والحنابلة) وقال المالكية: "لا يحل ما صاده الكتابي وإن حل ما ذبحه وفرقوا بين الذبح والصيد بأن الصيد رخصة، والكافر ولو كتابيًا ليس من أهلها".
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 298) حيث قال: " (قوله: لا تحل ذبيحة غير كتابي) وكذا الدروز كما صرح به الحصني من الشافعية، حتى قال: لا تحل القريشة المعمولة من ذبائحهم وقواعدنا توافقه، إذ ليس لهم كتاب منزل ولا يؤمنون بنبي مرسل
…
". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 45).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 95)، حيث قال: " (وشرط ذابح) أي وعاقر (وصائد) لغير سمك وجراد ليحل مذبوحه ومعقوره ومصيده (حل =
إذن أهل الكتاب مما أباح الله سبحانه وتعالى لنا ذبائحهم، فالمراد بالطعام هنا إنما هي الذبائح
(1)
، إذن الشرط الأول: أن يكونَ الصائدُ من أهل الذكاة، فلا يكون مجوسيًّا ولا يكون وثنيًّا، ولا يكون إنسانًا قد ذاق لذة الإيمان وحلاوته ثم ارتدَّ على عقبيه
(2)
فتنكَّف وكفر بالله سبحانه وتعالى، ولا يكون أيضًا مجنونًا؛ لأنّ المجنون ليس أهلًا للصيد.
= مناكحته) للمسلمين بكونه مسلمًا أو كتابيًّا
…
وأما سائر الكفار كالمجوسي والوثني والمرتد فلا تحل ذبيحتهم ولا مصيدهم ولا معقورهم لعدم حل مناكحتهم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 390)، حيث قال: " (والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء) يعني في الاصطياد والذبح. وأجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب؛ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]. يعني ذبائحهم
…
وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 102 - 103)، حيث قال:" (وفي) حل (ذبح كتابي) حيوانًا مملوكًا المسلم)، وكله على ذبحه فيجوز أكلها وعدم حله فلا يجوز (قولان) وهو الصيد بقوله: (وجرح) شخص (مسلم مميز). ذَكرًا أو أنثى، أي: إدماؤه، ولو بإذن، ولو لم ينشق الجلد فإذا لم يحصل إدماء لم يؤكل، ولو شق الجلد، وأما صيد الكافر ولو كتابيا فلا يؤكل، أي: إن مات من جرحه أو أنفذ مقتله فلو جرحه من غير إنفاذ مقتل ثم أدرك فذكي أكل، ولو بذكاة الكتابي".
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(9/ 579)، حيث قال:"عن قتادة قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، أي: ذبائحهم".
(2)
لا يجوز صيد المجنون، ولا تجوز ذبيحته عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة)، خلافًا للشافعية، فإنهم صرحوا بأن ذبح المجنون حلال في الأظهر عندهم، لأن لهم قصدًا وإرادة في الجملة، لكن مع الكراهة، لأنهم قد يخطئون الذبح، كما نص عليه في الأم، وفي قول آخر عند الشافعية: لا يحل صيدهم ولا ذبحهم، لفساد قصدهم.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 297)، حيث قال:" (قوله ولو الذابح مجنونًا) كذا في الهداية والمراد به المعتوه كما في العناية عن النهاية لأن المجنون لا قصد له ولا نية، لأن التسمية شرط بالنص، وهي بالقصد، وصحة القصد بما ذكرنا، يعني قوله: إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط. اهـ؛ ولذا قال في الجوهرة: لا تؤكل ذبيحة الصبي الذي لا يعقل والمجنون والسكران الذي لا يعقل". =
إذن هذا هو الشرط الأول: أن يكون الصائدُ من أهل الذكاة، أي: تتوفر فيه شروط الذكاة، وأنْ يذكُرَ أن يُسَمِّ الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تُرسِلَ كلبك ليصيد فسمِّ الله
(1)
، بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أردت أن ترسل
= مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 3)، حيث قال:"وأشار بقوله (مميز يناكح) إلى أن صفة الذابح أمران فخرج بالأول المجنون والسكران حال إطباقهما فلا تؤكل ذبيحتهما ومثلهما الصبي غير المميز لعدم النية منهم"، و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 103).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 417، 418)، حيث قال:" (وشروط) صحة (ذكاة) ذبحًا كانت أو نحرًا أو عقرًا لممتنع (أربعة أحدها كون فاعل) لذبح أو نحر أو عقر (عاقلًا ليصح) منه (قصد التذكية) فلا يباح ما ذكاه مجنون أو طفل لم يميز، لأنهما لا قصد لهما كما لو ضرب إنسان بسيف فقطع عنق شاة. ولأن الذكاة أمر يعتبر له الدين فاعتبر فيه العقل كالغسل فتصح ذكاة عاقل".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 98)، حيث قال: " (ويحل ذبح) وصيد (صبي) مسلم أو كتابي (مميز)
…
(وكذا) صبي (غير مميز ومجنون وسكران) يحل ذبحهم (في الأظهر)؟ لأن لهم قصدًا وإرادة في الجملة، لكن مع الكراهة كما نص عليه في الأم، وصرح به في التنبيه خوفًا عن عدولهم عن محل الذبح وإن أشعر كلام المصنف بخلافه، فلو قال: ويكره كأعمى كان أولى وأخصر، والثاني لا تحل لفساد قصدهم. ومحل الخلاف في المجنون والسكران إذا لم يكن لهما تمييز أصلًا، فإن كان لهما أدنى تمييز حل قطعًا، قاله البغوي".
(1)
اختلف الفقهاء في حكم التسمية عند الصيد، فذهب الجمهور، وهم الأحناف والمالكية والحنابلة إلى اشتراطها، فمن تركها عمدًا لم تحل ذبيحته، واختلفوا فيمن تركها ناسيًا، فالأحناف والمالكية على الجواز، والحنابلة على عدم الجواز، فلو نسي التسمية عندهم صار كمن تركها عامدًا. أما الشافعية فلا تشترط عندهم التسمية بل تسن عند إرسال السهم أو الجارحة، فلو تركها عمدًا أو سهوًا حل، لكنهم قالوا: يكره تعمد تركها.
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (6/ 51، 52)، حيث قال:"قال رحمه الله (ومن التسمية عند الإرسال ومن الجرح في أي موضع كان) أي: لا بد من التسمية عند الإرسال ومن الجرح في أي موضع كان من أعضائه، أما التسمية فلما تَلَوْنا ورَوَينا من حديث ثعلبة والمراد به مع التذكر، وأما إذا نسي التسمية عند الإرسال فلا بأس بأكل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، للمواق (4/ 328، 329)، حيث قال: " (وتسمية إن ذكر) من المدونة قال مالك: لا بد من التسمية عند الرمي وعند إرسال =
قوسك أو سهمك فسمِّ الله سبحانه وتعالى واقصد الصيد بذلك أي: بنيةٍ، إذن لا بدَّ من التسمية؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] وقال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وقال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أرسلت كلابك المعلَّمَة فسمِّ الله"
(1)
، وجاء:"إذا أرسلت قَوْسَك وسمَّيت الله فكُلْ"
(2)
.
= الجوارح وعند الذبح لقوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وإن نسي التسمية في ذلك كله أكل وسمى الله. قال ابن القاسم: وإن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل، كقول مالك في ترك التسمية على الذبيحة".
وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 434)، حيث قال:"الشرط الرابع: قول: بسم الله لا من أخرس (عند إرسال جارحة أو) عند (رمي) لنحو سهم أو معراض أو نصب نحو منجل لأنه الفعل الموجود من الصائد فاعتبرت التسمية عنده (كما) تعتبر (في ذكاته) وتجزي بغير عربية ولو ممن يحسنها صححه في الإنصاف (إلا أنها لا تسقط هنا) أي: في الصيد (سهوًا) لنصوصه الخاصة ولكثرة الذبيحة، فيكثر فيها السهو، وأيضًا الذبيحة يقع فيها الذبح في محله، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 105)، حيث قال:" (و) يسن .. (وأن يقول) عند ذبحها (بسم الله) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ولا تجب، فلو تركها عمدًا أو سهوًا حل. وقال أبو حنيفة: إن تعمد لم تحل".
(1)
أخرجه البخاري (175) عن عدي بن حاتم، بلفظ: قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم فقَتَلَ فَكُلْ، وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه" قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر".
ومسلم (1929) عن عَدِيِّ بن حاتم، بلفظ: قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة، فيمسكن علي، وأذكر اسم الله عليه، فقال:"إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل"، قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها".
(2)
أخرجه البخاري (5478) ومسلم (1930) عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا نبي الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: "أما ما =
إذن التسمية مطلوبة بنصِّ الكتاب العزيز، وبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن الشرط الأول أن يكون الصائدُ من أهل الذكاة أي: ممن تجوز تَذْكِيتهم، وأن يكون أيضًا قد سمَّى الله سبحانه وتعالى عندما أرسل السَّهْم أو أرسل الجارح أي: الحيوان الذي يصيدُ له.
الشَّرطُ الثَّالث: أن يرسل هو نفسه الجارحة، لا أن يسترسل من نفسه
(1)
، فإن استرسل من نفسه، أي: انطلق الكلب وراء الصيد دون أن يرسله صاحبه، فبعض العلماء لا يجيز ذلك، وبعضهم يقول: إن تدارك
= ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 461 - 462): " (قوله بخمسة عشر شرطًا) خمسة في الصائد: وهو أن يكون من أهل الذكاة، وأن يوجد منه الإرسال، وأن لا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 163)، حيث قال:" (إن أرسله) الصائد المسلم (من يده) بنِيَّةٍ وتسمية، (أو) من (يد غلامه) وكفت نية الأمر وتسميته، نظرًا إلى أن يد غلامه كيده، واحترز بذلك مما لو كان الجارح سائبًا فذهب للصيد بنفْسِهِ، أو بإغراء ربه فلا يؤكل إلا بذكاة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 100)، حيث قال:" (أو أرسل عليه) أي الصيد (جارحة) من سباع أو طيور (فأصاب شيئًا من بدنه) حَلَقًا أو لبة أو غير ذلك (ومات في الحال حل) في الجميع".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 351)، حيث قال:"قصد الفعل بأن يرْمِيَ السَّهْم أو ينصب نحو المنجل أو يرسل الجارح قاصدًا الصيد؛ لأن قتل الصيد أمر يعتبر له الدين، فاعتبر له القصد كطهارة الحدث (وهو إرسال الآلة لقصد صيد) لحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكُلْ" متفق عليه. ولأن إرسال الجارح جعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتبرت التسمية معه (فلو احتك صيد بمحدد) فعَقَرهُ بلا قصد لم يحل، (أو سقط) محدد على صيد (فعقَرَهُ بلا قصد) لم يبح (أو استرسل جارح بنفسه، فقتل صيدًا لم يَحِلَّ، ولو زجره) أي: الجارح ربه لفقد شرطه (ما لم يزد الجارح في طلبه)، أي: الصيد (بزجره) فيحل حيث سُمِّي عند زجره وجرح الصيد؛ لأن زجره أثر في عدوه أشبه ما لو أرسله".
ذلك وذكر اسم الله، فزجره فزاد في عدوه أسرع، فإنه في هذه الحال يجوز أن يأكل منه.
الشرط الرابع: أن يكون معلَّمًا
(1)
؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أرسلت كلْبَكَ المعلَّم وذكرت
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 51)، حيث قال:" (ولا بد من التعليم) لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4]، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة: "ما صِدْتَ بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فَكُلْ" رواه البخاري ومسلم وأحمد". وانظر:"وحاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 462).
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 103 - 104)، حيث قال:" (وحيوان) طيرًا أو غيره (علم) بالفعل، ولو كان من جنس ما لا يقبل التعليم كالنمر والمعلم هو الذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر، (بإرسال) له (من يده) مع نية وتسمية فلو كان مفْلوتًا فأرسله لم يؤكل، ولو كان لا يذهب إلا بإرساله، ويد خادمه كيده".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج " للشربيني (6/ 110)، حيث قال: " (ويحل الاصطياد) أي أكل المصاد بالشرط الآتي في غير المقدور عليه (بجوارح السباع والطير) في أي موضع كان جرحها حيث لم تكن فيه حياة مستقرة بأن أدركه ميتًا، أو في حركة المذبوح، .. ثم مثل الجوارح بقوله:(ككلب وفهد) ونمر في السباع (وباز وشاهين) وصقر في الطير لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي صيد ما علمتم
…
(بشرط كونها معلمة) للآية وللحديث المار، (بأن تنزجر) أي تقف (جارحة السباع بزجر صاحبها) في ابتداء الأمر وبعده، (و) أن (تسترسل بإرساله) أي تهيج بإغرائه لقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ}
…
(و) أن (يمسك) أي يحبس (الصيد) على صاحبه ولا يخليه يذهب، .. (ولا يأكل منه) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 222)، حيث قال: " (النوع الثاني) من نوعي الآلة (الجارحة فيباح ما قتلته) الجارحة (إذا كانت معلمة) لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
…
(والجوارح نوعان: أحدهما: ما يصيد بنابه كالكلب والفهد وكلما أمكن الاصطياد به) قال في المذهب والترغيب: والنمر (وتعليمه بثلاثة أشياء أن يسترسل إذا أرسله، وينزجر إذا زجر لا في حال مشاهدته الصيد، وإذا أمسك لم يأكل) .. ولأن العادة في المعلم ترك الأكل فكان شرطًا كالانزجار إذا زجر".
اسم الله"
(1)
، إذن لا بد أن يكون معلَّمًا، لكن ما معنى أن يكون معلَّمًا؟ كيف نعرف ذلك؟ يعني: أن يُعوَّدَ على ذلك، ما علامات ذلك؟ قالوا: إذا أرسلته استرسل، يعني: إذا أطلقته خلف الصيد ينطلق، إذا زجرته عن ذلك انزجر، وإذا أمسك لا يأكل، هذه هي الشروط، لكن مسألة الأكل إنما تشترط باتفاقٍ في الكلاب وغيرها من الحيوانات
(2)
، أما بالنسبة للطيور فالصحيح أنَّ ذلك ليس بشرطٍ، وسنبيِّنه إن شاء الله تفصيلًا، لكنْ قد يسأل سائل فيقول: كيف يتمُّ تعليمه؟ هل لو علمته وانطلق أولَ مرة وأصاب هل
(1)
أخرجه البخاري (175) بلفظ: عن عدي بن حاتم، قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم فقَتَلَ فَكُلْ، وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه" قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر؟ قال: "فلا تأكُلْ، فإنما سَمَّيْتَ على كللبك ولم تُسَمِّ على كلب آخر".
ومسلم (1929) بلفظٍ عن عدي بن حاتم، قال:"قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة، فيمسكن علي، واذكر اسم الله عليه، فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل"، قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 52)، حيث قال: "كون الكلب معلَّمًا شرط لإباحة أكل صيده فلا يباح أكل صيد غير المعلم. وإذا ثبت هذا الشرط في الكلب بالنص ثبت في كل ما هو في معناه من كل ذي ناب من السباع كالفهد وغيره مما يحتمل التعلم بدلالة النص
…
وهذا قول عامة العلماء".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير"(2/ 162)، حيث قال:" (أو حيوان): عطف على محدد: أي جرحه بمحدد أو بحيوان (علم) بالفعل كيفية الاصطياد، والمعنى: هو الذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر ولو كان من جنس ما لا يقبل التعليم عادة كالنمر (من طير) ".
مذهب الشافعية، بُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 121)، حيث قال: " (ويحل الاصطياد بجوارح السباع والطير ككلب) ونمر صغير قابل للتعليم (وفهد وباز وشاهين)
…
(بشرط كونها معلمة) فإن لم يكن كذلك لم يحل ما قتلته، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فلا بد من ذبحه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 369)، حيث قال: "أن يكون الجارح معلَّمًا. ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط
…
ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط؛ إذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك لم يأكل".
هذا كافٍ؟ لم يرد نصٌّ في ذلك في كتاب الله عز وجل ولا في سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي جاء في المصدرين هو تعليم هذا الجارح كيف يصيد، أنْ نعلِّمه على الصيد، العلماء اختلفوا في ذلك:
1 -
فبعضهم قال: أن يعوَّد على ذلك فيعطى فرصةً ثلاث مرات، وبعضهم قال: مرتين
(1)
، وبعضهم قال: مرة، فالذين قالوا ثلاثَ مراتٍ أخذوا ذلك من عموم أدلةٍ وردت في الشَّريعة، فإنَّ المسافرَ يمسحُ ثلاثةَ أيامٍ، والمهاجرُ يقيم ثلاثة أيامٍ، وهناك أدلةٌ كثيرةٌ اعتبرت فيها الأشياء الثلاثة:"لا يحلٍ لامرأةٍ أن تسافرَ مسيرة ثلاثة أيامٍ"
(2)
، وبعضهم قال: مرةً واحدةً تعدُّ كافية
(3)
، وبعضهم قال: هذا أمرٌ راجعٌ إلى العرف وإلى عاداتٍ النَّاس، فيكفي فيه ولو مرة واحدة
(4)
، لكنَّ الأحوط في ذلك - والله أعلم - أن يأخذ الإنسان بالأحوط.
2 -
أن يجرح الصيد: أنك إذا أرسلت الجارح أن يجرح الصيد،
(1)
بُنظر: "بدائع الصنائع " للكاساني (5/ 53)، حيث قال:"وعلى الرواية الأخرى جعل أصل التكرار دلالة التعلم؛ لأن الشبع لا يتفق في كل مرة فدل تكرار الترك على التعليم".
(2)
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 369)، حيث قال:"ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط؛ إذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك لم يأكل. ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلمًا في حكم العرف، وأقل ذلك ثلاث".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 369)، حيث قال:"وقال الشريف أبو جعفر، وأبو الخطاب: يحصل ذلك بمرَّة، ولا يعتبر التكرار؛ لأنه تعلم صنعة، فلا يعتبر فيه التكرار، كسائر الصنائع".
(4)
وهو مذهب الشافعية وظاهر الرواية عن أبي حنيفة.
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 121)، حيث قال:" (ويشترط تكرر هذه الأمور بحيث يظن تأدب الجارحة) ومرجعه أهل الخبرة بالجوارح".
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 53)، حيث قال: "ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه لا توقيت في تعليمه أنه إذا أخذ صيدًا ولم يأكل منه هل يصير معلَّمًا أم يحتاج فيه إلى التكرار؟ وكان يقول: إذا كان معلَّمًا فكل كذا
…
فأبو حنيفة رضي الله عنه على الرواية المشهورة عنه إنما رجع في ذلك إلى أهل الصناعة ولم يقدر فيه تقدير".
يعني: لو أرسلت كلبًا لا يَخْنقه، أو فهدًا لا يخنق هذا الصيد؛ لأنه يكون منخنقًا، ولا يكون ذلك نتيجة اصطدامه به فيكون موقوذًا
(1)
، إذن لا بُدَّ أن يكون جُرْحًا.
3 -
وأن ترسل كلبك أو الجارح الذي ترسله إلى شيءٍ معروفٍ لا تطلقه هكذا.
هذه شروطٌ مهمةٌ ينبغي أن تتوفر في الصَّيْدِ، أما فيما يتعلق بالتَّسْمية، أولًا؛ شروط الذكاة التي ذكرها هذه لا خلاف فيها، أما ما يتعلَّق بالتسمية ففيها خلافٌ بين العلماء
(2)
:
1 -
من العلماء وهم الشافعية
(3)
من قال: لو أنَّ الإنسان ترك التسمية، أي: أرسل الجارح ولم يسمّ، أو السَّهم ولم يسمّ، فإنَّ الصيد يجوز أكله.
2 -
وأما جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة
(4)
: فقد فرَّقوا بين العمد وبين النسيان، فقالوا: إن تعمَّد ترك التسمية فلا يجوز الأكل من الصَّيْدِ، وإن نسي ذلك فيجوز، وقد أجازوا ذلك في حالة النسيان؛ لأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهُوا عليه"
(5)
وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، إذن هناك فرقٌ بين هذا وهذا.
3 -
وللحنابلة روايةٌ أخرى
(6)
: لا يجوز الأكلُ من الصَّيد إذا تُركت
(1)
سيأتي معناه.
(2)
تقدَّم الكلام علي هذه المسألة. ومشهور مذهب الحنابلة على أن العمد والسهو في ذلك سواء كما سبق.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
أخرجه ابن ماجه (2045) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1731).
(6)
وهي الرواية المشهورة كما سبق.
وانظر الرواية التي فرقت بين السهو والعمد في: "المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح =
التسمية، لا فرق بين أن يكون تركَها عمدًا أو سهوًا؛ لأنَّ نصوص الكتاب والسنة تدلُّ على وجوب التسمية وتعيُّنها، وأنها لم تفرق بين عمدٍ وبين نسيان، وقد أجابوا عن حديث:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وآية {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقالوا: المقصود من ذلك إنما هو رفعُ الإثم عن الإنسان، إذا ترك التسمية ناسيًا لا إثم عليه، لكن لو تركها متعمِّدًا يأثم، لأنَّ الإنسان على القول بوجوب التسمية قدَّم بعيرًا فنحره دون أن يسمي، على القول بوجوب التسمية، وبعدم التفريق بين الذكر والنسيان، يهدر هذا اللحم، فهذا من باب قول الرسول:"نهى عن قيلٍ وقال وإضاعة المال"
(1)
، فهو تسبب في هذه الإضاعة، لكن لو كان ناسيًا لا يلحقه إثمٌ وإن كان هذا الحيوا - ن على قولٍ لا يؤكل منه، لأنَّ النسيان أمرٌ خارجٌ عن إرادة الإنسان، ومن المعلوم أنَّ النسيان والإكراه إنَّما هي من الأمور التي عَفَي عنها في هذه الشريعة، فهي من الأمور التي تندرج تحت قاعدة "المشقة تجلب التيسير"
(2)
، إذن ذكرنا شروط الصيد، والعلماء كما ذكرنا عندما يذكرون هذه الشروط ويحددونها إنما القصد والحرص على أن يكونَ كل ما يفعله المسلم في هذه الحياة
= (8/ 56) حيث قال: " (وعنه: إن نسيها على السهم أبيح) لقوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (وإن نسيها على الجارحة لم تبح) والفرق بينهما أن السهم آلة حقيقة وليس له اختيار، بخلاف الحيوان، فإنه يفعل باختياره، وعنه: تمقط مع السهو مطلقًا".
(1)
أخرجه البخاري (2408)، ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم عليكم: عُقوقَ الأمهاتِ، ووأدَ البنات، ومنعَ وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 49) حيث قال: "القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير" وإن شئت قلت: السادسة. المشقة نجلب التيسير وإن شئت قلت: إذا ضاق الأمر اتسع. وقد عزا الخطابي هذه العبارة إلى الشافعي رضي الله عنه عند كلامه على الذباب يقع في الماء القليل، ويقرب منها "الضرورات تبيح المحظورات"، ومن ثم التيمم والمسح وصلاة المتنفل قاعدًا، والرخص جميعها، إسقاظا وتخفيفًا. ومن فروعها: لو تنجس الخفٌّ بخرزه بشعر الخنزير فغسل سبعًا إحداهن بترإب طاهر [طهر] ظاهره دون باطنة وهو موضع الخرز".
إنما هو حلالٌ، وكل أمرٍ فيه شبهةٌ فإنَّ الإنسان ينبغي أن يبتعد عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من وقع في الشُّبهات وقع في الحرام"
(1)
، ويقول عليه الصلاة والسلام:"دعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك"
(2)
، وليس الأمر خاصًّا بالصيد فقط، فكل أمرٍ من الأمور إذا وجدتَ فيه شبهةً، وتردَّدت بين كونه حلالًا وبين كونه حرامًا، فعليك أن تبتعد عنه، وأن تُغلبَ جانب الحيطة في ذلك، فالله سبحانه وتعالى قد أحلَّ لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائثَ، وأمرنا سبحانه وتعالى بالأكل من الطَّيِّبات، ونهانا عن الأكل من المحرَّمات، وهناك أمور نهى عنها الله سبحانه وتعالى وأمرنا باجتنابها، وأمورٌ أباحها الله سبحانه وتعالى، وأمرنا بالأكل منها، وهناك أمورٌ عفا الله عنها، فلا ينبغي فيما عفا الله عنه أن نتشدَّد في هذا الأمر وأن نتتبع عنها، فالأمور التي سكت عنها ينبغي أن نسكت عنها، ففي الحديث:"إنَّ الله فرض فرائضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحدَّ حُدودًا فلا تعتدُوها، وسكت عن أشياءَ من غير نسيان فلا تَسْألُوا عنها"
(3)
، والله تعالى يقول:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
* قوله: (وَمِنَ الْحَيَوَان الْبَرِّيِّ الْحَلَالُ الْأَكْلِ الْغَيْرُ مُسْتَأْنَسٍ).
تعلمون أن الله سبحانه وتعالى يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} قيَّدَهُ الله عز وجل يقوله: {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ثم قال عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
إذن طعام البحر كله حلالٌ، لكن هناك خلافٌ بين العلماء في بعض
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(2)
جزء من حديث أخرجه الترمذي (2518) عن الحسن بن علي: قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ح ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة" وصححه الألباني في إرواء الغليل (12).
(3)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 326) عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتَدُوها، وسكت عن أشيإء من غير نسيان فلا تبْحَثُوا عنها". وضعفه الألباني في "تحقيق رياض الصالحين"(ص: 621).
المسائل، مثل الضفدع، بعض العلماء يرى أنه يحرم أكلُه
(1)
، وهناك أيضًا بعض الحيوان ولكن لا يرى أن ذلك مباح الله سبحانه وتعالى قد أطلق ذلك:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما هو الصيد؟ اختلف العلماء في تعريفه وإن كان كله يلتقي عند أمرٍ واحدٍ، هل صيدُ البحر هو قريب {وَطَعَامُهُ} الشيء الذي يفطر، أو هل صيد البحر ما تأخذه من البحر؟ وطعامه ما طفا
(2)
، هذا كله كلام تكلَّم عنه السلف رحمهم الله، لكن الله تعالى قد أباح لنا صيد البحر، فقال عز وجل:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أليست هذه نعمةٌ من النعم العظيمة، التي يراها الإنسان في كل أمرٍ حتى
(1)
مذهب الحنفية ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 35)، حيث قال: "فالحيوان في الأصل نوعان: نوع يعيش في البحر، ونوع يعيش في البر، أما الذي يعيش في البحر فجميع ما في البحر من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله إلا ما طفا منه وهذا قول أصحابنا
…
الضفدع والسرطان والحية ونحوها من الخبائث".
مذهب المالكية ينظر: "حاشية الصاوي"(2/ 99)، حيث قال:"قوله: قوله: [ويباح البحري]: أي لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} قوله: [ويدخل في البري الضفدع] إلخ: أي فيحرم التعرض لما ذكر".
مذهب الشافعية ينظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي وحاشية الشرواني (9/ 378)، حيتَ قال:" (وما يعيش) دائمًا (في بر وبحر كضفدع) بكسر ثم كسر، أو فتح وبفتح ثم كسر، وبضم ثم فتح والفاء ساكنة في الكل (وسرطان) يسمى عقرب الماء وتمساح ونسناس (وحية) وسائر ذوات السموم وسلحفاة .. ، (حرام) لاستخباثه وضرره مع صحة النهي عن فتل الضفدع اللازم منه حرمته، وجَرْيًا على هذا في الروضة وأصلها أيضًا، لكن تعقبه في المجموع فقال: الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع، أي: وما فيه سم".
مذهب الحنابلة ينظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 315)، حيث قال:" (ويحل كل حيوان بحري) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". رواه مالك وغيره (غير ضفدع) فيحرم (نصًّا)، واحتج بالنهي عن قتله ولاستخباثها، فتدخل في قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ".
(2)
طفا الشيء على الماء: إذا علا ولم يرسب. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 921).
في نفسه، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 21 - 22]، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6 - 8]، فهذا الكون الذي أقيم، هذا الكون الذي يعجُّ بهذه المخلوقاتِ العظيمة تضاءلت
(1)
أمام هذه المخلوقات كلُّ الأشياء، هذه كلُّها لها خالقٌ واحدٌ، هو الله سبحانه وتعالى الذي يجب أن نخلص عبادتنا له سبحانه وتعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، هذا الكونُ العظيمُ بما فيه من بحارٍ، بما فيه من بَرارِي
(2)
وصحاري، من جبالٍ، من مَدَرٍ
(3)
وشجرٍ وغير ذلك، هذه كلها نعمٌ من نعم الله سبحانه وتعالى، سخَّرها الله صلى الله عليه وسلم لنا، سخر لنا البحر لنركبَه، وسخَّر لنا هذه الأرض لنسير عليها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 82]، كذلك أيضًا جعل الليل والنهار، لنسكن في الليل ولنعمل في النهار، وأمرنا في ذلك كله أن نعبد الله سبحانه وتعالى وبين لنا طريق السعادة والخير وأمرنا بأن نسلكه، وبيَّن لنا طريق الشر والغواية
(4)
والضلال والفساد وحذَّرنا من سلوكه، وبيَّن لنا مخاطره، وأنَّ من يسلك هذا الطريق إنما مصيره إلى النار، أما الذي يسلك طريق السعادة، الذي قال الله فيه سبحانه وتعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فإذا سلكت هذا الطريق المستقيم الذي ليس فيه عوجٌ ولا انحرافٌ ولا اعوجاجٌ، لا شكَّ أنه سيصل بك إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، التي قال الله عنها: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
(1)
ضأل: الضئيل: الصغير الدقيق الحقير. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (11/ 388).
(2)
البرية: الفلاة والصحراء. جمعها براري. انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه " للنووي (ص: 60).
(3)
مدر: المدر: قطع طين يا بس، الواحدة مدرة. انظر:"العين" للفراهيدي (8/ 38).
(4)
غوى: غوى الرجل يغوي غيًّا: وهو الانهماك في الباطل. والغواية: الضلال. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص: 687).
مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55] وأنت أيها الأخ الكريم وقد أسبغ الله عليك نعمه العظيمة ووفقك لإتمام هذا النسك، وها أنت قد نسيتَ كلَّ شيءٍ في هذه الدنيا، جئت مقبلًا على الله سبحانه وتعالى مطيعًا له، خاضعًا، ذَلِيلًا، لا ترجو إلا الله، ولا تخشى إلا الله سبحانه وتعالى ولا تخاف غيره، وها أنت عدت بهذه النعمة، نسأل الله - تعالى - أن تكون ممن ابيضت صحائفُهم وأشرقت واستنارت حروف بنور الإيمان، فاحفظ هذه الوديعة العظيمة، هذه التركة الكبيرة، هذه الثمار العظيمة، علَّك أن تلقى الله سبحانه وتعالى بقلبٍ سليمٍ، إنها التجارة الرابحة إنه الكنز العظيم الذي لا ينفد ولا يفنى، فلنستفد من ذلك أيها الإخوة.
* قوله: (وَمِنَ الحَيَوَان الْبَرِّيِّ الْحَلَالُ الأكْلِ الْغَيْرُ مُسْتَأْنَسٍ).
كذلك نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى أحلَّ لنا كل الطيبات، وما حرَّمه علينا إنما هو قليل بالنسبة لما أباحه الله سبحانه وتعالى، فأباح لنا الأنعام بجميع أنواعها، من الإبل والبقر والغنم، وانظروا إلى كثرتها مهما أكل الناس منها ومهما أفنوْا ومهما أهَدْوا ومهما باعُوا ومهما اشتروا، فهي باقيةٌ منتشرةٌ بحمد الله، هناك أيضًا ما أعطانا الله سبحانه وتعالى من النِّعَم في هذا البحر من حيوانٍ وغيره، حتى أصبح المسلمون الآن يستفيدون من ماء البحر في تحلِيَتِهِ، أليست هذه نعمةً من نعم الله سبحانه وتعالى، نستخرج منه لحمًا طريًّا، هذه السفن التي تَعُبُّ هذا البحر، التي تخترق هذه البحار، هذه الطائرات التي ترون أنها تسبح في الفضاء، هذه السيارات التي نمتطيها ونقطع بها المسافات في أوقاتٍ يسيرة نتجاوز بها السهل والوعر، أليست هذه من نعم الله سبحانه وتعالى علينا، هذه الصحة التي نَرْفَلُ بها ونتنعَّمُ بها، أليست من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى، أليست أعظم نعمةٍ من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى أن هدانا للإسلام، أليسب الدين الحق إنما هو هذا الدين، الذي قال الله فيه:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
إذن ينبغي أيها الإخوة أن نستفيد من هذه المراحل التي مررنا بها وأن نجعلها دائمًا نصب أعيننا، وألا نرجع على أعقابنا وقد هدانا الله سبحانه وتعالى
وبخاصة ما يتعلَّق بأمور عقيدتنا، ربما بعضنا زلَّت أقدامه، فارتكب بعض الأمور، من الشركيات، من دعوة غير الله، من الذَّبح لغير الله، من رجاء غير الله، من الاستغاثة بغير الله، وكل ذلك من الشرك الأكبر الذي من فعله فإنه يكون قد ارتكب الشرك الأكبر، قال صلى الله عليه وسلم:"لعنَ اللهُ من ذبحَ لغيرِ اللَّهِ "{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: 106]، والله - تعالى - يقول:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا} [البقرة: 186]، فينبغي أن نخلص أعمالنا لله سبحانه وتعالى، ولنحذر أن يكون إخلاصنا لأعمالنا عندما نتلبس بنُسُكٍ، بأن نكون في وقت الحجِّ أو في وقت الصيام أو في وقت الصلاة، لا؛ ينبغي أن تكون هذه العباداتُ منعكسةً أيضًا على أعمالنا الأخرى، في بيعنا في شرائنا في سيرنا في حركاتنا في تعاملنا مع الآخرين في أخلاقنا مع الناس، في علاقاتنا بإخواننا المسلمين، في علاقتنا بجيراننا، بكل فردٍ من أفراد هذه الأمة، ينبغي أن نتقيَ الله سبحانه وتعالى في ذلك، أُذَكِّرُكم بحديث رسولِنا صلى الله عليه وسلم "اتَّق الله حيثُما كُنْتَ" في أي مكانٍ كنت، وفي أي زمانٍ كنت، وفي أي وقتٍ كنت، وفي أي بلدٍ حللت "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها"
(1)
، لو وَقَعْتَ في سيئةٍ من السيئات أو في خطأ، فبادر إلى فعل الحَسنات، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]"اتق الله حيثُما كنت، وأتبعِ السَّيئةَ الحسنَةَ تمحُها، وخالق الناس بخُلُقٍ حسنٍ"، فهل نحن - أيها الإخوة - طبَّقنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
* قول: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا اسْتَوْحَشَ مِنَ الْحَيَوَان الْمُسْتَأْنَسِ)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (1987). وحسنه الألباني في "المشكاة"(5083).
(2)
قال النووي: "وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات، بل متى تيسر اللحوق بعدو أو استعانة بمن يمسكه فليس ذلك توحشا، ولا يحل حينئذ إلا بالذبح في المذبح".
انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 123).
تعلمون الحيوان يقسمه العلماء إلى قسمين: حيوانٌ إنسي
(1)
وهو الذي يعيش معنا كبهيمة الأنعام، وحيوانات متوحشة
(2)
، كالحُمُر الوحشية، وكذلك البقر الوحشي، والغِزْلان، والظِّباء، وغير ذلك، وهي كثيرة جدًّا، هذه هي المتوحشة، الآن المؤلِّف سيعرضُ لمسألةٍ هامَّةٍ جدًّا فيما لو توحش حيوانٌ إنسيّ كيف نعامله؟ أيجوز لنا أن نعاملَه معاملة الحيوان الوحشي التي تكون ذكاته بالعقر
(3)
؟ أم لا بدَّ من أن يظلَّ الحكمُ السابق بالنسبة له ألا وهو الذبح أو النحر؟ أما النحر فيكون باللبد
(4)
، أو الذبح الذي بيَّنا مراحله وينبغي أن يفري الودجين.
* قوله: (فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى أَخْذِهِ وَلَا ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(5)
: لَا يُؤْكَلُ إِلَّا أَنْ يُنْحَرَ).
مالكٌ رحمه الله بقي على الأصل، ولعله لم يبلغه حديث أبي ثعلبة الخشني
(6)
الذي سيعرض له المؤلف في هذا المقال، فهناك حديثٌ ورد
(1)
الإنسي من الحيوان الجانب الأيسر. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2611).
(2)
الوحش: كل ما لا يستأنس من دواب البر، فهو وحشي. تقول: هذا حمار وحش.
وكل شيء يستوحش عن الناس فهو وحشي. انظر: "العين " للفراهيدي (3/ 262).
(3)
سيأتي بالتفصيل الكلام عن العقر.
(4)
اللبد: وزان حمل، ما يتلبد من شعر أو صوف. واللبدة أخص منه. يقال: لبدت الشيء تلبيدًا ألزقت بعضه ببعض، وهي الشعر المتراكب بين كتفيه. انظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 533)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 548).
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 103)، حيث قال:" (وإن) كان (تأنس) ثم توحش (عجز عنه) صفة لوحشيًّا، أي: وحشيًّا معجوزًا عنه، لا إن قدر عليه (إلا بعسر) قال فيها من رمى صيدًا فأثخنه حتى صار لا يقدر على الفرار، ثم رماه آخر فقتله لم يؤكل أي: لأنه صار أسيرًا مقدورًا عليه (لا نعم شرد) أي لا جرح نعم شرد .. وأراد به ما قابل الوحشي فيشمل الإوز والحمام البيتي، فلا يؤكل بالعقر ولو توحش". وانظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (193).
(6)
سيأتي.
في هذه المقام وهو نصٌّ فيه، وهو حديث في الصحيحين، ولا يتطلب الأمر أن يكون محلَّ خلاف، وربما كان للإمام مالكٍ وجهة نظرٍ في ذلك، أو أنَّ الحديث لم يبلغه، فأي عالمٍ من العلماء مهما عَلَتْ منزلته وارتفعت مكانتُه وبلغ الدرجات العليا من العلم والفضل، فإنه لا يمكن أن يحيط بكلِّ شيء، والإمام مالك رحمه الله كغيره من الأئمة، كثيرًا ما سُئل عن مسائلَ فأجاب بأنه لا يدري
(1)
، وهذا هو شأن طلاب العلم العاملين الذين يريدون الوصول إلى الحقِّ من أقرب طريقٍ ومن أهدى سبيل.
* قوله: (مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَاتُهُ النَّحْرُ).
يعني: لو فرَّ مثلًا بعيرٌ أو ثورٌ من الثيران، وأصبَحَ متَوَحِّشًا، فتلبَّس بصفات الحيوانات الوحشية، هل نعقِرُه بمعنى: نضربه بسهم أو برمح أو بغير ذلك، فإذا ما ألقي قتيلًا حينئذٍ يكون مباحًا، أو لا بدَّ من أَصل التذكية المعروفة التي هي ذبحٌ أو نحر.
* قوله: (وَيُذْبَحَ مَا ذَكَاتُهُ الذَّبْح، أَوْ يُفعَلَ بِهِ أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الأمْرَانِ جَمِيعًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة
(2)
،
(1)
أخرج ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/ 838)(1573) عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل فسأله الرجل عن مسألة، فقال: "لا أحسنها". قال: فبُهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال فقال: فأي شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟ قال: "تقول لهم: قال مالك: لا أحسن".
وأخرج أيضًا عن ابن وهب قال: وكنت أسمعه كثيرًا ما يقول: لا أدرى. (جامع بيان العلم)(2/ 838)(1575).
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 43 - 44)، حيث قال: " (وأما) الشاة فإن ندت في الصحراء فذكاتها العقر، لأنه لا يقدر عليها وإن ندت فِي المصر لم يجز عَقْرُها؛ لأنه يمكن أخذها إذ هي لا تدفع عن نفسها فكان الذبح. مقدورًا عليه فلا يجوز العقر، وهذا لأن العقر خلف من الذبح والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى
…
وكذلك ما وقع منها في قليب فلم يقدر على إخراجه ولا على مذبحه ولا منحره، =
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
: إِذَا لَمْ يُقْدَرُ عَلَى ذَكاةِ الْبَعِيرِ).
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد
(2)
، جماهير العلماء عمومًا.
* قوله: (الشَّارِدِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَالصَّيْدِ).
يقصد أنه يعقر، يعني: يوجه إليه سهمٌ فإذا أصابه فقتله فإنه يؤكل على هذه الحالة وهو مباحُ الأكل، وإن أدركنا ذكاته وهو حيٌّ فإنه حينئذٍ يُذَكَّى، لكنه أصبح بمثابة الوحشي، لا نستطيع أن نمسك به، ولا أن نوقِفَه عند حدٍّ، وهذا قد حصل في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الأصْلِ فِي ذَلِكَ لِلْخَبَرِ).
معارضةُ الأصل للخبر: الأصل الذي هو القياس، أي: الثابت أنَّ الأصل في الحيوان الإنسي أن تكون ذكاته بالذبح أو النحر ولا يجوز بغير ذلك، من بهيمة الأنعام، أما الوحشيُّ فإنه تتم ذكاته وجواز الأكل منه بعَقْرِهِ، هذا هو الأصل، الأصل في الحيوان الإنسي أي: الذي يعيش مع
= فإن ذكاته ذكاة الصيد لكونه في معناه لتعذر الذبح والنحر". وانظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 303).
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 114)، حيث قال:" (وإذا) (رمى) بصير لا غيره (صيدًا متوحشًا أو بعيرًا ند) أي هرب (أو شاة شردت بسهم) أو غيره من كل محدد يجرح ولو غير حديد، (أو أرسل عليه جارحة فأصاب شيئا من بدنه ومات في الحال) قبل تمكنه من ذبحه (حل)، ولا يختص بالحلق واللبة. أما المتوحش فبالإجماع. وأما الإنسي إذا هرب فلخبر رافع بن خديج "أن بعيرًا ند فرماه رجل بسهم فحبسه: أي قتله، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا". وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 122 - 123).
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 207)، حيث قال:" (فإن عجز) المذكي (عن قطع الحلقوم والمريء مثل أن يند البعير أو يتردى في بئر فلا يقدر) المذكي (على ذبحه صار كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكنه فقتله حل أكله) ". وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 389).
الناس، هذا ذكاته إنما تكون بالذبح أو النحر، أما المتوحِّش فتكون بالعَقْر، هذا هو الأصل.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الأصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ أَنَّ الْحَيَوَانَ الْإِنْسِيَّ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ).
الأصل في الحيوان الإنسيِّ إما أن يذبحَ كالشاة مثلًا، أو أن ينحرَ كالإبل، أو أن يفعل به أحد الأمرين كالبقر، ولو عكس ذلك في أيِّ واحدٍ منها لجاز.
* قوله: (وَأَنَّ الْوَحْشِيَّ يُؤْكَلُ بِالْعَقْرِ).
ولكن عرفنا الشروط التي يؤكل بها الوحشي، وقد ذكرنا تلكم الشروط وسنعود إليها مرةً أخرى.
* قوله: (وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُعَارِضُ لِهَذه الْأُصُولِ فَحَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه).
الخبر هو الحديث الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في الصحيحين
(1)
أي: في صحيح البخاري ومسلم وفي غيرهما، وقد أورد المؤلِّف طرفًا منه ولم يذكر الحديث بتمامه وهو طويلٌ، وقصة هذا الحديث.
(1)
أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968) عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فاصابوا إبلًا وغنمًا، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم،
…
ثم قال: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا"، فقال جَدِّي: إنا نرجو - أو نخاف - العدو غدًا، وليست معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ قال:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
حديث رافع بن خديج قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة
(1)
- والذي يعرف الآن بأبيار علي، وهو الذي يحرم منه الحاجون والمعتمرون - فأصاب الناس جوعٌ" انظروا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى كيف تبدلت الحال التي نحن علينا، قال: "فأصبنا إبلًا وغنمًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في متأخَّرِ القَوْمِ" الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرص أن يكون في أوائل الناس، يسابقهم، وإنما يبقى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المقام يرْعَى أحوالهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في المتأخرين: يعني ممن كانوا في مؤخرة القوم، قال: "فعَجلوا" أي: فعجل الناس فنصبوا قدورهم؛ لأنهم في مجاعةٍ، وجدوا هذه الإبل وهذه البقر، فاستبشروا بذلك، فما كان منهم إلا أن نصبوا قدورهم، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقدور فأكفئت، ثم إنه عليه الصلاة والسلام "قسم فجعل كل عشرٍ من الشياه بمثابة بدنةٍ واحدةٍ"، هذه كلها مقدمة مهمة لم يعرضها المؤلف، لكن المؤلف جاء بالشاهد: "فند بعيز" يعني: شرد هذا البعير، هام على وجهه، سعى وانطلق مسرعًا في الأرض "ولم يكن في القوم إلا خيلٌ يسيرة فأعياهم ذلك البعير" الذي ند، الذي شرد وفرَّ، فما كان من أحد الصحابة رضي الله عنه إلا أنْ أصابه بسهمٍ "فحبسه الله" سبحانه وتعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أَوابِدَ
(2)
كأوابدِ الوَحْشِ، فما فعل ذلك أو فما غلبكم منها فاصنَعُوا به هكذا" إذن هذا نصٌّ جاء في الصحيحين وفي غيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن بعيرًا ندَّ" أي: شرَدَ، هام على وجهه مسرعًا ولم يتمكن القوم من القبض عليه لينحروه، فما كان من أحدهم إلا أنْ أرسلَ عليه سهمه، فأصابه، جاء في الحديث:"فحبَسَهُ الله"
(3)
لأن ذلك كله بقضاء الله، فلما حبس أراد
(1)
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها ميقات أهل المدينة، وهو من مياه جشم بينهم وبين بني خفاجة من عقيل. انظر "معجم البلدان" لياقوت الحموي - (2/ 295).
(2)
الأوابد: جمع آبدة. وهي التي قد تأبدت أي توحشت ونفرت من الإنس. انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 13) و"الصحاح" للجوهري (2/ 439).
(3)
أخرجه الدارمي (2020) عن رافع بن خديج، أن بعيرًا ند وليس في القوم إلا خيل =
الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته أن يبيِّن للصحابة ذلك الحكم وأن يحدده لهم فقال: "إنَّ لهذه البهائم أوابد" أي: أنها تأبَّدَتْ كما تأبد الحيوان الوحشي، فإنه عندما شرد هذا البعير أصبح بمثابة الحيوان الوحشيِّ - الذي إذا رأى الإنسان فرَّ مسرعًا منطلقًا مبتعدًا عنه:"أوابد كأوابد الوحش"، ثم بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم، مقرِّرًا عمل ذلك الصحابي فكان حكمًا مستقرًّا "فما غالبكم منها فاصنعوا به هكذا"، إذن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطَى الحكم، وأنتم تعلمون أنَّ سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم إما أقوالٌ عنه عليه الصلاة والسلام وإما أفعالٌ منه عليه الصلاة والسلام، وإما إقرارٌ أن يرى إنسانًا يعمل عمَلًا فيُقِرَّه عليه، إذًا هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يحدثَ خلاف فيها، ومن خالف ذلك فيعتذر عنه بأنه ربَّما لم يبلغه هذا الحديث، ثم إننا لو جئنا إلى القياس، لوجدنا أنَّ القياس أيضًا يؤيد جمهور العلماء، لماذا كان الحيوان الإنسي يذبح وينحر؟ لأننا نستطيع أن نمسك به وأن نفعل ذلك، ولماذا كانت ذكاة الحيوان الوحشي العقر؟ لأننا لا نستطيع الإمساك به، فلو أمسكنا به لفعلنا به كما نفعل بالحيوان الإنسي، إذن هنا ما دام الحيوان الوحشي لو أمسكنا به فإننا نذبحه كذلك أيضًا الحيوان الإنسي لو توحش ولم نستطع أن نمسك به فإنه في هذه الحالة إنما يعقر كما فعل الصحابي رضي الله عنه وبمرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرًّا لذلك.
ثم هناك شواهدُ حصلت تؤيد ذلك في زمان الصحابة:
1 -
فإنه حصل أن ثَوْرًا من الثِّيران في أحد بيوت الأنصار كما ورد في الأثر حرب، يعني: غضب، وثار، فعجز الناس عنه، فما كان من أحد القوم إلا أنْ ضربه بسيفه فقتله، فاستَفْتَوا في ذلك الصحابي الجليل رابع الخلفاء الأربعة، علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فأقرَّهم على أكله
(1)
، وأنتم
= يسيرة، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها، فاصنعوا به هكذا" وإسناده صحيح كما قال محققه حسين أسد.
(1)
ذكر هذه الرواية ابن قدامة في "المغني"(9/ 390) فقال: "وهرب ثور في بعض دور الأنصار، فضربه رجل بالسيف، وذكر اسم الله عليه، فسئل عنه علي فقال ذكاة=
تعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن علي: "أقضاكم علي"
(1)
إذن قضى في ذلك.
2 -
وأيضا حصل أنَّ بعيرًا تردى في بئرٍ فلم يستطيعوا النزول إليه، ولم يستطيعوا أيضًا نحره، فما كان من أحدهم إلا أن رماه بسهم في شاكلته فقتله، فبيع بعشرين درهمًا بعدما استخرج، فاشترى عُشْرَه عبد الله بن عمر بن الخطاب، اشترى ذلك بدرهمين
(2)
، ومن المعلوم أنَّ عبد الله بن عمر من أشد الصحابة وأكثرهم احتياطًا في هذا الموضوع.
إذن دلَّ هذا على أنَّ هذا أصل ثابتٌ بسنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله - تعالى - يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، والرد إلى الله إنما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو إليه في زمن حياته، وبعد مماته يكون الرد إلى سنَّتِه عليه الصلاة والسلام
(3)
.
* قوله: (وَفِيهِ قَالَ: "فَنَدَّ
(4)
مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ
= وحية. فأمرهم بأكله". ولم أقف عليها مسنده.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 465) عن جعفر، عن عوف قال: ضرب رجل عنق بعير بالسيف فأبانه فسأل عنه علي بن أبي طالب، فقال:"ذكاة وحية".
(1)
أخرجه ابن ماجه (154)، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". قال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 256) عن عباية قال: "تردى بعير في ركية، وابن عمر حاضر، فنزل رجل لينحره، فقال: لا أقدر أن أنحره، فسال ابن عمر فقال: "اذكر اسم الله عليه، وانحره عليه من قبل شاكلته ففعل " فأخرج مقطعًا، فأخذ منه ابن عمر عشرًا بدرهمين أو بأربعة".
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 505) عن ميمون بن مهران: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه، والرد إلى رسوله إن كان حيًّا، فإن قبضه الله إليه فالردُّ إلى السنة".
(4)
ند البعير ندودا: انفرد واستعصى، انظر:"العين" للفراهيدي (8/ 10) =
يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ الله - تعالى - بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا")
(1)
.
أوابد: يعني أنها تأبدت أي: أنها توحشَّت فصارت الوحشيةُ صفةً فيها، فالحيوان الإنسي لو أنه ابتعد عن الناس واختلط بتلك الحيوانات فإنه يتوحَّش.
* قوله: (وَالْقَوْلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى لِصِحَّتِهِ).
المؤلف مع أنه مالكي كما ترون، ومع هذا لم يؤيد مذهبه؛ لأنه رأى الحق مع غيره، وهذا هو شأن كل مؤمنٍ منصفٍ أنه إذا رأى الحق يأخذ به ويدع قول غيره؛ لأن هذا هو منهج الأئمة رضي الله عنهم جميعًا، إذا صحَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يأخذون به ولا ينظرون إلى قول قائلٍ مهما كان، إذا جاء الأمر عن الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكذلك، وإذا أجمع الصحابة على أمرٍ أخذنا به ولا نتردد، وإن اختلفوا ينظر في أقوالهم فما بالكم إذا كان الخلاف فيمن بعدهم.
* قوله: (لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ الأصْلِ، مَعَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْبَابِ).
يعني المؤلِّف يقول: لا يمكن أن نأتيَ فنخصص حديثًا متفَّقًا عليه بل رواه أيضًا غير أصحاب الصحيحين بقياسٍ، هذا أمرٌ غير صحيح، بل العكس هناك قياسٌ يؤيد ذلك وهو الذي ذكرته لكم.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ الْعَقْرِ ذَكَاةً فِي بَعْضِ الْحَيَوَانِ
(1)
تقدم.
لَيْسَ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَا لِأَنَّهُ وَحْشِيٌّ فَقَطْ، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْإِنْسِيِّ جَازَ أَنْ تَكُونَ ذَكَاتُهُ ذَكَاةَ الْوَحْشِيِّ).
أنا وضحت لكم ذلك بصفة أقرب وأيسر وأكثر لو أنَّ حيوانًا وحشيًّا استأنس فإننا نعامله معاملة الحيوان الإنسي ذبحًا أو نحرًا، ولو أن حيوانًا، إذن يلزم من ذلك أنه لو توحش حيوان إنسي، نعامله معاملة الوحشي، فنحن ننقض هذا القياس بقياسٍ آخر.
* قوله: (فيَتَّفِقُ الْقِيَاسُ وَالسَّمَاعُ).
ولذلك قال بعض العلماء المحققين: إنه لا يمكن أن نجد قياسًا صحيحًا صريحًا معارضًا لنصٍّ صحيحٍ
(1)
، الأقيسة الصحيحة دائمًا تلتقي مع النصوص ولا تعارضها، لأنَّ القياس الصحيح ينبغي أن يكونَ موافقًا للفطرة السليمةِ، وللعقول السلمية، إذن هو لا يتعارض مع النصوص؛ لأن الذي جاءت عن طريقه هذه النصوص إنما هو علام الغيوب، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14] فليست هذه الشريعة قوانين من أفكار البشر، من زُبَدِ أفكارهم، يضعون هذه الأصول يومًا ثم يُغَيِّرُون ويبدلون، وهناك عوامل كثيرة قد تكون سببًا في الزيادة أو الحذف أو التغيير أو التبديل، لكنْ هذه شريعةٌ خالدٌ، والله سبحانه وتعالى قال في غيرها:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (7/ 342)، حيث قال:"ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومنقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس، كان أحد الأمرين لازمًا: إما أن القياس فاسد، وإما أن النص لا دلالة له". وقال في "مجموع الفتاوى"(19/ 288) قال: "ولا يوجد نص يخالف قياسَّا صحيحًا، كما لا يوجد معقول صريح مخالف للمنقول الصحيح".
[الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا يَكُونُ بِهِ الصَّيْدُ]
* قوله: (وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ آيَتَانِ وَحَدِيثَانِ: الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]).
نقف عند الآية الأولى، من المعلوم أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق هو ليس بحاجة إليهم، فنحن عباد الله، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]. إذن الله سبحانه وتعالى خلقنا لماذا؟ {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] أي: ليختبرنا، هذه الآية الأولى التي معنا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] العلماء تكلموا عن ذلك وبيَّنوا أنَّ ذلك إنما هي صغار الحيوانات أو ضعافها التي لا تستطيع أن تفرَّ على الإنسان، الإنسان قد يَرضاها، وقد حصل ذلك كثيرًا في عمرة الحديبية، ومع ذلك نُهِيَ المسلمون، هذا اختبار من الله وابتلاء، الله سبحانه وتعالى قد يختبر المؤمن ببعض الأمور، فإن كان المؤمن وقَّافًا عند حدود الله، فالله سبحانه وتعالى سيجزيه الجزاء الأوفى، أما إذا تعدى المؤمن هذه الحدود وتجاوزها، فإنه بلا شك يعتبر معتد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} ليختبرنكم الله سبحانه وتعالى، {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} ، إذن أنت تتناوله باليد لكنك متلبس بالإحرام، أو أنت في الحرم فلا يجوز لك أن تُنَفِّرَ صيدًا
(1)
ولا أن تعتدي عليه، إذن أنت ممنوع من ذلك، هنا يتبين المؤمن من غيره، هذا حد ضابطٌ وضعه الله سبحانه وتعالى لك، نهاك أن تقترف
(1)
سبق ذكر الدليل على ذلك.
هذا العمل وأن تقترب منه، فأنت إذا وقَفْتَ عند هذا الأمر تكون بذلك قد التَزَمْتَ أوامر الله واجتنبتَ نواهِيَه، وبذلك تكون قد سعدت في الدنيا وفزت في الآخرة، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، إذن الذي يمنعك من أن تأكل هذا الصيد وأن تعتدي عليه وأن تأخذه وقد تكون بحاجة إليه، إنما هي مخافة اللَّهِ سبحانه وتعالى، وخشيتُهُ سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الله - تعالى - يقول عن رُسُلِهِ:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله} [الأحزاب: 39]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 1 - 4]، إذن خشية الله وخوفه هي التي تمنع الإنسان من أن يقع في مثل هذا كما قال الله تعالى:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]، إذن هذه هي الآية الأولى.
* قوله: (وَالثَّانِيَةُ قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
(1)
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] الْآيَةَ).
إذن هذه الآية الأخرى جاءت لتبين الاستثناء: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} [المائدة: 4] فكثيرٌ من آياتِ الأحكام تُختَتَمُ بِالتخويف من أن يُرتكب ذلك العمل المنهي عنه، فقال عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: اجعلوا بينكم وبين
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(8/ 99) حيث قال: "قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، "وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح، وأحل لكم أيضًا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح، وهن الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لجرحها لأربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد".
عذاب الله وقاية؛ وتعليل ذلك قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، ثم قال بعدها:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، إذن إذا منعنا الله سبحانه وتعالى من أمرٍ فقد يسَّر لنا أمورًا كثيرةً، وهئأَ لنا سُبُلًا متعددةً، إذن هذه الآية:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أي: جميع الطيبات {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الجوارح
(1)
: جمع جارحة، وأصل الجارح إنما هو الكاسب، ولذلك يقال: فلانٌ جارحة أهله أي: هو الذي يأتي بالمعيشة لهم، يؤيد ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: ويعلم ما كسبتم بالنهار، وقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} أي: من التكليب وهو الإغراء، أي: أنكم أغريتم هذه الجوارح.
إذن الله سبحانه وتعالى أباحَ لنا الصيد بعد أن مَنَعَه، فقال عز وجل:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة؛ 1]، ثم بعد ذلك أباحه في آيةٍ ليست ببعيدة من ذلك، فقال - سبحانه -:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، أيضًا هنا مي {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] يعني: تُسمِّ الله سبحانه وتعالى إذا أرسلت سهمًا أو كَلْبًا أو صقرًا أو فهدًا أو غير ذلك من الأمور التي يُصاد بها.
* قوله: (وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَأَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ).
مراد المؤلف أنَّ الصيد ثَبَتَ بالكتاب وبالسنة.
* قوله: (وَفِيهِ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ)
(2)
.
(1)
الجوارح: ذوات الصيد من السباع والطير، الواحدة جارحة. انظر:"العين" للفراهيدي (3/ 78).
(2)
أخرجه البخاري (5483) واللفظ له، ومسلم (2/ 1929) عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؛ فقال: "إذا أرسلت كلابك=
وفي بعض الروايات: "إذا أرسلت كلَبْكَ المعلَّم"
(1)
بالإفراد، وفي بعضها:"إذا أرْسَلْتَ كِلابك المعلَّمة"، وقد تكلمنا عن التعليم، وأنه يتم بثلاثة أمورٍ:
1 -
إذا أرسلته استَرْسَلَ: يعني إذا ونجهته إلى صيد انطلق وراءه.
2 -
وإذا زجرته: أي: منعته عنه امتنع.
3 -
وإذا صاد لا يأكل.
وسيأتي الكلام فيما صاده، وإذا أكل لا يأكل منه، جمهور العلماء
(2)
خصوا ذلك بالجوارح، أي: خصُّوا ذلك بالكلب، أما ما عداه فقالوا: لو أكَلَ فإنَّك تأكل -، لأن الكلب إذا زُجر ينزجر، فتستطيع أن تضربه وأن تمنعه، لكن لا يحصل ذلك بالنسبة لغيره، فاختلف من هذه الناحية.
* قوله: (وَذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلَيْهَا، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ).
إذا أرسلت كلبك المعلم، هنا الشروط المؤلف سينبه عليها، أمَّا الشروط التي نأخذها نحن من الآية والأحاديث فهي: الشرط الأول: "إذا أرسلت" أرسلت الكلب، لا أنه ذهب بنفسه. الشرط الثاني:"كلبك المعلَّم" أي: الذي عَلَّمته. الشرط الثالث: "وذكرت اسم الله عليه". الشرط الرابع: "فكل" إذن ما لم يأكل، وسيأتي في آخر الحديث معنى ذلك أنه إذا أكل فلا تأكل.
= المعلمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليكم وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسَكَهُ على نفسِه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل".
(1)
أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929/ 6) واللفظ له: عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك، فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك، فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، وإن وجدته غريقًا في الماء، فلا تأكل".
(2)
تقدَّم ذكر مذاهبهم بالتفصيل.
* قوله: (وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ).
إذا أكل الكلب فلا تأكل لأنك لا تضمن أنَّ الكلب عندما صادَ هذا الصيدَ، إنَّما كان يتضور من الجوع فقصد ذلك لنفسه لا لصاحبه، وبناءً عليه لا تأكل منه:"دع ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُكَ"
(1)
.
* قوله: (وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ غَيْرُهَا فَلَا تَأْكلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ").
فهذا الكلب الذي أرسلته، يوجد آخرون يصيدُونَ كما تصيد، وربما أنهم وجهوا كلابهم أو سهامهم إلى هذا الحيوان الوحشي أو إلى هذا الطير، فإذا ما صيد فالرسولُ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تأكل"؛ لأنك سمَّيْت على كلبك ولم تسمِّ على غيره، وربما أنَّ الذي صاده غير كلبك لم يسمَّ عليه، وأنت إنما سمَّيت عندما أرسلت كلبك المعلم.
* قوله: (وَسَأَلَهُ عَنِ الْمِعْرَاضِ
(2)
فَقَالَ: "إِذَا أَصابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ
(3)
)
(4)
.
المعراض: هو عودٌ طرفه محدَّدٌ، أي: حدٌّ يسنَّن، وبعضهم: يضع
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
المعراض: بالكسر سهم بلا ريش ولا نصل، وإنما يصيب بعرضه دون حده. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 215)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 1083).
(3)
شاة وقيذة موقوذة: أي مقتولة بالخشب. انظر: "العين " للفراهيدي (5/ 201).
(4)
أخرجه البخاري (2054) واللفظ له، ومسلم (1929) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال:"إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل، فلا تأكل فإنه وقيذ"، قلت: يا رسول الله أرسل كلبي وأُسَمِّي، فأجد معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسَمِّ عليه، ولا أدري أيهما أخذ؟ قال:"لا تأكل، إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر".
في آخره حديدة، أي: يلبسه بحديدةٍ فيقذف به الصيد، فإذا أصابه بحده يعتبر عقره، فيحل لك أن تأكل منه، لكن لو ضربَه بعرضه يعتبر ذلك إنما هو ضربٌ بثقله، لأنه لما جاء عرضه جاءت الضربة فأصابته، فكأنه مات من الصدمة فيصبح موقوذًا، والمسألة فيها خلافٌ كما سيأتي.
* قوله: (وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أَصْلٌ فِي أكْثَرِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ).
والله - تعالى - قال في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَة} [المائدة: 3]، والموقوذة
(1)
: هي التي تضرب بشيءٍ مثقل كحجرٍ كبيرٍ، أو أنْ تضرب بعرْضِ المعراض أو بخشبةٍ أو نحوها، فإنها تقتلها بثِقَلِها لا بجرحها، وأكثر العلماء يشترطون أن يكون الصائد جارحًا
(2)
.
* قوله: (وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، وَفِيهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ فَسَمِّ اللهَ ثُمَّ كُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَأَدْرَكتَ ذَكَاتَه، فَكُلْ")
(3)
.
(1)
الموقوذة: المقتولة بعصًا أو حجر أو بالخشب قال قتادة: كانوا في الجاهلية: يضرِبُونها بالعصا، فإذا ماتت أكلوها. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 468)، و"طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 104).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 462)، حيث قال: "وخمسة في الكلب: أن يكون معلَّمًا،
…
وأن يقتله جرحًا .. ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 164)، حيث قال:"شرط أكله بصيد الجارح أن يدميه الجارح بنابه أو ظفره في عضو".
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 244)، حيث قال:"إذا لم يجرح الكلب الصيد، لكن تحامل عليه، فقتله بضغطته، حل على الأظهر".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 351)، حيث قال:" (ويعتبر) لحل صيد ذي ناب أو مخلب (جرحه) للصيد؛ لأنه آلة القتل كالمحدد، (فلو قتله) الجارح (بصدم أو خنق (لم يبح) لعدم جرحه كالمعراض إذا قتل بثقله".
(3)
أخرجه مسلم (1930).
معنى هذا: أنَّ المؤلف لم يستوعب الأحاديث ولم يأت بجَمِيعها، وكان الأولى أن يأتيَ بجمِيعها؛ لأنَّ الحديث كلَّه يشتمل على أحكام، حديث أبو ثعلبة الخشني، قال: أتيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله - وأنتم تعلمون حِرْص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة الحلال من الحَرام، والتوقي فيما فيه شبهة - إنا بأرض قومٍ أهل كتاب، وبأرض صيدٍ، أصيد بقَوْسي، وأصيد بكلبِيَ المعلَّم، أو بكلبي غير المعلَّم، فإذا يحلُّ لي وما يحرم
(1)
؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم البشير النذير الحريص، الذي قد أوتي جَوامع الكلم
(2)
، وهذا مما خصه الله سبحانه وتعالى به "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: وذَكَر منها عليه الصلاة والسلام: أنه أُوتِيَ جوامع الكلم"
(3)
، وهو: أن يتكلم بكلام قليل الألفاظ يحمل المعاني الكثيرة، وأصحابه رضي الله عنهم تأثروا برسول الله لأنهم ترَبَّوا في مدرسته، وأخذوا العلم والوحي من فيه عليه الصلاة والسلام، فكانوا قدوةً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّ قُدوتهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي:"أما ما ذَكَرْتَ بأنكم بأرض أهل كتاب وأنكم تأكلون بآنيتهم" قال صلى الله عليه وسلم: "لا تأكُلوا في آنِيَتِهم إلَّا ألَّا تجدوا غيرَها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وإذا أرسلت قوسك وذكرت اسم الله فكُلْ، وإذا
(1)
أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1930) عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا نبي الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال:"أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل".
(2)
جوامع الكلم: جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة والختم عليها بضمها في تلك الكلمات كما يختم على ما في الكتاب. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 230).
(3)
أخرجه مسلم (523) عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لِيَ الفنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون".
أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله فكُلْ، وإذا أرسلت كلبك غيرَ المعلَّم فإن أدركته فذكيته فكُلْ"، إذن الحكم مختلف ما دام أنك بأرض كتاب لا تأكل بآنيتهم وأنت تجد غيرها، فإن لم تجد فاغسلها، ثم بعد ذلك بيَّن أنه إذا أرسل قوسهُ وسمَّى، أو كلبه المعلم وسمى فإنه يأكل، أما إن أرسل كلبًا معلمًا غير مسمى عليه، أو غير معلم ولم يسم فلا يجوز له أن يأكل إلا أن يلحق ذلك الذي صاده الكلب فيذكيه، حينئذٍ يجوز له أن يأكل منه.
* قوله: (وَهَذَانَ الْحَدِيثَانِ اتَّفَقَ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَلَى إِخْرَاجِهِمَا).
أي: اتفق على إخراجهما البخاري ومسلم.
*قوله: (وَالْآلَاتُ الَّتِي يُصَادُ بِهَا مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهَا وَفِي صِفَاتِهَا).
ما الآلات التي يصاد بها؟ وجدنا أنه نص على الجوارح، فقال عز وجل:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، ذهب بعضهم إلى أنَّ كلمة مكلبين
(1)
المقصود بها الكلاب وحدها، وذهب بعضهم: أنه من التَّكْلِيب وهو الإغراء فتشمل الكلب وغيره، وجاءت أحاديثُ تدل على شمول ذلك. أيضًا الله - تعالى - يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، جاء التنصيص في الآية على الرماح، ويلحق بها السهام، وكذلك البنادق
(2)
التي حدثت بعد ذلك
(3)
،
(1)
مكلبين: أي مسلطين الكلاب على الصيد. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 100).
(2)
البُنْدُق: من أدوات القتال القديمة والحديثة، وفو ما يعمل من الطين ويرمى به، واحده بندقة، وجمع الجمع البنادق. وهو آلة من الطين أو الحجارة أو الرَّصاص، وهي من الأسلحة الحديثة المعروفة كذلك .. انظر:"الصحاح" للجوهري (4/ 1452)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 39)، و"الإفصاح في فقه اللغة" لحسين موسى وزميله (ص: 299).
(3)
اتفق الفقهاء على ما يصنع من الطين من البندقة، وما قتل ببندقة الطين الثقيلة لا يحل أكله، لأنها تقتل بالثقل لا بالحد.
مذهب الحنفية، ينظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 471)، حيث قال:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= "قال قاضي خان: لا يحل صيد البندقة والحجر والمعراض والعصا وما أشبه ذلك وإن جرح؛ لأنه لا يخرق إلا أن يكون شيء من ذلك قد حدده وطوله كالسهم وأمكن أن يرمي به؛ فإن كان كذلك وخرقه بحده حل أكله، فأما الجرح الذي يدق في الباطن ولا يخرق في الظاهر لا يحل لأنه لا يحصل به إنهار الدم؛ ومثقل الحديد وغير الحديد سواء، إن خزق حل وإلا فلا".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 103)، حيث قال:" (قوله: بسلاح محدد) متعلق بقوله: (وجرح مسلم) (قوله: عن نحو العصا والبندق) أي؛ لأنه لا يجرح، وإنما يرض، ويكسر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 108 - 109)، حيث قال: " (فلو قتله بمثقل) بقاف مفتوحة شديدة: أي شيء ثقيل (أو ثقل محدد)، فالأول (كبندقة وسوط وسهم بلا نصل ولا حد)
…
حرم".
وقال البجيرمي: "وأفتى ابن عبد السلام بحرمة الرمي بالبندق، وبه صرح في الذخائر، ولكن أفتى النووي بجوازه، أي: الرمي بالبندق، وفيده بعضهم بما إذا كان الصيد لا يموت فيه غالبًا، كالإوز، فإن مات كالعصافير فيحرم، فلو أصابته البندقة فذبحته بقوتها، أو قطعت رقبته حرم، وهذا التفصيل هو المعتمد". انظر: "حاشية البجيرمي على شرح المنهج"(4/ 302).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 219)، حيث قال:" (فإن قتله بثقله لم يبح كشبكة وفخ وبندقة وعصى وحجر لا حد له، ولو شدخه أو حرقة أو قطع حلقومه ومريئه".
أما ما صنع من الحديد ويرمى بالنار، فاختلف الفقهاء فيه:
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار (6/ 471)، حيث قال:"ولا يخفى أن الجرح بالرصاص إنما هو بالإحراق والثقل بواسطة اندفاعه العنيف إذا ليس له حد فلا يحل. وبه أفتى ابن نجيم".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 103)، حيث قال:"وأما الرصاص فيؤكل به؛ لأنه أقوى من السلاح كذا اعتمده بعضهم".
وقال الدسوقي في حاشيته: (2/ 103 - 104): "والحاصل أن الصيد ببندق الرصاص لم يوجد فيه نص للمتقدمين لحدوث الرمي به بحدوث البارود في وسط المائة الثامنة، واختلف فيه المأخرون فمنهم من قال بالمنع فياسًا على بندق الطين، ومنهم من قال بالجواز كأبي عبد الله القوري وابن غازي والشيخ المنجور وسيدي عبد الرحمن الفاسي والشيخ عبد القادر الفاسي لما فيه من الإنهار والإجهاز بسرعة الذي شرعت الذكاة لأجله، وقياسه على بندق الطين فاسد لوجود الفارق، وهو وجود الخرق =
وقد جدَّت أسلحةٌ كثيرةٌ لم تكن معروفةً فيما مضى، ولكن عندنا قاعدة عامة:"أن هذا السَّهْم إذا أرسلته بأي طريقةٍ، وذكرتَ اسم الله عليه فإذا جرحه فإنك تأكل، فإذا لم يكن موقوذةً فكل منه، أما إذا وَقَذَهُ لك، فلا يجوز لك أن تأكل منه إلا أن تُدركه فتذبحه".
* قوله: (وَهِيَ ثَلَاثٌ: حَيَوَانٌ جَارحٌ، وَمُحَدَّدٌ، وَمُثَقَّلٌ).
الذي يصاد به لا يخلو من واحدٍ من أمورٍ ثلاثة:
1 -
إما حيوان: كالكلاب والفهود.
2 -
أو طير: كالصقر والبازي.
3 -
أو آلة: كالسهام وكالرماح وكالبنادق، أو مثقل كالمعراض، وأحيانًا يكون سهمًا أو بمثابة السهم، أو حجرًا كبيرًا تلقيه، أو خشبة أو غيرها، هذه هي الأمور الثلاثة، أما الآلات المحددة فلا خلاف فيها، والكلب أيضًا لا خلافَ فيه، لكن الخلاف إذا قيل للجوارح، وفيما كان مثقلًا.
* قوله: (فَأَمَّا الْمُحَدَّدُ
(1)
فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ وَالسِّهَامِ؛ لِلنَّصِّ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ بِمَا جَرَى مَجْرَاهَا).
= والنفوذ في الرصاص تحقيقًا، وعدم ذلك في بندق الطين".
مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية البجيرمي على الخطيب"(4/ 303)، حيث قال:"أما الرصاص فيحرم مطلقًا لما فيه من التعذيب بالنار، نعم إن علم حاذق أنه إنما يصيب نحو جناح كبير فيثبته فقط، احتمل الحل، ومثل الطين ما لو كان رصاصًا من غير نار".
مذرهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 345)، حيث قال:" (فإن قتله)، أي: الصيد (بثقله كشبكة وفخ وعصا وبندقة ورصاص، ولو مع شدخ، أو قطع حلقوم ومريء، أو بعرض معراض وهو خشبة محددة الطرف) وربما جعل في رأسه حديدة، لكنه يصيب غالبًا بوسطه دون حَدِّه (ولم يجرحه، لم يبح) أكله".
(1)
يجوز الصيد بالرمي بالسهام المحددة، وهو مذهب الأئمة الأربعة:
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 56)، حيث قال:" (وإن رمى وسمى وجرح أكل) أي رمى إلى الصيد فأصابه يؤكل إذا جرح". =
لأنه جاء في السنة النص على القوس، وكذلك على المعراض
(1)
، وجاء في الكتاب الرماح، إذن يلحق بها ما هو مثلها، أو ما هو أشد منها فتكًا.
* قوله: (مِمَّا يَعْقِر، مَا عَدَا الْأَشْيَاءَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِي عَمَلِهَا فِي ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ، وَهِيَ: السِّنُّ وَالظُّفْرُ وَالْعَظْمُ
(2)
، وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لإِعَادَتِهِ).
= مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطإ" للباجي (3/ 118 - 119)، حيث قال: "ما يصاد به من السلاح على ضربين: أحدهما ما له حد كالرمح والسهم والسيف والسكين مما له حد تجوز به
…
ولو كان الحجر مما له حد وأصاب بحده وجرح لكانت تلك ذكاة تبيح أكل الطائر وإن لم تدرك ذكاتهما".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"(9/ 110) وما بعدها حيث قال: "ويجوز الصيد بالرمي
…
وإن رماه بمحدد كالسيف والنشاب والمروة المحددة وأصابه بحده فقتله حل".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 219)، حيث قال:" (وإن صاد بالمعراض وهو عود محدود ربما جعل في رأسه حديدة أكل ما قتل بحده دون عرضه) نص عليه". وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 383).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 58)، حيث قال:" (وما قتله المعراض بعرضه أو البندقة حرم) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطإ" للباجي (3/ 118)، حيث قال:"والثاني: ما لا حد له كالمعراض والبندقة والحجر الذي لا حد له وغير ذلك مما لا حد له، لا تجوز به الذكاة فيحتمل أن يكون الحجر الذي رمى به نافع مما له حد، ويحتمل أن يكون مما لا حد له وهو الأظهر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنوري (9/ 110)، حيث قال:"وإن رمى بما لا حد له كالبندق والدبوس أو بما له حد فأصابه بغير حده فقتله لم يحل".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 383)، حيث قال: " (وإذا صاد بالمعراض، أكل ما قتل بحده، ولا يأكل ما قتل بعرضه)
…
قال أحمد: المعراض يشبِهُ السهم، يحذف به الصيد بحدِّه، فربما خرق وقتل، فيباح، وربما أصاب بعرضه، فقتل بثقله، فيكون موقوذا، فلا يباح".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" للموصلي (5/ 12)، حيث قال: " (ويجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم، إلا السن القائمة والظفر =
في حديث رافع، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا لاقُو العدو غدًا وليس معنا مُدًى أفنذبح بالقصب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله فكُلْ، ما خلا السِّنَّ والظُّفُر، وسأخبرك عن ذلك، أما السِّنُّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة"
(1)
، هذه مسألة في أحكام الذبائح، والأولى عدم الذبح بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكن لو وُجِدَ حَجَرٌ محدد، يعني: قد تأخذ قطعة حَجَرٍ وتحدها فتصير كالسِّكِّين، فهذه يجوز لك أن تذبح بها، وفي قصة الجاريةِ
(2)
التي كانت ترعى غَنمًا
= القائم
…
والحبشة كانوا يذبحون بهما قائمين، ولأن القتل بهما قائمين يحصل بقوة الآدمي وثقله فأشبه المنخنقة، ولو ذبح بهما منزوعين لا بأس بأكله ويكره".
مذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 702)، حيث قال:"وفي السِّن والظفر أقوال في المذهب، أحدها: جواز أكل ما ذبح بهما، وعمدتهم قوله عليه السلام: "ما أنهر الدم فكل". الثاني: المنع لقوله عليه السلام: "ليس السن والظفر". والثالث: جواز ذلك في المنفصل دون المتصل، ولذلك نبه عليه القاضي. والقول الرابع: جواز أكل ما ذبح بالظفر، ولا يؤكل ما ذبح السن، وكره مالك غير الحديد - مع وجوده في المبسوط - كل شيء يصنع من فخار أو عظم أو قرن فهو جائز".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 555)، حيث قال:" (فتحل ذبيحتها وعقيرتها) بمعنى مذبوحتها ومعقورتها (إلا السن والظفر والعظم)، متصلًا كان أو منفصلًا من آدمي أو غيره".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 418 - 419)، حيث قال:" (فتحل) الذكاة (بكل محدد حتى حجر وقصب وخشب وذهب وفضة وعظم غير سن وظفر) نصًّا لحديث: "ما أنهر الدم فكل ليس السن والظفر"، متفق عليه من حديث رافع بن خديج، وتقدم حديث - كعب بن مالك، (ولو) كان المحدد (مغصوبًا) لعموم الخبر".
(1)
أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968) عن عَباية بن رفاعة بن رافع بن خديجٍ، عن جده، قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جُوعٌ، فأصابوا إبلا وغَنَمًا، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم، فعجلوا، .. قال: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السّنُّ فعَظْم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
(2)
أخرجه البخاري (5501) عن نافع، سمع ابن كعب بن مالك، يخبر ابن عمر، أن أباه، أخبره: أن جارية لهم كانت ترعى غنمًا بسلع، فأبصرت بشاة من غنمها موتًا، =
فوجدت أن شاةً كاد أن يدركها الموت فقامت فقطعت حَجَرًا وسنته ثم ذبَحتها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كلوا إن شئتم" فالشاهد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "ما أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكلرَ اسمُ الله عليه" فهذه قاعدة عامة وأصل ثابتٌ مستقر، فإذا وجدت ما يفري الأوداج
(1)
والبلعوم ويقطع، القصد أن يسيل الدم سواء كانت حديدة من الحديد أو من نحاس، أو حتى من فضة أو من ذهب أو من غير ذلك:"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"، وهنا سؤال هل يجوز للإنسان أن يذبح بسِنٍّ؟ والجواب: بعض العلماء أجاز ذلك، وقال: ما لم يكن متصلًا، فإن كان متصلًا فلا، وبعضهم: منع ذلك للحديث، وكذلك الظُفر بعضهم: منعه وبعضهم: أجازه، وكذلك العظم، لكن الأولى أن الإنسان يتجنب ذلك، لكن لو وجدت صيدًا وليس معك سكين لكي تذبحه فإذا تفعل؟ ولو معك كلب أو فهد، هل تدفعه عليه ليجرَحَه ويمزِّق شيئًا منه، ثم بعد ذلك تأكله؟ والجواب: بعض العلماء قال: لا ينبغي ذلك؛ لأنه لا تقبله النفس، وبعضهم: أجاز ذلك، والمسألة فيها خلاف
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا الْمُثَقَّلُ فَاخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ بِهِ، مِثْلَ الصَّيْدِ بِالْمِعْرَاضِ وَالْحَجَرِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يجِزْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أُدْرِكَتْ ذَكاتُه، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ
(3)
، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا قَتَلَهُ الْمِعْرَاضُ أَوِ الْحَجَرُ بِثِقَلِهِ أَوْ بِحَدِّهِ).
= فكسرت حجرًا فذبحتها، فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله -، أو حتى أرسل إليه من يسأله - "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم - أو بعث إليه - فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها".
(1)
الإفراء: القطع على وجه الإفساد والفري القطع على وجه الإصلاح. والأوداج جمع ودج بفتح الدال، ولكل حيوان ودجان وعروق الذبح أربعة ودجان والحلقوم والمريء؛ فالحلقوم مجرى النفَس، والمريء مجرى الطعام والشراب. وفرى الأوداج، أي: شقها وقطعها. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 101)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 154).
(2)
سبق الكلام عليه.
(3)
تقدم.
أي: من العلماء مَن لم يجز من ذلك إلا ما أُدركت ذكاته، وهذا نقل عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر
(1)
رضي الله عنه وعن التابعي الحسن البصري
(2)
رحمة الله عليه، ومنهم من أجازه مطلقًا وهم كثير من علماء الشام، كمكحول
(3)
والأوزاعي
(4)
، ومنهم من فرق كالأئمة الأربعة وأتباعهم
(5)
، وهذا هو القول الراجح الذي تلتقي عنده الأدلة؛ لأن هذا جاء نصًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه المعراض بحده قال:"إن أصابه بحده فكُلْ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل"
(6)
، لأنه موقوذ، فهذا جاء فيه نص فلا يُختلف فيه.
* قوله: (إِذَا خَرَقَ جَسَدَ الصَّيْدِ فَأَجَازَهُ إِذَا خَرَقَ، وَلَمْ يُجِزْهُ إِذَا لَم يَخْرِقْ).
يعني: لو أن إنسانًا أخذ حَجَرًا مستطيلًا، ثم سَنَّهُ سنًّا وجعل رأسه محددًا، ثم رمى به صيدًا فجرحه فقتله، فهذا يعتبر مسنَّنٌ، لكن لو أخذت حجرًا مدبَّبًا وغير مسنن وضربته به بهذا تكون قتلته بمثقله يعني: عندما ترمي شيئًا ثقيلًا على شيء، إما أنه يقتله أو أنه يلحق به الضرر، فهذا يعتبر من الموقوذة.
* قوله: (وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَشَاهِيرُ فُقَهَاء الْأَمْصارِ: الشَّافِعِيُّ
(7)
،
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 383)، حيث قال:"وقال ابن عمر: ما رمي من الصيد بجلاهق أو معراض، فهو من الموقوذة".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 383)، حيث قال:"وبه قال الحسن".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 267)، حيث قال:"فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسًا".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 383)، حيث قال:"وقال الأوزاعي، وأهل الشام: يباح ما قتله بحده وعرضه".
(5)
تقدَّم قولهم.
(6)
أخرجه البخاري (2054)، ومسلم (3/ 1929) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال: "إذا أصاب بحده فكل
…
" الحديث".
(7)
تقدم.
وَمَالكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
، وَغَيْرُهُمْ
(5)
، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا ذَكَاةَ إِلَّا بِمُحَدَّدٍ).
وهنا فائدة مهمة نستفيدها وكثيرًا ما يحدث عندَ طلَّاب العِلْم، أن ابن رشدٍ رحمه الله لا يذكر الإمام أحمد في كثيرٍ من المسائل، هَل لأنه يرى أنه محدِّث أو أنه لم يقف على جميع آرائه؟ والجواب: ذكرنا أن ابن رشد كثيرًا ما ينقل عن صاحب كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، فإن ذكر مذهب أحمد ذكره قليلًا ليقف عليه عند غيره، لكن هنا قال: فقهاء الأمصار، وعدَّ منهم أحمد، والإمام أحمد إنما يأتي في مقدمة الفقهاء؛ لأنه قد فاق الأئمة الأربعة جميعًا في الحديث وحفظًا لسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك ديوانه العظيم الذي يعرف بمسند الإمام أحمد، الذي جمع ما نيف
(6)
على أربعين ألف حديث، وهذه لا توجد في بقية الكتب، فهو محدِّث وفقيه الشاهد: أن ابن رشد: يرى أن الإمام أحمد من أئمة الفقه الكبار فاشتهر بالحديث واشتهر بالفقه.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضَهَا بَعْضًا، وَمُعَارَضَةُ الأثَرِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْوَقِيذَ
(7)
مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ).
أما دليل الكتاب قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 267)، حيث قال: (اوقال
…
والحسن بن حي
…
نحو قول مالك".
(6)
النَّيْفُ: الزيادةُ، يخفف ويشدّد، وأصله من الواو. يقال عشرة ونيف، ومائة ونيف.
انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1436).
(7)
تقدَّم معناه.
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، وأجمع العلماء على أن الموقوذة لا يحل أكلُها.
* قوله: (وَمِنْ أُصُولِهِ: أَنَّ الْعَقْرَ
(1)
ذَكَاةُ الصَّيْدِ).
يعني: عندما تُرْسِلُ سهمًا فتصيب الصيد هذا يسمى عقرًا، كأنك عقرته أي: منَعْتَهُ ووقَفْتَهُ.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَا قَتَلَ الْمِعْرَاضُ وَقِيذٌ مَنَعَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ رَآهُ عَقْرًا مُخْتَصًّا بِالصَّيْدِ، وَأَنَّ الْوَقِيذَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ - أَجَازَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ فَرَّقَ بيْنَ مَا خَرَقَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَخْرِقْ - فَمَصِيرًا إِلَى حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الصَّوَابُ).
الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، جاءت كلمة مكلِّبين، فهل هي من الكلب أو من التكليب الذي هو الإغراء؟ ومن هنا حدث الخلاف، ولا خلاف بين العلماء في أن الكلب المعلّم يضاد به
(2)
، لكن هل يصاد بغيره؟ والجواب: فيه خلاف
(3)
، وكلمة الجوارح لا يختص بها الكلب بل يوجد من الحيوانات من هو أشدُّ فتْكًا وجرحًا من الكلب، إذن هذا عام، وهذا هو تفسير عبد الله بن عباس للآية، لأنه نص على أنها الكلاب المعلّمة وكذلك الفهودُ والطيورُ
(4)
، وعبد الله بن عباس رسول صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: "اللهُمَّ فقِّهه في
(1)
سيأتي تعريفه.
(2)
ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 313)، حيث قال:"فأما عوامُّ أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة والمشهور من مذاهبهم أكل ما صاد كل كلب معلم".
(3)
سيأتي.
(4)
يُنظر: "تفسير الطبري"(9/ 548)، حيث قال:"عن ابن عباس قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} و، يعني بـ (الجوارح)،* الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها".
الدين، وعلِّمه التأويل"
(1)
وكان بارعًا في تفسير كتاب الله عز وجل، وتخرج على يديه جمعٌ كثيرٌ من التابعين
(2)
- رضي الله عنهم -، واشتهروا بتفسير كتاب الله عز وجل، إذن ابن عباس نُقل عنه ذلك.
* قوله: (وَأَمَّا الْحَيَوَانُ الْجَارحُ فَالاتِّفَاقُ وَالاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّوْعِ وَالشَّرْطِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ. فَأَمَّا النَّوْعُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْكِلَابُ).
وأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود وليس المنع؛ لأن لونه أسود، فهذا لا يختلف فيه، وكذلك في بني آدم كما قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فالقصد من ذلك هو أن هذا النوع هو شيطان كما نبه الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك، وذكر صلى الله عليه وسلم وقال:"يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود"
(3)
، والمرأة هي مؤمنة، فهذه صفات ليس القصد منها اللون وإنما القصد منها وجود سبب آخر، وفي حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمَرْتُ بقتْلِها"، يعني: خلقٌ من خلق الله سبحانه وتعالى، وجماعة من الجماعات، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"اقتلوا كل أسْود بَهِيمٍ" هذا الحديث جاء عند أصحاب السنن
(4)
وعند
(1)
أخرجه البخاري (143)، ومسلم (2477) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءًا قال:"من وضع هذا؟ " فأخبر فقال: "اللهم فقهه في الدين".
واللفظ الذي ذكره الشارح أخرجه أحمد (2397)، وقال الأرناوؤط: إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات.
(2)
منهم: مجاهد بن جبر، والضحاك بن مزاحم، ومحمد بن كعب القرظي
…
وغيرهم.
(3)
أخرجه مسلم (511/ 266) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل".
(4)
أخرجه أبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائى (4280) ولفظه: عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم". وصححه الألباني في "غاية المرام"(ص: 114).
أحمد
(1)
بسند صحيح، وجاء من حديث جابر بن عبد الله في صحيح مسلم قال:"أمرنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فكانت المرأة تأتي من البادية بكَلْبِهَا فتَقْنُله"، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال:"اقتلوا الأسود البهيم فإنه شيطان"
(2)
فالسبب أن هذا يتصف بهذه الصفة، ومع ذلك اختلف العلماء، والأئمة الثلاثة أبو حنيفة
(3)
ومالك
(4)
والشافعي
(5)
: لا يرون فرقًا بين كلب وكلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فلم يقيد الله سبحانه وتعالى
(1)
أخرجه أحمد (20547)، وإسناده حسن. كذا قال الأرناؤوط.
(2)
أخرجه مسلم (1572)، ولفظه: عن جابر بن عبد الله، يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:"عليكم بالأسود البهيم ذِي النُّقْطَتين، فإنه شيطان".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 50)، حيث قال:"ومعنى قوله: {مُكَلِّبِينَ} معلِّمين الاصطياد {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تؤدبوهن فيتناول كل ما علم من الجوارح دل عليه .. لأن اسم الكلب يقع على كل سبع حتى الأسد، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه استثنى من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما، الأسد لعلو همته والدب لخساسته .. ولأنهما لا يتعلمان عادة؛ ولأن التعليم يعرف بترك الأكل وهما لا يأكلان الصيد في الحال، فلا يمكن الاستدلال بترك الأكل على التعلم حتى لو تصور التعلم منهما وعرف ذلك جاز .. وألحق بعضهم الحدأة بهما لخساستها".
(4)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 916)، وفيه قال:"يجوز الاصطياد بكل جارح معلَّم، خلافًا لمن منع صيد الأسود والبهيم من الكلاب، ولمن منع سائر الجوارح سوى الكلب؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}، فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل"، واعتبارًا بالكلب الأبيض لعلَّة أنه جارح يفقه التعليم". وانظر: "روضة المستبين"، لابن بزيزة (1/ 705).
(5)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (9/ 93)، وفيه قال:"قال الشافعي والأصحاب يجوز الاصطياد بجوارح السباع المعلمة كالكلب والفهد والنمر وغيرها، وبجوارح الطير كالنسر والبازي والعقاب والباشق والشاهين وسائر الصقور، وسواء في الكلاب الأسود وغيره ولا خلاف في شيء من هذا عندنا إلا وجهًا لأبي بكر الفارسي من أصحابنا أن صيد الكلب الأسود حرام، حكاه الروياني والرافعي وغيرهما، وهو ضعيف بل باطل". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 110).
ذلك بصنف من أصناف الكلاب، ولم يقيد ذلك بِلَوْنٍ، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال لعدي بن حاتم:"إذا أرسلت كلبك المعَّلم وذكرت اسم الله"
(1)
فلم يُقَيِّدْ، لكنَّ بعض العلماء قيَّدَها، والإمام أحمد له روايتان
(2)
، رواية مع الجمهور ورواية وافق فيها بعض السلف في أنه لا يصاد به.
* قوله: (مَا عَدَا الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ؛ فَإِنَّهُ كَرِهَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ، وإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَقَتَادَةُ
(3)
، وَقَالَ أَحْمَدُ
(4)
: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ
(5)
).
الله سبحانه وتعالى يقول {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] فقد يوجد بين الإنس من هم شياطين، فالإنسان الذي يتصف بصفات الشياطين يُنسب إليهم، والإنسان الذي يتصف بصفات المتقين فيوصف بأنه من المؤمنين المتقين، "بهيم"
(6)
يعني: جميع لونه، فلا يوجد في أي بقعة في جسده إلا هذا اللون.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 222)، حيث قال: " (النوع الثاني) من نوعي الآلة (الجارحة فيباح ما قتلته) الجارحة (إذا كانت معلمة)
…
(إلا الكلب الأسود البهيم الأسود وهو ما لا بياض فيه) قال ثعلب وإبراهيم الحربي: كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم قيل لهما من كل لون قالا: نعم (أو) وإن أسود (بين عينيه نكتتان) في إحدى الروايتين، قال في الآداب الكبرى: وهو الصحيح، وجزم به في المغني والشرح .. (فيحرم صيده) أي الكلب الأسود البهيم". وانظر:"الإنصاف" للمرداوي (10/ 427).
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 448)، حيث قال:"فكره صيد الكلب الأسود البهيم الحسن البصري، وإبراهم النخعي، وقتادة".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 373)، حيث قال:"قال أحمد: ما أعرف أحدًا يرخص فيه. يعني من السلف".
(5)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (8/ 3985)، حيث قال:"ما أعرف أحدًا رخَّص فيه، إذا كان بهيمًا. قال إسحاق: كما قال".
(6)
البهيم: المصمت الذي لم يخالط لونه لون غيره، ولم يخالط سواده شيء آخر.
انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 168) و"طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 103).
* قوله: (وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَعَلَى إِجَازَةِ صَيْدِهِ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا
(1)
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْعُمُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]- يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ جَمِيعِ الْكِلَاب فِي ذَلِكَ. "وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ"
(2)
- يَقْتَضِي فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ اصْطِيَادُهُ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
(3)
، وَأَمَّا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَوَارِحِ فِيمَا عَدَا الْكَلْبَ، وَمِنْ جَوَارحِ الطُّيُورِ وَحَيَوَانَاتِهَا السَّاعِيَةِ).
فهناك حيوان مُجمع عليه وهو الكلب في الصيد، وهناك حيوانات أو طيور مختلف فيها هل يصاد بها أم لا؟ والفهد أشد ويفوق الكلب في الصيد؛ لأنه أسرع منه وأمكن، ولذلك يقول الفقهاء في عباراتهم: والفهد صَيود؛ لأنه اشتهر بذلك، فلو دُرب فهدٌ على الصيد أو نمرٌ فهذا أجازه العلماء.
* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ جَمِيعَهَا إِذَا عُلِّمَتْ حَتَّى السِّنَّوْرَ
(4)
، كَمَا
(1)
تقدَّم بالتفصيل ذكر مذاهبهم.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "التلخيص في أصول الفقه" للجويني (1/ 481)، حيث قال:"هذا مما اختلف فيه الفقهاء والمتكلمون، فما ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين: أن النهي عن الشيء يدل على فساده، كما أن الأمر بالشيء يدل على إجزائه. ثم اختلف هؤلاء فذهب بعضهم أن النهي دال على فساد المنهي عنه من جهة وضع اللسان. وذهب آخرون إلى أن النهي إذا ثبَتَ فإنما يعلم فساد المنهي عنه بموجب الشرع دون قضية لفظ النهي في اللغة، وذهب الجمهور من المتكلمين أن النهي لا يدل على الفساد، - ثم أجمع هؤلاء على أنه كما لا يدل على فساد المنهي عنه لا يدل على صحته وإجزائه". وانظر: - "اللمع" للشيرازي (ص: 25)، و"قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 140).
(4)
السنورة الهر والأنثى سنورة. قال ابن الأنباري: وهما قليل في كلام العرب والأكثر أن يقال: هر وضيون. والجمع سنانير. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 291).
قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ
(1)
، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2)
).
وهذا مذهب جمهور العلماء بما فيهم بقية الأئمة وهم: الشافعية
(3)
والحنفية
(4)
والحنابلة
(5)
.
* قول: (أَعْنِي أَنَّ مَا قَبِلَ التَّعْلِيمَ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَارحِ فَهُوَ آلَةٌ
(1)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 118)، حيث قال:"وأما الحيوان فيجوز عند الجميع الصيد بالكلاب والبازات والصقور والعقاب، وكل ما يقبل التعليم حتى بالسنور، قاله ابن شعبان".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 137)، حيث قال:"قال ابن عباس، في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}: هي الكلاب المعلَّمة، وكل طير تعلم الصيد، والفهود والصقور وأشباهها".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 121)، حيث قال:" (ويحل الاصطياد بجوارح السباِع والطير ككلب) ونمر صغير قابل للتعليم (وفهد وباز وشاهين) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، أي: وصيد ما علمتم (بشرط كونها معلمة)، فإن لم يكن كذلك لم يحل ما قتلته فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فلا بد من ذبحه".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 58)، حيث قال:" (وأما) ما سواه من ذي الناب جميعًا: كل ذي مخلب وذي ناب عُلِّمَ فتعلم، ولم يكن محرم العين قصيد به كان صيدُهُ حلالًا لعموم قوله عز شأنه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} .. وذكر هشام وقال: سألته - محمد بن الحسن - عن صيد ابن عُرس فأخبرني أن أبا حنيفة قال: إذا عُلِّمَ فتعلم فكل مما صاد فصاد، الأصل ما ذكرنا أن ما لا يكون محرم الغين من الجوارح إذا علم فتعلم يؤكل صيده".
(5)
ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 223)، حيث قال:" (والجوارح نوعان: أحدهما: ما يصيد بنابه كالكلب والفهد وكلما أمكن الاصطياد به) قال في المذهب والترغيب: والنمر (وتعليمه بثلاثة أشياء أن يسترسل إذا أرسله وينزجر إذا زَجَر، لا في حال مشاهدته الصيد، وإذا أمسك لم يأكل) لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفْسِهِ" متفق عليه، ولأن العادة في المعلم ترك الأكل، فكان شرطًا كالانزجار إذا زجر". وانظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 348).
لِذَكَاةِ الصَّيْدِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا اصْطِيَادَ بِجَارحٍ مَا عَدَا الْكَلْبَ، لَا بَازٌ
(1)
، وَلَا صَقْرٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ).
يعني: لا تصيد البزاة وهي جمع باز، ولا كذلك بالصقور، ولا بحيوانات غير ذات الكلاب، لا تأتي مثلًا بفهد أو نمر أو كذلك سنور أو غير ذلك من الحيوانات فتعلمها، ولكن منهم من قال بذلك، فإذا وجدت حيوانًا أو طيرًا فعلمته فتعلم، فذلك مما أباحه الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} والجوارح عامة تشمل الحيوان والطير، وابن عباس رضي الله عنه فسرها بذلك، فسرها بالكلاب المعلَّمة والطيور المعلَّمة، وكذلك نص أيضًا على الفهود
(2)
.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ
(3)
، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الطُّيُورِ الْجَارِحَةِ الْبَازِيَّ فَقَطْ فَقَالَ: يَجُوزُ صَيْدُهُ وَحْدَهُ
(4)
).
واستثنوا البازي، لأنه ورد فيه نص، لما سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صيده قال:"ما أمسكن عليكَ فَكُلْ"
(5)
.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: قِيَاسُ سَائِرِ الْجَوَارحِ عَلَى الْكِلَابِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا
(1)
البازي: واحد البزاة التي تصيد. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2281).
(2)
تقدَّم قوله.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 371)، حيث قال:"وحكي عن ابن عمر، ومجاهد، أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}. يعني كلبتم من الكلاب".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 452)، حيث قال:"ورخص فيما أكل البازي منه النخعي، وحماد بن أبي سليمان، والثوري".
(5)
أخرجه البخاري (5477)، ومسلم (1929) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنا نرسل الكلاب المعلَّمة؟ قال:"كلْ ما أمسكَنْ عليك " قلت: وإن قَتَلن؟ قال: "وإن قتلن" قلت: وإنا نرمي بالمعراض؟ قال: "كل ما خَزَق، وما أصاب بعرضه فلا تأكل".
وَرَدَ فِي الْكِلَابِ، أَعْنِي: قول تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]).
الفقهاء تعمَّقُوا في كتاب الصيد وبحثوا كلياته وجزئياته، وربما يرى الكثير الآن أنه لا حاجة لذلك؛ لأن الناس استغنوا، لكن القضية أنه فيما مضى كان الناس يحتاجون إلى الصيد، وربما تمرُّ بالإنسان الشهور والأيام دون أن يذوق طعم اللحم، ورسول الله قول تعالى: صلى الله عليه وسلم تمضي عليه الأيام والليالي وليس في بيته إلا الأسودان الماء والتمر
(1)
، وأحيانًا نجد أنه عليه الصلاة والسلام يربط الحجر على بطنه
(2)
، وربما يضع الحصى، وحدث هذا من بعض الخلفاء
(3)
رضي الله عنهم فكانوا عبادًا بالليل رهبانًا بالنهار، قد ظهرت آثار الصلاة في جباههم وأنوفهم، فالصحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم شبابًا، لا يُشغلهم إلَّا طاعةُ الله سبحانه وتعالى، فهم في هذه الحياة الدنيا يمضونها بلقيماتٍ من الطعام، وبقليلٍ من الماء يدفعون به ذلك، ولكن غاية هَمِّهِمْ الجنة، كانوا يعدون أنفسهم للآخرة؛ لأن هذه الحياة الدنيا إنما هي فانية.
(1)
معنى حديث أخرجه البخارى (2567)، ومسلم (2972) عن عائشة رضي الله عنهما، أنها قالت لعروة: ابنَ أختي "إن كُنَّا لننظرُ إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار"، فقلت يا خالة: ما كان يُعيشكم؟ قالت:"الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا".
(2)
أخرجه أحمد (14220) عن جابر، قال:"لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق، أصابهم جهد شديد، حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرًا من الجُوع". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.
(3)
في بعض الآثار: "أن أبا بكر الصديق كان يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه من الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد". ولم أقف عليه مسندًا.
وأخرج مالك في الموطأ (2/ 988) عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه غفر الله لك، فقال أبو بكر:"إن هذا أوردني الموارد".
* قوله: (إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ أَنَّ لَفْظَةَ "مُكلِّبِينَ" مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلَّبَ الْجَارِحَ لَا مِنْ لَفْظِ الْكَلَبِ).
كلمة الجوارح هي أشمل من أن تُطْلَقَ على الكلاب، لكن الذي دفع بعض العلماء إلى أن يقصر ذلك على الكِلاب هو قوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، على أنها مأخوذة من الكَلب أي من اسمه، وأن ذلك خاص بالكلاب، أما جُمهور العلماء فيرون أن ذلك أعمّ، وقد جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك كما مرَّ بالبازِيِّ، إلا أن يتأول أن لفظ مكلِّبِينَ إنما هي مشتقة من لفظ الكَلْب الجارح، لا من لفظ الكَلَب الذي هو المراد به الجرح أو الفهد.
* قوله: (وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا عُمُومُ اسْمِ الْجَوَارِحِ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَبَبُ الاخْتِلَافِ الاشْتِرَاكَ الَّذِي فِي لَفْظَةِ "مُكَلِّبِينَ").
فلا يقال أنه جاء ذكر الكلاب بأكثر من غيرِهَا، لأنها تعيش مع الناس وتتداخل معهم ولذلك جاء التنصيص عليها، أما ما يتعلَّق بالحيوانات الأخرى من الفهود والطيور كالصُّقُورِ والبازِيِّ وغيرها، فهذه تختلف عن الكلاب، لأن الكلاب قريبةٌ من الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يعلِّمَها وأن يربِّيهَا بسهولة، ويستطيع أن يغلبها كما جاء ذلك فيما أُثر عن عبد الله بن عباس
(1)
رضي الله عنهما، لذلك سيأتي أن العلماء قد إشترطوا في الكلب شُرُوطًا أكثر مما اشترطوه في غيره.
* قوله: (وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ الْإِمْسَاكِ الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ؟ أَمْ لَا؟).
هذه مسألة في غاية الأهميَّةِ هل من شرط الإمساك أن يمسك على
(1)
تقدم.
صاحبه، يعني: أن يرسله صاحبه إلى الصيد، أو أنه ينطلق فهل ذلك جائز؟ الجواب: لو انطلق من نفسه فليس ذلك، وهذا سيتكلم عنه المؤلف إن شاء الله.
* قوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ فَهَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْكَلْبِ؟ أَوْ لَا يُوجَدُ؟).
يعني: الكلب يختلف عن غيره، على القول بأن الإرسال شرطٌ فالكلب إذا عُلِّم، فإذا أرسل استَرْسَلَ، يعني أغراه إلى الصيد فاندفع وراءه، لكن هل يتحقق ذلك في غير الكلب؟ الجواب: نعم، فهناك من الحيوانات والطيور ما عُلِّمت والتزمت ذلك، ولكن يختلف الوضع بينها وبين الكلب فيما يتعلق بالأكل.
* قوله: (فَمَنْ قَالَ: لا يُقَاسُ سَائِرُ الْجَوَارحِ عَلَى الْكِلَابِ، وَأَنَّ لَفْظَةَ مُكَلِّبِينَ هِيَ مُشْتَقَّة مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ لَا مِنِ اسْمِ غَيْرِ الْكَلْبِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْإِمْسَاكُ إِلَّا فِي الْكَلْبِ، أَعْنِي: عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ).
يعني: هل هي من الكلب أو من التكليب الذي هو الإغراء.
* قَوله: (قال: لَا يُصَادُ بِجَارحٍ سِوَى الْكَلْبِ. وَمَنْ قَاسَ عَلَى الْكَلْبِ سَائِرَ الْجَوَارحِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِمْسَاكِ الْإِمْسَاكَ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: يَجُوزُ صَيْدُ سَائِرِ الْجَوَارحِ إِذَا قَبِلَتِ التَّعْلِيمَ.
وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْبَازِيَّ فَقَطْ فَمَصِيرًا إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَازِيِّ فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ". خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
).
(1)
أخرجه الترمذي (1467) وغيره، وقال الألباني في "ضعيف الترمذي": منكر (3/ 467).
أراد المؤلف أن يقول: الاختلاف في هذه المسألة ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
1 -
بعض العلماء قال: بجواز الأكل من كل جارحٍ سواءٌ كان حيوانًا أو طائرًا، ولم يفرق بين الكلب وغيره إذا توفرت فيه الشروط ومنها التعليم.
2 -
وبعضهم يقول: إن ذلك خاص بالكلب.
3 -
وبعضهم من يضيف إلى الكلب البازي؛ لأنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليكَ فَكُلْ"
(1)
. وجمهور العلماء وقفوا عند ظاهر النص ولم يتجاوزه إلى غيره، وهذا هو الفقه؛ لأن الفقه أصله ومعناه في اللغة العربية هو الفهم والإدراك، فَقِهَ فلان بمعنى فهم، وفي قوله تعالى:{يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 28] أي: يفْهموا قولي، فجمهور العلماء يرون أن ذلك أعم والواقع يشهد بذلك، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصيد في البازي، إنما هو دليلٌ على ذلك، وعبد الله بن عباس قد فسر قول الله سبحانه وتعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قال: الكلب المُعَلَّم والطير إذا علَّمته والفهود والصقور وغيرها. فهذا قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو في ذلك حجة.
* قوله: (فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ اتِّفَاقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْجَوَارحِ، وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الْجَوَارحِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّعْلِيمُ بِالْجُمْلَةِ).
بالجملة؛ لأنهم ما اختلفوا في التعليم، فكلهم أجمعوا على أن التعليم شرطٌ
(2)
، لكنهم اختلفوا في تفصيل ذلك كيف يتِمُّ التعليم؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} هذا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم الكلام بالتفصيل.
نص في الآية على التعليم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا أرسلت قوسَكَ وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُلْ"
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كَلْبَكَ المعلَّم وذكرت اسم الله عليه، فَكُلْ"
(2)
وفي رواية: "إذا أرسلت كلبك غير المعلَّم فأدركت ذكاته، فكُلْ"
(3)
فجاء التنصيص عليه في كتاب الله عز وجل وفي سُنَّةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك موضع اتفاق عند العلماء، لكن الخلاف في تفصيل ذلك كيف يتم التعليم، هل التعليم بأن ترسم له طريقًا توجِّهُهُ إلى الصيد فينطَلِق، أو أن ذلك يحتاج إلى مِرَاسٍ وتدريب، بمعنى: أن تعطيَهُ فرصة مرة فيَصِيد لك، فلا يأكل منه، ثم مرة أخرى وَثالثة، فإذا ما تكررت مرات ثلاث فحينئذٍ أصبح مُعَلَّمًا، ونص أكثر العلماء على ثلاث مرات، لأن لفظ الثلاث اعتبر في كثير من أحكام الشريعة، ومنهم من قال: يكتفى بمرتين ومنهم من قال: ولو مرةً واحدة؛ لأن الله - تعالى - لم يذكر عددًا ولم يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم مرات محددةً للتعليم، ولو كان ذلك شرطًا لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحاجة تقتضي ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلا شك أن العلماء الذين قالوا بتَدريبهِ على ذلك مرات إنما هو من باب الاحتياط ليطمئنوا أنه بدأ يصيد لسيده، لا أنه يصيد لنفسه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن أنه لو صاد لنفسه فليس لك أن تأكل منه فقال:"فإن أمسك فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسكَ لنَفْسِهِ"
(4)
.
* قوله: (لِقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ"
(5)
، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ وَشُرُوطِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: التَّعْلِيمُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ تَدْعُوَ الْجَارحَ، فَيُجِيبَ).
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
تقدَّم تخريجه.
يعني: إذا وضعت له علامة ثم دعوته يأتي مُقبلًا وهذا معروف عند الكلاب.
* قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ تُشْلِيَه، فَيَنْشَلِيَ).
معنى تشليه فينشلي، أي: أغراه فاندفع وسارَ وراء الصيد، ويقول علماء اللغة: إن أصل كلمة أشلى دعا، أشْلاهُ بمعنى دَعاه
(1)
، وهذا أسلوبٌ يعرفه أهل الصيد، فالمراد بها الإغراء
(2)
، بمعنى أنك تغري هذا الكلب مَثَلًا أو الجارح وراء الصيد لينطلق، فإذا أرسلته استرسل، يعني: توجهه إلى هذا الحيوان فينطلق خلفه، وأن تدعوه فيجيب، وهو الذي عبر عنه المؤلف بمعنى: شلاه فانْشَلى، يعني أشلاه على الفريسة فانشلى وراءها.
* قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنْ تَزْجُرَ فَيُزْدَجَرَ)
(3)
.
يعني: أن تردعه فيرتدع؛ لأنه إذا كان لا يسمع لكلامك إذا زجرته، حينئذٍ هو غير مُعَلَّم فرُبَّما تردعه عن الصيْد فينطلق وراءه، ثم توجهه إلى أمرٍ فيخالِفُك.
(1)
أشليت الكلب: دعوته. قال ابن السكيت: يقال: أوسدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغريته به. ولا يقال: أشليته إنما الإشلاء الدعاء. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص: 168).
(2)
أشليت الكلب للصيد: أي دعوته. وأما أشليته بالصيد وعلى الصيد بمعنى أغريته.
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 256).
(3)
يُنظر: "روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 707 - 708)، حيث قال:" وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أنه إذا انفلت بنفسه فلا يخلو أن يزجره ويغريه بعد انفلاته أم لا؟ فإن كان أغراه، واستدعى إليه فرجع إليه، أو وقف ثم بعثه (فانبعث)، .. فإن انبعث بإرسال الصيد، وليس في يده، ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يؤكل، لأن المقصود إرساله بنفسه لا كونه تحت يده. والثاني: أنه لا يؤكل لاحتمال أن يكون انبعاث الجارح بنفسه، فلا يتحقق انتفاء ذلك إلا أن يخرجه من تحت يده. والقول الثالث: إن الجارح إن كان قَريبًا أكل الصيد، لأنه إن كان قريبًا منه فكأنه تحت يده، بناءً على أن ما قرب الشيء له حكمه، وإن كان الجارحُ بعيدًا لم يؤكل، ومبناه على أن قربه بعمل يده يغلب على الظنِّ ائتماره له لا لنفسه فخالف البعيد".
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي اشْتِرَاطِ هَذ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَلْبِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الانْزِجَارِ
(1)
فِي سَائِرِ الْجَوَارحِ).
مراد المؤلف أن هذه الشروط الثلاثة ينبغي توفُّرها في الكلب، إذا أرسلته استرسل، وإذا دعوته أجاب، وإذا زجرته زُجِر أي: امتنع؛ لأنه يختلف عن غيره، ولأن الكلب لا يقبل الضرب إلا من مدربه، ولكن بالنسبة لغيره لا يقبل ذلك.
* قوله: (فاخْتَلَفُوا أَيْضا فِي هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَأْكلَ الْجَارِحُ؟ فَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَهُ فِي الْكَلْب فَقَطْ، وَقَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّ هَذ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ شَرْطٌ فِي الْكِلَابِ وَغَيْرِهَا
(2)
).
المذهب المالكي فيه توسع فيما يتعلق بالكلب وفي ولوغه في الإناء وفي غيره، لكن المذاهب الأخرى يَتَشَددون، حتى إن العلماء يختلفون فيما لو أمسك الكلب الصيد، هل يجب أن يغسِلَ موضع فمه أم لا؟ والجواب: بعض العلماء لا يرى ذلك، وبعضهم يرى ذلك، والسبب يعود إلى أن الكلب نَجِسٌ
(3)
، وأن في لعابه نجاسة، حتى أنه جاء في الحديث:
(1)
الانزجار: انزجر مثل ازدجر: أي انتهى. انظر: "شمس العلوم" لنشوان الحميري (5/ 2766).
(2)
سيأتي.
(3)
وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(1/ 227) للشربيني قال: "وكذا الحيوان كله طاهر
…
إلا ما استثناه الشارع أيضًا، وقد نبه المصنف على ذلك بقوله (وكلب) ولو معلمًا لخبر مسلم "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" وجه الدلالة أن الطهارة إما لحدث أو خبث أو تكرمة ولا حدث على الإناء ولا تكرمة فتعينت طهارة الخبث فثبتت نجاسة فمه: وهو أطيب أجزائه، بل هو أطيب الحيوان نكهة لكثرة ما يلهث فبقيته أولى".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 181) قال: " (والكلب والخنزير نجسان) وكذا ما تولد منهما وسؤر ذلك وعرقه، وكل ما خرج منه لا يختلف =
"إذا ولَغَ الكلب في إناء أحدِكُم، فليغسله سبعًا أولاهنَّ بالتراب"
(1)
، وفي بعضها:"فليعفره الثامنة بالتراب"
(2)
، ولما جاء الطب الحديث قرر إلى أن في لعاب الكلب مادة لزجة لا يذيبها أي شيء إلا التراب، وهذا من أسرار هذه الشريعة ومن حكمها، إذن: الكلب إذا أمسك فأكل من الحيوان الذي صاده لو صادَ غَزَالًا مثلًا وأكل منه عند المالكية لا يَضُرُّ، لكن جمهور العلماء (الحنفية والشافعية والحنابلة) يقولون: إن أكَلَ فَلَا تأكُلْ، وهم يتمسكون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإن أكل فلا تأكل، فإني أخافُ أن يكون أمسَكَ على نَفْسِهِ"
(3)
لكن هل السبب في كونه إذا أكل لا يجوز الأكل لكونه أكل فقط أو يخشى أنه إنما صاد لنفسِهِ؛ لأنه بحاجة إلى الصيد، وليس أنه صاد لصاحبه وهذا سيأتي الكلام عنه إن شاء الله.
* قوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَيْسَ يُشْتَرَطُ الانْزِجَارُ فِيمَا لَيْسَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْجَوَارحِ مِثْلِ الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ)
(4)
.
لأن ابن عباس ذكر أن الكلب تضربه فيرتدع أما الصقور لا يمكن أن تُضرب؛ لأنه ربما لو ضربته فر وتركك.
= المذهب فيه، قاله في الشرح (يطهر متنجس بهما و) متنجس (بمتولد منهما أو من أحدهما أو بشيء من أجزائهما) أو أجزاء ما تولد منهما، أو من أحدهما (غير أرض ونحوها) كصخر وحيطان (بسبع غسلات منقية، إحداهن بتراب طهور وجوبًا) ".
(1)
أخرجه النسائي بهذا اللفظ (338) وغيره، وصححه الألباني في إرواء الغليل (24).
وأخرجه البخاري (172)، بلفظ:"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا"، ومسلم (279)، بلفظ:"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".
(2)
أخرجها مسلم (1573).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 706)، حيث قال:"وقال ابن حبيب: ليس الانزجار شرطًا في البزاة، والصقور وغير ذلك من سباع الطير، لأنها لا تقبله، وإنما هو مشروط في الكلاب فقط دون سائر الجوارح".
* قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْجَارحِ لَا كلْبٌ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ
(1)
. وَاشْتَرَطَه بَعْضُهُمْ فِي الْكَلْبِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ جَوَارحِ الطُّيُورِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْكُلِّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ صَيْدِ الْبَازِيِّ وَالصَّقْرِ وَإِنْ أَكَلَ)
(2)
.
جمهور العلماء من الأئمة الأربعة عدا مالك يرون: أن ما عدا الكلب لو أكل من الصيد فلا يضر، أما الكلب فهو الذي ورد فيه نص
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 162 - 163)، حيث قال:" (أو حيوان): عطف على "محدد": أي جرحه بمحدد أو بحيوان (علم) بالفعل كيفية الاصطياد، والمعنى: هو الذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر، ولو كان من جنس ما لا يقبل التعليم عادة كالنمر (من طير) كباز (أو غيره) ككلب".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 52) وما بعدها حيث قال: "أما تعليم الكلب فهو أنه إذا أرسل اتبع الصيد، وإذا أخذه أمسكه على صاحبه، ولا يأكل منه شيئًا وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك رحمه الله: تعليمه أن يتبع الصيد إذا أرسل ويجيب إذا دعي، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله حتى لو أخذ صيدًا فأكل منه لا يؤكل عندنا وعنده يؤكل".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصارى (1/ 556)، حيث قال:" (وإذا أكل المعلم، ولو طيرًا من صيد عقيب قتله إياه) أو قبل قتله كما فهم بالأولى من كلامه وصرح به أصله (حرم) لمفهوم قوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ولخبر الصحيحين عن عدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك، وقتل فكل، وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"؛ ولأن عدم الأكل شرط للتعليم ابتداء فكذا دوامًا (وحده) لا ما صاده قبل فلا ينعطف التحريم عليه؛ لأن تغير صفة الصائد كأن ارتد لا يحرم ما صاده قبل فكذا تغير صفة الجارح، أما ما أكل منه بعد قتله بزمان فيحل".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 372)، حيث قال:(وإذا أرسل البازي، وما أشبهه فصاد وقتل، أكل، وإن أكل من الصيد؛ لأن تعليمه بأن يأكل)، وجملته أنه يشترط في الصيد بالبازي ما يشترط في الصيد بالكلب، إلا ترك الأكل، فلا يشترط، ويباح صيده وإن أكل منه.
وبهذا قال ابن عباس. وإليه ذهب النخعي، وحماد، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه).
"وإن أكل فلا تأكُلْ"
(1)
، فالمالكية قولهم متحد في ذلك، فما دَاموا يُجيزُون الأكل مما أكل منه الكلب فانتهى أمرهم، لكن بعد ذلك الأئمة الثلاثة انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: الحنفية والحنابلة قالوا: لو أن صقرًا صادَ حيوانًا أو طيرًا أو كذلك البازي فأكل منه فيؤكل عند الحنفية والحنابلة ولا أثر لذلك.
القسم الثاني: الشافعية يقولون: لا يؤكل منه؛ لأنه جاء في بعض روايات حديث عدي بن حاتم: "فإن أكل الكلبُ أو البازِيُّ فلا تأكُلْ"
(2)
وقالوا: جاء التنصيص على غير الكلب فلا يجوز أن يؤكل منه، وجمهور العلماء أجابوا بأن هذه الرواية رواية ضعيفة؛ لأنها من رواية مجاهد وهذه لا يصلح أن يُحتج بها، بل هي مخالفة للروايات الأخرى الصحيحة فتطرح، ثم هي معارضةٌ لما ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"إن أكل الكلب فلا تأكل وإن أكل الصقر فَكُلْ"
(3)
ثم ذكر العِلَّةَ؛ لأنه تستطيع أن تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر، قالوا: ولم يرد خلاف من الصحابة لقول عبدِ الله بن عباس، أما بالنسبة للكلب فيه خلاف، من الصحابة من نقل عنه أن الكلب إذا أكل يؤكل، نُقل هذا عن بعض الصحابة، ولكن ابن عباس خالفهم في ذلك، وفيما عدا الكلب ابن عباس وافقهم في هذه المسألة، فتبقى المسألة مُجمعٌ عليها بين الصحابة، إذن هي موضع اتفاق بينهم ولم يخالفهم في ذلك أحد، أما الحديث الذي استدل
(1)
أخرجه البخاري (175) ومسلم (1929/ 2) عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل .. الحديث".
(2)
أخرجه أبو داود (2851) عن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا فإنما أمسكه عليك" وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5111).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 473) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"إذا أكل الكلب المعلم، فلا تأكل، وأما الصقر والبازي فإنه إذا أكَلَ أكل".
به الشافعية فهي رواية ضعيفة، وبذلك نقول: أنه يجوز للإنسان إذا أرسل جارحًا غير الكلب فأكل الجارح من الصيد سواءٌ كان هذا الجارح حيوانًا أو طيرًا يصاد به، فإن للإنسان أن يأكل منه؛ لأنه أصلًا عندما تُعلم هذه الحيوانات أو الطيور الأخرى إنما التعليم يتم عن طَريق الأكل، لا يمكن أن تصِلَ إلى تعليمِهِ إلا عن طريق تعويده على الأكل، لأنك تُغْرِيها بذلك، أما الكلب فدائمًا يخضع لصاحبه إذا وجهه، فلا يشترط أن يتم التعليم بواسطة الأكل وإنما عن طريق التعليم والتوجيه، فالكلب يُتخذ لحراسة الماشية أو الحرث، ولذلك نهي عن اقتناء الكلب إلا لمثل هذه الأمور "إلا كلب صيدٍ أو ماشيةٍ أو حرث"
(1)
.
* قوله: (لِأَنَّ تَضْرِيَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَكْلِ).
لأنها أصلًا هذه تعود على الأكل، فكيف تريد أن تمنعها منه.
* قوله: (فَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْبَابِ رَاجِعٌ إِلَى مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ أَنْ يَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَ؟ وَالثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرطِهِ أَلَّا يَأْكُلَ؟).
أما بالنسبة لغير الكلب فلا يشترط فيه أنه إذا زجر انزجر.
* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْأَكْلِ أَوْ عَدَمِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمُتَقَدِّم، وَفِيهِ:"فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ"
(2)
).
لكن هذا جاء التنصيص عليه في الكَلْب، والرواية التي ذكر فيها البازي هي ضعيفة، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه ولم يخالفه أحدٌ من الصحابة
(1)
أخرجه البخاري (2322)، ومسلم (1575) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أمسك كلبًا، فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط، إلا كلب حرث أو ماشية".
(2)
تقدَّم تخريجه.
فيكون القدوة والحجة في هذه المسألة، ثم ذكر العلة قال: لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر ونحوه
(1)
قوله: (وَالْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ الله - فَكُلْ". قُلْتُ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "وَإِنْ أَكَلَ"
(2)
، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ حَمَلَ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى النَّدْبِ، وَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ - قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ألَّا يَأكُلَ، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ إِذْ هُوَ حَدِيث مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالَ: مِنْ شَرْطِ الْإِمْسَاكِ أَنْ لَا يَأْكُلَ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالَ: إِنْ أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ).
يعني: لو صاد الكلب فأكل، حديث عدي المتفق عليه:"وإن أكل فلا تَأكُلْ"
(3)
، وجاء في رواية مختلف فيها تكلم عنها العلماء، وذكروا أنها معلولة فيها:"وإن أكل فكُلْ"
(4)
وبعض العلماء أجابوا وقالوا: إن الأصل
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" معلَّقًا (9/ 399) قال: "ويذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإذا أكل الصقر فكل؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا تستطيع".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (2857) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن أعرابيًّا يقال له أبو ثعلبة قال:"يا رسول الله إن لي كلابًا مكلبة فأفتِنِي في صيدِهَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلاب مكلَّبة فكل مما أمسكن عليك". قال ذَكِيًّا أو غير ذكي؟ قال: "نعم". قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه
…
". وقال الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم" (2/ 387): إسناده حسن. لكن قوله: "وإن أكل منه".
مخالف لما في "الصحيحين"؛ كما ذكرنا آنفًا. وبذلك أعله البيهقي، وبالمخالفة أيضًا.
وإن قتل؛ لأنه جاء في الرواية الصحيحة: "وإن قتل فَكُلْ"
(1)
يعني: إن صاده الكلب فقتله، فليس هناك ما يمنع أن تأكل منه؛ لأن الكلب جارح والصيد إنما ذكاته بعقره.
قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَإِسْحَاقُ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ
(6)
، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(7)
رضي الله عنهما).
هذا بالنسبة للكلب إذا أكل من الصيد فلا يؤكل عند الجمهور
(8)
،
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (9/ 479)، حيث قال:" (ولو ظهر كونه معلمًا ثم أكل من لحم صيد .. لم يحل ذلك الصيد في الأظهر)؛ لما روى الشيخان عن عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها .. فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل .. فلا تأكل"، ولأن عدم الأكل شرط في التعليم".
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (12/ 411)، حيث قال:" (ويمسكه عليه) ش: أي ويمسك الصيد على صاحبه لا لنفسه. م: (قال: وتعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا دعوته) ش: أي قال القدوري م: (وهو مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما) ش: أي لفظ الرواية مأثور عنه، وما رواه محمد في كتاب "الآثار"، .. عن ابن عباس قال: "ما أمسك عليك كلبك فإن كان عالمًا فكل، فإن أكل فلا تاكل منه، فإنه أمسك على نفسه" وأما الصقر والبازي فكل وإن أكل، فإن تعليمه إذا دعوته أن يجيبك فلا يستطيع ضربه حتى تفرغ الأكل .. وهو قول أبي حنيفة".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 224)، حيث قال:" (ولم يبح ما أكل منه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل".
(5)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه " للكوسج (5/ 2244)، حيث قال:"قلت الكلب إذا أكل من الصيد؟ قال: لا يؤكل. قال إسحاق: كما قال".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 276)، حيث قال: "وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري
…
إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم فلا يؤكل من صيده".
(7)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 451)، حيث قال:"قال ابن عباس: "لا يؤكل إنما أمسك على نفسه"".
(8)
تقدَّم قولهم.
وعند المالكية يؤكل، وقول المالكية نُقل عن بعض الصحابة، كسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قوله: (وَرَخَّصَ فِي أكْلِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ كَمَا قُلْنَا مَالِكٌ
(1)
، وَسَعيد
(2)
بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَسُلَيْمَانُ
(3)
).
يعني: نُقل هذا عن سعد بن أبي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وعبد الله بن عمر، وعن أبي هريرة، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنهما.
قوله: (وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ الْمُتَأَخِّرَةُ
(4)
: إِنَّهُ لَيْسَ الْأَكلُ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ لِسَيِّدِهِ).
بل هو دليل أو هو شبهة، والرسول صلى الله عليه وسلم اعتبره، ونحن مطالبون بأن نأخذ عما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"إني أخاف أن يكون أمسَكَ على نَفْسِهِ"
(5)
فكان الرسول يخاف فنحن من باب أولى.
قوله: (وَلَا الْإِمْسَاكُ لِسَيِّدِهِ بِشَرْطٍ فِي الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْكَلْبِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَقَدْ يُمْسِكُ لِسَيِّدِهِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُمْسِكُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الَّذِي
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 419)، حيث قال:"والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه هو الصحيح، إذ لا فرق بين الكلب وسائر الجوارح".
(2)
هكذا هو في جميع النسخ، والصواب: سعد.
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 451)، حيث قال:"وأباحت طائفة: أكل ما أكل الكلب منه، وممن رأى أن يؤكل ذلك سعد بن مالك، وابن عمر، وروي ذلك عن سلمان، وبه قال مالك".
(4)
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(3/ 18 - 19)، حيث قال:"وهو ظاهر لأنه كاصطياد مأكول لا بنية الذكاة ويمكن رجوع قوله بسلاح محدد لأنواع الذكاة الثلاثة على سبيل تنازع المصادر الثلاثة، ولا يبعده اختصاص قوله: (أو حيوان) بالأخير (علم) بالفعل، ولو من نوع ما لا يقبل التعليم كأسد ونمر ونسر ونمس، وأولى ما يقبله من كلب وباز وسنور وابن عرس وذئب، ولو كان طيع المعلم بالفعل الغدر كدُبٍّ فإنه لا يمسك إلا لنفسه".
(5)
سيأتي.
قَالُوهُ خِلَافُ النَّصِّ فِي الْحَدِيثِ، وَخِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]).
معنى: خلاف ظاهر الكتاب أي: أنه قصد الإمساك لصاحبه، هذا يفهم من ظاهر الكتاب، وليس نصًا، أما الحديث ففيه:"وإن أكَلَ فلا تأكُلْ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسَكَ لنَفْسِهِ"
(1)
فهنا جاء نصًا صريحًا، وجاء من ظاهر الكتاب ما يدل عليه:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، فما دام أمسك لك، فيعني هذا أنه ما أمسك لنفسه، وإنما أمسك لصاحبه، لكنه لم يرد نصٌّ صريحٌ في ذلك إنما جاء في الحديث، فانظروا إلى عبارات الفقهاء السابقين رحمهم الله وإلى دِقَّتِهِمْ، وهنا جاء ظاهرًا، وهناك جاء نصًّا، وفرق بين الظاهر وبين النص، فالدلالة النصية أقوى من الدلالة الظاهرية.
قال: (وَللْإِمْسَاكِ عَلَى سَيِّدِ الْكَلْبِ طَرِيقٌ تُعْرَفُ بِهِ، وَهُوَ الْعَادَة، وَلذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ"
(2)
).
كلام المؤلف كلامٌ وجيه؛ لأنه يقول من الذي يعرف الطريقة التي يسلكها الكلب هل صاد لنفسه أو صاد لسيده إنما هو العادة، والعادة معتبرةٌ في الشريعة الإسلامية، ولذلك جاء في أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عندَ اللّه حسَنٌ، وما رأوا سيِّئًا فهو عند الله سيئ"
(3)
، ثم رتب العلماء على هذا الأثر القاعدة الفقهية
(1)
أخرجه البخاري (5476)، ومسلم (1929/ 3) عن عدي بن حاتم "وفيه
…
وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب، فقال:"إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله فكل، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه"".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده موقوفًا (3600) عن عبد الله بن مسعود، قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب=
الكبرى المعروفة: "العادة محكَّمَة"
(1)
، وهي قاعدةٌ أصولية تعرف بقاعدة العرف: العادة محكمة، فما اعتاده المسلمون من أمور واصطلحوا عليه، لا يتعارض مع نصٍّ من كتابِ ولا من سُنَّةٍ، فهي معتبرة، والاستحسان أيضًا في الشريعة معتبر، لَكن ما أُثر عن الإمام الشافعي من أنه رد الاستحسان وقال:"من استحسن فقد ابتَدَع في دِينِ الله"
(2)
، مراده بذلك الاستحسان الذي لا يُبنى على دليل، وإلا فمن يقرأ في كتاب الأم، الذي دونه الإمام الشافعي بقلمه، يجد أنه ذكر الاستحسان في كثيرٍ من الأمور فقال: أستحسن في أجرة الصانع كذا، وأستحسن في أجرة العامل كذا،
= أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دِينه، فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ"، وحسن إسناده الأرناؤوط.
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص: 79)، حيث قال:"العادة محكمة وأصلها قوله عليه الصلاة والسلام "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" .. واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة
…
وذكر الهندي في شرح المغني: العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطباع السليمة". وانظر: "غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 295)، و"تهذيب الفروق" لمحمد بن علي بن حسين (3/ 14).
(2)
ينظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 171)، حيث قال:" [لأصل الثالث من الأصول الموهومة: الاستحسان] وقد قال به أبو حنيفة، وقال الشافعي: من استحسن فقد شرع. ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولًا من فهم الاستحسان. وله ثلاثة معان: الأول، وهو الذي يسبق إلى الفهم: ما يستحسنه المجتهد بعقله، ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلًا بل لورود الشرع بأن ما سبق أوهامكم واستحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلًا فهو حكم الله عليكم لجوزناه، ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره، بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد، ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد، فإن جعل الاستحسان مدركًا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلًا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي".
إذن هو يعتبر ذلك، فنحن بحاجة إلى أن نعرف عبارات الفقهاء فعباراتهم قوية وجزلة، ولما نقرأ كتاب الرسالة نجد الفرق بينها وبين ما ألف بعد ذلك في كتب أصول الفقه، فنجد العمق، ونجد قوة العبارة والألفاظ التي ترد فيها، وهذا قد لا نجده في أسلوب من الأساليب، ونحن الآن في زماننا هذا بدأنا نسلك بالطلاب مسالك المذكرات، نضع له مذكرة ميسرة مهذبة مسهلة قريبة إلى ذهنه، ونبعده عن عميق الفكر وعن الغوص في المعاني وعن الاستنباط، وهذا ليس بالصواب لأن هذه بمثابة الرياضة للفكر، فإذا عودت إنسانًا على أن يأخذ الأمر بسيطًا تعود عليه، ولكن لما يبدأ الإنسان يشغل فكرة وذهنه ويتعمق ويدقق في المسائل سيتعود على ذلك فيصبح الأمر سهلًا ميسورًا بإذن الله.
قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الازْدِجَارِ فَلَيْسَ لَهُ سَبَبٌ إِلَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي قِيَاسِ سَائِرِ الْجَوَارحِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَلْبِ).
في الحقيقة له سبب، ليس كما ذكر المؤلف، والسبب ذكره ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لأنك تستطيع أن تضرِبَ الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر
(1)
، إذن له سبب، هذا تزجره فينزجر، وهذا تزجره فيتركك، وبعضهم يُلحق الفهد بالكلب؛ لأنه قريبٌ منه في الطباع، أليست هذه نعمة من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى، ونعم الله كثيرة جدًّا، الله سبحانه وتعالى يسخِّرُ لنا هذه الحيوانات والوحوش، ويسخر لنا الطيور التي تسبح وتحلِّقُ في الفضاء، لتكون عونًا لنا في صيد بعض الطيور وفي غيرها، أليس ذلك نِعْمة من نِعَم اللّه كما قال الله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]، فالله سبحانه وتعالى سخَّرَ لنا هذه الحيوانات لنشرب لبنها ونأكل لحَمْهَا ونستَفِيدَ، من بهيمَةِ الأنعام الإبل والبقر والغَنَمِ، بعضها صالح للرُّكوب وبعضُها للحَرْثِ، نأكل لحَمْهَا ونشرَبَ لبنَها ونستفيدَ من جلودها ومن أوبارِهَا ومن أشعارها أثاثًا ومتاعًا
(1)
تقدَّم تخريجه.
إلى حِينٍ، والله سبحانه وتعالى يقول:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتدبَّرَ الكتاب عندما نقرؤه، لنقِفَ على ما فيه من العِبَرِ، وعلى ما فيه من الدروس والمواعظ، وقصص الأمم السابقة؛ لأن لها تأثيرًا كبيرًا في النفوس، والله - تعالى - يقول:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف: 111]، فالله سبحانه وتعالى عندما قصَّ علينا قصة النبي يوسف عليه السلام وإخوته وكيف أوقع الشيطان بينهم وحصل ما حصل، وانتهت إلى خير كثير، ونصر الحق وصاحبه، وأن المظلوم قد علا على عرش مصر فأصبح المُهَيْمِنَ والمسيطر عليه، وأن إخوته جاؤوا له فأظهروا ضعفهم وأنهم قد أخطؤوا في حقِّه وطلبوا منه أن يغفر لهم، فقال:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]، وقال ذلك أيضًا لوالده، فالله - تعالى - بعد أن يحكي لنا هذه القصص، وفي قصة موسى وآدم ونوح وغيرهم من الأنبياء فهذه دروس وعبر لنا، كما قال الله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وقال الله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43] فلا بد للإنسان أن يتدبر القرآن ويفهم معانيه، ويحاول أن يُعمِلَ فِكرَه، ويدقق في الأسلوب القرآني ويتفهم ذلك، بلا شك أنه سيخرج بفوائد عظيمة.
قوله: (لِأنَّ الْكَلْبَ الَّذِي لَا يَزْدِجِرُ لَا يُسَمَّى مُعَلَّمًا بِاتِّفَاقٍ، فَأَمَّا سَائِرُ الْجَوَارحِ إِذَا لَمْ تَنْزَجِرْ هَلْ تُسَمَّى مُعَلَّمَةً؟ أَمْ لَا؟ فِيهِ التَّرَدُّد، وَهُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ)
فالحيوانات الأخرى يصعب زَجْرُها، ويكفينا ما جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّكَاةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالصَّيْدِ وَشُرُوطِهَا]
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالصَّيْدِ هِيَ الْعَقْرُ
(1)
وَاخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهَا اخْتِلَافًا كثِيرًا).
الذكاة أنواع، فيما يتعلق بالحيوان الإنسي:
1 -
إما أن يكون الذبح كالحال بالنسبة للغنَمِ.
2 -
وإما النحر بالنسبة للإبل.
3 -
أو الجمع بينهما كالحال بالنسبة للبقر، ولو عكس الإنسان فكل ذلك جائز، لكن الأفضل بالنسبة للإبل أن تذبح قائمةً معقولةً يدها اليسرى
(2)
، وتذبح البقر والغنم على صفاحها، ويستحب أن يستقبل في ذلك القبلة
(3)
،
(1)
العقر: الجرح. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم.
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 443)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 593).
واصطلاحًا: جرح مسلم مميز وحشيًّا غير مقدور عليه إلا بعسر. انظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 161).
(2)
وهو السنة: لما أخرجه أبو داود (1767) عن عبد الرحمن بن سابط: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها".
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود الأم"(1550).
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع " للكاساني (5/ 60)، حيث قال:" (ومنها) أن يكون الذابح مستقبل القبلة والذبيحة موجهة إلى القبلة، لما روينا ولما روي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذبحوا استقبلوا القبلة، فإنه روي عن الشعبي أنه قال: كانوا يستحبون أن يستقبلوا بالذبيحة القبلة".
مذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 699)، حيث قال: " (وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فقد اختلف الناس فيه، فمنهم من أوجبه، ومنهم من=
وليس ذلك شرطًا
(1)
، لكن يجب عليك أن تذكر اسم الله - تعالى - عليها.
قوله: (وَإِذَا اعْتَبَرْتَ أُصُولَهَا الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ الاخْتِلَافِ سِوَى الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْآلَةِ وَفِي الصَّائِدِ وَجَدْتَهَا ثَمَانِيَةَ شُرُوطٍ: اثْنَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي الذَّكَاتَيْنِ).
يعني: لو اعتبرنا الأصول التي تجرى على الحديث وأضفناها إلى الشروط لكانت كلها ثمانية، يشتركان في الذكاتين، يعني: فيما يتعلق بالأضاحي والذبائح، كما في كتاب الذبائح كما ذكرنا أن النية معتبرة وهنا أيضًا معتبرة، وفي التسمية معتبرة وهنا أيضًا معتبرة وما يشترط في الصائد نفسه كذلك في المذكي، نحن لا نقبل ذكاة المرتد ولا ذكاة المشرك ولا ذكاة المجوسي ولا المجنون
(2)
، فنفس الشروط هناك ننقلها، ولكن بالنسبة للصيد هناك شروطٌ أخرى تضاف إلى تلك الشروط التي مرت بنا. قوله:(أَعْنِي: ذَكَاةَ الْمَصِيدِ وَغَيْرِ الْمُصِيدِ، وَهِيَ: النِّيَّةُ وَالتَّسْمِيَةُ. وَسِتَّةٌ تَخْتَصُّ بِهَذ الذَّكَاةِ).
المصيد فعيل بمعنى: المفعول أي: المصيود، والمؤلف وغيره
= استحبه، ومنهم من أباحه. وتحصيل مذهب مالك فيه أنها مأمور بها، فإن ترك ذلك سهوًا، أو تَعَذُّرًا أكلت، وإن ترك ذلك عمدًا، فقولان، المشهور: جواز الأكل، والشاذ: أنها لا تؤكل، لأن ذلك مخالف للسنة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 86)، حيث قال:"قال أصحابنا يستحب أن يتوجه الذابح إلى القبلة ويوجه الذبيحة إليها وهذا مستحب في كل ذبيحة وهو في الأضحية والهدي أشد استحبابًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 468)، حيث قال:" (و) سن (ذبح بقر وغنم على جنبها الأيسر موجهة للقبلة) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ولحديث: "ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده" ويجوز نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر ويحل، لأنه لم يجاوز محل الذبح".
(1)
تقدَّم الكلام عليها، وذكر كلام العلماء.
(2)
تقدَّم الكلام عليها بالتفصيل.
يقولون كتاب الصيد مع أن الكتاب يذكر فيه عدة أشياء، فيه حديثٌ عن الصائد، وحديثٌ عن المصيد، وكذلك أيضًا فيه حديثٌ عن الآلات التي يصاد بها، لكن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يُعنونون بعنوانٍ شامل، فهذا العنوان قد يشتمل على بعض الأحكام، فيطلق الجزء ويراد به الكل، فمثلًا لما تأتي إلى كتاب القذف، يقولون "كتاب القذف" مع أن القذف له أركان، فهناك قذف وهناك قاذف وهناك مقذوف، ومع ذلك قالوا القذف.
قوله: (أَحَدُهَا: أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْآلَةُ أَوِ الجَارحُ الَّذِي أَصَابَ الصَّيْدَ قَدْ أَنْفَذَ مَقَاتِلَه، فَإِنَّهُ يجِبُ أَنْ يُذَكَّى بِذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ).
وهذا سبق الإشارة إليه في درس ذكاة الذبح، وأقرب مثال في ذلك المعراض وهو عودٌ يُبرى طرفاه ثم بعد ذلك يصبح حادًّا، فإذا ما رميت به الصيد فإنه يخرقه؛ لأنه بمثابة كما لو رميته بالسكين أو برمح أو غير ذلك، فإن جرحه فهذا جائز، وقد يأتيه هذا المعراض
(1)
فيضربه عرضًا، فهذا لا يجوز الأكل منه، كذلك لو أخذت حجرًا كما ذكرنا، وربما تأخذ حجرًا مستطيلًا فَتسن طرفه، فيصبح حادًا فترمي به الصيد، فإذا ما جرحه أصبح عقرًا له، فيجوز ذلك لكن لو ضربته بثقله لا يصبح ذلك مبيحًا له؛ لأنه يخشى أن يكون وَقَذَه، والوقذ وهو ممنوع، وقد نص الله - تعالى - في سورة المائدة على تحريمه.
قوله: (إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ مِمَّا أَصَابَهُ مِنَ الْجَارحِ أَوْ مِنَ الضَّرْبِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ فَلَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ، وإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ).
قصده: إن نفذ السهم أو نحره فقتله.
(1)
تقدَّم الكلام على الصيد بالمعراض وذكر كلام الفقهاء.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ الصَّيْدُ مَبْدَؤُهُ مِنَ الصَّائِدِ لَا مِنْ غَيْرِهِ)
(1)
.
يعني: فقد ينطلق الكلب للصيد وهو يريد أن يصيد لصاحبه، فلماذا نقول إذا أرسله صاحبه جاز الأكل منه، وإذا استرسل من قِبَل نفسه لا يجوز
(2)
؛ لأنه تخلفت شروطٌ أخرى، من هذه الشروط: النية القصد، لأنك عندما ترسل سهمًا أو ترسل كلبًا أو فهدًا إلى صيد، فإنك تقصد ذلك الصيد أي تنويه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما الأعمال بالنيات"
(3)
ووضع العلماء القاعدة الفقهية الكبرى المشهورة: الأمور بمقاصدها
(4)
، والقصد إنما هو عمل القلب، إذن لا بد من القصد.
الشرط الثاني: أن تذكر اسم الله عليه، كما قال الله سبحانه وتعالى:{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [المائدة: 4] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله""إذا أرسلت قوسك وذكرت اسم الله"
(5)
إذن كونه ينطلق من ذات نفسه لا تأكل منه؛ لتخلف شرطين أساسيين بالنسبة للصيد، والعلماء نصوا على أنه ينبغي أن تكون النية والتسمية عند إرسال الجارح أو السهم، أما بالنسبة للتسمية خلافًا للشافعية، فالشافعية لا يشترطون ذلك، وهناك تفصيلٌ عند الأئمة
(1)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 589)، حيث قال: "يشترط في المصاد به إذا كان حيوانًا ثلاثة شروط
…
وأن يكون مرسلًا من يد الصائد".
(2)
تقدَّم الكلام على هذا الشرط.
(3)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(4)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 54)، حيث قال:"القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها وأرشق وأحسن من هذه العبارة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" ومن ثم وجوب النية حيث تجب. وقاعدة النية طويلة الذيل
…
قال الإمام في الأساليب: "موضوع اللفظ يحتمل النية بالإجماع كلفظ العين والقرء إذا نوى أحد مسمياته، واللازم لا يحتملها إجماعًا". وانظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص:8).
(5)
أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929/ 1).
الثلاثة، فمالكٌ وأبو حنيفة وأحمد يشترطون التسمية
(1)
، لكنهم يختلفون إذا نسيها، فعند المالكية والحنفية لو نسيها جاز، وعند الحنابلة لا يجوز.
قوله: (أَعْنِيْ لَا مِنَ الْآلَةِ كالْحَالِ فِي الْحِبَّالَةِ، وَلَا مِنَ الْجَارِحِ كَالْحَالِ فِيمَا يُصِيبُ الْكَلْبُ الَّذِي يَنْشَلِي مِنْ ذَاتِهِ).
يعني: الحبالة التي يضعها الناس فهذا يختلف، فهناك مناجل وآلات للصيد يضعها الناس، فهذه يُخَصصونها للصيد، فإذا وقع الصيد فيها فقتلته في الحال، فالعلماء مختلفون فعند الحنابلة
(2)
: يؤكل منها، ويعتبرون ذلك صحيحًا، وأكثر الفقهاء لا يرون ذلك، لو نصب الإنسان حبالًا أو شراكًا فصادت فأكثر جماهير العلماء
(3)
يرون أن ذلك غير جائز؛ لأنه بحاجة إلى النية، ثم لا يطمئن على ذلك؛ لأنه ربما كان ذلك تم عن طريق الخنق أو نحوه.
(1)
تقدَّم بالتفصيل.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 219 - 220)، حيث قال:" (وإن نصب مناجل أو) نصب (سكاكين) للصيد (وسمى عند نصبها فقتلت صيدًا ولو بعد موت ناصبه أو ردته) اعتبارًا بوقت النصب لأنه كالرمي (أبيح) الصيد".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 469)، حيث قال:"ولو نصب شبكة أحبولة وسمى ووقع بها صيد ومات مجروحًا لا يحل، ولو كان بها آلة جارحة كمنجل وسمى عليه وجرحه حل عندنا، كما لو رماه بها. وفي البزازية: وضع منجلًا في الصحراء لصيد حمار الوحش فجاءه فإذا هو متعلق به وهو ميت وكان سمى عند الوضع لا يحل".
مذهب المالكية، ينظر:"المدونة" لابن القاسم (1/ 536)، حيث قال:"قلت: أرأيت ما قتلت الحبالات من الصيد أيؤكل أم لا؟ قال: قال مالك: لا يؤكل إلا ما أدركت ذكاته من ذلك، قال: فقيل لمالك: فإن كانت في الحبالات حديدة فأنفذت الحديدة مقاتل الصيد؟ قال: قال مالك: لا يؤكل منه إلا ما أدركت ذكاته".
مذهب الشعافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 108)، حيث قال:"أو انخنق) ومات (بأحبولة) منصوبة لذلك، وهي ما تعمل من الحبال للاصطياد (أو أصابه سهم) فجرحه جرحًا مؤثرًا (فوقع بأرض) عالية (أو) طرف (جبل ثم سقط منه) في المسألتين وفيه حياة مستقرة ومات (حرم) الصيد في جميع هذه المسائل".
ينشلي يعني: ينطلق من تلقاء نفسه.
قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْعَقْرِ مَنْ لَيْسَ عَقْرُهُ ذَكَاةً).
مثل هذه المسائل ننتبه لها جيدًا، فهذه العبارة جاءت مجملة، يعني: لو أن الكلب انطلق مثلًا إلى صيدٍ فجرحه، ثم جاء إنسان فذبحه، أصبح مباحًا؛ لأنه تمت التذكية، لكن لو شاركه كلبٌ أو كلابٌ أخرى حينئذٍ لا تأكل؛ لأنك لا تدري هل الذي جرحه هو كلبك أو كلب غيرك
(1)
، فهذا الكلب الذي سميت عليه لا تطمئن إليه وكذلك لو أنك أرسلت كلبك فغاب عنك ثم وجدت صيدًا، فإن وجدت فيه علامة سهم، لو أن كلبك موجود عندك وأنه لم يشركه أحد، فهذه فيها خلاف بعض العلماء يجيز ذلك وبعضهم يمنع، أما لو وجدت كلابًا أخرى فلا يجوز لك أن تأكل، ولو وجدت آثار سهام لغيرك فلا تأكل، هذه كلها مسائل يدقق فيها العلماء، وكل ذلك دفعهم إليه الحرص -رحمهم الله تعالى- خشية أن يقع الإنسان في حرام؛ لأن الحرام لا يجوز للإنسان أن يأكل منه، "لأن الله - تعالى - طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا"
(2)
، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات"
(3)
وفي رواية: "مشبَّهات
(1)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 119)، حيث قال:"أن لا يشاركه في العقر ما ليس عقره ذكاة كغير المعلم فإن تيقن أن المعلم هو المنفرد بالعقر أكل وإن تيقن خلاف ذلك أو شك لم يؤكل وإن غلب على ظنه أنه القاتل ففيه خلاف وإن أدركه غير منفوذ المقاتل فذكاه أكل مطلقًا".
(2)
معنى حديث أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا،
…
" الحديث.
(3)
أخرجه مسلم (1599/ 107) عن النعمان بن بشير، قال: سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه -:"إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
لا يعلمها"
(1)
أو "لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " وفي رواية: "فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى" يعني: لما يأت الراعي إلى مكانٍ قد حماه غيره وضع عليه ما يحميه، فالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فلا تضمن ما معك من إبل، أو ما معك من بقر، أو ما معك من غنم، أن تتجاوز ذلك، فتعتدي على هذا الذي حماه غيرك، فإذا وقعت في الشبهات ربما وقعت في الحرام، والمسلم دائمًا عليه أن يتجنب الحرام، بل الرسول صلى الله عليه وسلم نبهنا إلى أمرٍ دقيق قال:"دع ما يَريبك إلا ما لا يَريبك"
(2)
فكل أمرٍ تشك فيه أو لا تتيقن منه، فعليك أن تتركه إلى أمرٍ تتيقن أنه حلال أو أنه الصواب.
قوله: (وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَشُكَّ فِي عَيْنِ الصَّيْدِ الَّذِي أَصَابَه، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْ عَيْنِهِ)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) واللفظ له عن النعمان بن بشير، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن بواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 469)، حيث قال: "والسابع: أن لا يتوارى عن بصره أو لا يقعد عن طلبه فيكون في طلبه، ولا يشتغل بعمل آخر حتى يجده، لأنه إذا غاب عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل
…
إلخ". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (11/ 222).
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 13)، حيث قال:" (ص) أو بات (ش) المشهور أن الصيد إذا بات عن صاحبه ثم وجده من الغد فيه أثر كلبه أو وجد سهمه في مقاتله وعرفه والصيد ميت لم يؤكل ولو جد في اتباعه لأن الليل يخالف النهار في أن الهوام تظهر فيه فيجوز أن يكون قد أعان على قتله شيء منها بخلاف النهار لأن الصيد يمنع نفسه فيه فالمراد بالبيات المدة الطويلة التي بحيث يعلم أنه لو عدا عليه شيء لأثر فيه". =
يعني: لو مثلًا انطلق الكلب أو الفهد فغاب عن صاحبه فترة، هذه الفترة العلماء يُبَيِّنون، ويختلفون فيها طولًا وقصرًا، فربما تكون فترة طويلة، وربما تمر ساعات، لكن هناك علامات إن وجدها الإنسان كما جاء في الحديث ولم يمض وقت طويل، ولم يجد أي شبهة، وإنما وجد جارحته موجودة عنده ولم يجد أثرًا لغيرها، وكان قد سمى على ذلك الجارح، فنعم، وكذلك لو سميت وأرسلت سهمك على طيرٍ من الطيور فأصاب غيره لا يضر ذلك؛ لأنك سميت وقد وجهت سهمك في الصيد، أو لو أنك صدت صيد جملة هذا أي: تكون على شجرة جملة من الطيور فسميت وصدت من الطيور، ذلك يجوز لك أن تأكل منه.
قوله: (وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الصَّيْدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ).
يعني: صيدٌ بين يديك لا ترسل إليه كلبًا، إنما تستطيع أن تمسك به فتعامله كالإنسي، تمسك به وتذكيه أو تذبحه، أو تنحره.
= مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للرملي (9/ 333)، حيث قال:(فلو غاب عنه الكلب) مثلًا (والصيد) قبل أن يجرحه الكلب (ثم وجده ميتًا حرم)، وإن كان الكلب ملطخًا بدم (على الصحيح) لاحتمال موته بسبب آخر، والدم من جرح آخر مثلًا، والتحريم يحتاط له؛ لأنه الأصل هنا (وإن جرحه) الكلب، أو أصابه بسهم فجرحه جرحًا يمكن إحالة الموت عليه، ولم ينهه لحركة مذبوح (وغاب) عنه (ثم وجده ميتًا حرم في الأظهر) لما ذكر، والثاني يحل.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 221)، حيث قال:(ولو أرسل عليه) أي الصيد (كلبه فعقره فغاب) ثم وجده ميتًا (أو غاب) الصيد (قبل عقره ثم وجد ميتًا والكلب وحده أو) وجد (الصيد بفمه أو) وهو (يعبث به أو عليه حل) الصيد لأن وجوده بهذه الحالة وعدم أثر ذلك فيه يغلب على الظن أن الموت حصل بجارحه فحل كما لو لم يغب عنه قال في الفروع: وإن غاب قبل عقره ثم وجد سهمه أو كلبه عليه ففي المنتخب أنها كذلك وهو معنى المغني وغيره قال في المنتخب.
قوله: (وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ رُعْبٍ مِنَ الْجَارحِ أَوْ بِصَدْمَةٍ مِنْهُ).
فربما ترسل عليه فهدًا أو نمرًا فمن الخوف يموت، أو ربما يصطدم فيه هذا الحيوان اصطدامًا، فيكون موته إنما هو بسبب الاصطدام فيكون موته موقوذًا، وربما يخنقه خنقًا، فيكون ذلك بسبب الخنق
(1)
.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الشُّرُوطِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ اشْتِرَاطِهَا أَوْ لَاشْتِرَاطِهَا عَرَضَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَرُبَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي وُجُودِهَا فِي نَازِلَةٍ نَازِلَةٍ).
مراد المؤلف: أن هذه الشروط التي ذكرها بالإجمال وسيعود إليها تفصيلًا، منها ما هو مجمعٌ عليه ومنها ما هو مختلفٌ فيه، فمثلًا النية مجمعٌ عليها التي هي القصد، كذلك أيضًا الشروط التي تشترط في الصائد متفقٌ عليها، أن يكون مسلمًا أو كتَابيًا، بمعنى: لا يكون مجوسيًّا، ولا وثنيًّا، ولا غير ذلك مما اتفق العلماء على عدم قبول ذبيحته، وهناك شروطٌ مختلفٌ فيها كالتسمية.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" للموصلي (5/ 4)، حيث قال:"فلو قتله صدمًا أو جثمًا أو خنقًا لم يؤكل لعدم الجرح".
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 119)، حيث قال: "في شروط المصيد
…
أن يموت من الجرح لا من صدم الجارح ولا من الرعب وفاقًا لهما".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج " للشربيني (6/ 109)، حيث قال:"وأما إذا أصابه سهم فوقع بأرض، فقد اختلف كلام الشراح في تصويره فمنهم من صوره بما إذا أصابه السهم في الهواء ولم يؤثر فيه جرحًا بل كسر جناحه فوقع فمات، فإنه لا يحل لعدم مبيح يحال الموت عليه. أما إذا جرحه السهم جرحًا مؤثرًا ثم سقط على الأرض ومات، فإنه يحل".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 351)، حيث قال:" (فلو قتله) الجارح (بصدم أو خنق) (لم يبح) لعدم جرحه كالمعراض إذا قتل بثقله".
قوله: (كَاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ مَبْدَؤُهُ مِنَ الصَّائِدِ).
هذا شرط عند المالكية وغيرهم، يعني: أن يكون المرسل هو الصائد لا أن يكون الصيد هو الذي أرسل نفسه
(1)
.
قوله: (وَاخْتِلَافِهِمْ إِذَا أَفْلَتَ الْجَارِحُ مِنْ يَدِهِ أَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَغْرَاهُ؛ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ الصَّيْدُ؟ أَمْ لَا؟).
يعني: لو أن الإنسان معه كلب، فبصر صيدًا، ربما صاحبه ما التفت إليه، فانفلت منه وانطلق خلف الصيد، هنا ما أرسله، إذن ما تم الإرسال، لكن ما هو الشرط الثاني؟ إذا أغراه أشلاه انشلى، انطلق من يده، ففجأة رأى أن الكلب يجري وراء الصيد، هل يكفيه في هذه الحالة أن يسمي وأن يزجر الجارح، فإذا زاد في مشيه يبهون استجابةً لذلك، حينئذٍ عند بعض العلماء: يجوز أن يأكل منه، وبعضهم: لا يرى ذلك، لكن لو انطلق ومشى على حالته، ولم يلتفت إلى زجر صاحبه، فحينئذٍ يكون إنما قصد الصيد لنفسه، أو في ذلك شبهة.
قوله: (لِتَرَدُّدِ هَذ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ لَهَا هَذَا الشَّرْطُ أَوْ لَا يُوجَدَ
(2)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (2/ 163)، حيث قال:" (إن أرسله) الصائد المسلم (من يده) بنية وتسمية، (أو) من (يد غلامه) وكفت نية الآمر وتسميته، نظرًا إلى أن يد غلامه كيده، واحترز بذلك مما لو كان الجارح سائبًا فذهب للصيد بنفسه، أو بإغراء ربه فلا يؤكل إلا بذكاة". وانظر: "حاشية الصاوي"(2/ 163).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 465)، حيث قال:"فلو انفلت من صاحبه فأخذ صيدًا فقتله لم يؤكل، كما لو لم يعلم بأنه أرسله أحد لأنه لم يقطع بوجود الشرط".
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 118)، حيث قال: "أن يرسله الصائد من يده على الصيد بعد أن يراه ويعينه، فإن انبعث من تلقاء نفسه لم يؤكل خلافًا لأبي حنيفة، فإن انبعث بإرساله وهو ليس في يده فقيل يؤكل وقيل لا =
كَاتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ إِذَا أُدْرِكَ غَيْرُ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ أَنْ يُذَكى إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ).
وهذا عند العلماء عمومًا.
قوله: (وَاخْتِلَافِهِمْ بَيْنَ أَنْ يُخَلِّصَهُ حَيًّا فَيَمُوتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ ذَكاتِهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ هَذَا
(1)
، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَرَآهُ مِثْلَ
= يؤكل وقيل يؤكل إذا كان قريبًا، وإن زجره بعد انبعاثه من تلقاء نفسه فرجع إليه ثم أشلاه أكل وإن لم يرجع إليه لم يؤكل".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج " للشربيني (1/ 85)، حيث قال:" (وكذا) لا يزول ملكه (بإرسال المالك له في الأصح)؛ لأن رفع اليد عنه لا يقتضي زوال الملك عنه كما لو سَيَّبَ بهيمته فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه. والثاني: يزول ويجوز اصطياده كما بحثه ابن الرفعة في المطلب. والثالث: إن قصد بإرساله التقرب إلى الله زال ملكه، وإلا فلا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الروايتين والوجهين" لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 15 - 16)، حيث قال:"إذا استرسل الكلب بنفسه من غير إرسال صاحبه، فصاح به صاحبه، وأضراه وأغراه على الصيد، وسمى فازداد عدوه، وحقق قصده، وصار عدوه أسرع من الأول، فهل يحل أكل صيده أم لا؟ نقل حرب عنه: إذا أصاب الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبني، لأن حديث عدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله" وهذا لم يذكر اسم الله، فظاهر هذا أنه اعتبر وجود الإرسال في الابتداء، فإذا لم يوجد ذلك ابتداء لم يبح، وهو الصحيح عندي".
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (7/ 254)، حيث قال:" (وإذا أصاب الصيد في يده حيًا، فذكاته لا تكون إلا بالذبح، سواء أمكنه أن يذكيه، أو لم يمكنه حتى مات). وذلك لأنه لما حصل في يده حيًّا، فقد خرج من أن يكون صيْدًا، فلا تكون ذكاته إلا بالذبح، كالشاة لا تكون ذكاتها إلا بالذبح وإن صارت بحال لا يمكنه التذكية حتى تموت".
(2)
الاتفاق والاختلاف مع أبي حنيفة، يُنظر:"المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 684)، حيث قال:"إذا أدرك الصيد والجوارح تنهشه وتجرحه ولم تنفذ مقاتله وقدر على تخليصه منها فلا يأكله إلا بأن يذكيه، لأنه صار مقدورًا عليه قبل أن تكون ذكاته العقر، وإن لم يقدر أن يذكيه حتى مات بجرحها جاز أكله، لأن فوات نفسه حصل قبل القدرة عليه، وكذلك إن خلَّصَهُ جريحًا، فمات في الفور قبل أن يتمكن من تذكيته، فإن أكله جائز خلافًا لأبي حنيفة".
الْأَوَّلِ، أَعْنِي: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنَ الْجَارحِ حَتَّى مَاتَ؛ لِتَرَدُّدِ هَذ الْحَالِ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: أَدْرَكَهُ غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ، وَفِي غَيْرِ يَدِ الْجَارِحِ، فَأَشْبَهَ الْمُفَرِّطَ أَوْ لَمْ يُشْبِهْهُ فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ، وَإِذَا كَانَتْ هَذ الشُّرُوطُ هِيَ أُصُولَ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ).
هذه مسألة سيعود إليها مرة أخرى ونفصلها.
قوله: (فِي الصَّيْدِ مَعَ سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمَذْكورَةِ فِي الْآلَةِ وَالصَّائِدِ نَفْسِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ مَا مَا اتَّفَقُوا مِنْهُ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَسْبَابُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا مِنْ مَشْهُورِ مَسَائِلِهِمْ).
يعني: المؤلف سيذكر هذه المسائل مرةً أخرى، وسيورد أدلتها وأسباب الخلاف، ما الفائدة من ذكر سبب الخلاف، فعندما يذكر أسباب الخلاف نقف على توجيهات العلماء، لنتبين أن العلماء رحمهم الله عندما يختلفون في مسألةٍ من المسائل، ليس ذلك رغبةً في الاختلاف ولكنه في الحقيقة اختلاف ينتهي إلى وفاق، وقد يسأل سائل ويقول: كيف اختلاف وينتهي إلى وفاق، نعم ينتهي إلى وفاق؛ لأن هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء الأعلام الذين وقَّفوا حياتهم وأفنوا أعمارهم في خدمة دين الله سبحانه وتعالى وفي الدفاع عنه، إنما كان غايتهم من خدمة هذا الفقه، هو أن يصلوا إلى الحق، وأن يبلغوا الغاية من ذلك، وهم في ذلك يدورون في فلك كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحدهم قولًا وتبين أن الحق في غيره، فسرعان ما يرجع إليه ويترك قوله، ولذلك أُثر عن الإمام الشافعي أنه قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"
(1)
، والإمام
(1)
يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 35)، حيث قال:"قال الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث، فاضربوا بقولي الحائط".
وللامام تقي الدين السبكي رسالة تناول فيها كلمة الشافعي هذه بالشرح والبيان، وما يجب أن تحمل عليه وتقيد به سماها "معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي".
أحمد يقول: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكًا ولا الأوزاعي، ولكن خذوا من حيث أخذوا"
(1)
، والإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة كان يقول:"ما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذه الحجرة"
(2)
يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلنا عرضة للخطأ وللصواب، أما الرسول لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحي، إذًا لأمر مختلفٌ تمامًا، ولذلك يقول الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وأيضًا أبو حنيفة يقول: "إذا جاء الأمر عن الله فعلى العين والرأس
(3)
، وإذا أجمع الصحابة على أمرٍ من الأمور فكذلك، وإذا اختلفوا اخترنا من بين أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين فهم رجالٌ ونحن رجال"، إذن كما أنهم اجتهدوا نجتهد، فمن يتبين له الحق يأخذ به، فغاية الأئمة وغيرهم من العلماء الأعلام إنما هو الوصول إلى الحق، وأن يهتدوا في ذلك، لكن أخطر ما يهدد المسلم وبخاصة طالب العلم أن يغلب عليه هواه، وأن يتعصب لمذهبٍ من المذاهب، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] والله - تعالى - يقول لنَبيِّهِ داود عليه السلام: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] فما وقع في الأمم الإسلامية كثيرٌ من الأمور إلا نتيجة التعصب للآراء أو اتباع الأهواء، وخير دليل على ذلك، أعظم نكبةٍ مرت بالأمم الإسلامية، كانت نكبة التتار، عندما جاؤوا إلى قصبة الخلافة الإسلامية عاصمة الإسلام في ذلك الوقت بغداد،
(1)
ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 139).
(2)
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 925)، وابن حزم في "أصول الأحكام"(6/ 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد، وأورده تقي الدين السبكي في "الفتاوى"(1/ 138) من قول ابن عباس - متعجبًا من حسنه -، ثم قال:"وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه، واشتهرت عنه". ونسبةُ هذا الكلام إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين من العلماء.
(3)
يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 401)، حيث قال:"قال أبو حنيفة: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة، اخترنا، وما كان من غير ذلك، فهم رجال ونحن رجال".
فسوروها وطوقوها من جميع جهاتها وكان الناس مختلفين فيما بينهم، فأخذوا يعملون السيوف في المسلمين حتى سالت الدماء كالأنهار، فلما رجع المسلمون إلى الحق واجتمعت كلمتهم على ذلك، عادوا إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأزالوا جميع أسباب الخلاف وابتعدوا عن كل أسباب الذلة وسلكوا جميع الطرق التي كانت تؤدي بهم إلى نصر الله سبحانه وتعالى التي قال الله فيها:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51] فعندما فعلوا ذلك قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، لما عاد المسلمون إلى الطريق السوي، والتفوا حول كتاب الله، وحول سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتحدت كلمتهم على الحق وعلى الهدى، واجتمعت صفوفهم، وزالت أسباب الفرقة، انتصروا على عدوهم وأذاقوه كأس الموت كما ذاقه المسلمون أولًا، فتمزق شملهم فبدؤوا يتساقطون بين أموات وبين أسرى؛ لأن المسلمون عادوا إلى الله فتحققت أسباب النصر، والله سبحانه وتعالى وعد بقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] وقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فكلما اجتمعت كلمة المسلمين وعادوا إلى الله سبحانه وتعالى وتوحدت صفوفهم انحلت جميع المشاكل.
قوله: (فَنَقُولُ: أَمَّا التَّسْمِيَةُ وَالنِّيَّةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الخِلَافُ فِيهِمَا وَسَبَبُهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ).
النية شرطٌ في جميع العبادات إلا ما استثني من ذلك مما لا يحتَاجُ إلى قَصْدٍ، كقراءة القرآن مثلًا، فإن النية إنما شُرِعَتْ لتمييزِ العبادات عن العادات، ولتمييز العبادات بعضها عن بعض، وقد ذكرنا ذلك تفصيلًا وإجمالًا في مواطن كثيرة، ولا شك أن الإنسان إذا أراد أن يصيدَ وأن يذبَحَ فلا بد له من قَصْدٍ، وهذا القصدُ مَحِلُّه القلب وإذا كان محله القلب
فهو النِّيَّة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امْرئٍ ما نوى"
(1)
، فالنية مطلوبةٌ في الصيد وهي شرط فيه
(2)
، أما التسمية محل خلافٍ بين العلماء فجمهور العلماء ومنهم الحنفية
(3)
والمالكية
(4)
والحنابلة
(5)
يشترطون التسمية في الذكاة، لكنهم يفرقون بين المتعمد والنَّاسي، فمن تعمَّد ترْكَها فلا تصح ذَبِيحَتُهُ ولا صيده، أما من نسي فالجمهور انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أبو حنيفة
(6)
ومالك
(7)
يفرقون بين الناسي وبين المتعمد، فمن نسي التسمية على الذبيحة أو الصيد فإن ذبيحته وصيده حلالٌ له أن يأكل منه.
الثاني: الحنابلة
(8)
يرون أن من نسي أو تعمد ترك التسمية على الصيد فليس له أن يأكل من ذلك؛ لأنها متعيِّنةٌ وواجبة، لكنهم يفرقون بين الصيد وبين الذبيحة، فيسقطونها على الناسي في الذبائح ولا يسقطونها على الناسي في الصيد.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 106)، حيث قال:" (ووجب) في الذكاة بأنواعها (نيتها) أي قصده. وإن لم يلاحظ حلية الأكل احترازًا عما لو ضرب حيوانًا بآلة فأصابت منحره أو أصابت صيدًا، أو قصد مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية لم يؤكل".
(3)
تقدّم قولهم.
(4)
تقدَّم قولهم.
(5)
تقدَّم قولهم.
(6)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 288)، حيث قال:" (وحل لو ناسيا) أي حل المذَكِّى إن ترك التسمية ناسيًا".
(7)
يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 106)، حيث قال:(قوله: فلا تجب على ناس إلخ) أي وحينئذ فيقيد بذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي لا تأكلوا مما تركت التسمية عليه عمدًا مع القدرة عليها، وأما ما تركت التسمية عليه نسيانًا أو عجزًا فإنه يؤكل".
(8)
سبقت هذه المسألة وأنهم فرقوا بين الذبح والصيد في التسمية، فمن نسى التسمية في الذبح جاز بخلاف الصيد فلا يحل الصيد لو ترك التسمية عليه ولو كان ناسيًا".
الثالث: أما الشافعية
(1)
فيرون أنها سُنَّة فلو أن إنسانًا تركها متَعَمِّدًا فإن ذبيحته صحيحة لكنه خالف السُّنَّة وكذلك الحال بالنسبة للصيد، والذين أوجبوا التسمية عملًا بقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا أرسلتَ كلْبكَ المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله"
(2)
فالكتاب والسنة دلا على التسمية وهي متعينةٌ، فلا ينبغي للمسلم أن يتركها على ذبيحةٍ أو صيد.
قوله: (وَمَنْ قَبِلَ اشْتَرَاطَ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ مَن اشْتَرَطَهَا إِذَا أَرْسَلَ الجَارِحَ عَلَى صَيْدٍ، وَأَخَذَ آخَرُ ذَكَاةَ ذَلِكَ الصَّيْدِ الَّذِي لَمْ يُرْسِلْ عَلَيْهِ).
يعني: كأن يرسل كَلْبًا على صيدِ مُعَيَّنٍ، فيصيد غيره، فإنه كما ذكر المؤلف هنا، لا يحل ذلك والمسألة فيها خلاف، وليس على إطلاقه.
قوله: (وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
،
(1)
يُنظر: "حاشية البجيرمي على شرح المنهج"(4/ 287)، حيث قال:"ويحصل أصل السنة بكل بل وبالتسمية بينهما شوبري فلو ترك التسمية ولو عمدًا حل؛ لأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهم لا يذكرونها".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (2/ 13)، حيث قال:" [قال مالك:] وإن أرسل كلبه على صيد فأخذ غيره لم يؤكل".
(4)
يُنظر: "البيان" للعمراني (4/ 554)، حيث قال:"وإن أرسل كلبًا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، .. حل أكله لقوله صلى الله عليه وسلم: "وما ردت عليك قوسك .. فكل". وإن أرسل كلبًا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، فإن كان في سمته وسننه حل أكله، وبه قال أبو حنيفة".
(5)
"بدائع الصنائع " للكاساني (5/ 50)، حيث قال:"ولو رمى صيدًا بعينه أو أرسل الكلب أو البازي على صيد بعينه فأخطأ فأصاب غيره يؤكل، وكذا لو رَمَى ظبيًا فأصاب طيرًا أو أرسل على ظبي فأخذ طيرًا؛ لأن التعيين في الصيد ليس بشرط".
وَأَحْمَدُ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: ذَلِكَ جَائِزٌ وَيُؤْكَلُ).
يعني: جمهور العلماء يخالفون مالكًا في هذه المسألة، فمالكٌ. يرى أنه لو أرسل صيدًا فأصاب غيره فلا يصح، والجمهور يرون ذلك؛ لأن الشروط قد توفرت، وقد قصد الصيد، وكذلك ذكر اسم الله - تعالى -، وهو أرسله ليصيد، فكونه وقع على غيره لا يؤثر ذلك، كما لو أرسل قوسه يقصد صَيْدًا فأصاب آخر، أو قصد صيدًا فأصاب جمعًا من الصيد فإن ذلك جائز.
قوله: (وَمِنْ قِبَلِ هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْإِرْسَالِ عَلَى صَيْدٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ، كَالَّذِي يُرْسِلُ عَلَى مَا فِي غَيْضَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ
(3)
، وَلَا يَدْرِي هَلْ هُنَالِكَ شَيْءٌ؟ أَمْ لَا؟)
(4)
.
الغيضة
(5)
هي: التي فيها لفيفٌ من الأشجار ولها عدة إطلاقات وكلها متقاربة أي: الأرض التي فيها غَلَّة، والقصد هي الأرض التي يقصد
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 432)، حيث قال:"وإن رمى صيدًا فأصاب غيره) حل (أو) رمى صيدًا (واحدًا) من صيود، (فأصاب عددًا حل الكل) وكذا (جارح) أرسل على صيد فقتل غيره أو على واحد، فقتل عددًا، فيحل الجميع نصًّا لعموم الآية والأخبار، ولأنه أرسله بقصد الصيد فحل ما صاده".
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 455)، حيث قال: "واختلف في الكلب يرسل على صيد بعينه فيأخذ غيره، فقال
…
، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يؤكل".
(3)
الأكمة: ما ارتفع من الأرض. انظر: "الزاهر" للأزهري (ص: 87).
(4)
يُنظر: "التبصرة" للخمي (4/ 1479)، حيث قال:"واختُلف في الإرسال على صيد غير مرئي، كالذي يرسل على ما في غَيْضَةٍ أو غارٍ أو ما وراء أَكَمَةٍ، ولا يدري: هل هناك شيء أم لا؟ أو على جماعة وينويها وما وراءها. فأجاز ذلك مالك، ورآه ذكيًّا. ومنعه أشهب، وقال: لا يؤكل إلا ما رآه وقت الإرسال. وإليه ذهب سحنون في العتبية". وانظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (4/ 349).
(5)
الغيضة: الأجمة وهي الشجر الملتف وجمعها غياض. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 349)، و "الصحاح" للجوهري (3/ 1097).
فيها الأشجار، بحيث يخفى على الإنسان كثيرٌ مما فيها، فلو أرسل الإنسان الجارحَ أو كذلك سهمه، فأصاب شيئًا لم يره هل يجوز أم لا؟ يعني: يحول بينه وبين الصيد أو مكانٍ مرتفع فيرسل الجارح فيصيد خلف تلك الأكمة أو الجبل أو الهضبة، هل يجوز ذلك أم لا.
قوله: (لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي هَذَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِذَكَاةِ الصَّيْدِ مِنَ الشُّرُوطِ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا).
عاد المؤلف بعد أن أجمل شروط الصيد، عاد ليفصلها بعض التفصيل.
قوله: (وَهُوَ أَنَّ عَقْرَ الْجَارِحِ لَهُ إِذَا لَمْ يُنْفِذْ مَقَاتِلَه، إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْمُرْسِلُ حَيًّا).
يعني: الإنسان إذا أرسل جارحًا فصاد صيدًا فلا يخلو إما أن يجرحه فيقتله وهذا لا خلاف بين العلماء في حِلِّيَّتِهِ، إذا توفرت الشروط بأن قَصَده وذكر اسم اللّه عليه ولم تشاركه كلابٌ أخرى، أو مثلًا يشاركه فيه كلبٌ لم يذكر اسم الله عليه هذا أمر.
الأمر الآخر: أن يدركه حيًّا، فإن أدركه حيًّا وفيه حياة مستقرة فيلزَمُهُ في هذه الحالة أن يُذَكِّيَه وإن لم يذكيه فلا يجوز له أن يأكل منه، وإن كانت فيه حياةٌ مستقرة فأدركه فمات فيأكل منه على القول الصحيح.
قوله: (فَبِاشْتِرَاطِهِ. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(1)
: لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق " للزيلعي (6/ 53)، حيث قال:"قال رحمه الله (وإن أدركه حيًّا ذكاه) .. ؛ ولأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود هو الحل ولا يثبت قبل موته فبطل حكم البدل، والبازي والسهم كالكلب؛ لأن المعنى يشمل الكل قال رحمه الله (وإن لم يذكه أو خنقه الكلب ولم يجرحه أو شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه عمدًا حرم) أما إذا لم يذك؛ فلأنه لما أدركه حيا صار ذكاته ذكاة الاختيار".
مذهب الشافعية، يُنظر:"البيان" للعمراني (4/ 550 - 551)، حيث قال: "إذا أرسل =
عَدِيِّ بْنِ حَاتِم في بَعْضرِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَإِنْ أَدْرَكتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ"
(1)
).
يعني: إذا أدركه حيًّا فليس له أن يتركه حتى يموت بل يلزمه أن يذكيه؛ لأنه يعجز عنه، ولذلك لو أمكن الإنسان أن ينال الصيد بيده دون ضرر فيلزمه أن يذكيه كالإنس، لكن لما كان ذلك غير مقدورٍ عليه حينئذٍ كانت ذكاته العقر، يعني أن يرسل عليه جارِحًا أو مِعْراضًا أو قوسًا فيصيبه، فإذا جرحه جاز له ذلك.
قوله: (وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَقُولُ: إِذَا أَدْرَكْتَهُ حَيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَكَ حَدِيدَةٌ فَأَرْسِلْ عَلَيْهِ الْكِلَابَ حَتَّى تَقْتُلَه، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، مَصِيرًا لِعُمُومِ قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4])
(2)
.
= سهمه أو جارحته على صيد فعقره، ثم أدركه وفيه حياة مستقرة، .. ففيه ثلاث مسائل؛ إحداهن: إذا كان العقر قد صيره في حكم المذبوح، مثل: أن أبان حشوته أو قطع الحلقوم والمريء أو في مقتل كالقلب، وكانت الحياة فيه غير مستقرة فإن أمر السكين على حلقه ليذبحه
…
فهو المستحب وإن تركه حتى مات .. حل أكله؛ الثانية: إذا كان العقر لم يصيره في حكم المذبوح، بل وُجِدَ وفيه حياة مستقرة مما يعيش اليوم متسع لذكاته، فإن ذكاه .. حل أكله وإن ترك ذكاته عامدًا أو لم تكن معه آلة يذبح بها حتى مات لم يحل أكله. الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، لكنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، أو أدركه ممتنعًا فجعل يعدو خلفه فلحقه وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 374)، حيث قال:"وقال في موضع: إني لأقشعر من هذا. يعني أنه لا يراه. وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأنه مقدور عليه. فلم يبح بقتل الجارح له. كبهيمة الأنعام".
(1)
أخرجه مسلم (1929/ 6) عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك، فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه فكله
…
" الحديث.
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 455)، حيث قال:"وكان النخعي يقول: إذا لم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله. وبه قال الحسن البصري".
الآية عامة فلو قُدر أن إنسانًا في فلاة فأرسل كلبًا - فصاد له صيدًا فأمسك به والحياة لا تزال مستقرةً فيه، وليس معه ما يذبحه، أي: لا توجد معه سكين، ولا حتى حجر مسنَّنٌ ولا غير ذلك مما يجوز الذبح به، فهل يتركه حتى يموت؟ أو يغري به ذلك الكلب والكلاب حتى تجرحه فتقتله، هذا هو الذي يريده المؤلف، وجمهور العلماء قالوا: لا يجوز ذلك، والنخعي والحسن البصري وهما من التابعين وهي رواية عن الإمام أحمد
(1)
يقولون: يغري به ذلك الجارح فيقتله فيأكل منه، بدليل أنه لو جرحه في الأصل فقتله جاز الأكل، فلماذا نمنع هنا ونجيز هناك! والجمهور يقولون: الصورة مختلفة لأنك هنا في هذه الحالة أمسكت به والحياة لا تزال مستقرة فيه، أما تلك فقد قتله الحيوان وهذا مما أباحه الله سبحانه وتعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: وإن قتله الصائد قال: "وإن قتله" يعني: الجارح "فكل"
(2)
.
قوله: (وَمِنْ قِبَلِ هَذَا الشَّرْطِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
: لَا يَتَوَانَى الْمُرْسِلُ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ، فَإِنْ تَوَانَى فَأَدْرَكهُ مَيِّتًا؛ فَإِنْ كَانَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ بِسَهْمٍ حَلَّ أَكْلُه، وَإِلَّا لَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَوَانَ لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَهُ حَيًّا غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ).
هذه مسألة فيها تفصيل عند العلماء، يعني: لو أن الإنسان أرسل
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 374)، حيث قال:"واختلف قول أحمد في هذه المسألة. فعنه مثل قول الخرقي. وهو قول الحسن. وإبراهيم".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 327)، حيث قال: " (أو تراخى في اتباعه) من المدونة: لو توارى عنه كلبه والصيد فرجع الرجل إلى بيته ثم عاذ فأصابه من يومه لم يؤكل، لاحتمال إدراك ذكاته لو تبعه. هذا إن وجده غير منفوذ، ولو وجده منفوذًا، فإن كان برمي أكل وبجارح طرح، إلا أن يعلم أن الجارح يقتله سريعًا لقؤته وضعف الصيد
…
ولا بأس بأكله في السهم والجارح لو رجع من اتباعه اختيارًا (إلا أن يتحقق أنه لا يلحقه) .. لو تراخى في اتباعه فإن ذكاه قبل أن ينفذ مقاتله أكل بالذبح لا بالصيد وإلا فلا، إلا أن يتحقق أنه لو لم يتراخى لم يعد وهذا يظهر في السهم".
الجارح الكلب أو غيره فصاد له صيدًا فتوانى يعني: تأخر في البحث عنه ثم بعد ذلك وجده، وسيأتي الكلام في تحديد المدة، ثم أدركه بعد ذلك، بعض العلماء فَصَّل
(1)
وقال: إن أدركه وليس فيه إلا سهمه، فهو في هذه الحالة يجوز له أكله، أو أدركه ميتًا قد قُتِلَ وعنده كلبه ولم يشركه غيره فكذلك يأكل منه، وبعضهم منع من ذلك
(2)
؛ لأن ذلك قد تطرق إليه الشك فلا ينبغي أن يؤكل.
قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَبْدَؤُهُ مِنَ الْقَانِصِ، وَيَكُونَ مُتَّصِلًا حَتَّى يُصِيبَ الصَّيْدَ).
فهناك فرق بين أن يرسل الصائد الجارح وبين أن ينطَلِقَ من نفسه، فلو قدر أن الكلب انطلَقَ من ذات نفسه، يقول جمهورُ العلماء
(3)
: ليس له أن يأكل من ذلك الصيد، وبعضهم قال
(4)
: إن انطلَقَ من ذاتِ نفْسِهِ فأدركه فسَمَّى عليه، ثم أغراهُ يعني: زَجَرَهُ فزاد في سيره فإنه يجوز الأكل منه، أما لو انطلق من ذات نفسه ولم يغره صاحبه أي: لم يزجُرْه فلا يجوز الأكل منه خشية أن يكون إنما صادَ لنفسه، وفي هذه الحالة لم يذكر اسم الله الصائد عند إرسال الجارح.
قوله: (فَمِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ اخْتَلَفُوا فِيمَا تُصِيبُهُ الْحِبَالَةُ وَالشَّبَكَةُ إِذَا أُنْفِذَتِ الْمَقَاتِلُ بِمُحَدَّدٍ فِيهَا، فَمَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ
(5)
وَالشَّافِعِيُّ
(6)
وَالْجُمْهُورُ).
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
يُنظر: "المدونة"(1/ 536 - 537)، حيث قال:"قلت: أرأيت ما قتلت الحبالات من الصيد أيؤكل أم لا؟ قال: قال مالك: لا يؤكل إلا ما أدركت ذكاته من ذلك، قال: فقيل لمالك: فإن كانت في الحبالات حديدة فأنفذت الحديدة مقاتل الصيد؟ قال: قال مالك: لا يؤكل منه إلا ما أدركت ذكاته".
(6)
تقدَّم قوله.
يعني: هناك ما يوضع من المناجِل
(1)
التي تخصص للصيد، بعض العلماء يرى جواز ذلك كالحنابلة
(2)
إذا توفوت الشروط فيها، ولكن إذا وجدت حِبَالة، يعني: حبال أو شِرَاك موضوعة والتي تُعرف بالشبكة، فوقع فيها صيدٌ فهذه إذا أُدرك وذبَحَ لا إشكال في ذلك، ولكن الكلام فيما لو قَتَلَهُ فما الحكم هنا؟ الجواب: أكثر العلماء على أنه لا يجوز الأكل منه، ويمثِّلُون بذلك فيما لو أن إنسانًا نصب سيْفًا أو سكينًا في مكان فمرت عليه شاةٌ فذبحها، قالوا: لا يجوز الأكل منها؛ لأنه لم يُسَمِّ عليها، فكذلك هنا.
قوله: (وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
(3)
. وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يُجِزْ مَالِكٌ
(4)
الصَّيْدَ الَّذِي أُرْسِلَ عَلَيْهِ الْجَارِحُ فَتَشَاغَلَ بِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ).
يعني: أرسل الجارح ثم انشغل عنه ثم عاد إليه من ذات نفسه، بمعنى أنه جدَّ في الذهاب، فهل يؤكل منه أم لا، أي: عندما أرسله الصائد صاحبه انطلق ثم توقف وانشغل بغيره، إما بصيدٍ آخر أو بنحو ذلك، ثم إنه عاد مرةً أخرى فلحق به فصادَه، فهل يكفي القصد الأول والتسمية، وكون الكلب انشغل عنه، أم لا بُدَّ من وجود اتصالٍ بين صيده
(1)
مناجل: واحدها: منجل بكسر الميم، وهو: الآلة التي يحصد بها الحشيش والزرع.
انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 467).
(2)
تقدَّم قولهم.
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 465)، حيث قال:"وقد روينا عن الحسن أنه رخص في ذلك، ذكر يونس عنه أنه كان لا يرى بصيد المناجل بأسًا، وقال: سَمِّ إذا أنصبتها".
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 323)، حيث قال:"ومن أرسل كلبه أو بازه على صيد فطلبه ساعة ثم رجع عن الطلب ثم عاد فقتله، فإن كان كالطالب له يمينًا وشمالًا أو عطف وهو على طلبه فهو على أول إرساله، وإن وقف لأكل الجيفة أو شم كلبًا أو سقط البازي عجزًا عنه ثم رأياه فاصطاده، فلا يؤكل إلا بإرسال مستأنف". وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 119).
وبين الإرسال هذه مسألة فيها خلاف
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْعَقْرِ مَنْ لَيْسَ عَقْرُهُ ذَكَاةً لَهُ - فَهُوَ شَرْطٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَذْكُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ).
يعني: لو قُدر أنه أرسل كلبه المعلم فشاركه كلب مجوسي، لماذا قال شارَكَه من لا يقبل ذكاته؛ لأنه لو وجده مُسْلِمٌ فذبَحَهُ بعد أن جرحه الجارح حلَّت ذكاتُهُ ويؤكل منه، لكن لو أدركه مجوسي أو وثني فذبحَهُ فإنه في هذه الحالة لا يؤكل منه، أو لو شارك هذا الكلب كلب مجوسِيٌّ لا يؤكل منه
(2)
، أو أيضًا شاركته كلاب، يدرى أذكر اسم الله عليها أم لا، لا يؤكل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
(1)
مذهب الحنفية ينظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 466 - 467)، حيث قال: "ولو أكل خبزًا بعد الإرسال أو بال لم يؤكل
…
ولو عدل عن الصيد يَمْنَةً أو يسرة أو تشاغل في غير طلب الصيد، وفتر عن سننه ثم اتبعه فأخذه لم يؤكل إلا بإرسال مستأنف، أو أن يزجره صاحبه ويسمي فيما يحتمل الزجر فينزجر، بخلاف ما إذا كمن واستخفى، كما يكمن الفهد على وجه الحيلة، لا للاستراحة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم للشافعي"(2/ 251)، حيث قال:"وإن كان الكلب قد توجه للصيد قبل استشلاء صاحبه فمضى في سننه فأخذه فلا يأكله إلا بإدراك ذكاته، إلا أن يكون يزجره فيقف أو ينعرج ثم يستشليه فيتحرك باستشلائه الآخر، فيكون قد ترك الأمر الأول واستشلى باستشلاء مستأنف، فيأكل ما أصاب".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المباع في شرح المقنع"، لابن مفلح (8/ 51)، حيث قال:" (الثالث: إرسال الآلة قاصدًا للصيد)، (فإن استرسل الكلب، أو غيره بنفسه، لم يبح صيدَهُ) في قول أكثرهم، (وإن زجره) أي: لم يحل، لأن الزجر لم يزد شيئًا عن استرسال الصائد بنفسه، (إلا أن يزيد عدوه بزجره فيحل) لأن زجره له أثر في عدوه، فصار كما لو أرسله". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 378).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 466)، حيث قال: " (قوله: وبشرط أن لا يشرك
…
إلخ) أي لا يشركه في الجرح
…
أنه إما أن يشارك المعلم غير المعلم في الأخذ والجرح فلا يحل، أو في الأخذ فقط بأن فر من الأول فردَّهُ عليه الثاني ولم يجرحه ومات بجرح الأول كره أكله تحريمًا في الصحيح، وقيل: تنزيهًا، بخلاف ما إذا رده عليه مجوسي بنفسه حيث لا يكره لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلم تتحقق المشاركة، بخلاف فعل=
قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشُكَّ فِي عَيْنِ الصَّيْدِ، وَلَا فِي قَتْلِ جَارِحِهِ لَه، فَمِنْ قِبَلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَكْلِ الصَّيْدِ إِذَا غَابَ مَصْرَعُهُ).
يعني: قد يصيد صيدًا في فلاة فيمر وقتٌ لا يدري أين هو ثم يعثر عليه، فهنا إذا عثر عليه يأتي التفصيل، من العلماء من قال: لا يجوز، ومنهم: من أجازه مطلْقًا، ومنهم: من قيَّدَهُ بالنهار دون الليل، ومنهم: من فرَّقَ بين أن تطول المدة أو لا تطول، شريطة أن يجد أثر سهمه فيه، أو أن يجد كلبه عنده، وبعض العلماء يفرق بين المدة القليلة وبين الكثيرة، كالحنابلة
(1)
مثلًا،
= الكلبين ولو لم يرده الثاني على الأول، لكن اشتد على الأول فاشتد الأول على الصيد بسببه فقتله الأول فلا بأس به؛ .. (قوله: أو لم يرسل
…
إلخ) العطف على غير معلم، فكان ينبغي ذكره فبل قوله وكلب مجوسي تأمل".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 105)، حيث قال: "قوله: أو شركة كلب مجوسي) أي كلب أرسله مجوسي، وقوله: لكلب المسلم أي للكلب الذي أرسله المسلم كان ملكًا له أو لا (قوله: كان أحسن) أي؛ لأن التقييد بمجوسي يقتضي أنه يؤكل إذا شارك كلب الكتابي كلب المسلم، وليس كذلك.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 112)، حيث قال:" (ولو شارك مجوسي) أو وثني أو مرتَدٌّ (مسلما في ذبح أو اصطياد حرم) بلا خلاف، والحاصل: أنه متى شارك من لا تحل ذكاته من تحل حرم لأنه متى اجتمع المبيح والمحرم غلب الثاني".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 217)، حيث قال:"أو أرسلا عليه جارحًا أو شارك كلب مجوسي كلب مسلم في قتله) أي الصيد (لم يحل) الصيد (سواء وقع سهامهما فيه دفعة واحدة أو) وقع فيه سهم (أحدهما قبل الآخر) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، إنما سمَّيْتَ على كلبك ولم تسم على غيره،) متفق عليه، ولأنه اجتمع في قتله مبيح ومحرم فغلبنا التحريم كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل، ولأن الأصل الحظر فإذا لم يعلم المبيح رد إلى أصله".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 378)، حيث قال: " (وإذا رمى، فغاب عن عينه فوجده ميتًا سهمه فيه ولا أثر به غيره حل أكله) هذا هو المشهور عن أحمد، وكذلك لو أرسل كلبه على صيد، فغاب عن عينه، ثم وجده ميتًا، ومعه كلبه، حل. وهذا =
وأيضًا الحنابلة لهم رواية أخرى
(1)
، يفرقون فيها بين صيد الليل والنهار، فإن وجَدَه نهارًا ولم يُنْتِنْ أكل منه، وإن وجده ليلًا فلا، ويفرقون بين أن تكون ليلتان فدُونها أو أكثر، وهكذا التفصيلات في المذاهب الأخرى، فبعضهم منعه مطلَقًا، وبعضهم أجازه مطلقًا، وبعضهم فصل.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
مَرَّةً: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ إِذَا وَجَدْتَ بِهِ أَثَرًا مِنْ كلْبِكَ، أَوْ كَانَ بِهِ سَهْمُكَ مَا لَمْ يَبِتْ، فَإِذَا بَاتَ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ. وَبِالْكَرَاهِيَةِ قَالَ الثَّوْرِيُّ
(3)
، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ
(4)
: إِذَا بَاتَ الصَّيْدُ مِنَ الجَارحِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَفِي السَّهْمِ خِلَافٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ
(5)
: يُؤْكَلُ فِيهِمَا جَمِيعًا إِذَا وُجِدَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ، وَقَالَ مَالِكٌ
= قول الحسن، وقتادة. وعن أحمد، إن غاب نهارًا، فلا بأس، وإن غاب ليلًا، لم يأكله".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 378)، حيث قال:"وعن أحمد ما يدل على أنه إن غاب مدة طويلة، لم يبح، وإن كانت يسيرة، أبيح؛ لأنه قيل له: إن غاب يومًا؟ قال: يوم كثير".
(2)
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 533)، حيث قال:"قلت: أرأيت الذي توارى عني فأصبته من الغد وقد أنفذت مقاتله بسهمي، أو أنفذت مقاتله بزاتي أو كلابي لم قال مالك: لا يأكله إذا بات، وقال يأكله ما لم يبت؟ قال: لم أر لمالك حجة ههنا أكثر من أنها السنة عنده، قلت: أرأيت السهم إذا أصبته فيه قد أنفذ مقاتله إلا أنه بات عني لم قال مالك لا يأكله؟ قال: في السهم بعينه سألنا مالكًا أيضًا، إذا بات وقد أنفذ السهم مقاتله، فقال: لا يأكله. قلت: أرأيت إن أرسل كلبه فأخذ الصيد فأكل منه أكثره أو أقله فأصاب بقيته، أياكله في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: يأكله ما لم يبت".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 460)، حيث قال:"وكره الثوري: أكل ذلك".
(4)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"(ص: 686)، حيث قال:"إذا بات الجارح عنه والصيد ثم وجده من الغد مقتولًا لم يأكله، واختلف في السهم، فقيل: إنه كالجارح، وقيل بخلافه".
(5)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (3/ 311)، حيث قال: "ومنهم من قال: معنى النهي إذا لم ينفذ الكلب أو البازي مقاتل الصيد، وأما إذا أدركه من الغد قد =
فِي الْمُدَوَّنَةِ
(1)
: لَا يُؤْكَلُ فِيهِمَا جَمِيعًا إِذَا بَاتَ وَإِنْ وُجِدَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَأْكُلَهُ إِذَا غَابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِذَا تَوَارَى الصَّيْدُ وَالْكَلْبُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَهُ الْمُرْسِلُ مَقْتُولًا، جَازَ أَكْلُهُ مَا لَمْ يَتْرُكِ الْكَلْبُ الطَّلَبَ، فَإِنْ تَرَكَهُ كَرِهْنَا أَكْلَهُ).
أما مذهب أحمد فقد بينا التفصيل فيه.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ اثْنَانِ: الشَّكُّ الْعَارِضُ فِي عَيْنِ الصَّيْدِ أَوْ فِي ذَكَاتِهِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ الآَثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ
(4)
، وَالنَّسَائِيُّ
(5)
، وَالتِّرْمِذِيُّ
(6)
، وَأَبُو دَاوُدَ
(7)
عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ:"كُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ").
= مات وسهمه في مقاتله أو قد أنفذتها كلابه فلا بأس بأكله؛ لأنه قد أمن مما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون قد أعان على قتله بعض هوام الليل، وهذا قول ابن الماجشون".
(1)
تقدم.
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 250)، حيث قال:"وإذا رمى الرجل الصيد أو أرسل عليه بعض المعلمات فتوارى عنه ووجده قتيلًا، فالخبر عن ابن عباس، والقياس: أن لا يأكله من قبل أنه قد يمكن أن يكون قتله غير ما أرسل عليه من دواب الأرض".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 59)، حيث قال:" (ومنها) أن يلحق المرسل أو الرامي الصيد، أو من يقوم مقامه قبل التواري عن عينه، أو قبل انقطاع الطلب منه إذا لم يدرك ذبحه فإن توارى عن عينه وقعد عن طلبه ثم وجده لم يؤكل، فأما إذا لم يتوار عنه أو توارى لكنه لم يقعد عن الطلب حتى وجده يؤكل استحسانًا والقياس أنه لا يؤكل".
(4)
أخرجه مسلم (1931) ولفظه: عن أبي ثعلبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته فكله، ما لم ينتن".
(5)
أخرجه النسائي (4303).
(6)
لم أقف عليه.
(7)
أخرجه أبو داود (2861).
"كل ما لم ينتن": من أنتن ينتن، أي أصابه النتن، يعني: ما لم تمض عليه ثلاثة أيام أو ثلاث ليال، هذا هو المراد من الحديث؛ لأنه إذا أنتن أصبح مضرًا، فلا ينبغي أن يؤكل منه.
قوله: (وَرَوَى مُسْلِمٌ
(1)
عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَغَابَ عَنْكَ مَصْرَعُه، فَكُلْ مَا لَمْ يَبِتْ").
وفي رواية لمسلم: "إذا أرسلت كلبك فغاب عنك ثلاثة أيامٍ"
(2)
.
قوله: (وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا وَجَدْتَ سَهْمَكَ فِيهِ، وَلَمْ تجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَه، فَكُلْ"
(3)
، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّيْدِ يُصَادُ بِالسَّهْمِ أَوْ يُصِيبُهُ الْجَارِح، فَيَسْقُطُ فِي مَاءٍ أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ مَاتَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ
(1)
لم أجده في صحيح مسلم بهذا اللفظ.
(2)
أخرجه مسلم (10/ 1931) عن أبي ثعلبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث:"فكله ما لم ينتن".
(3)
أ خرجه النسائي (4300) وغيره، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إنا أهل الصيد وإن أحدنا يرمي الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين فيبتغي الأثر فيجده ميتًا وسهمه فيه، قال:"إذا وجدت السهم فيه، ولم تجد فيه أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكل" وصححه الألباني في غاية المرام (ص: 52).
(4)
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 538)، حيث قال: "قلت: أرأيت الرجل يرمي الصيد وهو في الجو فيصيبه فيقع إلى الأرض فيدركه ميتا، فينظر فإذا سهمه لم ينفذ مقاتله أيأكله في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يأكله لأنه لا يدري من أي ذلك مات أمن السقطة أم من السهم؟
قال: وقال مالك: وكذلك الصيد يكون في الجبل فيرميه الرجل فيتردى من الجبل فيموت، قال: قال مالك: لا يأكله إلا أن يكون قد أنفذ مقاتله بالرمية".
السَّهْمُ قَدْ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ وَلَا يَشُكَّ أَنَّ مِنْهُ مَاتَ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ
(1)
).
الإمام مالك: لا يرى الأكل منه إلا أن يكون السهم قد نفذ إليه بحيث لا يشك بأنه هو الذي قتله، فإذا تيقَّنا من أن الذي قتله هو السهم يؤكل منه، أما إذا شككنا فلا، مخافة أن يكون قد سقَطَ على جبلٍ وهو بعد لم يمُتْ فتردى من الجبل، فكان موته بسبب التردي، أو أنه سقَط في الماء فأغرقه الماء فمات.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَا يُؤْكَلُ إِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ مَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ، وَيُؤْكَلُ إِنْ تَرَدَّى. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يُؤْكَلُ أَصْلًا إِذَا أُصِيبَتِ الْمَقَاتِل، وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ)
(3)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 58)، حيث قال:(ولو رمى صيدًا فوقع في ماء أو على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض حرم) لقوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} ولما روينا ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: "إذا رميت سَهْمَكَ فاذكر اسم الله عليه، فإن وجدته قد قَتل فَكُلْ إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك " .. ولأنه احتمل موته بغيره، إذ هذه الأشياء مهلكة ويمكن الاحتراز عنها فيحرم، بخلاف ما إذا كان لا يمكن التحرز عنه،
…
وهذا فيما إذا كان فيه حياة مستقرة يحرم بالاتفاق؛ لأن موته مضاف إلى غير الرمي".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(6/ 109)، حيث قال:(أو أصابه سهم) فجرحه جرحًا مؤثرًا (فوقع بأرض) عالية (أو) طرف (جبل ثم سقط منه) في المسألتين، وفيه حياة مستقرة ومات (حرم) الصيد في جميع هذه المسائل".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 379)، حيث قال:" (وإذا رماه، فوقع في ماء، أو تردى من جبل، لم يؤكل) يعني وقع في ماء يفتله مثله، أو تردى ترديًّا يقتله مثله".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 472)، حيث قال:" (أو رمى صيدًا فوقع في ماء) لاحتمال قتله بالماء فتحرم، ولو الطير مائيًّا فوقع فيه، فإن انغمس جرحه فيه حرم وإلا حل ملتقى، (أو وقع على سطح أو جبل فتردى منه إلى الأرض حرم) في المسائل كلها، لأن الاحتراز عن مثل هذا ممكن، (فإن وقع على الأرض ابتداء) إذ الاحتراز عنه غير ممكن، فيحل".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 461)، حيث قال:"قال طاوس: إذا تردى، أو وقع في ماء فلا تأكله. وقال عطاء نحو ذلك".
أبو حنيفة يرى: أنه لو أصيب فسقط على مكانٍ فتردى فإنه يؤكل منه سواء كان قد نفذ السهم منه كما قال مالك أو لم ينفذ في مقاتله، لكن لو وقع في الماء فلا يجوز الأكل منه وإن نفذ السهم إلى مقاتله؛ لأنه يوجد شبهةٌ قوية في أنه قد غرق فلا يجوز الأكل منه، أما الحنابلة: مذهبهم قريبٌ من مذهب مالك، لهم رواية على مذهب
(1)
ورواية أخرى
(2)
لا يؤكل منه، إذا تردى من على جبل أو في الماء فلا يؤكل منه مطلقًا.
قوله: (لإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ زَهُوقُ نَفْسِهِ مِنْ قِبَلِ التَّرَدِّي أَوْ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ زُهُوقِهَا مِنْ قِبَلِ إِنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ. وَأَمَّا مَوْتُهُ مِنْ صَدْمِ الْجَارحِ لَهُ).
يعني: إذا أرسل الجارح لا يخلو إما أن يجرحه بمعنى: أن يفرِيَ أوداجَهُ يقطَعُها، أو أن يخرج غشاءه ففي هذه الحالة يؤكل، أما لو اصطدم به فمات من الصدمة أو مات خوفًا فإنه في هذه الحالة لا يؤكل.
قوله: (فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ مَنَعَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُثَقَّلِ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ
(3)
؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 380)، حيث قال:"وأكثر أصحابنا المتأخرين يقولون: إن كانت الجراحة موحية، مثل أن ذبحه أو أبان حشوته، لم يضر وقوعه في الماء ولا ترديه".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 379 - 380)، حيث قال:" (وإذا رماه، فوقع في ماء، أو تردى من جبل، لم يؤكل) يعني وقع في ماء يقتله مثله، أو تردى ترديًّا يقتله مثله. ولا فرق في قول الخرقي بين كون الجراحة موحية أو غير موحية. هذا المشهور عن أحمد".
(3)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (5/ 776)، حيث قال:"قال ابن القاسم: وكذلك إن مات بضدمها فإنه لا يؤكل، وكذلك إن ضربت الصيد بالسيف حتى مات ولم يقطع فيه لم يؤكل كالعصا، وهذا كله موقوذة عند مالك. ابن المواز: وما علمت أن أحدًا أجاز أكله إلا أشهب، فإنه أجازه إذا مات بالصدمة أو بالنطحة أو بضربة السيف وإن لك تجرح".
وينظر: "المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 684)، حيث قال:"إذا صدمه أو نطحه، فمات منه من غير جرح فعند ابن القاسم لا يؤكل وهو قول أبي حنيفة، وعن أشهب يؤكل وهو أحد قولي الشافعي".
أكثر العلماء يمنعون ذلك
(1)
.
قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا مَاتَ مِنْ خَوْفِ الْجَارحِ أَنَّهُ غَيْرُ مُذَكَّى.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حِينِ الْإِرْسَالِ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِيمَا عَلِمْتُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُوجَدُ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ مَقْدُورًا عَلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ دُونَ خَوْفٍ أَوْ غَرَرٍ؛ إِمَّا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ نَشَبَ فِي شَيْءٍ، أَوْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ، أَوْ رَمَاهُ أَحَدٌ فَكَسَرَ جَنَاحَهُ أَوْ سَاقَهُ).
يعني: إذا أمكن الإمساك بالصيد أو الطائر فكُسر جناحه أو وقع في حبالٍ أو في شراكٍ أو شباك ونحو ذلك، فإن تذكِيَتَهُ هنا متعينة، هذا هو المراد؛ لأنه مقدورٌ على تذكيته.
قوله: (وَفِي هَذَا الْبَابِ فُرُوعٌ كثِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ أَنْ يُوصَفَ فِيهَا الصَّيْدُ بِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، مِثْلَ أَنْ تَضْطَرَّهُ الْكِلَابُ فَيَقَعَ فِي حُفْرَةٍ، فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ: يُؤْكَل، وَقِيلَ: لَا يُؤْكَلُ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْعَقْرِ إِذَا ضُرِبَ الصَّيْد، فَأُبِينَ مِنْهُ عُضْوٌ - فَقَالَ قَوْمٌ: يُؤْكَلُ الصَّيْدُ إلّا مَا بَانَ مِنْه، وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤْكَلَانِ جَمِيعًا)
(3)
.
(1)
تقدَّم قولهم.
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 103)، حيث قال:" (قوله: في حفرة) أي بسبب وقوعه في حفرة، وقوله: كالطاقة. أي يدخل رأسه فيها، وقوله: فلا يؤكل بالعقر. أي بالطعن بحربة مثلًا في غير محل الذكاة، ولا بد من ذكاته بالذبح أو النحر إن كان مما ينحر، وما ذكر من عدم أكل المتردي بالعقْرِ هو المشهور، وقال ابن حبيب يؤكل الحيوان المتردي المعجوز عن ذكاته مطلقًا بقرًا أو غيره بالعقر صيانة للأموال".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 59)، حيث قال: " (وإن رمى صيدًا فقطع عضوًا منه أكل الصيد لا العُضْو)
…
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من بهيمَةٍ، وهي حية فما قطع منها فهو ميتة" .. لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه وكذا حكما؛ لأنه يتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبر هذا القدر من=
هذه المسألة فيها خلاف كبير وتفصيل، فمن العلماء من قال: إذا صوب نحو حيوانٍ، طائرٍ أو حيوان، فقطع منه عضوًا فبعضهم قالوا: يؤكل
= الحياة حتى لو وقع في الماء وفيه قدر هذا من الحياة يحرم بخلاف ما إذا أبين بذكاة الاختيار؛ لأن المبان منه ميت حكمًا
…
(إن قطعه أثلاثًا والأكثر مما يلي العجز أكل كله)؛ لأن المبان منه حي صورة لا حكما إذ لا يتوهم سلامته وبقاؤه حيا بعد هذه الجراحة فوقع ذكاة في الحال فحل كله .. ، وإن ضرب عنق شاة فأبان رأسها تحل لقطع الأوداج ويكره لما فيه من زيادة الألم بإبلاغه النخاع".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 166 - 167)، حيث قال:" (ودون نصف) كيد أو رجل أو جناح (أبين) - أي انفصل من الصيد، أي أبانه الجارح أو السهم ولو حكمًا، كما لو تعلق بيسير جلد - (ميتة) لا يؤكل وأكل ما سواه (إلا أن يحصل به): أي بذلك الدون أي بإبانته (إنفاذ مقتل كالرأس) فليس بميتة فيؤكل كالباقي".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 102 - 103)، حيث قال: " (ولو أبان منه) أي الصيد (عضوًا) كيده (بجرح مذفف) أي مسرع للقتل فمات في الحال (حل العضو والبدن) أي باقيه؛ لأن محل ذكاة الصيد كل البدن (أو) أبان منه عضوًا (بغير) أي بجرح غير (مذفف ثم ذبحه، أو) لم يذبحه بل (جرحه جرحًا آخر مذففًا) ولم يثبته بالجرح الأول فمات (حرم العضو) فقط؛ لأنه أبين من حي (وحل الباقي) لوجود الذكاة
…
فإن كان الجرح الأول مثبتًا بغير ذبحه فلا يجزئ الجرح الثاني؛ لأنه مقدور عليه (فإن لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح) الأول (حل الجميع) العضو والبدن؛
…
(وقيل) وهو المصحح .. (يحرم العضو)؛ لأنه أبين من حي، فأشبه ما لو قطع ألية شاة ثم ذبحها لا تحل الألية وأما باقي البدن فيحل جزمًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 381 - 382)، حيث قال: "وإذا رمى صيدًا، فأبان منه عضوًا، لم يؤكل ما أبان منه ويؤكل ما سواه .. وجملته أنه إذا رمى صيدًا، أو ضربه، فبان بعضه، لم يخل من أحوال ثلاثة؛ أحدهما: أن يقطعه قطعتين، أو يقطع رأسه، فهذا جميعه حلال، سواء كانت القطعتان متساويتين أو متفاوتتين. الحال الثاني: أن يبين منه عضو، وتبقى فيه حياة مستقرة، فالبائن محرم بكل حال، سواء بقي الحيوان حيًّا، أو أدركه فذكاه، أو رماه بسهم آخر فقتله، إلا أنه إن ذكاه حل بكل حال دون ما أبان منه
…
الحال الثالث: أبان منه عضوًا، ولم تبق فيه حياة مستقرة، فهذه التي ذكر الخرقي فيها روايتين؛ أشهرهما عن أحمد، إباحتهما أما إذا كانت البينونة والموت جميعًا، أو بعده بقليل،
…
والرواية الثانية: لا يباح ما بان منه .. كما لو أدركه الصياد وفيه حياة مستقرة".
ما انفصل عنه وما بقي فيه، سواءٌ كان المنفصل أكثر أو أقل، وبعضهم قال: إن كان قد انفصل منه عضوٌ والحياة لا تزال مستقرة في الحيوان ففي هذه الحالة يؤكل الحيوان دون ما انفصل عنه فهذا لا يجوز، وبعضهم: فرق بين النصف أو غيره، فإن كان قد انفصل نصفه وكان من الجهة التي مع الرأس فإنه في هذه الحالة يؤكل أو لا يؤكل، هذه كلها تفصيلات، وأكثر العلماء الذين فرقوا كالشافعية والحنابلة يقولون: إذا كان قد قطع منه عضو ومات الحيوان فيؤكلان جميعًا، لكن لو بقيت الحياة في الحيوان فلا يجوز أكل ما أبين منه.
قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ (1) الْعُضْوُ مَقْتَلًا أَوْ غَيْرَ
(1) مذهب الحنفيَّة، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 59) حيث قال: " (وإنْ رمى صيدًا، فقطع عضوًا منه، أكل الصيد لا العضو)
…
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "ما قطع من بهيمةٍ وهي حية، فما قطع منها فهو ميتة" .. لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه، وكذا حكمًا؛ لأنه يتوهم سلامته بعد هذه الجراحة، ولهذا اعتبر هذا القدر من الحياة حتى لَوْ وقع في الماء وفيه قدر هذا من الحياة يحرم بخلاف ما إذا أُبِينَ بذكاة الاختيار؛ لأن المبان منه ميت حكمًا .. (وإن قطعه أثلاثًا، والأكثر مما يلي العجز أكل كله)؛ لأن المبان منه حي صورةً لا حكمًا، إذ لا يتوهم سلامته وبقاؤه حيًّا بعد هذه الجراحة، فوقع ذكاة في الحال فحل كله .. وإن ضرب عنق شاة، فأبان رأسها، تحل لقطع الأوداج، ويُكْره لما فيه من زيادة الألم بإبلاغه النخاع".
مذهب المالكية، يُنظر "الشرح الصغير" للدردير (2/ 166، 167) حيث قال: " (ودون نصف) كَيَدٍ أو رِجْل أو جناحٍ (أبين) - أي: انفصل من الصيد، أي: أبانه الجارح أو السهم ولو حكمًا كما لو تعلق بيسير جلد - (ميتة) لا يؤكل، وأكل ما سواه (إلا أن يحصل به) أي بذلك الدون أي: بإبانته (إنفاذ مقتل كالرأس)، فلَيْس بميتة، فيؤكل كالباقي".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 102، 103) حيث قال: " (ولو أبان منه) أي الصيد (عضوًا) كَيَده (بجرح مذفف) أي: مسرع للقتل، فمات في الحال (حل العضو والبدن) أي: باقيه؛ لأن محل ذكاة الصيد كل البدن (أو) أبان منه عضوًا (بغير) أي: بجرح غير (مذفف ثم ذبحه، أو) لم يذبحه، بل (جرحه جرحًا آخر مذففًا)، ولم يثبته بالجرح الأول فمات (حرم العضو) ففقط؛ لأنه أبين من حيٍّ (وحل الباقي) لوجود الذكاة .. فإن كان الجرح الأول مثبتًا بغير ذبحه، فلا يجزئ=
مَقْتَلٍ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَقْتَلًا أُكِلَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ أُكِلَ الصَّيْدُ وَلَمْ يُؤْكَلِ الْعُضْوُ).
يعني: قُطع هذا العضو نتيجة إصابته بالسهم فمات الحيوان أُكلا جميعًا، وهذا ما ذكرنا في المذهبين الشافعي والحنبلي، وإن لم يكن كذلك فيؤكل الصيد دون ما أبين منه، وقد جاء في حديث:"ما أُبِينَ من حيٍّ فهو ميت"
(1)
.
قوله: (وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ خِلَافُهُمْ فِي أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ بِنِصْفَيْنِ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكبَرَ مِنَ الثَّانِي، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَا قُطِعَ مِنَ الْبهيمَةِ
= الجرح الثاني؛ لأنه مقدورٌ عليه (فَإِنْ لم يتمكَّن من ذبحه ومات بالجرح) الأول (حل الجميع) العضو والبدن .. (وقيل) وهو المصحح .. (يحرم العضو)؛ لأنه أبين من حيٍّ، فأشبه ما لو قطع ألية شاة ثم ذبحها، لا تحل الألية، وأما باقي البدن فيحل جزمًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 381، 382) حيث قال: " (وإذا رمى صيدًا، فأبان منه عضوًا، لم يؤكل ما أبان منه، ويؤكل ما سواه .. وجملته أنه إذا رمى صيدًا، أو ضربه، فبان بعضه، لم يخل من أحوال ثلاثة؛ أحدها: أن يقطعه قطعتين، أو يقطع رأسه، فهذا جميعه حلال، سواء كانت القطعتان متساويتين أو متفاوتتين. الحال الثاني: أن يبين منه عضو، وتبقى فيه حياة مستقرة، فالبائن محرم بكل حال، سواء بقي الحيوان حيًّا، أو أدركه فذكاه، أو رماه بسهم آخر فقتله إلا أنه إنْ ذكاه حل بكل حالٍ دون ما أبان منه. الحال الثالث: أبًان منه عضوًا، ولم تبقَ فيه حياة مستقرة، فهذه التي ذكر الخرقي فيها روايتان؛ أشهرهما عن أحمد، إباحتهما، أما إذا كانت البينونة والموت جميعًا، أو بعده بقليل
…
والرواية الثانية: لا يباح ما بان منه .. كما لو أدركه الصياد وفيه حياة مستقرة".
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
والذي وقفت عليه أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 138) عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن جبات أسنمة الإبل وأليات الغنم فقال:"ما قطع من حي فهو ميت" وصححه الألباني في صحيح الجامع (8152).
وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ"
(1)
؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، وَلِعُمُومِ قوله تعالى:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]؛ فَمَنْ غَلَّبَ حُكْمَ الصَّيْدِ وَهُوَ الْعَقْرُ مُطْلَقًا قَالَ: يُؤْكَلُ الصَّيْدُ وَالْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الصَّيْدِ، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْإِنْسِيِّ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَحْشِيِّ وَالْإِنْسِيِّ مَعًا، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِالْحَدِيثِ الْعُضْوَ الْمَقْطُوعَ، فَقَالَ: كُلُّ الصَّيْدِ دُونَ الْعُضْوِ الْبَائِنِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ، - أَعْنِي: فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ حَيَّةٌ - فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ مَقْتَلًا أَوْ غَيْرَ مَقْتَلٍ).
الآيتان أطلقتا، والحديث فصَّل وبين ما أُبينَ من الحيوان وما بَقِيَ فلا يؤكل، ما قطع من البهيمة فهو مَيْتٌ، فهل القصد من ذلك مطلقًا أم أنه خاصٌ بغير حالة الصيد.
[الْبَابُ الرَّابعُ فِي شُرُوطِ الْقَانِصِ]
(2)
المؤلف انتقل إلى الصائد نفسه وهو الإنسان الذي يرسل الآلة أو يرسل الجارح، الذي يعرف بالصائد أو القانص، الذي يتتبع قنص الحيوانات أو الذي يتتبع الصيد، أي: يجري وراء الصيد، وقد ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب "كتاب الصيد" أن الصيد مما يُفتتن به الإنسان، فكم من
(1)
أخرجه أبو داود (2858) وغيره، عن أبي واقد الليثي. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5652).
(2)
القانص: الصائد. وكذلك القنيص والقناص. والقنيص أيضًا: الصيد.
انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1054).
أناسٍ أمضوا أوقاتهم في تتبع الصيد، وربما تمضي عليه ساعات النهار وهو ينتقل من مكان إلى مكان فلا يدري إلا وقد قامت عليه الشمس، وجاء في الأثر:"من تَتَبَّعَ الصيدَ فُتِنَ" وهذا يعرفه الذين اشتغلوا بالصيد، فإنه يأخذ أوقاتهم، وهذا قد عرف عن العرب منذ أيام الجاهلية، فكانوا يذهبون وراء الصيد فتعلقوا به، وتعلقت نفوسهم به حتى ذكروه كثيرًا في أشعارهم وامتدحوه وتمجدوا به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَشُرُوطُ الْقَانِصِ هِىَ شُرُوطُ الذَّابِحِ نَفْسِهِ).
ما هي شروط الذابح؟ والجواب:
أولًا: أن يكون غيرَ مجوسِيٍّ أو وثني.
ثانيًا: وألَّا يكون مجنونًا.
ثالثًا: مكلفًا، أيَّ: عالمًا بحكم ذلك.
أن يكون مسلمًا أو كتابيًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في أهل الكتاب: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] والمراد بالطعام هنا إنما هي الذبائح والصيد.
فلا بد أن تتوفر في الصائد الشروط التي تتوفر في الذابح، وأن يذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وأن يقصد الصيد.
قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا).
قصد المؤلف: أن هناك شروطًا متفقًا عليها، وهناك شروطٌ مختلفٌ فيها، فمن الشروط المتفق عليها ألا يكون الذابح مجوسِيًّا ولا وثنيًا وكذلك لا يكون مجنونًا، لكن الصبي مختلفٌ فيه
(1)
،
(1)
مذهب الحنفية ينظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 297)، حيث قال: "قال =
والمرأة
(1)
، والصحيح جواز ذبح الصبي إذا كان مدركًا وكذلك المرأة، وقد مر بنا قصة المرأة التي كانت ترعى غنمًا لسيدها في سلع، في مكان قريب يعرف بالعطن، فرأت شاةً قد أدركها الموت فكسرت حجرًا فذبحتها، فأذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قال:"فكُلوا إن شئتم"
(2)
.
قوله: (وَيَخُصُّ الاصْطِيَادَ فِي الْبَرِّ شَرْطٌ زَائِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحْرِمًا)
(3)
.
فهناك فرق بين صيد البر وصيد البحر بالنسبة للقانص، فالله سبحانه وتعالى يقول:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] إذن الشرط الزائد هو ألا يكون محرِمًا، أي: متلبسًا بالإحرام حاجًا أو معتمرًا، ألّا يكون في مكان يمنع فيه الصيد كالبلد الحرام أو المدينة.
= في الجوهرة: لا تؤكل ذبيحة الصبي الذي لا يعقل والمجنون والسكران الذي لا يعقل اهـ شرنبلالية، لكن في التبيين: ولو سمى ولم تحضره النية صح".
مذهب المالكية ينظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 9)، حيث قال:"واحترز بالمميز من غيره فإن صيده لا يصح لعدم النية كالسكران والمجنون والصبي الذي لا يعقل، وأما المرأة والصبي الذي يميز فإنه يصح صيدهما من غير كراهة كذكاتهما وهو المشهور، وإضافة جرح لمسلم من إضافة المصدر لفاعله ونسبة الجرح للمسلم لكون الحيوان آلة كالسهم".
مذهب الحنابلة ينظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 402)، حيث قال:(وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال، إذا سموا، أو نسوا التسمية) وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب، إذا ذبح، حل أكل ذبيحته، رجلًا كان أو امرأة، بالغًا أو صبيًّا، حرًّا كان أو عبدًا، لا نعلم في هذا خلافًا".
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 432)، حيث قال:"أجمع عوام أهل العلم الذين حفظنا عنهم على إباحة أكل ذبيحة الصبي والمرأة، إذا أطاقا الذبح".
(2)
أخرجه البخاري (2304) عن كعب بن مالك، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتًا، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله، وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك، أو أرسل، "فأمره بأكلها".
(3)
قال ابن قدامة: "لا خلاف بين أهل العلم، في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم"، (المغني)(3/ 288)، وانظر:"الإجماع" لابن المنذر (ص: 52).
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ؛ لِقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، فَإِنِ اصْطَادَ مُحْرِمٌ فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ الصَّيْدُ لِلْحَلَالِ؟ أَمْ هُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَصْلًا؟).
هذه المسألة مرت بِنَا وعرفنا أنه لا يجوز للمسلم إذا أحْرَمَ أن يصيد؛ لأن هذا من محظورَات الإحرام التسع، فليس له أن يصيد ولا أن يُعاوِنَ على الصيد بإشارةٍ أو غيرها، لكن الكلام هنا بالنسبة للصائد المحرم لو صاد حيوانًا، فما الحكم؟ والجواب: لا يجوز له أن يأكل منه باتفاق العلماء
(1)
، لكن هل لغيره أن يأكل منه؟ من العلماء من قال: هو بمثابة الميتة، والميتة لا يجوز الأكل منها إلا في حالة الضرورة، والعلماء انقسموا إلى قسمين: الأول: مالكٌ
(2)
وأحمد
(3)
في جانب.
الثاني: أبو حنيفة
(4)
والشافعي
(5)
في جانبٍ آخر، علمًا بوجود خلاف في المذهب الشافعي.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 260)، حيث قال:" [واتفقوا] على أنه لا يحل للمحرم أن (يقصد) فيقتل شيئًا مما يؤكل من الصيد البري بين الحرم، ولا ما دام محرمًا".
(2)
انظر: "جامع الأمهات"، لابن الحاجب (ص: 209)، حيث قال:"وما صاد المحرم أو ذبحه فكالميتة للحلال والحرام".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 545)، حيث قال:" (وإن أمسكه) أي الصيد (محرمًا) بالحرم أو الحل، (أو) أمسكه (حلالًا بالحرم فذبحه المحرم ولو بعد حله) من إحرامه، (أو) ذبحه ممسكه بالحرم ولو بعد (إخراجه من الحرام إلى الحل ضمنه)، لأنه تلف بسبب كان في إحرامه أو في الحرم، كما لو جرحه فمات بعد حله أو بعد خروجه من الحرم، (وكان ما ذبح لغير حاجة أكله ميتة) نصًّا".
(4)
الأحناف مع المالكية والحنابلة من أنها ميتة.
يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 169)، حيث قال:"وإذا ذبح المحرم صيدًا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها" .. لنا أن الذكاة فعل مشروع وهذا فعل حرام فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي".
(5)
يُنظر: "البيان" للعمراني (4/ 181)، حيث قال: "إذا ذبح المحرم صيدًا .. لم يحل له=
قوله: (اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاء، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ
(1)
، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(4)
إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ أَكْلُه، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُور، وَهُوَ هَلِ النَّهْيُ يَعُودُ بِفَسَادِ الْمَنْهِيِّ؟ أَمْ لَا؟
(5)
وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ).
= أكله؛ لأنه إذا لم يحل له أكل ما صيد له .. فلأن لا يحل له أكل ما ذبحه أولى، وهل يحل لغيره؟ فيه قولان: الأول: قال في القديم: (يحل)؛ لأن كل من حل بذكاته غير الصيد .. حل بذكاته الصيد، كالحلال والذمي، وعكسه المجوسي. والثاني: قال في الجديد: (لا يحل) لأنها ذكاة ممنوع منها، لحق الله تعالى، فلم يبح الأكل، كذكاة المجوسي وفيه احتراز من ذبح شاة الغير بغير إذنه
…
فإنه ممنوع منها؛ لحق مالكها. وانظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 517).
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 78)، حيث قال: " (قوله: أو في الحرم) أي: أو صاده حلال في الحرم. (قوله: فمات بصيده) راجع لكل من صيد المحرم ولما صاده الحلال في الحرم
…
محرم. (قوله: ولو بإشارة) أي أو مناولة سوط. (قوله: أو صيد له) أي لأجله صاده حلال، أو حرام كان المحرم الذي صيد لأجله معيَّنًا أو غير معين بأمره أو بغير أمره ليباع له .. (قوله: وذبح حال إحرامه) أي سواء أكل المحرم منه شيئًا أو لا، واحترز بقوله وذبح حال إحرامه عما إذا ذبح بعده فإنه يكره أكله فقط كما في ح، بخلاف ما صاده فإنه ميتة ولو ذبح بعد إحلاله كما مر. (قوله: أو ذبحه حلال إلخ) عطف على قوله: (أو صيد له) أي أو ذبحه حلال ليضيف به محرمًا .. (قوله: ميتة) أي حكمه حكم الميتة وقوله: (على كل أحد) أي بالنسبة لكل أحد فلا يجوز أكله لحلال ولا لمحرم".
(2)
للشافعية قولان والجديد على الحرمة، كما سيأتي.
(3)
الأحناف قالوا بحرمتها أيضًا كما سيأتي.
(4)
يُنظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 197)، حيث قال:"وكافة العلماء على أن ما قتله المحرم من الصيد أو ذبحه خطأ أو عمدًا أو ابتدأ أو عودًا فهو سواء في الجزاء والإثم، إلا الخاطئ فلا إثم عليه، وأن الصيد في كل هذا لا يؤكل وهو بمنزلة الميتة، وذهب الحسن وسفيان، وأبو ثور، والحكم في آخرين أنه يؤكل بمنزلة ذبيحة السارق".
(5)
يُنظر: "اللمع في أصول الفقه" للشيرازي (ص 25) حيث قال: "النهي يدل على فساد المنهي عنه في قول أكثر أصحابنا، كما يدل الأمر على أجزاء المأمور به، ثم اختلف هؤلاء، فمنهم مَنْ قال: يقتضي الفساد من جهة الوضع في اللغة، ومنهم مَنْ قال: يقتضي الفساد من جهة الشرع. ومن أصحابنا مَنْ قال: النهي لا يدل على=
العلماء قسموا الحقوق عدة أقسام:
أولًا: هناك حقٌّ خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يشركه معه أحدٌ من الخلق، وذلك في عبادة الله سبحانه وتعالى؛ لأن العبادة هي لله وحده، وقد كان المشركين يقرون بأن هناك رَبًّا كما قال الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85]، والآيات في ذلك كثيرة فهم يعرفون توحيد الربوبية لكنهم لا يُقِرُّون بتوحيد الألوهية فهم يعبدون مع الله غيره، وقالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، لكن عندما تشتدُّ بهم الأهوال وتَنْسَدُّ أمامهم المسالك، وتغلق أمامهم الدنيا وتحيط بهم العواصف من كل مكان، يدركون حينئذٍ بأنه ليس هناك إلا إلهٌ واحد، ألا وهو الله سبحانه وتعالى كما قال الله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت:65]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)} [الأنعام: 63 - 64]، وكانوا يدركون تمامًا أن الله واحدٌ لا شريك له، لكنهم يتخذون تلك الأصنام وتلك الأوثان ومن يتخذونهم معبودات، يجعلونهم وسطاء بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، فلم ينفعهم توحيدُ الربوبية ولذلك وقعوا في الشرك، إذن: العبادة أمرٌ خاصٌّ لله سبحانه وتعالى كما قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [لبينة: 5]، وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14 - 15] هذه العبادة خاصةٌ لله سبحانه وتعالى.
ثانيًا: هناك حقوقٌ مشتركة بين الخالق والمخلوق، بمعنى: أن للخالق حقًّا فيها وللمخلوق، ولكن في الحدود، ولنأخذ مثلًا حد القذف،
= الفساد، وحُكِيَ عن الشافعي .. وهو قول طائفةٍ من أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتكلمين".
فلو أن إنسانًا قَذَفَ إنسانًا، بأن رماه بأحد والديه أو قذفه بكلمةٍ قبيحة تؤثر فيه ففي هذه الحالة قد تعدى على هذا الإنسان، ويستحق في هذه الحالة أن يجلد حد القذف ثمانين جلدة، وفي نفس الوقت هناك حقٌّ خاصٌّ لله سبحانه وتعالى وهو إقامة الحد عليه، وكذلك الحال بالنسبة لحد السرقة والزِّنا، وكذلك أيضًا القصاص، وحدُّ البغاة، والمحاربين، فهذه الحدود فيها حقوق لله سبحانه وتعالى وحقوق للمعتدى عليه.
ثالثًا: هناك حقٌّ خاصٌّ بالمخلوق، وهو حق الإنسان في أن يتصرف في ملكه، في بيته، في أمواله إلى غير ذلك.
فالذي حرم عليك الصيدَ ما دُمْت محرِمًا، هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وقال تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]؛ لأنه حق لله سبحانه وتعالى، فمن يعتدي على ذلك تعدَّى على حق الله سبحانه وتعالى وانتهكه، ويقول المالكية والحنابلة: من يقتل صيدًا وهو حُرُم، فإن الصيد ميتة لا يجوز له أن يأكل منه ولا أن يأكل منه غيره.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي كلْبِ الْمَجُوسِ الْمُعَلَّمِ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: الاصْطِيَادُ بِهِ جَائِزٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ الصَّائِدُ لَا الْآلَةُ).
العلماء قاسوا ذلك على ذكاة المجوسي فقالوا: إنها بمثابة الميتة لا يجوز الأكل منها؛ لأنه حرم عليك الصيد ما دمت مُحْرِمًا، وهذا رأي المالكية والحنابلة
(2)
،
(1)
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 536)، حيث قال:"قلت: أرأيت كلب المجوسي إذا علمه المجوسي فأخذه مسلم وأرسله، أيأكل ما قتل؟ قال: نعم، قلت: وهذا قول مالك؟ ". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 919).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 376)، حيث قال:"وإن صاد المسلم، بكلب المجوسي، فقتل، حل صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحكم، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي".
أما الحنفية
(1)
والشافعية
(2)
: يخالفون في ذلك، مع أن مذهب الشافعية ليس على إطلاقه كما ذكر المؤلف، ولننتبه إلى أن هناك فرقًا بين أن يرسل إنسانٌ صيده كلبه المعلَّم فيشاركه كلب مجوسي، فلا يجوز الأكل من الذبيحة؛ لأنه لا يجوز لك أن تأكل من صيدِ المجوسِيِّ؛ ولأنه لا بد فيه من القَصد ومن التسمية، والمجوسي لا يصح منه شيء من ذلك، واستثني من ذلك أهل الكتاب، لكن هناك صورة أخرى لو أن مجوسِيًّا علَّم كلبَهُ فَوَهَبَه لمسلمٍ فصاد به، هل يجوز الصيد به أم لا؟ الجواب: أكثر العلماء يجيزون ذلك وهو الصحيح، ومن العلماء: من منع والخلاف يدور حول قول الله سبحانه وتعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، فهنا الخطاب للمسلمين، فمن قصر النص على ظاهره قال: لا يجوز أن تصيدَ بكلبِ مَجُوسي، وإن صدت فلا يجوز لك أن تأكل منه؛ لأن الله - تعالى - قيد ذلك بقوله:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] وهذا لم تعلمه أنت، وإنما علمه غيرك، والذي علَّمه لا يجوز أن تؤكل ذبيحته ولا صيده، فلا يجوز أن تأكل منه، لكن الجواب أن هذه آلة، وفرق بين الصائد وبين آلته، فلو أخذت سِكِّينًا من مجوسي وذبحت بها لجازت هذه الذبيحة، إذن هذه بمثابة آلة أو هي آلة فلا يُلحق الحكم بالصائد نفسه.
قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ
(3)
وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، وَالْحَسَن، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
).
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (11/ 245)، حيث قال:" (ولا بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي المعلم وبازيه، كما يذبح بسكينه)؛ لأن المعتبر في الآلة أن تكون جارحًا، فلا يختلف ذلك بكون مالكه مجوسيًّا أو مسلمًا، والشرط يقترن بالفعل والفاعل في الذبح والاصطياد، والمسلم هو من أهل إيجاد هذا الشرط".
(2)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 101)، حيث قال:"ولا خلاف عندنا أنه يحلُّ ما اصطاده المسلم بكلب المجوسي، كما لو ذبح بسكينته أو رمى بسهمه أو قوسه".
(3)
وهو مذهب الحنابلة ينظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 376)، حيث قال:"وإن صاد المسلم، بكلب المجوسي، فقتل، حل صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحكم، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 450)، حيث قال: "فكرهت =
كرهوا ذلك كراهة تنزيه، لكن الصحيح أنه حيوان ومدَرَّبٌ فلا فرق بينه وبين غيره.
قوله: (لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]- مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الْمُؤْمِنِينَ).
فالخطاب للمسلمين، فمن قَصَرَ النصَّ على ظاهره قال: لا يجوز أن تصيد بكلب مجوسي، وإن صِدْتَ، فلا يجوز لك أن تأكل منه؛ لأنَّ الله تعالى قيَّد ذلك بقوله:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، وهذا لم تُعلِّمه أنت، وإنما علَّمه غيرك، والذي علَّمه لا يجوز أن تأكل ذبيحته، ولا صيده، كذلك لا يجوز أن تأكل منه، لكن الجواب: أن هذه آلة، وفرق بين الصائد وبين آلته، فلو أخذت سكينًا من مجوسي، وذبحت بها، لجازت أيضًا هذه الذبيحة، إذًا هذه بمثابة آلة، فلا يلحق الحُكْم بالصائد نفسه.
قوله: (وَهَذَا كَافٍ بِحَسَبِ الْمَقصُودِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ).
بعد أن ذكر لنا جملة من أحكام الصيد، وقصر مباحثه على قواعده وأساسياته بيَّن أن هذا كافٍ، فكأنه يقول: وضعت في هذا الكتاب أمهات المسائل وقواعده، ومن أراد تتبع الفروع والسير خلف الجزئيات، فعليه أن يقرأ في غير هذا الكتاب من الكتب المطولة التي تعنى بتلك الفروع.
وفي الختام: الصيدُ نعمةٌ من نعم الله سبحانه وتعالى، فساقه لنا كغيره مما تفضل علينا، ولَا ينبغي للمسلم أن يؤذي الصيد، أو يجور فيه، أو يتعدَّى عليه دون أن تكون له حاجة، وقد ذكرنا حديثًا في هذا المقال:"ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقه بغير حقها إلا سأله الله تعالى عنها يوم القيامة"، قيل: وما حقها؟ قال: "تذبحها فتأكلها لا أن تقطع رأسها وترميها"
(1)
.
= طائفة: أن يصطاد بكلب المجوسي، وممن روي عنه أنه كَرِه ذلك: جابر بن عبد الله، والحسن البصري، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وإسحاق".
(1)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(4/ 489) وغيره، عن عبد الله بن عمروٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم =
وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه نهى عن صبر البهائم
(1)
، يعني: أن تأتي بالطير أو البهيمة فتضعه في مكانٍ، فتتعلم عليه الصيد، وقد مر عبد الله بن عمر الصحابي الجليل على نفرٍ من قريش وهم يَفْعَلون ذلك، فتَفرَّقوا مبتعدين، فأنكر عليهم ذلك، وأورد نَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
عن ذلك.
إذن، لا ينبغي حقيقةً للمسلم أن يؤذي حيوانًا، وأخرج مسلم وغيره:"إنَّ اللهَ كَتَب الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"
(3)
، و"في كل ذات كبد رطبة
(4)
أجر"
(5)
.
إذن، لا ينبغي التجاوز في أمرٍ من الأمور، فينبغي للإنسان حقيقةً ألَّا يؤذي حيوانًا أو طيرًا.
= قال: "مَا من إنْسَانٍ يقتل عصفورًا، فما فوقها بغير حقِّها إلا سأله الله عنها"، قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال:"يذبحها فيأكللها، ولا يقطع رأسها، فيرمي بها"، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في "غاية المرام"(ص 49).
(1)
أخرجه البخاري (5513) ومسلم (1956) عن هشام بن زيد قال: دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب، فرأى غلمانًا، أو فتيانًا، نصبوا دجاجةً يرمونها، فقال أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُصْبر البهائم.
قال الصَّنْعَانيُّ في "سبل السلام"(2/ 524): "ووجه حكمة النهي أن فيه إيلامًا للحيوان، وتضييعًا لماليته، وتفويتًا لذكاته إن كان مما يذكى، ولمنفعته إن كان غير مذكى".
(2)
أخرجه البخاري (5515)، واللفظ له، ومسلم (958/ 59)، عن سعيد بن جبير، قال: كنت عند ابن عمر، فمروا بفتية، أو بنفر، نصبوا دجاجةً يرمونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، وقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَن من فعل هذا.
(3)
أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته".
(4)
"رطبة": حية؛ لأن الميت إذا مات جفت جوارحه، والحي يحتاج إلى ترطيب كبده من العطش. انظر:"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 288).
(5)
أخرجه البخاري (2363) ومسلم (2244)، وفيه:
…
وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".
[كِتَابُ الْعَقِيقَة
(1)
]
مَن يتتبع مسائل الفقه الإسلامي، ويُقَلِّب النظر في مباحثه يجد أن هناك أحكامًا اختص بها الذكور، وأحكامًا اختصت بها الإناث، وفي باب
(1)
العقيقة: الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه، وأصل العَقِّ، الشقُّ: فقيل: سميت هذه الشاة عقيقة؛ لأنها يشق حلقها: وقيل: سميت باسم الشعر الذي على رأس الغلام، وهو أنسب من الأول. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 245).
الحنفية ليس في مذهبهم تعريف لها لأن حكمها عندهم مختلف بحسب اختلاف الروايات ما بين أنها تطوع وأنها مباحة وأنها منسوخة يكره فعلها!
عرفها المالكية قال ابن عرفة [العقيقة ما تقرب بذكاته من جذع ضأن أو ثني سائر الأنعام سليمًا من عيب مشروطًا بكونه في نهار سابع ولادة آدمي حي]"المختصر الفقهي"(2/ 361).
عرفه الشافعية قال النووي: "العقيقة مشتقة من العق وهو القطع قال الأزهري في التهذيب قال أبو عبيد قال الأصمعي وغيره العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الولد حين يولد وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه في ذلك الوقت عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح"" (المجموع شرح المهذب"(8/ 428).
عرفها الحنابلة قال البهوتي: العقيقة وهي النسيكة وهي التي تذبح عن المولود
…
وقيل: العقيقة: الطعام الذي يصنع ويدعى إليه من أجل المولود" انظر: "كشاف القناع" (3/ 24).
العقيقة نجد - أيضًا - مسألة اختص بها الذكور دون الإناث؛ فإنه يُذبح عن الغلام شاتان مُتماثلتان، ويُذبح عن الجارية - أي: المولودة - شاة واحدة.
العقيقة
(1)
هي: التي تذبح عن المولود ذكرًا كان أو أنثى، وقد ثبتَتْ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءت فيها أحاديث صحيحة، كذلك في هذا الباب يذكرُ العلماءُ تسميةَ الغلام والجارية عند الولادة، وهل هناك وقت محدد لذبح هذه العقيقة؟ وهل هناك فرقٌ بين الذكر والأنثى؟ من يتتبَّعْ مسائل الفقه الإسلامي ويقلب النظر في مباحثه يجد أن هناك أحكامًا اختُصر بها الرجال دون النساء، وأحكامًا اختُصَّتْ بها النساء، وفي باب العقيقة نجد مسألةً اختص بها الرجال دون النساء، فإنه:"يذبحُ عن الغلام شَاتانِ متَماثِلَتَان، ويُذْبَحُ عن الجارية شاةٌ واحدة"
(2)
، وعادة يرد في الأحاديث ذِكْر الشاة، ويدخل في ذلك الكبش ونحوه، فهنا نريد أن نعرف ما معنى العقيقة، تأتي من مصدر عَقَّ يعُقُّ أو يعِق، وهو ما يعرف بالعقوق ومن ذلك عقوق الوالدين، فكل إنسانٍ يقطع صلته بوالديه، لا يبرهما، يتنكَّر لجَمِيلِهِمَا، يعتبر عاقًّا
(3)
، وهذه من أشنع الأمور التي يرتكبها المسلم نحو والديه، وكثيرًا ما نسمع عن الحوادث في هذا الزمان، فمنذ زمن ليس بالبعيد كان يستَحِي الغلام أو الابن أن ينظر في وجْه والده تأدُّبًا وإكرامًا وإجلالًا لوالده، لا يرفع صوته ووالده في المجلس، لا يتكلم ووالده في المجلس إلا إذا أشار إليه، لا يسبقه في حديثٍ ولا مِشْيةٍ ولا في أي شيء، يخفض له الجناح، يذل له، يكرمه، لأنه هو السبب بعد الله سبحانه وتعالى في الدنيا.
(1)
العقيقة: الذَّبيحة التي تُذبح عن المولود يوم سابعه، وأصل العق: الشق، فقيل: سُمِّيت هذه الشاة عقيقة؛ لأنها يشق حلقها. وقيل: سُمِّيت باسم الشعر الذي على رأس الغلام، وهو أنسب من الأول. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 245).
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
يقال: عق الولد أباه عقوقًا من باب قعد، إذا عصاه وترك الإحسان إليه فهو عاق، والجمع عققة. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (2/ 422).
يقولون الزمان به فسادُ
…
وهم فسدوا وما فَسَدَ الزَّمان
(1)
لكن الأحوال قد تغيَّرَتْ وتبدَّلَتْ، وكلنا نسمع عن المصائب، فهذا ابنٌ قد يعتدي على والده بالضَّرْب، وذاك بالشتم، وأشنع من ذلك وأخطر أن يقتله، فهل هناك بعد الشرك مصيبة أكبر من هذه المصيبة، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية، هذا كله إنما هو بسبب البُعْدِ عن عبادة الله سبحانه وتعالى. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إياكم ومُحْدَثاتُ الأمورِ، فإن كلَّ مُحدَثةٍ بِدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النار"
(2)
إذن المراد بالعقيقة هي: الذبيحة التي تذبح عن الغلام أو الجارية، ومن أهل اللغة من يقول: إن الأصل في العقيقة هو هذا الشَّعْرُ الذي يولد المولود وقد نبت على رأسِهِ
(3)
، فإنه يحلق برفق، فقالوا: هذا من باب تسمية الشيء بسببه أو بمجاوره، هكذا يقولون، وبعض العلماء أنكروا ذلك وقالوا: إن المقصود أصلًا بالعقيقة هي الذبيحة كما جاء في الحديث: "كلُّ مولودٌ مرتَهَنٌ بعقيقتِهِ"
(4)
أي: محبوسٌ
(5)
بعقيقته، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم "قد عَقَّ عن الحسنِ والحُسَين، وحلق شَعْرَهُما، وتصدق بوزنه ورِقًا
(6)
"
(7)
أي: فضة
(8)
، هذه كله يحتاج
(1)
ينسب لأبي مياس الشاعر: انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 188).
(2)
أخرجه أبو داود (4607)، وصححه الألباني في "المشكاة"(165).
(3)
تقدم.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير (7/ 224)، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كل مولود مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق". والحسن مدلس لكن ثبت سماعه من سمرة في حديث العقيقة، لذا صححه الألباني في:"إرواء الغليل"(1165).
(5)
قال ابن منظور: "معناه أن أباه يحرم شفاعة ولده إذا لم يعق عنه". ينظر: "لسان العرب"(10/ 258).
(6)
الورق: الدرهم المضروبة، وكذلك الرقة. "الصحاح" للجوهري (4/ 1564).
(7)
أخرجه أبو داود (2841)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1164).
(8)
أخرجه الترمذي (1519) ولفظه: "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن بشاة وقال: "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة" قال: فوزنته فكان وزنه درهمًا أو بعض درهم". وحسنه الألباني في الإرواء (1175).
إلى وقفات، وإذا تأملنا في العقيقة نجد أنها تجوز هذه الذبيحة، ولكن هناك من يجعلها قربانًا لآلهته، فمن يذبح لغير الله فقد أشركَ شِرْكًا أكبر، ومن يذبح لله فهذه قربةٌ لله، فإذا رزق الله سبحانه وتعالى الإنسان بمولود ذكرًا أو أنثى، فإنه يُدخِلُ عليه البهجة والسرور والفرحة؛ لأن كل إنسان في هذه الحياة يسعد بأن يوفقه الله سبحانه وتعالى بعددٍ من البنين والبنات، ولا يدرى أين الخير فيه، ولا ينبغي أن يكون المسلم كما قال الله في شأن الجاهليين:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} [النحل: 58]، فهذه الشاة التي تذبحها أو الكبش، أولًا: اعترافًا بفضل الله سبحانه وتعالى عليك؛ لأنه أنعم عليك بهذا المولود أو المولودة، والله - تعالى - يقول:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، فهذه فرحة وسرور وبهجة بأن الله سبحانه وتعالى يهب لك غلامًا أو جارية، فتقابل ذلك بأن تذبح هذه الذبيحة لتكون ذلك قربانًا تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وأضرب مثالًا: الإنسان إذا ذهب حاجًّا أو معتمرًا، يطوف بالبيت العتيق، أليس هذا البيت يبنى من حجر ومن غيره، فالله سبحانه وتعالى جعل الطواف بالبيت فرضًا من فروض الإسلام، فرضًا من فروض الحج، وجعل الطواف بالقبور شركًا أكبر لا يجوز للإنسان أن يفعله، فالعبادات توقيفية لا يجوز للمسلم أن يخترع من عند نفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار"
(1)
ويقول صلى الله عليه وسلم: "من عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(2)
فكل والد في هذه الحياة أبًا كان أو أُمًّا تكون سعادته بسعادة أولاده، فهو يسعد بسعادتهما ويشقى بشقاوتهما، يسهر الليل من أجلهما ويبذل ذوبُ قلبه وطاقة جِسْمه، في جمع المال للإنفاق عليهما، وأذكركم بقصة هاجر مع ابنها إسماعيل عليهما السلام، عندما كان نبِيُّ الله إبراهيم الخليل عليه السلام أتى بطفله الرضيع وبزوجته هاجر ثم يتركهما بواد غير ذي زرع، ليس فيه إنسان ولا نبات ولا حيوان، تركهما في ذلك
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (1718).
المكان الموحش، ثم يدير ظهره راجعًا وتلحق به زوجه هاجر وتقول له: لمن تتركنا، فلا يجيبها في بعض الروايات، ثم تسأله:"آلله أمرك بذلك؟ فيقول: نعم، فتقول: إذن لا يُضيِّعُنا"
(1)
، لكن لماذا وضعهما في هذا المكان؟ والجواب: لأنه يعلم أن هناك عناية أعظم من عِنَايتِهِ كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]، فقالت المرأة المؤمنة: إذن لا يُضِيِّعُنا فما دام أن الله - تعالى - هو الذي أمرك بذلك، فإنما أمرك بذلك لسبب ولحكمة لا بُدَّ من أن تتحقق، وقد تحققت عندما تفجر عين زمزم وعندما بني البيت العتيق، إذن لنعلم أن من كان الله سبحانه وتعالى معه فلا ينبغي أن يبالي بأيِّ أمرٍ من الأمور، هذا هو شأن الله عز وجل مع رُسُلِهِ ومع عباده المؤمنين فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، فينفذ الماء والتمر، وتذهب إلى الصفا ثم تمشي في الوادي ثم يكاد قلبها يتقطع ويتمزق من اللوعة والحزن على هذا الطفل الرضيع، نسيت نفسها، فلنتدبر جيِّدًا إن كانت قد حصلت منا قطيعة أو تقصيرًا في حق الوالدين، "فالجنة تحت أقدام الأمهات"
(2)
، والله سبحانه وتعالى قد قرن طاعتهما بطاعته، وهما السبب في إيجادك بعد الله سبحانه وتعالى، وما عليك إلا أن تشكرهما وأن تؤدي حقوق الله سبحانه وتعالى
(1)
أخرجه البخاري (3364) عن ابن عباس قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتَعْفِيَ أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة، فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت
…
".
(2)
معنى حديث أخرجه النسائي (3104) عن معاوية بن جاهمة، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستَشِيرُك، فقال:"هل لك من أم؟ " قال: نعم، قال:"فالزمها، فإن الجنة تحت رِجْلَيها". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1199).
نحوهما، وإن السعادة كل السعادة، والفوز كل الفوز، والظفر كل الظفر، أن يوفقك الله سبحانه وتعالى بأن تدركهما أو تدرك أحدًا منهما فتبرهما.
قال المصنف رحمه الله: (وَالْقَوْلُ الْمُحِيطُ بِأُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ يَنْحَصِرُ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِه، وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّهَا، وَالثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُعَقُّ عَنْهُ وَكَمْ يُعَقُّ، الرَّابعُ: فِي مَعْرِفَةِ وَقْتِ هَذَا النُّسُكِ).
هذه مقدمة ذَكَرَها المؤلف في مطلَعِ حديثِهِ كعادتِهِ في تقسيمِهِ البديعِ، فإنه حصرَ المسائل التي سيتكلم عنها في أمورٍ أربعة ذكرها مجمَلَةً ثم سيأتي عليها بشيء من التفصيل
(1)
، فالعقيقة إنما هي نتيجةٌ بفضل الله سبحانه وتعالى على عبدِهِ، الذي يهبه سبحانه وتعالى ذَكرًا أو أنثى، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، فالعقيقة التي تذبح تكون شُكْرًا للهِ سبحانه وتعالى على إنعامه وإحسانه وتفضله بأن يرزق الإنسان ولدًا أو مولودًا ذكرًا كان أو أنثى، ثم هي في ذلك الأمر قربةٌ لله يتقرب بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ويُستفاد باللَّحْمِ، فكم من نُفُوسٍ تشتاق إلى اللحم، وربما تمر بها الأيام والأشهر دون أن تذوقه، فيكون ذلك سببًا في إطعام بعض الناس، ممن هم بحاجة إلى ذلك، أو أنها أيضًا تطبخ فيأكل منها الأهل والصديق والفقير، فهذه كلها فوائد مجتمعة تأتي بسبب العقيقة.
* قولُهُ: (الْخَامِسُ: فِي سِنِّ هَذَا النُّسُكِ وَصِفَتِهِ، السَّادِسُ: فِي حُكْمِ لَحْمِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا).
هذه أمور ستة ذكرها المؤلف سيبدأ بها وسنأخذها واحدًا واحدًا،
(1)
وقد عرفنا أن هذه العقيقة تأتي نتيجة بفضلٍ الله سبحانه وتعالى على عبده الذي يهبه سبحانه وتعالى ذكرًا أو أنثى، فإن الله سبحانه وتعالى يهب من يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، فهذه هي حكمة الله سبحانه وتعالى، والإنسان لا يدري الخير أين يكون، لكنَّ عادةَ الإنسان دائمًا أنَّه يُسرُّ أكثر عندما يُولدُ له مولودٌ، ومن هنا نشأ الخلاف بين العلماء في بعض مسائل هذا الباب.
والمؤلف أوجز في هذا الكتاب فهو يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل، وبخاصة ما يتعلق بالأسماء، وكذلك هناك مسائل لم يتعرض لها المؤلف، فنحاول إن شاء الله أن نأخذ شيئًا نزيد به على ما في الكتاب مما نرى أن فيه فائدة.
* قولُهُ: (فَأَمَّا حُكْمُهَا: فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ)
(1)
.
العلماء انقسموا في حكم العقيقة إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: جماهير العلماء من السَّلَفِ والخلف يذهبون إلى أن العقيقة سنَّة
(2)
.
القسم الثاني: ذهب أهل الظاهر والحسن البصري
(3)
إلى أنها واجبة أي: يجب على الإنسان إذا ولد له مولود أن يذبح له عقيقة.
القسم الثالث: ذهب أبو حنيفة
(4)
إلى أنها ليست بسنة، وإنها من أمور الجاهلية التي كانوا يفعلونها.
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 234)، حيث قال:"العقيقة فرض واجب يجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 459)، حيث قال:"والعقيقة سُنَّة في قول عامة أهل العلم؛ منهم ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وفقهاء التابعين".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:"ثم شرع يتكلم على العقيقة وحكمها فقال: (وندب) لآب من ماله (ذبح واحدة) من بهيمة الأنعام".
مذهب الشافعية ينظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 145)، حيث قال:"وهي سُنَّةٌ مؤكدة".
مذهب الحنابلة ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 24)، حيث قال:" (سنة مؤكدة على الأب غنيّا كان الوالد أو فقيرًا) قال أحمد العقيقة سُنَّةٌ".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 331)، عن الحسن قال:"الغلام مرتهن بعقيقته، كان يرويه، وإذا ضحي عنه أجزأ ذلك عنه من العقيقة". وينظر قول الحسن في: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 315).
(4)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 326)، حيث قال:"واستشكل في الشرنبلالية الجواز مع العقيقة بما قالوا من أن وجوب الأضحية نسخ كل دم كان قبلها، من العقيقة والرَّجَبِية والعترِة". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 69).
لماذا قال أهل الظاهر والحسن البصري أنها واجبة؟ والجواب: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن تحلِقَ رأسَ ابنَيْهَا، وأن تتصدق بوزنهما
(1)
، وجاء أيضًا أنه "يُذبح عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة واحدة"
(2)
، قالوا: ففي هذا دليل على وجوبها، وكذلك لما "سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فبَيَّن أنه يَكْرَهُ العُقوقَ"
(3)
، أي: يكره الاسم، لكنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك، فهم فَهِمُوا من ذلك الوجوب، أما جمهور العلماء فيرون أنها ليست بواجبة، وأنها سُنَّة؛ لأن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ مَولُودٍ مَرْهونٌ"
(4)
وفي رواية "رَهينةٌ بعَقيقتِه تُذبح عنْه يوم سابِعِه، ويُحْلق رأسه ويُسَمَّى"
(5)
هذا دليل آخر، والرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العقيقة قال:"أكره العُقوقَ، فمن ولد له مَولود فأحب أن ينسُكَ عنه فليفعلْ"
(6)
، فدل ذلك على الاستحباب، والذين قالوا: إن ذلك من أمور الجاهلية لعلهم لم يقفوا على تلك الأحاديث أو لم تصح عندهم.
* قولُهُ: (وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا وَلَا سُنَّةً، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَحْصِيلَ مَذْهَبِهِ أَنَّهَا عِنْدَهُ تَطَوُّع
(7)
).
نُقل عن أبي حنيفة أنه قال: إنها أمر من أمور الجاهلية؛ لأن ذلك
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي (1513) ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاةٌ". وصححه الألباني في "الإرواء"(1166).
(3)
أخرجه أبو داود (2842) ولفظه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: "لا يُحِبُّ الله العُقوقَ". وحسنه الألباني.
(4)
هذا اللفظ أقف عليه، وإنما الوارد مرتهن ورهين ورهينة.
(5)
أخرجه أبو داود (2838). وصححه الألباني.
(6)
تقدَّم تخريجه.
(7)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 336)، حيث قال:"ثم يعق عند الحلق عقيقة إباحة على ما في الجامع المحبوبي، أو تطوعًا على ما في شرح الطحاوي".
كان يُفعل في الجاهلية
(1)
، لكن قد تكون أمور في الجاهلية يأتي الإسلام فيُقِرُّها، ومن ذلكم المعاملة المشهورة التي تعرف بالمضاربة
(2)
، فإنها كانت موجودة في الجاهلية، فإن الإسلام جاء فأبطل كثيرًا من الأحكام التي كانت في الجاهلية، وأقر بعض الأحكام والأخلاق التي لا تتعارض مع الدِّينِ الإسلامِيِّ، فإن في الجاهلية أخلاقًا كريمة كالشجاعة، والوفاء، والكرم، وإكرام الضيف وغير ذلك من الأمور المعروفة، كما يوجد في الجاهلية أخلاقٌ ذَمِيمَةٌ فهذه أبطلها الإسلام وحاربها إلى جانب إبطاله أيضًا لتلك المعتقدات الفاسدة التي كانوا يعتقدونها في الجاهلية
(3)
.
ولقد وَهِمَ أُناس ممن كتبوا في القانون ورأوا أنهم قد فهموا أحكام الشريعة وزعموا أنه يوجد أحكام في الشريعة الإسلامية قد استمدت من القانون الروماني، وهذا من جهلهم لأحكام الشريعة الإسلامية، فلا يوجد في الشريعة الإسلامية أحكام مستمدة من قوانين، وإنما القوانين هي التي استفدت بعض الأحكام من الشريعة الإسلامية، أما أن يُوجَدُ بعض الأحكام التي يحصل فيها توافق بين الشريعة وبين بعض القوانين، فليس ذلك أن الشريعة أخذتها من قوانين سابقة؛ لأن هذه الشريعة إنما أنزلت من
(1)
لم أقف عليه من قول أبي حنيفة إنما هو منقول عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة حيث قال: "أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام، ثم نَسخ الأضحى كل ذبح كان قبله". انظر: "الموطأ برواية محمد"(ص 226)، "بدائع الصنائع"(4/ 204).
(2)
المضاربة: أن تعطي مالًا لغيرك يتجر فيه فيكون له سهم معلوم من الربح؛ وهي مفاعلة من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 545).
(3)
من ذلك ما أخرجه مسلم (1218/ 147)، عن جابر، وفيه: فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله".
لَدُنْ حكيم خبير هو العالم بشؤون عباده وما تستقيم به أمورهم وما تصلح به أحوالهم.
* قولُهُ: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ مَفْهُومِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ سَمُرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:"كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ"
(1)
).
"كُلُّ" من صيغ العموم، لكن ليس ذلك على إطلاقها كما يدعي أولئك الذين احتجوا بقول الله سبحانه وتعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى} أو {لَّا تُرى} في القراءة الأخرى {إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] واستدلوا بذلك لجهلهم على أن القرآن مخلوق، هذا كله غير صحيح، لأن المراد: تُدمر كل شيء يقبل التدمير، أما القرآن فهو كلام الله سبحانه وتعالى منذ بدأ وإليه يعود تكلم الله سبحانه وتعالى فيه بصوت، ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان في اللوح المحفوظ فتلقَّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من جبريل وكان ينزل عليهم مرارًا ليذاكره، أي: يعرض عليه القرآن، وهذه مسألة عقدية معروفةٌ ليس هناك مجال لتفصيلها.
إذن: "كل مولد مرتَهِنٌ" يعني: محبوس بعقيقتِهِ، أي: الإنسان ينتظر المولود فهو يحاول أن يغنيه فكأن هو محبوس، فإذا ما ذبحت عنه هذه الذبيحة زال ذلك القيد
(2)
وكان ذلك تحصينًا وسلامة له من الشيطان، وبعضهم يفسر ذلك بتفسير آخر أي: أنه محبوس عن الشفاعة لوالديه، إلا أن تُذبح له هذه العقيقة، وقد ضعف بعض العلماء
(3)
ذلك مع أنه نُقل
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 594)، حيث قال:"وقيل معناه أن العقيقة لازمة لا بد منها فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن".
(3)
ممن ضعف هذا المعنى ابن القيم، فقال:"فقالت طائفة هو محبوس مرتهن عن الشفاعة لوالديه كما قال عطاء وتبعه عليه الإمام أحمد، وفيه نظر لا يخفى، فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس، وكونه والدًا له ليس للشفاعة فيه، وكذا سائر القرابات والأرحام". انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود"(ص: 72).
عن بعض السلف ومنهم الإمام أحمد
(1)
.
* قولُهُ: (تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُمَاطُ عَنْهُ الْأَذَى).
تذبح عنه يوم سابعه فهل هذا تحديد لليوم السابع؟ سيأتي الكلام في هذه المسألة، ويماط عنه الأَذَى وسيكون بذلك ردًّا على الذين يقولون: إنه يلطخ رأسَه بالدَّم
(2)
كما كان يفعل أهل الجاهلية، فأهل الجاهلية كانوا إذا ذبحوا الذَّبِيحَة أخَذُوا من الدم فلطَّخُوا رأسَ الغُلام، فالإسلام أنكر ذلك وجاء فهذب ذلك وبَيَّن ما يصح وما لا يصِحُّ.
* قولُهُ: (يَقْتَضِي الْوُجُوبَ).
هذا الحديث الذي أورده المؤلف يرى أنه حجَّة للذين يقولون بالوُجوبِ، "كل مَولُدٍ مُرْتَهِنٌ"
(3)
يعني: محبوسُ لعقِيقَتِهِ.
* قولُهُ: (وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: "لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ")
(4)
.
وهذا الحديث فُسر أنه كره اسمَ العُقوق؛ لأن العقوق من عقَّ يَعِقُ، أو يَعُقُّ والأصل فيه هو عقوق الوالدين، ولذلك جاء في بعض الروايات
(1)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 594)، حيث قال:"قال الخطابي اختلف الناس في هذا وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال هذا في الشفاعة يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلًا لم يشفع في أبويه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 320)، حيث قال:"انفرد الحسن وقتادة أيضًا بأن الصبي يمس رأسَه بقُطْنَةٍ قد غُمِسَتْ في دَمٍ، وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا: هذا كان في الجاهلية فنسخ بالإسلام".
(3)
تقدم.
(4)
قال البغوى: "وليس هذا الحديث عند العامة على توهين أمر العقيقة، ولكنه صلى الله عليه وسلم كره تسميتها بهذا الاسم على مذهبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه، فأحب أن يسميها بأحسن منها من نسيكة أو ذبيحة أو نحوها" انظر: "شرح السنة"(1/ 263 - 264).
"إن الله - تعالى - لا يحِبُّ العُقوقَ"
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم كره ذلك؛ لأن الإنسان مأمور بطاعة والديه، فالعقوق مكروه عند الله صلى الله عليه وسلم وعند رسول صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين الذين اهتدوا بهدي الله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وبِهَدْي سُنَّة رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقوق ينافي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بِبِرِّ الوالِدَيْنِ وطاعَتِهما والإحسان إليهما، وامتثال أوامرهما إلا في معصية الله سبحانه وتعالى وأوصت بعدم قطع الصِّلَةِ بهما، حتى وإن كان كافرين كما قال الله تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، ولأنه "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالِقِ"
(2)
، فلا يطاع أحدٌ في مَعصِيَةِ الله سبحانه وتعالى أي إنسان مهما كان.
" قولُهُ: (وَمَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ)
(3)
.
فبيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم ورتب الحكم عليه: "وَمَنْ وُلدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ"
(4)
أي: أن يذبح؛ لأن النسك هو ذبح كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163]، "فَلْيَفْعَلْ" وهذا دليل على عَدَمِ الوُجوب؛ ووجه الدلالة في الأحاديث فأحب، أي: من أحَبَّ أن يعُقَّ فليفعل، إذن: الأمر ليس على الوجوب إنما هو على الاستحباب إذن هو سُنَّة وهذا من أدِلَّةِ جمهورِ العلماء.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
معنى حديث أخرجه أحمد (3889) عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كيف بك يا عبد الله، إذا كان عليكم أمراء يضيعون السنة، ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها؟ " قال: "كيف تأمرني يا رسول الله؟ قال: "تسألني ابن أم عبد، كيف تفعل؟ لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل" وضعفه الأرناؤوط.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
* قولُهُ: (يَقْتَضِي النَّدْبَ أَوِ الْإِبَاحَةَ. فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ النَّدْبَ قَالَ: الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ. وَمَنْ فَهِمَ الْإِبَاحَةَ قَالَ: لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ).
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت عنه أحاديث كثيرة "يُعَقُّ عن الغُلامِ شاتان"
(1)
في حديث عائشة رضي الله عنها -: "متَكَافئتانِ" وفي بعض الروايات: "مِثْلان"
(2)
، "وعن الجارية شاةٌ"، والأحاديث التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عقَّ عن الحسن والحسين، في بعض الروايات "كبْشًا كبشًا"
(3)
وفي بعضها "كبْشَينِ كبشَيْنِ"
(4)
وهذه الرواية تتفق مع حديث "يُعَقُّ عن الغلام شاتانِ"
(5)
.
* قولُهُ: (وَلَا فَرْضٍ. وَخَرَّجَ الْحَدِيثَيْنِ أَبُو دَاوُدَ، وَمَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَوْجَبَهَا).
الحديث الأول
(6)
أخرجه أصحاب السنن وغيرهم
(7)
، والثاني
(8)
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (2836)، ولفْظُه:"عن الغلام شاتان، مثلان، وعن الجارية شاة" وصححه الألباني.
(3)
أخرجه أبو داود (2841) ولفظه: "عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشا" وصححه الألباني في الإرواء (1164).
(4)
أخرجه النسائي (4219) ولفظه "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبشين كبشين" وصححه الألباني في الإرواء (1164).
(5)
تقدم.
(6)
الحديث الأول: "كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه" أخرجه أبو داود (2838)، والترمذي (1522)، والنسائي (4220)، وابن ماجه (3165)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1165).
(7)
أخرجه أحمد (20083)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1165).
(8)
الحديث الثاني: "من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة".
أخرجه أبو داود (2842) وحسنه الألباني.
أخرجه النسائي (4212) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1655).
أخرجه بعض أصحاب السنن كأبي داود والنسائي وغيرهم كالبيهقي
(1)
، حديث سمرة بن جندب الذي مر أوَّلًا "كلُّ مولود مَرهونٌ بعَقِيقَتِه"
(2)
أي: محُبوسٌ.
* قولُهُ: (وَأَمَّا مَحَلُّهَا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْعَقِيقَةِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا مِنَ الأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ)
(3)
.
جمهور العلماء يقولون: إن العقيقة مستَحَبَّةٌ
(4)
؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهَا ورغَّب وفعَلَها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلها الصحابة رضي الله عنهم والرسول صلى الله عليه وسلم قد أَرسله الله سبحانه وتعالى رحمةً للعالمين، فهو لا يُريدُ أن يشُقَّ على أمَّتِهِ عليه الصلاة والسلام فأحيانًا يسأل عن بعض المسائل فيسكت عنْها؛ لأنه يقول كما سئل عن الحج في كل عام توقف مِرَارًا، فقال:"الحجٌّ مرَّة فمَنْ زاد فهو تَطَوُّعٌ"
(5)
وفي حديث آخر: "لو قلت نَعَمْ لوَجَبَتْ، ولما استطعتم"
(6)
والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قِيلَ وقالَ، وعن كثرةِ السُّؤالِ وقال:
(1)
السنن الكبرى للبيهقي (19274)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1655).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 336)، حيث قال:"وهي شاة تصلح للأضحية".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (ذبح واحدة) من بهيمة الأنعام (تجزئ ضحية) فشرطها من سن، وعدم عيب صحة، وكمال كالضحية".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 146)، حيث قال:" (وسنها) وجنسها (وسلامتها) من العيوب (والأكل والتصدق) والإهداء والادخار وقدر المأكول وامتناع نحو البيع وتعيينها بالنذر واعتبار النية فيها (كالأضحية) لشبهها بها في ندبها". مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 31)، حيث قال:" (وحكمها) أي: العقيقة (حكم الأضحية في أكثر أحكامها كالأكل والهدية والصدقة) ".
(4)
تقدم.
(5)
أخرجه أبو داود (1721) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
(6)
أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (814) ولفظه: "لما نزلتْ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ =
"إنما هَلَكَ من كان قَبْلَكُم لكثرة سُؤالِهِم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمَرْتُكم بأمر فأتُوا منه ما استَطَعْتُم، وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه"
(1)
، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
يقول الله سبحانه وتعالى في أواخر سورة الأنعامِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ
(2)
اثْنَيْنِ} [لأنعام: 143] يعني: ذكر وأنثى {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [الأنعام: 143 - 144] إلى آخر الآيات فتَبَيَّنَ أنه ما يجوز إلَّا هذه الأصناف الثمانية، اثنان من الضأن، واثنان من المعز ذكر وأنثى فتكون أربعة، واثنان من الإبل، واثنان من البقر ذكر وأنثى فتكون ثمانية، إذن: هذه هي بهيمة الأنعام، وكذلك الهَدي إنما تجوز في بهيمة الأنعام، فهناك خلاف في أكل لحم الفرس
(3)
،
= وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله في كل عام؟ قال: "لا، ولو قلت نعم لوجبت"، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم} ". ضعفه الألباني في "الإرواء" (980).
(1)
أخرجه مسلم (1337)، ولفظه:"ذَرُوني ما تَرَكْتكم، فإنما هَلَك من كان قبْلَكُم بكثرةِ سُؤالهِمْ واختلافهم على أنببائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
(2)
الضأن: ذوات الصوف من الغنم، الواحدة ضائنة، والذكر ضائن. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (2/ 365).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 305)، حيث قال:" (والخيل) وعندهما، والشافعي تحل. وقيل إن أبا حنيفة رجع عن حرمته قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 461)، حيث قال:"ابن الحاجب في البغال والحمير التحريم والكراهة، وثالثها في الخيل الجواز".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 152)، حيث قال:" (وحيوان البر يحل منه الأنعام) بالإجماع وهي الإبل والبقر والغنم (والخيل) عربية أو غيرها لصحة الأخبار بحلها". =
والصحيح جواز ذلك؛ لأنه كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: "ذبَحْنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(1)
في بعض الروايات: "نَحَرْنَا فرسًا فأكلناه"
(2)
، لكنه لا يضحَّى بالفَرَسِ، مرادُ المؤلف رحمه الله أنه يشترط في العقيقة ما يشْتَرِطُ في الأضحيَّة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُجزئُ العَوراءُ البَيِّنُ عوَرُهَا، والعَرجاءُ البيِّنُ عَرجها، ولا المريضةُ البيِّنُ مَرَضُها، ولا العجفاءُ"
(3)
يعني: الهزيلة التي لا تُنْقي
(4)
، ووردت أشياء أخرى ألحَقَها العلماء في ذلك، إذن يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، وجاء في بعض الأحاديث "المتكافئان" يعني متماثلان، وفي رواية "مِثْلان"
(5)
يعني: يذبح عن الغلام شاتان، أو كبشان، إلى غير ذلك من الأوصاف الذي ينبغي أن تتوفر.
* قولُهُ: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَاخْتَارَ فِيهَا الضَّأْنَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الضَّحَايَا)
(6)
.
هناك أمور سنرى فيها أن العَقِيقَة تخالِفُ فيها الأضحيَّة، فالأضحيَّة الأفضل فيها أن تقسم ثلاثة: يأكُلُ الإنسان مع أهلِهِ الثُّلُثَ، ويتصدق
= مذهب الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 192)، حيث قال:"وما عدا هذا المذكور مما تقدم تحريمه (فمباح كمتولد من مأكولين كبغل من حمار وحش وخيل ولو) كانت الخيل (غير عربية) ".
(1)
أخرجه البخاري (5519)، ومسلم (1942).
(2)
أخرجه مسلم (1942).
(3)
أخرجه أبو داود (2802)، وصححه الألباني في "الإرواء"(4/ 361).
(4)
العجفاء أي الهزيلة. ينظر: "حلية الفقهاء" للقزويني (ص: 203)، حيث قال:"وأما قولنا: العجفاء التي لا تنقي. فهي التي لا نقي فيها، والنقي: المخ".
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 121)، حيث قال:" (و) ندب (ضأن مطلقًا) فَحْله فخصِيَّه فأنثَاه، (ثم) يليه (معز) كذلك، (ثم هل) يليه (بقر)؟ كذلك (وهو الأظهر) عند ابن رشد (أو إبل خلاف) ".
بالثلث، ويُهْدي الثلث
(1)
، ويجوز ذلك في العقيقة لكن الأفضل قالوا: أن يطبُخها وله أن يدْعُوَ إليها الفُقراء والأصدقاءَ
(2)
، أو يطبخها ويوزعها كل ذلك قال به العلماء، فهذه المسألة فيها اختلاف بين مالك وبين الجمهور، فجمهورُ العلماء يرَوْنَ أن الأفضل إنما هي الإبل، فالبقرة، فالغنم، ومالك
(1)
مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 328)، حيث قال:"والأفضل أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث ضيافة لأقربائه وأصدقائه ويدخر الثلث؛ ويُسْتَحَبُّ أن يأكل منها، ولو حبس الكل لنفسه جاز لأن القُربة في الإراقة والتصدق باللحم تطوع".
مذهب المالكية عدم التحديد بل يجمع بين الأكل والتصدق، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 122)، حيث قال:" (و) ندب للمضحي (جمع أكل) أي جمع بين أكل منها (وصدقة، وإعطاء) أي إهداء ولو عبر به كان أولى؛ لأن الإعطاء أعم (بلا حد) في ذلك بثلث، ولا غيره".
ومذهب الشافعية، ينظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 141)، حيث قال:" (ويأكل ثُلُثًا) أي يندب للمضحي عن نفسه أن لا يزيد في الأكل عليه لا أن المراد ندب أكل ذلك المقدار، إذ السُّنَّة أن لا يأكل منها إلا لقمًا يسيرة يتبرك بها، ودون ذلك أكل الثلث والتصدق بالباقي، ودونه أكل ثلث وتصدق بثلث وإهداء ثلث".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (193)، حيث قال:" (ويستحب أن يأكل من هديه التطوع، ويهدي ويهدي ويتصدق أثلاثًا) ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 336)، حيث قال:"وهي شاة تصلح للأضحية تذبح للذكر والأنثى، سواء فرق لحمها نِيئًا، أو طبخه بحموضة أو بدونها، مع كسر عظمها أو لا، واتخاذ دعوة أو لا".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (وكره) (عملها وليمة) يدعو الناس إليها بل تطبخ، ويأكل منها أهل البيت وغيرهم في مواضعهم، ولا حد في الإطعام منها ومن الضحية بل يأكل منها ما شاء، ويتصدق، ويهدي بما شاء".
وقال في الحاشية: " (قولُهُ: وكره عملها وليمة) أي، وأما ذبح شاة أخرى وغيرها، وعملها وليمة فلا كراهة فيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 147) حيث قال في الفروق اليسيرة بين الأضحية والعقيقة: " (و) منها أنه (يسن طبخها) لقول عائشة رضي الله عنها إنه السنة، رواه البيهقي".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 30)، حيث قال:" (فيطبخ بماء وملح نص عليه ثم يطعم منها الأولاد والمساكين والجيران".
يخالفهم فيما مضى في الهَدْي وكذلك في الأضحية، وكذلك هنا يخالف الإمام مالك في العقيقة فالأضحية يجور الاشتراك فيها، وكذلك الهَدْي، أما العقيقة فلا يشترك جماعة في شاة، ولا في بَدَنَةٍ، ولا في بقرة، هذه من الأحكام التي نضيفها
(1)
.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ يُجْزِي فِيهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ؟ أَوْ لَا يُجْزِي؟
(2)
وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْإِبِلَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنَمِ).
لكنه لو ذَبَحَ بدَنَة فتكون عن واحدة مقابلة شاة، وكذلك أيضًا بقرة؛ لأن الإبل والبقر أكثر لحمًا من الغنائم، ولذلك لما قَسَّم الرسولُ صلى الله عليه وسلم في غير الهَدْي والأضْحِيَّة، اعتبر البَدنة تُعادِلُ عشرَ شِياهٍ، لكن في الهدي وفي
(1)
منع من ذلك المالكية على أصلهم في الأضحية، ينظر:"الذخيرة" للقرافي (4/ 163)، حيث قال:"ولا يشترك فيها كالأضحية".
وكذلك منع الحنابلة الاشتراك وإن أجازوا ذلك في الأضحية، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 25)، حيث قال:" (وإن عقَّ ببدنة أو بقرة لم تجزئه إلا كاملة، فلا يجزئ فيها شرك في دم) ".
وأجاز ذلك الحنفية والشافعية:
مذهب الحنفية، يُنظر:"منحة الخالق على البحر الرائق"، لابن عابدين (2/ 387)، حيث قال: " (قولُهُ: وأشار بالتخمِير بين البدنة وسبعها إلى أنه دم عبادة
…
إلخ). مقتضاه أنه لو كان دم جناية لما تخير، وفي أضحية الوقاية وشرحها للقهستاني كبقرة ذبحها ثلاثة عن أضحية ومتعة وقران في الحج فإنه يصِحّ، وكذا لو ذبح سبعة عن تلك وعن الإحصار وجزاء الصيد أو الحلق والعقيقة والتطوع فإنه يصح في ظاهر الأصول". وينظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 71).
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 146)، حيث قال:"ولو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد جاز، وكذا لو أشرك فيهما جماعة سواء أراد كلهم العقيقة أم بعضهم ذلك وبعضهم اللحم".
(2)
معتمد المذهب تجزئ بهيمة الأنعام بأنواعها، ينظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:"شرع يتكلم على العقيقة وحكمها فقال: (وندب) لأب من ماله (ذبح واحدة) من بهيمة الأنعام".
الأضحية تعدل سبعًا كالبقر"
(1)
.
* قول: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الأثَرُ فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا")
(2)
.
هذه رواية، ولكن جاء في عدة روايات أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم "عَقَّ عن الحسنِ والحسين كَبْشَينِ كَبْشَينِ"
(3)
، أي: لكل واحد منهما كبشين، وهذه الروايات تَتَّفق مع أحاديث سَمُرَةَ وعائشة وغيرهم كما ذكرنا.
* قولُهُ: (وَقَوْلُهُ: "عَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَعَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ" خَرَّجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ)
(4)
.
المؤلف يريد أن يقول: إن هناكَ مِنَ العُلماءِ من يرى سببَ الخلاف هنا جاء في بعض الروايات: "أنه ذبح كبشًا كبشًا للحسن والحسين"، وجاء في بعض الروايات:"كبشين كبشين"، وهذه الروايات هي التي تلتقي مع حديث عائشة وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقَّ عنهما كبشين كبشين، وهذا هو الأولى.
* قول: (وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأنَّهُا نُسُكٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ فِيهَا أَفْضَلَ، قِيَاسًا عَلَى الْهَدَايَا)
(5)
.
يعني: ما دامت نُسُك فيكون الأفضل، فالإبل أعظم من البقر فتكونُ
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (2484)، ولفظه:"عن ابن عباس، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فحضر النَّحر، فذبحنا البقرة عن "سبعة، والبعير عن عشرة". قال الأرناؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيح غير الحسن بن يحيى وهو متابع".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، تقدم ذكره.
أفضل، والبقر أعظم أي: أكفَأُ لحمًا وأجود من الضأن فتكون أفضل.
* قولُهُ: (وَأَمَّا مَنْ يُعَقُّ عَنْهُ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُعَقُّ عَنِ الذَّكرِ وَالْأُنْثَى الصَّغِيرَيْنِ فَقَطْ
(1)
، وَشَذَّ الْحَسَنُ
(2)
فَقَالَ: لَا يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ).
دخل المؤلف في مسألة أخرى يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين، وهو بذلك يريد أن يخرج ما يتعلق بالكبير، يعني: المسألة هذه فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: جمهور العلماء قالوا: شاتان عن الغلام.
القول الثاني: مذهب أبي حنيفة يرى أن هذا من أمور الجاهلية
(3)
.
القول الثالث: قول الإمامين الشافعي
(4)
وأحمد
(5)
يريان أنه يعُق عن الغلام شاتين، أما مالك
(6)
رأيه مختلف في هذه المسألة، مرة مع
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (قولُهُ: وسقطت بمضي زمنها إلخ) أي: ولو كان الأب موسرًا فيه، وقيل: إنها لا تفوت بفوات الأسبوع الأول، بل تفعل في الأسبوع الثاني فإن لم تفعل ففي الأسبوع الثالث، ولا تفعل بعده".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 25)، حيث قال:" (ولا) يعق (المولود عن نفسه إذا كبر) نص عليه؛ لأنها مشروعة في حق الأب، فلا يفعلها غيره كالأجنبي، (فإن فعل) أي: عق غير الأب والمولود عن نفسه بعد أن كبر (لم يكره) ذلك (فيهما)، لعدم الدليل عليها، قلت: لكن ليس لها حكم العقيقة، (واختار جمع يعق عن نفسه) استحبابًا إذا لم يعق عنه أبوه".
وأجاز ذلك الشافعية، يُنظر:"الحاوي" للماوردي (15/ 129)، حيث قال:"وكان الولد مُجْزئًا في العقيقة عن نفسه وليس يمتنع أن يعق الكبير عن نفسه".
(2)
أخرح عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 332) عن معمر، عن رجل، عن الحسن قال:"يُعَقُّ عن الغلام شاة، ولا يُعَقُّ عن الجارية ليست عليها عقيقة".
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
(6)
تقدم.
الجمهور، ومرة يَرَى التسوية بينهما وعبد الله بن عمر نُقِلَ عنْه
(1)
أنه يُسوي بين الذَّكَرِ والأنثَى، فشاة عن الغلام ومثلها عن الجارية لا فرَقَ بينهما، أما دليل الجمهور الذين قالوا: شاتان عن الغلام الأحاديث التي مرت كحديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عن الغلام شاتَانِ متَكَافئتانِ، وعن الجارِيَةِ شاةٌ"
(2)
، فهذا نص فيهما، والذين قالوا: كبشًا كبشًا استدلوا بالحديث الذي ساقه المؤلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم "عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا"
(3)
، يعني لكل واحد منهما كبشًا، وأما الذين قالوا: وَهِمَ الحسن - كما ذكر المؤلف - وقتادة
(4)
لا يعق عن الأنثى، المؤلف لم يُبَيِّن السبب، لكن ذَكَرَتْ عِلَّة قولهما في ذلك أنهما قالا: إن هذه العقيقة إنما يذبحها الإنسان إذا وُلدَ له مولود فيُسَرُّ به، والمعروف أن الإنسان إنما يسَرُّ بالذَّكَرِ لا بالأنثى، ولننتبه لا يفهم من هذا أن الإنسان يسخط من قَدَرِ الله، أو أنه لا يرضى بما وهبَه الله سبحانه وتعالى لكن النفوس دائمًا جبلت على أنها تَسْعَدُ إذا بُشِّرَ الإنسان بذكر، لكن الإنسان المؤمن التقي النقي الورع إذا رزقه الله أنثى فيحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك ولم يجعله عقيمًا
(5)
والله سبحانه وتعالى وهبه هذه الفتاة فهذا إكرام من اللَّهِ سبحانه وتعالى، فهو الذي يهَبُ من يشاء إناثًا ويهَبُ لمن يشاء الذكور، هذا هو عطاؤه، إذن: هناك رضاء بقضاء الله وبقدره، لكن السرور عادة يحصُلُ بالذَّكَرِ، فلو وجدت إنسانًا مضت عليه سِنون عديدة ولم يرزق بمولود، ثم بعد ذلك تأتيه بنت فتجد أنه تغمره السعادة وتغطيه، هذه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 331) عن عبد الله بن عمر، ومعمر، عن أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر لا يسأله أحد من أهله عقيقة إلا أعطاها إياه، قال: فكان يقول: "على الغلام شاة، وعلى الجارية شاة".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 320)، حيث قال:"وانفرد الحسن بقوله: لا يعق عن الجارية، وإنما يعق عن الغلام، وقد روي أن قتادة تابعه على ذلك".
(5)
امرأة عقيم: لا تلد. ورجل عقيم: لا يولد له. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (1/ 189).
هي طبيعة الإنسان، فالنفس ميَّالَةٌ كما ذكرنا إلى الولد أكثر؛ لأنه يحمل اسم أبيه وله من المزايا ما لا توجد في البنت، ولكن لا بد من وجود ذَكَرٍ وأنثى، والأنثى هي التي ستكون في المستقبل هي الأم، والأم بلا، شك أفضل من الأب فهي التي تحملت ولاقت المشقة حملت تسعة أشهر بين التألم والضجر، تتألم لتألمك، تفرح لفرحك وهكذا، فمرادهم أنه يذبح على الغلام فقط، لأن الغلام يفضل على الجارية فتجدون أن شهادة الرجل تعدل شهادة أنثيين، وللذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث، وهناك مسائل عديدة يفضل فيها الرجل، لكن هناك مسائل تقبل فيها شهادة النساء دون الرجال، لأنه لا يطلع عليها إلا النساء كالأمور المتعلقة ببعض مسائل النساء الخفية.
قولُهُ: (وَشَذَّ الْحَسَنُ) كلام المؤلف صحيح؛ لأن هذا يعتبر شُذُوذًا، وتعليلهم أن الإنسان يسر بالولد وينبغي أيضًا أن يُسَرَّ بالبنت؛ لأن هذا كله عطاء من الله، فأيُّ هدية تأتيك من الله إنما هي إنعام وإكرام منه سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن يتقبل ذلك بالسرور، والسعادة، والطمأنينة، والفرح.
* قولُهُ: (وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الْكَبِير
(1)
، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالصَّغِيرِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"يَوْمَ سَابِعِهِ"
(2)
).
الذين قالوا: يعق عن الكبير هم أهل الظاهر، "يوم سابعه"، يعني في اليوم السابع كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "يوم سابعه، فإن لم يكن فالرابع عشر، فإن لم يكن فالحادي والعشرين، فإن لم يكن
(1)
ذهب إلى جواز ذلك الشافعية وأهل الظاهر ومنع المالكية والحنابلة كما سبق.
ينظرُ في مذهب الظاهرية: "المحلَّى" لابن حزم (6/ 239)، حيث قال:"فإن قيل: فمن أين أجزتم الذبح بعد السابع؟ قلنا: لأنه قد وجب الذبح يوم السابع، ولزم إخراج تلك الصفة من المال فلا يحل إبقاؤها فيه فهو دين واجب إخراجه".
(2)
تقدم.
الحادي والعشرين فمتى شاء"
(1)
العلماء أيضًا بعضهم قال: يعق يوم الثامن والعشرين، فإن لم يكن فاليوم الخامس والثلاثين، فاليوم الثاني والأربعين وهكذا، وبعضهم يقول: لا تقيد يعني: لا تفضيل في ذلك، لكن يُعَقُّ عنه يوم سابعه هذه ما تكلم عنها المؤلف لو قدم على اليوم السابع يجوز ذلك، لكن لا يجوز أن يقدمها على المولود، يعني لو ذبحها بعد يوم يجوزُ ذلك، لو ذبحها بعد يومين، لكن الأفضل هو اليوم السابع فإن لم يكن فالرابع عشر، فإن لم يكن فالحادي والعشرين، فإن لم يكن فمتى يفعل؟ إلى أن يبلُغَ؛ لأن هذه العقيقة إنما هي من الوالد لولده، فإذا بلغ هل يَعُقُّ عن نفسه؟ جماهير العلماء لا يعق عن نفسه، وأهل الظاهر خالفوهم في هذه المسألة وهي التي رمز إليها المؤلف، لكن قد يرد سؤال: هل هناك حكمة في كون يذبح عنه يوم سابعه؟ والجواب: بعض العلماء قالوا: لأنهم مثلًا إذا ولد يوم الثلاثاء تذبح يوم الإثنين، خلافًا لمالك الذي لا يعد اليوم الذي يولد فيه
(2)
، وإذا ولد مثلًا يوم الأربعاء يكون الثلاثاء لو كان يوم الخميس يكون يوم الأربعاء، لو كان يوم الجمعة تكون يوم الخميس وهكذا
(3)
، يعني مرور سبعة أيام، قالوا: لأن القصد من ذلك هو أن يمر بجميع أيام الأسبوع، فيأخذ السبت، والأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، فكأنه مر بأيام الأسبوع قالوا: وفي هذا تفاؤل بسلامَتِه، لأنه مرت به هذه الأيام، فصانه الله سبحانه وتعالى وحفظه، فهذا تفاؤل بالسلامة له، وأعمال
(1)
أخرجه إسحاق في مصنفه (3/ 692) ولفظه: "قالت امرأة من أهل عبد الرحمن بن أبي بكر: إن ولدت امرأة عبد الرحمن غلامًا نحرنا عنه جَزورًا، فقالت عائشة: لا، بل السنة عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة، يطبخ جدولًا، ولا يكسر لها عظم، فيأكل ويطعم ويتصدق يفعل ذلك في اليوم السابع، فإن لم يفعل ففي أربع عشرة، فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (وألغي يومها) أي يوم الولادة فلا يحسب من السبعة (إن سبق بالفجر) بأن ولده بعده فإن ولد معه حسب".
(3)
سيأتي عند كلام ابن رشد.
الناس ترفع في نهاية كل أسبوع، فالعلماء دائمًا يبحثون عن علل الأحكام.
* قولُهُ: (وَدَلِيلُ مَنْ خَالَفَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ: "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَمَا بُعِثَ بِالنُبُوَّةِ")
(1)
.
هذا اختلف فيه العلماء اختلافًا كثيرًا، فمنهم من يرى أنه حديثٌ باطِلٌ
(2)
، وبعضهم حاول أن يصححه، لكن أكثر العلماء على أنه حديث لا يُحتجُّ به.
* قولُهُ: (وَدَلِيلُهُمْ أَيْضًا عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالأُنْثَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "عَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَعَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ")
(3)
.
يعني: هذا رد على الحسن وقتادة اللَّذان قالا: إنها خاصَّةٌ بالذَّكَر، فهذا حديث رسول صلى الله عليه وسلم ولا اجتهاد مع النَّصِّ، فلا ينظر إلى قول أحدٍ مهما كان بعد قول الله سبحانه وتعالى وبعد قول رسوله صلى الله عليه وسلم.
* قولُهُ: (وَدَلِيلُ مَنِ اقْتَصَرَ بِهَا عَلَى الذَّكَرِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَن بِعَقِيقَتِهِ").
(1)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 505) قال. "وقد روي من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس، وليس بشيء". وقال الحافظ في الفتح: (9/ 595): "وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة لا يثبت وهو كذلك، فقد أخرجه البزار من رواية عبد الله بن محرَّر - وهو بمهملات - عن قتادة عن أنس، قال البزار: تفرد به عبد الله وهو ضعيف". لكن صحَّحَ الألباني الطريق الأخرى عن الهيثم بن جميل: حدثنا عبد الله بن المثنى بن أنس عن ثمامة بن أنس عن أنس به، انظر:"السلسلة الصحيحة"(2726).
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (8/ 432)، حيث قال:"ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء فهو حديث باطل، وعبد الله بن محرَّر ضعيف متفق على ضعفه، قال الحفاظ: هو متروك".
(3)
تقدَّم.
"كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه" فهذا نص عن اليوم السابع، جاء في بعض الروايات "ويُسمَّى"، أي: يذكر اسمه "ويُحْلَقُ رَأسُهُ" وإنما تعرض المؤلف للتسمية وجاء التنصيص عليها في الحديث، لكن يُسَمَّى متى؟ هل يسمى اليوم السابع؟ وهل معنى ذلك أنه عندما تَعُقُّ عنه تسمِّي أم أنه قبل ذلك؟ والجواب: قد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول قال: "ولد لي الليلة غلام سميته إبراهيم، كاسم أبي"
(1)
يعني كاسم الخليل إبراهيم عليه السلام، إذن ولد للرسول صلى الله عليه وسلم ابن فسماه إبراهيم في وقته، فلإنسان له أن يسمي ذلك، لكن هناك قضية هامة ينبغي أن نختار لأبنائنا الأسماء الطيبة، وقد جاءت الشريعة تحض على ذلك وترغِّبُ فيه، ومما جاء في ذلك:"إن الناس يُدْعَوْن يوم القيامة بأسمائهم، وأسماء آبائهِمْ، فأحسنوا أسماءَكم"، هذا الحديث رواه أبو داود
(2)
وغيره
(3)
، ثم جاء الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، ورواه غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الأسماءِ! إلى الله عبد الله وعبد الرحمن"
(4)
والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
إذن هذا الحديث نص على بيان فضل وأهمية التسمية بعبد الله، وبعبد الرحمن، ونقل عن سعيد بن المسيب أنه قال:"أحب الأسماءِ إلى اللَّهِ أسماءُ الأنبياءِ"
(5)
، وجاء في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"تَسَمُّوا باسْمِي، ولا تَكَنَّوْا بكنيتي"
(6)
ورواه أحمد
(7)
(1)
أخرجه أبو داود (3126)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2493).
(2)
أخرجه أبو داود (4948)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(5460).
(3)
أحرجه أحمد (21693)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف لانقطاعه".
(4)
أخرجه مسلم (2132) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحَبَّ أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(25910).
(6)
أخرجه البخاري (6188)، ومسلم (8/ 2134).
(7)
أخرجه أحمد (7377).
وغيره
(1)
، وجاء في رواية عند أحمد
(2)
وغيره
(3)
: "لا تَجْمَعُوا بين اسْمِي وكنْيَتِي" القصد: هو عدم الجمع بينهم، فمن الأسماء المحببة المرغب فيها اسم محمد، فهذا من أَجلّ الأسماء، فهو اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه محمد وأحمد، كما قال الله تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
ولكن تجد أن بعض الناس وبخاصة في البادية مثلًا يقول: فلان اسمه مثلًا: نَجَر أو مجول وغير ذلك، هذه أسماء أصبح الناس لا يرغبون فيها فيَنْبَغِي للإنسان أن يختار أسماء طيبة، لأنك لو سميتَ ابنك اسمًا غير طيب تجد أنه يُضايَقُ من بين زملائه الصغار، فلماذا لا تجعل ابنَك منشرحَ الصَّدر، مطمئنًّا، لهذا الاسم، وهناك أسماء لا يجوز أصلًا أن يُتَسَمَّى، يعني: لا يجوز للإنسان أن يقول: عبدُ علي، أو مثلًا عبد محمد، أو عبد الكعبة، أو عبد الرسول لا يجوز ذلك للمسلم أن يسمي ابنه بهذه الأسماء؛ لأن التسميةَ بهذه نوع من الشِّرْكِ، كذلك أيضًا ينبغي أن نختارَ لأبنائنا الأسماء الطيبة، ولما جاء أنس بطفل مولود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث في صحيح مسلم
(4)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم حنَّكه يعني: أن تمضغ التمرة ثم تَضَعُهُ بيدِكَ أو من فَمِكَ في فم هذا الصغير، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل، و"كانَ عليه الصلاة والسلام يُحَنِّكُ أطفالَ الأنصارِ"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4965).
(2)
أخرجه أحمد (23081). وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه، فليست له رواية في الكتب الستة".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(25928).
(4)
أخرجه مسلم (2144/ 22) عن أنس بن مالك، قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرًا له، فقال:"هل معك تمر؟ " فقلت: نعم، فناولته تمرات، فألقاهن في فيه فلاكهن، ثم فغر فا الصبي فمجَّه في فيه، فجعل الصبي يتلمظه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حب الأنصار التَّمر" وسماه عبد الله.
(5)
أخرجه مسلم (2147) عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم".
فالرسول سماه عبد الله وهو ابن أبي طلحة، فاختار له اسْمًا كَرِيمًا محبوبًا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال كما في الحديث:"إنما أنَا عبدٌ فقُولُوا: عبدَ اللَّهِ ورسوله"
(1)
فهذه فضيلة، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما ذَكَر مَوضِعَ الثَّناءِ على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى فضلِهِ عليه وإحسانه قال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فالناس كلهم عبيد لله وليسوا عبيدًا لغيره، وعندما يقال: فلانًا عبد فلان لا أنه يعبده لا، وإنما لأنه مملوك له فهناك مالك وهناك مملوك، فينبغي أن نختار الأسماء الطيِّبة؛ لأنَّنا نُدْعَى بهذه الأسماء يوم القيامة، ولذلك أمَرَنَا الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأن نحسن أسماءنا، وأن نحسن أيضًا اختيار الأسماء لأبنائنا.
* قولُهُ: (وَأَمَّا الْعَدَدُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يُعَقُّ عَنِ الذَّكَرِ وَالأْنْثَى بِشَاةٍ شَاةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
وَأَبُو ثَوْرٍ
(4)
، وَأَبُو دَاوُدَ
(5)
، وَأَحْمَدُ
(6)
: يُعَقُّ عَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَعَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ).
لم يذكر أبو حنيفة؛ لأنه لا يرى استحباب ذلك ويقول: إنه أمر من أمور الجاهلية، وهناك بعض تعليقات لبعض المعلقين يَذُمُّ فيها أبا حنيفة رحمه الله لماذا وأبو حنيفة بشر، وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم فاتَتْهُم أحاديث عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن أقرب الناس إلى قلبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه البخاري (3445) عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُطْرُونِي، كما أطْرَتِ النَّصارَى ابنَ مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبدَ الله ورسوله".
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 319)، حيث قال:"وقال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة".
(5)
لعله داود، كما تقدم.
(6)
تقدم.
والذي قال عنه: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خَليلًا"
(1)
والذي قال عنه: "سُدُّوا عَلَيَّ هذه الخوخَةَ إلا خوخةَ أبي بَكْرٍ"
(2)
وهو الذي ناب عنه عليه الصلاة والسلام في الصلاة
(3)
وفضائله أكثر من أن تُعَدَّ أو تحصى، وأنه "هو لو وُزِنَ إيمانه بالأُمَّة لرَجَح"
(4)
ومع ذلك فاتته بعض أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءته الجدة
(5)
تطلب الميراث فقال: لا أجد
(1)
انظر ما بعده.
(2)
أخرجه البخاري (467) عن ابن عباس، ومسلم (2382) عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنه ليس من الناس أحد أمَنُّ علي في نفْسِه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كلنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خُلَّة الإسلام أفضل، سُدّوا عَنِّي كل خوخة في هذا المسجد، غير خوخة أبي بكر".
(3)
أخرجه مسلم (421) عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عَمْرو بن عوف ليصلح بينهم فحانَتْ الصلاة فجاءَ المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتُصَلِّي بالناس فأقيم؟ قال: نعم، قال فصلى أبو بكر فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقَفَ في الصف، فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيقَ التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله صلى الله عليه وسلم على ما أمَرَهُ به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصفِّ، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم انصرف فقال:"يا أبا بكر ما منعك أن تَثْبُتَ إذ أَمَرْتُكَ" قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابَهُ شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيح للنساء".
(4)
رواه البيهقي في "الشعب"(1/ 143) موقوفًا على عمر قال: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم". وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(ص: 64): "إسناده صحيح".
(5)
أخرجه أبو داود (2894)، وغيره، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة، "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر
…
" الحديث. وضعفه الألباني في: "ضعيف أبي داود - الأم" (497).
لكِ شيئًا في كتاب الله، ثم إنه سأل الصحابة فأخبره المغيرةُ بن شعبة - رضي الله عنهما -:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها الثلث"، وكذلك عمر أيضًا فاتَتْه أمور، وعثمان، وعلي، فإذا كان هذا في شأن الصحابة الذين واكَبُوا التَّنْزِيل، ونشؤوا في مدرسة الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأخَذُوا مِنْ فِيهِ عليه الصلاة والسلام وتعلموا العِلْمَ من مشكاةِ النُّبُوَّةِ، إذا كان هذا شأنهم تفوتهم بعض المسائل فما بالُك بغيرهم، إذن أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي ربما تفوتهم بعض الأحاديث، وربما أنه بَلَغَهُ الحديث لكنه ما صح عندَهُ وفي العراق وجدت الزنادقة وبدأَ الدَّسُّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فهناك من وَضَعُوا الأحاديث تحقيقًا لأهدافهم وأهوائهم ولفرقهم، فكم من أناس وضَعُوا أحاديث فانبرى لهم العلماء، فمحَّصوا سُنَّةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنُوا صحيحها من سَقِيمِهِا، ووقفوا لها ووضعُوا عِلْمَ السند، ووفقهم الله صلى الله عليه وسلم فجَلَوْا لنا هذه السُّنة التي نُقِلَتْ إلينا في الكتب المذكورة مبَينةً صحيحها من ضَعْيفهَا، ولقد وقف العلماء - رحمهم الله تعالى - أنفسُهم في هذا المجال، فخَدَمُوا سنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنها هي المصدر الثاني بعد كتاب الله عز وجل وهي المبينة لكتاب الله عز وجل فبيّنوا لنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودافَعُوا عن سُنَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وبينُوا ذلك غاية البَيانِ، فرَحِمَهُم الله سبحانه وتعالى رحمَةً واسِعَةً، وجزاهم عن ذلك جنات عدن.
* قولُهُ: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ كرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
قَالَت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْعَقِيقَةِ: "عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ")
(2)
.
مكافأتان يعني: متماثلتين، وقد جاء في بعض الروايات متماثلتان متساويتان، أي: سِنُّهُما إن لم يتحد فهو متقارب، جِسْمهما إن لم يتفق فهو متَقَارِب من حيث السِّنُّ والشكْل، فينبغي للمسلم كما أنه يختار الأضحية
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
كذلك أيضًا يختار العقيقة، والرسول صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكبشَين أمْلَحَين أقرَنَين، وذَبَحَهُما بيده عليه الصلاة والسلام وقال:"بسمِ اللَّهِ والله أكبر"
(1)
فكذلك هنا ينبغي أن نختار.
* قولُهُ: (وَالْمُكَافَأَتَانِ: الْمُتَمَاثِلَتَانِ. وَهَذَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُتْثَى، وَمَا رُوِيَ "أَنَّهُ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا"
(2)
يَقْتَضِي الاسْتِوَاءَ بَيْنَهُمَا).
الشافعية والحنابلة قالوا: يعق يعني يَذبح عن الغلام شاتين شاتين، وعن الجارية شاة، وهذا هو الذي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُقل عن عبد الله بن عمر وفي رواية الإمام مالك:"كبشًا كبشًا"
(3)
يعني: التساوي، ودليل ذلك هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا، لكن ذكرنا روايات أخرى جاءت "أنَّه عَقَّ عنهما كبشين كبشين"
(4)
، فالتقت مع حديث عائشة حديث أم كُرْز وغيرها، وأما الذي قال لا يَعُقُّ عن الجارية فهذا بيَّنا سببه، وهو قول ضعيف حقيقة لا يلتفت إليه ..
* قولُهُ: (وَأَمَّا وَقْتُ هَذَا النُّسُكِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ سَابِعِ الْمَوْلُودِ).
يوم سابع المولود؛ لأنه ذكر عن عائشة رضي الله عنها: "أنه يُذْبَحُ يوم سابعه، فإن لم يكن فالرابع عشر، فإن لم يكن فاليوم الحادِي والعِشْرِينَ"
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي (1494)، ولفظه "ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما". وصححه الألباني.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
. . . . نذرت =
* قولُهُ: (وَمَالكٌ لَا يَعُدُّ فِي الْأُسْبُوعِ الْيَوْمَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِنْ وُلِدَ نَهَارًا)
(1)
.
يعني: الإمام مالك لو قُدر أن إنسانًا ولد في هذه الليلة في هذا اليوم لا يعد؛ لأنه يقول مضى بعض الوقت، والشافعية والحنابِلَةُ: يعدون ذلك، فمثلًا: ولد في يوم الثلاثاء فعندَ الشافعية والحنابلة يدور عليه الأسبوع يوم الإثنين، وعند مالك يوم الثلاثاء.
* قولُهُ: (وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ يَحْتَسِبُ بِهِ)
(2)
.
ابن الماجشون من أصحاب مالك مع جمهور العلماء.
* قولُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي "الْعُتْبِيَّةِ": إِنْ عَقَّ لَيْلًا لَمْ يُجْزِهْ)
(3)
.
قضية الذبح ليلًا فيها خلاف، وذكرنا أن الشافعية
(4)
والحنابلة
(5)
يرون جواز ذلك ليلًا ونهارًا؛ لأنه لم يرد في ذلك حديث يمنعُ ذلِكَ، بل جاء ما يدل على جوازه.
= امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولَدَتِ امرأة عبد الرحمن نَحَرْنَا جَزورًا، فقالت عائشة رضي الله عنها:"لا، بل السنة أفضل عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة تقطع جُدُولا، ولا يكسر لها عظم فيأكل ويطعم ويتصدق، وليكن ذاك يوم السابع فإن لم يكن ففي أربعة عشر، فإن لم يكن فَفِي إحدى وعشرين"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(4/ 396).
(1)
تقدم.
(2)
ينظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 165)، حيث قال:"وفي وقت حساب السابع أربعة أقوال: سبعة أيام بليالها يبتدأ من غروب الشمس ويلغى ما قبل ذلك من ليل أو نهار، وقاله عبد الملك".
(3)
ينظر: "التبصرة" للخمي (4/ 1588)، حيث قال:"وقال ابن القاسم في العتبية: إن عقَّ ليلًا لم يجزئه، وأعاد".
(4)
سيأتي.
(5)
سيأتي.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي مَبْدَأِ وَقْتِ الْإِجْزَاءِ فَقِيلَ: وَقْتُ الضَّحَايَا، أَعْنِي: ضحًى
(1)
. وَقِيلَ: بَعْدَ الْفَجْرِ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْهَدَايَا
(2)
. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَجَازَ الضَّحَايَا لَيْلًا أَجَازَ هَذِهِ لَيْلًا
(3)
. وَقَدْ قِيلَ: يَجُوزُ فِي السَّابِعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ)
(4)
.
الرأي الراجح في هذا أنه في أي وقت من الأوقات، سواء كان
(1)
الضحو: ارتفاع النهار. والضحى فويق ذلك. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 98).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126).
"نهارا" من طلوع الفجر وندب بعد طلوع الشمس".
(3)
مذهب مالك المنع من الذبح ليلًا وتقدم النقل عن ابن القاسم، أما وقت الجواز انظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (نهارًا) من طلوع الفجر وندب بعد طلوع الشمس".
ومذهب الحنفية والشافعية والحنابلة على جواز الذبح ليلًا قياسًا على الأضاحي والمستحب بعد طلوع الشمس.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 320)، حيث قال:" (وكره) تنزيهًا (الذبح ليلًا) لاحتمال الغلط". وانظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (5/ 60).
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 136)، حيث قال:" (ويبقى) وقت التضحية وإن كره الذبح ليلًا إلا لحاجة أو مصلحة (حتى تغرب) الشمس (آخر) أيام (التشريق) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 9)، حيث قال:" (ويجزئ) ذبح ما ذكر (في ليلتهما) أي: ليلة يومي التشريق الأولين".
(4)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:"وقيل: إنها لا تفوت بفوات الأسبوع الأول بل تفعل في الأسبوع الثاني، فإن لم تفعل ففي الأسبوع الثالث، ولا تفعل بعده".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"(8/ 146)، حيث قال:"ولا تفوت بالتأخير، وإذا بلغ بلا عَقٍّ سقط سن العَقِّ عن غيره، وهو مخير فيه عن نفسه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 25)، حيث قال:"قال في تحفة الودود في أحكام المولود: والظاهر أن التقييد بذلك، أي: بالسابع ونحوه استحبابًا، وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأته، والاعتبار بالذبح لا بيوم الطبخ والأكل".
صباحًا، أو ظهرًا، أو عصرًا، أو ليلًا، لكن الإنسان يختار الوقت الذي يجده مناسبًا له، فلو كان الليل فيه ظلمة ولا يستطيع الإبصار ربما تقع يده خطأً على الذبيحة حينئذ يُكره له، لكن الآن بحمد الله زالت هذه الأمور فأصبحت الإضاءة في كل مكان.
* قولُهُ: (وَأَمَّا سِنُّ هَذَا النُّسُكِ وَصِفَتُهُ فَسِنُّ الضَّحَايَا وَصِفَتُهَا الْجَائِزَةُ).
بالنسبة للماعز لا يجوز أن يُضحي بأقل مما مضى عليه سَنَة
(1)
، وللضأن ما أكمل ستة أشهر، وللبقر ما مضى سنتان، وللإبل خمس سنوات، وهذا كله تكلمنا عنه سابقًا مفصَّلًا.
* قولُهُ: (أَعْنِي أَن يُتَّقَى فِيهَا مِنَ الْعُيُوبِ مَا يُتَّقَى فِي الضَّحَايَا، وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا خَارِجًا مِنْهُ).
الذي يُتَّقَى في الضَّحَايا كما بَيَّن الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقال: "العوراءُ البَيِّنُ عَورُها، والعرْجاءُ البَيِّن عرَجُها، والمريضة البَيِّن مرَضُها، والعَجْفَاءُ"
(2)
يعني: الهزيلة التي ليس فيها لحْمٌ، وهناك من يضع شروطًا إضافية فيقول: إذا كانت العوراءُ لا يجزئ بها، فالعمياءُ من باب أولى، لكنَّ القصدَ بالعوراءِ هي: التي ذهبت عينُها، أما مجرد أنه ذهب بعضها فهذه لا تدخل في ذلك، فهي جائزة، وكذلك العرجاء البيّنُ عرَجُها وحددها العلماءُ: هي التي إذا مشَتْ مع الغنم تسبِقُها إلى المرعى وهذه يفوتها المرْعى، أما إذا كان عرَجُها بسيطًا فهذا لا أثر له عند العلماء، كذلك المرض اليسير لا يؤثر وإنما المرض الذي يظهر أثره على جِسمهِا، كذلك العجفاء الهزيلة، وقد قال الله تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] فالله سبحانه وتعالى طيِّبٌ لا يقبل إلا الطَّيِّبَ، فإذا أردت أن
(1)
أي: ما أكمل سنة ودخل الثانية.
(2)
تقدَّم تخريجه.
تضحِّيَ أو أن تذبح عقيقة أو هَدْيًا؛ فعليك أن تختارَ السَّمِينَةَ الجيدة الخالية من العيوب؛ لأن هذا تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى هذا قُربان، نُسُكٌ تذبَحُهُ طاعةً لله سبحانه وتعالى وابتغاء مرضاته، فعليك أن تختار الطيب؛ "فالله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طَيِّبًا"
(1)
كما جاء في الحديث.
* قولُهُ: (وَأَمَّا حُكْمُ لَحْمِهَا وَجِلْدِهَا وَسَائِرِ أَجْزَائِهَا فَحُكْمُ لَحْمِ الضَّحَايَا فِي الْأَكلِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْعِ الْبَيْعِ)
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (1015) ولفظه: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} و قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 336)، حيث قال:"وهي شاة تصلح للأضحية تذبح للذكر والأنثى، سواء فرَّق لحمها نِيئًا، أو طبخه بحموضة، أو بدونها مع كسر عظمها أوْ لَا".
أما بيع جِلْدها فجائز مع الكراهة، ينظر:"الدر المخحَار وحاشية ابن عابدين"(6/ 328)، حيث قال:" (فإن) (بيع اللحم أو الجلد به)، أي بمستهلك، (أو بدراهم) (تصدق بثمنه)، ومفاده صحة البيع مع الكراهة، وعن الثاني باطل لأنه كالوقف مجتبى".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيت قال:" (تجزئ ضحية) فشَرْطها من سِنٍّ، وعدم عيب صحة، وكمال كالضحية".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 146)، حيث قال:" (والأكل والتصدق) والإهداء والادخار وقدر المأكول وامتناع نحو البيع وتعيينها بالنذر واعتبار النية فيها، (كالأضحية) لشبهها بها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 475)، حيث قال:" (ويتصدق ندبا أو ينتفع بجلدها وجلها)، لأنه جزء منها أو تبع لها، فجاز الانتفاع به كاللحم".
وفي منع البيع، ينظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 475)، حيث قال:" (وحرم بيع شيءٍ مِنها) أي: الذبيحة هديًا كانت أو أضحية (ولو) كانت (تطوعًا) لتعينها بالذبح".
هذا فيه تفصيل، هل يطبخها ويدعو الناس إليها، أو يطبخها ويوزعها، أو أنه يُوَزِّعُها كالأضحية أثلاثًا مع خلاف العلماء في ذلك، فليس معنى هذا أنه لا بد أن يُوَزِّعَها ثلاثًا، فلو أكل أكثَرَها أو تصدق بأكثرها وهو الأولى أو أهدى أكثرها كله جائز، لكن بعضَ العلماء قال: لا يجوز أن يأكلها جميعًا
(1)
، بل يبقي ولو جزءًا يسيرًا ليتصدق به، وهذا مرَّ بنا الحديث عنه مفصلًا.
ليس معنى هذا أنه لا بد أن يُوَزِّع أثلاثًا لو أكل أكثرها، أو تصدق بأكثرها وهو الأولى، أو أهدى أكثرها كله جاز .. لكن بعض العلماء قال:"لا يجوز أن يأكلها جميعًا، بل يُبقِي ولو جزءًا يسيرًا ليتصدق به"
(2)
، وقد مر بنا الحديث عنه مفصلًا، لكنها تختلف عن الضحايا في أمور، أنتم رأيتم أن الأضحية تُكسَّر عظامها
(3)
، هذه كما جاء في أثر عائشة قالت:
(1)
تقدَّم في الأضحية.
(2)
تَقَدَّمَ في الأضحية.
(3)
كسر عظم الأضحية الحكم فيه على الإباحة، إنَّما الكلام في كسر عظم العقيقة.
مذاهب العلماء في كسر عظم العقيقة:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 336)، حيث قال:"وهي شاة تَصلح للأضحية، تُذبح للذكر والأنثى؛ سواء فَرق لحمها نيئًا، أو طبخه بحموضة أو بدونها، مع كسر عظمها أو لا".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)، حيث قال:" (وجاز) (كسر عظامها)، ولا يندب، وقيل: يندب لمخالفة الجاهلية فقد كانوا لا يكسرون عظامها، وإنما يُقَطِّعونها من المفاصل مخافة ما يصيب الولد بزعمهم، فجاء الإسلام بنقيض ذلك".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 147)، حيث قال:" (ولا يكسر عظم) ما أمكن تفاؤلًا بسلامة أعضاء الولد، فإن فعله لم يُكره؛ لعدم ثبوت نهي فيه، لكنه خلاف الأولى".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوثي (3/ 30)، حيث قال:"وينزعها أعضاء، ولا يكسر عظمها) ".
والعقيقة تخالف الأضحية، فإذا قلنا: إنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأُضحية، فليس يعني هذا أنها تشبهها من كل الوجوه، بل هناك أوجه اختلاف بينهما، من هذه =
"تُذبح أجزالًا"
(1)
(2)
.
* قولُهُ: (وَجَمِيعُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ وإنَّ يُدَمَّى رَأْسُ الطِّفْلِ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِدَمِهَا، وَأَنَّهُ نُسِخَ فِي الإِسْلَامِ).
وَلذَلكَ، فَإنَ عَائشةَ رضي الله عنها قالت: كانوا في الجاهليَّة إذا عقوا عن الصَّبيِّ، خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي، وضعوها على رأسه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا مكان الدم خلوقًا"، ونهى أن يُمسَّ رأس المولود بدمٍ
(3)
.
فدلَّ هذا على نسخ الإسلام لهذا الفعل الجاهليِّ.
* قولُهُ: (وَذَلِكَ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: "كنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ
= الأوجه: أنه يستحبُّ أن لا يكسر منها عظمًا، ما أمكن ذلك، بل يقطع كل عظم مِن مفصله تفاؤلًا بسلامة أعضاء المولود كما ذكر، وقد جاء عن عائشة أنها قالت في العقيقة:"تُقطع جدولًا، ولا تكسر". أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(12/ 328).
وأورد الإمام ابن القيم عن ابن شهاب قوله: "لا بأس بكسر عظامها، وهو قول مالك، والذين رأوا تكسير عظامها قالوا: لم يصح شيء في المنع من ذلك، ولا في كراهيته سنة يجب المصير إليها، وقد جرت العادة بكسر عظام اللحم، وفي ذلك مصلحة أكله وتمام الانتفاع به، ولا مصلحة تمنع من ذلك". اهـ. "تحفة المودود بأحكام المولود"(1/ 79).
وقال الإمام محمد صِدِّيق حسن خان: "ليس على شيء مما ذكروه من عدم الكسر والفصل من المفاصل وجمع العظام ودفنها وغير ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا من عقل، بل هذه الأمور خيالات شبيهة بما يقع من النساء ونحوهن من العَوام مما لا يعود على فاعله بنفع دنيوي ولا ديني". "الروضة الندية"(2/ 226).
(1)
الجدول: جمع جدل، بالكسر والفتح، وهو العضو. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 248).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 328)، ولفظه:"عن عطاء، عن عائشة، قالت: تطبخ جدولًا، ولا يُكسر منها عظم".
(3)
أخرجه ابن حبان (5308).
إِذَا وُلدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ، ذَبَحَ لَهُ شَاةً، وَلَطَخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ كنَّا نَذْبَحُ وَنَحْلِقُ رَأْسَه، وَنَلْطَخُهُ بِزَعْفَرَانٍ"
(1)
).
قولُهُ: "ونلطخه بزعفران"؛ أَيْ: بعد غسله تطييبًا بعد التطهير، والزعفران معروف، وإذا كان في بيتٍ لا يدخله سام أبرص.
* قولُهُ: (وَشَذَّ الحَسَنُ
(2)
وَقَتَادَةُ
(3)
، فَقَالَا: يُمَسُّ رَأْسُ الصَّبِيِّ بِقُطْنَةٍ قَدْ غُمِسَتْ فِي الدَّمِ).
أمَّا عَنْ قَتادَة، فقَدْ حكَاه غير وَاحِدٍ من أهل العلم، وأما الحسن فمنهم مَنْ حكَى عنه النهي، ومنهم مَنْ حكى الأمر بالفعل!
* قولُهُ: (وَاسْتُحِبَّ كسْرُ عِظَامِهَا لَمَّا كَانُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ يَقْطَعُونَهَا مِنَ المَفَاصِلِ).
استحبَّ فُقَهَاءُ المالكيَّة
(4)
أن تُكْسَرَ عظام العقيقة، وأمَّا الشافعية
(5)
(1)
أخرجه أبو داود (2843).
(2)
اخْتُلفَ فيه عن الحسن؛ فقَدْ أخرج ابن أبي شيبة (24266): عن الحسن ومحمد رحمهما الله: "أنَّهما كرها أن يلطخ رأس الصبي من دم العقيقة". وقال الحسن: "الدم رجس"، بينما حَكَى ابن قدامة في "المغني"(9/ 462)، وابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (26/ 275):"عن الحسن: أنه استحب التدمية".
(3)
ينظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (19290)؛ حيث قال: "زاد الحوضي في روايتِهِ قال: وكان قَتَادة إذا سُئِلَ عن الدم كيف يُصْنع به؟ قال: إذا ذبحت العقيقة، أخذت صوفة منها، فاستقبل بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى تسيل مثل الخيط، ثم يغسل رأسه ويحلق بعد".
(4)
ينظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)؛ حيث قال: " (وجاز) (كسر عظامها)، ولا يندب، وقيل: يندب؛ لمخالفة الجاهلية؛ فقد كانوا لا يكسرون عظامها، وإنما يقطعونها من المفاصل مخافة ما يصيب الولد بزعمهم، فجاء الإسلام بنفيض ذلك".
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 140)؛ حيث قال: " (ولا يكسر) منها (عظم) أي: يسن ذلك ما أمكن، بل يقطع كل عظمٍ من مفصله تفاؤلًا بسلامة أعضاء المولود، فإن كسره لم يكره إذ لم يثبت فيه نهيٌ مقصودٌ، بل هو خلاف الأَوْلَى".
فاستحبوا ألا تُكْسر، ولكنهم لم يُحرموا، ولا حتى كرهوا كسرها، وإستحبَّ الحنابلة
(1)
ألَّا يُكْسر عظمها، وأمَّا الأحناف
(2)
فأجازوا دونما استحباب أو كراهية.
* قولُهُ: (وَاخْتُلِفَ فِي حِلَاقِ رَأْسِ المَوْلُودِ يَوْمَ السَّاجِ، وَالصَّدَقَةِ بِوَزْنِ شَعْرِهِ فِضَّةً، فَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ
(3)
، وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَالقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ
(4)
، وَالاسْتِحْبَابُ أَجْوَد، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ).
(1)
يُنْظر: "كشَاف القناع" للبهوتي (3/ 30)؛ حيث قال: " (ولا يُكْسر عَظْمها)؛ لقول عائشة: "السُّنَّة شَاتَان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جدولًا، لا يكسر لها عظم"، أي: عضو، وهو الجدل بدال مهملة والإرب، والشلو، والعضو، والوصل كله واحد، والحكمة فيه أنها أول ذبيحة عن المولود، فاستحب فيها ذلك تفاؤلًا بالسلامة".
(2)
ينظر: "حاشية ابن عابدين"(1/ 336)؛ حيث قال: "وَهِيَ شَاةٌ تَصْلح للأضحية، تُذْبح للذكر والأنثى؛ سواء فرق لحمها نيئا أو طبخه بحموضة أو بدونها مع كَسْر عَظْمِهَا أَوْ لَا".
(3)
عند الأحناف، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"" (6/ 336)؛ حيث قال: "يستحبُّ لمَنْ وُلِدَ له ولدٌ أن يسميه يوم أسبوعه، ويحلق رأسه".
والمالكية؛ ينظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(2/ 126)؛ حيث قال: " (و) ندب، ولو لم يعق عنه حلق رأس المولود، ولو أنثى".
والشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(6/ 142)؛ حيث قال: " (و) يسن في سابع ولادة المولود أن (يحلق رأسه) كلها لما مرَّ، ويكون ذلك (بعد ذبحها) أي: العقيقة كمَا في الحاج، ولا فرقَ في ذلك بين كون المولود ذكرا أم أنثى خلافًا لبَعْضهم في كَرَاهتِهِ فيها".
والحنابلة، وَقَد استحبُّوا حلق الذَّكر لا الأنثى، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 29)؛ حيث قال: " (ويُحْلَق رأس ذَكَرٍ لا) رأس (أنثى يوم سابعه، ويُتَصدَّق بوزنه وَرِقًا)، أي: فضةً؛ لحديث سمرة، وتقدم. وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة لمَّا ولدت الحسن: "احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضةً على المساكين والأوقاص""؛ يعني: أهل الصُّفَّة، روَاه أحمد.
(4)
ينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (3/ 385)؛ حيث قال: "وسئل مالك عن حلاق الصبي يوم السابع، ويتصدَّق بوزن شعره فضة، قال: ليس ذلك من عمل الناس، وما ذلك عليهم".
يُسَنُّ أن يُحْلق رأس الصبي كله في اليوم السابع للولادة، وذلك بعد أن يَقُومُوا بذبح العقيقة تمامًا كما يُفْعل في الحج، وقال يَعْضهم: يكون الحلق أولًا، ثمَّ يليه الذبح
(1)
، وليس هناك فارقٌ في هذا الحلق بين أن يكون المولود ذكرًا أو أن يكون أنثى، وإن كان هناك من أهل العلم مَنْ قَدْ كره ذلك في حقِّ الأُنثى.
* قولُهُ: (لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّإِ": أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَتْ شَعْرَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَزَيْنَبَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ، وَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةً
(2)
).
وأَهْلُ العِلْم يستحبُّون ما جَاءَ عن فاطمة في ذَلكَ مع العقيقة أو من غيرها، وَيرَون ذلَك على مَنْ لم يَعُقَّ لقلَّة ذاتِ يدِهِ أَوْكد.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 315)؛ حيث قال: "وقال عطاء: يُبْدأ بالحلق قَبْل الذبح".
(2)
أخرج الإمام مالك (2/ 501) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أنه قال:"وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرَ حسن وحسين، وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بزنة ذلك فضة".
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَابُ الأطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ]
" الأطعمة": جمع طعام، وهو في اللغة: كل ما يؤكل مطلقًا، وكذا كل ما يتَّخذ من القوت كالحنطة والشعير والتمر، ويدخل في هذا التعريف كلُّ ما تُخْرجه الأرض من زروعٍ وثمارٍ، وكل الحيوانات التي تُؤْكل سواء البرية والبحرية.
ويُقَال: طعم الشيء يطعمه طُعْمًا، إذا أكله أو ذاقه، وقد يطلق الفقهاء لفظ "الأطعمة" على:"كل ما يُؤْكل وما يُشْرب سوى الماء والمسكرات".
ومَوْضوع الأطعمة عنوان يدلُّ على ما يُبَاح وما يُكْره، وما يَحْرم منها.
والأشربة: جمع شراب، والشراب: اسم لما يُشْرب من أيِّ نَوْعٍ كَانَ، ماء أو غيره، وعلى أي حال كان، وكل شيءٍ لا مضغ فيه، فإنه يُقَال فيه: يُشْرب.
والأَصْلُ في الأطعمة الحلُّ حتى يدل دليلٌ على تحريمها:
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} .
ولا يحرم من الأطعمة إلا ما حرَّمه الله في كتابه، أو على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} .
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أعْظَمَ المسلمين جرمًا مَنْ سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته"
(1)
.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فَأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فَدَعوه"
(2)
.
عن سَلْمَانَ قال: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال:"الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه، وما سَكَت عنه فَهو ممَّا عفَا عَنْه"
(3)
.
* قولُهُ: (وَالكَلَامُ فِي أصُولِ هَذَا الكِتَابِ تَتَعَلَّقُ بِجُمْلَتَيْنِ، الجُمْلَة الأُولَى: نَذْكُرُ فِيهَا المُحَرَّمَاتِ فِي حَالِ الاخْتِيَارِ. الجُمْلَةُ الثَّانِيَة: نَذْكُرُ فِيهَا أَحْوَالَهَا فِي حَالِ الاضْطِرَارِ).
(1)
أخرجه البخاري (7289)، ومسلم (2358).
(2)
أخرجه مسلم (1337).
(3)
أخرجه الترمذي (1726).
هَذَا تَطْبيقٌ من المصنِّف رحمه الله لقاعدة: "الضَّرورَاتُ تبيحُ المَحْظورات".
وبمَعْنَاها قَوْل بَعْضهم: "لا واجبَ مع عَجْزٍ، ولا حرَام مع ضرورةٍ".
مَعْنى هذه القاعدة: أن المُحرَّمَ يصبح مباحًا إذا عرض للمكلف ضرورةٌ تَقْتضي ذلك بحيث لا تَنْدفع تلك الضَّرورة إلا بارتكاب ذلك المحرَّم، كَمَا إذا اشتدَّ الجوع بالمكلَّف، وخشي الهلاك، فإنَّه يجوز له أَكْل الميتة ونحوها، وفي معنى هذا: سقوط بعض الواجبات، أو تخفيفها بسب الضرورة، ويشير إلى هذا المعنى القاعدة التي ذَكَرتُها:"لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة"، والمراد بالإباحة هنا ما يُقابل التحريم؛ لأن بعض العلماء أوجبوا على المضطر الأكل من الميتة، وذهب بعضهم إلى أنَّ ذلك رخصة يجوز الأخذ بها، وتركها.
[الجملة الأولى: المحرمات في حال الاختيار]
* قول: (الجُمْلَةُ الأُولَى: وَالأَغْذِيَةُ الإِنْسَانِيَّةُ نَبَاتٌ وَحَيَوَانٌ، فَأَمَّا الحَيَوَانُ الَّذِي يُغْتَذَى بِهِ، فَمِنْهُ حَلَالٌ فِي الشَّرْعِ، وَمِنْهُ حَرَامٌ، وَهَذَا مِنْهُ بَرِّيٌّ، وَمِنْهُ بَحْرِيٌّ، وَالمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً لِعَيْنِهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ لِسَبَبٍ وَارِدٍ عَلَيْهَا، وَكُلّ هَذَا مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَأَمَّا المُحَرَّمَةُ لِسَبَبٍ وَارِدٍ عَلَيْهَا فَهِيَ بِالجُمْلَةِ تِسْعَةٌ: المَيْتَة، وَالمُنْخَنِقَة، وَالمَوْقُوذَة، وَالمُتَرَدِّيَة، وَالنَّطِيحَة، وَمَا أكَلَ السَّبُع، وَكُلُّ مَا نَقَصَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّذْكِيَةِ مِنَ الحَيَوَان الَّذِي التَّذْكِيَةُ شَرْطٌ فِي أَكْلِهِ، وَالجَلَّالَة، وَالطَّعَامُ الحَلَالُ يُخَالِطُهُ نَجِسٌ).
هُنَا يُقَسِّم لَكَ المصنِّف ويُرَتِّبُ الفقه الذي سيعرضه بأسلوبٍ مَنْطِقيٍّ رائعٍ، ليرتِّب ذهن القارئ بإجمالٍ يَسْتوعب بعده التفصيل.
والأطعمة تتنوع إلى نوعين: حيوانية، وغير حيوانية.
ثم إن الحيوان ينقسم إلى قسمين رئيسين: مائي، وبري.
وفي كل من القسمين أنواعٌ فيها ما يؤكل، وفيها ما لا يُؤْكل.
وينقسم المأكول من الحيوان:
أولًا: إلى: مباح ومكروه.
ثانيًا: إلى: ما تشترط الذكاة في حله، وما لا تشترط.
والمقصود بالحيوان في هذا المقام: أنواع الحيوان جميعًا مما يجوز للإنسان أكله شرعًا، أو لا يجوز، ولا يُرَاد به ما يشمل الإنسان نفسه بالنسبة للإنسان، بل الكلام محصورٌ فيما يحلُّ للإنسان أو لا يحل باعتبار أن ما سوى الإنسان قَدْ خلَقه الله سبحانه لمنفعة الإنسان ومصلحته، فمنه ما ينتفع به الإنسان بالأكل وغيره، ومنه ما ينتفع به لغير الأكل من وُجُوه المنافع.
أمَّا الإنسان نفسه، الَّذي هو أشرف الحيوان جميعًا، والذي سخر له كل ما عداه، فلا يدخل لحمه في مفهوم الأطعمة، وتقسيمها إلى حلال وحرام؛ لكرامتِهِ في نظر الشريعة الإسلامية، أئا كانت سلالته ولونه ودينه وبيئته.
* قولُهُ: (فَأَمَّا المَيْتَة، فَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَيْتَةِ البَرِّ).
الحكم التكليفي ليس منصبًّا على ذوات الأطعمة، وإنما على أكلها أو استعمالها، وليس هناك حكمٌ جامعٌ للأطعمة كلها، لذلك سيذكر حكم كل نَوْعٍ عند الكلام عليه.
وَيتَبيَّن لمَنْ تتبَّع ما في كُتُب الفقه المختلفة في أبواب الأطعمة وغيرها أن الأصلَ في الأطعمة الحل، ولا يُصَار إلى التحريم إلا لدليلٍ خاصٍّ، وأن لتحريم الأطعمة بوجه عام - ولو غير حيوانية - أسبابًا عامة عديدة في الشريعة متصلة بقَوَاعدها العامة ومقاصدها في إقامة الحياة الإنسانية على الطريق الأفضل، وكذلك يرى المتتبع أسبابًا لكراهة الأطعمة بوجهٍ عامٍّ غير الأسباب المتعلقة بأنواع الحيوان.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي مَيْتَةِ الْبَحْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ حَلَالٌ بِإِطْلَاقٍ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ حَرَامٌ بِإِطْلَاقٍ
(2)
، وَقَالَ قَوْمٌ: مَا طَفَا مِنَ السَّمَكِ حَرَامٌ، وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَهُوَ حَلَالٌ)
(3)
.
الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أطلق ذلك فبَيَّنَ حِلِّيَة ما في البحر فقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في ما في البحر:"هو الطَّهور ماؤه الحِلُّ ميتته"
(4)
، الإمام أحمد
(5)
قال: هذا الحديث خير من مائة حديث مع عِبَارته الموجزة اشتمل على جُمَلٍ كثيرةٍ من الأحكام مما
(1)
وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة:
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (2/ 452)، حيث قال:" (و) المباح من الحيوان (البحري) أي المنسوب للبحر لخلقه وحياته فيه إن أخذ منه حيًّا، بل (ولو) أخذ منه حال كونه (ميتًا) ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرَّمْلِي (8/ 150)، حيث قال:" (حيوان البحر) وهو ما لا يعيش إلا فيه، وإذا خرج منه صار عيشه عيش مذبوح أو حي لكنه لا يدوم، (السمك منه حلال كيف مات) بسبب أم غيره طافيًا أم راسبًا. (وكذا) يحل كيف. مات (غيره في الأصح) مما لم يكن على صورة السمك المشهور".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 193)، حيث قال:" (ويباح جمع حيوانات البحر) ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 283)، حيث قال:"كان عبد الله بن عمر - والله أعلم - يذهب فيما لفظ البحر مذهب من كرهه ثم رجع إلى ظاهر القرآن وعمومه".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 306)، حيث قال:" (ولا) يحل (حيوان مائي إلا السمك) الذي مات بآفة ولو متولِّدًا في ماء نجس ولو طافية مجروحة وهبانية، (غير الطافي) على وجه الماء الذي مات حتف أنفه وهو ما بطنه من فوق، فلو ظهره من فوق فليس بطاف فيؤكل كما يؤكل ما في بطن الطافي، وما مات بحر الماء أو برده وبربطه فيه أو إلقاء شيء فموته بآفة وهبانية".
(4)
أخرجه أبو داود (83) وغيره، وصححه الألباني.
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 394)، حيث قال:"قال أحمد: هذا خير من مائة حديث".
يتعلق بماء البحر وأنه طهور، وكذلك ميتته حلالٌ لنا فأجمل ذلك في جملتين مكونة كل واحدة منهما من مبتدأ وخَبَر هو الطَّهور ماؤه الحل ميتته، فالآية والحديث يدلان على أن ما في البحر حلال سواء كان هذا المطعومِ طريًّا، كما قال الله تعالى:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، أو كانت كذلك الميتة وهذا هو تفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
(1)
.
* قولُهُ: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهم تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ).
ذكرنا أن الخلاف في الطافي وجمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة رحمهم الله مالك والشافعي وأحمد يقولون: "كل ما في البحر من حيث الجملة حلال"، ويرون أن الطافي كغيره لا فرق بين ما تأخذه من البحر طريًا وما جَزَرَ عنه البحر
(2)
أي: انحسر عنه ورمى به ثم رجع عنه الماء، وما طفا ميتًا فكل ذلك مباح أباحه الله سبحانه وتعالى في عموم الآية، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قول:"الحِلُّ مَيتَتُهُ"، وخالف الحنفية في ذلك فمرة قالوا: بتحريم الطافي مطلقًا
(3)
، وأُخرى فصلوا في ذلك وفرَّقوا بين أن يلفِظَهُ البحرَ أعلاه فيكون بطنه إلى أعلى فيكون محرَّمًا أو ظهره إلى أعلى فيكون مباحًا
(4)
، وهذا تفصيل واجتهاد منهم، واستدلوا بحديث:"ما ألقَاهُ البحرُ أو جَزَر عنْه فكُلُوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكُلُوهُ"
(5)
، وهذا الحديث
(1)
يُنظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (3/ 197)، حيث قال:"وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه {وَطَعَامُهُ} ما لفظه ميتًا".
(2)
جزر عنه البحر: أي ما انكشف عنه الماء من حيوان البحر. انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 268).
(3)
يُنظر: "الدر المختار"، للحصكفي (6/ 306، 307)، وفيه قال:" (ولا) يحل (حيوان مائي إلا السمك) الذي مات بآفة ولو متولذا في ماء نجس، (غير الطافي) على وجه الماء الذي مات حتَفْ أنفِهِ وهو ما بطنه من فوق، فلو ظهره من فوق فليس بطاف فيؤكل".
(4)
تقدم.
(5)
أخرجه أبو داود (3815) وغيره وضعفه الألباني.
تكلم عنه العلماء وبَيَّنوا أنه فيه ضُعْف
(1)
وعلى فرض صحته فإن المراد بذلك ما مات في أسفل البحر ثم قُذف به فظهر نَتَنُه ففي هذه الحالة تعافُه النفوس، فالنهي ليس للتحريم وإنما للكراهة لما قد يحصل فيه من رائحة غير جيدة تعافُها النفوس
(2)
.
* قولُهُ: (وَمُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ لِبَعْضِهَا مُعَارَضَةً كُلِّيَّةً).
قصده: الحديثين الأول: "هو الطَّهورُ ماؤهُ والحِلُّ مَيتَتُهُ"، والآخر هو حديث جابر:"ما ألقى البحر أو جَزَرَ عنه فكُلُوه، وما مات فيه وطفَا فلا تأكُلُوه"، فهذا الأخير موقوف والأول صحيح فهذان حديثان متعارضان، الأول هو الحل ميتته مطلقًا يدل على أن كل ما في البحر حلال، والآخر: يُسْتَثْنَى من ذلك الطافي، يعني: ما طَفَا على البحر وارتفعَ عَليهِ، ومعارضة الكتاب لهذه الأحاديث، إما معارَضَةٌ جزئية أو كلية، فمثلًا الآية:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96]، هذه أطلقت، والآية الأخرى فيها قَيْد.
* قولُهُ: (وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِهَا مُوَافَقَةً جُزْئِيَّةً، وَمُعَارَضَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مُعَارَضَةً جُزْئِيَّةً. فَأَمَّا الْعُمُومُ فَهُوَ قولُهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]).
هذه الآية هي الأصل في تحريم الميتة واستدلال المؤلف بهذه الآية من حيث الإطلاق، فأطلقها ولم يستثن منها ميتة البحر وهذه حجة للذين
(1)
قال أبو داود: "روى هذا الحديث سفيان الثوري، وأيوب، وحماد، عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر. وقد أسند هذا الحديث أيضًا من وجه ضعيف، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم " انظر: سنن أبي داود (3815).
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (9/ 394)، حيث قال:"فأما حديث جابر، فإنما هو موقوف عليه، كذلك قال أبو داود: رواه الثقات فأوقفوه على جابر، وقد أُسنِدَ من وجه ضعيف. وإن صح فنحمله على نهي الكراهة؛ لأنه إذا مات رَسَبَ في أسفَلِه، فإذا أنتن طَفَا، فكَرهَه لنَتنِهِ، لا لتحريمِهِ".
يقولون: بأن ميتَةَ البحر حرام، وفي الآية الأخرى قولُهُ تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] وهنا أيضًا ذكر الميتة ولم يخص ميتة بعينها، إذن هذه الآيات بينت تحريم الميته فيدخل في عموم هذا الآيات ميتة البحر، والذين يقولون: بأن ميتَةَ البحرِ كغَيرِهَا هذا استدلال ضعيف
(1)
.
* قولُهُ: (وَأَمَّا الْآثَارُ الْمُعَارِضَةُ لِهَذَا الْعُمُومِ مُعَارَضَةً كُلِّيَّةً فَحَدِيثَانِ، الْوَاحِدُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَحَدِيثُ جَابِرٍ، وَفِيهِ: "أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَجَدُوا حُوتًا يُسَمَّى الْعَنْبَر، أَوْ دَابَّةً قَدْ جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْر، فَأَكَلُوا مِنْهُ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوه، فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ فَأَرْسَلُوا مِنْهُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهُ
(2)
").
المؤلف هنا يشير إلى الحديث المتفق عليه الذي ورد في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومعه جماعة من رفقائه في غزوة من الغزوات فحَل بهم الجُوعُ فقذَفَ لهم البَحْرُ حُوتًا يسمى العنبر
(3)
، وهو نوع من أنواع الحيتان ضخم كبير فأكلُوا منه شَهرًا حتى سَمِنُوا وادَّهنوا، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال:"خيرٌ أخرجه الله لكم، أو: زِرْق أخرجه الله لكم، هل بَقِيَ معكم منه شيء فأطعمونا"
(4)
، إذن
(1)
يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 217)، حيث قال:"هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال". أخرجه الدارقطني، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قولُهُ تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ".
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
العنبر حوت عظيم. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 390).
(4)
أخرجه البخاري (4361)، ومسلم (1935) ولفظه: انطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكَثِيب الضَّخْمِ، فأتيناه فإذا هي دابةٌ تُدْعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لَا، بل نحن رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله،=
الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّنَ أن هذه نعمَةٌ من نِعَمِ الله وخير وفضل منه سبحانه وتعالى ساقه لعباده المتقين؛ لأنه سبحانه الله لا يتركهم هملًا فأكلوا من ذلِكَ وحَمَلُوا منه ما بقي، لكنهم لكي يطمئنوا إلى حكم ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين لهم ذلك وأنه خيرٌ ساقه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين "وسألهم هل بقي منه من شيء"
(1)
، وفي رواية أنهم قالوا:"نعم، فأطعموه منها"
(2)
، أي: من العنبر، إذن: هذا الحديث يدل دلالة مطلقة على أن ميتة البحر حلال، ومثله أيضًا "الحل ميتته"
(3)
الحديث الآخر فإنه أيضًا نص صريح في أن جميع ما في البحر من حيوان طري أو ميت فإنه حلال.
* قولُهُ: (وَهَذَا إِنَّمَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ مُعَارَضَةً كلِّيَّةً بِمَفْهُومِهِ، لَا بِلَفْظِهِ).
إن عارض الكتاب فليست المعارضة كما قال المؤلف بلَفْظِهِ
(4)
وإنما بمَفْهومِهِ
(5)
؛ لأن الكتاب قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وقوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} ، وقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فبين حرمة الميتَةِ لكن الأدِلَّةَ الأخْرَى قيَّدتها وبيَّنت أن التحريم المقصود به غير ميتَةِ البحْر، أما ميتة البَحْرِ فالرسولُ صلى الله عليه وسلم قال: "هو الطهور ماؤه الحل
= وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاث مائة حتى سَمِنَّا، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فقال:"هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ "، قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أي منطوقه ينظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 430)، حيث قال:"والمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق".
(5)
يُنظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 430)، حيث قال:"والمفهوم بخلافه، وهو: ما دل اللفظ عليه لا في محل النطق".
ميتته"
(1)
، وقال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، {وَطَعَامُهُ} كما فسَّرَهُ ابن عباس هو مَيتَتُه، فجاء في القرآن ما يدل على إباحة ذلك.
*قولُهُ: (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: هو الطَّهُورُ مَاؤُه، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ").
هذا يعرف عند علماء البلاغة بأسلوب الحكيمِ
(2)
يعني: أن يُسأل الإنسان سؤالًا فيجدُ أن السائل بحاجة إلى ما هو أكثر منه، فيجيبه عنه ويجيبه بزيادة، وربما يعْدِلُ به إلى شيء آخر، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجاب السائل عن موضِع سُؤالِهِ، أفتاه عما أشكل عليه وزادَهُ حُكْمًا آخر يتعلق بالبحر أيضًا الحل ميتته، لأن الإنسان إذا استشكل ماءَ البحر فأوْلى أن يستَشْكِلَ ميتة البحر؛ لأنه أنواعًا عديدة فالرسول صلى الله عليه وسلم جَلَّى عن السائل كل شبهة ورفع عنه كل إبهام وبين له أن ماء البحر كغيره من المياه وإن كان ملحًا فإنه طهور، أما حديث:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فهذا الحديث في مسند مالك
(3)
وغيره، وهو حديث صحيح عند أحمد
(4)
وعند بعض أصحاب السنن
(5)
.
* قوله: (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومِ مُوَافَقَةً جُزْئِيَّةً، فَمَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الكليات" للكفوي (ص: 111)، حيث قال:"أسلوب الحكيم: هو لغة كلِّ كلام محكم. واصطلاحًا: هو إما تلقي المخاطب بغير ما يترقب بسبب حمل كلام المخاطب على خلاف ما أراده تنبيهًا على أنه الأولى بالقصد والإرادة".
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 22).
(4)
أخرجه أحمد (8735). وصححه الأرناؤوط.
(5)
أخرجه أبو داود (83)، وابن ماجه (386)، وصححه الألباني في "الإرواء"(9).
وَالسَّلَامُ - قَالَ: "مَا أَلْقَى الْبَحْر، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوه، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكلُوه"
(1)
، وَهُوَ حَدِيثٌ أَضْعَفُ عِنْدَهُمْ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَسَبَبُ ضِعْفِ حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ فِي رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ
(2)
، وَأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ).
هذا الحديث اختلف فيه رفعًا ووقفًا والصحيح أنه موقوفٌ، ومعنى ذلك أنه موقوف على جابر رضي الله عنه فيكون رأي صحابي فيُعارِضُه صحابي أفضل منه، وهو رأي أبو بكر
(3)
فإن أبا بكر نَصَّ على أن الطافي حلالٌ، إذن: قول صحابي عارضه صحابي آخر والصحابي الآخر أيضًا أيدتْهُ الأحاديث الأخرى الصحيحة مثل حديث: "أنَّ ما في البحر فإن الله سبحانه وتعالى قد تَوَلَّى ذبْحَهُ"
(4)
، فما في البحر ذُكِّي فهو حلال أكله، لكن العلماء يتوقفون في بعض حيوانات البحر التي تلتَقِي مع حيوانات البر في الاسم ككلب الماء مثلًا وقنديل الماء، فهل هذه يجوز أكلها وكذلك الضفدع وبعض الحيوانات التي توقف فيها بعض العلماء.
* قولُهُ: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: بَلْ رُوَاتُهُ مَعْرُوفُونَ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ وَسَبَبُ ضَعْفِ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الثِّقَاتِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ).
رواته معرفون يعني: حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، أما سبب ضَعْفِ حديث جابر أن بعض العلماء وقَّفه على جابر، فتأتي معارَضَتُه
(1)
تقدم.
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 217)، حيث قال:"أما سعيد بن سلمة فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان بن سليم والله أعلم، يقال: إنه مخزومي من آل ابن الأزرق أو بني الأزرق، ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عندهم".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 503)(8654)، ولفظه:"أشهد على أبي بكر قال: "السمكة الطافية حلال، فمن أرادها أكلها".
(4)
أخرجه الدارقطني (5/ 486). ولفظه "ما في البحر من شيء إلا قد ذكَّاه الله تعالى لكم". قال البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 424): هذا إسناد غير قوي وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
بقول صحابي آخر جاء في صحيح البخاري
(1)
وهو قول أبي بكر رضي الله عنه.
* قوله: (فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِشَهَادَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَه، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ).
فمن يرجح حديث موقوف على حديث ثابت صحيح أو على حديثين أحدهما في الصحيحين، والآخر ليس في الصحيح فهذا حقيقة ليس بترجيح، فعندما ترجِّح أصلًا يتعذر الجمع، فلا نرجِّح حديثًا ضعيفًا على غيره، أما الآيات فليس فيها ما يمنع، فالآيات أطلقت كما قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فالمراد بالميتة ما عادا ميتة البحر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} .
* قوله: (إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ. وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا
(2)
، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا فَمَصِيرًا إِلَى تَرْجِيحِ عُمُومِ الْكِتَابِ
(3)
، وَبِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا قَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
).
ومعهم الإمام أحمد
(6)
فجماهير العلماء قالوا: بأن كل ما في البحر فهو حلال، ويدخل في ذلك الطافي، وهذا الحديث الذي استدل به الحنفية كما رأينا هو حديث موقوف وعارضته أحاديث أخرى مطلقة تقدم عليه في هذا المقام.
(1)
أخرجه البخاري تعليقًا (7/ 89): في كتاب الصيد والذبائح، باب قول الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وقال أبو بكر: الطافي حلال.
(2)
وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة كما تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
(6)
تقدم.
* قوله: (وَبِالْمَنْعِ مُطْلَقًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ بِالْفَرْقِ).
هذا القول هو قول في مذهب أبي حنيفة.
* قوله: (وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكرَ اللهُ مَعَ الْمَيْتَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَيْتَةِ).
ذكرت في سورة المائدة قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} لا يريد الدم
(2)
؛ لأنه يتكلم عن الحيوان: {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
(3)
وَالْمَوْقُوذَةُ
(4)
وَالْمُتَرَدِّيَةُ
(5)
وَالنَّطِيحَةُ
(6)
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
(7)
}.
* قوله: (وَأَمَّا الْجَلَّالَةُ
(8)
، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ فَاخْتَلَفُوا فِي أَكلِهَا).
(1)
المنع مطلقًا من ميتة البحر لم ينقل عن أبي حنيفة بل الفرق بين الطافي وغيره كما تقدم النقل.
(2)
يُنظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (3/ 14)، حيث قال:"وقوله: {وَالدَّمُ} يعني [به] المسفوخ".
(3)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 466)، حيث قال:"المنخنقة: اسم فاعل من انخنقت الشاة ونحوها فهي منخنقة: إذا خنقها شيء فماتت".
(4)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 668)، حيث قال:"وشاة موقوذة قتلت بالخشب أو بغيره فماتت من غير ذكاة".
(5)
يُنظر: "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيومي (1/ 225)، حيث قال:"وتردى في مهواة سقط فيها ورديته تردية ونهي عن الشاة المتردية لأنها ماتت من غير ذكاة".
(6)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 466)، حيث قال:"والنطيحة: فعيلة بمعنى مفعولة أي: منطوحة، نطحت فماتت به".
(7)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 466)، حيث قال:"وأكيلة السبع أيضا، فعيلة بمعنى مفعولة أي: مأكولة السبع ودخلته الهاء لغلبة الاسم عليه، والمراد، ما أكل السبع بعضها، وإلا فما أكلها جمعًا قد صارت معدومة لا حكم لها".
(8)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 465)، حيث قال:"والجلة: البعر، فوضع موضع العذرة؛ لأن الجلالة في الأصل: التي تأكل العذرة".
أصل الجلالة: تُطْلَقُ على الحيوان الذي يأكل العَذِرَة أي: النجاسات لكنها غَلَبت على الإبل فيطلقون على الإبل التي تأكل النجاسات إنها إبل جلالة يعني: تأكل الجلة، ولذلك ورد في بعض الآثار أن الرسول نهى عن بعض الحيوانات لأنها جلالة أي: لا تَتَوَقَّى النجاسات فتأكلها، وسيأتي كلام العلماء فيها أن تحبس أو لا تحبس، وهل أكلها للنجاسة يحرم لحمها أو أنه يكون مكروه؟ وجاء عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن أكل الجلالة، وعن ركوبها أيضًا، وجاء النهي عن شرب ألبانها
(1)
.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ).
في الحقيقة الخلاف هنا ليس خلاف تحريم فالأئمة الأربعة يرون: أنه يُكره أكلها إلا إذا حُبستْ، إلا مالك فلم يأت بالحبس
(2)
، أما الأئمة أبو حنيفة
(3)
والشافعي
(4)
وأحمد
(5)
فإنهم يقولون: "لو حبست مدة معينة"
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
في مذهب المالكية أنها مباح وإن لم تحبس، ينظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 115)، حيث قال:" (والبحري) بأنواعه، ولو آدميه وخنزيره (وإن ميتًا، وطير) بجميع أنواعه (ولو) كان (جلالة) أي مستعملًا للنجاسة".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 40)، حيث قال:"فكان الانتفاع بها حلالا في ذاته إلا أنه يمنع عنه لغيره، ثم ليس لحبسها تقدير في ظاهر الرواية، هكذا روي عن محمد رحمه الله أنه قال: كان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يوقَتْ في حبسها، وقال: تحبس حتى تطيب وهو قولهما أيضًا".
(4)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 157)، حيث قال:"واقتصار الأكثر على العلف الطاهر جرى على الغالب، لأن الحيوان لا بد له من العلف وأنه الطاهر، (فطاب) لحمها (حل) هو وبقية أجزائها من غير كراهة، فهو تفريع عليهما وذلك لزوال العلة ولا تقدير لمدة العلف".
(5)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 193 - 194)، حيث قال:"وتحرم الجلالة وهي التي أكثر علفها النجاسة ولبنها".
" (ويكره ركوبها لأجل عرقها) لما سبق من الأخبار (حتى تحبس) الجلالة (ثلاثًا) أي ثلاث ليال بأيامهن، لأن ابن عمر كان إذا أراد أكلها يحبسها ثلاثًا، (وتطعم الطاهر وتمنع من النجاسة طائرًا كانت أو بهيمة) إذ المانع من حلها يزول بذلك".
ويختلفون في ذلك
(1)
، ومعنى: حبست أي: تُبقيها في مكان وتعلفها علفًا جيدًا كالبرسيم مثلًا: وتمنعها عن النجاسات فبذلك يتغير ما في مَعِدَتها وتتغذى على الغذاء الجيد ثلاثة أيام وهذا عام يشمل صغارَ الحيوان وكِبارَه يدخل فيه الدجاج، والإبل، البقر، والغنم، وهذا أُثر عن عبد الله بن عمر
(2)
رضي الله عنه: "أن عبد الله بن عمر إذا أكل عنده حيوان شيئًا من ذلك - يعني: من العَذِرَة - حبسه ثلاثة أيام ثم بعد ذلك زال ما فيه"، وأُثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص:"أنها تحبس أربعين يومًا"
(3)
، ولذلك بعض العلماء قال:"تحبس أربعين يومًا، ثم تعلف العلف الجيد"
(4)
.
* قوله: (أَمَّا الْأثَرُ فَمَا رُوِيَ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا" خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(5)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ).
وفي بعض الروايات: "عن أكل لحوم الجلالة"، وفي رواية أخرى: "نهى عن الجلالة أن يُؤكَلَ لحمُها، أو أن يركب ظهرها، أو أن يُشْرَب
(1)
الأظهر عند الحنفية والشافعية عدم تحديد المدة وعند الحنابلة ثلاثة أيام كما تقدم النقل.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 521) ولفظه: "اشترى ابن عمر إبلًا جلالة، فبعث بها إلى الحمى، فرعت حتى طابت، ثم حمل عليها إلى الحج".
وابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 148) ولفظه عن ابن عمر: "أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا". وصححه الحافظ في "الفتح"(9/ 648).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 559)(19480) ولفظه: "عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها ويشرب لبنها ولا يحمل عليها، أظنه قال: إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة" قال البيهقي:
ليس هذا بالقوي. وقال الحافظ في "الفتح"(9/ 648): "أخرج البيهقي بسند فيه نظر
عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يومًا".
(4)
قال البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 559): "وقد أشار إليه الشافعي وزعم أنه أراد تغيرها من الطباع المكروهة إلى الطباع غير المكروهة التي هي فطرة الدواب، حتى لا توجد أرواح العذرة في عرقها وجررها".
(5)
أخرجه أبو داود (3785) وغيره، وصححه الألباني.
لبنها"
(1)
، هذه عدة روايات، لكنها كلها تدور حول النهي عن أكل لحوم الجلالة، وفي بعض الروايات جاء التَّنْصِيصُ على الإبل، فهل النهي يقتضي التحريم هنا أو الكراهة؟ الجواب: جماهير العلماء يقولون: أن النهي للكراهة، وقالوا:"تزول بحبسها".
* قوله: (وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا فَهُوَ أَنَّ مَا يَرِدُ جَوْفَ الْحَيَوَانِ يَنْقَلِبُ إِلَى لَحْمِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لَحْمَ الْحَيَوَانِ حَلَالٌ. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَنْقَلِبُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ مَا يَنْقَلِبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّحْم، كمَا لَوِ انْقَلَبَ تُرَابًا، أَوْ كَانْقِلَابِ الدَّمِ لَحْمًا، وَالشَّافِعِيُّ يُحَرِّمُ الْجَلَّالَةَ، وَمَالكٌ يَكْرَهُهَا).
نلاحظ المؤلف هنا أخذ الرواية الثابتة
(2)
من الإمام الشافعي فالرواية المشهورة عنه أنه يرى حبسها كالإمام أحمد
(3)
، وله رواية أخرى يرى: عدم الحبس، وله رواية ثالثة يرى: حرمتها
(4)
، أما الرواية المشهورة عنده فإنها تحبس وتزول الكراهة
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3787) وغيره ولفظه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها". وصححه الألباني.
(2)
الذي عليه المذهب هو القول بالكراهة إذا حدث تغير لحمها بالنجاسة. ينظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 156، 157)، حيث قال: " (وإذا ظهر تغير لحم جلالة) من طعم أو لون أو ريح،
…
(حرم) كسائر أجزائها وما تولد منها كبيضها ولبنها
…
، (وقيل: يكره) الجلالة، (قلت: الأصح يكره، والله أعلم) لأن النهي لتغير اللحم فلا يقتضي تحريمها".
(3)
لم أجد نص الشافعية على الحبس، بل يعللون الأمر بزوال تغير اللحم بسبب أكل النجاسة، ينظر:"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 156)، حيث قال: " (فإن عُلِفَتْ طَاهِرًا)
…
(فطاب) لحمها (حل) هو وبقية أجزائها من غير كراهة".
(4)
تقدم. وأن القول بالكراهة هو الصحيح في المذهب.
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 156)، حيث قال:" (وقيل يكره) الجلالة (قلت: الأصح يكره".
* قوله: (وَأَمَّا النَّجَاسَةُ تُخَالِطُ الْحَلَالَ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيتُ الْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
(1)
وَمَيْمُونَةَ
(2)
"أَنَّهُ سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ).
فلننتبه لهذا جيِّدًا فلقد دَرَسْنَا في أبواب الطهارة وما جاء في ذلك من أحاديث وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يَحْمِلِ الخَبَثَ"
(3)
، والمراد بالقلتين على تفسير عدة في ذلك، هي قلال هجر، ولكن هل هي هَجَر التي في الأحساءِ أم هجر التي هي قريبة من المدينة؟ وكم تُساوي من القِرب، لا نريد أن نعود إلى ذلك، لكننا عرفنا أن الماء إذا كان كثيرًا واختلف العلماء في الكثرة والقِلَّة
(4)
، فبعضهم قال:"إذا بلغ قلتين"، والحنفية
(5)
قالوا: هو الماء الكثير بحيث إذا حركته من أحد أطرافه لا تسري الحركة من الطرف الآخر من كثرة هذا الماء، والماء الجاري أيضًا لا يتأثر بالنجاسة، وحديث:"الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لَونَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ"
(6)
، وفي قصة
(1)
أخرجه أحمد (7601) عن أبي هريرة، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، فقال:"إن وإن جامِدًا، فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا، فلا تقربوه"، وقال الأرناؤوط:"رجاله ثقات، رجال الشيخين إلا أن مَعمرًا قد أخطأ في إسناد".
(2)
أخرجه البخاري (5538) عن ميمونة: أن فأرة وقَعَت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:"ألْقُوها وما حولها وكلوه".
(3)
أخرجه أبو داود (63) وغيره، وصححه الألباني.
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 71)، حيث قال:"اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير، قال مالك: إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير، وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير، والقلتان عنده خمس قرب، كل قربة خمسون مَنًا فيكون جملته مائتين وخمسين منًا".
(5)
"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 71)، حيث قال:"وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير".
(6)
أخرجه ابن ماجه (521) عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(2644).
بئر بضاعة
(1)
القريبة من الحرم كانت تُلقى فيها لحوم الكلاب والخِرَقِ التي كانت تستعملها النساء بعد حيضتها، ومع ذلك كانوا يتوضؤون منها، فالماء إذا كان كثيرًا لا يتنجس؛ لأن الماء قالوا: يقاوم النجاسات إذا كان هذا الماء جاريًا، أما أن يكون جامدًا أو سائلًا فالجامد كما ذكر المؤلف السمن الذي يعرف: بالوَدَك
(2)
، السمن إذا صار جامدًا، أو حتى السمن السائل لو وضعته في المُجَمِّدِ وأصبح ثلجًا يعني: مجمَّدًا ثم وقعت فيه فأرة فالحكم نأخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دلنا على - كل خير وحذرنا عن كل شر، والرسول بَيَّن أنه لو وقعت الفأرة في سمن فبعض العلماء قالوا: "إن الذي تقع فيه النجاسات سواء كانت فأرة أو غيرها لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون جامدًا، فإن كان جامدًا طبَّقْنا ما في الحديث، تؤخذ هذه النجاسة وما حولها ونلقي بها ونستفيد مما بقي
(3)
.
الأمر الثاني: إن كان سائلًا فيأتي الخلاف، بعضهم قال:"إن كان سائلًا فإن ما يقع فيه من النجاسات ينجسه لا فرق بين قليله وكثير" وهذا مذهب الشافعي
(4)
وأحمد في رواية
(5)
، ولأحمد رواية أخرى يفرق فيها
(1)
أخرجه أبو داود (66) عن أبي سعيد الخدري، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء" صححه الألباني في "إرواء الغليل"(14).
(2)
الودك بفتحتين: دسم اللحم والشحم وهو ما يتحلب من ذلك. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 653).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 507)، حيث قال:"فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفأرة وإلقاء ما مسها واتصل بها من السمن الجامد، وأجمع العلماء على أن أكل الفأرة الميتة وما باشرها من السمن الجامد حرام لا يحل أكل شيء من ذلك".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 157)، حيث قال:" (ولو تنجس طاهر كخل ودبس ذائب) بالمعجمة (حرم) تناوله لتعذر طهره كما مر".
(5)
وهو معتمد مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 40)، حيث قال:" (وينجس كل مائع) قليلًا كان أو كثيرًا، (كزيت ولبن وسمن) وخل وعسل بملاقاة نجاسة، ولو مَعفوًّا عنها لحديث الفأرة تموت في السمن".
بين القليل والكثير، فيرى أن الكثير يدفع النجاسة وأن القليل تؤثر فيه
(1)
، فإذا ما وقعت في سائل قليل يراق، وله رواية ثالثة
(2)
: يفرق بين ما كان أصله ماءً وما لا، كالخل التمر وغيره، وأما أهل الظاهر
(3)
فلهم تعليل غريب في هذا هم يوافقون الجمهور فيما يتعلق بالجامِدِ، لكنهم في غير الجامد يقولون:"إن كان سمنًا فإن كان سائلًا فإنها تؤثر فيه، وإن لم يكن سمنًا وكان سائلًا فلا تؤثر فيه النجاسة سواء كانت فارة أو غيرها، إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه"
(4)
وسبب ذلك أنهم يأخذون بظاهر النص ولا يأخذون بمفهومه فوقفوا عند هذا فقالوا: ورد النص في السمن وفي الفأرة فهنا نخص ذلك بالسمن، أما ما عَداهُ من السائلات فلا يتأثر إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه؛ لأنه لن يكون أقوى من المقاومة من الماء فيلحق بالماء في هذه الحال، قال حديث أبي هريرة وميمونة، قد يُوهم أنه حديث واحد، ولكن حديث أبي هريرة عند أبي داود
(5)
وغيره ومختلف فيه صحة
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 426)، حيث قال:"وعن أحمد، رواية أخرى، أنه لا ينجس إذا كثر".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 427)، حيث قال:"وعنه رواية ثالثة: ما أصله الماء كالخل التمري، يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر، وما ليس أصله الماء، لا يدفع عن نفسه".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 143)، حيث قال:"وكذلك إذا كانت النَّجاسَةُ أو الحرام على جُرْم طاهر فأزلناها، فإن النجس لم يطهر والحرام لم يحل، لكنه زايل الحلال الطاهر، فقدرنا على أن نستعمله حينئذ حلالًا طاهرًا كما كان".
(4)
مذهب الظاهرية في وقوع النجاسة في السمن، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (1/ 142)، حيث قال:"وحاشا السمن يقع فيه الفأر مَيتًا، أو يموت فيه أو يخرج منه حيّا، ذَكرًا كان الفأر أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا - فإنه إن كان ذائبًا حين موت الفأر فيه، أو حين وقوعه فيه ميتًا أو خرج منه حيًّا أهرق كله -، ولو أنه ألف ألف قنطار أو أقل أو أكثر، ولم يحل الانتفاع به جمد بعد ذلك أو لم يجمد، وإن كان حين موت الفأر فيه أو وقوعه فيه ميتًا جامدًا واتصل جموده، فإن الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى، والباقي حلال أكله وبيعه والادهان به قل أو كثر".
(5)
أخرجه أبو داود (3842).
وضعفه
(1)
أما الآخر: فهو في البخاري
(2)
، الذي هو حديث ابن عباس عن ميمونة، وهو حديث صحيح معروف عند البخاري وغيره، لكنه ليس في مسند أحمد.
* قوله: (فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا الْبَاقِيَ).
هذا فيه إرشاد من الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية الصحية فنَرَى الأمرَ جَلِيًّا، لأن الشيء الجامد إذا وقعت فيه النجاسة لا يمكن أن تسْرِيَ، لأن جمودته تمنع هذه النجاسة من الانطلاق والسريان في هذه المادة التي تشتمل هذا الغذاء، لكن عندما يكون سائلًا صار على ما تسرى هذه النجاسة إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن كان جامدًا فخذوها وما حولها وألقوها، وما بقي فادَّهِنُوا به".
* قال: (وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوه، أَوْ لَا تَقْرَبُوه، وَللْعُلَمَاءِ فِي النَّجَاسَةِ تُخَالِطُ الْمَطْعُومَاتِ الْحَلَالَ مَذْهَبَان: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَعْتَبِرُ فِي التَّحْرِيمِ الْمُخَالَطَةَ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِلطَّعَامِ لَوْن وَلَا رَائِحَةٌ وَلَا طَعْمٌ مِنْ قِبَلِ النَّجَاسَةِ الَّتِي خَالَطَتْهُ وَهُوَ الْمَشْهُور، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور).
وهذا هو مذهب جمهور العلماء
(3)
الذي ذكرنا فمنهم من فرَّق بين الجامد وغيره، فقالوا: الجامد تُلقى هذه النجاسة وما حولها، والسائل يتأثر مطلقًا، وبعضهم: يفرق بين القليل والكثير، فإن كان قليلًا تأثر وإن
(1)
قال الحافظ في "بلوغ المرام"(ص: 304): "رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم".
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة"(4/ 401): "حديث شاذ لأن معمرًا - وإن كان ثقة - فقد خولف في إسناده ومتنه".
(2)
أخرجه البخاري (5538) عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:"ألقوها وما حولها وكلوه".
(3)
تقدم.
كان كثيرًا لم يتأثر، وفرق بين ما أصله الماء مثلًا كما يقولون: الخل التمر ليس أصله الماء، مثل الدُّهن والعسل إذا سال فهذا يتأثر بالنجاسة، أما ما أصله الماء ففيه قوة مقاومة فيقاوم ذلك.
* قوله: (وَالثَّانِي: مَذْهَبُ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ التَّغَيُّرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ
(1)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
فَقَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ يُمَرُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَغَيُّرُهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَا تَغَيُّرُهَا بِهَا).
فأهل الظاهر يقولون: بظواهر النصوص ولا يقيسون عليها غيرها، أي: لا يلحقون بها غيرها، فقالوا النص ورد في سمن جامد وقعت فيه فأرة، فلو وقعت في شيء غير جامد فإن هذا لا يؤثر إلا أن تتغير أوصافه كالماء تمامًا.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ وَهُمُ الْجُمْهُور، فَقَالُوا: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ بِنَفْسِ مُخَالَطَةِ النجِاسَةِ يَنْجُسُ الْحَلَال، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّلْ لَهُمُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا؛
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 198)، حيث قال:"قال مالك رحمه الله: إذا وقعت قطرة من بول أو خمر في طعام أو دهن لا ينجس إلا أن يكون قليلًا، وقاله ابن نافع في حباب الزيت تقع فيها الفأرة".
معتمد مذهب المالكية بنجاسة الطعام إذا خولط بنجس بمجرد ملاقاته.
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (1/ 54)، حيث قال:"وينجس كثير طعام مائع بنجس قل، كجامد إن أمكن السريان، وإلا فبحسبه".
وينظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 59)، حيث قال:" (ولا يطهر) أي لا يقبل التطهير (زيت) وما في معناه من جميع الأدهان (خولط) بنجس".
(2)
ما نقل عن ابن حزم يؤيد أن العبرة عندهم في تنجس المائعات بالتغير لا كما قال الشارح رحمه الله.
لِوُجُودِ الْمُخَالَطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَكْثَرَ، أَعْنِي فِي حَالَةِ الذَّوَبَانِ، وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُخَالَطَةِ الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ).
لا شك أن الأمر مختلف في نجاسة تقع في طعام جامد تختلف عن طعام سائل، فإن السائل تسري إليه النجاسة بسرعة وتتمدد، أما الجامد فتقف في مكانها.
* قوله: (فَلَمَّا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا مِنْ يَعْضِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْ بَعْضِهِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّتْهُ الظَّاهِرِيَّةُ كُلَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ).
المؤلف ربما لم يقِفْ عندَ الحنابلة
(1)
فهم فصلُوا القول في ذلك وفرَّقُوا بينَ القليل والكثير.
جاء الحديث: "أن الفأرة لو وقَعَتْ في سمن" أو حتى وقعت في غير السمن كعسل أو نحوه، هذه القضية نَرُدُّهَا إلى النفس، كم من الأشياء الطيبة تعافُهَا نفسك وغيرك يشتَهِيهَا، فليس من الضرورة أكلها، فالضَّب قُدِّمَ على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدَّم يده عليه الصلاة والسلام ليتناولَهُ وكانت عادتهم أنه إذا قُدِّمَ طعام لرسول الله صلى الله عليه وسلم نبَّهوه إلى محتوياته، فقالت إحدى النساء: إنه ضبٌّ، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يده وقال: "إنه لم يكن بأرضِ قَوْمِي
(2)
، ولذلك فإني أعافُهُ"
(3)
أي: لا أعرفه، ولذلك فإني أعافه، كرهته
(1)
تقدَّم الروايات الثلاثة في مذهب أحمد.
(2)
قال العراقي في "طرح التثريب"(6/ 5): "والحق أن قوله: "لم يكن بأرض قومِي" لم يرد به الحيوان وإنما أراد أكله، أي: لم يَشِعْ أكلُه بأرضِ قَومِي".
(3)
أخرجه البخاري (5391)، ومسلم (1945، 1946) عن ابن عباس، أن خالد بن الوليد، الذي يقال له سيف الله، أخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة، وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضَبًّا محنُوذًا، قد قدمت به أختُها حُفيدة بنت الحارث من نجدٍ، فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلما يقدم يده لطعام=
نفسه، أما خالد بن الوليد فإنه مَدَّ ذِراعَهُ وافترسه وأكله والرسول ينظر إليه ولم ينكر عليه، فهذا شيء يرجع إلى النَّفْسِ، فكلنا نمر بهذه الأمور فربما تتوقف نفسك عن طعام وتجد أنه من أشهى أنواع الأطعمة عند الآخر، فهذا له أثره في النفوس.
* قوله: (وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَيْنِهَا فَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ مِنْهَا عَلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ: لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالدَّمِ).
وهذا لا شك أنه جاء التَّنْصِيصُ عليه كتاب الله عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]، فهذا فيه نص فلا يختلف فيه العلماءُ.
* قوله: (فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَلَحْمِهِ وَجِلْدِهِ
(1)
،
= حتى يحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضَّبِّ، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدَّمْتُنَّ له، هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 63)، حيث قال:" (وأما) الخنزير: فقد روي عن أبي حنيفة أنه نجس العين، لأن الله - تعالى - وصفَه بكونه رِجْسًا فيحرم استعمال شعره وسائر أجزائه، إلا أنه رخص في شعره للخرازين للضرورة".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 117)، حيث قال:" (والمحرم النجس) من جامد أو مائع (وخنزير) بري".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 254)، حيث قال:" (و) الأظهر (أن الخنزير ككلب) لأن الخنزير أسوأ حالًا، من الكلب، لأن تحريمه منصوص عليه في القرآن ومتفق عليه".=
وَاخْتَلَفُوا فِي الانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ وَفِي طَهَارَةِ جِلْدِهِ مَدْبُوغًا وَغَيْرَ مَدْبُوغٍ
(1)
).
وقد جاء حديث متفق عليه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حَرَّم الميتة والخنزير والأصنام"
(2)
فهذا نص في كتاب الله، والصحابة قالوا: يا رسول الله شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس
(3)
أي: يضعونها في السراج ليستضيئوا بها -، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"هي حرام" فهذا حديث متفق عليه، فما دام الخنزير حرام فيدخل في ذلك شحمه وجلده وغير ذلك، وهذا هو الأولى والصحيح.
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 223)، حيث قال:" (ويحرم الانتفاع به) أي الخنزير قال في الفروع: قال الأصحاب يحرم اقتناء الخنزير والانتفاع به".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 63)، حيث قال:"فيحرم استعمال شعره وسائر أجزائه، إلا أنه رخص في شعره للخرازين الضرورة".
وجلد الخنزير لا يطهر بالدباغ، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 204)، حيث قال:" (خلا) جلد (خنزير) فلا يطهر".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 54)، حيث قال:" (ورخص فيه) أي في جلد الممِتة (مطلقًا) سواء كان من جلد مباح الأكل أو محرمه، (إلا من خنزير) فلا يرخص فيه مطلقًا ذكي أم لا، لأن الذكاة لا تعمل فيه إجماعًا فكذا الدباغ على المشهور".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 383)، حيث قال:" (لا جلد كلب وخنزير)، أو فرع أحدهما فلا يحل لبسه لأحد، إذ لا يجوز الانتفاع بالخنزير في حياته بحال".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 56)، حيث قال:" (ويكره الخرز بشعر خنزير) لأنه استعمال للعين النجسة، ولا يسلم من التنجيس بها غالبًا".
(2)
أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عام الفتح وهو بمكة:"إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يُطْلى بها السفن، ويُدْهَنُ بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال:"لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه".
(3)
أي: يشعلون بها سرجهم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 7).
* قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كتَابِ الطَّهَارَةِ).
تقدم في كتاب الطهارة الحديث عن الجُلودِ وقضية الصلاة عليها ولُبْسها وغير ذلك وهل الجلد إذا دُبغ يختلف عن غيرِهِ، وذكرنا أن جِلْدَ الميتَةِ التي أصلُها حلال على الصحيح كالشياه وكذلك الغنم والبقر والإبل، فهذه وإن كانت ميتَةٌ إذا دُبغت فإنها تطهر جُلودها؛ لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دُبغ الإهابُ فقَدْ طَهُرَ"
(1)
أي: الجلد، وإذا ظرف لما يستقبل من الزَّمانِ، "كل إهاب دبغ فقد طَهُرَ" وهذا من صيغ العُموم
(2)
، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما مر بشاة ميتة فقال:"هلا انتفعتم بجلدها"
(3)
، وأما من يقول: كل جلد ميتة دُبِغَ أو لم يُدبَغْ فهو نجس، وهذا معروف من مذهب الحنابلة فهو رأي ضعيف تخالفه الأدلة الصحيحة، وهو من مفاريد مذهبِ الإمام أحمد
(4)
.
* قوله: (وَأَمَّا الدَّمُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى)
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4123)، وصححه الألباني.
(2)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 84)، حيث قال:" [الصيغة الأولى كل] ومدلولها الإحاطة بكل فرد من الجزئيات إن أضيفت إلى النكرة، أو الأجزاء إن أضيفت إلى معرفة".
(3)
أخرجه البخاري (1492) ولفظه "وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة، أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها؟ " قالوا: إنها ميتة: قال: "إنما حرم أكلها". وأخرجه مسلم (363).
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 54)، حيث قال:" (ولا يطهر جلد ميتة نجس بموتها بدبغه) ".
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 319)، حيث قال:" (ودم) مسفوح من سائر الحيوانات".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 57)، حيث قال:" (ودم مسفوح) أي: جار بسبب فَصْدٍ أو ذكاة أو نحو ذلك، إذا كان من غير سمك وذباب، بل (ولو) كان مسفوحًا (من سمك وذباب) وقراد وحلم، خلافًا لمن قال بطهارته منها".=
اتفقوا عليه؛ لأن الله نص على ذلك كما قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} مسفوح يعني: سائل، فعندما تَذْبَحُ الكبش أو البقرة تجِدُ أن الدَّمَ يسيلُ أمامك، هذا هو المسفوحُ.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ)
(1)
.
اختلفوا فيه غير المسفوح القليل، وهذا مرَّ بِنَا أيضًا في كتاب الطهارة، ثم يفرِّق بعضهم بين دم الإنسان وبين دم الحيوان الطاهر
(2)
يعني: من بهيمة الأنعام.
= مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 239)، حيث قال:" (و) المستحيل في باطن الحيوان نجس فمنه (دم) بتخفيف الميم وتشديدها، ولو تحلب من سمك وكبد وطحال لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} ".
مذهب الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 189)، حيث قال:" (ولا) يباح (أكل النجاسات كالميتة والدم) ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 319)، حيث قال:" (ودم) مسفوح من سائر الحيوانات، إلا دم شهيد ما دام عليه، وما بقي في لحم مهزول وعروق وكبد وطحال وقلب وما لم يسل، ودم سمك".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 52)، حيث قال:" (ودم لم يسفح) وهو الذي لم يجر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 240)، حيث قال:"وخرج بالمسفوح في الآية الكبد والطحال، وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنَجِسٌ معفوٌّ عنه".
مذهب الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 190)، حيث قال:" (إلا يسير دم، وما تولد منه) أي: من الدم (من قيح وغيره) كصديد (وماء قروح) فيعفى عن ذلك".
(2)
مذاهب الأئمة في نجاسة دم الحيوان:
مذهب الحنفية: نجاسته، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 319)، حيث قال:" (ودم) مسفوح من سائر الحيوانات".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرج الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 52)، حيث قال:"وأما ما يوجد في بطنها فهو من المسفوح فيكون نجسًا".=
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دَمِ الْحُوت فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ نَجِسًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ نَجِسًا).
دم الحوت جاء في الحديث: "أُحِلَّتْ لنَا مَيتتانِ ودَمانِ، فأما المَيتَتانِ: السمك والجراد، والدَّمانِ الكبدُ والطحالُ"
(1)
فأحلت لنا ميتتان هي السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد
(2)
، وهذا من المآخذ على هذا الكتاب عفا الله عنا وعنه، فهذا الدم الذي يخرج من الحوتِ هل هو نجس أم لا؟ الجواب: الأئمة مالك
(3)
والشافعي
(4)
وأحمد
(5)
يرون: أنه نجس، وأبو حنيفة
(6)
يرى: أنه ليس بنجس، ووجهة أبي حنيفة في ذلك وجهة قوية، لأنه يفرق بين دَم السَّمكِ ولين غيره، يقول:"سائر الدم إذا جف تجدْ أنه يَسْودّ، لكن دم السمك إذا جف أو يبس تجد أنه يكون أبيض" فهو يختلف عن غيره، ولذلك لا يرى أنه نَجِسٌ، وفيه تفصيل في بعض المذاهب.
= مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 240)، حيث قال:"وأما الدم الباقِي على اللَّحْمِ وعظامه من المذَكَّاةِ فنجس معفو عنه كما قاله الحليمي، ومعلوم أن العفو لا ينَافِىَ النجاسة".
مذهب الحنابلة: نجاسة دم مأكول اللحم، ويعفى عن اليسير منه، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 191)، حيث قال:" (أو من غير دم آدمي)، سواء كان من حَيوان (مأكول اللحم) كإبل وبقر (أو لا، كَهِرٍّ) بخلاف الحيوان النجس، كالكلب والخنزير، فلا يعفى عن شيء من دمه".
(1)
أخرجه ابن ماجه (3314)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(2)
أخرجه أحمد (5723). وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(3)
مذهب المالكية: نجاسته إن كان مسفوحًا كما تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
الحنابلة يعتبرونه من اليسير المعفو عنه، ينظر:"كشاف القناع"(1/ 191)، حيت قال:" (كدم سمك) لأنه لو كان نَجِسًا لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح، كحَيوانِ البَرِّ، ولأنه يستحيل ماء".
(6)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 319)، حيث قال:" (قوله: ودم سمك)؛ لأنه ليس بدم حقيقة؛ لأنه إذا يبس يبيض والدم يسود".
* قوله: (وَالاخْتِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَخَارِجًا عَنْهُ).
هذا الاختلاف في دم السمك هل هو نجس أم لا؟ فيه خلاف بين أصحاب مالك
(1)
، كما أنه موجود في مذهب الشافعي
(2)
وأبي حنيفة
(3)
وأحمد
(4)
أيضًا، لكن المؤلف ما فصل فيه؛ لأنه يرى أنها مسألة فرْعِيَّة لم يفصل القول فيها، والكلام فيها ليس مفصلًا، وهناك من يرى أنه نجس وهو الصحيح عند الشافعية وعند الحنابلة، ورواية عند مالك كل منهم من يرى أنه ليس بنجس وهو مذهب أبي حنيفة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ: مُعَارَضَةُ الْإِطْلَاقِ لِلتَّقْيِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] يَقْتَضي تَحْرِيمَ مَسْفُوحِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ).
جاء في القرآن ذكر الدم غير مقيد فلم يأت التفريق بين دم السمك وبين غيره، قالوا: فيعُمّ، فمن أخذ بالعموم قال بالتحريم، ومن لم يأخذ به قال: يفرق بين هذا وذاك.
* قوله: (وقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] يَقْتَضِي بِحَسَبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ تَحْرِيمَ الْمَسْفُوحِ فَقَطْ).
المؤلف يناقش قضية الفَرْقِ بين الدَّمِ القليل والكثير، الله - تعالى -
(1)
تقدَّم الكلام بالتفصيل.
(2)
معتمد مذهب الشافعي نجاسته، ينظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 239)، حيث قال:" (دم) بتخفيف الميم وتشديدها ولو تحلب من سمك وكبد وطحال".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 322)، حيث قال:" (و) عفي (دم سمك؛ لعاب بغل وحمار) والمذهب طهارتها". عبارة: عفي عن دم سمك توهم نجاسته ويدل عليه ما "روي عن أبي يوسف من نجاسة دم السمك الكبير نجاسة غليظة وسؤر الحمار والبغل نجاسة خفيفة".
(4)
معتمد مذهب الحنابلة طهارته، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 191)، حيث قال:" (كدم سمك) لأنه لو كان نَجِسًا لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح".
قال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} وفي الآية الأخرى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} ، وقوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} وذُكر الدم مطلقًا يعني: لفظ الدم، لكن في الأنعام جاء التنصيص على الدم المسفوح أي: الكثير، فهل كلمة:{مَسْفُوحًا} مرادها الدم الذي يحرُمُ هو الكثير أم أن ذلك جاء لأنه الأغلب ويدخل فيه القليل؟ هذا هو سرُّ الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، ونحن نقول: إن كان الدَّمُ قَلِيلًا جدًّا فإن هذا لا يؤثر، وهذا يرجع دائمًا إلى نفس الإنسان، "استَفْتِ نفْسَكَ وإن أفتوك، وإن أفتوك"
(1)
فما ترى أنه فاحش كثير فعليك أن تتَوَقَّى ذلك إن وقع في بدَنِكَ أو ثوبك، فأشد نجاسة بني آدم العذرة التي تخرج منه والبول وكذلك الدم، ومع ذلك أُثر عن بعض الصحابة أنه كان يخرج دمًا من أسنانهم ومن أضراسهم رعافٌ يسير ومع ذلك يمسحونه ويخرجُون إلى الصلاة
(2)
، فاليسير لا أثر له، أما الكثير فله أثر حتى وإن لم يكن سائلًا.
* قوله: (فَمَنْ رَدَّ الْمُطْلَقَ إِلَى الْمُقَيَّدِ اشْتَرَطَ فِي التَّحْرِيمِ السَّفْحَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي حُكْمًا زَائِدًا عَلَى التَّقْيِيدِ، وَأَنَّ مُعَارَضَةَ الْمُقَيَّدِ لِلْمُطْلَقِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ).
أما دليل الخطابِ
(3)
: فهو الذي يُعرف بمفهوم المخالفة أي الذي
(1)
أخرجه أحمد (18001) ولفظه: "يا وابصة استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1/ 224).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 128) ولفظه: "عن أبي هريرة، أنه لم يكن يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأسًا".
وأخرجه أيضًا عن ابن عمر: "أنه عصَر بثرة في وجهه فخرج شيء من دم، فحكه بين إصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ".
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 69)، حيث قال:"أما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفا لمدلوله في محل النطق، ويسمى دليل الخطاب أيضا".
يدل عليه الخطاب، يعني: مراد المؤلف: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} هذا مطلَقٌ، هل نقيِّدْهُ بالدَّمِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} أم لا؟
* قوله: (وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ، وَالْعَامُّ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ - قَضَى بِالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَالَ: يَحْرُمُ قَلِيلُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ).
يعني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} جاء ذكر الدم غير مُقَيَّدٍ، وفي قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} أُطلق أيضًا، لكن في قوله:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قُيِّدَ بكونه مسفوحًا أي: سائلًا، وعلى هذا إذا أخذنا بمفهوم المخالفة أن الدم غير المسفوح هو غير نَجِسٍ.
* قوله: (وَالسَّفْحُ الْمُشْتَرَطُ فِي حُرْمِيَّةِ الدَّمِ إِنَّمَا هُوَ دَمُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى).
فإذا ذبحت حيوان فذكيته هذا هو المسفوح، لكن الدم الذي يخرج من الحيوان الحي حتى ولو لم يكن مسفوحًا فإنه نجس.
" قول: (أَعْنِي أَنَّهُ الَّذِي يُسِيلُ عِنْدَ التَّذْكيَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَلَالِ الأكْلِ، وَأَمَّا أَكْلُ دَمٍ يَسِيلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ).
يعني: لو جُرح حيوان حتى وإن كان هذا الحيوان مأكول اللحم لكنه لا يزال حيًّا فليس للإنسان أن يشرب هذا الدَّم؛ لأنه محرم بإجماع العلماء
(1)
، كذلك لو جِيءَ بحيوان لا يجوز تذكيته، أي: حيوان محرم الأكل فلا يجوز حتى وإن ذَكَّيْتَهُ كما تذكى الحيوان الذي يجوز أكله، فإن ذلك لا يكون سببًا في إباحة دمه عند من يقول بإباحة القليل لا يجوز ذلك.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 324 - 326)، حيث قال:"واتفقوا على أن الميتة والدم ولحم الخنزير حلال لمن خشي على نفسه الهلاك من الجوع، ولم يأكل من أمسَّه شيئًا، ولم يك قاطع طريق، ولا مسافرًا سفرًا لا يحل". "واتفقوا أن الدم المسفوح حرام".
*قوله: (وَكَذَلِكَ الدَّمُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُحَرَّمِ الأكلِ، وَإِنْ ذُكِّيَ فَقَلِيلُهُ وَكثِيرُهُ حَرَامٌ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا).
يعني: لو جيء بأسدٍ فذُبِحَ أو بنَمِرٍ أو بفهد هذه الحيوانات المحرمة تذكيها لا يبيح لك شيئًا من دَمِهَا حتى ولو كان قَلِيلًا إلا في حالة الضرورة، والضرورة سيتكلم عنها المؤلف وسنفصل القول فيها - إن شاء الله - فالمضطر له أحكامه، فلو خشي الهلاك على نفسه يأكل من الميتة، ولو خَشِيَ على نفسه أن يموت من الظمأ ولم يجد ما يدفع به إلا شيئًا من خمر فيدفع به، أو شيء فيه نجاسَةٍ؛ لأنه مهجةُ الإنسان وحياته هي مقدمة في بقائها على ما يتعلق بأمر محرم كميتة أو غيرها.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَمِ الْحُوتِ فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، أَمَّا الْعُمُومُ فَقوله تعالى: (وَالدَّمُ)، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ كَوْنِ الدَّمِ تَابِعًا فِي التَّحْرِيمِ لِمَيْتَةِ الْحَيَوَانِ، أَعْنِي أَنَّ مَا حَرُمَ مَيْتَتُهُ حَرُمَ دَمُه، وَمَا حَلَّ مَيْتَتُهُ حَلَّ دَمُه، وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَا لَا دَمَ لَهُ فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ)
(1)
.
الفصد
(2)
: الدم اليسير الذي يبقى مع اللحم أحيانًا تأخذ اللحم فتجد أثر الدم هذا معفو عنه.
* قوله: (قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذ الْمَسْأَلَةِ فِي كتابِ الطَّهَارَةِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا حَدِيثًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الدَّمِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:"أُحِلَّتْ لنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ"، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 48)، حيث قال:" (الطاهر ميت ما) أي: حيوان بري (لا دم له) أي: ذاتي كعقرب وذباب".
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 336)، حيث قال:"الفصد: شق العرق؛ فصده يفصده فصدًا وفصادًا، فهو مفصود وفصيد. وفصد الناقة: شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه".
غَالِبِ ظَنِّي لَيْسَ هُوَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ).
المؤلف يكثر من ذكر القاضي لكن مضى وقت كثير جِدًّا لم يذكر كلمة القاضي، والمقصود بالقاضي هنا نفسه أبو الوليد بن رشد مؤلف كتاب بداية المجتهد، فالقاضي عند الأصوليين يطلق ويراد به شخص، أما هنا إذا قال: قال القاضي يعني نفسه كأنه يقول: قلت، والصحيح أن ظنه ليس صحيحًا؛ لأنه موجود في مسند الإمام الشافعي
(1)
وفي مسند الإمام أحمد
(2)
وفي السنن الكبرى للبيهقي
(3)
وفي سنن الدارقطني
(4)
وفي عدة كتب، وهذه الكتب كلها مشهورة، وكلمة الظن أحيانًا يطلق ويراد به اليقين، لكن المؤلف هنا يقصد بالظن: الشك، يعني: هو لا يعلم ذلك، لكن الواقع أنها موجودة في جُلِّ الكتب المشهورة.
* قوله: (وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَيْنِهَا الْمُختلَفُ فِيهَا فَأَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: لُحُومُ السِّبَاعِ
(5)
مِنَ الطَّيْرِ وَمِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ).
ما هي الحيوانات المحرمة لعينها أي: عينها حرام فهناك شيء يحرم لسبب منها: المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع، هذه عُرض لها سبب من الأسباب فجعلها محرمة، لكن هذه التي سيتحدث عنها المؤلف محرمة لعينها أي لذاتها.
(1)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(ص: 340)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(2)
تقدم.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 384)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2526).
(4)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 490) ولفظه: "أحل لنا من الدم وإن ومن المينة ميتتان، من الميتة الحوت والجراد، ومن الدم الكبد والطحال".
(5)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 264)، حيث قال:"ويقع السبع على كل ما له ناب يعدو به ويفترس كالذئب والفهد والنمر، وأما الثعلب فليس بسَبُع وإن كان له ناب، لأنه لا يعدو به ولا يفترس وكذلك الضبع".
" قول: (وَالثَّانِي: ذَوَاتُ الْحَافِرِ
(1)
الْإِنْسِيَّةُ).
ذات الحوافر مثل: البغال والخيل والحمر الأهلية.
* قوله: (وَالثَّالِثُ: لُحُومُ الْحَيَوَان الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ).
وهم خمسة من الفواسق كما في الحديث: "يُقتلن في الحل والحرم: الغُراب والحِدَأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور"
(2)
، وفي بعض الروايات بدل العقرب الحية
(3)
، وسيأتي الكلام في الحية والمالكية
(4)
يتوسعون في هذا الأمر ويَرَوْنَ أن الأمور التي يراها الشافعية والحنابلة أنها مستقذرة كالعقارب والحيات والصراصير يرون الجواز فيها، ويرون أن الحيَّة إذا ذَبَحْتها يجوز أكلها، فتجد خلافًا بين المذاهب في هذه المسألة، وهذا ليس تعسفًا من العلماء، ولكن هم مجتهدون وبعضهم قد يوفق إلى الصَّوابِ وبعضهم قد يخطِئُ في مسألة من المسائل لا قصدًا وإنما اجتهادًا، وفي قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ما المراد بالخبائث؟ وكيف نعرف أن هذه خبيثة؟ هل الخبيثة كما يقول الفقهاء: "ما استخبثه العرب، الذين يقيمون في المدن، ولا يأخذون برأي البادية مثلًا في ذلك؛ لأن أهل البادية يتساهلون في هذه الأمور، فبعضهم يقول: "كل ما في البر فهو حلال" وهكذا، هذه مسائل يختلف فيها الفقهاء، لكن هل أحدنا يستطيع أن يأكل صُرْصورًا؟ ما في إنسان يستطيع ذلك، أو يأكل الخنفسة أو الجعل أو الوزغ، فالعلماء أجمعوا على تحريمها"
(5)
،
(1)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 141)، حيث قال:"وسمي حافر الفرس والحمار من ذلك كأنه يحفر الأرض بشدة وطئه عليها".
(2)
أخرجه البخاري (3314) ولفظه: "خمس فواسق، يقتلن في الحرم - الفأرة، والعقرب، والحُدَيَّا، والغراب، والكلب العقور"، وأخرجه مسلم (1198).
(3)
أخرجه مسلم (1198).
(4)
سيأتي.
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 156)، حيث قال: "وكذلك أجمع العلماء على جواز قتل الفأرة في الحل والحرم وقتل العقرب والوزغ إلا أن ابن القاسم وابن=
ولكن المالكية استثنوا فقط الوزغ من هذا، ونترك ذلك لمحِلِّهِ - إن شاء الله.
* قوله: (وَالرَّابعُ: لَحْمُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَعَافُهَا النُّفُوسُ وَتَسْتَخْبِثُهَا بِالطَّبْعِ).
يعني: نأتي مثلًا إلى الضَّبُع تجد عند الشافعية يرون أنه صيدٌ ويؤكل، وتجِدُ عندَ الحنفية والمالكية لا يُؤكَل، لكن هل تقبله؟ فربما لا تقبله نفسك، فالضَّبُّ لا شك أن الأدلة دلت على حِلِّيَتِهِ أما حديث:"نهى عن الضَّبِّ"
(1)
هذا حديث ضعيف، وإنما الحديث الذي في الصحيحين أنه أُكِلَ على مائدة رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
* قوله: (وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ عَنِ الشَّافِعِيُّ
(3)
أَنَّهُ يُحَرِّمُ لَحْمَ الْحَيَوَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْ قَتْلِهِ، قَالَ: كَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلِ).
العلماء مختلفون في هذا، وقد جاء في الحديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ومخلبٍ من الطَّير"
(4)
هذا في الصحيحين: "كل ذِي ناب من السِّبَاعِ حرام"
(5)
وهذا نص في التحريم في صحيح مسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عرض لنا قواعد عامة، هذه هي الشريعة الإسلامية
= وهب وأشهب رووا عن مالك وذكره بن عبد الحكم عنه قال: لا أدري أن يقتل المحرم الوزغ لأنه ليس من الخمس التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهن، قيل له: فإن قتل المحرم الوزغ؟ قال: أرى أن يتصدق وهو مثل شحمة الأرض".
(1)
أخرجه أبو داود (3796) ولفظه: "نهى عن أكل لحم الضب" وحسنه الألباني.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 154)، حيث قال:" (لا خطاف) بضم الخاء وتشديد الطاء المسمى الآن بعصفور الجنة، للنهي عن قتله في مرسل اعتضد بقول صحابي".
(4)
أخرجه البخاري (5530)، ومسلم (/ 1932)، عن أبي ثعلبة الخُشَنِيِّ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذِي نابٍ من السِّبَاعِ".
(5)
أخرجه مسلم (1933)، ولفظه: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل ذي ناب من السباع فأكله حرام".
تضع أسسًا وقواعدَ يأتي بعد ذلك الفقهاء فَيُخَرِّجون على هذه الأصول، فالرسول صلى الله عليه وسلم وضع لنا قاعدة ثابتة: كل ذي مخلب من الطير لا تأكله، ونهى عنه وبيَّن أنه حرام، وكل ذى ناب من السباع لا تأكله، لكن الفقهاء يختلفون يقولون: هذا نابُه قصير، وربما يوجد فيه كذا وكذا ويختلفون في تفسير كلمة ناب
(1)
ومخلب
(2)
، وبعضهم: يجعل المقياس في ذلك في سباع العدو وغَيْرِهَا، فيقولون:"كل ما يعتدي على الإنسان بطبيعته لا يجوز أكله" وهم الشافعية
(3)
، هذا المعيار عندهم، فلا تأكلوا الأسد، ولا تأكلوا الذئب، ولا تأكلوا الفهد، ولا تأكلوا النمر، وهكذا كل ما يَعْتَدِي على الإنسان لا تأكله، لكن الذي لا يعتَدِي يؤكل عندهم كالثَّعْلَبِ، وكالضب والحنابلة
(4)
يوافقونهم في شيء ويخالفونهم في شيء، لكن عندنا أصول نرجع إليها.
* قوله: (فَيَكُونُ هَذَا جِنْسًا خَامِسًا مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ).
الخطاف: ورد فيه نهي ومختلف فيه، وسيأتي الخلاف في النمل والنَّحل والصُّرَدِ
(5)
والهدهد؛ لأن هذه جاء فيها حديث، أشياء كثيرة جدًّا، وربما هناك حيوانات يقف الإنسان فيها، ولكن هناك قاعدة ثابتة وهي:
(1)
الناب من الأسنان مذكر ما دام له هذا الاسم، والجمع أنياب وهو الذي يلي الرباعيات. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (2/ 632).
(2)
المخلب - بكسر الميم -: للطائرة والسبع بمنزله الظفر للإنسان. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص: 463).
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 153)، حيث قال:" (وكل ذي ناب) قوي يعدو به (من السباع ومخلب) بكسر الميم: أي ظفر (من الطير) للنهي عنهما، فالأول (كأسد) وفهد (ونمر وذئب ودب وفيل وقرد، و) الثاني نحو (باز وشاهين وصقر) ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 190)، حيث قال:" (وما له ناب يفترس به) نص عليه (سوى الضبع) فإنه مباح وإن كان له ناب".
" (و) يحرم أيضًا (ما له مخلب من الطير يصيد به، كعقاب وبازي وصقر وشاهين وحدأة وبومة) ".
(5)
الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود. انظر:"النهاية" لابن الأثير (3/ 21).
يُرْجِعُ كلَّ شيء إلى أصله، فإذا شككت في هذا الحيوان ولم يرد التنصيص فيه فانظر، هل هو من ذوي الأنياب أم لا؟ فإن كان ذا ناب فدعه، وإن كان هذا الطير له مخلب فدعه كالغراب ونحو ذلك، فينبغي تجنب كل ما ينطبق عليه النهي.
[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: السِّبَاعُ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ]
* قوله: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ السِّبَاعُ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ
(1)
).
الله سبحانه وتعالى قال: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45]؛ هذه صنعة الله سبحانه وتعالى وهذه الحيوانات التي تمشي على أربع؛ منها ما أباحه الله سبحانه وتعالى لنا؛ كبهيمة الأنعام، وذلك بشروط معروفة؛ هي:
التذكية؛ وهي أن نسمي الله سبحانه وتعالى ونذبح له، وأن يكون الذابح أهلًا للذبح .. إلى آخر ما سبق ذكره في كتاب "الذبائح".
وهناك حيواناتٌ حُرِّمت علينا، ممن يمشي على أربع؛ كالسباع. وابن القاسم المذكور هذا من أصحاب الإمام مالك، وله أثر كبير في المدونة، وهو الذي كان يسأل الإمام مالكًا عن كثيرٍ من المسائل، فإذا لم يجب الإمام مالك؛ نجد أنه هو أحيانًا يجيب، وقد روَى عن مالك في السباع ذوات. الأربع أنها مكروهة.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 541)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت الضبع والثعلب والذئب هل يحل مالك أكلها؟ قال: قال مالك: لا أحب أكل الضبع ولا الذئب ولا الثعلب ولا الهر الوحشي ولا الإنسي ولا شيئا من السباع. قال: وقال مالك: ما فرس وأكل اللحم فهو من السباع ولا يصلح أكله لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك".
*قوله: (وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَوَّلَ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَهُمْ
(1)
).
يعتمد المؤلف هنا وفي مواضع كثيرة على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، ولو رجعنا إلى الكتاب لوجدنا أن ما يشير إليه المؤلف إما منقول نصًّا، أو له وجودٌ في هذا الكتاب.
لكن ابن رشد قرَّب المسائل؛ لأن ذاك كتابٌ يُعنَى بالأحاديث والآثار، وبنقل أقوال السلف، وبذلك تتشعب مسائله، فربما تمر بك صفحات دون أن تصل إلى القَصد الذي تروم الوصول إليه، لكن ابن رشد رحمه الله جمع تلك المسائل وأوجزها في شبه قواعد، ونحن نجد أن الإمام مالكًا في كتابه "الموطأ" بعد أن ذكر حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ من السباع"
(2)
، ذكر أن هذا هو مذهبه، ومن هنا وقع الخلاف في مذهب مالك. وأما جمهور العلماء فإنهم يرون تحريم كل ذي نابٍ من السباع؛ على أن هناك بعض الحيوانات يختلفون فيها؛ لأن العلماء يختلفون في تحديد الناب ما هو؟ هل هو الناب مطلقًا؟ أو أن المراد به الناب القوي الذي يضرب به الحيوان فريسته؛ فمن العلماء من أطلق، ومنهم من قيَّد ذلك بأن يكون قويًّا، ولذلك نجد أنهم اختلفوا في مثل الثعلب، واختلفوا في الضبع، لوجود حديثٍ يدل على جواز أكله
(3)
، وهكذا المسائل التي تمرُّ بنا - إن شاء الله - مما أشار إليه ابن رشد.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(2/ 117)؛ حيث قال: "والمكروه: سبع وضبع وثعلب وذئب، وهر وإن وحشيًا، وفيل وفهد ودب ونمر ونمس - وهذا مفهوم قوله فيما مر ووحش لم يفترس ما عدا الهر - وكلب ماء وخنزيره، المعتمد أنهما من المباح كما مر والمعتمد أيضًا أن الكلب الإنسي مكروه، وقيل حرام، ولم يرد قول بإباحته".
(2)
يأتي تخريجه قريبًا.
(3)
سيأتي تخريجه قريبًا.
* قوله: (وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإ ما دَلِيلهُ أَنَّهَا عِنْدَهُ مُحَرَّمَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بِعَقِبِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ"
(1)
؛ "وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا"
(2)
).
فقد ساق حديث أبي هريرة، ثم أشار إلى أنه يأخذ به؛ أي: بما اشتمل عليه الحديث؛ وبهذه العبارة قال بعض المالكية: إن هذا هو مذهب مالك؛ ومنهم من نقل عنه أنه لا يرى تحريم السباع.
* قوله: (وَإِلَى تَحْرِيمِهَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَشْهَبُ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ
(4)
،
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(2)
قال مالك في: "الموطأ" ت عبد الباقي (2/ 496): "باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام"، وحدثني عن مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي نابٍ من السباع حرام" قال مالك: "وهو الأمر عندنا".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 272)؛ حيث قال: "
…
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي نابٍ من السباع حرام""، قال الشافعي: "وبهذا نقول".
(4)
يُنظر: "التبصرة" للخمي (4/ 1605)؛ حيث قال: "واختُلِفَ في كل ذي ناب من السِّباع، فقال عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب: الأسود والنمور والذئاب واللبؤة والكلاب حرامٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ". وعلى هذا يدلُّ قول مالك في الموطأ؛ لأنه قال في الرسم: "باب تحريم أكل ذي ناب من السباع"، ثم أدخِل الحديث. وقال الأبهري وابن الجهم: "هي مكروهة؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]. والأول أصوب لوجوه؛ أحدها: أنَّ قوله تعالى: {لَا أَجِدُ} إخبارٌ عن الماضي، ولا يقضي ذلك على أنه لا يجد في المستقبل، ولا أنَّه لا ينزل عليه تحريم تلك الأربع. والثَّاني: أن ذلك قد وُجد، فحرَّم ذبائح المجوس والخمر وهما مطعومان، لم تتضمن تلك الآية تحريمهما. والثَّالث: أنَّ الآية مكيةٌ والحديثَ مدنيٌّ، والمتأخِّر يقضي على المتقدِّم، ولا يعترض هذا بحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه في قوله:=
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
).
لعل الصواب: (وأشهب من أصحاب مالك) أو (وأشهب وبعض أصحاب مالك)؛ لأنه مرَّ بنا ما ذكره المؤلف، أن أكثر المالكية أخذوا بالرواية الأولى، فلعل العبارة بها خطأ كما أوضحنا.
* قوله: (إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جِنْسِ السِّبَاعِ الْمُحَرَّمَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "كُلُّ مَا أَكَلَ اللَّحْمَ فَهُوَ سَبُعٌ"، حَتَّى الْفِيلُ وَالضَّبُعُ وَالْيَرْبُوعُ عِنْدَهُ مِنَ السِّبَاعِ).
أكثر المذاهب تحفُّظًا أو تشددًا في ذلك هم الحنفية؛ فإنهم ضيَّقوا ذلك، ولكن نجد أن الشافعية والحنابلة قد اختلفوا في بعض المسائل؛ هل نابه قوي أوْ لا؟ والحنفية حسموا أمرهم فقالوا: السبع هو كل ما أكل اللحم.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِير} [الأنعام: 145]، فلم تتعرض الآية الكريمة للسباع ذات الأنياب، ولا أيضًا للطيور ذات المخالب، فهل سكوت الآية عنها دليلٌ على جوازها؟ أو أن ما جاء في الأحاديث إنما هو تخصيصٌ أو تقييدٌ؟
تكلم العلماء عن ذلك، وذكروا أسبابًا كثيرة، ونحن عندما نلقي نظرة سريعة على ذلك؛ نجدُ أن هذه الآية:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ} [الأنعام:
= "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كْلِّ ذِي نَاب مِنَ السِّبَاع"؛ لأنَّه يحتمل التحريم والكراهية. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مقيد، والمقيد يقضي عَلى المطلق".
(1)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(6/ 304)؛ حيث قال: " (ولا يحل ذو ناب يصيد بنابه) فخرج نحو البعير (أو مخلب يصيد بمخلبه) أي ظفره فخرج نحو الحمامة (من سبع) بيان لذي ناب. والسبع: كل مختطف منتهب جارح قاتل عادة (أو طير) بيان لذي مخلب (ولا) (الحشرات) هي صغار دواب الأرض واحدها حشرة (والحمر الأهلية) بخلاف الوحشية فإنها ولبنها حلال (والبغل) ".
145] في سورة مكية؛ والآيات المكية إنما عُنيت بأمر العقيدة، فهي - كما نعلم - جاءت لمحاربة الشرك، ونشر العقيدة الإسلامية.
ولذلك نجد أنه في مفتتح هذه السورة بدأ الله - تعالى - بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]، فقرر سبحانه وتعالى أنه وحده المستحق للحمد، ثم تكلم سبحانه وتعالى في هذه السورة عما يتعلق بأحكام العقيدة، وكيف كان الكفار يجعلون لله أندادًا كما في قوله:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، وقوله سبحانه:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] فهذه السورة إنما تُرسخ العقيدة.
فبيَّن العلماء أن الآيات المكية جاءت:
أولًا: لتقرير حقيقة التوحيد، وتثبيت العقيدة الإسلامية، ومحاربة الشرك والخرافات والبدع.
ثانيًا: لتقرير الأخلاق الفاضلة التي كانت موجودة، ومحاربة الرذائل والأخلاق السيئة التي كانت سائدة في تلك المجتمعات.
ثم نجد أن الغالب عليها قِصَرُ فواصلها؛ آيات قصيرة أجراسها قوية تقرع القلوب فتهزها.
فيقول العلماء في هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]: أي: شيئًا محرمًا، وبعضهم يقول: أي: لا أجد محرمًا فيما تأكلونه وتطعمونه؛ ومنهم من يقول: هذه الآية نزلت نتيجة سؤال، سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور، فجاء الجواب عنها. وأيضًا فإن تلك الأحاديث جاءت في المدينة، وتلك بمكة، إذًا هي متأخرة عنها، ولذلك تكون مقيِّدة لهذه الآية.
ولكن المقياس عند أبي حنيفة هو أكل اللحم، فما يأكل من هذه السباع اللحم؛ فلا يجوز أكله، إذًا هو مُحرَّم.
والمقياس عند الشافعية: هو أن يكون يعدو بطبعه، لا أن يكون غالبه العَدْو، ولذلك استثنوا الضبع والثعلب.
والمقياس عند الحنابلة: أن يكون ذا نابٍ قوي، بحيث يضرب به فريسته. فكل فقيهٍ من الفقهاء وضع معيارًا يرتب عليه هذه الأحكام.
والفيل مشترك في التحريم عند الحنفية والشافعية والحنابلة، بل وعند المالكية من حيث الجملة؛ لأنه إذا كان الناب فلا ناب أكبر من نابٍ الفيل؛ وأُثِر عن بعض العلماء جواز أكله. أما الضبع فهو عند المالكية - على الرواية التي قال فيها:"والأمر عندنا" - والحنفية لا يجوز أكله، وأما عند الحنابلة والشافعية فيجوز أكله.
واليربوع هو الذي يسميه العوام (الجربوع)، وهو حيوانٌ صغير يشبه الفأرة تمامًا، وقد اختلف فيه العلماء؛ فعند الشافعية والحنابلة والمالكية يُؤكَل، وعند الحنفية لا يؤكل ولكن ليس لأنه سَبُعٌ عندهم؛ بل لأنهم يرونه مما استُخبِث؛ لأنه شبيهٌ بالفأر، والفأر خبيث، وهو من الخمسة الفواسق اللاتي يُقتلن في الحِل والحرم، فاليربوع يلحَق به.
" قول: (وَكَذَلِكَ السِّنَّوْرُ
(1)
).
السنور هو الهر، وقد جاء فيه نصٌّ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل
(1)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(6/ 304)؛ حيث قال: " (ولا يحل ذو ناب يصيد بنابه) فخرج نحو البعير (أو مخلب يصيد بمخلبه) أي ظفره فخرج نحو الحمامة (من سبع) بيان لذي نابٍ. والسبع: كل مختطف منتهب جارح قاتل عادة (أو طير) بيان لذي مخلب (ولا)(الحشرات) هي صغار دواب الأرض واحدها حشرة (والحمر الأهلية) بخلاف الوحشية فإنها ولبنها حلال (والبغل) الذي أمه حمارة، فلو أمه بقرة أكل اتفاقًا ولو فرسًا فكأمه (والخيل) وعندهما، والشافعي تحل.
وقيل إن أبا حنيفة رجع عن حرمته قبل موته بثلاثة أيام؛ وعليه الفتوى عمادية ولا بأس بلبنها على الأوجه، (والضبع والثعلب) لأن لهما نابًا، وعند الثلاثة يحل (والسلحفاة) برية وبحرية (والغراب الأبقع) الذي يأكل الجيف لأنه ملحق بالخبائث، قاله المصنف. ثم قال: والخبيث ما تستخبثه الطباع السليمة (والغداف) بوزن غراب: والنسر جمعه غدفان قاموس (والفيل) والضب، وما روي من أكله محمول على الابتداء (واليربوع وابن عرس والرخمة والبغاث) هو طائر دنيء الهمة يشبه الرخمة وكلها من سباع البهائم. وقيل الخفاش لأنه ذو ناب".
الهِر؛ واختلفوا في السنور البري؛ فمن العلماء من منعه، ومنهم من أجازه، وأكثر العلماء على منعه.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ الضَّبُعُ).
وكذلك أحمد
(1)
، فرأيُ الإمامين الشافعي وأحمد متفقٌ حول إباحة أكل الضبع، وقد ورد فيه حديثٌ يدل على جواز أكله، وهو حديث صحيح، ولما سُئِل الصحابة: رخَّص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: "نعم"
(2)
؛ والذين يمنعون أكله يقولون: أولًا هو مستعبد، ثم إنه يأكل العذرات أحيانًا، وعُرِف أيضًا أنه يأخذ الأطفال الصغار، فهذه مبررات يذكرها الذين يمنعونه.
* قوله: (وَالثَّعْلَبُ).
أما الثعلب فاتفق الحنابلة الشافعية فيه، وأحمد له روايتان
(3)
؛ إحداهما أنه يُؤكل، والأخرى أنه لا يُؤكل، والذي جعل بعض العلماء لا يرون أكله؛ أنه مما جعل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في حق من قتله وهو محرم، أو فيمن قتله وهو في الحرم، وقد مرَّ بنا ذلك في كتاب الحج، وأما من أجاز أكله فيرى أنه ليس مما يعدو على الإنسان، ولذلك اختلف الحنابلة فيه.
(1)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(12/ 380)؛ حيث قال: "قال إسحاق بن منصور: قُلْتُ: أكلُ الضبِّ والضَّبعِ؟ قال: أما الضبعُ فلا بأسَ به، والضبُّ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا آكله، ولا أحرمه".
(2)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(3)
يُنظر: "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" للقاضي أبي يعلى (3/ 28)؛ حيث قال: "مسألة: في الثعلب هل يباح أكله أم لا؟ نقل حنبل عنه: كل ما يودي إذا أصابه المحرم يؤكل، فظاهر هذا أن كل ما ضمن المحرم بالجزاء يباح أكله، وقد نص في رواية أبي الحارث في الثعلب شاة، فهذا يدل على إباحته. ونقل عبد الله عنه: لا يعجبني أكل الثعلب، نهى - النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي نابٍ من السباع".
* قوله: (وَإِنَّمَا السِّبَاعُ الْمُحَرَّمَةُ الَّتِي تَعْدُو عَلَى النَّاسِ كالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذئْبِ).
يدخل في ذلك أيضًا الفهد، وكثيرٌ من الحيوانات؛ أي: من السباع ذوات الأنياب التي تلحق بهذا؛ كابن آوى، وابن عرس وغيرهما؛ أكثر العلماء على أنها محرمة.
* قوله: (وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ).
أي: في مذهب مالك.
* قوله: (وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقِرْدَ لَا يُؤْكلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ).
بل إن ابن عبد البر نقل أن العلماء قد اتفقوا على تحريم أكله
(1)
، ولكن أُثِر عن بعض السلف ما يدل على كراهته، والذين قالوا بأنه لا يُؤكَل؛ قالوا: هو مسخ، كما أنه خبيث، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وهو من الخبائث، ومما تعافه النفوس؛ وابن عبد البر رحمه الله استقصى أقوال العلماء في ذلك، وبيَّن أنهم كلهم متفقون، وإن وُجِد قولٌ يدل على خلاف ذلك فهو قولٌ ضعيف.
* قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَنَّ الْكَلْبَ حَرَامٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ سُؤْرِهِ نَجَاسَةَ عَيْنِهِ
(2)
).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 293)؛ حيث قال: "ولا أعلم بين العلماء خلافًا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 272)؛ حيث قال: "إنما يحرم كل ذي ناب يعدو بنابه. الخلاف والموافقة في أكل كل ذي نابٍ من السباع وتفسيره (قال الشافعي) رحمه الله: قال لي بعض من يوافقنا في تحريم كل ذي نابٍ من السباع: ما لكل ذي نابٍ من السباع لا تحرمه دون ما خرج من هذه الصفة؟ قلت له: العلم يحيط إن شاء الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قصد قصد أن يحرم من السباع موصوفًا، فإنما قصد قصد تحريم بعض السباع دون بعض السباع، كما لو قلت: قد أوصيت لكل شاب بمكة أو لكل شيخ بمكة، أو لكل حسن الوجه بمكة، كنت قد قصدت بالوصية قصد =
أما أكله فهو حرامٌ بلا شك؟ لأنه أيضًا من السباع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الكلب خبيث، وثمنه خبيث"
(1)
؛ إذًا هو يدخل أيضًا في الخبائث؟ وأما الانتفاع به؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اقتناء الكلب، إلا أن يكون كلب حراسة أو ماشية أو صيد، فالرسول استثنى ذلك؛ إذِ الراعي في الصحاري يحتاج إلى الكلاب، فالإنسان ينام، وهذا الكلب يقوم بحراسة الغنم، وهو معروفٌ بأمانته، ومعروفٌ أيضًا بوفائه لصاحبه، وبذكائه، أما أن يقتنيه الإنسان كما هو موجودٌ في هذا الزمان، أن يربي الكلاب ويُعنَى بها وينظفها؛ فهذا إنما هو تقليدٌ لغير المسلمين، ونحن منهيون أن نتشبه بأولئك الأقوام، إلى جانب أن الكلب نجس، بل يوجد في لعابه مادةٌ لا توجد في غيره، ولذلك جاء الأمر بغسل الإناء مما ولغ فيه سبع مرات
= صفة دون صفة، وأخرجت من الوصية من لم تصف أن له وصحيتك. قال: أجل، ولولا أنه خص تحريم السباع لكان أجمع وأقرب، ولكنه خص بعضًا دون بعض بالتحريم.
(قال الشافعي): فقلت له: هذه المنزلة الأولى من علم تحريم كل ذي ناب، فسل عن الثانية. قال: هل منها شيء مخلوق له نابٍ وشيء مخلوق لا ناب له؟ قلت: ما علمته، قال: فإن لم تكن تختلف فتكون الأنياب لبعضها دون بعض فكيف القول فيها؟ قلت: لا معنى في خلق الأنياب في تحليل ولا تحريم. لأني لا أجد إذا كانت في خلق الأنياب سواء شيئًا أنفيه خارجًا من التحريم. ولا بد من إخراج بعضها من التحريم إذا كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إخراجه. قال: أجل هذا كما وصفت، ولكن ما أردت بهذا؟ قلت: أردت أن يذهب غلطك إلى أن التحريم والتحليل في خلق الأنياب. قال: ففيم؟ قلت: في معناه دون خلقه، فسل عن الناب الذي هو غاية علم كل ذي ناب. قال: فاذكره أنت، قلت: كل ما كان يعدو منها على الناس بقوة ومكابرة في نفسه بنابه دون ما لا يعدو. قال: ومنها ما لا يعدو على الناس بمكابرة دون غيره منها؟ قلت: نعم. قال: فاذكر ما يعدو. قلت: يعدو الأسد والنمر والذئب. قال: فاذكر ما لا يعدو مكابرة على الناس. قلت: الضبع والثعلب وما أشبهه. قال! فلا معنى له غير ما وصفت؟ قلت وهذا المعنى الثاني. وإن كانت كلها مخلوف له ناب".
(1)
أخرج مسلم (1568): عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ".
إحداهن بالتراب
(1)
، وفي رواية:"عفروه السابعة والثامنة بالتراب"
(2)
، ثم اكتشف علماء الطب أنه يوجد به مادةٌ لزجة، لا يزيلها إلا التراب.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ؛ مُعَارَضَةُ الْكِتَابِ لِلْآثَارِ).
ومراد المؤلف - رحمه الله تعالى - الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، ولكن سورة المائدة أضافت أمورًا أخرى لم تكن في سورة الأنعام، فقال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، كما حرَّم أيضًا الخمر في سورة المائدة، وقد مر تحريمها بمراحل ثلاث؛ أشار سبحانه وتعالى إلى ضررها فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم حُرمت الخمر وقت الصلاة:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم جاء تحريمها تحريمًا قطعيًّا في سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90 - 91]، وقد أجمع العلماء على تحريم الخمر.
إذنْ تحريم الخمر جاء أيضًا في سورة المائدة، ولم يَرِدْ ذكرها في آية الأنعام، وهي مُجمعٌ عليها، وجاء تحريم الربا في سورة أخرى غير آية الأنعام أيضًا، فالشيء الذي نريد أن ننتهي إليه؛ هو أن آية الأنعام ليست حاصرةً للمحرمات؛ وإنما ذكرت طرفًا من المحومات، وقد نزلت في المدينة، فذكرت ما كان مناسبًا لذلك، كما أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ
(1)
أخرجه مسلم (280).
(2)
لم أقف على هذه الرواية.
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول أيضًا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 25]، ويقول:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور: 54]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كل ذي نابٍ من السباع، وعن كل ذي مخلبٍ من الطير
(1)
.
وجاءت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا لكتاب الله عز وجل إما بالتفصيل، أو بتقييد ما أُطلِق، أو بتخصيص ما عمم. وهذا ليس غريبًا، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر المحرمات في قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى أن قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، لم يَرِدْ في الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، فجاء ذلك في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"
(2)
، وأخذ العلماء ذلك إجماعًا، ولا يُنظَر إلى قول الذين شذوا؛ فهم ممن لا يُعتدَّ بهم في هذه المسألة، فالذين خالفوا فيها هم فرقة من الخوارج؛ لأنهم يرون أن هذا زيادة على ما في كتاب الله.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ؛ أَنَّ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَلَالٌ).
ولكن الأمر كما فصَّلنا سابقًا.
* قوله: (وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ" - أَنَّ السِّبَاعَ مُحَرَّمَةٌ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
(1)
يأتي تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408).
أبو ثعلبة الخشني - رضي الله تعالى عنه - من متأخري الصحابة.
وهذا حديثٌ متفق عليه.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَا رَوَاهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ
(1)
، هُوَ أَبْيَنُ فِي الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ").
أيضًا حديث أبي هريرة في "مسلم" وفي غيره، وليس عند مالك وحده، وقد قال المؤلف "أَبْيَنُ"؛ لأن حديث أبي ثعلبة بلفظ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"
(2)
، والنهي الأصل فيه أنه يقتضي التحريم، لكن قد توجد قرينة تصرف، أما في الحديث الآخر:"كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حرام"
(3)
؛ و"كل" من صيغ العموم، فنصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريمه، ولذلك "قطعت جهيزة قول كل خطيب"
(4)
كما قيل في المثل؛ والمؤلف - رحمه الله تعالى - سيفرق في الجمع بين الآية وبين حديث أبي ثعلبة، والجمع بين الآية وبين حديث أبي هريرة.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأوَّلَ قَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ فِيهِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ).
يريد المؤلف - رحمه الله تعالى - أن يقول: إن الآية ذكرت لنا المحرمات، ولم يكن من بين المحرمات ما ورد عنه النهي في الحديث، فيُحمَل النهي الوارد في الحديث على الكراهة.
* قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَيْسَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
(1)
أخرجه مالك في: "الموطأ"(2/ 496).
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
أخرجه ابن ماجه (3233)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح".
(4)
سبق تخريجه قريبًا.
الْآيَةِ إِلَّا أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ نَاسِخ لِلآيَةِ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ
(1)
).
ونحن لا نحتاج إلى النسخ؛ لأن الآية التي معنا إنما هي في سورة الأنعام، وهي مكية، والأحاديث التي معنا قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فجاءت متأخرة عنها، فالآية ذكرت عددًا قليلًا من المحرمات.
* قوله: (فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَالْآيَةِ حَمَلَ حَدِيثَ لُحُومِ السِّبَاعِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي الْآيَةِ حَرَّمَ لُحُومَ السِّبَاعِ
(2)
. وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الضَّبُعَ وَالثَّعْلَبَ مُحَرَّمَانِ فَاسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ لَفْظِ السِّبَاعِ).
(1)
يُنظر: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص: 286)؛ حيث قال: "نقول في تحريمه لحوم الحمر الأهلية وكل ذي نابٍ من السباع، وذي مخلب من الطير، مع قول الله عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. أراد أنه لا يجد في وقت نزول هذه السورة أكثر من هذا في التحريم. ثم نزلت المائدة، ونزل فيها تحريم المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم. فزادنا الله تعالى، فيما حرم بالكتاب، وزادنا في ذلك - على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم سباع الوحش والطير والحمر الأهلية".
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 438)؛ حيث قال: "ولا يجوز أن ينسخ القرآن بالنسبة إلا بتاريخ متفق عليه، فوجب مع هذا الخلاف ألا نحرمها كالميتة، ونكرهها؛ لأنه لو ثبت تحريمها لوجب نقله من حيث يقطع العذر. وقد روي عن الرسول أنه أجاز أكل الضبع وهو ذو نابٍ. فبان بهذا أنه صلى الله عليه وسلم أراد بتحريم كل ذي ناب من السباع الكراهية. وقال الكوفيون والشافعي: ليس في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} حجة لمن خالفنا؛ لأن سورة الأنعام مكية، وقد نزل بعد هذا قرآن فيه أشياء محرمات، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهي من آخر ما نزل، وفيها تحريم الخمر وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وحرم رسول الله من البيوع أشياء كثيرة. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل ذي نابٍ من السباع كان بالمدينة، لأنه رواه عنه متأخرو أصحابه: أبو هريرة، وأبو ثعلبة، وابن =
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف لا حاجة له؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول أيضًا:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ وفي هذه الأحاديث الصحيحة مما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب، فنعمل به، فنقول: هذا مُخصصٌ لما في كتاب الله عز وجل فالآية أطلقت، والحديث جاء تخصيصًا أو تقييدًا لها.
* قوله: (وَمَنْ خَصَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْعَادِيَةَ فَمَصيرًا لِمَا "رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّبُعِ آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَصَيْدٌ هِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَأَنْتَ سَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ"
(1)
).
وُجِّه هذا السؤال لجابر، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أيضًا ممن اشتهر برواية الحديث، وإن لم يكن أكثر الصحابة؛ فأكثر الصحابة إنما هو أبو هريرة، وإن كان إسلامه جاء متأخرًا، لكنه كان متفرغًا، كان من أهل الصُّفَّة، فهو دائمًا يتتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكاد ينطق بكلمة إلا ويتلقفها رضي الله عنه.
وهذا الحديث أسنده جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له: "فَأَنْتَ سَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم؟ " فقَالَ: نَعَمْ.
= عباس. وقد حرم رسول الله نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ولم يقل أحد من العلماء أن قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يعارض ذلك؛ بل جعلوا نهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها زيادة بيان على ما في الكتاب. واختلفوا هل المراد بالنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع جميعها أو بعضها، فقال الشافعي:"إنما أراد رسول الله بالنهي ما كان يعدو على الناس، ويفترس مثل الأسد، والذئب، والنمر، والكلب العادي وشبهه مما في طبعه في الأغلب أن يعدو، وما لم يكن يعدو فلم يدخل في النهي فلا بأس بأكله واحتج بحديث الضبع في إباحة أكلها، وأنها سبع".
(1)
أخرجه الترمذي (851)، وقال:"حسن صحيح".
* قوله: (وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ؛ فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ).
لا شك أن الحديث إنما هو صالح للاحتجاج به، وهو حجة في هذا الموضوع، لكن ليس معنى هذا أنه ذهب إمامان جليلان كالإمام الشافعي وأحمد إلى جواز ذلك، وأنه جاء ذلك عن رسول الله؛ ربما نفسه عافته فتركه، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الضب
(1)
.
* قوله: (وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ إِقْرَارِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى أُكْلِ الضَّبِّ بَيْنَ يَدَيْهِ
(2)
).
أدخل المؤلف الآن مسألة في مسألة؛ انتقل إلى الضب، والضب قصته أن ميمونة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وهي خالة لخالد بن الوليد، ولعبد الله بن عباس، ولها أخت اسمها حفيدة، قدمت من نجد ومعها زوجها، فأهدت إلى أختها ضبًّا، فطبخته، فقدمته شواءً، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمد يده ليأكل منه، وكان عادتهم أن يخبروهم ما الطعام الذي قُدِّم أمامهم إن كان فيه غرابة، فقالت إحدى النساء: لو ذكرتم ذلك لرسول الله!! فأبلغوه، فرفع عليه الصلاة والسلام يده عنه، فقال له خالد بن الوليد:"أحرام هو يا رسول الله؟ " قال: "لا؛ ولكنه ليس بأرض قومي، فأجدني أعافه"
(3)
؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرفه في قومه فرآه غريبًا عليه، فعافته نفسه، عافه مع أنه طيب، فما كان من خالد بن الوليد رضي الله عنه إلا أن اجتره ثم قطَّعه فأكله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه مُقرًّا له على ذلك، فاجتمع فيه نوعان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: القول، والإقرار.
(1)
يأتي تخريجه قريبًا.
(2)
أخرج مسلم (1943) عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ:"لَسْتُ بِآكِلِهِ، وَلَا مُحَرِّمِهِ".
(3)
هو الحديث الذي ذكره المؤلف.
* قوله: (وَأَمَّا سِبَاعُ الطَّيْرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا حَلَالٌ؛ لِمَكَانِ الْآيَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ).
جاء حديث جمع بين الأمرين: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير"
(1)
هذا في "سنن أبي داود" وبعض أصحاب السُّنَن، وقد أورد المؤلف - رحمه الله تعالى - هذا الحديث، كما أورد الحديث الآخر:"كل ذي نابٍ من السِّباع حرام"
(2)
؛ لأنه في "صحيح مسلم" وفي غيره.
وجاء في "صحيح مسلم" أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي مخلبٍ من الطير
(3)
؛ والمخلب بمثابة الأظفار التي في يد الإنسان، فهذه المخالب يستعين بها على فريسته، يستفيد منها، هذه هي طريقته.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الخلق ولم يضيعه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ فهناك من يأكل اللحم، وهناك من يأكل النبات، وهناك من يعيش على نوع من الأطعمة، وهناك من أعطاه الله نابًا، وهناك من أعطاه الله مخلبًا، وهنًاك من أعطاه الله أسنانًا، وهناك من جمع الله له أشياء من تلك، فوضع لكل دابة ما تستعين به على طلب معيشتها.
والمراد بالآية المتكررة التي كررنا الاستدلال بها: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145].
* قوله: (وَحَرَّمَهَا قَوْمٌ؛ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ).
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
سيأتي تخريجه قريبًا.
هذا اللفظ عند أبي داود وغيره.
* قوله: (إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
). لكنْ هناك لفظٌ آخر أخرجه مسلم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي مخلبٍ من الطير"
(2)
؛ وجمع بينهما عند أبي داود، وكذلك حديث خالد بن الوليد:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الخيل والبغال والحمير، وكل ذي مخلبٍ من الطير"؛ والمؤلف لم يعرض هذا؛ فهو يذكر بعض الأدلة، ولا يستقصيها كلها.
ولم يُطل المؤلف - رحمه الله تعالى - الكلام عن الطَّير، فمثلًا الغراب الأبقع، وكذلك الحدأة التي عدَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس الفواسق
(3)
، وكذلك النسور والباز وغير ذلك، لكن أكثر الطيور مُباحة، وما حرَّمه الله سبحانه وتعالى فهو قليلٌ جدًّا.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَوَاتِ الْحَافِرِ الْإِنْسِيِّ]
* قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ؛ وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَوَاتِ الْحَافِرِ الْإِنْسِيَّةِ؛ أَعْنِي: الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ).
يعني التي عُرِفت بالحوافر في أقدامها.
* قوله: (فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ
(1)
أخرج مسلم (1934) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُل ذِي نَاب مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"، وأخرجه أبو داود (3803).
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
سيأتي تخريجه قريبًا.
الْإِنْسِيَّةِ
(1)
، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2)
وَعَائِشَةَ
(3)
أَنَّهُمَا كَانَا يُبِيحَانِهَا).
كان يجب على المؤلف - رحمه الله تعالى - أن يُقيِّد هذا الأمر ولا يُطلق هذا وينسبه إلى عبد الله بن عبَّاس وعائشة رضي الله عنهما من الصحابة؛ وسنده في ذلك هو ابن عبد البر، وابن عبد البر نبَّه على هذا، ونُقِل عنهما ما يُخالف ذلك.
إذن نُقِل عنهما ما يدل على جواز أكله، ونقل عنهما ما يدل على تحريم أكله؛ وقالوا: محرمة لأنها جلَّالة؛ يعني: تأكل العذرة.
وهناك حديث لم يذكره المؤلف؛ في قصة أحد الصحابة؛ أنَّه مرَّت بهم سنة من السنين - أي: سَنة أدركهم فيها الجوع - فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأنَّه لا يوجد عندهم إلا حُمُرٌ سِمان، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم؛ لكن العلماء أجابوا عن ذلك بأن هذه حالة ضرورة؛ وستأتي الأدلَّة الصحيحة في الصحيحين وغيرهما على تحريم أكل لحوم الحُمُر الأهلية.
(1)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 123)؛ حيث قال: "وَأَمَّا (لَحْمُ) الْخمُرِ الْإِنْسِيَّةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ فِي تَحْرِيمِهَا".
(2)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(8727): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَمَّنْ حَدَّثَه، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيةِ، فَقَالَ:"إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ هِيَ الْحَمُولَةُ"، ثُمَّ تَلَا:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ.
والذي صحَّ عن ابن عباس أنه توقف فيها فقال: "لا أدري أنهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنها كانت حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرَّم يوم خيبر لحم الحمر الأهلية" أخرجه البخاري (4227)، ومسلم (1939).
(3)
لم أقف على سنده، وينظر:"المحلى بالآثار" لابن حزم (6/ 80)؛ حيث قال: "فإن ذكروا أن عائشة أم المؤمنين احتجت بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية؟ قلنا: لم يبلغها التحريم ولو بلغها لقالت به، كما فعلت في الغراب، وليس مذكورًا في هذه الآية".
* قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُهَا، رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ
(1)
).
وهم الأئمة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد، قولهم في ذلك واحد؛ أنَّه يحرُم أكل لحوم الحُمُر، ويلحقون بها أيضًا: البغال، وما تَولَّد من مُحرَّم وغير مُحرَّم؛ لأنَّ هذا من تغليب المحظور على المبيح.
* قوله: (وَكذَلِكَ الْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِغَالِ
(2)
. وَقَوْمٌ كَرِهُوهَا وَلَمْ يُحَرِّمُوهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ
(3)
).
البغال هي التي تتولد بين الخيل والحمير، والبغال فيها مزايا لا تجدها في الخيل ولا في الحمار؛ لأنَّها أخذت نشاط الخيل وسرعته وقوته، وأخذت قوة تحمُّل الحمار، ولذلك تجد أنَّهم يستخدمونها في الأعمال الشَّاقة؛ مثل صعود الجبال ونحوها.
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 702)؛ حيث قال: "أكل الحمر الأهلية مغلظة الكراهة عند مالك، ومن أصحابنا من يقول: هو حرام وليس كالخنزير، فوجه مالك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما سكتُّ عنه فقد عفي عنه"، ولأنه حيوان معد للركوب كالخيل، ووجه التحريم ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية".
(2)
مذهب الأحناف؛ ينظر: "مختصر القدوري"(ص: 206)؛ حيث قال: "ولا يجوز أكل لحم الحمر الأهلية والبغال".
مذهب الشافعية؛ ينظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (4/ 501)؛ حيث قال: "ويحرم أكل لحوم البغال".
مذهب الحنابلة؛ ينظر: "الإرشاد إلى سبيل الرشاد"(ص: 385)؛ حيث قال: "ولحوم الحمر الأهلية حرام، وكذلك البغال. وألبان ذلك محرمة، كتحريم لحمها".
(3)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 702)؛ حيث قال: "أكل الحمر الأهلية مغلظة الكراهة عند مالك،
…
، وحكم البغال حكم الحمير".
* قوله: (وَأَمَّا الْخَيْلُ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَجَمَاعَةٌ - إِلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ).
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]؛ وهذا مما يُحتجّ به المالكية والحنفية على تحريم الخيل، قالوا: لأنَّ الله - تعالى - ذكرها مع البغال والحمير، والبغال والحمير مُحرَّمة، ولأنَّ الله حصر فائدتها في أمرين:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرَّمها، وذلك قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة بأحاديث مُتَّفق عليها، وقد جاء النَّهي عنها في حديث جابر عندما قال:"نحرنا الخيل والبغال يوم خيبر، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، وأَذِن لنا - أو ورخَّص - في الخيل".
أما بالنسبة لبهيمة الأنعام؛ فقد أشار إلى الأكل منها، فقال تعالى:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]، وقال أيضًا:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36].
* قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى إِبَاحَتِهَا
(4)
).
أكثر العلماء يذهبون إلى أنَّ لحوم الخيل ليست بمُحرَّمة، وأنَّها حلال.
(1)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب المالكي (1/ 319)؛ حيث قال: "ولا تؤكل الحُمر الأهلية، ولا البغال، ويُكره أكل الخيل".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (7/ 288)؛ حيث قال: "وكان أبو حنيفة يكره لحوم الخيل".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 147)؛ حيث قال: "وحيوان البر يحل منه الأنعام والخيل".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (7/ 289)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد: تؤكل".
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ مُعَارَضَةُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلأحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"
(1)
).
هذا حديث جابر، والحديث الآخر أنَّهم ذبحوا الخيل والبغال والحمير، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ورخَّص لهم في الخيل؛ ولم يذكر المؤلف حديث أسماء الذي جاء في الصحيحين، قالت:"نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فأكلناه" وفي لفظٍ عند البُخاري: "ذبحنا فرسًا". والأدلة في هذا كثيرةٌ جدًّا وصريحة، ولذلك نجد أنَّ من المالكية من مال إلى هذا القول - كابن عبد البر - لقوة أدلَّة هذا المذهب وصحتها.
* قوله: (فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ حَمَلَهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَمَنْ رَأَى النَّسْخَ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ، أَوْ قَالَ بِالزِّيَادَةِ دُونَ أَنْ يُوجِبَ عِنْدَهُ نَسْخًا. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ تَحْرِيمَهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ:"أَصَبْنَا حُمُرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ وَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أكْفِئُوا الْقُدُورَ بِمَا فِيهَا"
(2)
. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْجِلَّةَ).
فبيَّن أنَّ النَّهي إنَّما هو لأجل أكلها الجلَّالة، وفي بعض الروايات أيضًا في "الصحيحين" النَّص على أكلها العذرة. وهذا الحديث ورد في بعض ألفاظه أنَّه أصابتهم مجاعة.
(1)
أخرجه البخاري (5520)، ومسلم (1941).
(2)
أخرجه البخاري (2991)، ومسلم (1940).
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْبِغَالِ فَسَبَبُهُ مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَقَوْلِهِ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْعَامِ: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] للآية الحاصرة للمحرمات).
قالوا: فجاء التنصيص في كتاب الله عز وجل على أكل الأنعام، وبالنسبة للخيل والبغال والحمير فقد بيَّن الله سبحانه وتعالى فوائدها، أنَّها للركوب وللزينة.
فمراد المؤلِّف أنَّ الله عندما ذكر الخيل والبغال؛ حدَّد فوائدها بأمرين: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، ولمَّا ذكر الأنعام؛ قال:{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ؛ فهناك ركوبٌ، وهناك أيضا أكلٌ لها.
" قول: (لِأَنَّهُ يَدُلُّ مَفْهُومُ الْخِطَابِ فِيهَا أَنَّ الْمُبَاحَ فِي الْبِغَالِ إِنَّمَا هُوَ الرُّكُوب، مَعَ قِيَاسِ الْبَغْلِ أَيْضًا عَلى الْحِمَارِ).
أمَّا البغال فهي مُتولِّدةٌ من نجسٍ ومن طاهر، متولدةٌ مما يُؤكل - وهو الخيل - ومما حرم أكله - وهي الحمير الأهلية - ولذلك نُهي عنها، وهي أيضًا من ذوات الحوافر، فتلحق أيضًا بالحمير؛ بجامع أنَّ كُلًّا منهما له حافر، والحافر بالنسبة لهذه الحيوانات: الخيل والبغال والحمير، هو بمثابة القدم للإنسان، والخف للبعير.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة النَّهي عن أكل لحم البغال - كما في حديث جابرٍ وغيره - عندما ذبحوا الخيل والبغال والحمير، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم البغال والحمير؛ ورخَّص لهم في لُحوم الخيل.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْخَيْلِ فَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَمُعَارَضَةِ قِيَاسِ الْفَرَسِ عَلَى الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لَه، لَكِنَّ إِبَاحَةَ لَحْمِ الْخَيْلِ نَصٌّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِقِيَاسٍ وَلَا بِدَلِيلِ خِطابٍ).
هذا كلامٌ ينقله المؤلف عن ابن عبد البر.
فحُجَّة الذين قالوا بتحريم لحوم الخيل هو مفهوم الآية، والآية لا تدل على التَّحريم؛ وإنَّما ذكرت:{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، ولم تعرض لحكم لحمها، وجاء في حديث خالد بن الوليد - وهو في السُّنن - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن لحوم الخيل والبِغال والحمير، وكل ذي نابٍ وكلل ذي مِخلبٍ من الطير"، وفي رواية:"وكل ذي نابٍ من السباع، ومِخلبٍ من الطير"، لكن الأحاديث الأخرى بالنسبة للخيل - وهي في الصحيحين وفي غيرهما - تدل دلالةً واضحة على جواز أكلها.
والقياس الذي أشار إليه المُؤلِّف، هو القياس على الحمير، قالوا: فالخيل تلحق بالحمير؛ بجامع أنَّ كل واحدٍ منهما له خُفٌّ، فتلحق به في التَّحريم، لكن الأدلة الصحيحة الصريحة نصٌّ في إباحة أكل لحم الخيل.
لكننا نجد أنَّ الخيل يُسهَم لها في الحرب، وأنَّ الحمير والبغال لا يُسهَم لها، كما مر بنا في أبواب الجهاد.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ؛ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ]
* قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَة، وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ؛ وَهِيَ الْخَمْسُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا: الْغُرَاب، وَالْحِدَأَة، وَالْعَقْرَب، وَالْفَأرَة، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ).
مراد المؤلف - كما سيأتي صريحًا - أن تلك الحيوانات التي نُهِيَ عن قتلها في الحرم، هل النهي عن قتلها يدل على تحريم أكل لحمها، أو أنه لسببٍ آخر؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "خمسٌ فواسق:
الْغُرَاب، وَالْحِدَأَة، وَالْفَأْرَة، وَالعَقْرَب، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"
(1)
فوصفها عليه الصلاة والسلام بالفسق؛ فالغراب كما هو معلوم من الفواسق، والحدأة نعتدي على بعض الطيور وعلى بعض الأطعمة، والفأرة نعلم نجاستها وأثرها وما يترتب عليها من أضرار؛ وقد مر الكلام في الفواسق، وأنه لا يجوز أكلها - على الصحيح -، وأن القول بجواز ذلك قولٌ ضعيفٌ لا يُلتفت إليه.
* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ لَهَا، مَعَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْبَهَائِمِ الْمُبَاحَةِ الْأَكلِ؛ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُهَا مُحَرَّمَةً؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
وأيضًا هو مذهب أحمد
(3)
وأبي حنيفة
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (1828)، ومسلم (1198).
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 264)؛ حيث قال: "فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور دل هذا على تحريم أكل ما أمر بقتله في الإحرام".
(3)
انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 542)(السادس: قتل صيد البر) إجماعًا
…
، أي: صيد البر (الوحشي المأكول والمتولد منه) أي: الوحشي المأكول (ومن غيره) كمتولد بين وحشي وأهلي، ومأكول وحشي وغيره، كسمع، تغليبًا للتحريم (والاعتبار) في كونه وحشيًّا أو أهليًّا (بأصله
…
).
(4)
انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 570)، قال: (ولا شيء بقتل غرابٍ،
…
وحدأةٍ،
…
وذئبٍ وعقربٍ وحيةٍ وفأرةٍ،
…
وكلبٍ عقور) أي: وحشي، أما غيره فليس بصيدٍ أصلًا (وبعوضٍ ونملٍ) لكن لا يحلُّ قتل ما لا يؤذي، ولذا قالوا: لم يحل قتلُ الكلب الأهلي إذا لم يؤذ، والأمر بقتل الكلاب منسوخٌ كما في الفتح: أي إذا لم تضر (وبرغوثٍ وقرادٍ وسُلَحْفاةٍ) بضم ففتح فسكون (وفراشٍ) وذئاب ووزغٍ وزنبورٍ وقنفذٍ وصرصرٍ وصياح ليلٍ وابن عرسٍ وأم حبين وأم أربعبًا وأربعين، وكذا جميع هوام الأرض لأنها ليست بصيودٍ ولا متولدةٍ من البدن (وسبع) أي: حيوان (صائلٍ) لا يمكن دفعه إلا بالقتل، فلو أمكن بغيره فقتله لزمه الجزاء كما تلزمه قيمته لو مملوكًا.
* قوله: (وَقَوْمًا فَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعَدِّي، لَا مَعْنَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(1)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(2)
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمَا).
يبدو أن ذِكرَ أبي حنيفة هنا وهمٌ من المؤلف، أو أنها رواية في المذهب؛ إنما المعروف عن الحنفية أنهم مع الشافعية والحنابلة في هذه المسألة.
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 450)، حيث قال:"قلت: هل كان مالك يكره أكل كل ذي مخلب من الطير؟ قال: لم يكن مالك يكره أكل شيء من الطير سباعها وغير سباعها، قلت: والغراب لم يكن مالك يرى به بأسًا؟ قال: نعم لا بأس به عنده، قلت: وكذلك الهدهد عنده والخطاف؟ قال: جميع الطير لا بأس بأكلها عند مالك. قلت: فهل كان يوسع في أكل الحيات والعقارب؟ قال: لم يكن يرى بأكل الحيات بأسًا، قال: ولا يؤكل منها إلا الذكي، قال: ولا أحفظ في العقرب من قوله شيئًا، أو لكن أرى أنه لا بأس به".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لأبي الفضل الحنفي (5/ 15)؛ حيث قال: " (ويكره الرخم والبغاث والغراب)؛ لأنها تأكل الجيف فكانت من الخبائث، إذ المراد الغراب الأسود وكذلك الغداف. قال: (والضب) لما روت عائشة رضي الله عنها: "أنه أهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضب فامتنع من أكله، فجاءت سائلة فأرادت عائشة أن تطعمها، فقال لها: أتطعمين ما لا تأكلين؟ " ولولا حرمته لما منعها عن التصدق كما في شاة الأنصار. قال: (والسلحفاة)؛ لأنها من الفواسق (والحشرات) بدليل جواز قتلها للمحرم. قال: (ويجوز غراب الزرع والعقعق والأرنب والجراد) قال أبو يوسف: غراب الزرع له هيئة مخالفة للغراب في صغر جثته، وأنه يدخر في المنازل ويؤلف كالحمام ويطير ويرجع، والعقعق يخلط في أكله فأشبه الدجاج، والأرنب، لما روى عمار بن ياسر قال: أهدي لرسول الله عليه الصلاة والسلام أرنبة مشوية فقال لأصحابه كلوا". قال أبو يوسف: أما الوبر فلا أحفظ فيه شيئًا عن أبي حنيفة وهو عندي كالأرنب وهو يعتلف البقول والنبت، وهذا لأن الأشياء على الإباحة إلا ما قام عليه دليل الحظر، وأما الجراد فلقوله عليه الصلاة والسلام:"أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال"، وسواء مات حتف أنفه أو أصابته آفة كالمطر ونحوه لإطلاق النص".
[الْجِنْسُ الرَّابعُ؛ الَّذِي تَسْتَخْبثُهُ النُّفُوسُ]
* قوله: (وَأَمَّا الْجِنْسُ الرَّابِعُ؛ وَهُوَ الَّذِي تَسْتَخْبِثُهُ النُّفُوسُ؛ كَالْحَشَرَاتِ وَالضَّفَادِعِ وَالسَّرَطَانَات وَالسُّلَحْفَاةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فإن الشافعي حرمها، وأباحها الغير، ومنهم من كرهها فقط).
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، ويقول أيضًا:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5]؛ فإذا قلنا: إن الخبائث هي ما يستخبثه الإنسان، وتنفر منه نفسه وتعافه؛ فما هو المقياس والمعيار في ذلك؟! هذا ما سيعرض له المؤلف قريبًا.
حرمها الشافعي، وأحمد أيضًا؛ والسلحفاة فيها روايتان عند الحنابلة؛ بعض العلماء أجاز أكلها، وبعضهم نهى عن ذلك.
أما بالنسبة للضفادع فقد جاء أيضًا النهي عنها، وجاء في أثر أن صوته الذي نسمعه إنما هو تسبيح، لذا نُهي عن قتلها، وكذلك غيرها؛ مثل النملة والنحلة والصرد والهدهد.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ؛ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَبَائثِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]؛ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا الْمُحَرَّمَاتُ بِنَصِّ الشَّرْعِ؛ لَمْ يُحَرِّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ النُّفُوسُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ).
مراد المؤلف أنه لا يمكن أن يُقال بتحريم أي واحدٍ منها إلا بنص؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه، فهل هذه مما سكت عنه؟ وهل التحريم لكونها خبائث؟ إن قلنا: نعم؛ نُطَالبُ بدليلٍ يدل على تحريمها، وإن قلنا: إن النهي عن أكلها لكونها مستخبثة؛ فالله سبحانه وتعالى نهى عن كل خبيث.
قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْخَبَائِثَ هِيَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ النُّفُوسُ؛ قَالَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ).
وليس أيضًا كل ما تستخبثه، أو ما أطلق عليه أنه خبيث، فهو محرم؛ فالكراث والبصل ونحوهما مُنِعَ لوجود رائحةٍ تؤثر على المصلين كما في الحديث:"من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا - أو ليعتزل مسجدنا"؛ والمراد ما تستخبثه العرب، والعرب هم الذين يعيشون في الفدن، أي: الذين بُعِثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانوا يرونه خبيثًا فهو أيضًا من الخبائث، وما لا فلا؛ أما الذين يسكنون في الصحاري فربما يتساهلون في هذه الأمور، هكذا ذكر الفقهاء.
قوله: (وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْرِيمِهِ الْحَيَوَانَ الْمَنْهِيَّ عَنْ قَتْلِهِ، كَالْخُطَّافِ
(1)
وَالنَّحْلِ
(2)
، زعم، فَإِنِّي لَسْتُ أَدْرِي أَيْنَ وَقَعَتِ الآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّهَا فِي غَيْرِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَنَا).
إذا أطلق (أبو حامد) فإنه يقصد به الإمام الغزالي عند الشافعية، وهو إمامٌ له كتبٌ كثيرة في الفقه والأصول وغيرها، ومع غزارة علمه هناك مأخذ يأخذها عليه العلماء في بعض كتبه المعروفة عند طلاب العلم.
وهذا القول الذي نُسِبَ إلى الإمام الشافعي هو أيضًا مذهب الإمام أحمد، ولهذا نرى تقاربًا كبيرًا بين المذهبين الشافعي والحنبلي فيما يتعلق بالأطعمة، ولا نرى إلا فرقًا صغيرًا بين المذهبين.
والخُطَّاف نوع من الطيور، وينص عليه أهل الاختصاص بأنه طويل
(1)
أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564).
(2)
لم ينقل الغزاليُّ رحمه الله ذلك، وإنَّما نصُّه في كتابه:"الوسيط في المذهب"(7/ 161): "وقد نهى عن قتل الهدهد والخطاف والنحل والصرد والنملة وقد نص رضي الله عنه على أن المحرم يفدي الهدهد بالجزاء ولا يفدي عنده إلا حلال".
الذيل، دقيقُه، ومثله أيضًا الخفاش، الذي يُعرَفُ بالوطواط، وقد ورد النهي عن قتل النحل والنمل والصردِ والهدهد، في أحاديث صحيحة، لكن بالنسبة للخطاف إنما ورد فيه حديث ضعيف
(1)
، وكذلك الحال بالنسبة للخفاش.
وهذا أيضًا غريبٌ من المؤلف - رحمه الله وعفا عنه - فإنه يستغرب ويتساءل: أين الأدلة والآثار التي وردت في النهي عن قتل النمل والنحلِ والصرد والهدهد؟ ثم رجع وعلَّق وقال: ولعلها في الكتب غير المشهورة؛ يعني: في الكتب النادرة، لكن مثلًا الصحيحان، والسنن، ومسند أحمد، والبيهقي، والدارقطني، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتب الطحاوي؛ هذه كلها كتبٌ مشهورة. ولكن هذا لعدم وقوف المؤلف عليها؛ وإلا فهي في "مسند أحمد"، وعند أبى داود، وابن ماجه، والبيهقى، والدارقطني وغيرهم، وبأسانيد صحيحة
(2)
.
وجاء في حديثٍ آخر النهي عن قتل الخطاف، وكذلك الخفاش - وفسره العلماء بالوطواط - وذُكِرَ أثرٌ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"لمَّا خرِبَ بيت المقدس، كانت الأوزاغ تنفخ في النار، وكان الخفاش يطفئها بجناحيه"
(3)
، هذا أثر موقوفٌ على عائشة، ونُقِلَ ما يشبهه عن عبد الله بن عمرو، ووقف العلماء عند ذلك؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، وقالوا: والمعروف عن عائشة أنها لا تنقل عن أهل الكتاب من الإسرائيليات؛ ولذلك اعتبروه موقوفًا صحيحًا؛ والنهي عن قتل النمل منفردًا جاء في "صحيح مسلم"
(4)
.
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي رقم (5238).
(3)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(19382): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَا تَقْتُلُوا الضَّفَادِعَ فَإِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ، وَلَا تَقْتُلُوا الْخُفَّاشَ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرِبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ قَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى الْبَحْرِ حَتَّى أُغْرِقَهُمْ. فَهَذَانِ مَوْقُوفَانِ فِي الْخُفَّاشِ. قال البيهقي: وإسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ.
(4)
أخرج مسلم (2241): عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن نملة قرصت نبيًّا من=
قوله: (وَأَمَّا الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْلِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مُوَافِقًا بِالاسْمِ لِحَيَوَانٍ فِي الْبَرِّ مُحَرَّمٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ جَمِيع حَيَوَان الْبَحْرِ؛ إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ خِنْزِيرَ الْمَاءِ، وَقَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا
(1)
).
بالنسبة للحيوان البحري هناك أدلةٌ أطلقها قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، ولذلك فالراجح عندي هو مذهب الإمام مالك؛ لأنه يرى أن كل ما في البحر فهو حلال، وقد جاء في ذلك أثر؛ أن كل ما في البحر فقد ذكَّاه الله سبحانه وتعالى.
ويختلف العلماء في بعض حيواناته؛ فالسمك لا يحتاج إلى ذكاة، لكن بعضها يحتاج إلى ذكاة، ونحن نرى أنه توجد حيوانات في البحر تُطابق مسمياتها مسميات حيوانات محرمة في البر؛ فهناك الخنزير البري المعروف وهو محرم، وهناك الخنزير البحري، وهناك الكلب المعروف في البر، وهناك الكلب البحري، وكذلك الإنسان المعروف، وهناك إنسان البحر؛ فهل يلحق هذا بذاك في التحريم بجامع التسمية، أو أنه لا أثر للتسمية في ذلك؟
الإمام مالك - -رحمه الله تعالى- - أطلق وقال: كل ما في البحر فإن الله سبحانه وتعالى أحله لنا، إلا أنه سأل عن الخنزير، ولكن سؤاله لا يدل على تحريمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]؛ فهذا نصٌّ صريح في القرآن الكريم يدل على إباحة كل ما في البحر، إذًا هناك خلافٌ بين الفقهاء عدا الإمام مالك في بعض الحيوانات التي لها أسماء موافقة في البر.
= الأنبياء، فأمر بقربة النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟ ".
(1)
يُنظر: "المدونة"(1/ 537)؛ حيث قال: "قال ابن القاسم: ولقد سألنا مالكًا عن خنزير الماء فلم يكن يجيبنا فيه، ويقول أنتم تقولون خنزير، قال ابن القاسم: إني لأتقيه ولو أكله رجل لم أره حرامًا".
قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ).
بل جمهور العلماء يستثنون مثل هذه الأشياء، لكن ليسوا متفقين عليها، فالكلب البحري لا خلاف فيه، وهم يرون إباحته، ويختلفون في خنزير البحر.
أما أبو حنيفة فإنه أشد الفقهاء في حيوانِ البحر؛ فإنه يرى أنه لا يؤكل في البحر إلا السمك، أما ما عدا السمك فلا يجوز أكله؛ والحنابلة والشافعية مذهبهم قريبٌ جدًّا من مذهب المالكية.
قوله: (إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي غَيْرِ السَّمَكِ التَّذْكيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ).
وقد سبق تفصيل ذلك.
قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَّا إِنْسَانُ الْمَاءِ، وَخِنْزِيرُ الْمَاءِ فَلَا يُؤْكلَان عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ
(1)
؛ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ هَلْ يَتَنَاوَلُ لُغَةً أو شَرْعًا اسْمُ الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ؛ خِنْزِيرَ الْمَاءِ وَإِنْسَانَهُ؛ وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْكَلَامُ إلى كُلِّ حَيَوَانِ فِي الْبَحْرِ مُشَارِكٍ بِالاسْمِ فِي اللُّغَةِ أو فِي الْعُرْفِ لِحَيَوَانٍ مُحَرَّمٍ فِي الْبَرِّ؛ مِثْلَ الْكَلْبِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَهُ).
يقولون: كون هذا وافق ذلك في الاسم؛ فإنه ليس دليلًا واضحًا على تحريم ما في البحر.
(1)
يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 252)؛ حيث قال: "وقال ابن وهب: سألت الليث بن سعد عن أكل خنزير الماء وكلب الماء وإنسان الماء ودواب الماء كلها؟ فقال: أما إنسان الماء فلا يؤكل على شيء من الحالات".
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هَلْ هَذِهِ الأسْمَاءُ لُغَوِيَّةٌ؟ وَالثَّانِي: هَلْ لِلاسْمِ الْمُشْتَرَكِ عُمُومٌ أَمْ لَيْسَ لَهُ؟ فَإِنَّ إِنْسَانَ الْمَاءِ وَخِنْزِيرَهُ يُقَالَان مَعَ خِنْزِيرِ الْبَرِّ وإنْسَانِهِ بِاشْتِرَاكِ الاسْمِ، فَمَنْ سَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لُغَوِيَّةٌ، وَرَأَى أَنَّ لِلاسْمِ الْمُشْتَرَكِ عُمُومًا؛ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ بِتَحْرِيمِهَا، وَلذَلِكَ تَوَقَّفَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا).
وقد فصَّلنا ذلك فيما سبق.
قوله: (فَهَذِهِ حَالُ الْحَيَوَانِ الْمُحَرَّمِ الأكل فِي الشَّرْعِ، وَالْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ الأكلِ، وَأَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي هُوَ غِذَاءٌ فَكُلُّهُ حَلَالٌ، إِلَّا الْخَمْرَ، وَسَائِرَ الْأَنْبِذَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعُصَارَاتِ الَّتِي تَتَخَمَّرُ وَمِنَ الْعَسَلِ نَفْسِهِ).
ينبهنا المؤلف - -رحمه الله تعالى- - إلى أن ما مضى مما يتعلق بالأطعمة؛ فإن الحديث عنه كله منصب بالنسبة للحيوان؛ سواء كان هذا الحيوان بريًّا أو بحريًّا، طائرًا أو غير طائر، والآن يريد أن يتكلم عن النبات، والله سبحانه وتعالى سخر لنا الأرض وفيها كثير من النباتات.
ويقصد بالخمر والأنبذة: ما ينتهي إلى الخمر والأنبذة، وفي هذا الزمن صاروا يزرعون الحشيش، وظهرت المخدرات، ويعدونها أيضًا من النباتات، فهذه مما حُرمت، أما ما عدا ذلك فهو من الطيبات التي أباحها الله سبحانه وتعالى لنا.
نحن نحرث الأرض، ونغرس الغرس، ونضع البذر، واللّه سبحانه وتعالى قد أرشد الإنسان إلى هذا الطريق السوي، فهناك القمح، وهناك الشعير، وهناك الذرة، وهناك الأرز، وهذا جاء بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك أيضًا ما يعرف بالخضراوات؛ كالفاصولياء والبامية والكوسة والدُّباء وغير ذلك من أنواع الخضراوات الكثيرة.
وهناك الفواكه، وقد تعددت وتنوعت أصنافها في زماننا هذا؛ التفاح والبرتقال والكمثرى والموز والخوخ والرمان، وأنواع كثيرة جدًّا يصعب
حصرها، وهذه كلها مما أباح الله سبحانه وتعالى وأباح لنا عصير هذه الأشياء، حتى ما تضعه في الماء من تمر أو من نبيذ، هذا كله مباح، إلا أن يصل إلى درجة الإسكار؛ فإذا بلغ ذلك الحد فهنا يأتي التحريم.
وكلام المؤلف هنا عن الأنبذة؛ كأنه الآن انتهى من الأطعمة ويريد أن يدخل في الأشربة، ولا شك أن الفقهاء عندما يتكلمون عن الأشربة فكل الأشربة قد أباحها الله سبحانه وتعالى لنا ما لم تكن خمرًا أو فيها ضرر يلحق بالإنسان، أو بها نجاسة؛ فهذه هي التي يمنع شربها، أما ما عدا ذلك فإن للإنسان أن يشرب ما شاء منها.
والخمر قد جاء تحريمها في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء على ذلك، ولا شك أن الخمر كانت مما يتلذذ فيه العرب في جاهليتهم، وما أكثر ما تغنوا بها ورددوها في أشعارهم، ولكنّ عقلاءهم مع ذلك كانوا ينفرون منها، حتى إن أحدهم يقول:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها
…
خصاذ تفسدُ الرَّجُلَ الحليما
فلا واللّه أشربُها حياتي
…
ولا أدعو لها أبدًا نديما
لأنَّ الخمرَ تَفضحُ شاربيها
…
وتجنيهم بها الأمرَ العظيما
هذا هو قول المنقري؛ وهو من عقلاء العرب في الجاهلية، فإنه نظر إلى الخمر وما يترتب عليها من الأضرار، وكانت من أكثر ما يتلذذون به في جاهليتهم، وظلوا يشربونها حتى في أول الإسلام، وقد مرت الخمر بمراحل، لكن الشاعر هنا يقول: رأيت الخمر صالحة، وهي في الواقع ليست صالحة؛ لكن الذي يشرب الخمر يجد أنها ربما تعطيه نشوة، ربما تعطيه قوة ونشاطًا، وتجعله شجاعًا، هذه كلها من الخيالات، لأنه غاب فكره فأصبح لا يُفرق بين النافع والضار، وبين الصلاح والفساد، وربما وقع في بعض المنكرات التي تجره إلى الويلات.
وقد شُرِع حد الخمر للمحافظة على عقول الناس، التي وهبها الله سبحانه وتعالى لهم ليميزوا به بين النافع والضار، بين الخير والشر، بين الفساد والصلاح؛
وقد جعك الله تعالى عقوبة من يشرب الخمر في الدنيا؛ ألَّا يشربها في الآخرة، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.
ولما كان العرب قد تعودوا على هذه الخمر، وجرت في دمائهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يُحرمها عليهم دفعةً واحدة؛ لأنها استقرت في نفوسهم وأصبحت جزءًا من حياتهم وأبدانهم، ولكي تُستل من سخائمهم ويُباعد بينهم وبينها؛ نجد أن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر على مراحل ثلاثٍ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وهذا النفع أنهم كانوا يتقوون بها على الأعمال، وقد تركها بعض الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: لا حاجة لنا بما فيه إثمٌ؛ ثم قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛ لأن الإنسان إذا سكر هذى، وإذا هذَى افترى.
ثم جاءت المرحلة النهائية الحاسمة التي في سورة المائدة، التي قطعت كل شيء؛ قول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
ويقول العلماء: إن التعبير هنا بالاستفهام في قول تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أقوى وأبلغ من قوله: انتهوا، وقد قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: انتهينا؛ انتهينا!! فأخذوا الأسقية فألقوها في الشوارع، وهذا هو شأن الصحابة رضي الله عنهم كما قال الله تعالى في شأن المؤمنين:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
وأما السنة فأحاديث كثيرة جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما هو في الصحيحين، ومنها ما هو في غيرهما؛ ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم:"كل مسكرٍ خمر، وكك خمرٍ حرام"
(1)
؛ و (كل): من صيغ العموم، مهما تغيرت أسماء
(1)
أخرجه أبو داود (3687)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
الخمر، وقد جاء في الحديث أنها ستسمى بأسماء أخرى، لكنها مهما تعددت أسماؤها وتنوعت واختلفت صناعتها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أنها حرام، وقال عليه الصلاة والسلام:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"
(1)
، وقال:"ما أسكر منه الفرق؛ فملء الكف منه حرام"
(2)
، وجاء أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها.
وأجمع العلماء على تحريمها، وأما ما نُقِل
(3)
عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معد يكرب، وأبي جندل، من أن هؤلاء شربوا الخمر وتأوَّلوا قول الله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، فإن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا عليهم ذلك، وبيَّنوا خطأهم، وأن الخمر قد حُرِّمت فلا يجوز شربها، ولذلك لما دار نقاش بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين قدامة بن مظعون - وقدامة هذا ممن شهد بدرًا وأُحُدًا، لكنه تأوَّل الآية، وفرقٌ بين من يتأول الأمر ويلتبس عليه، وبين من يعرف الدليل ويُحرمه، وهذا أمرٌ قد انتهى - فإنه قد ناقشه عمر وطلب من الصحابة أن يردُّوا عليه عندما ذكر الآية فسكتوا، فقال لابن عباس: أجبه؛ فقال ابن عباس: ذلك بالنسبة للماضين؛ لِمن شرب الخمر فيما مضي،
(1)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه أبو داود (3687)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(3)
أخرج النسائي في "الكبرى"(5270): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، شَرِبَ الْخَمْرَ بِالْبَحْرَيْنِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُئِلَ فَأَقَرَّ أَنَهُ شَرِبَه، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، وَأَنَا مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينِ الْأَؤَلينَ، وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَأَهْلِ أُحُدٍ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَجِيبُوا الرَّجُلَ فَسَكَتُوا، فَقَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَجِبْه، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنْزَلَهَا عُذْرًا لِمَنْ شَرِبَهَا مِنَ الْمَاضِينَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ وَأَنْزَلَ: {آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، حُجَّةٌ عَلَى الْبَاقِينَ ثُمَّ سَأَلَ مَنْ عِنْدَهُ عَنِ الْحَدِّ فِيهَا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ هَذِيَ، وإذَا هَذِيَ افْتَرَى فَاجْلِدُوهُ ثَمَانِينَ.
فإن الله سبحانه وتعالى قد عفا عنه، كالحال بالنسبة للربا، فالربا حُرِّم تحريمًا قطعيًّا، لكن الله سبحانه وتعالى تجاوز عما سلف.
قوله. (أَمَّا الْخَمْرُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، أَعْنِي الَّتِي هِيَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ
(1)
، وَأَمَّا الْأَنْبِذَةُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَلِيلِ مِنْهَا الَّذِي لَا يُسْكِر، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْكِرَ مِنْهَا حَرَامٌ).
هناك خلافٌ بين جمهور العلماء وبين الحنفية في مسائل، والخمر من أي نوع كانت فهي خمر، لا تختلف، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكرٍ ومُفتِّر
(2)
، وهو حديثٌ صحيح، فيدخل في ذلك الحشيش، والمخدرات بكل أنواعها، والحبوب التي أصبحت الآن تصنع في بعض البلاد؛ وهي مجموعة من السموم، القصد منها تدمير الإنسانية، وبالدرجة الأولى يُقصد بها إيذاء المسلمين، بل هذه الحبوب أشد ضررًا من الخمر، والحشيش لم يكن معروفًا في الأزمنة السابقة، وإنما عُرِف في أواخر القرن السابع، ونجد أن بعض العلماء تكلموا عن هذه الأشياء - كشيخ الإسلام ابن تيمية - وبيَّنوا خطورتها، وأنها أشد ضررًا من الخمر، واستدلوا على تحريمها بحديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكرٍ ومُفتِّر"، والآن تنوعت هذه الأشياء وتكاثرت وتجاوزت الحد، وقد شاهدنا ما تنتهي إليه أحوال أولئك المساكين الذين تعاطوا المخدرات، نسوا أنفسهم، نسوا أهليهم، نسوا أبناءهم، وربما باعوا أنفسهم أو أبناءهم أو أعراضهم لأجل
(1)
ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 327)؛ حيث قال: "واتفق أهل القبلة جميعًا على أن الخمر حرام بتحريم الله تعالى إياها".
(2)
أخرجه أبو داود (3686)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره دون قولها: ومفتِّر، فقد عدّه الحافظ صالح بن محمد البغدادي من تفردات شهر بن حوشب (وهو ضعيف)، لأنه لم يُذكر في شيء من الحديث. وعده الحافظ الذهبي في "الميزان" من مناكيره. لكن حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح"10/ 44! ونقل المناوي في "فيض القدير" 6/ 338 عن الحافظ العراقي أنه صحح إسناده! وأنه احتج به في مجلس حضره أكابرُ علماء العصر لبحث تحريمِ الحشيش فأعجب من حَضَر.
الحصول على دريهمات ليصلوا بها إلى هذه المخدرات!! هذا كله من إغواء الشيطان. واللّه تعالى يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
قوله: (فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَجُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ: قَلِيلُ الْأَنْبِذَةِ وَكثِيرُهَا الْمُسْكِرَةُ حَرَامٌ).
كل ما أسكر من أي نوعٍ كان؛ سواء كان من عصير العنب أو التمر أو الشعير، أو كان من زبيب أو غير ذلك مما يُصنع؛ فكل ما غطَّى العقل - أي: خمر - فهو حرام، وقد سميت الخمر خمرًا لأنها تُخامر العقل - أي: تغطيه - فهي حرام، وإن سميت بغير اسمها؛ قال عليه الصلاة والسلام:"كل مسكرٍ خمر"
(1)
.
قوله: (وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ؛ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنَ التَّابِعِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَأكْثَرُ عُلَمَاءِ الْبَصْرِيِّينِ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ هُوَ السُّكْرُ نَفْسُهُ لَا الْعَيْنُ
(2)
؛ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الآثَارِ وَالأقْيِسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ).
قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67].
(1)
أخرجه مسلم (2003).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 329)؛ حيث قال: "ولا خلاف في صحة قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، إلا أنهم اختلفوا في تأويله، فقيل: أراد جنس ما يسكر. وقيل: أراد ما يقع به السكر، كما لا يقاتل إلا مع وجود القتل. وهذا تأويل مردود بالآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولا خلاف فيه بين الصحابة - رضي الله عنهم. وأما قوله عليه السلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" فهو إجماع كافة عن كافة".
هذا هو الذي يشير إليه المؤلف، ولا دليل فيه على استثناء نوعٍ من الأنبذة.
وعندما يقول المؤلف: العراقيون؛ يقصد علماء العراق في ذلك الوقت؛ أما الأئمة مالكٌ والشافعي وأحمد - بل جماهير العلماء عامة - فهم لا يُفرِّقون بين نبيذٍ وبين غيره، كل ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قوله: (فَلِلْحِجَازِيِّينَ فِي تَثْبِيتِ مَذْهَبِهِمْ طَرِيقَتَانِ: الطَّرِيقَةُ الأولَى: الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: تَسْمِيَةُ الْأَنْبِذَةِ بِأَجْمَعِهَا خَمْرًا).
يتتبعون الآثار، ويحتجون أيضًا بتسمية جميع الأنبذة باسم الخمر.
قوله: (فَمِنْ أَشْهَرِ الْآثَارِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا أَهْلُ الْحِجَازِ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ
(1)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ
(2)
، وَعَنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ، فَقَالَ:"كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
(3)
، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ:"هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ"
(4)
).
مهما اختلفت مسميات الخمور فهي حرام؛ لأن العلة أنها تُسكر.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 845).
(2)
البِتَعُ: نبيذٌ من عسل كأنه الخمر صلابةً. انظر: "المنتخب من كلام العرب"(ص: 386).
(3)
أخرجه البخاري (242)، ومسلم (2001).
(4)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 124)؛ حيث قال: "وقد سئل يحيى بن معين عن أصح حديث روي في تحريم المسكر فقال: حديث ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"، قال: وأنا أقف عنده".
قوله: (وَمِنْهَا أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "كلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ"
(1)
).
فأي نوع من أنواع المسكوات يسمى خمرًا، وكل خمرٍ حرام؛ إذًا هذا دليل قاطع لا توقُّف فيه.
قوله: (فَهَذَانَ حَدِيثَان صَحِيحَان، أَمَّا الْأَوَّلُ فَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَانْفَرَدَ بِتَصْحِيحِهِ مُسْلِمٌ).
ومثله حديث أبي موسى الأشعري، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"يا رسول الله" أفتِنا في شرابين نصنعهما باليمن: البتع، والمذر"؛ والبتع هو نبيذ العسل، يُنبَذ حتى يشتد، والمذر هو نبيذ الذرة والشعير؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكرٍ حرام"
(2)
.
قوله: (وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ")
(3)
.
وهذا أيضًا يردُّ رأي الذين يقولون بأننا نقف عند المسكر، ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قوله: (وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضعِ الْخِلَافِ، وَأَمَّا الاسْتِدْلَالُ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْأَنْبِذَةَ كُلَّهَا تُسَمَّى خَمْرًا؛ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَان؛ إِحْدَاهُمَا: مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ بِطَرِيقِ الاشْتِقَاقِ، وَالثَّانِيةُ: مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ).
فقوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" يرفع الإشكال، لأنه تبيَّن بالأدلة
(1)
أخرجه مسلم (2003).
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
أخرجه الترمذي (1865)، وأبو داود (3681)، والنسائي (5607)، وصححه الألباني.
الشرعية الصحيحة أن كل مسكر حرام، لا فرق بين قليله الذي لا يُسكر وبين كثيره، ما دام أن الإنسان لو زاد فيه أسكره؛ فإن القليل منه حرامٌ أيضًا.
قوله: (فَأَمَّا الَّتِي مِنْ جِهَةِ الاشْتِقَاقِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ).
يقول أهل اللغة
(1)
: اشتق اسم الخمر من مخامرة العقل - أي: تَغْطِيَتِه - فكل ما غطى العقل يسمى خمرًا.
قوله: (فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْخَمْرِ لُغَةً عَلَى كُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ؛ وَهَذ الطَّرِيقَةُ مِنْ إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الأصُولِيِّينَ، وَهِيَ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ).
يريد المؤلف أن إثبات الاسم بالاشتقاق عن طريق الإلحاق؛ ليس محل اتفاق عند الأصوليين، لكن الواقع أن اللغة تُقرر ذلك.
قوله: (وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلَّمْ لنَا أَنَّ الْأَنْبِذَةَ تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ خَمْرًا؛ فَإِنَّهَا تُسَمَّى خَمْرًا شَرْعًا؛ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ).
مراده أنه على تقدير أن الأنبذة لا تُسمى خمرًا في اللغة؛ فإن الأدلة الشرعية قد أثبتت هذا الحكم وأقرَّته، فينبغي أن نقف عند الشريعة، حتى وإن حصل خلاف بين اللغة وبين الشرع؛ فإننا نقف عند أدلة الشريعة؛ فهي صحيحة وصريحة في هذا المقام.
(1)
يُنظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 591)؛ حيث قال: "وَالْخمر: مَعْرُوفَة وَيُقَال: سميت خمرًا لِأَنَّهَا تخامر الْعقل زَعَمُوا، أَي: تخالطه وتداخله من قَوْلهم: خامره الْحزن مخامرة والمخامرة: المقاربة".
قوله: (وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ، وَالْعِنبةِ"
(1)
.
يعني: من التمر، والعنب.
قوله: (وَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرًا؛ وَأَنَا أَنْهَاكُمْ عن كُلِّ مُسْكِرٍ"
(2)
).
هذا اللفظ ليس لعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما وهذا الحديث أخرجه الخمسة إلا النسائي، لكن الذي جاء عن طريق عبد اللّه بن عمر هو أن عمر رضي الله عنه صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال:"يا أيها الناس؛ إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمس؛ ثم عدَّها عمر رضي الله عنه فقال: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير؛ ثم قال: والخمر ما خامر العقل"
(3)
. هذا حديثٌ متفقٌ عليه.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ عُمْدَةُ الْحِجَازِيِّينَ فِي تَحْرِيمِ الأنْبِذَةِ).
يحتجون بهذه الآثار.
قوله: (وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا لِمَذْهَبِهِمْ بِظَاهِرِ قَوله تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، وَبِآثَارٍ رَوَوْهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَبِالْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ).
مرَّ ذكر علماء الكوفة سابقًا؛ ومنهم: إبراهيم النخعي، وأبو حنيفة؛ وهذه الآية التي ذكرها المؤلف، وذكر أنهم استدلوا بها؛ إنما ذكر الله سبحانه وتعالى فيها ذلك في سياق الامتنان.
(1)
أخرجه مسلم (1985).
(2)
أخرجه أبو داود (3676)، وصححه الألباني.
(3)
أخرجه البخاري (4619)، ومسلم (3023).
وهم قالوا: السَّكَرُ هو المسكر، فجمع بين السّكَر وبين الرزق الحسن؛ ولكن العلماء أجابوا بعدة أجوبة، والمؤلف لم يعرض لهذا؛ لأن هذا كان في أول الأمر؛ والتفسير الآخر لابن عباس، لهذه الآية هو: من ثمراتهما تتخذون منه ما حُرِّم، ومن ثمراتهما تتخذون ما أُحلَّ - وهو الرزق الحسن.
قوله: (وأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْآيَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: السَّكَرُ هُوَ الْمُسْكِر، وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ لَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا).
يقول الله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66]؛ هذا اللبن الصافي النقي يخرج من بين الفرث والدم، فنجد أن الدم يتجه إلى العروق، وأن الفرث يتجه إلى المخرج، وأن البول يتجه إلى المثانة، ثم يخرج من بين ذلك كله هذا اللبن الصافي الأبيض النقي؛ ثم قال - تعالى - بعد ذلك:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} [النحل: 67]؛ والذين يعقلون هم أصحاب العقول، فهل الذي يسكر يعقل مثل هذه الأمور؟!! - فكان ختام الآية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مناسبًا للحديث عن السّكَرِ.
قوله: (وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي اعْتَمَدُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَمِنْ أَشْهَرِهَا عِنْدَهُمْ حَدِيثُ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَالسُّكْر مِنْ غَيْرِهَا"
(1)
، وَقَالُوا: هَذَا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأوِيلَ).
أرادوا هنا أن يبيِّنوا أن هذا الحديث نص على أن تحريم الخمر لعينها، إذَن ينبغي أن يُقتصر على ما سُمي خمرًا، لا ما كان مسكرًا، وقد فُهِم بذلك أنهم يريدون أن يُفرِّقوا بين الخمر وبين غيرها من المسكرات
(1)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(20947).
وإن كان الكل مسكرًا، وإذا كانت الخمر حُرِّمت لعينها، وغيرها حُرِّم لكونه مسكرًا، فغير المسكر منه لا يكون حرامًا - وهو النبيذ - هذا هو الذي يريدون أن يصلوا إليه.
لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيف، كما أنه موقوفٌ على عبد اللّه بن عباس، فهو غير صالح للاحتجاج به، ولا يَقوَى على مقاومة الأدلة الصحيحة الصريحة في هذا المقام.
قولهء: (وَضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ رَوَى "وَالْمُسْكِرُ مِنْ غَيْرِهَا")
(1)
.
يعني بدل "السُّكر"، فكونه تعددت الروايات فيه، دليل على ضعفه.
قوله: (وَمِنْهَا حَدِيثُ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الشَّرَابِ فِي الْأوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ وَلَا تَسْكَرُوا" خَرَّجَهَا الطَّحَاوِيُّ
(2)
).
لكن الذي جاء في "صحيح مسلم" وغيره؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اشربوا في كل وعاءٍ، ولا تشربوا مسكرًا"، وتعددت الألفاظ في ذلك، وهي أقوى من هذه الرواية التي استدلوا بها.
وفي بعض الروايات، أن "الوعاء لا يحل حرامًا، ولا يحلل حلالًا"
(3)
، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى في أول الأمر عن أن يُشرب في بعض الأوعية التي سُمِّيت في الحديث، ثم جاء بعد ذلك ما يدل على جواز
(1)
بل لأنه موقوف على ابن عباس من كلامه، ومن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد وهم، انظر:"الهداية في تخريج أحاديث البداية" لأحمد بن الصدِّيق الغُمَارِي (6/ 326).
(2)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 228)، (6541).
(3)
أخرجه أحمد (23038)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
الشرب فيها، كما نهى أيضًا صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي
(1)
، ثم رخَّص فيها فقال:"كلوا وتصدقوا وادخروا"
(2)
والعلة معروفة؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لأجل الدافة؛ أي: الذين دفّوا المدينة؛ أي: قدموا عليها وهم في حاجة إلى هذه اللحوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي الناس لأولئك الفقراء الذين دخلوا المدينة؛ ليأكلوا من هذه اللحوم، فلو أن كل إنسان ادخر ما عنده؛ لما بقي شيء لهؤلاء الفقراء؛ وأيضًا جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"
(3)
.
إذن هناك أمور نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رخَّص فيها، وقد ذكر العلماء العلة في ذلك؛ فمثلًا بالنسبة إلى الأوعية غير الأدمة - أي: الجلد - قالوا: لأن الناس كانوا قريبي عهدٍ بتحريم الخمر، ولذلك نُهوا عنها حتى لا تكون داعية لذلك؛ لأن هذه الأواني ربما تساعد على سرعة التخمُّر.
قوله: (وَرَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ: "شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ، ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَه، فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ").
هذ الذي نسبه المؤلف لابن مسعود لم يُعرَف عنه؛ وإنما عُرِف عن صحابي آخر هو عبد اللّه بن مُغفَّل، حيث قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن نبيذ الجرّ، وشهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رخَّص في ذلك
(4)
.
قوله: (وَرَوَوْا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا
(1)
أخرجه أحمد (435)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه البخاري (5569)، ومسلم (1971).
(3)
أخرجه مسلم (977).
(4)
أخرج أحمد (16804): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِي، قَالَ: أَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، وَأَنَا شَهِدْتُهُ حِينَ رَخَّصَ فِيهِ، قَالَ:"وَاجْتَنِبُوا الْمُسْكِرَ"، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
وَمُعَاذًا إلى الْيَمَنِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ بِهَا شَرَابَيْنِ يُصْنَعَانِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ؛ أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ؛ وَالآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ؛ فَمَا نَشْرَبُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "اشْرَبَا، وَلَا تَسْكَرَا" خَرَّجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا
(1)
؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآثَارِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ).
هذا الذي ذكره المؤلف عند الطحاوي، وكان الأولى أن يذكر الحديث المتفق عليه الذي أشرنا إليه فيما سبق؛ وهو أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفتيًا، فقال: يا رسول الله؛ أفتنا في شرابين نصنعهما في اليمن؛ أحدهما البِتع - وهو نبيذ العسل؛ ينبذ حتى يشتد - والمزر - وهو نبيذ الذرة والشعير؛ ينبذ حتى يشتد - ثم قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حتى يفهم الصحابة رضي الله عنهم.
وهؤلاء الآخرون علماء مجتهدون، فالإنسان قد يجتهد في أمر من الأمور، لكن أن يعرف الإنسان الحق؛ أن هذا حرام ويستحلّه، أو أنه يتمسك ببعض العلل، أو ببعض الرخص التي ربما قال بها بعض العلماء وهي غير صحيحة؛ فهذا هو الذي يحمل الإثم.
قوله: (وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ إِنَّمَا هِيَ الصَّدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ، وَوُقُوعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ؛ كمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91].
يستندون إلى الآية، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى ذكر عدة أمور حاسمة لبيان تحريم الخمر، وهي علل قوية وواضحة؛ ولذلك قال الصحابة رضي الله عنهم عندما خُتِمت الآية بقوله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قالوا: انتهينا؛
(1)
في "شرح معاني الآثار"(4/ 220)، (6472).
انتهينا!! فأراقوها في الشوارع، وكانت توجد خمرٌ لأيتام، فأراقوها أيضًا، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تحليلها، فنهاهم عن ذلك وقال:"أهريقوها، أهريقوها"، فكانت الأسقية تسيل في الشوارع، فاللّه تعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، فاجتناب الخمر هو سببٌ للفلاح، وعدم اجتنابها هو سببٌ لما هو ضد الفلاح، لأنهم إذا سكروا، فقدوا عقولهم، فارتكبوا ما لا يجوز، فتقع العداوة بينهم، وهذا هو ما يُسعد الشيطان ويسره، فربما طلق الزوج زوجته، وربما اعتدى القريب على قريبته، والمؤمنون مطالبون ألا تنتشر بينهم العداوة، ومطلوب منهنم أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، فنحن مطالبون دائمًا بأن نخالف الشيطان، وأن ندحره في كل أمر، حتى إن الله تعالى يقول:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 98 - 100].
إذن فعلى المؤمن دائمًا أن يتجنب كل طريق يجد فيه ما يرضي الشيطان، ويسلك كل طريقٍ يجد فيه مرضاة الرحمن سبحانه وتعالى فالشيطان يَصُدّ عَن ذِكْرِ اللَّهِ؛ واللّه تعالى قال:{آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]؛ فإذا سكر الإنسان أصبح لا يعقل، والمسلم مطالب بأن يكون مدركًا لبيبًا عاقلًا لأمور الصلاة، حتى إن الثواب في الصلاة يزداد وينقص بحسب ما فيها من الخشوع.
ثم ختم الله - تعالى - الآية بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فكان هؤلاء الذين فهموا الآية على وجهها الصحيح، قالوا: انتهينا؛ انتهينا!!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما بيَّن لنا أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأنه لا فرق بين القليل والكثير؛ فالله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نطيع رسول صلى الله عليه وسلم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وهو الذي قد بيَّن لنا ما
في كتاب الله عز وجل مع أننا نجد أن الآية واضحة وليس فيها دلالة لأولئك الذين يستدلون بها.
ذكر الله سبحانه وتعالى العلل والأسباب التي من أجلها حرَّم الخمر، وأن من هذه العلل ما فيها من إقامة العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه كلها من الأمور التي يسعى الشيطان إلى أن يُوقع فيها المسلم؛ لأن الشيطان لا يُعنى بأوليائه الذين أطاعوه؛ إنما هو يهتم بأولئك الذين سلكوا طريق السعادة والخير، فهو يحاول أن يضلَّهم، ولذلك يسعى دائمًا إلى أن يوسوس للإنسان في صلاته، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطريق السوي في ذلك؛ أنه إذا شك أحدنا في صلاته فلم يدرِ أصلَّى ثلاثًا أم أربعًا؛ فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن، فإنه إن صلَّاها خمسًا؛ كان ذلك ترغيمًا للشيطان، وإن كان أربعًا؛ شفعن له في صلاته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أغلق كل منفذ وكل طريقٍ يحاول الشيطان أن ينفذ منه إلى المؤمنين الذين استجابوا لأمر ربهم، ونزلوا عند أحكام رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَهَذهِ الْعِلَّةُ تُوجَدُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ لَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ الْحَرَامَ).
لكن هذا القليل وسيلةٌ إلى السُّكر، والوسيلة التي توصلك إلى المحرم محرمة، ولذلك فإن العلماء عندما تكلَّموا على الذي يسافر سفر معصية؛ فأكثرهم يقولون: ليس له أن يقصر الصلاة، ولو اضطُر إلى أكل الميتة ليس له أن يأكل منها؛ قالوا: لأن هذه رخصة، ولا يرخَّص للعصاة؛ لأن الرخصة تعينهم على فعل المعاصي؛ وقالوا: يتوب إلى الله، وإذا كان في هذا الموقف الذي يرى فيه الموت رأيَ العين، ولا يرجع إلى الله سبحانه وتعالى فهذا لا خير فيه، فليتب إلى الله توبة نصوحًا؛ حينئذٍ تتغير حاله، فيُباح له الأكل من هذه الميتة التي اضطر إلى الأكل منها.
قوله؛ (إِلَّا مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ تَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ
وَكثِيرِهَا؛ قَالُوا: وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ يُلْحَقُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُنبِّهُ الشَّرْعُ عَلَى الْعِلَّةِ فِيهِ).
المؤلف وإن عرض لأقوالٍ، فهو يردُّها شيئًا فشيئًا.
قوله: (وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ: حُجَّةُ الْحِجَازِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ أَقْوَى، وَحُجَّةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَظْهَرُ).
حجة أولئك الذين سمَّاهم بالحجازيين - وهم جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة - لا شك أنها أقوى من حيث الأدلة الشرعية، وأيضًا من حيث النظر؛ لأن الخمر في لغة العرب: ما خامر العقل؛ أي: غطَّته.
قوله: (وَإِذَا كَانَ هَذَا كَمَا قَالُوا؛ فَيَرْجِعُ الْخِلَافُ إلى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَغْلِيبِ الْأَثَرِ عَلَى الْقِيَاسِ، أو تَغْلِيبِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَثَرِ إِذَا تَعَارَضَا).
لا يمكن أن يُوازَن بين حديث صحيح وبين قياس، والعلماء والمحققون الذين وهبهم الله بسطةً في العلم، ووهبهم ذكاءً وفطنةً وغرسًا في المعاني، دقَّقوا في هذه المسألة ودرسوها بكل عناية، وانتهوا فيها إلى أنه لا يوجد قياس صحيح يتعارض مع نصٍّ صحيح، فلا يمكن أن تجد قياسًا سليمًا يعارض نصًّا صحيحًا، فلا تعارُضَ بين هذا وذاك.
قوله: (وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْأَثَرَ إِذَا كَانَ نَصًّا ثَابِتًا؛ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُغَلَّبَ عَلَى الْقِيَاسِ).
يريد المؤلف - رحمه الله تعالى - أن يقول: لو سلَّمنا جدلًا أنه يوجد عندنا حديثٌ صحيح وقياس، على فرض أن هذا قياسٌ صحيحٌ أيضًا، وهو قياس العلة المعروف المسَلَّم به، وليس قياس الشبه الضعيف؛ لو سلَّمنا ذلك كله فلا يمكن أن نُقدِّم القياس على حديثٍ من الأحاديث، ولذلك
نرى أن الحنفية الذين توسعوا في القياس، لا يقدمونه على الحديث، وما نُسِبَ إلى أبي حنيفة فهو غير صحيح؛ لأنه لما سئِلَ؛ قال: إذا جاء الأمر عن الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا اتفق الصحابة على أمر؛ أخذناه، وإذا اختلفوا؛ اخترنا من أقوالهم. إذن هو لا يُقَدَّم قياسًا مهما كان على حديثٍ صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا الحديث جاء عن الذي لا ينطق عن الهوى.
والقياس إنما يُبنى على وجوه العلة، وهو دائمًا يعتمد على العقل السليم، الذي سماه المؤلف الذوق السليم، وقد جاء عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال:"لو كان الدين بالرأي؛ لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه"
(1)
، لكن الدين ليس بالرأي؛ وإنما يُتلقى عن كتاب الله سبحانه وتعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم وما تُلُقِّيَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم دُوِّنَ في هذه السنة المطهرة التي نُقِلَت إلينا بحمد الله بعد أن مُحِّصت وجُرِّدَت من كل حديثٍ موضوع وضعيف، وبُيِّن صحيحها من زيفها.
ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه عندما جاءته الجدة تسأل عن ميراثها؛ نظر في كتاب الله، فقال: لا أجد لك شيئًا، وفي سنة رسول الله قال: لا أجد شيئًا، وما انتقل إلى القياس؛ وإنما أخذ يسأل الصحابة رضي الله عنهم حتى جاءه المغيرة فأخبره أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، فورَّثها
(2)
، وهكذا غيره من الصحابة رضي الله عنهم فقد يحفظ هذا ما لا يحفظ هذا.
قوله: (وَأَمَّا إِذَا كانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا لِلتَّأوِيلِ، فَهُنَا يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ، هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُتَأَوَّلَ اللَّفْظ، أو يُغَلَّبَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ؟).
يقصد المؤلف إذا لم تكن دلالة النص قطعية؛ فيُنظر فيها.
(1)
أخرجه أبو داود (162)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن ماجه (2725)، وقال الأرناؤوط: حسن لغيره.
قوله: (وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ قُوَّةِ لَفْظٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ، وَقُوَّةِ قِيَاسٍ مِنَ الْقِيَاسَاتِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَلَا يُدْرَكُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالذَّوْقِ الْعَقْلِيِّ، كَمَا يُدْرَكُ الْمَوْزُونُ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْزُون).
الفقه في اللغة هو الفهم، وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله أنه فهمٌ زائد، فكل الناس يفهمون مثلًا أن الواحد نصف الاثنين، وأن الاثنين نصف الأربعة، لكنْ هناك فهمٌ زائدٌ، وقد جاء في الحديث:"مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"
(1)
هذا حديثٌ متفق عليه، وأورده البخاري في عدة مواضع، ويقال: فَقُهَ وفَقِهَ وفَقَهَ؛ ولكل واحدٍ منها معنى من المعاني فسَّره العلماء.
فالفقيه هو الذي يغوص في المعاني، ويقف عند لُبِّها وجوهرها، ويستطيع أن يوازن بين الأدلة، فيبين دلالة هذا ودلالة ذاك، وهو الذي يستطيع أن يستخرج علة الحكم، وأن يخرج الحكم من الدليل، وأن يُلحق به غيره، وليس هذا لكل إنسان، ولذلك الاجتهاد معروف، وقد تكلم عنه الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه "الرسالة"، وبيَّن شروطه، ليس شرطًا أن تحفظ جميع آيات الكتاب، وأن تحفظ السنة، وأن تعرف جميع أقيسة العرب؛ لكن ينبغي أن تعرف الأمور التي يحتاج إليها المجتهد والفقيه؛ أن يعرف الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، ويعرف معاني لغة العرب، ويعرف الأحكام .. إلى غير ذلك مما تكلم عنه العلماء.
قوله: (وَرُبَّمَا كَانَ الذَّوْقَانِ عَلَى التَّسَاوِي، وَلِذَلِكَ كثُرَ الاخْتِلَافُ فِي هَذَا النَّوْعِ).
والحمد لله أن الأمر ليس بالتوقع؛ إنما هي أدلةٌ جاءت عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج هنا إلى إعمال ذوق ولا فكرٍ ولا عقلٍ
(1)
أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
ولا مقايسة؛ بل الأدلة صريحةٌ في هذا المقام، ولا تحتاج إلى هذا الذوق الذي أشار إليه المؤلف، أو إعمال الفكر أو الغوص في هذه الأقيسة لنتعرف؛ فلدينا أحاديث صافية صريحة بيضاء نقية كبياض الشمس، فلا نحتاج معها إلى غيرها.
قوله: (حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ).
هذه مسألة أخرى، وهذه لها قصة معروفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عددًا من أصحابه، وقال:"لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قرَيْظَة"
(1)
؛ فانقسم الصحابة في فَهمِ هذا الحديث إلى قسمين؛ قسمٌ أخذوا بظاهر الحديث، يعني: لا تصلُّوا إلا إذا وصلتم إلى بني قريظة، وبعضهم كان أعمق في فهم المعنى، وأن قصد الرسول صلى الله عليه وسلم هو حثُّهم وحضُّهم على الإسراع، لكن الصَلاة إذا وجبت فإنها تؤدَّى في أي مكان؛ فاجتهدوا، وأقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم الأمرين.
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد"
(2)
؛ والمقصود بذلك إنما هو العالم، فإذا اجتهد العالم الحاكم في أمر من أمور الشريعة، فإن أصاب الحق ووُفِّق إليه فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر إصابته الحق؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ وهو أجر الاجتهاد، وهو على كلا الأمرين مثاب؛ لأنه أراد الوصول إلى الحق، فلم تكن له غاية غير الحق.
نحن نرى أن العلماء يختلفون، واختلافهم هذا ليس اختلاف تشفٍّ، لا يريد أحدهم عندما يخالف المسألة أن يشتهر لأنه خالف، ولذلك من أبدع الكلمات وأنصعها التي نُقلت عن الإمام الشافعي رحمه الله وهي تُكتب بماء الذهب وتُسجَّل له في سجل الخالدين، قال: "ما ناظرت أحدًا، وتمنيت أن أنتصر عليه؛ وإنما تمنيت أن يُظهِرَ الله الحق على يدي أو على
(1)
أخرجه البخاري (946).
(2)
أخرجه ابن الجارود في "المنتقى"(996).
يديه"
(1)
، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى أن نسلك هذه السيرة؛ السيرة الحميدة النيِّرة المضيئة التي تركها لنا أولئك العلماء الأعلام، وأن تكون قدوتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسوتنا جميعًا، وبأصحابه الكرام، ثم بأولئك العلماء الأعلام من التابعين والأئمة ومن بعدهم.
قوله: (قَالَ الْقَاضِي: وَالَّذِي يظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "كلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"
(2)
؛ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ، لَا الْجِنْسُ الْمُسْكِرُ؛ فَإِنَّ ظُهُورَهُ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالْجِنْسِ، أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْقَدْرِ).
القاضي هو ابن رشد.
أسلوب المؤلف هنا هو من أدب العلماء، لم يقطع في أمر من الأمور حتى ينسب العلم إلى الله، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الله ورسوله أعلم؛ أما الآن فنقول: الله أعلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفِّيَ، ولحق بالرفيق الأعلى.
هذا الظن الذي أورده المؤلف هو يقينٌ لا إشكال فيه، كقول الله تعالى:{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118].
قوله: (لِمَكَان مُعَارَضَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ لَهُ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الْكُوفِيُّونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أن يُحَرِّمَ الشَّارعُ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ وَكَثِيرَهُ؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَتَغْلِيظًا).
كم من أمورٍ حُرِّمَت سدًّا للذرائع؛ حتى تُغلَق فيها هذه الأبواب التي قد تُوصل إلى الوقوع في المحرم، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ
(1)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(1/ 203).
(2)
سبق تخريجه.
مشتبهات، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
قوله: (مَعَ أَنَّ الضَّرَرَ إِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْكَثِيرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَالِ الشَّرْعِ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْخَمْرِ الْجِنْسَ دُونَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ).
لأنه قال عليه الصلاة والسلام: "مَا أَسْكَرَ كثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"
(1)
.
قوله: (فَوَجَبَ كُلّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّةُ الْخَمْرِ أن يُلْحَقَ بِالْخَمْرِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى مَنْ زَعَمَ وُجُودَ الْفَرْقِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ).
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي أناس يسمُّون الخمر بغير اسمها، والآن لها أسماء كثيرة عديدة، وكلها لا تخرج عما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (هَذَا إن لَمْ يُسَلِّمُوا لَنَا صِحَّةَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"
(2)
).
حتى وإن لم يُسلِّم المخالف فهو حديثٌ صحيح.
قوله: (فَإِنَّهُمْ إِنْ سَلَّمُوهُ لَمْ يَجِدُوا انْفِكَاكًا؛ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ).
يريد المؤلف أن يقول: إن سلَّموا لنا بهذا الحديث: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"
(3)
فلن يجدوا ما ينفعهم، فهم ملزمون بالحجة.
قوله: (وَلَا يَصِحُّ أن تُعَارَضَ النُّصُوصُ بِالْمَقَايِيسِ).
فالنص واضح صريح ومقدَّم على القياس.
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
سبق تخريجه.
قول: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَضَرَّةً وَمَنْفَعَةً؛ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]).
وقد تكلمنا عن هذه الآية الكريمة في مواضع سابقة.
قوله: (وَكَانَ الْقِيَاسُ إِذَا قُصِدَ الْجَمْعُ بَيْنَ انْتِقَاءِ الْمَضَرَّةِ وَوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ؛ أَنْ يُحَرَّمَ كَثِيرُهَا وَيُحَلَّلَ قَلِيلُهَا؛ فَلَمَّا غَلَّبَ الشَّرْعُ حُكْمَ الْمَضَرَّةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي الْخَمْرِ، وَمَنَعَ الْقَلِيلَ مِنْهَا وَالْكَثِيرَ؛ وَجَبَ أن يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ عَلَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ).
لا يزال المؤلف يناقش رأي الذين لهم وجهة نظر فيما يتعلق بنوع الخمر، وأن ما لا يبلغ حد الإسكار فإنما يجوز شربه؛ يناقشهم، ومناقشته مناقشة عقلية، وقد رأينا أن الأدلة صريحةٌ في الرد عليهم.
قوله: (إِلَّا أن يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ فَارِقٌ شرْعيٌّ).
لأن النص هو الأساس.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أن الانْتِبَاذَ حَلَالٌ؛ مَا لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ الْخَمْرِيَّةُ).
ومثله أيضًا العصير إذا غلى واشتد حتى قذف بالزبد؛ فإنه لا يجوز شوبه، باتفاق العلماء.
ولكن يبقى بعد ذلك أن هذا النبيذ أو هذا العصير، إذا وُضِعَ في إناءٍ، فمرت عليه ثلاثة أيام؛ هل يجوز شربها أوْ لا؟ معروفٌ أن الشراب إذا وصل إلى الغليان؛ فإنه في هذه الحالة يُصبح فيه شدةٌ مُطرِبة؛ وهي علة تحريم الخمر.
لكنْ هناك أنواعٌ من العصائر التي نعرفها؛ كالفواكه وهي مباحة، لم تصل إلى حد الإسكار، حتى وإن كانت من العنب، كذلك أيضًا أنواع المربَّى، التي تغلي ولا تصل إلى درجة الغليان؛ هذه كلها من المباحات.
لكن هل هناك مدة محددة بالنسبة لهذا النبيذ؟ بعض العلماء يقولون: إذا وصل إلى ثلاثة أيام، لا يجوز شربه، بمعنى أن الإنسان يشربه في اليوم الأول والثاني والثالث؛ كما جاء في حديث عبد اللّه بن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنبذ له الزبيب، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة؛ أمر به للخدم أو أُريق
(1)
.
ولكن نجد في بعض الأحاديث ما يدل على الشرب بعد ذلك، ومن العلماء من يذكر أن العلة في ذلك هو أنه إذا مضت عليه ثلاثة أيام؛ يكون مظنة الإسكار، وبعضهم يقول: المقصود بذلك نوع من الأنبذة يُسرع إليه الإسكار، فهذا هو الممنوع؛ وقد وردت في ذلك عدة أحاديث.
وأما الذين قالوا بأن الانتباذ جائز وإن تجاوز ثلاثة أيام، فهم يستدلون بالحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره - وهو حديث صحيح - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا"
(2)
؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام - أطلق، ولم يفرِّق بين أن يطول الزمن أو يقصر، وإنما قال:"ولا تشربوا مسكرًا".
قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَانْتَبِذُوا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"
(3)
، وَلمَا ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام "أَنَّهُ كَانَ يَنْتَبِذُ، وَأَنَّهُ كَانَ يُرِيقُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أو الثَّالِثِ"
(4)
).
هذا الجزء من الحديث الذي أشار إليه المؤلف؛ ذكره الإمام مالك في "الموطإ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث،
(1)
أخرجه مسلم (2004).
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 485).
(4)
أخرج مسلم (1999): عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:"كَانَ يُنْتَبَذُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا سِقَاءً نُبِذَ لَهُ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ"، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: وَأَنَا أَسْمَعُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ: مِنْ بِرَامٍ؟ قَالَ: "مِنْ بِرَامٍ".
ثم قال بعد ذلك: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي، فكلوا، وتصدقوا وادخروا"
(1)
، ونهى أيضًا عليه الصلاة والسلام عن الانتباذ، تم قال:"انتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا"
(2)
؛ وأصل النهي عن الانتباذ إنما كان في سائر الأوعية، إلا في الأوعية التي من الجلد؛ لأنها تساعد في الإسراع إلى السُّكر، كما نهى عن الشرب في الإناء المُزفَّت
(3)
، وبعض العلماء قالوا: لو لم يكن مطليًّا بالزفت؛ فهذا لا يضر، ثم جاء بعد ذلك إباحة ذلك بأحاديث أخرى، واعتبر العلماء ذلك منسوخًا.
وجاء في حديث مالك أيضًا: "ونهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها"
(4)
، وجاء في أحاديث أخرى:"فإنها تُذكِّر - أو تُذكِّركم - الآخرة"
(5)
، لا شك أن الإنسان إذا ذهب إلى المقابر وزار أهلها ودعا لأهلها؛ فإنه يتذكر الموت، وإذا تذكر الموت؛ قلَّت الدنيا في عينه، وأصبح يفكر في الآخرة أكثر.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا من ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُنْتَبَذُ فِيهَا، وَالثَّانِيَةُ: فِي انْتِبَاذِ شَيْئَيْنِ؛ مِثْل الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ).
جاء النهي عن الانتباذ في أوعية أربعة، في روايات متعددة، بعضها اقتصرت على الدباء والحنتم، وبعضها أضافت النقير، وبعضها جاءت في الأربعة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفَّت
(6)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سيأتي قريبًا تخريجه.
(3)
سيأتي قريبًا.
(4)
أخرجه الحاكم (1385).
(5)
أخرجه ابن ماجه (1569)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(6)
أخرجه البخاري (53).
[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى، فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُنْتَبَذ فِيهَا]
قوله: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الانْتِبَاذِ فِي الْأسْقِيَةِ
(1)
).
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن الأوعية في أول الأمر؛ أمر بالانتباذ في أوعية الأدم - أي: التي من الجلد، التي نسميها الأسقية أو القِرب الكبيرة والصغيرة وغيرها - لكنْ هناك أوانٍ أخرى، كالدباء - وهي القرع أو اليقطين - وكذلك النقير، والحنتم، والمُزفَّت؛ ومعروف أن الإناء إذا وضع عليه زفت؛ فإنه يساعد في إسراع الإسكار.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر قال: "اشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا"
(2)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَرِهَ الانْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، وَلَمْ يَكْرَهْ غَيْرَ ذَلِكَ
(3)
).
ابن القاسم هذا من أصحاب الإمام مالك ومن ملازميه، وله أثر كبير في المدونة العظيمة التي حُكِيَ فيها كثير من أقوال الإمام مالك.
قوله: (وَكَرِهَ الثَّوْرِيُّ الانْتِبَاذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ
(4)
).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 16)؛ حيث قال: "ولا أعلم خلافًا بين السلف والخلف من العلماء في جواز الانتباذ في السقاء".
(2)
أخرجه مسلم (977).
(3)
يُنظر: "المدونة"(4/ 524)؛ حيث قال: "قلت: فهل كان مالك يكره من الفخار شيئًا غير المزفت؛ قال: لا، إنما كان يكره الدباء والمزفت".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 14)؛ حيث قال: "وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت".
وهذا جاء في أحاديث صحيحة، وهو قول الإمام أحمد أيضًا، والمشهور عند جماهير العلماء أنه ينتبذ في كل وعاء، وأن النهي كان في أول الأمر ثم نُسخ.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
: لَا بَأْسَ بِالانْتِبَاذِ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ وَالْأَوَانِي
(2)
).
وهذا هو رأي الجمهور؛ يعني جمهور العلماء يرون جواز الانتباذ في كل إناء.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ النَّهْيُ عَن الانْتِبَاذِ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي كَرِهَهَا الثَّوْرِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ
(3)
، وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي "الْمُوَطَّإ"، أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام "نَهَى عَنِ الانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ"
(4)
، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّهُ قَالَ:"كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَنْبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ، فَانْتَبِذُوا، وَلَا أُحِلُّ مُسْكِرًا")
(5)
.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (6/ 395)؛ حيث قال: " (ولا بأس بشرب ما انتبذ في الدباء والنقير والمزفت)؛ وذلك للأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحته بعد حظره".
(2)
وهو مذهب الشافعي والجمهور؛ ينظر: "المجموع شرح المهذب"(2/ 566)؛ حيث قال: "مذهبنا ومذهب الجمهور أنه يجوز الانتباذ في جميع الأوعية من الخزف والخشب والجلود والدباء وهي القرع والمزفت والنحاس وغيرها ويجوز شربه منها ما لم يصر مسكرا".
(3)
أخرجه البخاري (53) في حديث طويل، وفيه: "
…
وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الحَنْتَمِ وَالدُّئاءِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ
…
".
(4)
أخرج مالك في "موطأ"(2/ 843): عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بعض مغازيه. قال عبد اللّه بن عمر: فأقبلت نحوه. فانصرف قبل أن أبلغه. فسألت ماذا قال؟ فقيل لي: "نهى أن ينبذ في الدباء والمزفت".
(5)
سبق تخريجه.
الحديث بيَّن أن علة النهي في الأصل هي خشية الوقوع في المسكر، أو أن هذه الأواني تكون سببًا في إسراع الوصول إلى درجة الإسكار.
قوله: (وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّإِ"، وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الانْتِبَاذِ فَانْتَبِذُوا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"
(1)
، فَمَنْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي نُسِخَ إِنَّمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي - إِذْ لَمْ يُعْلَمُ هَا هُنَا نَهْيٌ مُتَقَدِّمٌ غَيْرُ ذَلِكَ - قَالَ: يَجُوزُ الانْتِبَاذُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي نُسِخَ إِنَّمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الانْتِبَاذِ مُطْلَقًا، قَالَ: بَقِيَ النَّهْيُ عَنْ الانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي).
فهناك أدلة دلت على النهي عن الانتباذ في هذه الأواني؛ لأنه جاء عن الوسول صلى الله عليه وسلم في آخر الأمرين ما يدل على جواز ذلك.
قوله: (فَمَنِ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَر؛ قَالَ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِ، وَمَنِ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ بِالْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَزِيدًا، وَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ).
دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة.
قوله: (وَفِي كتَابِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عَنِ الانْتِبَاذِ فِي الْحَنْتَمِ، وَفِيهِ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِيهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُزَفَّتٍ
(2)
).
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الجميع، وأن النهي كان في بداية الأمر فنُسخ.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 465).
(2)
انظر: "صحيح مسلم"(3/ 1577)، "بَابُ النَّهْي عَنِ الانْتِبَاذِ فِي الْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّهُ الْيَوْمَ حَلَالٌ مَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا".
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: انْتِبَاذ شيْئَيْنِ؛ مِتْلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ]
قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة - وَهِيَ انْتِبَاذُ الْخَلِيطَيْنِ - فَإِنَّ الْجُمْهُورَ قَالُوا بِتَحْرِيمِ الْخَلِيطَيْنِ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أن تَقْبَلَ الانْتِبَاذَ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَل الانْتِبَاذُ مَكْرُوهٌ؛ وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُبَاحٌ؛ وَقَالَ قَوْمٌ: كلُّ خَلِيطَيْنِ فَهُمَا حَرَامٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِمَّا يَقْبَلَانِ الانْتِبَاذَ فِيمَا أَحْسَبُ الْآنَ
(1)
).
هذه مسألة مهمة، والخليطان أن يؤخذ مثلًا شيء من التمر، وشيء من الزهو - وهو البسر - فيُجمعا معًا، فيلقيا في الماء؛ وسبب النهي عنه أنه يسارع في الوصول إلى الإسكار، أما لو لم يكن كذلك؛ بمعنى أنه شربه في أول أمره؛ فهذا ليس منهيًّا عنه؛ لأنه فُعِلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يُفعل شيء في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يكون غير جائز.
إنما الكلام عما إذا وصلا إلى درجة الإسكار؛ وقد جاء في حديث أبي قتادة المتفق عليه، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين التمر والزهو، وبين التمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة"
(2)
.
(1)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(13/ 154)؛ حيث قال: "النهي عن انتباذ الخليطين وشربهما، وهما تمر وزبيب أو تمر ورطب أو تمر وبسر أو رطب وبسر أو زهو وواحد من هذه المذكورات، ونحو ذلك قال أصحابنا وغيرهم من العلماء، سبب الكراهة فيه: أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس مسكرًا ويكون مسكرًا. ومذهبنا ومذهب الجمهور أن هذا النهي لكراهة التنزيه ولا يحرم ذلك ما لم يصر مسكرًا، وبهذا قال جماهير العلماء، وقال بعض المالكية: هو حرام، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية عنه: لا كراهة فيه ولا بأس به؛ لأن ما حل مفردًا حل مخلوطًا، وأنكر عليه الجمهور، وقالوا: منابذة لصاحب الشرع، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، فإن لم يكن حرامًا كان مكروهًا، واختلف أصحاب مالك في أن النهي هل يختص بالشرب أم يعمه وغيره والأصح".
(2)
أخرجه البخاري (5602)، ومسلم (1981).
وقال الجمهور بتحريم الخليطين إذا وصلا إلى درجة الإسكار، وهناك من قال بالكراهة مطلقًا؛ وهذه رواية في مذهب مالك وأحمد، ومنهم من قال بإباحة ذلك مطلقًا؛ وهم الحنفية، والشافعية لهم قولان؛ مع هؤلاء ومع أولئك، ثم الذين قالوا بالتحريم ليس قصدهم أن الخليطين محرمان مطلقًا.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُهُمْ فِي هَلِ النَّهْيُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ هُوَ عَلَى الْكَرَاهَةِ أو عَلَى الْحَظْرِ؟).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، وجاء أيضًا في حديث أبي قتادة تفصيل ذلك أكثر، وهو حديث متفقٌ عليه، بل موجود أيضًا عند بعض أصحاب السنن، وعند أحمد.
والخلاصة أن النهي ليس للتحريم، إلا أن يصل إلى درجة الإسكار.
قوله: (وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ؛ فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ نَهَى عَنْ أن يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّبِيب، وَالزَّهْوُ وَالرُّطَب، وَالْبُسْرُ وَالزَّبِيبُ؛ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلَا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا؛ وَانْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ"
(1)
).
جاء في ذلك عدة أحاديث، لكن أشهرها حديث أبي قتادة الذي ذكرناه.
لكن هنا الآن كيف يُقَالُ مع هذه الأحاديث بأن الخليطين جائزان؟! وقد جاء في حديث أبي داود والنسائي وغيرهما، من حديث عائشة رضي الله عنها
(1)
أخرجه البخاري (5602) واللفظ له، ومسلم (1988): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ".
قالت: كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَاخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ، وقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ، فَنَطْرَحُهَا فِيهِ - يعني في الإناء - ثُمَّ نَصبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، فَنَنْبذُهُ له غُدْوَةً، فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَنَنْبِذُهُ عَشِيَّةً، فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً
(1)
.
فهذا دلَّ على أنه كان يُنبَذ للرسول صلى الله عليه وسلم وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشربه، لكن كان يُنبَذ له في الصباح فيشربه في المساء، أو في المساء فيشربه في الصباح، فلم تمر عليه مدة طويلة تستدعي أن يصل إلى درجة الإسكار، فهو لا يزال حلالًا ولم يصل إلى درجة الممنوع.
لكن يبين لنا حديث أبي هريرة، حيث قال: عَلِمْتُ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُوم، فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَه، فصنعتُ له نبيذًا فِي دُبَّاء، فأتيته به، فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"اضْرِبْ بهَذا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"
(2)
.
لكن هذا النبيذ وصل إلى درجة شِبهِ غليان، بدأ ينش - أي: يتحرك - فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اضْرِبْ بهَذا الْحَائِطَ" يعني: اقذفه" ثم بيَّن له فقال: "هَذَا شَرَابُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ"، أما من يؤمن باللّه واليوم الآخر، فإنه لا يشرب مثل هذه الأشربة التي تُذهِب العقول.
وليس المراد في هذا المقام نفيُ الإيمان كاملًا، بل هذا كحديث "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِق السَّارِق حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"
(3)
إلى آخر ما جاء في ذلك.
وبعض العلماء قالوا: إن الإيمان يخرج فيكون شبه مظلَّة عليه،
(1)
أخرجه أبو داود (3711)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه أبو داود (3716)، وقال الأرناؤوط:"حديث حسن".
(3)
أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57).
فإذا خرج من معصيتة عاد إليه؛ وهذا فيه كلام معروف في مباحث علم العقيدة.
قوله: (فَيَخْرُجُ فِي ذَلِكَ بِحَسِبِ التَّأوِيلِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ: قَوْلٌ بِتَحْرِيمِهِ، وَقَوْلٌ بِتَحْلِيلِهِ مَعَ الْإِثْمِ فِي الانْتِبَاذِ، وَقَوْلٌ بِكَرَاهِيَةِ ذَلِكَ).
ونحن نتبين أن الأدلة مجتمعة تبين أن النهي ليس للتحريم؛ وأن النهي خشية الوقوع في المحظور، أما إذا اطمأن الإنسان إلى أنه لا يقع في محظورٍ بإذن الله؛ فإنه يجوز له.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُبَاحٌ؛ فَلَعَلَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عُمُومَ الْأَثَرِ بِالانْتِبَاذِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ).
حديث أبي سعيد الخدري أيضًا فيه جواز الانتباذ مطلقًا، لكن أصح الأدلة هو حديث عائشة الذي ذكرناه.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ كُلَّ خَلِيطَيْنِ؛ فَإِمَّا أن يَكُونَ ذَهَبَ إلى أن عِلَّةَ الْمَنْعِ هُوَ الاخْتِلَاط، لَا مَا يَحْدُثُ عَنْ الاخْتِلَاطِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي النَّبِيذِ).
الحقيقة ليست علة المنع هي الاختلاط؛ وإنما الاختلاط يسارع فقط في الوصول إلى المنهي عنه؛ وإنما العلة هي أن الإنسان قد ينخدع، فقد تعوَّد أن يضع النبيذ في إناء فيشرب فيه مدة ثلاثة أيام وربما أكثر - هذا ما لم يُسكِر - ثم يجمع بين الخليطين فيفاجأ به قد وصل إلى درجة الإسكار، فربما لو شرب منه وقع في المحظور، وهذا هو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان أحيانًا ينسى؛ ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام.
قوله: (وَإِمَّا أن يَكُونَ قَدْ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ مَا وَرَدَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ).
كما جاء لفظ الحديث.
قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أن الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ مِنْ ذَاتِهَا؛ جَازَ أكْلُهَا
(1)
).
الخمر لا تخلو إما أن تتخلل من نفسها؛ بمعنى أن توضع في مكان فتتخلل، وإما أن يُخلِّلها الإنسان بنفسه؛ بمعنى أن يضع فيها مادة من المواد التي تسارع في تخليلها، فتنقلها من كونها خمرًا مسكرًا إلى أن تصبح خلًّا.
الطريقة الأخرى لا يُحدِثُ فيها شيئًا؛ لكنه ينقلها من مكانٍ إلى مكان، قد تكون موضوعةً مثلًا في الشمس فينقلها إلى الظل فتتخلل، أو العكس، بمعنى أنه حملها من مكان إلى مكان؛ هذه صورٌ ثلاث:
الصورة الأولى: لا خلاف بين العلماء؛ أن الخمر لو كانت في مكانٍ مستقر وتخلَّلت بتفسها؛ فقد زالت نجاستها وزالت أيضًا حرمتها.
الصورة الثانية: إذا خلَّلها الإنسان بنفسه؛ فهي حرامٌ عند جمهور العلماء، وجائز عند الحنفية وبعض التابعين.
وأما الشافعية، والقول الأول الذي أجازها مطلقًا إذا تخللت بنفسها، ومنعها أيضًا بسببٍ من الأسباب، هذا قول المالكية والحنابلة قولًا واحدًا، وتوجد رواية في مذهب مالك لكنها ضعيفة، والصحيح في مذهب مالك كمذهب الحنابلة، والشافعية مع المالكية والحنابلة، إلا أنهم قالوا: كونها تنقل من مكانٍ إلى مكانٍ فتتخلل، فالمشهور في مذهبهم أن ذلك جائز.
هذا هو خلاصة ما في أقوال العلماء في هذه المسألة، فلماذا حصل الخلاف فيها؟
نحن لو ألقينا نظرة فاحصة على الأدلة التي وردت في ذلك؛ لوجدنا أنها صريحةٌ في عدم جواز تخليلها، وفي حديث أنسٍ أيضًا قال: "سُئِلَ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 326)؛ حيث قال: "والإجماع على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها طابت".
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتخذ الخمر خلًّا؟ " قال: "لا"
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا قُصِدَ تَخْلِيلُهَا؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: التَّحْرِيمِ، وَالْكَرَاهِيَةِ، وَالْإِبَاحَةِ؛ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأثَرِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْأَثَر).
وقد أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يحلّ تخليل الخمر بإفسادها، إما أنْ تفسد، أو أن يُفسدها الله سبحانه وتعالى
(2)
.
قوله: (وَذَلِكَ أن أَبَا دَاوُدَ خَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ "أَنَّ أَبَا طَلْحَة سَأَلَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: "أَهْرِقْهَا"! قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا
(3)
).
هذا دليلٌ على أن الخمر كما هو معلوم كانت مباحة، وكانت هناك خمرٌ عند أبي طلحة لأيتام، فلما نزل تحريم الخمر؛ أخذوا يلقونها في الأزقَّة، ورأى أن هذه خمرٌ لأيتام، فأشكل على أبي طلحة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنُخلِّلها لتتحول خلًّا؟ لأنها إذا تحولت خلًّا؛ يستفيد منها، وتباع؛ والرسول قد أمره بإهراقها، وقطع أي طريقٍ يوصل إلى ذلك.
قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْمَنْعِ سَدَّ ذَرِيعَةٍ؛ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَمَنْ فَهِمَ النَّهْيَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ؛ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ، وَيخَرَّجُ عَلَى هَذَا أن
(1)
أخرجه مسلم (1983).
(2)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(11201): عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِالطَّلَا وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُطْبَخُ وَهُوَ كَعَقِيدِ الرُّبِّ، فَقَالَ:"إِنَّ فِي هَذَا لَشَرَابًا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ فَلَا يُشْرَبُ خَلُّ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ حَتَّى يُبْدِيَ اللّهُ فَسَادَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَطِيبُ الْخَلُّ، وَلَا بَأُسَ عَلَى امْرِيءٍ أَنْ يَبْتَاعَ خَلًّا وَجَدَهُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إِفْسَادَهَا بَعْدَمَا عَادَتْ خَمْرًا" قَوْلُهُ: أُفْسِدَتْ يَعْنِي: عُولِجَتْ.
(3)
أخرجه أبو داود (3675)، وصححه الألباني.
لَا تَحْرِيمَ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أن النَّهْيَ لا يَعُودُ بِفَسَادِ الْمَنْهِيِّ).
مراد المؤلف: هل النهي يدل على فساد المنهي عنه أوْ لا؟ هذه مسألة أصولية معروفة، لكن نحن نقول: الأدلة صريحة، وليس هناك ما يعارضها، وهذه كما حملها العلماء على أنه لا يجوز تخليل الخمر، أما أن تتخلل هي فنعم، وتخلُّلُها مجمعٌ عليه.
قوله: (وَالْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِحَمْلِ الْخَلِّ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ ضَرُورَةِ الشَّرْعِ أن الْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلذَّوَاتِ الْمُخْتَلِفَة، وَأَنَّ الْخَمْرَ غَيْرُ ذَاتِ الْخَلِّ، وَالْخَلُّ بِإِجْمَاعٍ حَلَالٌ، فَإِذَا انْتَقَلَتْ ذَاتُ الْخَمْرِ إلى ذَاتِ الْخَلِّ، وَجَبَ أن يَكُونَ حَلَالًا كَيْفَمَا انْتَقَلَ).
هذا التعليل ذِكرُه مناقشة عقلية، لكن هذه مردودة مع وجود النصوص، نعم كونها تتحول بإرادة الله فنعم كما قال عمر - رضي الله تعالى عنه، لكن كون الإنسان يعالجها ويضيف إليها مواد، ويُدخِل عليها أشياء فتصبح حلالًا؛ فهذا كما فعلت اليهود؛ لما حُرِّمَت عليهم شحوم الميتة؛ أذابوها وجملوها فباعوها، كذلك أيضًا هنا هذه حيلةٌ لإصلاحه، ولو كان هناك أحدٌ يستحق العطف والرأفة والحنان في ذلك؛ لكان الأيتام أولى، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بإهراق خمرٍ لهم كما مر بنا في السطور السابقة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
([الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ] فِي اسْتِعْمَالِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَالِ الاضْطِرَارِ
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
هذا مبحث مهم جدًّا، والمؤلف لم يستقصِ هذه المسألة، وقد وضع
العلماء قاعدة فقهية عامة تُعد من القواعد الأساسية وهي: "الضرر يُزال"، وهناك أيضًا قاعدة شبيهة بها:"المشقة تجلب التيسير"؛ وقاعدة: "الضرر يُزال" تفرَّع عنها أيضًا قواعد كلية؛ كقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، ثم قُيِّدت مثل هذه القاعدة بقواعد أخرى؛ كـ "الضرورة تُقدَّر بقدرها".
فنجد أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا الحلال والحرام، وحضَّنا على أن نطعم الحلال، وخوَّفنا من أن نأكل من الحرام؛ وكل ذلك رأفة ورحمة بنا منه سبحانه وتعالى.
ونحن عندما ندخل في هذه المسألة نجد أن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز للمسلم أن يأكل من الميتة في حالة الاختيار؛ فحالة الاختيار غير الاضطرار؛ والاضطرار كأن تكون مضطرًّا لأنك لا تجد ما تسد به رمقك، ولأنك لو لم تأكل من هذه الميتة لذهبت روحك، أو تكون مكرهًا يوضع السيف على رقبتك؛ فهذا هو كلام العلماء على قضية الاختيار، لكن أن تكون شَبِعًا أو قريبًا من الشبع، أو لست مضطرًّا على أي حال من الأحوال؛ فلا يجوز لك.
وأجمعوا على أنه يجوز للإنسان أن يأكل من الميتة في حالة الاضطرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في مواضع كثيرة، يقول سبحانه:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة: 173]؛ وقيدها أيضًا بألا يكون باغيًا ولا عاديًا؛ أما أن يكون باغيًا على المسلمين معتديًا عليهم فلا، وهذه من الأدلة التي يستدل بها الذين قالوا: لا يجوز للمسافر سفر معصية أن يأكل من الميتة.
الآية الأخرى التي في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
…
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} [المائدة: 3].
والثالثة في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] وكذلك جاء في سورة النحل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115].
هذه كلها أدلة على أنه يجوز للإنسان أن يأكل من الميتة في حالة الاضطرار، وكذلك الحال بالنسبة للمشروبات؛ كما لو غصَّ بلقمة ولم يجد إلا خمرًا.
إذن لا يجوز للإنسان أن يأكل الميتة في حالة الاختيار، ولكن يجوز أن يأكل من الميتة ما يسد به الرمق فقط؛ أي: يدفع شبح الموت، ولا يجوز له أن يزيد. ومن العلماء من أجاز له أنه إذا اضطر فله أن يأكل إلى درجة الشبع، يشبع من هذه الميتة ما دام الله قد أباح له، وهي موجودة عنده، وهذا هو مذهب مالك، ورواية عن الإمام أحمد، أما أبو حنيفة والشافعي - وهي رواية عند الإمام أحمد؛ أو الأظهر في المذهب - فقالوا: لا يجوز له أن يأكل إلى درجة الشبع، وإنما يأكل ما يسد به رمقه.
هناك قضية وقعت لرجل نزل الحرَّة، فنفق عنده بعير، أي: مات، وكان هذا البيت بيتًا فقيرًا لا يجد شيئًا، فقالت له زوجته: اسلخها حتى نُقدِّد لحمها وشحمها، فقال: لا، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حصل، وسأله عن حكم ذلك البعير، أيجوز أكله أمْ لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم "هل عندكم ما يغنيكم عنها؟ "، قال الرجل: لا، قال:"فكلوها"
(1)
.
فهُم مضطرون إليها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُفصِّل في ذلك، فقال:"كلوها"؛ والأكل هنا إنما يصل إلى درجة الشبع، فهذا دليلٌ على أن الإنسان يأكل منها إلى ما يصل إلى درجة الشبع.
أما الآخرون فقالوا: لا يجوز له أن يأكل إلا ما يسد به الرمق؛ لأنه
(1)
أخرجه أبو داود (3816)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
لو كان في حالة قبل الأكل من الميتة عنده ما يسد رمقه؛ فلا يجوز له أن يأكل.
نأتي بعد ذلك إلى القضية الأخرى المتفرعة عنها؛ وهي مسألة: هل الإنسان إذا اضطر إلى الميتة؛ يجب عليه أن يأكل منها أوْ لا؟ انقسم العلماء في ذلك إلى قسمين: ففريقٌ منهم ذهب إلى أنه يجب عليه أن يأكل منها، وليس الأمر أمر اختيار؛ لأن الله تعالى يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ونعلم قصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل؛ أنه أصبح جنبًا في ليلةٍ باردة، فقام وتيمم وصلى بأصحابه، فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفعلت ذلك يا عمرو؟ " قال: نعم؛ قال: "لمَ؟ "، قال: أليس الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]! فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرًّا له على هذا العمل؛ وهناك أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
فالمؤمن مطالب بأن يحفظ نفسه، وأن يقيها من الموت، فالنفوس لا تقدَّم رخيصة إلا في سبيل الله، وفي هذه الحال يكون ثمن هذه النفس التي تُباع: جنة عرضها السموات والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله؛ قالب تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فالإسلام يحافظ على النفوس، لكن هذه النفوس إذا خرجت عن الطريق السوي؛ فلا بد أن تؤدب، وأن يوضع لها الحد الذي يتناسب مع هذه الجرائم والذنوب التي اقترفت.
وفي مسألتنا هذه؛ فإن الإنسان يجب عليه أن يأكل من الميتة إذا اضطر؛ فإن لم يأكل سيكون قد تسبب في قتل نفسه بغير حق، فمصيره النار.
وهناك فريق من العلماء يقول: هذه أصلها رخصة، واللّه سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه، والرخصة ليست واجبة، فإن أديتها فإنك عملت بها، وإن أخذت بالعزيمة فأنت لم ترتكب منهيًّا؛ ويستدلون بقصة عبد الله السهمي الذي أسرته الروم، ثم وضعوه بيت فأغلق عليه، ووضعوا عنده ماءً مشوبًا بالخمر، ولحمًا مشويًّا من لحم الخنزير، وتركوه عنده، فلم يشرب شربةً من هذا الماء الذي مُزِج بالحرام، ولم يأكل قطعة من اللحم الذي شُوِي له من الخنزير، بقي ثلاثة أيام على هذه الحال، فمال رأسه، فخشوا عليه من الموت وهو أسير، فأخرجوه ثم دار نقاش بينهم، فبيَّن أن الله سبحانه وتعالى قد رخَّص له في أن يشرب من هذا ويأكل من ذلك؛ لأنه مضطر، ثم قال: لكنني كرهت ذلك لئلا أُشمِّتَكم بالإسلام.
لكن يقال في حاله: إنه قد امتنع خشية أن يستغله أعداء الإسلام، فيقولوا: هذا مسلم ضعيف، خشي على نفسه الهلاك فخرج عن دينه؛ فشرب الخمر، وأكل الخنزير.
ولو قيل لإنسان: إما أن تكفر بالله، وإما أن نقتلك؛ يجوز له أن ينطق بكلمة الكفر، شريطة أن يكون قلبه مستضيئًا بنور الإيمان، لكن أن يقولها بلسانه ويعتقدها قلبه؛ فقد خرج عن الإسلام، وهذا حصل لبعض الصحابة؛ مثل بلال وغيره، الذين كانوا يُعذَّبون في شدة الحر، توضع على أحدهم الصخرة ويقول: أحدٌ أحَدٌ!!
(1)
، صبروا ليظهروا قوة هذا الدين وشكيمته، ومن هنا تكلم العلماء في هذه المسألة فقالوا: إن كان هذا
(1)
أخرج أحمد (3832): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّة، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَاد، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُم فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ إِنْسَانٌ إِلا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلا بِلَالٌ، فَإِنَّهُ هَانتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ، أَحَدٌ. وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
الذي يريد أن يقدم نفسه رخيصة؛ في ذلك مصلحة لإعزاز الإسلام، نعم يفعل ذلك، وإذا رأى في بقائه وحياته مصلحة؛ فله ذلك أي ينطق بما لا يعتقد؛ قد يكون هذا الإنسان شجاعًا، صاحب فكر، يخطط للمسلمين؛ فهذا في وجوده نفع، فلا مانع أن ينطق بالكلمة ما دام قلبه مطمئنًّا، وهذه من المسائل التي تبيِّن لنا مزايا ومكانة هذه الشريعة الإسلامية، التي نجد - مع الأسف - أن كثيرًا من المسلمين فرَّطوا فيها وخرجوا عنها، واحتكموا إلى قوانين وُضِعَتْ من أفكار البشر، تعشش فيها الرذائل، يضعونها اليوم وينقضونها غدًا؛ وعدلوا عن شريعة علَّام الغيوم الذي خلق هذا الكون وما فيه.
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذه الشريعة؛ فانظر إلى البلاد التي تطبقها؛ تجد فيها من الأمن والاستقرار والرخاء ما لا تجده في دولة لا تطبق تعاليم الإسلام.
إذن ننتهي من مسألتنا؛ إلى أن الأولى في هذا المقام أن الإنسان يحفظ مهجة نفسه، ويحافظ عليه ولا يُفرِّط فيها.
بقيت أيضًا مسألة أخرى: هل للإنسان أن يحمل معه شيئًا من هذه الميتة؟ والجواب أن بعض العلماء قالوا: يحمل؛ وبعضهم قالوا: لا.
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي السَّبَبِ الْمُحَلِّلِ، وَفي جِنْسِ الشَّيْءِ الْمُحَلَّلِ، وَفِي مِقْدَارِهِ).
هذه المسألة لو أردنا أن نستطرد في مسائلها؛ فإنها هي القاعدة؛ فحالات الضرورة معروفة، وهي تختلف، ولا تكون حالة الضرورة على إطلاقها؛ فأحيانًا تُكرَهُ على شيء وتضطر إليه فتنفذه، لو قيل لك: خذ هذا المال لغيرك؛ تأخذه ثم بعد ذلك ترده لصاحبه.
وقد ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - مقدمة لهذا الكتاب، وحصر ما يدور في جزئياته في جملٍ مجملةٍ، ثم أفاض في شيءٍ من التفصيل في بعض مسائله.
قوله: (فَأَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ ضَرُورَةُ التَّغَذِّي، أَعْنِي: إِذَا لَمْ يجِدْ شَيْئًا حَلَالًا يَتَغَذَّى بِهِ؛ وَهُوَ لَا خِلَافَ فِيهِ).
وذلك لِمَا ورد من آيات متعددة في كتاب الله عز وجل وقد ذكرناها فيما مضى، وكلها تدل على أنه يجوز للمسلم أن يأكل من الميتة، وأن يدفع غصته بما هو محرم، مما لا يجوز له في حالة الاختيار.
قوله: (وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي: طَلَبُ الْبُرْء).
أدخل المؤلف هنا ما يتعلق بالبُرءِ؛ يعني ما يتعلق بصحة الإنسان وبُرئه من الأذى، والشريعة حرصت على إبعاد الأذى عن كل مسلم، حتى وإن كان في إبعاد الأذى عنه ما قد يخالف بعض الأحكام، فيكون ذلك إما تخصيصًا من بعضها، أو تقييدًا بعد إطلاقٍ أو غير ذلك؛ وقد مرَّ بنا مسائل كثيرة جدًّا رأينا أنها استُثنيت من عموم النصوص، لضرورةٍ أو حاجة، والحاجة كما هو معلوم تنزل منزلة الضرورة، عامةً كانت أو خاصة.
قوله: (وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَمَنْ أَجَازَه، احْتَجَّ بِإِبَاحَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام الْحَرِيرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، لِمَكَان حَكَّةٍ به
(1)
).
بحث المؤلف هنا هذه المسألة من جانبين، بحث حالة الاضطرار، كما بحثها من جانب آخر، وهو الجانب العلاجي أو الدوائي، فهذا له علاقةٌ وثيقةٌ بالأطعمة، فالمؤلف من هذه الناحية عرَّج على هذا الموضوع، وهذا له قصة، وهي أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجد من الحكة - وكذلك الزبير بن العوام -
(1)
أخرج البخاري (2919)، ومسلم (2076): عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا".
رضي الله تعالى عنه - فرخَّص لهما بلبس الحرير، والحرير لا يجوز للرجال، لأنه قال عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير:"هما حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حلٌ لإناثها"
(1)
، فلا يجوز للمسلم في حالة الاختيار أن يلبس حريرًا ولا ذهبًا، إلا ما استُثني فيما يتعلق بالضرس ونحو ذلك مما مضت الإشارة إليه، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله.
والحاجة مقتضى التَّرك، فإنهما شكيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجدان من ألم القمل، فرخَّص لهما في ثوب الحرير، والحرير معروفٌ بنعومته، فلا يعلق به شيءٌ من القمل، ومن هنا كان السبب واضحًا في هذا الأمر، ولما جاءه الرجل الذي يتناثر القمل من رأسه، رخَّص له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلق رأسه، ثم قال: رخص الله صلى الله عليه وسلم له بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وبيَّن له الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ له أنْ يحلق، وأنَّ عليه أنْ يفدي، وهكذا الأحكام في ذلك كثيرة جدًّا.
والمسلم يُمنَعُ من ارتكاب ما نُهِيَ عنه، وبخاصة الأمور المحرمة، سواءٌ كان ذلك فيما يتعلق بالأطعمة والأشربة، أو اللباس، أو ما يتعلق بأخلاق المسلم والصفات التي ينبغي أن يكون عليها.
ونحن نعلم أن من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم، ولهم عذابٌ أليم؛ العائل المتكبر، ومع ذلك نجد أن أبا دجانة - رضي الله تعالى عنه - كان يمشي متبخترًا في وقت الحرب، فينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له:"إنَّهَا لمِشْيَةٌ يَكرَهُهَا الله، إِلَّا في هذا الموقف"
(2)
؛ لأنه في الحرب يحتاج المسلم إلى أن يُظهر قوته وشجاعته وشكيمته، فهو كان يمشي بشكل الإنسان المتعالي، لكنه أراد بذلك أن
(1)
أخرجه أبو داود (4057).
(2)
أخرجه ابن إسحاق في "سيرته" كما في "السيرة النبوية" لابن هشام، ومن طريقه الطبري في "تاريخه" 2/ 63 و 63 - 64، والأثير في "أسد الغابة" في ترجمة أبي دجانة.
يُرهِبَ ويخيف الأعداء، فلم يُرد رضي الله عنه أن يتعالى أو يتعاظم أو يتكبر؛ لأنه يدرك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّؤُونَ أَكْنَافًا"
(1)
، وقوله أيضًا:"ومن تواضع لله رفعه"
(2)
.
فصنيعُ أبي دجانة سبحانه وتعالى جاء موافقًا لِما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به أصحابه؛ حين أراد أن يُظهِرَ لهم قوة المسلمين، وأنهم ليسوا ضعفاء كما زعمت قريش حيث قالت: يأتيكم أقوامٌ من أهل يثرب، وهنتهم حمى يثرب؛ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرملوا، فظهر لقريش أن المسلمين أقوياء.
قوله: (وَمَنْ مَنَعَهُ؛ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا"
(3)
.
هذا الحديث الذي أورده المؤلف، نُقِلَ في بعض كتب الحديث، كما عند ابن حبان، وأبي يعلى الموصلي، والبزَّار، واللفظ المشهور منه:"إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ"، وهذا الحديث سببه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها فوجدها قد صنعت نبيذًا في كوز، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يغلي، فقال:"ما هذا؟ "، فقالت: شكت ابنتي، فصنعت لها هذا النبيذ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ"، وفي الحديث الصحيح:"تَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِمحرَّمٍ"
(4)
، فالدواء مطلوب، واللّه سبحانه وتعالى ما أنزل داءً إلا وجعل له دواء، لكن لا يجوز التداوي بالمحرم.
قوله: (وَأَمَّا جِنْسُ الشَّيْءِ الْمُسْتَبَاحِ، فَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا).
يريد المؤلف أن يقول: وأما الشيء المستباح فهو أصلًا حرام،
(1)
أخرجه ابن رشد في "جامعه"(20153)، بنحو هذا اللفظ.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(34663).
(3)
هو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق (17097)، وغيره.
(4)
أخرجه أبو داود (3874)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.
واستبيح لسبب؛ وهو الاضطرار؛ فالميتة التي حُرِّمَت في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تُصبح مباحةً في حال أن يضطر المسلم إلى الأكل منها؛ لأنك إما أن تأكل فتحفظ مهجتك وتحافظ على حياتك، وإما أن تبقى بلا أكلٍ فتهلك، وبعض العلماء يرون أن من يكون في هذه الحال، ويجد ميتةً ولا يأكل منها، فإنه يكون قد تسبَّب في قتل نفسه عمدًا، فيكون مصيره النار، وقد ذكرنا الخلاف في هذه القضية فيما سبق، وعرفنا أن الأكل إنما هو للإباحة، لأن هذه رخصة، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه، وربما يتحرج بعض الناس فيقول: لماذا آخذ بالرخصة؟! ولكن أنت عندما تأخذ بالرخصة تكون قد استجبت لله تعالى حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؛ وتكون قد نزلت أيضًا عند حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال عمر - رضي الله تعالى عنه - في قصر الصلاة في السفر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"
(1)
، فاللّه رخَّص لك بأن تأكل من هذه الميتة، فلماذا تضيق على نفسك، ولماذا ترمي بنفسك في التهلكة، ولماذا تجعل نفسك في موقفٍ يرى فيه بعض العلماء أنه لا يجوز لك أصلًا أن تفعله؟! وأنت ما أكلت الميتة رغبةً فيها، ولا تشفِّيًا، ولا مخالفًا بذلك لأمر ربك، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما أكلتها لأنك في حاجةٍ ألجأتك إلى ذلك.
قوله: (وَالاخْتِلَافُ فِي الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ هُوَ مِنْ قِبَلِ التَّدَاوِي بِهَا، لَا مِنْ قِبَلِ اسْتِعْمَالِهَا فِي التَّغَذِّي).
الخمر مختلَفٌ فيها، وجماهير العلماء يرون أنه لا يجوز للإنسان أن يتداوى بها، أما بالنسبة لأبوال الإبل فالتداوي فيها ورد فيه نص، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم العُرنيين الذين جاؤوا إلى المدينة فاجتووها؛ أمرهم أن يبقوا في إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، وقد فعلوا ذلك حتى شفوا
(1)
أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (686).
تمامًا، لكنهم قابلوا الإحسان بالإساءة، وقتلوا راعي الرسول صلى الله عليه وسلم واستباحوا إبله، فنكَّل بهم الرسول صلى الله عليه وسلم عقابًا لهم على غدرهم، ثم هناك خلاف؛ هل هذه الأبوال نجسة أمْ لا؟ فهناك من يرى أنها طاهرة؛ لأنه ما دام جاز التداوي بها فهي ليست بنجسة.
قوله: (وَلِذَلِكَ أَجَازُوا لِلْعَطْشَانِ أن يَشْرَبَهَا إن كَانَ مِنْهَا رِيٌّ، وَللشَّرِيقِ أن يُزِيلَ شَرَقَهُ بِهَا).
مراد المؤلف - رحمه الله تعالى - أنه إذا كانت تدفع عنه العطش؛ فله أن يشربها، ولو غص بلقمة، فله أن يشربها؛ لأنه مطالب بدفع الموت عن نفسه.
قوله: (وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يُؤْكلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
قَالَ: حَدُّ ذَلِكَ الشِّبَعُ، وَالتَّزَوُّدُ مِنْهَا حَتَّى يجِدَ غَيْرَهَا).
هذه المسألة تكلمنا عنها فيما سبق، وبينَّا أن هذا هو رأي الإمام مالك، وهو رواية في مذهب أحمد، أما مذهب جمهور العلماء فسيذكره المؤلف هنا.
وفي نظري أن مذهب مالك هو أقرب الأقوال؛ وقد ذكرنا الحديث الذي يدل عليه، في قصة الرجل الذي نفقت عنده ناقة، وليس لهم ما يتقوتون به، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"كلوا"
(2)
، ولم يقل: كلوا ما يدفع عنكم الهلاك؛ وإنما أطلق، وهذا موطنٌ يحتاج إلى بيان، فإطلاق
(1)
يُنظر: "الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني (ص: 81)؛ حيث قال: "ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها".
وهو مذهب أحمد؛ ينظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه (12/ 368)؛ حيث قال: "قال إسحاق بن منصور: قُلتُ: مَنِ اضطر إلى الميتةِ يأكله؟ وقدر ما يأكلُ منه؟ قال: يأكلُ بقدرِ ما يستغني، وإنْ خافَ أن يحتاجَ إليه تَزوَّد منه
…
، مسائل الكوسج (3327) ".
(2)
سبق تخريجه.
الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو دليلٌ على جواز ذلك، ثم إن الآيات مطلقة؛ قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ).
وهي الرواية الظاهرة القوية في مذهب أحمد.
وهذا كما قال العلماء: الضرورة تُقدَّر بقدرها؛ فأنت تنظر إلى المقام؛ إن كنت في مكانٍ مُوحِش، تحتاج إلى أن تشبع من هذه الميتة، وأن تحمل معك أيضًا لأنك لا تجد حولك أناسًا، فيجب أن تحتاط لنفسك، أما لو كنت في مكانٍ، وغلب على ظنك أو تيقنت أنك ستلحق بالآخرين، فادفع عنك وحشة الموت، وبعد ذلك ستجد - إن شاء الله - ما تأكله مما أباحه الله لك في حالة الاختيار.
قوله: (وَسَبَبُ الاخْتِلَافِ هَلِ الْمُبَاحُ لَهُ فِي حَالِ الاضْطِرَارِ هُوَ جَمِيعُهَا؟ أَمْ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ فَقَطْ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمِيعُهَا).
وهذا هو الذي أميل إليه حقيقة، وفي نظري أن مذهب مالك هذا هو أظهر الأقوال؛ كما وضحنا ذلك فيما سبق.
قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]).
وقد فصَّلنا ذلك فيما سبق؛ أنه لا بد أن يكون غير باغ على المسلمين ولا معتدٍ عليهم؛ وذكرنا قول العلماء في من سافر سفرًا محرَّمًا؛ أنه لا تباح له الرخص.
(1)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 394)؛ حيث قال: "ولا يأكل المضطر من الميتة إلا ما يرد نفسه فيخرج به من الاضطرار".
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (12/ 6379)؛ حيث قال: "قال أصحابنا رحمهم الله: لا يجوز للمضطر أن يشبع من الميتة، وإنما يأكل منها مقدار ما يمسك رمقه".
قوله: (وَاتَّفَقَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ
(1)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ إِذَا كانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]؛ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلى جَوَازِ ذَلِكَ).
وقد مر بنا ذلك وفصلنا فيما سبق، حتى إن جمهور الأئمة الثلاثة: مالكًا والشافعي وأحمد، يرون أن المسافر سفر معصية؛ لا يجوز له أن يقصر الصلاة، وخالفهم أبو حنيفة هنا، وإن اختلفت الأقوال هنا؛ فالعلماء بيَّنوا أن العلة في ذلك هي أن المسافر في حالة وحشة، في حالة خوف، لا يجد أمامه ما يدفع به رمقه ليتقي الموت، فإذا نزلت به هذه النازلة فله أن يأكل، والمسافر سفر معصية؛ قد خرج عن طاعة الله سبحانه وتعالى فقالوا: إنَّ قصر الصلاة مما يسارع به إلى الوصول إلى جريمته، فينبغي أن يُعامَل بنقيض قصده، فلا يُرخَّص له في الصلاة، والمسلم ينبغي أن تردعه صلاته؛ كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} [العنكبوت: 45].
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 146)؛ حيث قال: "العاصي بسفره لا يترخص برخص المسافر، وبه قال الشّافعيّ، وزاد علينا: أنّه إن اضطر لم يأكل الميِّتة. ولا أعرف فيه نصًا عن مالك. وأصحابه يقولون: إنّه يأكل الميِّتة".
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَابُ النِّكَاحِ]
هذا كتابٌ عظيم، ويعتبر جزءًا من المعاملات؛ لأنه عقدٌ من العقود، فهو عقدٌ يتم فيه الاتفاق بين اثنين، كل واحدٍ منهما غريبٌ عن الآخر، فالإنسان لا يجوز له أن يتزوج مَن تحرم عليه، والله سبحانه وتعالى قد أرشدنا إلى هذا الأمر في كتابه العزيز، فقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال أيضًا:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21]. والسكن دليل الاستقرار والراحة والاطمئنان؛ ثم إنه - تعالى - قد بيَّن أمرًا آخر بقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ؛ فلو قُدِّر أن بني آدم كلهم ذكور، وكان النساء من جنس آخر؛ هل كان الإنس يتزوجون من الجن أو من الحيوانات؟!
وهل تطمئن في ذلك النفوس وتستريح الأفئدة؟!، فينبغي أن نتفكر في نعمة الله سبحانه وتعالى.
والزوجان لكل منهما عند صاحبه مكانة خاصة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"
(1)
، ولا شك أن هذا هو ما
(1)
أخرجه الترمذي (3895)، وصححه الألباني.
يتمناه كل مسلم ومسلمة؛ أن يؤدم بين الزوجين، فتوجد المحبة والمودة والرحمة.
وفي قصة مالك بن أنس رضي الله عنه أن والده كانت له زوجة، وكان لا يحبها، ويتباعد عنها هنا وهنا، ثم إنها أوقفته في يوم من الأيام، وذكَّرته بأيام الله، وما بينهما، فخلق الله سبحانه وتعالى منهما هذا الإمام الجليل؛ هذه ذكرها العلماء وأمثلتها كثيرة جدًّا.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]؛ فهل تفكَّرنا فيما يكون بين الزوجين من علاقة، وما يحصل بينهما من تعاون، وما يحصل بينهما من إنجاب الأولاد وتربيتهما؟! وقد يفتح الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأولاد الحياة، فيسلكون في طريق السعادة، فيكونون دعاة إلى الله، مخلصين في خدمة هذا الدين، بهم تتكون الأسر، وبهم تعلو الأمم، وبهم تكون المجتمعات الإسلامية، ومن هذا المنطلق الكريم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاشوا فترة في الجاهلية، فلما أسلموا هذَّبهم الإسلام، صفَّى نفوسهم، صبغهم بصبغة واحدة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].
والنكاح قدوتنا فيه خير البرية، أفضل خلق الله وأشرف أنبيائه ورسله؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل:"يا معشر الشباب؛ من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاءٌ"
(1)
.
وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتُّل
(2)
، وأنكر على أولئك النفر الذين قال بعضهم: أصوم ولا أفطر؛ وقال بعضهم: أقوم الليل ولا أنام؛ وقال بعضهم: لا أتزوج النساء - يريد أن يكون مُتبتِّلًا متقطعًا للعبادة -
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (5066)، ومسلم (1400).
(2)
أخرجه البخاري (5073)، ومسلم (1402).
(3)
أخرجه مسلم (1401).
فلو أن كل إنسان في هذه الحياة انقطع للعبادة ولم يتزوج النساء؛ ينقطع النسل، والمسلمون بحاجة إلى التكاثر؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تزوجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة"
(1)
؛ وقد حضَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الزواج، ورغَّب فيه.
والنكاح في اللغة
(2)
يطلق على عدة معانٍ؛ يأتي في مقدمتها الوطء، والضم؛ ولذلك يقولون: تناكحت الأشجار - أي: تمايلت - إذا أخذ الهواء يداعبها ويميل بها يمينًا وشمالًا، وانضم بعضها إلى بعض.
والعلماء مختلفون في لفظ النكاح هل هو يُطلق على العقد، أم الوطء؟ ونلاحظ اختلافهم في تفسيرهم للنكاح، في قول الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ والخلاصة أن معناه الشرعي: هو استمتاع كلٍّ من الزوجين بصاحبه، وهذا مما أباحه الله سبحانه وتعالى.
والنكاح مشروعٌ في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء على مشروعيته؛ أما مشروعيته في الكتاب؛ فتدل عليه آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]؛ وفي السنة الأحاديث التي ذكرناها في السطور السابقة.
وأنت حين تتزوج؛ تحتاج إلى السعي لطلب الرزق؛ للإنفاق على زوجتك وأبنائك، فتتعود الانضباط، بعد أن كنت تضيِّع وقتك في أمور لا فائدة منه.
(1)
أخرجه أبو داود (2050)، وصححه الألباني.
(2)
يُنظر: "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (1/ 413)؛ حيث قال: "النكاح: الوطء، وقد يكون العقدَ. تقول: نَكَحتُها ونَكَحَتْ هي، أي تزوَّجت، وهي ناكِحٌ في بني فلان، أي هي ذات زوج منهم. وقال: لَصَلْصَلَةُ اللِجامِ برأسِ طِرْفٍ * أحبُّ إليَّ من أن تَنْكِحيني واسْتَنْكَحَها بمعنى نَكَحَها، وأنْكَحَها، أي زوَّجها. ورجلٌ نُكَحَةٌ: كثير النكاح. والنُكْحُ والنِكْحُ لغتان، وهى كلمة كانت العرب تتزوَّج بها. وكان يقال لأم خارجة عند الخِطبة: خِطْبٌ، فتقول: نُكْحٌ. حتى قالوا: "أسرع من نكاح أم خارجة"".
وهذه الزوجة التي تزوجتها وحفظتها وصنتها، لو أمسكتَ لقمة ووضعتها في فيها؛ فإنه سبحانه وتعالى سيؤجرك ويثيبك عليها؛ كما جاء في الحديث الصحيح:"إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك"
(1)
؛ وأنت عندما تكدح في هذه الحياة وتتعب في طلب الرزق، لتنفق على زوجتك وأولادك، على تربيتهم تربية صحيحة، ليكونوا ذرية صالحة؛ فإن ذلك ينفعك في حياتك وبعد مماتك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"
(2)
.
قوله: (وَأُصُولُ هَذَا الْكِتَابِ تَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي مُوجِبَاتِ صِحَّةِ النِّكَاحِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي مُوجِبَاتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ.
الْبَابُ الرَّابعُ: فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ.
الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي الْأَنْكِحَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَالْفَاسِدَةِ).
هناك حقوق للزوج، وحقوق للزوجة، والله تعالى يقول:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، لكن ليس معنى هذا أن الرجل يستغل ضعف المرأة وحاجتها فيؤذيها؛ بل يتدبر قول الله تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
لا شك أن أي نكاح يخرج عن منهج كتاب الله عز وجل وعن منهج سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون غير موافق لما في هذه الشريعة، لكن من هذه
(1)
أخرجه البخاري (56)، مسلم (1628).
(2)
أخرجه الترمذي (1376)، وصححه الألباني.
الأنكحة ما يكون باطلًا، ومنها ما قد يطرأ عليه نقص؛ فهناك شروط لأركان النكاح.
ويجب أن نعلم طبيعة المرأة حتى نستطيع التعامل معها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن، قال:"عُرِضَت عليَّ النار، فرأيت أكثرها النساء؛ يكفرن؛ قيل: أيكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن العشير، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت شيئًا منك؛ لقالت: ما رأيت خيرًا قط!! "
(1)
؛ وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنهن خُلِقن من ضلع أعوج، فإن أردت أن تقيمه كسرته
(2)
؛ لأن الضلع يابس، وإن تركته؛ تركته على ما فيه من عوج، كما قال الشاعر
(3)
:
إنَّ الغصون إذا قومتها اعتدلت
…
ولا تلين إذا قومتها الخشبُ
فهذه هي سنة النساء، لكن منهن الصالحات، كما قال صلى الله عليه وسلم:"نعمت المرأة الصالحة للرجل الصالح"
(4)
، والمرأة الصالحة هي التي قال عنها صلى الله عليه وسلم في كلمات قليلة موجزة:"هي التي إذا نظر إليها سرَّته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"
(5)
وما أقل النساء اللاتي ينطبق عليهن هذا! لكن لا ننسى أن الإنسان إذا ابتلي بامرأة حادة الطبع، وصبر عليها؛ فإنه يؤجر على صبره عليها وتحمُّله.
قوله: (الْبَابُ الأَوَّلُ: وَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ، وَفِي حُكْمِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وفي الخطبة على الخطبة، وفي النظر إلى المخطوبة قبل التزويج).
(1)
أخرجه البخاري (29).
(2)
أخرجه البخاري (5186).
(3)
"الأمثال" لابن سلام (ص: 121).
(4)
لم أقف عليه.
(5)
أخرجه أبو داود (1664)، وضعفه الألباني.
تكلمنا فيما سبق عن مشروعية النكاح. أما حكمه فإنه في الأصل عند جمهور العلماء سنة مؤكدة؛ وينقسم النكاح إلى خمسة أقسام: الواجب، المندوب، المباح، الحرام، المكروه.
فقد يريد إنسان أن يتزوج امرأة ليسيء إليها؛ انتقامًا منها مثلًا أو من أهلها؛ فهذا يحرم عليه هذا الزواج؛ لأنه ما تزوجها ليكون ممتثلًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "النكاح سنتي"
(1)
.
وأحيانًا يكون واجبًا؛ إذا خاف الإنسان على نفسه أن يقع في محظور؛ لأن الزواج هو الذي يمنعه ويردعه عن الحرام؛ فهو في هذه الحال يجب عليه أن يتزوج.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مُقَدِّمَات النِّكَاح
(2)
]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: فِي
(1)
أخرج البخاري (5063): عن حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيل، أَنَّهُ سَمِعِ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِر، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:"أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَه، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِر، وَأُصَلِّي وَأَرْقُد، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
(2)
النكاح في اللغة: مصدر نكح، ونكح فلان امرأة: تزوجها، ونكح المرأة: باضعها، وأصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزوج نكاح لأنه سبب الوطء المباح. انظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 64). =
حُكْمِ النِّكَاحِ، وَفِي حُكْمِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فَأَمَّا حُكْمُ النِّكَاحِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ)
(1)
.
= وفي اصطلاح الفقهاء:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 3)؛ حيث قال: "النكاح عقد يفيد ملك المتعة؛ أي: حل استمتاع الرجل من امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 332)؛ حيث قال: "النكاح عقد لحل تمتع؛ أي: استمتاع وانتفاع وتلذذ (بأنثى) وطئًا ومباشرة وتقبيلًا وضمًّا وغير ذلك".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشرديني (4/ 200)؛ حيث قال: "النكاح عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كاف القناع " للبهوتي (5/ 5)؛ حيث قال: "النكاح (عقد التزويج)؛ أي: عقد يعتبر فيه لفظ نكاح أو تزويج أو ترجمته".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 7)؛ حيث قال: " (و) يكون (سنة) مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدًا". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 193).
مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 717)؛ حيث قال: "النكاح مندوب إليه لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا" وقوله: "تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم".
وينظر: "شرح ابن ناجي على الرسالة"(2/ 3)؛ حيث قال: "وهو مندوب إليه من حيث الجملة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 203)؛ حيث قال: " (هو مستحب لمحتاج إليه) بأن تتوق نفسه إلى الوطء، ولو خصيًّا كما اقتضاه كلام "الإحياء" (يجد أهبته) وهي مؤنه من مهر وكسوة فصل التمكين، ونفقة يومه وإن كان متعبدًا تحصينًا لدينه، ولما فيه من بقاء النسل وحفظ النسب وللاستعانة على المصالح".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 6)؛ حيث قال: "وهو مشروع بالإجماع وسنده قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
جمهور العلماء: يذهبون إلى أنه مندوب إليه، وقد تعرضنا لما يعتري هذا النكاح من أحكام.
فإنه قد يتعين أحيانًا فيكون واجبًا في بعض الناس فيما يخشى على نفسه الوقوع في محرم.
وقد يكون مكروهًا فيمن يقصد بنكاحه إيذاء الزوجة.
ويكون مباحًا في بعض الأحوال.
لكن من حيث الجملة النكاح مندوب إليه.
والله سبحانه وتعالى قد حض عليه في كتابه العزيز وأمر به في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النور: 32].
وقال سبحانه وتعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
والرسول صلى الله عليه وسلم قد حض عليه وفعله - بقوله عليه الصلاة والسلام: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"
(1)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن فضل الزواج وذكر الحكمة وبعض الأسرار المتعلقة بالزواج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وأن من لم يجد طَولًا للنكاح فإن عليه بالصوم فإن له وجاء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة"
(2)
.
فهذه الأدلة قال العلماء فيها: لما ربط الله سبحانه وتعالى ذلك بالاستطاعة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من استطاع منكم الباءة"؛ فدل ذلك على أنه ليس بواجب.
(1)
أخرجه البخاري (5065) واللفظ له، ومسلم (1400) عن ابن مسعود.
(2)
أخرجه أبو داود (2050)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1789).
وأما أهل الظاهر
(1)
: فإنهم يأخذون بظواهر النصوص فيقولون بوجو به.
لا وهي أن الإنسان ينقطع عن هذه الحياة الدنيا؛ لأنه ربما يفكر ويقول: لو أنني تزوجت لانشغلت بزوجتي وبمسؤولياتها، ثم بعد ذلك يأتي الأولاد فأقوم على رعايتهم وتربيتهم والكد والسعي في طلب الرزق للإنفاق عليهم، ثم بعد ذلك أنشغل بتربيتهم ومتابعتهم إلى غير ذلك.
فجمهور العلماء: يرون أن الزواج أفضل، فلو أن الناس تركوا الزواج لتعطلت مصالح كثيرة، ولأن الزواج فيه فضائل ومنافع وأسرار وحكم عظيمة؛ منها:
1 -
أن المجتمع الإسلامي يخرج منه أمة صالحة؛ لأن هؤلاء الأبناء يتربون في هذه البيوت تربية صالحة، ويكونون في خدمة هذا المجتمع من جهاد وتعليم ودعوة وطلب للعلم واشتغال بالطب والهندسة وبغيرها، بكل ما يخدم المجتمع الإسلامي، فلا يكون المسلمون عالة على غيرهم.
2 -
أن فيه تكثيرًا لهذه الأمة، كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"تزوجوا الودود الولود فإنه مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".
ويكفينا ذلك أن قدوتنا هو محمد بن عبد الله، وقد تزوج عليه الصلاة والسلام، وأنكر على أولئك النفر الذين تحدثوا فيما بينهم، فقال بعضهم: أقوم الليل ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"أما أنا فأصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"
(2)
.
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 3)؛ حيث قال: "وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد من أين يتزوج أو يتسرى أن يفعل أحدهما ولا بد، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم".
(2)
أخرجه البخاري (5063) واللفظ له، ومسلم (1401) عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما =
- وأما الذين قالوا: بأن الانقطاع للعبادة والانشغال بها والانصراف إلى أمور الآخرة هو أفضل، واستدلوا بقول الله سبحانه وتعالى عن يحيى:{وَسَيِّدًا وَحَصُوَرًا} [آل عمران: 39]، وقالوا: ذكر الله ذلك في موضع المدح والثناء، وهو قد انقطع عن النساء، فأثنى الله عليه، ولو لم يكن الانقطاع للعبادة والتخلي عن الزواج أفضل لما أُثني عليه في هذه الآية.
وقال الله تعالى في ذم ما يتعلق بشأن هذا الأمر وما يقوم له: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، فقالوا: ذكر الله ذلك في موضع الذم، هذه أدلتهم وتعليلاتهم.
ولكننا نقول: أدلة الكتاب وأدلة السنة هي خير دليل على ذلك، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأنكر على ابن مظعون تبتُّله
(1)
.
وأُثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لو لم يبقَ من عمري إلا عشرة أيام، وكان عندي طَول" يعني: أستطيع الزواج "لتزوجت"
(2)
، لا يريد أن يختم حياته دون أن تكون له زوجة، ولا ننس ما في الزواج من منافع كثيرة منها:
1 -
استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
2 -
توجيه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة.
= تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (5073) واللفظ له، ومسلم (1402) عن سعد بن أبي وقاص، قال:"رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا".
والتبتل: الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة. انظر: "العين" للخليل (8/ 124).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 164) عن ابن مسعود قال: "لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها يومًا، لي فيهن طول النكاح، لتزوجت مخافة الفتنة".
" قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
: هُوَ وَاجِبٌ، وَقَالَتِ المُتَأَخِّرَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ وَاجِبٌ، وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مَنْدُوبٌ إِلَيهِ
(2)
).
هذا التعليق ذُكر عند المالكية وعند غيرهم، وبعض العلماء يقولون: إذا خشي الإنسان على نفسه أن يقع في محرم فيجب عليه في هذه الحالة أن يتزوج
(3)
؛ لأنه يعصمه عن الوقوع في المحرم؛ فالزواج يحصنه عن الوقوع في معصية الله، والوقوع في المعصية تترتب عليه مخاطر كثيرة:
الأمر الأول: أنه ارتكب محرمًا.
الأمر الثاني: أنه يترتب على ذلك حد.
(1)
تقدَّم قولهم.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 214)؛ حيث قال: "فالراغب إن خشي على نفسه الزنا وجب عليه، وإن أدى إلى الإنفاق عليها من حرام، وإن لم يخشه ندب له".
(3)
تقدَّم مذهب المالكية.
وأما مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(63)؛ حيث قال: "وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف، فيجب التزوج وإن لم يخف الوقوع في الزنا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 184)؛ حيث قال: "ووجه أنه واجب على من خاف زنا قيل مطلقًا؛ لأن الإحصان لا يوجد إلا به وقيل إن لم يرد التسري نعم حيث ندب لوجود الحاجة والأهبة، وتلحق المرأة بالرجل في هذا الحكم فيجب النكاح على المرأة التي لا يندفع عنها الفجرة إلا بالنكاح".
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 204)؛ حيث قال: "وإن كانت محتاجة إليه؛ أي: لتوقانها إلى النكاح أو إلى النفقة أو خائفة من اقتحام الفجرة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 7)؛ حيث قال: " (ويجب على من يخاف الزنا) بترك النكاح (من رجل وامرأة) سواء كان خوفه ذلك (علمًا أو ظنًّا) لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصرفها عن الحرام وطريقه النكاح. (ولا يكتفي في) الخروج من عهدة (الوجوب بمرة واحدة بل يكون) التزويج (في مجموع العمر) لتندفع خشية الوقوع في المحظور (ولا يكتفى) في الامتثال (بالعقد فقط، بل يجب الاستمتاع) لأن خشية المحظور لا تندفع إلا به".
الأمر الثالث: أنه أثم في هذا العمل.
فترتبت على ذلك مساوئ كثيرة، أما إذا كانت عنده شهوة ورغبة في الزواج ولا يخشى على نفسه، فنرجع إلى الأصل أنه مندوب وسنة مؤكدة؛ كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان الإنسان لا يجد في نفسه قوة للنساء كأن يكون عِنِّينًا
(1)
أو كبيرًا قد ضعف، ففي هذه الحالة يصبح مباحًا في حقه شريطة ألا يهدر حق المرأة، يأتي الإنسان يريد أن يتزوج من الأسرة الفلانية ليؤذي هذه المرأة هذا أمر محرم لا يجوز له؛ لأنه لم يقصد الزواج، وإنما قصد إيقاع الضرر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا ضرر ولا ضرار"
(2)
.
أما ما يتعلق بحكم الطلاق: أن الإنسان ربما يتزوج امرأة وفي نيته طلاقها، هذه مسألة اختلف فيها العلماء.
فجمهور العلماء يقولون: إن قصد أن يتزوج امرأة وفي نيته أن يطلقها ولم يصرح بذلك فله ذلك، لكن أن يشترط ذلك فلا يجوز، والإنسان ربما يأخذ المرأة وهو ينوي طلاقها فيلقي الله سبحانه وتعالى محبتها في قلبه، ويقذف المودة فيما بينهما، فتحصل الألفة والمودة وتتغير الحال، فبدل أن كان ينوي طلاقها يتمسك بها، وهذه أمور إنما هي بإرادة الله وقدره، فهو سبحانه وتعالى يقضي هذه الأمور.
قوله: (وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مُبَاحٌ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَخَافَ عَلَى تَفْسِهِ مِنَ الْعَنَتَ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ تُحْمَلُ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وَفِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"تَنَاكَحُوا، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ"
(3)
. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
(1)
رجلٌ عنِّينٌ: لا يريد النساء. يُنظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2166).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2341) عن ابن عباس وصححه الألباني في الإرواء (896).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(12613) عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدًا، ويقول:"تزوجوا الودود الولود، إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة". وحسنه الأرناؤوط.
مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ؟ أَمْ عَلَى النَّدْبِ؟ أَمْ عَلَى الْإِبَاحَةِ؟).
العلماء قالوا: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} دليل على عدم الوجوب.
وكذلك قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: 32]، فالآية لا تدل على أن الأمر متعين للوجوب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"يا مشعر الشاب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"
(1)
.
والرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن مظعون تبتله، ولا شك أن الزواج أولى وفيه فوائد عظيمة.
قوله: (فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ وَاجِبٌ، وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَفِي حَقِّ بَعْضِهِمْ مُبَاحٌ - فَهُوَ الْتِفَاتٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْقِيَاسِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمُرْسَلَ
(2)
).
فهناك قياس مُرسل أي: أرسل دون قيد، وليس قياسًا لعلة تجمع بينهما، وهناك ما يعرف بالمصالح المرسلة، والمؤلف عَده من القياس المرسل، وهو أيضًا من المصالح المرسلة
(3)
، فينظر في ذلك إلى المصلحة، هل هي في الزواج أو في عدم الزواج؟ لكن الزواج من حيث الجملة هو مشروع، والزواج أفضل من تركه في حق القادر عليه.
قوله: (وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
القياس المرسل هو المصلحة المرسلة كما ذكر القرافي في "الفروق"(4/ 50)؛ حيث قال: "ولعل مراده بالقياس المرسل المصلحة المرسلة".
(3)
يُنظر: "تيسير التحرير" لأمير بادشاه (4/ 171)؛ حيث قال: " (والمصالح المرسلة) وهي التي لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع ولا بالإلغاء وإن كانت على سنن المصالح وتلقتها العقول بالقبول".
كثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِهِ
(1)
، وَأَمَّا خُطْبَةُ النِّكَاحِ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال الجمهور: إنها ليست واجبة
(2)
).
خُطبة النكاح: تعرف بخطبة الحاجة، وهذه هي التي وردت في
(1)
قال الآمدي: "وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه".
انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (4/ 160).
وقال القرافي: "هي عند التحقيق في جميع المذاهب" لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار". انظر:"شرح تنقيح الفصول"(ص 445).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 8)؛ حيث قال: " (قوله: وتقديم خطبة) بضم الخاء ما يذكر قبل إجراء العقد من الحمد والتشهد، وأما بكسرها فهي طلب التزوج وأطلق الخطبة فأفاد أنها لا تتعين بألفاظ مخصوصة، وإن خطب بما ورد فهو أحسن".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و (حاشية الدسوقي)(2/ 216)؛ حيث قال: " (و) حل بل ندب (خطبة) بضم الخاء اسم لألفاظ مشتملة على حمد الله وصلاة على رسوله وآية مشتملة على أمر يتقوى (بخطبة)؛ أي: عندها بكسر الخاء التماس النكاح (و) عند (عقد) والشأن أن يكون البادئ عد الخطبة هو الزوج أو وكيله وعند العقد هو الولي أو وكيله، فهي أربع خطب فالفصل بين الإيجاب والقبول بالخطبة غير مضر (و) ندب (تقليلها)، أي: الخطبة بالضم".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 223 - 224)؛ حيث قال: " (ويستحب) للخاطب أو نائبه (تقديم خطبة) بضم الخاء، وهي الكلام المفتتح بحمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المختتم بالوصية والدعاء لخبر: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر" فيحمد الله الخاطب أو نائبه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله (قبل الخطبة) بكسر الخاء، وهي التماس التزويج
…
(و) يستحب تقديم خطبة أخرى (قبل العقد) وهي آكد من الأولى
…
بما روي عن ابن مسعود
…
وتسمى هذه الخطبة خطبة الحاجة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 21)؛ حيث قال: "ويستحب أن يكون العقد (بعد خطبة) عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه (يخطبها العاقد) أو غيره من الحاضرين (قبل الإيجاب والقبول). وقال الشيخ عبد القادر: وإن أخر الخطبة عن العقد جاز قال في "الإنصاف" ينبغي أن تقال مع النسيان بعد العقد (وكان) الإمام (أحمد إذا حضر عقد نكاح ولم يخطب فيه بها قام وتركهم) وهذا منه على طريق المبالغة في استحبابها (وليست واجبة) ".
حديث عبد الله بن مسعود
(1)
رضي الله عنه عندما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم خُطبة الحاجة، هذه الخطبة التي نحتاج إليها في كل مقال، يحتاج إليها الخطيب إذا أراد أن يخطب الناس في الجمعة أو في العيدين، وليست هي لازمة، لكنها منهج للخُطب التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمها أصحابه، وتشتمل على عدة آيات من كتاب الله عز وجل، وهي:"إن الحمد لله نحمد ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنت محمدًا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102] "، فيها تذكير للزوجين ابتداءً بتقوى الله سبحانه وتعالى، وختمها بقوله:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فمن يداوم على تقوى الله سبحانه وتعالى ويحافظ عليها هو الذي سيموت على الإسلام، كما قال الله تعالى:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].
ثم جاءت الآية الأخرى: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]، النفس الواحدة هي: آدم عليه السلام الذي خلقه سبحانه وتعالى من تراب؛ فهذا تذكير لنا جميعًا نحن الأمم العظيمة التي
(1)
أخرجه ابن ماجه (1892) عن عبد الله بن مسعود، قال: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الخير، وخواتمه، أو قال: فواتح الخير، فعلمنا خطبة الصلاة، وخطبة الحاجة، خطبة الصلاة:"التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وخطبة الحاجة:"إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونسنغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" ثم تصل خطبتك بثلاث آيات من كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، إلى آخر الآية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] إلى آخر الآية، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71] إلى آخر الآية. وصححه الألباني في "المشكاة"(3149).
تجاوزت المليارات، يموت أقوام، ويحيا أقوام، يولد أقوام، ويشب أقوام، ويكبر أقوام، ويهرم أقوام، كلنا من آدم؛ ولهذا قال تعالى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1].
ولا ينبغي أن تنشغل بهذا الزواج عن والديك، وعن إخوانك، وعن أقاربك وعن أصدقائك، وعن جيرانك، في كل أحوال المؤمن فالله سبحانه وتعالى يراقب أعمالنا لا تخفى عليه خافية: كما قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].
ثم جاءت الآية الخاتمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أيضًا وصية بالتقوى {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} صوابًا، وإذا اتقيت الله سبحانه وتعالى وصدقت في قولك وعملك {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]، لا شك أن السعادة كل السعادة، والفوز كل الفوز والنجاة إنما هي في طاعة الله وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذه خطبة جليلة تشتمل على فوائد عظيمة، فيها تذكير بأمور عظيمة بحمد الله، بطاعة الله، بتقوى الله، بالاستقامة على ذلك، بالاستمرار على طاعة الله تعالى والدوام عليها حتى يلقى الإنسان ربه وهو يداوم على هذا الشكر في جميع الأمور.
قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ: هِيَ وَاجِبَةٌ
(1)
، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْوُجُوبِ؟ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟)
(2)
.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 82)؛ حيث قال: "والخطبة غير واجبة عند أحد من أهل العلم علمناه، إلا داود، فإنه أوجبها". وانظر: "المجموع" للنووي (16/ 207).
(2)
يُنظر: "الفصول في الأصول" للجصاص (3/ 215)؛ حيث قال: "أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الواقعة على قصد منه يقتسمها وجوه ثلاثة: واجب، وندب، ومباح، إلا ما قامت =
الحقيقة هي ليست واجبة؛ لأنها ليست ركنًا من أركان الزواج، فهناك الإيجاب والقبول، وهناك ما يتعلق بمن يعقد الزواج، وهناك وليٌّ وشاهدان، لكنها مقدمات، وهي لا شك مستحبة وينبغي العناية بها، وعدم تركها لكنها ليست بواجبة.
قوله: (فَأَمَّا الْخِطْبَةُ
(1)
عَلَى الْخِطْبَةِ فَإِنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام).
الخِطبةُ على الخِطبةِ أي: إذا رأى أخاه قد أقدم على خطبة امرأة من النساء فيأتي فيخطبها، فيترتب على ذلك إلحاق الضرر بأخيه المسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "المؤمن أخو المؤمن، لا يحل
= الدلالة على أنه من الصغائر المعفوة؛ فإن ظهر منه فعل ليس في ظاهره دلالة على وقوعه منه، على أحد الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، فقد اختلف الناس فيما يتعلق علينا من حكمها. فقال قائلون: واجب علينا أن نفعل مثله، حتى تقوم الدلالة على أنه غير واجب. وقال آخرون: ليس منها شيء واجب علينا فعله، حتى تقوم الدلالة على وجوبه، ولنا فعله على وجه الإباحة، إذ كان ذلك أدنى منازل أفعاله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: نقف فيه، ولا نفعله، لا على وجه الإباحة، ولا غيرها، حتى تقوم الدلالة على شيء من ذلك.
(1)
الخطبة في اللغة: بكسر الخاء هي طلب المرأة للزواج، يقال: خطب فلان إلى فلان ابنته، أي طلب منه الزواج بها. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 173)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص 92).
ومعناها في الاصطلاح: لا يبعد عن المعنى اللغوي كثيرًا.
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(3/ 8)؛ حيث قال: "وأما بكسرها فهي طلب التزوج".
وينظر "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 50)؛ حيث قال: "الخطبة بكسر الخاء: طلب التزويج".
وينظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 219)؛ حيث قال: "الخطبة: التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 143)؛ حيث قال: "الخطبة، بالكسر: خطبة الرجل المرأة لينكحها".
لمؤمن أن يبتاع على بيعة أخيه، ولا يحل لمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه"
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه"
(2)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من أن يُقدِم أحدنا على هذا؛ لأن هذا من الضرر الذي نهت عنه الشريعة الإسلامية، أما لو خطب هذا الرجل ورُدَّ؛ بمعنى لم يستجب إليه؛ ففي هذه الحالة له أن يتقدم كغيره من الخاطبين، وهناك أمر وهو: ألا يُعطى الإجابة صريحةً، ولكن يشار إليه بمعنى أنه يُعطى الموافقة تعريضًا لا تصريحًا كأن تقول المرأة لا غنى لي عنك، أو لا رغبة لي عنك أو غير ذلك من العبارات التي تأتي تعريضًا لا تصريحًا.
وهناك عدة صور لبعض الحالات:
الصورة الأولى: العلماء مجمعون على أنه لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه إذا تمت الموافقة والإجابة للخاطب الأول
(3)
.
الصورة الثانية: أن يُرد الخاطب الأول؛ فله أن يخطب ولا خلاف في هذه.
الصورة الثالثة: التي فيها التعريض بالموافقة، كثير من العلماء يلحقها بالصورة الأولى، وبعضهم لا يلحقها، والخلاف هنا يدور حول حديث فاطمة بنت قيس، فقد جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه، والرسول قد قال لها:"لا تفوتيني بنفسك"، يعني: عرَّض لها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه مسلم (1414) عن عقبة بن عامر.
(2)
جزء من حديث أخرجه البخاري (5142) عن ابن عمر.
(3)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(9/ 197)؛ حيث قال: "ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه وأجمعوا على تحريمها إذا كان قد صرح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك". وانظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 5).
فذكرت له أن أبا جهم ومعاوية بن أبي سفيان خطباها
(1)
. إذن هي جاءت لتخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن هي مستشيرة تطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام النصح، فإذا جاءك أخوك المسلم يستشيرك فعليك أن تخلص له النصح، وليس لك أن تغشه في أمر من الأمور، "فمن غشنا فليس منا"
(2)
، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقصد من ذلك أن تكون نيتك وقصدك خالصًا لله، تريد له الخير، أما أن تجتهد وتخطئ في اجتهادك فلا إثم عليك.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم فإنه لا يضع عصاه
(3)
عن عاتقه" كناية عن ضربه للنساء، "وأما معاوية فصعلوك
(4)
لا مال له" يعني: فقيرًا ليس عنده مال.
ثم قال لها: "انكحي أسامة بن زيد"، فأشارت بيدها كالمترددة، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن ينكحها وتطيع الله ورسوله، فنكحته، قالت: فاغتبطت
(5)
به.
(1)
يقصد الحديث الذي أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"ليس لك عليه نفقة"، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:"تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني"، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد" فكرهته، ثم قال:"انكحي أسامة"، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت به.
(2)
جزء من حديث أخرجه مسلم (101) عن أبي هريرة.
(3)
"لا يرفع عصاه عن عاتقه" معناه: أنه شديد على أهله خشن الجانب في معاشرتهن مستقص عليهن في باب الغيرة. وقيل: أراد أنه يؤدب أهله بالضرب، وقيل: أراد به كثرة الأسفار انظر: "الزاهر" للأزهري (ص 206)، و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 66).
(4)
الصعلوك: الفقير. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1595).
(5)
الاغتباط: التبجح بالحال الحسنة، وقيل: هو الفرح بالنعمة. انظر: "تاج العروس"(19/ 509).
الشاهد: أن هذه المرأة جاءت لتستشير الرسول، فحصل في هذا العقد عدم وجود الكفاءة في النسب، وسيأتي الكلام على هذا الشرط، وهذه هي حجة من الحجج التي يتمسك بها أن الكفء لصاحب الدين؛ كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى"
(1)
، فالذي يميز المسلم عن أخيه المسلم تقوى الله سبحانه وتعالى.
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
(2)
فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فإنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه"، دائمًا رافعًا العصا يضرب النساء؛ أي: رجل فيه قسوة وفيه غلظة، ولذلك أرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة الأمر، أراد أن يبين لها الحق، وهذا من بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يضع عصاه عن عاتقه، وفي رواية:"رجل ضراب للنساء"
(3)
، ضراب: صيغة مبالغة؛ أي: كثير الضرب للنساء، وأما معاوية فلم يذكر فيه إلا أنَّه رجل صعلوك لا مال له؛ أي: فقير، مع أن هذا الرجل أصبح يقود أمة وأصبح الخليفة بعد الخلفاء الراشدين، وهو مؤسس الدولة الأموية، وهو صهر
(4)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(23489) عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال:"يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبلغت".
(2)
ينسب البيت لسلمان الفارسي كما في "ربيع الأبرار" للزمخشري (4/ 187)، وينسب لنهار بن توسعة اليشكري كما في "الكامل" للمبرد (3/ 133).
(3)
أخرجها مسلم (47/ 480) وفيها "وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء
…
" الحديث.
(4)
الصهر: المتزوج إلى القوم، يقال: صاهرت إليهم، إذا تزوجت فيهم، وأصهرت بهم، إذا اتصلت بهم وتحرمت بجوار أو نسب أو تزوج. انظر:"جمهرة اللغة"(2/ 745)، و "الصحاح" للجوهري (2/ 717).
أحد كَتَبة الوحي
(1)
، ونفع الله به العباد وفتح الله به البلاد، وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم، وحض على بيان فضلهم
(2)
وعدم الطعن فيهم
(3)
إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، هو الذي يعز وهو الذي يخفض، وهو الذي يرفع قال الله تعالى:{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26].
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
فكم من أناس تجد أن الفقر قد بلغ بهم الفاقة
(4)
حتى ربما لصق أحدهم في التراب، وكم من أناس تجد عندهم الأموال الكثيرة الطائلة، وإذا بالأحوال تتحول فيصبح الفقير غنيًّا، ويصبح الغني فقيرًا، وهذا كله بإرادة الله سبحانه وتعالى.
والإنسان مهما بذل من الجهد، مهما أتعب نفسه وأذاب
(5)
قلبه في أن يصل إلى أمر من أمور الدنيا فلن يصل إلا إلى ما كتبه الله له سبحانه وتعالى في بطن أمه، ويُكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
أخرج مسلم (2501) عن ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال:"نعم" قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها، قال:"نعم" قال: ومعاوية، تجعله كاتبًا بين يديك، قال: "نعم
…
" الحديث.
(2)
منها ما أخرجه الترمذي (3842) عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية:"اللهم اجعله هاديًا مهديًّا واهد به". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1969).
(3)
منها ما أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه".
(4)
الفاقة: الفقر. والحاجة. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1547).
(5)
أذاب فلان أمرهُ؛ (أي): أصلحه. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص 362).
"إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يومًا
…
" إلى آخره
(1)
.
فكم من أناس قضوا أكثر عمرهم في الفقر، فإذا كانوا في أخريات حياتهم تجد أن الدنيا أصبحت تنهال وتتهافت
(2)
عليهم وتنساق إليهم، وكم من أناس عاشوا في رخاء وفي ترف وفي نعيم، فانسدت عليهم المسالك، وضاقت عليهم حياتهم وماتوا فقراء، والإنسان في هذه الحياة لا يدري الخير في أن تكون فقيرًا فيعوضك الله سبحانه وتعالى عن ذلك، أو أن تكون غنيًّا؛ هذه كلها بإرادة الله سبحانه وتعالى، لكن الشيء الذي ينبغي ألا نغفل عنه "أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى منها الكافر شربة ماء"
(3)
.
ولو كان في الدنيا مقام لأحد لكان محمد بن عبد الله في مقدمة أولئك، ولقد خيره الله تعالى بين أن يكون ملكًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا
(4)
، "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"
(5)
؛ فلا ينبغي أن
(1)
أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) عبد الله: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة".
(2)
التهافت: التساقط. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 272).
(3)
معنى حديث أخرجه الترمذي (2320) وغيره، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(943).
(4)
معنى حديث أخرجه أحمد في "مسنده"(7160) عن أبي هريرة، قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، - فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: محمد، أرسلني إليك ربك، أفملكًا نبيًّا يجعلك أو عبدًا رسولًا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: "بل عبدًا رسولًا". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(5)
معنى حديث أخرجه البخاري (3445) عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله".
نشغل أوقاتنا في التفكير في الدنيا، فما يقدره الله لنا هو الخير، وربما تنفتح عليك الدنيا فتأخذ كثيرًا من أوقاتك عن طاعة الله.
فمعاوية صحابي جليل كان فقيرًا، ولما جاءت فاطمة بنت قيس تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن الرجل على فضل، وأنه على خير، لكنه رجل فقير، فبين لها هذه الصفة، وإذا بالأحوال تتغير؛ يصبح هذا الرجل هو القائم على خزائن الدولة الإسلامية، القائم على مُلكها، هو الذي يعطي هذا ويمنع هذا، وكل ذلك بتوفيق الله، فهذه أمور مقدرة ينبغي أن نؤمن بها، "فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك"
(1)
، فما ينزل بك إنما هو بقضاء الله وقدره.
ولذلك ترون أن العلماء الذين وقفوا حياتهم في طاعة الله وفي الدعوة إلى دينه وفي الإخلاص لهذا الدين إنما هم عزفوا
(2)
عن الحياة الدنيا، صرفوا أنفسهم عنها، كانوا يخشون أن تشغلهم هذه الحياة الدنيا عن الآخرة، فهم آثروا الباقية عن الفانية، وهذا الفرق بيننا وبينهم فنحن نؤثر الفانية على الباقية،
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ النَّهْيِ عَنْهُ؟ أَوْ لَا يَدُلُّ؟ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ فَفِي أَيِّ حَالَةٍ يَدُلُّ؟).
العلماء متفقون، وبعضهم حكى الإجماع على أنه يحرم على المسلم
(1)
معنى حديث أخرجه أبو داود (4699) عن ابن الديلمي، قال:"أتيت أبي بن كعب فقلت: له وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار"، قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك". وصححه الألباني في "المشكاة"(115).
(2)
العزف: صرف النفس عن الشيء فتدعه. انظر: "العين" للخليل (1/ 359).
أن يخطب على خطبة أخيه فإذا سُكن ورُكن إليه؛ أي: إذا أجيب إلى ذلك، فلا يدل ذلك على الفساد، ولكن يحرم على الإنسان أن يخطب على خطبة أخيه هذا هو رأي الجمهور.
قوله: (فَقَالَ دَاوُدُ: يُفْسَخُ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَا يُفْسَخُ، وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا
(4)
، وَثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يُفْسَخَ بَعْدَهُ
(5)
، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(6)
: إِنَّمَا مَعْنَى النَّهْيِ إِذَا
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 146)؛ حيث قال: "وروي عن داود أنه لا يصح".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 222)؛ حيث قال: " (فإن لم يجب ولم يرد) بأن سكت عن التصريح للخاطب بإجابة أو رد والساكت غير بكر يكفي سكوتها أو ذكر ما يشعر بالرضا، نحو: لا رغبة عنك (لم تحرم في الأظهر) "لأن فاطمة بنت قيس قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد". وجه الدلالة: أن أبا جهم ومعاوية خطباها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بعد خطبتهما؛ لأنها لم تكن أجابت واحدًا منهما، والثاني: تحرم لإطلاق الخبر، وقطع بالأول في السكوت لأنها لا تبطل شيئًا".
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 50)؛ حيث قال: "والنهي يكون للتنزيه كما في نهيه عليه السلام عن الخطبة على خطبة أخيه، ولو فعل صح النكاح عندنا والشافعي وأحمد". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار) 3/ 533 - 534).
وهو مذهب الحنابلة أيضًا، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 19)؛ حيث قال: " (فإن فعل)؛ أي: خطب على خطبته بعد علمه وعقد عليها (صح العقد كالخطبة)؛ أي: كما لو خطبها (في العدة)؛ لأن المحرم لا يقارن العقد فلم يؤثر فيه (بخلاف البيع) على بيع المسلم. (فإن لم يعلم) الثاني (أجيب) الأول (أم لا) جاز لأنه معذور بالجهل (أو رد) الأول جاز". وانظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 146).
(4)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 130)؛ حيث قال: "ومن خطب على خطبة أخيه أدب فإن عقد لم يفسخ عقده وفاقًا لهما، وقيل: يفسخ وفاقًا للظاهرية".
(5)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 130)؛ حيث قال: "وقيل يفسخ قبل الدخول لا بعده".
(6)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 130)؛ حيث قال: "ولا تجوز الخطبة على خطبة آخر بعد الإجابة أو الركون أو التقارب. قال ابن القاسم: هذا في المتشاكلين، ولا تحرم خطبة صالح على فاسق".
خَطَبَ رَجُلٌ صَالِحٌ عَلَى خِطْبَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ غَيْرَ صَالِحٍ وَالثَّانِي صَالِحٌ - جَازَ).
فإذا ركن إليها فلا يجوز لك أن تتقدم، وإن رُدَّ فلك أن تتقدم كغيرك ولا لوم عليك ولا إثم
(1)
، وإن وُجد تعريض فبعض العلماء يلحقه بالأول، فيقال في هذه: رب إشارة أبلغ من عبارة، لا رغبة لي عنك، معنى هذا أن فيه إشارة إلى الرغبة، وفي قصة جرير وعمر وغيرهما لما خطب امرأة، فالمرأة عرَّضت لعمر رضي الله عنه، ثم بعد ذلك تزوجت، وفي رواية أنها تزوجت جريرًا
(2)
.
قوله: (وَأَمَّا الْوَقْتُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فَهُوَ إِذَا رَكَنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لَا فِي أَوَّلِ الْخِطْبَةِ).
وهذا هو الصحيح، فإذا ركن بعضهم إلى بعض حصل الإجابة،
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 143)؛ حيث قال: "ولا يخلو حال المخطوبة من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تسكن إلى الخاطب لها، فتجيبه، أو تأذن لوليها في إجابته أو تزويجه، فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتها، ولأن في ذلك إفسادًا على الخاطب الأول، وإيقاعًا للعداوة بين الناس، ولا نعلم في هذا خلافًا بين أهل العلم، إلا أن قومًا حملوا النهي على الكراهة، والظاهر أولى.
القسم الثاني: أن ترده أو لا تركن إليه. فهذه يجوز خطبتها.
القسم الثالث: أن يوجد من المرأة ما يدل على الرضا والسكون، تعريضًا لا تصريحًا، كقولها: ما أنت إلا رضا، وما عنك رغبة".
(2)
ذكرها ابن عبد البر في "التمهيد"(19/ 185): أن ابن وهب روى بإسناده عن الحارث بن سعد بن أبي ذباب: "أن عمر بن الخطاب خطب امرأة على جرير بن عبد الله، وعلى مروان بن الحكم، وعلى عبد الله بن عمر، فدخل على المرأة وهي جالسة في بيتها، فقال عمر: إن جرير بن عبد الله يخطب وهو سيد أهل المشرق، ومروان يخطب وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر يخطب وهو من قد علمتم، وعمر بن الخطاب، فكشفت المرأة الستر فقالت: أجادٌّ أمير المؤمنين؟ فقال: نعم. فقالت: فقد أنكحت أمير المؤمنين، فأنكحوه".
فحينئذٍ لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه، كما أنه لا يجوز له أن يبتاع على بيع أخيه
(1)
، ولا على شرائه؛ لأن هذا فيه إيذاء لأخيك المسلم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه"
(3)
، فلا ينبغي للمسلم أن يُلحق أي ضرر بأخيه المسلم.
قوله: (بِدَلِيلِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حَيثُ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أبي يسُفْيَانَ خَطَبَاهَا، فَقَالَ:"أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ لَا يَرْفَعُ عَصَاهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَه، وَلَكِنِ انْكِحِي أُسَامَةَ"
(4)
).
فأشارت بيدها كالمترددة، فأكد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يستجيب لأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يقف عند هذه الشريعة سيجد الخير والغبطة، ولذلك قالت:"نكحت فاغتبطت به"؛ أي: حصلت السعادة بنكاحها أسامة بن زيد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى الخير، وبيَّن لها ما هو الأولى.
قوله: (وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ
(5)
، فَأَجَازَ
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (2139)، ومسلم (1412) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبيع بعضكم على ببع أخيه".
(2)
أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
(3)
أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) عن ابن عمر.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
عبارات أهل العلم الذين بينوا حكم النظر إلى المخطوبة دائرة بين الإباحة والاستحباب.
قال العيني في "البناية شرح الهداية"(12/ 135): "ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها لقوله عليه الصلاة والسلام فيه: "أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي في النكاح عن عاصم بن سليمان، =
ذَلِكَ مَالِكٌ
(1)
إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ، وَأَجَازَ ذَلِكَ غَيْرُهُ إِلَى جَمِيعِ
= عن أبي بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". وقال الترمذي: حديث حسن".
وقال الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير"(2/ 215): "ظاهر المصنف أن النظر مستحب، والذي في عبارة أهل المذهب الجواز، ولم يحك ابن عرفة الاستحباب إلا عن ابن القطان".
يقول النووي في "منهاج الطالبين"(ص 204): "وإذا قصد نكاحها سن نظره إليها".
وانظر: "روضة الطالبين"(7/ 20).
وقال المرداوي الحنبلي في "الإنصاف"(8/ 17): "يجوز النظر إلى المخطوبة، وهذا هو المذهب، وقيل: يستحب، وهو الصواب".
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 215)؛ حيث قال: " (قوله: ونظر وجهها وكفيها)؛ أي: حين الخطبة، ثم إن ظاهر المصنف أن النظر مستحب، والذي في عبارة أهل المذهب الجواز، ولم يحك ابن عرفة الاستحباب إلا عن ابن القطان انظر طفى، ويمكن حمل الجواز في كلام أهل المذهب على الإذن كما يندب نظر الزوج منها الوجه والكفين يندب أن تنظر المرأة ذلك كما في المج وقوله: وكفيها؛ أي: ظاهرهما وباطنهما فالمراد يديها لكوعيها، وإنما أذن للخاطب في نظر الوجه والكفين؛ لأن الوجه يدل على الجمال وعدمه، واليدان يدلان على خصابة البدن وطراوته وعلى عدم ذلك".
وهو كذلك مذهب الشافعية ورواية عن الحنابلة ومذهب أهل الظاهر.
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 208)؛ حيث قال: " (ولا ينظر) من الحرة (غير الوجه والكفين) ظهرًا وبطنًا؛ لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المشار إليها في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ".
ورواية الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 18)؛ حيث قال: "وعنه: له النظر إلى الوجه والكفين فقط. حكاها ابن عقيل".
وأما مذهب الحنابلة فله النظر إلى ما يظهر غالبًا؛ كالرقبة، واليدين، والقدمين.
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 624)؛ حيث قال: " (ويباح لمن أراد خطبة امرأة بكسر الخاء (وغلب على ظنه إجابته نظر ما يظهر) منها (غالبًا كوجه ورقبة ويد وقدم) لحديث: "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أحمد وأبو داود، وقال أي النبي: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها".
مذهب أهل الظاهر: "المحلى" لابن حزم (9/ 161)؛ حيث قال: "ولا يجوز له أن ينظر منها إلا إلى الوجه والكفين فقط، لكن يأمر امرأة تنظر إلى جميع جسمها وتخبره".
الْبَدَنِ عَدَا السَّوْءتَيْنِ)
(1)
.
بالنسبة لخطبة المرأة، الناس في هذا الزمان تجد بعضهم يتشدد ويقول: كيف يأتي رجل أجنبي فينظر إلى ابنتي أو إلى أختي أو إلى عمتي أو خالتي، كيف أسمح له بذلك يأتي فينظر إلى وجهها، وتجد أن من الناس من يتوسع في ذلك، فربما ترك هذا الشاب يخلو بالبنت وربما تخرج معه، وربما تحصل الاتصالات الكثيرة وهكذا، والإسلام رسم الطريق السوي الذي ينبغي أن نسير فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ما فيه الخير، ولا يأمرنا إلا بما فيه سعادتنا، فقال:"إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما"
(2)
؛ أي: يُوفق بينهما.
فالإنسان عندما يُدخل على امرأة لم يرها، ربما تنفر نفسه منها؛ فقد تكون هذه المرأة جميلة لكنها لا تدخل نظره، وقد تكون جميلة في نظر هذا، لكنها غير جميلة في نظر هذا، فلا مانع أن ينظر إليها، ولكن نظرة حشمة ويكون عند أحد أولياء أمرها.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إني خطبت امرأة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا"
(3)
، ووردت عدة أحاديث في ذلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم حث الخطيب على أن ينظر.
(1)
وهو مذهب الأوزاعي. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 97)؛ حيث قال: "وحكي عن الأوزاعي أنه ينظر إلى مواضع اللحم". وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 182).
(2)
أخرجه أبو داود (2082) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"، قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها. وحسنه الألباني في "الإرواء"(1791).
(3)
أخرجه مسلم (1424/ 74) عن أبي هريرة، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنظرت إليها؟ "، قال: لا، قال:"فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا".
لكن هناك آداب إسلامية ينبغي الالتزام بها، فلو قدر أن إنسانًا دخل على امرأة ولم تعجبه لا يجوز له أن يذهب ويتحدث في المجالس أنا رأيت فلانه وفيها كذا، هذا لا يجوز، وهو من الإساءة، ومن باب إشاعة أمور تلحق الضرر بالفتاة، ولكن لا ينبغي أن يكون الجمال هو كل شيء، فما الفائدة أن تتزوج امرأة جميلة المنظر ذميمة الأخلاق، هذا أمر لا يفيدك؛ لأن هذه حقيقة ستلهب حياتك وتنقلب نارًا ونكدًا.
فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربعه لمالها وجمالها وحسبها ودينها"
(1)
؛ فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، فقدَّم ذات الدين والخلق؛ فبذلك تسعد وتنال الخير في الدنيا والآخرة، أما أن تنكح امرأة لجمالها ولا تهتم بدينها، أو لنسبها، فربما يحصل لك السعادة، لكن لا ينبغي أن نجعل الجمال هو الأصل أو الحسب، وإنما ينبغي أن نجعل الدين والخلق هو الأصل، وما يأتي بعد ذلك فهو تابع، لكن أن يحصل الدين والجمال والأخلاق هذا أمر طيب.
فلو أن إنسانًا أخذ امرأة ذات دين وهي متوسطة الجمال لكنها غمرت هذا الإنسان بأخلاقها، مثل المرأة الصالحة التي أرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"نعم الرجل الصالح للمرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته"
(2)
؛ أي: لا يسمع منها إلا الكلمة الطيبة، إذا أمرها لا يسمع منها إلا كلمة لبيك ومرحبًا ونحو ذلك، لا تتردد في الأمر، هي تكرمه تقدره تقوم بجميع حقوقه، ترعاه حق رعاية، ترعاه في بيته، تحافظ على أولاده أيضًا إذا غاب عنها حفظته في
(1)
أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466/ 53) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
(2)
أخرجه ابن ماجه (1857) عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة؛ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرَّتْه، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(4421).
نفسها، وفي مالها، وفي أولادها، وباختصار أن المرأة الصالحة الدَّينة تكون عونًا لزوجها على طاعة الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ)
(1)
.
فالنظر ينبغي أن يكون في المواضع التي يُحتاج إليها وهي الوجه واليدان، أما أن يفحص جسمها فلا يزال جسمها عورة لا ينبغي ذلك.
قوله: (وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ النَّظَرَ إِلَى الْقَدَمَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ)
(2)
.
معلوم أن الوجه هو مجمع محاسن الجمال في المرأة، ففيه العينان وفيه الأنف وفيه الفم، وفيه حاسة السمع، فالحواس مجتمحة في الوجه، وهو موضع الجمال، فالوجه أشرف ما في بدن الإنسان؛ ولذلك يسجد لله وحده؛ لأنه هو المستحق للتعظيم، يضع أعظم شيء في بدنه على الأرض، استسلامًا وانقيادًا وإنابة، وخضوعًا لله سبحانه وتعالى؛ هذه هي غاية الطاعة لله سبحانه وتعالى.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهُ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ مُطْلَقًا، وَوَرَدَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَوَرَدَ مُقَيَّدًا؛ أَعْنِي: بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ).
(1)
نقله الطحاوي عن جماعة ولم يعينهم. يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 182)؛ حيث قال: "ونقل عن الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال لأنها حينئذ أجنبية".
ونسب ابن عبد البر في "الكافي "إلى مالك رواية عنه صرح بحرمة النظر: فقال: "ومن أراد نكاح امرأة فليس له عند مالك أن ينظر إليها، ولا يتأمل محاسنها، وقد روي عنه أنه ينظر إليها وعليها ثيابها". انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 519).
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 156)؛ حيث قال: " (ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة)؛ وعن أبي حنيفة أنه زاد القدم، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها".
الوجه والكفين هو الذي ينظر إليهم وما عدا ذلك فلا؛ لأن الوجه هو موضع المحاسن والجمال عند المرأة.
قوله: (عَلَى مَا قَالَهُ كثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَقِيَاسًا عَلَى جَوَازِ كشْفِهِمَا فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمَنْ مَنَعَ تَمَسَّكَ بِالْأصْلِ وَهُوَ تَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ).
المؤلف قصد: أن المرأة في الحج لا تغطي وجهها، لكن إذا مر بها الأجانب، فإنها تُرخي خمارها كما حصل من عائشة
(1)
رضي الله عنها، وحديث الرسول لما جاءه رجل فقال: إنه خطب امرأة قال عليه الصلاة والسلام: "انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا"
(2)
، فدل ذلك على أن المقصود في الغالب الوجه.
[الْبَابُ الثَّانِي: في موجبات صحة النكاح]
قوله: (وَهَذَا الْبَابُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: الرُّكْنُ الْأَوَّلِ: فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْعَقْدِ. الرُّكْنُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَة مَحَلِّ هَذَا الْعَقْدِ. الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَة شُرُوطِ هَذَا الْعَقْدِ.
(1)
أخرجه أبو داود (1833) عن عائشة، قالت:"كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(317).
(2)
تقدَّم تخريجه.
أما الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي الْكَيْفِيَةِ:
وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الرُّكْنِ فِي مَوَاضِعَ: فِي كيْفِيَّةِ الْإِذْنِ الْمُنْعَقِدِ بِهِ، وَمَنِ الْمُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي لُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ).
المؤلف هنا سيتكلم عن عدة مسائل فيما يتعلق بمن الذي يُعتبر رضاه؛ هل الرجال البالغون الأحرار لا بد من رضاهم؟ وهل هناك فرق بين البكر وبين الثيب؟ وهل هناك فرق بين الثيب الكبيرة والصغيرة؟ وهل للثيب أن يجبر عبده على الزواج؛ لأنه يملك رقبته؟ وهل للأب أن يجبر ابنه الصغير أو ابنته الصغيرة على الزواج؟ وهذا كله سيأتي الكلام فيه مفصلًا إن شاء الله، ونتناوله مسألة مسألة.
قوله: (وَهَلْ يَجُوزُ عَقْدُهُ عَلَى الْخِيَارِ؟ أَمْ لَا يَجُوزُ؟ وَهَلْ إِنْ تَرَاخَى الْقَبُولُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَزِمَ ذَلِكَ الْعَقْدُ؟ أَمْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ الْفَوْرُ؟).
يعني: لو أن الولي قال: زَوَّجتك ابنتي فلانة هل يلزم أن يجيب الزوج مباشرةً ويقول: قبلت أو رضيت أم هناك تراخٍ؟
والجواب: يعطى فرصة للخيار بعد ذلك، فالإنسان إذا اشترى سلعة هناك خيار المجلس وهناك خيار الشرط، وهناك أنواع أخرى من الخيار.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(أما الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ:
الْإِذْنُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ، فَهُوَ وَاقِعٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالثَّيِّبِ مِنَ النِّسَاءِ بِالْأَلْفَاظِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْأبْكَارِ الْمُسْتَأْذَنَاتِ وَاقِعٌ بِالسُّكُوتِ؛ أَعْنِي: الرِّضَا).
الاستئذان واقع في حق الرجال والنساء على سواء، ومراد المؤلف
من الرجال الأحرار البالغون، يعني: لو أن لك ولدًا لا تلزمه على أن يتزوج فلانة، أو ابنة أو أختًا ثيبًا بمعنى: تزوجت وطلقت أو مات عنها زوجها، ليس لك أن تجبرها.
معنى بالألفاظ: أي: النطق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قيل: يا رسول الله فيكف استئذانها؟ فقال: "أن تسكت"
(1)
.
إذن الكبيرة الثيب تَردُّ، فتقول: نعم أو لا، لأنها دخلت في أمر الزواج وعرفت حلوه ومره وجربته، فلا بد أن تصرح بذلك، وسيأتي في قصة ابنة مظعون عندما زوجها عمها فأبت هي وأمها، فذهبتا تشتكيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهما على ذلك، وفي قصة الفتاة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكية، وقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته
(2)
؛ يعني: رجل فيه نقص وقصور، فأراد أن يحافظ هذا الرجل على ابن أخيه بأن يزوجه ابنته، وهذه البنت من منطقها أنها ذكية، قالت: ليرفع بي خسيسته، فترك الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر إليها، فقالت: إني أقررت ما صنع أبي غير أني أردت أن أعلم ما للنساء من حقوق
(3)
، أرادت أن تتأكد
(1)
أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:"أن تسكت".
(2)
الخسيس: الدنيء. والخسيسة والخساسة: الحالة التي يكون عليها الخسيس. يقال: رفعت خسيسته ومن خسيسته: إذا فعلت به فعلًا يكون فيه رفعته. يُنظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 31).
(3)
أخرجه النسائي (3269) عن عائشة: أن فتاة دخلت عليها فقالت: "إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء".
وضعفه الألباني في "غاية المرام"(ص 144).
وفي رواية أخرجها أحمد في "مسنده"(26788) عن مجمع بن يزيد، قال: "زوج =
أو ليعرف النساء حقهن في ذلك، أو كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.
قوله: (وَأَمَّا الرَّدُّ فَبِاللَّفْظِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
(1)
أَنَّ إِذْنَ الْبِكْرِ إِذَا كَانَ الْمُنْكِحُ غَيْرَ أَبٍ وَلَا جَدٍّ بِالنُّطْقِ، وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ
(2)
إِلَى أَنَّ إِذْنَهَا بِالصَّمْتِ لِلثَّابِتِ
= خدام ابنته وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني وأنا كارهة. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاح أبيها". وقال الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط البخاري".
(1)
هو أحد الوجهين عن الشافعية. يُنظر: "البيان"، للعمراني (9/ 181)؛ حيث قال: "وإن زوج البكر البالغ غير الأب والجد من الأولياء؛ لم يصح حتى تستأذن، وهو إجماع لا خلاف فيه. وفي إذنها وجهان:
أحدهما: لا يحصل إلا بنطقها، لأن كل من يفتقر نكاحها إلى إذنها افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق، كالثيب.
والثاني - وهو المذهب -: أنها إذا استؤذنت فصمتت كان ذلك إذنًا منها في النكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها". ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق بخلاف الثيب".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 58)؛ حيث قال: " (ولا تجبر البالغة البكر على النكاح) لانقطاع الولاية بالبلوغ (فإن استأذنها هو)؛ أي: الولي وهو السنة (أو وكيله أو رسوله أو زوجها) وليها وأخبرها رسوله أو الفضولي عدل (فسكتت) عن رده مختارة (أو ضحكت غير مستهزئة أو تبسمت أو بكت بلا صوت) فلو بصوت لم يكن إذنًا ولا ردًّا حتى لو رضيت بعده انعقد سراج وغيره، فما في "الوقاية" و"الملتقى" فيه نظر (فهو إذن) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 6)؛ حيث قال: " (فلا) يحل له أن (يزوجها) بغير إذنها (حتى تبلغ وتأذن) لذلك الغير من الأولياء في النكاح، ويعين لها الزوج ويسمي لها الصداق وترضى بهما. قال خليل: وإن وكلته ممن أحب عين وإلا فلها الإجازة ولو بعد لا العكس (و) يكفي في (إذنها صماتها)؛ أي: سكوتها ولو جهلت الحكم. قال خليل: ورضا البكر صمت لأن شأن الأبكار الحياء، وأقوى في الدلالة على الرضا صنعها الطعام حين يقال لها: الليلة يحضر فلان لنعقد له عليك، فتفرش المحل وتصنع الطعام أو الشربات كما يفعله أهل الأمصار". =
مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا")
(1)
.
المراد بالأيم
(2)
هنا: هي الثيب التي وطئت، فهذه لا بد من استئذانها، إذا أراد وليها أن يُزَوَّجها لا بد أن يعرض عليها ذلك الأمر، فلا يكفي أن تسكت بل لا بد أن تقول: نعم أو لا؛ لأنها جربت الرجال وانتقلت إلى بيت الزوجية؛ فهي تختلف عن البكر التي لا يزال الحياء يسيطر عليها، والبكر تُستأمر؛ وقد ورد في بعض الأحاديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد تزويج إحدى بناته جلس عند خدرها
(3)
، ثم
= مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (7/ 70 - 71)؛ حيث قال: " (وللأب تزويج البكر صغيرة وكبيرة بغير إذنها)
…
(والبكر يزوجها أبوها)
…
(بغير إذنها) راجع إلى الكبيرة؛ فإن الصغيرة لا إذن لها، وقد يعود إليهما معًا؛ لما نقل عن الإمام أحمد: أن المميزة تستأذن
…
(ويستحب استئذانها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأمر وإذنها صماتها" وأوجبه أبو حنيفة؛ لظاهر الأمر".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 634 - 635)؛ حيث قال: " (ويجبر أب ثيبًا دون ذلك)؛ أي: تسع سنين لأنه إذن لها معتبر (و) يجبر أب (بكرًا ولو) كانت (مكلفة) لحديث ابن عباس مرفوعًا: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها صماتها". رواه أبو داود. فقسم النساء قسمين وأثبت الحق لأحدهما فدل على نفيه عن الآخر وهي البكر فيكون وليها أحق منها بها، ودل الحديث على أن الاستئمار هنا والاستئذان في الحديث السابق مستحب غير واجب (ويسن استئذانها)؛ أي: البكر إذا تم لها تسع سنين لما سبق".
(1)
أخرجه مسلم (1421) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها".
(2)
الأيم: - بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة في الاسم وفتحها مشددة في الفعل -: وهي التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا، مطلقة كانت أو متوفى عنها. انظر:"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 55)، و"النهاية" لابن الأثير (1/ 85).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 186) عن المهاجر بن عكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين امرأة بكر وزوجها؛ أنكحها أبوها بغير إذنها. قال: وحدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينكح امرأة من بناته جلس عند خدرها، فقال:"إن فلانًا يذكر فلانة".
ذكر أن فلانًا يرغب في الزواج منك، فإن هزت الخدر عرف أنها لا تريده، وإن سكتت كان ذلك بمثابة إجابة منها
(1)
.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ مِمَّنْ إِذْنُهُ اللَّفْظ، وَكذَلِكَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ)
(2)
.
هذه مسألة في غاية الأهمية ووقع خلاف فيها بين الأئمة، وانقسموا إلى فريقين:
الفريق الأول قالوا: إن النكاح لا ينعقد إلا بواحد من لفظين، ولا مانع أن يكون مثلًا الإيجاب بكلمة الإنكاح والتزولج، هما لفظان عند الشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
لا يقوم مقامهما غيرهما؛ يعني: أن يقول:
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 186) عن المهاجر بن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين امرأة بكر وزوجها؛ أنكحها أبوها بغير إذنها "قال: وحدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينكح امرأة من بناته جلس عند خدرها، فقال: "إن فلانًا يذكر فلانة"".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 409) قال: "لما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ النكاح وجب ألا ينعقد النكاح بلفظ الهبة".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 227 وما بعدها)؛ حيث قال: " (ولا يصح) عقد النكاح (إلا بلفظ) ما اشتق من لفظ (التزويج أو الإنكاح) دون لفظ الهبة والتمليك ونحوهما كالإحلال والإباحة".
(4)
مذهب الحنابلة: أنه لا ينعقد إلا بلفظي الإنكاح والتزويج وكذا ما تصرف منهما، وحكى تقي الدين القول عن أحمد بجواز أي صيغة.
يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 46، 47)؛ حيث قال: " (وشرط في إيجاب) وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه (لفظ إنكاح) أو لفظ (تزويج) بأن يقول: أنكحتك فلانة، أو زوجتكها؛ إذ الإيجاب لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج لا غير، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب؛ لأن القرآن إنما ورد بهما ولم يرد بغيرهما، وغيرهما ليس بمعناهما، فلا يكون صريحًا فيهما، وإذا لم يرد صريحًا كان كناية، والنكاح لا يحتمل الكناية. (ويتجه احتمال أن) الإيجاب ينعقد بأحد هذين اللفظين، وينعقد أيضًا (بما تصرف منهما) كقول ولي؛ جعلت موليتي مزوجة من فلان، أو زوجة له، أو جعلتها منكوحة؛ إذ هذه الألفاظ مشتقة =
أنكحتك ابنتي فيقول: قبلت نكاحها أو يقول زوَّجتك ابنتي فيقول: قبلت زواجها، أو يقول: أنكحتك ابني فيرد فيقول: قبلت زواجها أو العكس، الشاهد: أن يكون بأحد اللفظين وإن اختلفا إيجابًا وقبولًا، هذا في الإيجاب وهذا في القبول.
الفريق الثاني وهم الحنفية
(1)
والمالكية
(2)
ومعهم جمع من العلماء يقولون: يجوز بلفظ التمليك، وبلفظ الهبة، وبلفظ البيع، ورواية عند أبي حنيفة
(3)
يقول: حتى بلفظ الإجارة، ولكن المالكية قيدوا بأن يصحبه
= من اللفظين الذين يحصل بهما الإيجاب إجماعًا؛ فصح بها كما صح بأصلها، يؤيده قول ابن خطيب السلامية في "نكته على المحرر" قال الشيخ تقي الدين: ومن خطه نقلت: الذي عليه أكثر العلماء أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج. قال: وهو المنصوص عن أحمد، وقياس مذهبه، وعليه قدماء أصحابه".
(1)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4415)؛ حيث قال: "ويجوز أنه عليه السلام تكلم باللفظين، فقال: زوجتكها وملكتكها لأن ملكتكها زوجتكها، فدل بذلك أن كل واحد من اللفظين على حالها كالأخرى في الفائدة كما تقول آجرتك أكريتك، وهبت لك أعطيتك، ومن جهة النظر: أن لفظ الهبة لفظ يتعلق به التمليك من غير توقف، فجاز أن ينعقد به النكاح كلفظ النكاح". "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 97) و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 230).
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 221)؛ حيث قال: " (قوله: وصح بتسمية صداق)؛ أي: حقيقة كأن يقول: وهبتها لك بصداق قدره كذا أو حكمًا كأن يقول: وهبتها لك تفويضًا. (قوله: أو تصدقت إلخ) فيه نظر بل كلامه هنا مقصور على لفظ وهبت، إذ هو الذي في "المدونة" وجميع ما عدا هذا اللفظ داخل في التردد الآتي. والحاصل: أن تردد ابن القصار وابن رشد في جميع ما عدا أنكحت وزوجت ووهبت بصداق". انظر بن. (قوله: يقتضي البقاء)؛ أي: تمليك الذات. (قوله: فينعقد به النكاح) وهو قول ابن القصار وعبد الوهاب في "الإشراق" والباجي وابن العربي في "أحكامه".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 230)؛ حيث قال: "لا ينعقد النكاح بلفظ الإجارة عند عامة مشايخنا. والأصل عندهم: أن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ موضوع لتمليك العين
…
وحكي عن الكرخي أنه ينعقد بلفظ الإجارة لقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} سمى الله تعالى المهر أجرًا، ولا أجر إلا بالإجارة، فلو لم تكن الإجارة نكاحًا لم يكن المهر أجرًا".
المهر
(1)
؛ يعني: أن يُسمى المهر، وتعليلهم: أن المهر إنما هو ثمن لهذا الزواج فأصبح مشبهًا للبيع والهبة التي يتبادلها الناس من هذه الناحية.
والعلماء قد اختلفوا في هذه المسألة:
* فالشافعية والحنابلة يقولون: نحن نقف عند كتاب الله عز وجل، وعندما نقلب صفحات القرآن لا نجد فيه إلا ذكر لفظ الزواج أو الإنكاح، ولم يوجد لفظ غير ذلك، الله سبحانه وتعالى يقول:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فهذا هو لفظ التزويج؛ أي: الزواج.
وأما النكاح فورد كثيرًا في الكتاب العزيز كما في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22].
وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
إذن فهؤلاء الأئمة يقولون: الذي ورد في لفظ القرآن العزيز هما لفظان: لفظ النكاح ولفظ الزواج فنقتصر عليهما.
* وأما الحنفية
(2)
والمالكية: يستدلون بقصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب أن يزوجه امرأة فسأله:"أمعك شيء؟ " قال: لا، قال:"التمس لو خاتمًا من حديد" قال: لا، فسأله:"ما معك من القرآن؟ "
(1)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (3/ 506)؛ حيث قال: "ومذهب "المدونة" أنه لا ينعقد بلفظ الهبة إلا بتسمية الصداق".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 97)؛ حيث قال: "ولنا قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "ملكتكها بما معك من القرآن" وردا في النكاح، ولا يقال: الانعقاد بلفظ الهبة خاص به عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ} لأنا نقول: الاختصاص والخلوص في سقوط المهر بدليل أنها مقابلة بمن آتى مهرها في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ".
فذكر له شيئًا، فقال:"مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن"
(1)
، الشاهد:"مَلَّكْتُكَها"، فقالوا: ورد لفظ التمليك، فدل ذلك على أنه يجوز لفظ التمليك.
ثم قالوا: ولأن لفظ الهبة أيضًا تبت في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثبت في حقه يثبت في حق أمته، كما في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
فرد الشافعية والحنابلة على ذلك وقالوا: هذا دليل على تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الأمر
(2)
، وبهذا تبيَّن أن الأولى هو الوقوف عند ألفاظ الكتاب العزيز، وأما الحديث الذي تمسكوا به، وهو حديث:"مَلَّكْتُكَها" فإنه جاء بألفاظ صحيحة: "زوجتكها"
(3)
، "أنكحتها"
(4)
، "زوجناكها"
(5)
.
قوله: (وَاخْتَلَفوا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ بِلَفْظِ
(1)
أخرجه البخاري (5030) واللفظ له، ومسلم (1425) عن سهل بن سعد: أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال:"هل عندك من شيء؟ " فقال: لا والله يا رسول الله
…
فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا - عدها - قال: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال:"اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 153)؛ حيث قال: "فجعل الله تعالى النكاح بلفظ الهبة خالصًا لرسوله دون أمته، فإن قيل: فالآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعلها الله له خالصة من دون المؤمنين، وليس في الآية أمر من الله تعالى، ولا إذن فيه، فلم يكن في مجرد الطلب دليل على الإباحة".
(3)
أخرجه البخاري (5029) وفيه قال: "فقد زوجتكها بما معك من القرآن".
(4)
أخرجه البخاري وفيه قال: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن".
(5)
أخرجه البخاري (2310) وفيه قال: "قد زوجناكها بما معك من القرآن".
الصَّدَقَةِ، فَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
).
لكن مالك كما ذكرنا وافق على هذا شريطة أن يسمى المهر.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هُوَ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَعَ النِّيَّةِ اللَّفْظُ الْخَاصُّ بِهِ؟ أَمْ لَيْسَ مِنْ صِحَّتِهِ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ؟ فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْعُقُودِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الأمْرَانِ قَالَ: لَا نِكَاحَ مُنْعَقِدٌ إِلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ).
بعض العلماء في الفقه الإسلامي أدخلوا النكاح في أبواب المعاملات؛ يعني: قسمه إلى عبادات ومعاملات، فالنكاح يدخل دي المعاملات، ومنهم من يجعل النكاح أمرًا مستقلًّا ويُسمونه بأحكام الأسوة، لكن لا شك أن النكاح معاملة، لكنها معاملة من نوع خاص، فليست بيعًا وشراءً.
قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اعْتِبَارًا بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اللَّفْظُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِأَيِّ لَفْظٍ اتفق إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مِنْ ذَلِكَ؛ أَعْنِي؛ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مُشَارَكَةٌ).
كما ذكرنا قالوا: هذان اللفظان هما الواردان في كتاب الله عز وجل، والألفاظ الأخرى محتملة فلا نأخذ بها، والآخرون: استدلوا بحديث: "مَلَّكْتُكَها" فقد أجاب عنه الفريق الآخر، ولا شك أن الوقوف عند الكتاب والسنة أولى وأحرى، فينبغي أن نقف عند الألفاظ الشرعية.
(1)
تقدَّم قوله.
(2)
تقدَّم قوله.
(3)
تقدَّم قوله.
[الموضع الثاني: من المعتبر رضاه في لزوم عقد النكاح]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَأَمَّا مَنِ الْمُعْتَبَرُ قَبُولُهُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْمُتَنَاكِحَيْنِ أَنْفُسِهِمَا؛ أَعْنِي: الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ؛ إِمَّا مَعَ الْوَلِيِّ، وَإِمَّا دُونَه، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْوَلِيَّ فِي رِضَا المَرْأَةِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا).
هذه مسألة سيأتي الخلاف فيها، وهل للمرأة أن تزوج نفسها بدون ولي؟ وسيأتي الكلام عند حديث:"أيما امرأةٍ زوَّجت نفسها بغير ولي فنكاحها باطل"
(1)
.
قوله: (وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ فَقَطْ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ مَسَائِلُ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا وَمَسَائِلُ اختلفوا فيها).
الأولى في كل أمر سواءٌ كان المراد تزويجها بكرًا أو كانت ثيبًا هو أن يأخذ رأيها في ذلك؛ لأن القصد من ذلك هو حصول الاتفاق؛ فلا ينبغي أن تُكره فتاةٌ على التزوج؛ بفتًى لا تريده، كذلك ينبغي أيضًا أن يتم مشاورة بين الأب وبين الأم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"آمروا النساء في بناتهن"
(2)
، يعني: أخبروهن بزواج بنا لهن.
قوله: (وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا قَوَاعِدَهَا وَأُصُولَهَا فنقول).
مراد المؤلف: أنه لن يستقصي المسائل ذات العلاقة بهذا الموضوع
(1)
أخرجه الترمذي (1102) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الألباني في "المشكاة"(3131).
(2)
أخرجه أبو داود (2095)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1486).
المتعلقة بالإذن وبغير الإذن، والكبيرة والصغيرة، المملوك وغير المملوك، المملوك الصغير والصغير غير المملوك، هناك مسائل وفروع كثيرة جدًّا لا تتفق مع منهج المؤلف في كتابه؛ لكنه ينتقي أمهات المسائل، قواعدها أساس المسائل فيها؛ ثم بعد ذلك من أراد أن يعرف ذلك هو يُفرِّع عليها أو يرجع إلى الكتب، التي تتوسع في مسائل الحكم، فكثيرًا ما نزيد على مسائل الكتاب وننبه إلى ما يظهر لنا أن المصلحة تقتضي التنبيه عليه.
قوله: (أَمَّا الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ الْأَحْرَارُ الْمَالِكُونَ لِأَمْرِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ رِضَاهُمْ وَقَبُولِهِمْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ).
الرجال البالغون: الذي أصبح رجلًا سويًّا؛ لأن الإنسان يسمى رضيعًا طفلًا، ثم بعد ذلك يسمى غلامًا يافعًا
(1)
ثم شابًّا، والشاب يدخل في الرجولة، والقصد: أن الإنسان إذا بلغ دخل سن الرجولة؛ لأنه أصبح مُكلَّفًا، وأن يكون حرًّا؛ لأن غير الحر يختلف، وهناك المملوك قد يكون ذكرًا، وقد يكون أنثى فالمملوكة الأنثى يجبرها سيدها على ذلك؛ لأنه يملك منافعها والاستمتاع بها، أما المملوك الصغير الذَّكَر فهذا فيه خلاف بين العلماء
(2)
، هل يجبره سيده أو لا يجبره؟ فاشترطوا على رضاهم وقبولهم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجْبُرُ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ سَيِّدُه، وَالْوَصِيُّ مَحْجُورَهُ الْبَالِغَ؟ أَمْ لَيْسَ يُجْبِرُهُ؟).
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: العبد، فإذا ملك الإنسان عبدًا ذكرًا وأراد تزويجه، فالزواج من حيث الأصل فيه مصلحة: فيه عفةٌ للإنسان، وحفظُ لدينه،
(1)
غلام يافع: إذا تحرك وشب وشارف الاحتلام ولما يحتلم. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 939)، و"النهاية" لابن الأثير (5/ 299).
(2)
سيأتي.
ومحافظةٌ عليه من الوقوع في المحظور، لكن ربما يكون الزواج ليس في مصلحته فهل لسيده أن يجبره؟
المسألة الثانية: المحجور عليه وهو: السفيه: والسفيه يُحجَر عليه في ماله، يُحجر عليه في بعض تصرفاته، والسفيه: الذي بلغ سن الرشد، لكنه لا يزال سفيهًا في تصرفاته يُبذِّر أمواله، ولا يُحسن التصرف، ولا يُحسن المعاملة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة، فهل يُجبر المحجور على الزواج أم لا؟
قولهء: (فَقَالَ مَالِكٌ: يُجْبِرُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْبِرُهُ
(3)
).
هذه المسألة نفس الخلاف فيها كالخلاف في الأولى في لفظ الزواج، فمالك وأبو حنيفة متفقان، وكثيرًا ما نجد تقاربًا بين مذهب الحنفية والمالكية في أبواب النكاح:
(1)
ينظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و (حاشية الدسوقي)(2/ 221)؛ حيث قال: " (وجبر المالك) المسلم الحر، ولو أنثى ووكلت (أمة وعبدًا) له (بلا إضرار) عليهما فيه فإن كان فيه إضرار كتزويجهما من ذي عاهة لم يجز له الجبر ولهما الفسخ، ولو طال الزمن (لا عكسه)؛ فلا يجبر العبد أو الأمة السيد على أن يزوجهما، ولو حصل لهما الضرر بعدمه (ولا) يجبر (مالك بعض) لرقيق ذكر أو أنثى ذلك الرقيق والبعض الآخر إما حر أو ملك غيره".
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4505)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: يجوز للمولى إجبار عبده على النكاح، وروي عن أبي حنيفة".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 146)؛ حيث قال: " (السيد لا يجبر عبده ولو صغيرًا على النكاح)؛ لأنه يلزم ذمته عهدة المهر وغيره، ولأن العبد يملك رفعه بالطلاق، ويفارق الأمة بأنه لا يملك منفعة بضعه والأمة يملك منفعة بضعها فيورد العقد على ما يملكه، وبأنه ينتفع بنكاحها باكتساب المهر والنفقة بخلافه في العبد، ويفارق العبدُ الصغيرُ الابنَ الصغيرَ بأن ولاية الأب التي يزوج بها ابنه الصغير تنقطع ببلوغه بخلاف ولاية السيد لا تنقطع ببلوغ عبده، فإذا لم يزوجه بها بعد بلوغه مع بقائها فكذا قبله كالثيب العاقلة (ولا يلزمه إجابة العبد إليه)؛ أي: إلى نكاحه (ولو مكاتبًا) أو مبعضًا؛ لأنه يشوش عليه مقاصد الملك وفوائده وينقص القيمة".
فقال مالك وأبو حنيفة: للسيد أن يجبر عبده؛ أي: مملوكه على الزواج.
وقال الشافعي وأحمد
(1)
: لا يجبره.
لماذا اختلف العلماء في ذلك؟
والجواب: الحنفية والمالكية استدلوا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، الأيامى: جمع أيم والمراد بها هنا الحرائر من الرجال والنساء، لكن الأيم عندما تطلق يُقصد بها في الغالب المرأة الثيب كما جاء في الحديث الذي تقدم:"الأيم أحق بنفسها المرأة أحق بنفسها"
(2)
، {وَأَنْكِحُوا} أي: زوِّجوا الأيامى؛ أي: الحرائر من الرجال والنساء، {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} يعني: من عبيدكم، وفي قراءة الحسن:{من عبيدكم وإمائكم}
(3)
، يتمسك به الحنفية والمالكية، قالوا: هذه الآية صُدِّرت بالأمر وعطف الإماء، عُطف الصالحون على العباد الذين هم العبيد، والإماء على إمائكم وقال: على الأيامى، إذن دلَّ ذلك على اشتراك الكل في الوجوب فالآية بها الوجوب هذا أول دليل.
الدليل الثاني: دليل عقلي: السيد يملك رقبة عبده؛ بدليل أن له أن يبيعه، فإذا كان يملك رقبته فله أيضا أن يملك تَزويجه، فبملكه لرقبة عبده
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 634)؛ حيث قال: "الشرط (الثاني: رضا زوج مكلف)؛ أي: بالغ عاقل (ولو) كان المكلف (رقيقًا) نصًّا؛ فليس لسيده إجباره، لأنه يملك الطلاق فلا يجبر على النكاح كالحر، ولأنه خالص حقه ونفعه له فلا يجبر عليه كالحر، وإنما يزوجن عند الطلب، ولأن مقتضى الأمر الوجوب، وإنما يجب تزويجه إذا طلبه، وأما الأمة فالسيد يملك منافع بضعها والاستمتاع بها بخلاف العبد، والإجارة عقد على منافع بدنه وسيده يملك استيفاءها بخلاف النكاح".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(2/ 240)؛ حيث قال: "وقرأ الحسن": (والصالحين من عبيدكم)، وعبيد اسم للجمع".
دليل على أن له أن يُلزمه على النكاح، أي: يجبره عليه، قالوا: ولأن له أن يُؤجِّر بدنه؛ أي: يملك تأجير بدنه فكذلك له أن يُزوِّجهُ كالأمة، وقاسوا على الأمة؛ لأن الأمة للسيد أن يُلزمها، لا خلاف فيها، فالعلماء متفقون، لكنهم مختلفون في الذكر من العبيد فهذا دليلٌ نقلي وعقلي.
الدليل العقلي الأول: للشافعية والحنابلة قالوا: المملوك يملك إنهاء الزواج فيُسلِّم لهم الحنفية والمالكية بذلك، يقولون: فإذن من ملك إنهاء الزواج ملك ابتداءه؛ يعني: فإذن أجبره سيده أليس له أن يُطلِّق؟ يقولون: نعم، فليس للسيد أن يجبره.
الدليل العقلي الثاني: قالوا: إن الزواج هو خالص حقه، هو الذي سيتمتع بالزوجة، وهو الذي يستفيد منها، وهي التي ستقوم بخدمته، واستفادة السيد إنما هي تبع لكن الأصل أن الذي سيستفيد باستفادة كاملة المملوك، فقالوا: هذا هو خالص حقه، وما دام هذا خالص حقه فليس للسيد أن يجبره قياسًا على الحر، فكما أن الحر الكبير العاقل لا يجبر كذلك أيضًا المملوك لا يجبر، وأجابوا عن الآية في قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ} [النور: 32]، قالوا: ليس في الآية ما يدل على الوجوب؛ وإنما ذلك مقيد بالطلب؛ أي: إذا طلب هؤلاء الزواج وبخاصة بالنسبة للأيم إذا طلبوا ذلك، قالوا: والله تعالى عطف العبيد والإماء على الأيامى، فقال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} .
فدلَّ ذلك على أنه لا يُجبر، فينبغي ألا يُجبر على هذا الأمر؛ لأن هذا فعلًا هو حقه الخالص، وربما لو أُجبر على ذلك الأمر فسيطلق وفي النهاية الذي يخسر السيد؛ لأنه هو الذي سيقوم بمئونة الزواج، وهو المسؤول عن تزويجه، والزواج دائمًا يقوم على الحكمة، وهذه الشريعة بنيت على التيسير وعدم التشديد، وذلك ينبغي أن يُستأذن في ذلك وأن يؤخذ رأيه، والأولى هو مذهب الشافعية والحنابلة في هذه المسألة كالمسألة الأولى.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَلِ النِّكَاحُ مِنْ حُقُوقِ السَّيِّدِ؟ أَمْ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي جَبْرِ الْوَصِيِّ مَحْجُورَهُ).
من حقوقه؛ لأنهم قالوا: يملك رقبته، والآخرون قالوا: ليس من حقه؛ لأن النكاح حق خالصٌ للمملوك.
* أما الوصيُّ: يقصد على السفيه، ولو لم يكن سفيهًا لما احتاج إلى أن يكون عليه وصيٌّ، إذن هو محجورٌ عليه، فهل للوصي أن يجبر هذا السفيه على الزواج أم لا؟ هذا هو مراد المؤلف.
قوله: (وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَذْهَبِ)
(1)
.
يعني: موجود في مذهب مالك وفي غيره من المذاهب الأربعة
(2)
.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 202)؛ حيث قال: " (ص) وجبر أب ووصي وحاكم مجنونًا احتاج وصغيرًا وفي السفيه خلاف، (ش) يعني أن كلًّا من الأب ووصيه وإن سفل/ والحاكم يجبر المجنون إذا احتاج للنكاح لا للخدمة بأن خيف منه الفساد؛ لأن الحد وإن سقط عنه فلا يعان على الزنا وهذا إذا كان مطبقًا، فإن كان يفيق أحيانًا انتظرت إفاقته كما مر في المجنونة، وكذا يجبر الصغير لمصلحة كتزويجه من شريفة أو موسرة أو ابنة عمه، وكذا يجبر السفيه، وقيل: لا يجبر للزوم طلاقه، والصداق أو نصفه من غير فائدة، واعلم أن محل جبر الوصي في محجوره الذكر؛ حيث يكون له جبر الأنثى وأنه إنما يجبر الصغير حيث كان فيه مصلحة وكذا السفيه على القول به، وإن كان كل من الأب والوصي محمولًا في ذلك على المصلحة".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(3/ 65، 66)؛ حيث قال: " (قوله وللولي الآتي بيانه)؛ أي: في قوله الولي في النكاح العصبة بنفسه
…
إلخ، واحترز به عن الولي الذي له حق الاعتراض فإنه يخص العصبة كما مر، وعن الوصي غير القريب كما مر، ويأتي أيضًا. (قوله: إنكاح الصغير والصغيرة) قيد بالإنكاح؛ لأن إقراره به عليهما لا يصح إلا بشهود
…
أو بتصديقهما بعد البلوغ كما سيذكره المصنف آخر الباب، ولو قال: وللولي إنكاح غير المكلف والرقيق لشمل المعتوه ونحوه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (16/ 166)؛ حيث قال: "وإن كانت مجنونة جاز للأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأنه لا يرجى =
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النِّكَاحُ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ الْمَنْظُورِ لَهُ؛ أَمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْمَلَاذُّ؟).
من مصالح المنظور له؛ أي: من مصالح الموصى عليه أم لا؟ يعني: هل يُزوَّج لأجل الشهوة؟
والجواب: أن المسألة فيها تفصيل، والمعروف بين الفقهاء أن الذي يُقدِّر ذلك إنما هو الوصي، وعادة لا يُتخذ الإنسان وصيًّا إلا أن يكون أهلًا للوصية؛ لأن الذي يتخذ الوصي في الغالب هو الوالد أي: الأبُ، والأبُ دائمًا يختار من فيه الصلاح، فإن وجد أن في مصلحة الموصى عليه الزواج ففي هذه الحالة يُزوِّجه إذا خاف عليه من الوقوع في الحرام، فإذا عرف ذلك الوصي أو غلب على ظنه أن ذلك يحصل، ففي هذه الحالة يُزوِّجه، هل يجبره أم لا؟
الجواب: أن العلماء مختلفون:
- أما إذا لم يكن بحاجة إلى الزواج فلا يجوز له أن يُزوِّجه، قالوا: لأنه يترتب على تزويجه أمور:
أولًا: المهر.
ثانيًا: السُّكنى.
= لها حال تستأذن فيها، ولا يجوز لسائر العصبات تزويجها؛ لأن تزويجها إجبار وليس لسائر العصبات غير الأب والجد ولاية الإجبار، فأما الحاكم فإنها إن كانت صغيرة لم يملك تزويجها لأنه لا حاجة بها إلى النكاح، وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها إن رأى ذلك".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"نيل المآرب بشرح دليل الطالب" لابن أبي تغلب (2/ 145)؛ حيث قال: " (فيُجْبِرُ الأَب، لا الجدُّ، غيرَ المكلَّفِ) من أولادهِ، (فإن لم يكن أبٌ فوصيُّهُ)؛ أي: وصيُّ الأبِ، لقيامِهِ مقامَه، (فإنْ لم يكن) للأب وصيٌّ (فالحاكِمُ) يزوِّج (لحاجةٍ، ولا يصحُّ من غيرِهمْ أن يزوِّج غيرَ المكلفِ ولو رَضِي) لأنَّ رضاهُ غيرُ معتبرٍ".
ثالثًا: النفقة؛ أي: الإنفاق على الزوجة والمبيت وحقوق الزوجية إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة وهو ليس أهلًا لأنْ يقوم بها، ففي هذه الحالة قالوا: ليس له أن يُزوِّجه.
لكن لو قُدِّر أن هذا السفيه نفسه تزوج، فما الحكم هنا؟ هل يتم زواجه ويُقرُّ عليه أم لا؟ هذه أيضًا مسألة فيها خلاف بين العلماء
(1)
هل إذا أقرَّه الولي كان بمثابة تزويجه أم لا؟
(1)
السفيه لا يصح له الزواج بدون إذن القيم عليه عند المالكية والشافعية، خلافًا للحنفية والحنابلة فيجوز له أن يتزوج بلا إذن وليه.
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 102)؛ حيث قال: " (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن تزوج امرأة جاز نكاحها) ش: ولفظا "المبسوطين" جاز نكاحه، وبه قال أحمد. وقال الشافعي ومالك وأبو الخطاب الحنبلي: لا يجوز بغير إذن الولي؛ لأنه عقد معاوضة كالشراء، فلا يجوز بدون وليه م:(لأنه لا يؤثر فيه الهزل) ش: لأن النكاح لا يؤثر فيه الهزل؛ لأن الهزل فيه جد البناية شرح الهداية.
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (5/ 101)؛ حيث قال: " (ولولي سفيه فسخ عقده) ابن عرفة: نكاح السفيه بغير إذن وليه للولي إمضاؤه فإن رده قبل بنائه فلا شيء للزوجة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للرملي (7/ 286، 287)؛ حيث قال: " (ومن حجر عليه بسفه) لبلوغه سفيهًا، والحجر في هذا بمعنى دوامه وإن اختلف جنسه (لا يستقل بنكاح) كي لا يفني ماله في مؤنه، ولا يصح إقرار وليه عليه به ولا إقراره هو حيث لم يأذن له فيه وليه، وإنما صح إقرار المرأة به لأنه يفيدها، ونكاحه يغرمه (بل ينكح بإذن وليه أو يقبل له الولي) النكاح بإذنه لصحة عبارته فيه بعد إذن الولي له ووليه في الأول الأب فالجد فوصي أذن له في التزويج على ما في "العزيز" لكنه ضعيف وإن أطال السبكي وغيره في اعتماده، وفي الثاني القاضي أو نائبه، ويشترط حاجته للنكاح بنحو ما مر في المجنون، ولا يكتفى فيها بقوله بل لا بد من ثبوتها في الخدمة وظهور قرائن عليها في الشهوة، ولا يزوج إلا واحدة فإن كان مطلاقًا بأن طلق بعد الحجر أو قبله كما هو ظاهر ثلاث زوجات أو ثنتين". وانظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" لزكريا الأنصاري (2/ 49).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 178)؛ حيث قال: " (ويصح تزوجه)؛ أي: السفيه البالغ (بلا إذن وليه لحاجة) متعة أو خدمة؛ لأن النكاح لم يشرع لقصد المال ومع الحاجة إليه يكون مصلحة محضة بحيث يصح تزويج ولي السفيه له بغير إذنه إذن، فصحته من السفيه إذن بغير إذن وليه أولى".
ولكن نقول باختصار: طالما وُكِّلْت على هذا الوصيِّ، فستُسأل عنه أمام الله يوم القيامة، فإن كان في تزويجه حصانة له وعفة وحفظٌ لدينه وفرجه؛ فيجب عليك أن تزوِّجه، أما إذا كان في تزويجه ضياعٌ له ولزوجته فلا يجوز لك أن تُزوِّجه.
قوله: (وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّكَاحَ وَاجِبٌ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ).
ذكرنا أن الصحيح أن النكاح ليس بواجب؛ إلا في حالة إذا خشي الإنسان على نفسه من الوقوع في المحرم.
قوله: (وَأَمَّا النِّسَاءُ اللَّاتِي يُعْتَبَرُ رِضَاهُنَّ فِي النِّكَاحِ).
معنى هذا أن النساء على قسمين:
القسم الأول: نساءٌ يعتبر رضاهن أن يُستشرن؛ أي: يؤخذ رأيهن، يُقال لها: تقدم لكِ فلان فما رأيكِ فيه؟ ولابد أن يوصف، مثلًا من الأسرة الفلانية، ويتميز بكذا، هو من أهل الخير، وظيفته كذا، إلى آخره؛ يعني: أن تُعطى وصفًا دقيقًا طيبًا، وإن سُئِلْت عن شخص من الأشخاص فإن كنت تعلم فيه عيبًا شرعيًّا لا يصلح في هذه الأسرة، فتقول: هذا لا يصلح لكم؛ لأنك مستشار والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "المستشار مؤتمن "
(1)
، وليس لك أن تجلس وتبحث عن حياته وتُقلب صفحات عمره
(2)
، فربما أنك عرفته في صغره أو في أوائل عمره وتَحسَّن حاله واستقامت أموره،
(1)
أخرجه أبو داود (5128)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6700).
(2)
قال النووي في "منهاج الطالبين"(ص 205): "ومن استشير في خاطب ذكر مساويه بصدق".
وعقب عليه الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج"(4/ 223) قائلًا: "ومحل ذكر المساوئ عند الاحتياج إليه، فإن اندفع بدونه بأن لم يحتج إلى ذكرها كقوله: لا تصلح معاملته وجب الاقتصار عليه ولم يجز ذكر عيوبه".
وأصلحه الله ربما يكون خيرًا منك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"
(1)
.
فكم من الشباب نجدهم قد انغمسوا في الشهوات وانحرفوا وأضاعوا أوقاتهم في الملاهي، وإذا بالأمر يتحول فيصبح عبدًا صالحًا تجده مستقيمًا على خير ما تتمنى أن ترى عليه أفضل الشباب، وهذا نشاهده كثيرًا؛ لأن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك الرجل الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان؟ فغفر الله له سبحانه وتعالى قال: "من الذي يتألى عليَّ؟ "
(2)
.
فلا يجوز للإنسان أن يقول: هذا إنسان منحرف، لا يمكن أن يصلح، هذه أمور بيد الله؛ فكم من أناس انحرفوا عن الطريق السوي ثم عادوا إلى طريق الهداية والرشاد، وكم من أناس كانوا على خيرٍ وصلاح فانحرفوا وأخذتهم طرق الغواية والضلال، هذه كلها بمشيئة الله وإرادته، وكما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالخواتيم"
(3)
؛ ولذلك الإنسان دائمًا يسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
قوله: (فَاتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ رِضَا الثَّيِّبِ الْبَالِغِ)
(4)
.
هي التي يُعبَّر عنها بالأيم فيما مضى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيم حتى تسُتأمر" أي: يطلب أمرها ورأيها، "ولا تنكح البكر حتى تُستأذن" قالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال:"أن تسكت"
(5)
، وفي رواية: "إذنها
(1)
أخرجه البخاري (3374) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (2621) عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث "أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك".
(3)
أخرجه البخاري (6607) عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 8)؛ حيث قال: "وأجمع عوام أهل العلم على أن نكاح الأب ابنته الثايب بغير رضاها لا يجوز".
(5)
أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
صُماتها"
(1)
؛ يعني: سكوتها؛ لأن الثيب كما ذكرنا تزوجت وعرفت الرجال ما في الزواج من حلاوة ومرارة، فأدركت ما فيه؛ ولذلك ينبغي أن تحدد رأيها في هذا الموقف، أما هذه البكر الصغيرة فهي حيية، كيف يقال: فلان يريدك، إنسان غريب عنها فتجد في ذلك مشقة، لكن ربما هذا في هذا الزمن أصبح سهلًا، هذا كان صعبًا فيما مضى، أما الآن فربما في الغالب إذا سُئلت البكر تُعبِّر عن رأيها، وهذا هو الأولى شرعًا.
قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَالثَّيِّبُ
(2)
تُعْرِبُ
(3)
عَنْ نَفْسِهَا"
(4)
. إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
(5)
. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ وَفي الثَّيِّبِ الْغَيْرِ الْبَالِغِ).
"تُعرب عن نفسها"؛ يعني: تُصرِّح عما في نفسها وتُظهر ما عندها.
والعلماء قد اتفقوا على أنه لا يجوز للولي أن يجبر الثيب على الزواج، وقد حصلت قضية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن زوجة أُنيس بن قتادة لما قُتل في أحد، فوالدها زوَّجها من رجل من بني عمرو بن عوف، فذهبت تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخبره بأن والدها زوَّجها من زوج لا ترغب فيه، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك النكاح فتزوجت بعد ذلك أبا لبابة"
(6)
،
(1)
أخرجه البخاري (6971).
(2)
الثيب: التي قد تزوجت وبانت بأي وجه كان بعد أن مسها. انظر: "العين"(8/ 249).
(3)
تعرب عن نفسها: أي: تفصح. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 179).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1872) عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها". وصححه الألباني في "الإرواء"(1836).
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 281)؛ حيث قال: "وقد روينا عن الحسن أنه قال: نكاح الأب جائز على ابنته، بكرًا كانت أم ثيبًا، كرهت أو لم تكره".
(6)
أخرجه الدارقطني (4/ 334) عن أبي هريرة: "أن خنساء بنت خذام أنكحها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له؛ فرد نكاحها. فتزوجها أبو لبابة بن =
هذه القضية في صحيح البخاري وغيره، فلا يجوز لولي مهما كان أبًا أو جدًّا أو أخًا أو عمًا أو خالًا أو غير ذلك لا يجوز له في هذه الحالة أن يرغم ثيبًا على الزواج؛ لأن ذلك ثبت عن رسول الله ونحن مأمورون بأن نتبع ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعندنا صنفان: الأول: البكر، والثاني: البالغ الثيب أي: وصلت سن البلوغ، أو الثيب الصغيرة يعني: التي تزوجت قبل أن تبلغ، فهل هذه الثيب التي تزوجت صغيرة يؤخذ رأيها كالحال بالنسبة الثيب الكبيرة أو أنها تُعامل معاملة البكر؟
قوله: (مَا لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ مِنْهَا الْفَسَادُ. فَأَمَّا الْبِكْرُ
(1)
الْبَالِغُ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
وَابْنُ أبي لَيْلَى
(4)
: لِلْأَبِ فَقَطْ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى النِّكَاحِ).
= عبد المنذر فجاءت بالسائب بن أبي لبابة وكانت ثيبًا". وصححه الألباني بشواهده في "الإرواء" (1830).
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 148) عن أبي بكر بن محمد: "أن رجلًا من الأنصار يقال له: أنيس بن قتادة زوج خنساء بنت خذام، فقتل عنها يوم أحد، فأنكحها أبوها رجلًا، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني رجلًا، وإن عم ولدي أحب إلي منه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إليها".
(1)
البكر: العذراء الباقية على حالها الأولى، والجمع أبكار، والمصدر البكارة بالفتح.
انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 595)، و "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 251).
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 176)؛ حيث قال: "والبكر (ش) يعني: أن الأب له جبر ابنته البكر الصغيرة اتفاقًا ولا خيار لها إذا بلغت على المشهور".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 229)؛ حيث قال: " (ويستحب) (استئذانها)؛ أي: البكر البالغة العاقلة ولو سكرانة تطييبًا لقلبها، وعليه حملوا خبر مسلم: "والبكر يستأمرها أبوها" جمعًا بينه وبين خبر الدارقطني المار، أما الصغيرة فلا إذن لها، وبحث بعضهم ندبه في المميزة لإطلاق الخبر، ولأن بعض الأئمة أوجبه، ويستحب حينئذ عدم تزويجها إلا لحاجة أو مصلحة، ويندب أن يرسل ثقة لا تحتشمها لموليته وأمها أولى لتعلم ما في نفسها".
(4)
يُنظر: "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف القاضي (ص 179)؛ حيث =
يعني: إذا ظهر منها فجورٌ فالوضع يختلف، فإنه يُختار لها الخير والصلاح ولا تُترك في ذلك الأمر، فإنه لا يُنظر إلى رأيها في ذلك الأمر، وهي رواية للإمام أحمد
(1)
، فالآن تغير الأمر وأصبح الشافعي مع مالك.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَالثَّوْرِيُّ
(3)
وَالْأَوْزَاعِيُّ
(4)
وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ
(5)
: لا بد مِنِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْبِكْرِ الْمُعَنَّسَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ
(6)
).
وقال أبو حنيفة: وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد
(7)
أيضًا،
= قال: "قال: "وإذا زوج الرجل ابنته وقد أدركت، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: إذا كرهت ذلك لم يجز النكاح عليها لأنها قد أدركت وملكت أمرها فلا تكره على ذلك. بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها"، فلو كانت إذا أكرهت أجبرت على ذلك لم تستأمر. وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: النكاح جائز عليها وإن كرهت".
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 55)؛ حيث قال: "البكر البالغة، له إجبارها أيضًا. على الصحيح من المذهب مطلقًا. وهو ظاهر ما قدمه المصنف هنا، حيث قال: "وبناته الأبكار". وعليه جماهير الأصحاب".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 146)؛ حيث قال: "ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح، وإذا استأذنها فسكتت أو ضحكت أو بكت فذلك إذن منها، وإن أبت لم يزوجها وإذا استأذن الثيب فلا بد من رضاها بالقول".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 272)؛ حيث قال: "وقالت طائفة: لا يجوز إنكاح الأب ابنته البكر البالغ إلا بإذنها، كذلك قال الأوزاعي، وسفيان الثوري".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 272)؛ حيث قال: "وقالت طائفة: لا يجوز إنكاح الأب ابنته البكر البالغ إلا بإذنها، كذلك قال الأوزاعي، وسفيان الثوري".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 273)؛ حيث قال: "وكذلك قال [أبو ثور]، وأبو عبيد".
(6)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 176)؛ حيث قال: "والبالغ غير العانسة بل (ولو) كانت (عانسًا) على المشهور، وقيل: ليس له جبرها كما عند ابن وهب؛ لأنها لما عنست صارت كالثيب". وانظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 222).
(7)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 40)؛ حيث قال: "وأما البكر البالغة العاقلة، فعن أحمد روايتان
…
والثانية: ليس له ذلك، اختارها أبو بكر".
والشافعي مع مالك، وأحمد له روايتان في مذهب الحنابلة، البكر المعنسة
(1)
؛ يعني: التي تجاوزت السن المعتاد الذي يتزوج عنده النساء، دخلت في العنوسة، وأصبحت كبيرة، فعادةً النساء مثلًا أن يتزوجن في سن العشرين وإلى الخمس وعشرين، وهذه وصلت الثلاثين فيعتبر دخلت في سن العنوسة.
وقضية العنوسة: إن كان سببها ولي الأمر فهذا لا يجوز له، فمثلًا الأب أو الأخ يترك هذه البنت يُقبل عليها الأزواج فيصرفهم ثم بعد ذلك يبدأ الانصراف عنها إما أن تكون مثلًا موظفة، مُدرِّسة ليستفيد من راتبها وليستفيد من خدمتها، هذه أمور ينبغي أن نتقي الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان مأمور بأن يتقي الله في نفسه وفيما من هم تحت ولايته، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"
(2)
.
فلا يجوز لولي الأمر أن يقف حجر عثرة أمام هذه البنت لمصالح تعود عليه ويقف متشددًا ويقول: لا بد أن يأتيني من الأسرة الفلانية، أنا رجل غني لا بد أن يأتيني كذا، أو أنا من قبيلة كذا لا بد أن يأتيني كذا، أو يضع أوصافًا مُعجزة، لا بد أن يكون حاصلًا على شهادة كذا وعنده كذا وفي وظيفة كذا، هذه أمور لا يُنظر إليها كثيرًا، فابحث عن صاحب الدين، هذا الذي تتكلم عنه وتضع المواصفات له ربما أنك تجده، لكن بعد وقت من الزمن ربما تتغير الأحوال، فكم من أناس كنا نراهم في أسفل الأقوام فيرفعهم الله سبحانه وتعالى بالعلم فتتغير الأحوال، لأن هذا العلم
(1)
العَانِسُ: يقال: عنست الجارية تعنس بالضم عنوسًا. وهي: التي طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار، التي تُعجِّز في بَيْت أبويها ولا تتزوَّج. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 953)، "الغريب المصنف"(2/ 404).
(2)
أخرجه البخاري (5200) واللفظ له، ومسلم (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
يرفع الله به أقوامًا ويضع به آخرين
(1)
، وإما أن يرفعه الله بالمال وبمكانته في المجتمع، فالإنسان في الغالب لا يبقى على حال معينة، تجد أن الإنسان صحيحًا قويًّا ثم تتغير الأحوال فتجده ضعيفًا في بدنه، وربما ترى إنسانًا ضعيفًا في بدنه فتتغير الأحوال فتراه من المُعمَّرين، ترى إنسان غنيًّا ثم بعد ذلك تمر عليه السنون ويختلف فيتحول فقيرًا، ويصبح هذا الفقير يحتاج إليه ذلك الذي كان فقيرًا فاغتنى، والله تعالى يقول:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
فكثرة المال ليست هي المقياس الدقيق في هذا الأمر؛ فالإنسان يبحث لابنته عن إنسانٍ يسترها في الخير والصلاح، ولا مانع أنك تجد إنسانًا جمع بين الصلاح والمال، وهذا شيء طيب، ولكن لا يجوز أن أقف في وجه هذه البنت وأضع شروطًا فيها تعجيز، هذا لا ينبغي، وقد قالت عائشة رضي الله عنها:"أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة"
(2)
.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ
(3)
فِي هَذَا لِلْعُمُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام من قوله:"لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ إِلَّا بِإِذْنِهَا"
(4)
، ...........................
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (817) عن عمر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(25119)، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 69)؛ حيث قال: "مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويسمى دليل الخطاب".
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده"(6136) عن عبد الله بن عمر قال: توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص قال: وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني: إلى أمها - فأرغبها في المال فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى =
وَقَوْلِهِ: "تُسْتَأْمَرُ
(1)
الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا" خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(2)
).
قالوا: الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأذن وإذنها صماتها، فهنا قسَّم الرسول صلى الله عليه وسلم النساء إلى قسمين، فأثبت الحق لأحدهن فدلَّ ذلك على نفيه عن الأخرى، فثبوته للثيب دليلٌ على نفيه عنها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ إِلَّا بِإِذْنِهَا"
(3)
، له مناسبة، وهو أن عثمان بن مظعون لما مات أخوه قدامة أراد أن يُزوِّج ابنة أخيه وهذه البنت ابنة خالة لعبد الله بن عمر، فشكتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا الحديث عليه الصلاة والسلام بمعنى: أن اليتيمة لا تُجبر.
"تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا"، هذا جزءٌ من حديث، "فإن سكتت فذلك إذنها"
(4)
، وفي رواية:"فذلك رضاها، وإن أبت فلا تُكره"
(5)
، وفي رواية:"لا جواز عليها"
(6)
، أي: لا إرغام لها في الزواج.
قوله: (وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ: أَنَّ ذَاتَ الْأَبِ بِخِلَافِ الْيَتِيمَةِ).
اليتيمة هي: التي مات أبوها ولم تبلغ، والأم لا أثر لها؛ لأن اليُتم
= بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها" قال: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة. وحسن إسناده الأرناوؤط.
(1)
الاستيمار: الاستئذان وهو استفعال من الأمر فهو طلب أمرها وسؤال أمرها بذلك. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 40).
(2)
أخرجه أبو داود (2093) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها". وحسنه الألباني في "الإرواء"(1834).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
أخرجها أحمد (19516)، وقال الأرناؤوط:"صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين".
(6)
أخرجها الترمذي (1109) وغيره، وحسنها الألباني في "الإرواء"(1834).
إنما هو ينسب إلى عدم وجود الأب لا عدم وجود الأم، لكن هذا اليُتم لا يستمر مع الإنسان، فكثيرٌ من الناس يموت أبوهم وهم في السن التي لم يبلغوا فيها، فهل يظل حتى أن يصبح شيخًا يقال له: يتيم؟ لا، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يُتم بعد بلوغ"
(1)
، فاليُتم يزول ببلوغ الإنسان سن الرشد، فما قبل ذلك يسمى يتيمًا؛ لأنه بحاجة إلى رعاية وعناية.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا فضل من يمسح على رأس اليتيم
(2)
، ومن يُحسن إلى اليتيم
(3)
، ومن يتصدق على اليتيم
(4)
، من يلاطف اليتيم ولو بكلمات بسيطات فيها رحمة وعطفٌ وحنان، لا شك أن الإنسان يُثاب على هذا العمل.
والله سبحانه وتعالى حذر من أكل أموال اليتامى فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فما بالك بأولئك الذين يستضعفون اليتامى فيستولون على أموالهم ويغشونهم ويستخدمونهم استخدامًا شديدًا بالقوة، إن كان في
(1)
أخرجه أبو داود (2873) قال علي بن أبي طالب: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1244).
(2)
منها: ما أخرجه أحمد في "مسنده"(7576) عن أبي هريرة: أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم". وضعف إسناده الأرناؤوط.
(3)
منها: ما أخرجه أحمد في "مسنده"(22153) عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى". وقال الأرناؤوط: "صحيح لغيره دون الشطر الأول منه بقصة المسح على رأس اليتيم".
(4)
منها: ما أخرجه النسائي (2581) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو إن أعطى منه اليتيم والمسكين وابن السبيل، وإن الذي يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة". وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (3215).
العمل زاد عليه في العمل، إن كان في الخطاب يلومه ويعاتبه، فينبغي أن تتقي الله فيه؛ لأنك لا تدري ربما يمر هذا بأولادك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحضنا على أن نَبَرَّ بوالدينا لتَبَرَّنا أبناؤنا
(1)
؛ فكذلك أيضًا ينبغي أن نُحسن معاشرة هؤلاء اليتامى المساكين حتى يُحسن الله إلى أولادنا، فاعمل صالحًا تجد ذلك في نفسك وفي أبنائك.
قوله: (وقوله عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاس الْمَشْهُورِ: "وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ").
هذا جزء من الحديث الذي أخرجه الجماعة إلا البخاري: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأمر وإذنها صماتها"
(2)
، فإذا أُطلق الجماعة: فهم السبعة: البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد، لكن البخاري ليس معهم، إذن أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الستة، وأخرجه أيضًا البيهقي وغيره، المشهور، لأن المؤلف وضع لنا مصطلحًا في أول الكتاب، فإذا قلت: الحديث المشهور فأعني به: ما اتفق عليه الشيخان وما رواه أحدهما؛، يعني: ما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما وإذا قلت: الثابت، فأعني به: ما أخرجه أحدهما، فهذا نسميه على مصطلح المؤلف حديثٌ ثابت؛ لأن أي حديث في "الصحيحين" أو في أحدهما لا يحتاج أن تبحث عنه، أما أن صحيح البخاري أصح أو صحيح مسلم هذه مسألة تكلم فيها العلماء، لكن الصحيح أن ما في البخاري أصح
(3)
؛ لأن شروطه أقوى.
(1)
معنى حديث أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 170) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم
…
" الحديث. وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2043).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "نزهة النظر" لابن حجر (ص 73 - 75)؛ حيث قال: "قد صرح الجمهور بتقديم "صحيح البخاري" في الصحة، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه
…
أما رجحانه من حيث الاتصال: فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى =
تَشَاجَرَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ
…
لَدَيَّ وَقَالُوا أَيَّ ذَيْنِ تُقَدِّمُ
فَقُلْت لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّةً
…
كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ
(1)
ولذلك تجد في البخاري في بعض رواته ما تجد في رواة مسلم، لكن مسلم فاق في حسن الصنعة
(2)
؛ ولذلك تجد أن البحث في صحيح مسلم أسهل، لكن الحمد لله الآن أصبح لا يوجد مشقة، فمثلًا حديث:"إنما الأعمال بالنيات"
(3)
.
فأحيانًا طلبة العلم يقولون: هذا ليس في البخاري مع أنه موجود في موضع آخر، ولذلك يقول العلماء: إن فقه البخاري في تراجمه
(4)
إلى
= عنه، ولو مرة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة
…
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط: فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددًا من الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري
…
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال: فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددًا مما انتقد على مسلم".
(1)
منسوبة لابن الدَّيْبَع. نسبها إليه الأمير الصنعاني. انظر: "التحبير لإيضاح معاني التيسير"(1/ 50).
(2)
يُنظر: "نزهة النظر" لابن حجر (ص 74)؛ حيث قال: "نقل عن بعض المغاربة أنه فضل "صحيح مسلم" على "صحيح البخاري" فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب".
(3)
أخرجه البخاري في مواضع سبعة (1، 54، 2329، 3685، 4783، 6311، 6553)، ومسلم (1907).
(4)
وصف ابن حجر تراجم الإمام البخاري بكونها حيرت الأفكار وأدهشت العقول، وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال، التي انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه.
وقال في "الفتح"(1/ 13): "وإنما بلغت هذه الرتبة وفازت بهذه الخطوة لسبب عظيم أوجب عظمها، وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال: شهدت عدة مشايخ يقولون: حول البخاري تراجم جامعه يعني بيضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين". ثم فصل القول فيها في مقدمة "فتح الباري"(1/ 13 - 14) فقال: "وذكر أن منها ما يكون دالًّا بالمطابقة كما يورده تحتها من أحاديث
…
وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم به أو بعضه أو معناه، وكثيرًا ما يترجم بلفظ الاستفهام حيث لا يجزم بأحد الاحتمالين، وكثيرًا ما يترجم =
جانب كونه مُحدِّثًا وهبه الله سبحانه وتعالى حصافةً
(1)
ودقةً وفهمًا عميقًا في الفقه، ولذلك تجد أنه يضع التراجم التي تدل على فقهه بل إنه كثيرًا ما يضع لك الترجمة وهي جزء من حديث لا يكون على شرطه وقد يكون هذه الترجمة جزءًا أو حديثًا في صحيح مسلم أو عند أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد وغير ذلك.
قوله: (يُوجِبُ بِعُمُومِهِ اسْتِئْمَارَ كُلِّ بَكْرٍ، وَالْعُمُومُ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، مَعَ أَنَّهُ خَرَّجَ مُسْلِمٌ
(2)
فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادَةً: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا"، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ).
فهذا يشهد له قصة الفتاة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، إن أبي زوَّجني بابن أخيه ليرفع بي خسيسته؛ أي: ليجبر النقص والعيب الذي فيه، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه، والرسول جعل الخيار لها، فقالت:"أجزت ما صنع والدي إلا أنني أردت أن يُعلم أن للنساء حقًّا في ذلك"
(3)
.
فالإسلام نظام كامل ودقيق لا تجد فيه عوجًا ولا أمتًا
(4)
، ليس فيه
= بأمر لا يتضح المقصود منه إلا بالتأمل، وكثيرًا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤدي معناه، تارةً بأمر ظاهر وتارةً بأمر خفي، وربما اكتفى أحيانًا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معه أثرًا أو آية، فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطه. لهذه الأمور وغيرها اشتهر عن جمع من الفضلاء ما أوردناه سلفًا:"فقه البخاري في تراجمه".
(1)
حصافة: يقال: رجل حصيف: إذا كان جيد الرأي محكم العقل. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 148).
(2)
أخرجه مسلم (1421/ 68).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
عوجًا ولا أمتًا: أي: لا انخفاض فيه ولا ارتفاع. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 241).
خلل، يعالج كل مشكلة، فلا يوجد شيء أعظم من هذا الدين ولا أشمل منه، استوعب كل قضية ووضع الحل لكل مشكلة وكل مسألة، وإن كان هناك نقصٌ فليس في هذا الدين العظيم، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، فإن كان هناك نقصٌ فهو فينا نحن الذين ننتسب إلى الإسلام، هل أدَّينا حق الإسلام؟ هل تمثَّلنا بأخلاق الإسلام سنُسأل عن ذلك أمام الله سبحانه وتعالى.
فالأب كما في الأحاديث له أن يجبر ابنته البكر، ولكن الأولى أن يَستأذنها، وأقل ما يقال في ذلك الاستحباب، وكلام العلماء الذين يقولون: يجبرها، هم ينظرون إلى حكمٍ آخر؛ لأنه: لو أجبر الثيب ولم ترضَ فالنكاح يُفسخ، فالبكر لو أُجبرت النكاح صحيح، هذا المقصود ولكن الصحيح والأصل والأولى والأكمل أن تُستاذن البكر والثيب معًا.
قوله: (وَأَمَّا الثَّيِّبُ الْغَيْرُ الْبَالِغِ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
وَأَبَا حَنِيفَةَ
(2)
قَالَا: يُجْبِرُهَا الْأَبُ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْبِرُهَا
(3)
).
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 176)؛ حيث قال: " (ص) والثيب إن صغرت (ش) يعني: أن الأب له أن يجبر ابنته الثيب إذا كانت صغيرة؛ لأنها في حكم البكر يريد إذا ثيبت بنكاح صحيح فلو أزيلت بكارتها بغير الجماع كما لو أزيلت بعارض من عود دخل فيها أو وثبة وما أشبه ذلك؛ فلا خلاف أن له جبرها وإليه أشار بقوله: (أو بعارض) لبقاء الجهل بالمصالح كما كانت قبل الثيوبة؛ فلو أزيلت بكارتها بوطء حرام كما لو زنت أو زني بها أو غصبت فالمشهور وهو مذهب "المدونة" أن له جبرها".
(2)
يُنظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 333)؛ حيث قال: " (ولا يجبر ولي بالغة) على النكاح بل يجبر الصغيرة عندنا ولو ثيبًا؛ لأن ولاية الإجبار ثابتة على الصغيرة دون البالغة".
(3)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (7/ 72)؛ حيث قال: "فإن كانت صغيرة .. لم تزوج حتى تبلغ)؛ لأن الأب إنما يجبر البكر، والثيب يشترط في تزويجها الإذن، ولا يعتبر إلا بعد البلوغ إجماعًا، فامتنع تزويجها قبله".
رجع الاتفاق بين الإمامين: أبي حنيفة ومالك؛ يعني: هناك تقارب بين المذهبين: الحنفي والمالكي، وهناك تقارب بين المذهبين: الشافعي والحنبلي
(1)
، وهذا الذي نسميه اختلافٌ يؤدي إلى وفاق قُصِدَ به الوصول إلى الحق.
قوله: (وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: إِنَّ فِي الْمَذْهَبِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قولٌ: إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ
(2)
، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يُجْبِرُهَا وَإِنْ بَلَغَتْ، وَهُوَ قَوْلُ سُحْنُونٍ
(3)
).
هذه كلها تفصيلات في مذهب مالك، وهي تفصيلات في المذاهب الأخرى أيضًا، والمؤلف في ذلك خالف منهجه، فهو هنا يقول: بأنه اقتصر على أصول المسائل ولم يُعوِّل على الفروع، وذكر في كتاب القذف:"وإن أنسأ الله في عمري فسأضع فروعًا في مذهب مالك"، هنا خالف فبدأ يتتبع بعض الفروع أو الخلافات المذهبية.
قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يُجْبِرُهَا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ، وَهُوَ قَوْلُ أبي تَمَّامٍ
(4)
، وَالَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَهْلُ مَسَائِلِ الْخِلَافِ
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 43)؛ حيث قال: " (و) للأب أيضًا تزويج (ثيب لها دون تسع سنين)؛ لأنه لا إذن لها (بغير إذنهم)؛ أي: البنين الصغار والمجانين والبنت البكر والثيب التي لها دون تسع سنين".
(2)
سيأتي.
(3)
انظر الذي بعده.
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 477)، حيث قال:"إلا أن تكون تأيمت من زوج بنكاح فاسد أو صحيح قبل البلوغ وبعد الدخول فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب يجبرها على النكاح ما لم تبلغ. والثاني: أنه يجبرها عليه وإن بلغت. والثالث: أنه لا يجبرها وإن لم تبلغ. حكى هذا القول النخعي عن أبي تمام، فإن كانت يتيمة ذات وصي فلا يزوجها الوصي قبل البلوغ، ويزوجها بعد البلوغ، ويكون إذنها صماتها على قول من رأى أن الأب يجبرها على النكاح، وهو قول سحنون".
كَابْنِ الْقَصَّارِ
(1)
وَغَيْرِهِ عَنْهُ
(2)
).
الذي يهمنا هنا أن نبين ما في الكتاب، وأن ننظر إلى أهم المسائل وما هو الظاهر لنا من الحق إن شاء الله، وهذا هو الذي يتفق فيه مع أبي حنيفة رحمهم الله جميعًا -.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْعُمُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ إِلَّا بِإِذْنِهَا").
قوله: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا"، هذا جزءٌ من حديث خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ:"فإن سكتت فذلك إذنها"
(3)
وفي رواية: "فذلك رضاها، وإن أبت فلا تُكره"
(4)
وفي رواية: "لا جواز عليها"
(5)
أي: لا إرغام لها.
قوله: (يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَاتَ الْأَبِ لَا تُسْتَأْمَرُ إِلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنِ اسْتِئْمَارِ الثَّيِّبِ الْبَالِغِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا"
(6)
يَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ وَغَيْرَ الْبَالِغِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:"لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"
(7)
يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ).
(1)
لم أقف على قول القصار في هذه المسألة.
(2)
انظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 299)؛ حيث قال: "الثيب الصغيرة يجبرها الأب كالبكر؛ أصيبت بنكاح أو غيره، وبه قال أبو حنيفة".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
تقدَّم تخريجه.
(7)
أخرجه مسلم (1421) عن ابن عباس.
ذكرنا تفصيل ذلك كله، على ما قاله الشافعي
(1)
: وهي رواية للإمام أحمد أيضًا
(2)
.
قوله: (وَلاخْتِلَافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْقِيَاسِ مِنْ مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُجْبِرُ الْبِكْرَ غَيْرَ الْبَالِغِ، وَأَنَّهُ لَا يُجْبِرُ الثَّيِّبَ البَالِغَ إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا فِيهِمَا جَمِيعًا كَمَا قُلْنَا اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ الْإِجْبَارِ هَلْ هُوَ الْبَكَارَةُ؟ أَوِ الصِّغَرُ؟).
إذن هناك مَن تجبر اتفاقًا وهي الصغيرة البكر، وهناك من لا تجبر اتفاقًا وهي الثيب وإنما يؤخذ رأيها، فبقيت البكر الكبيرة.
قوله: (فَمَنْ قَالَ: الصِّغَرُ قَالَ: لَا تُجْبَرُ الْبِكْرُ الْبَالِغُ. وَمَنْ قَالَ: الْبَكَارَةُ قَالَ: تُجْبَرُ الْبِكْرَ الْبَالِغ، وَلَا تُجْبَرُ الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ. وَمَنْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْإِجْبَارَ إِذَا انْفَرَدَ قَالَ: تُجْبَرُ الْبِكْرُ الْبَالِغُ وَالثَّيِّبُ الْغَيْرُ الْبَالِغِ. وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ تَعْلِيلُ أبي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّالِثُ تَعْلِيلُ مَالِكٍ. وَالْأُصُولُ أَكْثَرُ شَهَادَةً لِتَعْلِيلِ أبي حَنِيفَةَ
(3)
، وَاخْتَلَفُوا فِي الثُّيُوبَةِ الَّتِي تَرْفَعُ الْإِجْبَارَ).
المؤلف عاد مرة أخرى ليبين لنا هل في طلاق الثيب يشمل كل ثيب؛ لأن الأصل أن تكون موطوءة حلالًا؛ أي: بعقد صحيح وبنكاح صحيح، لكن قد يقع عليها وطءٌ غير صحيح، إما أن تجبر على ذلك وإما ألا تجبر، ولا يختلف الأمر بالنسبة للإجبار وعدمه في هذه المسألة؟
والجواب: هذه مسألة انقسم فيها العلماء إلى قسمين:
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
الأول: منهم من قيد الثيوبة بالثيوبة الشرعية وهي التي تنكح نكاحًا شرعيًّا.
الثاني: منهم من قال: لا هي التي توطأ في قُبلها سواء كان ذلك عن طريق الحلال وهو الأصل، أو عن طريق الحرام فهي تسمى ثيبًا فتستأذن.
قوله: (وَتُوجِبُ النُّطْقَ بِالرِّضَا أَوِ الرَّدَّ. فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
إِلَى أَنَّهَا الثُّيُوبَةُ الَّتِي تَكُونُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ).
إما أن تكون بنكاحٍ صحيح وهو: الزواج الصحيح، وأن يكون هذا الذي وطئ له شبهة النكاح بأن يتصور أنه يستحق هذا النكاح، وإما أن يكون في ملك وهذا بالنسبة للمولى؛ أي: للأمة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و (حاشية الدسوقي)(2/ 223)؛ حيث قال: " (و) جبر (الثيب)، ولو بنكاح صحيح (إن صغرت أو) كبرت بأن بلغت وثيبت (بعارض) كوثبة أو ضربة (أو بحرام) زنا أو غصب، ولو ولدت منه فيقدم الأب هنا على الابن، (وهل) يجبرها (إن لم يتكرر الزنا) حتى طار منها الحياء أو يجبرها مطلقًا وهو الأرجح (تأويلان لا) إن ثيبت البالغة (بـ) نكاح (فاسد) مختلف فيه أو مجمع عليه ودرأ الحد فلا يجبرها (وإن) كانت (سفيهة) ولا يلزم من ولاية المال ولاية النكاح فإن لم يدرأ الحد جبرها إلحاقًا له بالزنا فهو داخل في قوله أو بحرام".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 119)؛ حيث قال: " (ومن زالت بكارتها بوثبة أو حيضة أو جراحة أو تعنيس أو زنا فهي بكر) حتى تكون أحكامها كأحكام البكر في التزويج، فأما إذا زالت بكارتها بوثبة أو حيضة أو جراحة أو تعنيس فلأنها بكر حقيقة؛ لأن مصيبها أول مصيب لها
…
وفيه خلاف الشافعي، هو يقول إن البكر اسم لامرأة عذرتها قائمة والثيب من زالت عذرتها وهذه قد زالت عذرتها فتكون ثيبًا، ولنا أن البكر إنما اكتفي بسكوتها لأجل حيائها، وهذا معنى قائم وهي بكر حقيقة على ما بينا؛ ولهذا لو أوصى لأبكار بني فلان تدخل في الوصية، وأما مسألة شراء الجارية فقد قيل: لا يردها إذا أقر المشتري بذلك؛ فلنا أن نمنع، ولئن سلمنا أن المعتاد بين الناس في اشتراط البكارة صفة العذرة وهذه بكر، وليست بعذراء فيردها والحكم في مسألتنا تعلق باسم وهو باق وأما إذا زالت بكارتها بالزنا فالمذكور هنا قول أبي حنيفة".
قوله: (وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ بِزِنًا وَلَا بِغَصْبٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: كَلُّ ثُيوبَةٍ تَرْفَعُ الْإِجْبَارِ).
يعني: أن تكون بزنا سواء كان ذلك إجبارًا أو برضاها، هذا عند الحنفية يخرجون ذلك فلا تسمى ثيبًا في الاصطلاح الشرعي؛ لأن تعريف الثيب عندهم في هذا الباب هي: الموطوءة في فرجها سواءٌ كان هذا الوطء من نكاح صحيح أو من شبهة أو من حرام فما دام الوطء قد وقع في القبل فإنها أصبحت ثيبًا؛ لأنها قد زالت بكارتها.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا"
(2)
بِالثُّيُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؟ أَمِ بِالثُّيُوبَةِ اللُّغَوَّيةِ؟).
لا شك أن الحديث أطلق: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّهَا"
(3)
؛ لكن
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 247)؛ حيث قال: " (وسواء) في حصول الثيوبة واعتبار إذنها (زالت البكارة بوطء) في قبلها (حلال) كالنكاح (أو حرام) كالزنا أو بوطء لا يوصف بهما كشبهة
…
بقوله: بالوطء الحلال أو غيره؛ لأن وطء الشبهة لا يوصف بحل ولا بحرمة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون في نوم أو يقظة (ولا أثر لزوالها بلا وطء) في القبل (كسقطة) وحدة طمث وطول تعنيس وهو الكبر أو بأصبع
…
(في الأصح) وعبر في "الروضة" بالصحيح بل حكمها حكم الأبكار؛ لأنها لم تمارس الرجال فهي على غباوتها وحيائها، والثاني: أنها كالثيب فيما ذكر، وصححه المصنف في "شرح مسلم" لزوال العذرة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 46)؛ حيث قال: " (وإذن الثيب الكلام) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها". رواه الأثرم وابن ماجه (وهي)؛ أي: الثيب (من وطئت في القبل) لا في الدبر (بآلة الرجال) لا بآلة غيرها (ولو) كانت وطئت (بزنا) لأنه لو وصى للثيب دخلت في الوصية ولو وصى للأبكار لم تدخل فيهن (وحيث حكمنا بالثيوبة) بأن وطئت في القبل بآلة رجل (وعادت البكارة لم يزل حكم الثيوبة) لأن الحكمة التي اقتضت التفرقة بينها وبين البكر مباضعة الرجال ومخالطتهم، وهذا موجود مع عود البكارة".
(2)
أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
(3)
تقدَّم تخريجه.
هنا اختلفوا؛ لأن الحنفية والمالكية يقولون: إن الإذن هو خاص بالنكاح الصحيح، وهذه فلا تدخل في ذلك، وربما تزول الثيوبة بغير نكاح بمعنى: أن الفتاة تقفز فتذهب بكارتها أو ربما تعبث بنفسها بيدها أو بعصا أو بآلة أو غير ذلك فتزول بكارتها فمثل هذا لا تدخل في الثيب التي يُؤخذ رأيها فهذه تعتبر بكرًا، والقصد هنا عند الشافعية والحنابلة، أما عند المالكية والحنفية: لا يرون الثيوبة بالنسبة للمتزوجة زواجًا صحيحًا أو بشبهة أو أن يكون ذلك عن طريق نكاحًا صحيحًا.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُجْبِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ الْبكْر
(1)
، وَلَا يَسْتَأْمِرُهَا؛ لِمَا ثَبَتَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِنْتَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَبَنَى عليها بِنْتَ تِسْعٍ بِإِنْكَاحِ أبي بَكْرٍ أَبِيهَا رضي الله عنه").
جاء في "الصحيحين": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها" يعني: دخل عليها أو دخل بها "وهي بنت تسعٍ"
(2)
.
وفي رواية مسلم
(3)
: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع"؛
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 8)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة ولا يستأذنها، واختلفوا هل تجبر ابنته الكبيرة على النكاح أم لا".
(2)
أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422) عن عائشة رضي الله عنها قالت:"تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج، فوعكت فتمرق شعري، فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة، ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها، لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئًا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمتني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين".
(3)
أخرجه مسلم (1422/ 71) عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع سنين، ولُعَبُها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة".
ولذلك أشار المؤلف إلى الروايتين ست أو سبع، لكن هو دخل بها وهي بنت تسع.
ومما يدل على ذلك أيضًا أن عليًّا رضي الله عنه زوَّج عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهي صغيرة
(1)
. هذا دليل آخر على جواز ذلك؛ فهذا حصل من صحابيين جليلين واثنين من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعًا -.
وقضية عائشة رضي الله عنها هناك من العلماء من علقها وقال: إن هذه كانت في أول الأمر؛ لأنها كانت في مكة وكان ذلك قبل الهجرة، وربما لا يكون في ذلك دليلٌ صريحٌ على عدم الاستئذان، إنما كان هذا في أول الأمر فقد يكون قبل الاستئذان، لكن الحقيقة أن ذلك جاء مطلقًا فهو دليل صريحٌ على أن الصغيرة لا تستأذن.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْخِلَافِ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَة)
(2)
.
ابن شُبرمة يرى أن الصغيرة تستأذن مطلقًا وإن لم تبلغ، وإلَّا فهو على عكس مذهب الجمهور.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَلْ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ غَيْرُ الْأَبِ؟ وَالثَّانِيَةُ: هَلْ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَ غَيْرُ الْأَبِ؟ فَأَمَّا هَلْ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ غَيْرُ الْأَبِ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يُزَوِّجُهَا الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَالْأَبُ فَقَطْ).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 163) عن عكرمة قال: تزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي جارية تلعب مع الجواري، فجاء إلى أصحابه فدعوا له بالبركة، فقال: إني لم أتزوج من نشاط بي، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة" إلا سبَبِي ونسَبِي"، فأحببت أن يكون بيني وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 6)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن تزويج أب الصغيرة لها جائز عليها، إلا ابن شبرمة فإنه قال: لا يجوز نكاح صغيرة على حال".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 21)؛ حيث قال: "ولا يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أحد =
هذه المسألة أُلخص لكم الخلاف فيها بين الشافعي والجمهور، ومعنى ذلك أن الأئمة الثلاثة على خلاف مذهب الشافعية؛ لأن الشافعية عندهم في هذا المقام لا يفرقون بين الأب والجد فالأحكام التي تثبت للأب في الولاية تنقل عندهم في الفقه؛ لأنه الأصل، وفي بعض مسائل أيضًا أن الشافعية يرون أن الذي يزوج هو الأب فعندما نأتي لترتيب الولي الأب وإن علا؛ يعني: الجد فأعلى، وبعد ذلك ينتقلون للإخوة ولا يرون أن الابن يزوج أمه؛ لأنهم يرون أن ذلك ربما يراه الابن مسبَّةً له، وعار وسيأتي التعليق على ذلك إن شاء الله.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا الْأَبُ فَقَطْ، أَوْ مَنْ جَعَلَ الْأَبُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا عَيَّنَ الزَّوْجَ إِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةُ وَالْفَسَادُ).
خُص الأب بذلك؛ لأن عنده من الشفقة والرحمة والعطف ما يمنعه من أن يجحف حق ابنته، أما أن يوجد شداد ونفور بين الرجل وبنته وزوجته يرميهما بعيدًا ويقاطعهم مدة طويلة، هذا لا ينبغي، والبنات من باب الصلة والبر ألا يقطعن الصلة بأبيهم والله أوصى بالصلة بالوالدين المشركَيْن فما بالك بالأب المسلم، والولاية إذا امتنع الأب فعرضًا تنتقل إلى غيره عندما يحصل الشجار ينتقل إلى السلطان فإنه وليُّ من لا وليَّ له،
= غير الآباء، وإن زوجها فالتزويج مفسوخ، والأجداد آباء إذا لم يكن أب يقومون مقام الآباء في ذلك".
(1)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 10)؛ حيث قال: " (ولا يزوج) الوصي مطلقًا (الصغيرة) التي في ولايته (إلا أن يأمره الأب بإنكاحها) أو يعين له الزوج والفرق بين الطفل يجوز للولي تزويجه إذا طلب وكان في نكاحه مصلحة دون الطفلة، أن الطفل إذا بلغ وكره النكاح له الفسخ عن نفسه، بخلاف الأنثى لا قدرة لها على ذلك لأن العصمة ملك للزوج، والحاصل: أن الوصي إن أمره الأب بالإجبار أو عين له الزوج كان له جبر الذكر والأنثى، وأما إن لم يأمره بالإجبار ولا عين الزوج فلا يجوز له نكاح الأنثى حتى تبلغ وتأذن بالقول، وأما الذكر فيجوز للوصي ولو أنثى أن يزوجه إذا طلب وكان في نكاحه مصلحة ولا يجوز جبره". وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 43).
والإمامان مالك وأحمد
(1)
يريان: أن وصي الأب يحل محله فيأخذ حكمه بالنسبة للإجبار.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ كُلُّ مَنْ لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ مِنْ أَبٍ وَقَرِيبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ).
هذا هو المشهور في مذهب أبي حنيفة: يزوج الصغيرة كل من كان له ولاية، لكن أبا حنيفة يضع قيدًا وهو أنها إذا بلغت فحينئذٍ تخير فإن رضيت بهذا الزوج بقيت معه، وإن لم ترض فُسخ النكاح بينهما. هذا هو ملخص مذهب أبي حنيفة.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَر، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا"
(3)
يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ بِكْرٍ).
التي لها الخيار هي التي لا تجبر وهي: الثيب؛ لأنه ليس لأبيها أن يجبرها، أم التي لأبيها له أن يجبرها، ففي هذه الحالة لا خيار عند جمهور العلماء.
قوله: (إِلَّا ذَاتَ الْأَبِ الَّتِي خَصَّصَهَا الْإِجْمَاع، إِلَّا الْخِلَافَ
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/ 18)؛ حيث قال: "ووصي الأب كالأب في تزويج الصغير والمعتوه؛ لأنه نائب عنه فأشبه الوكيل، ولا يملك غير الأب ووصيه تزويج صغير ولا معتوه؛ لأنه إذا لم يملك تزويج الأنثى مع قصورها، فالذكر أولى".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 213)؛ حيث قال: "وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما، وكذلك سائر الأولياء، وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا: يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة".
(3)
تقدَّم تخريجه.
الَّذِي ذَكرْنَاه، وَكَوْنُ سَائِرِ الْأَوْليَاءِ مَعْلُومًا مِنْهُمُ النَّظَرُ وَالْمَصْلَحَةُ لِوَلِيَّتِهِمْ يُوجِبُ أَنْ يُلْحَقُوا بِالْأَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى).
الحقيقة ليس جميع الأولياء بمنزلة الأب فلا نقول: إن الشفقة الموجودة في الأخ أو في العم أو هي تساوي وتعادل الشفقة والرحمة الموجودة في الأب.
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ جَمِيعَ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ الْجَدَّ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبِ).
الذي ألحق جميع الأولياء هو: أبو حنيفة
(1)
، والذي ألحق الجد هو: الشافعي
(2)
، واللذان وقفا عند الأب فقط هما: مالك
(3)
وأحمد
(4)
.
قوله: (إِذْ كَانَ أَبًا أَعْلَى. وَهُوَ الشَّافِعِيُّ).
لأن الجد أب قد ورد في الحديث أن الجد أب
(5)
لكن الجد لا يساوي الأب؛ لأنه يدلي بواسطة الأب، وتعلمون أن إدلاءه يحجب في بعض مسائل الفرائض المعروفة، ولكن ليس حجبًا كليًّا إنما يحجب عن طريق الأب.
قوله: (وَمَنْ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ رَأَى أَنَّ مَا لِلْأَبِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِغَيْرِهِ؛ إِمَّا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الشَّرْعَ خَصَّهُ بِذَلِكَ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ أَنَّ
(1)
تقدَّم بالتفصيل.
(2)
تقدَّم بالتفصيل.
(3)
تقدَّم بالتفصيل.
(4)
تقدَّم بالتفصيل.
(5)
أخرجه البخاري تعليقًا (8/ 151) قال: وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: "الجد أب" وقرأ ابن عباس: {يَابَنِي آدَمَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} "ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون". ووصله عبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 263 - 264).
مَا يُوجَدُ فِيهِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ رضي الله عنه، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ ضَرُورَةٌ).
ولأن الشرع خصه بذلك؛ لأن له الولاية المطلقة وفيها أيضًا الرحمة والشفقة، فلا شك أن الشرع يراعي مثل هذه الأمور ويعتني بهذا الحكم.
قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ الْحَنَفِيَةُ بِجَوَازِ إِنْكَاحِ الصِّغَارِ غَيْرُ الْآبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] قَالَ: وَالْيَتِيمُ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى غَيْرِ الْبَالِغَةِ، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى بَالِغَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ"
(1)
، وَالْمُسْتَأْمَرَةُ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ وَهِيَ الْبَالِغَةُ).
هذا خلاف معتاد، وخلاف معروف؛ فاليتم يطلق على من مات أبوه ولم يبلغ هذا هو اليتيم ذكرًا كان أو أنثى؛ ولذلك جاء في الحديث:"لا يتم بعد بلوغ"
(2)
.
قوله: (فَيَكُونُ لاخْتِلَافِهِمْ سَبَبٌ آخَر، وَهُوَ اشْتِرَاكُ اسْمِ الْيَتِيمِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ لَمْ يُجِزْ نِكَاحَ غَيْرِ الْأَبِ لَهَا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا").
قد ورد فيه حديثان وأنه يأخذ إذن اليتيمة.
قوله: (قَالُوا: وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الاسْتِئْمَارِ بِاتِّفَاقٍ).
وهذا ورد في قصة عبد الله بن عمر كما ذكرنا
(3)
.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم ذكرها.
قوله: (فَوَجَبَ الْمَنْعُ. وَلِأُولَئِكَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذَا حُكْمُ الْيَتِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَهْلِ الاسْتِئْمَارِ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهَا).
هذه دعوى تحتاج إلى دليل، والحديث أطلق واليتيمة معروفة هي التي مات أبوها، ولكن الفقهاء يختلفون في ابنة تسع سنين قياسًا على زواج عائشة رضي الله عنها هل تجبر ويؤخذ رأيها، وجمهور العلماء على أن التي تستأذن هي البالغ
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا: هَلْ يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ غَيْرُ الْأَبِ الصَّغِيرَ؟ فَإِنَّ مَالِكًا أَجَازَ لِلْوَصِيِّ)
(2)
.
أجازه للوصي كالأب وهو مذهب واحد يعني: أحمد
(3)
ومالك في المسألتين متفقان على إجازته للوصي؛ لأنه أجيز للأب فوصي ينزل منزلة الأب في هذه المسألة.
قوله: (وَأَبَا حَنِيفَةَ
(4)
أَجَازَهُ لِلْأَوْليَاءِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ
(1)
تقدَّم بالتفصيل.
(2)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (9/ 58)؛ حيث قال: "قال مالك: وأما الطفل الصغير فلأبيه أو وصيه أن يزوجه قبل بلوغه، وليس ذلك لغيرهما من الأولياء، ووصي الوصي في ذلك كالوصي".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 58)؛ حيث قال: " (ووصي كل واحد من الأولياء في النكاح بمنزلته) لقيامه مقامه (فتستفاد ولاية النكاح بالوصية إذا نص له على التزويج، مجبرًا كان الولي كأب أو غير مجبر كأخ) لغير أم وكذا عم وابنه؛ لأنها ولاية ثابتة للولي فجازت وصيته بها كولاية المال ولأنه يجوز أن يستنيب فيها في حياته ويكون نائبه قائمًا مقامه فجاز أن يستنيب فيها بعد موته".
(4)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 215)؛ حيث قال: "فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد". وانظر: "بداية المبتدي" للمرغيناني (ص 60).
الْخِيَارَ لَهُ إِذَا بَلَغَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ إِنْكَاحُهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: قِيَاسُ غَيْرِ الْأَبِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ).
المالكية عندما قالوا: يحل الوصي محل الأب قالوا: لأن الأب عندما أوصى بهذا إنما اختار لأنه قد عرف أن فيه من الصفات التي لا تتوفر في غيره؛ ولذلك ينزل منزلة الأب؛ لأنه حل محله ولا يوجد ذلك في غير وصي الأب؛ ولذلك أعطاه المالكية والحنابلة في الإجبار.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الاجْتِهَادَ الْمَوْجُودَ فِيهِ الَّذِي جَازَ لِلْأَبِ بِهِ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَ مِنْ وَلَدِهِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْأَبِ لَمْ يجِزْ ذَلِكَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ أَجَازَ ذَلِكَ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ فِي ذَلِكَ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ إِذَا بَلَغَ وَلَا تَمْلِكُهُ الْمَرْأَة، وَبذَلِكَ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذَا بَلَغَا).
جعل لهما الخيار؛ لأن الصغير في يده الطلاق، لكن الصغيرة فلا، فألحق لهما الخيار في ذلك.
[وأمَّا الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: هَلْ يَجُوزُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْخِيَارِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ هَلْ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 22)؛ حيث قال: "وللآباء تزويج الابن الصغير، ولا خيار له إذا بلغ، وليس ذلك لسلطان ولا ولي، وإن زوجه سلطان أو ولي غير الآباء فالنكاح مفسوخ؛ لأنا إنما نجيز عليه أمر الأب لأنه يقوم مقامه في النظر له ما لم يكن له في نفسه أمر ولا يكون له خيار إذا بلغ، فأما غير الأب فليس ذلك له".
يَجُوزُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْخِيَارِ
(1)
: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ
(2)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(3)
: يَجُوزُ).
هذه مسألة مهمة من مسائل البيع التي ننتقل إليها بعد كتاب النكاح، فهناك ما يعرف بخيار الشرط
(4)
، وهناك ما يعرف بخيار المجلس
(5)
، فهل هذا موجود في النكاح؟
(1)
الخيار: هو الاختيار ومنه يقال له خيار الرؤية ويقال: هي اسم من تخيرت الشيء.
انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 185).
(2)
وهو قول الأئمة الأربعة إلا أن المالكية جوزوا خيار المجلس بالشرط هنا.
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (3/ 250)؛ حيث قال: "فإذا تزوج على أنه بالخيار أو هي صح النكاح وبطل الخيار عندنا بناءً على أن شرط الخيار كالهزل لأن الهازل قاصد للسبب غير راض بحكمه أبدًا وشارط الخيار غير راض بحكمه في وقت مخصوص".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 221)؛ حيث قال: " (قوله: فيفعل) أشعر إتيانه بالفاء باشتراط الفور بين القبول والإيجاب، وصرح به في "القوانين" فقال: والنكاح عقد لازم لا يجوز فيه الخيار ويلزم فيه الفور من الطرفين فإن تأخر القبول يسيرًا جاز
…
(قوله: وإن لم يرض الآخر)
…
وظاهره أن خيار المجلس غير معمول به عندنا في النكاح وليس كذلك بل هو معمول به، وأجيب بأن محل العمل به إذا اشترط".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 343)؛ حيث قال: " (ولو) (شرط) في صلب العقد (خيارًا في النكاح) (بطل النكاح) لمنافاته لوضع النكاح من الدوام واللزوم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 41)؛ حيث قال: " (ولا يثبت الخيار في النكاح وسواء في ذلك خيار المجلس وخيار الشرط) لأنه ليس بيعًا ولا في معناه والعوض ليس ركنًا فيه ولا مقصودًا منه".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 358)؛ حيث قال: "وكان أبو ثور يقول: إن كان وصفه لها فجائز، وإن كان على غير صفة، كان لها مثل قيمة ما وصف".
(4)
خيار الشرط: أن يشترط أحد المتعاقدين أو كلاهما أن يكون له حق فسخ العقد إلى مدة معينة. انظر: "معجم لغة الفقهاء" لرواس قلعجي وزميله (1/ 202)، "الفروق" للقرافي (3/ 278).
(5)
خيار المجلس: أن يكون لكل من المتعاقدين حق فسخ العقد ما داما في مجلس. =
الجواب: أن النكاح لا خيار فيه؛ لأن الإنسان أعطي الخيار في البيع لضيق الوقت؛ ولأنه لم يتمكن من التفكير فهو يعطى الفرصة ليفكر في المجلس، وله أن يشترط خيار الشرط، لكن بالنسبة للمتزوج لا يقدم على هذا الزواج إلا وقد تحرى وسأل عن كل شيء، فالزواج ليس فيه خيار.
وقد نقل العلماء: ما يستفاد به الإجماع كابن قدامة في كتابه "المغني"
(1)
، أما خلاف أبي ثور فلا ينظر إليه؛ لأنه يعتبر رأيًا شاذًّا في هذه المسألة.
الخلاصة: لا يجوز أن يعقد للنكاح ثم يقول لي الخيار، وهذا هو رأي الأئمة الأربعة، بل رأي جماهير العلماء عمومًا.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْبُيُوعِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا الْخِيَار، وَالْبُيُوعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْخِيَارُ)
(2)
.
الحقيقة أن النكاح عقد من العقود وإن كان شبيهًا بالبيع شبهًا يلحق به، ولكن قد ذكرنا اختلاف العلماء في عقد النكاح بلفظ البيع، أو الهبة،
= انظر: "معجم لغة الفقهاء" لرواس قلعجي وزميله (1/ 202). وانظر: "الفروق" للقرافي (3/ 278).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 95 - 96)؛ حيث قال: "وذكر أبو الخطاب فيما إذا شرط الخيار، إن رضيت أمها أو إن جاءها بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما، روايتين: إحداهما: النكاح صحيح والشرط باطل. وبه قال أبو ثور فيما إذا شرط الخيار، وحكاه عن أبي حنيفة وزعم أنه لا خلاف فيها
…
والرواية الأخرى: يبطل العقد من أصله في هذا كله؛ لأن النكاح لا يكون إلا لازمًا".
(2)
من العقود التي لا خيار فيها العقود الجائزة، إما من الجانبين، كالشركة، والوكالة، والقراض، والوديعة، والعارية، وإما من أحدهما، كالضمان، والكتابة، فلا خيار فيها، ومن العقود التي فيها خيار كالصرف، والسلم، والبيع، فيثبت فيها جميعًا خيار المجلس. يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 435). وسيأتي مفصلًا في موضعه.
أو العطية، أو التمليك إلى غير ذلك، وذكرنا أن الأولى الألفاظ الشرعية التي وردت في القران وهي: الزواج النكاح.
قوله: (أَوْ لقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنْ لَا خِيَارَ إِلَّا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَعَلَى الْمُثْبِتِ لِلْخِيَارِ الدَّلِيلُ).
أراد المؤلف أن يقول: هل نلحقها بالبيوع التي فيها خيار، أم البيوع التي ليس فيها خيار؟ أو نقول: من يدعي الخيار فعليه الدليل، البيع واضح في الخيار؛ لأنه معروف وهو خيار الشرط
(1)
، وخيار المجلس
(2)
جاء فيها أحاديث، لكن في النكاح لم يرد شيء من ذلك؛ لأنه ليس له أصلٌ في النكاح.
قوله: (أَوْ لقُولُ: إِنَّ أَصْلَ مَنْعِ الخِيَارِ فِي الْبُيُوعِ هُوَ الْغَرَرُ
(3)
، وَالْأَنْكِحَةُ لَا غَرَرَ
(4)
فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْمُكَارَمَةُ
(5)
لَا الْمُكَايَسَةُ
(6)
).
وهذا الذي ذكره المؤلف: شيء وجيه "البيوع فيها غرر"؛ فمثلًا تأتي بسرعة ترى سلعة من السلع فتنخدع بها يأخذك بويقها، ومظهرها، وهذا
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 213)؛ حيث قال: "واتفقوا أن البيع بخيار ثلاثة أيام بلياليها جائزة". على تفصيل في مدة الشرط يأتي في موضعه: "كتاب بيع الخيار".
(2)
وهو قول الجمهور خلافًا للمالكية، ويأتي في موضعه عند قول المصنف:"واختلفوا متى يكون اللزوم فقال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول، وإن لم يفترقا، وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن عمر من الصحابة رضي الله عنه: البيع لازم بالافتراق من المجلس".
(3)
الغرة - بالكسر -: الغفلة، والغرة - بالضم -: من الشهر وغيره أوله والجمع غرر.
انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 444).
(4)
الغرر: الخطر. "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء". انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 768).
(5)
المكارمة: أن تهدي لإنسان شيئًا ليكافئك عليه، وهي مفاعلة من الكرم. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (12/ 511).
(6)
كايسه مكايسة: غالبه في الكيس، فكاسه: غلبه. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (16/ 464).
يحصل كثيرًا؛ فإذا فكر بعد ذلك وقلب السلعة وجد أنها لا تستحق ذلك، وهذا خلاف النكاح فلا غرر فيه؛ لأنك مررت بمراحل وبحثت ومحصت فلا غرر فيه.
أما المكايسة في البيع والمكارمة في النكاح؛ لأنه عندما يخطب فتاة فيعطيها، فقصد بذلك إكرامها، لكن بالنسبة للبيع يقوم على المكايسة فإذا ذهبت تشتري السلعة لك أن تماكس
(1)
فيها، وتسأل وتحاول التنزيل؛ يعني: لك أن تبيع وتشتري مع صاحبها، وذلك جائز.
قوله: (وَلأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْخِيَارِ وَالرُّؤْويَةِ فِي النِّكَاحِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْبُيُوعِ).
لا خيار في النكاح؛ لأن كل الأمور التي ترد على البيع غير واردة في النكاح، أما أن يطرأ عيب من العيوب فهذه كلها بإرادة الله؛ يعني: أنه لو ظهر في الزوج عيبٌ خفيٌّ كأن يكون عنينًا هذا من أسباب الفسخ، أو أن يكون مثلًا لا ينفق على زوجته، أو تكون المرأة فيها برص
(2)
، أو غير ذلك من العيوب المعروفة فذلك من أسباب فسخ النكاح، لكن الحديث هنا فيما إذا كان الأمر مبني على السلامة.
[الْمَوْضِعُ الرَّابعُ: تَرَاخِي الْقَبُولِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَنِ عَقْدِ النكاح]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَأَمَّا تَرَاخِي الْقَبُولِ
(3)
مِنْ أَحَدِ
(1)
المماكسة في البيع: انتقاص الثمن واستحطاطه والمنابذة بين المتبايعين. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 220).
(2)
البرص: داء وهو بياض يقع في الجلد معروف. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 311)، "الصحاح" للجوهري (3/ 1029).
(3)
القبول: مصدر قبل قبولًا، وهو مصدر شاذ، قال المُطَرِّزِيُّ:"لم أسمع غيره بالفتح، وهو في الشرع: عبارة عن قبلت ونحوه من جهة المشتري". انظر. "المطلع" للبعلي (271).
الطَّرَفَيْنِ عَنِ الْعَقْدِ: فَأَجَازَ مَالِكٌ
(1)
مِنْ ذَلِكَ التَّرَاخِيَ الْيَسِيرَ).
مالك وأحمد
(2)
في هذه المسائل رأيهما متقارب، يعني: أجازا التراخي اليسير، لكنهما يختلفان في التفصيل فمثلًا عند الحنابلة: لا مانع من التراخي اليسير كأن يقول: زوجتك فيتوقف قليلًا، لكن يقيدون ذلك بألا ينصرف عن موضوع النكاح إلى غيره، مثلًا ينتقل إلى أمر من أمور البيع، أو إلى أحاديث أخرى لا علاقة لها بالنكاح، فيرون أنه يؤثر في ذلك، أما أن يوجد فصل يسير فهذا جائز.
قوله: (وَمَنَعَهُ قَوْمٌ
(3)
، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ
(4)
، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُنْكِحَ الْوَلِيُّ امْرَأَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَيَبْلُغَهَا النِّكَاحُ فَتجِيزَه، وَمِمَّنْ مَنَعَهُ مُطْلَقًا الشَّافِعِيُّ
(5)
).
يرى المؤلف: التوقف يُنتظر حتى ترى المرأة فتجيزه فهذا لا يعتبر انقطاعًا عند هؤلاء.
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (3/ 257)؛ حيث قال: "فالفصل بين الإيجاب والقبول بخطبة الزوج مغتفر، وكذا بسكوت أو كلام قدره".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 41)؛ حيث قال: " (وإن تراخى) قبول (عنه)؛ أي: عن الإيجاب (صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفًا) ولو طال الفصل لأن حكم المجلس حكم حالة العقد".
(3)
وهم الشافعية، وسيأتي.
(4)
وهم الحنفية والمالكية والحنابلة.
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 207)؛ حيث قال: " (ولو خطب الولي)
…
(فقال الزوج: الحمد لله والصلاة) والسلام (على رسول الله) صلى الله عليه وسلم (قبلت) إلى آخره (صح النكاح) مع تخلل ذلك بين لفظيهما (على الصحيح)؛ لأنه مقدمة القبول مع قصره فليس أجنبيًّا عنه. والثاني: لا يصح لأن الفاصل ليس من العقد
…
(فإن طال الذكر الفاصل) بينهما: أي بين الإيجاب والقبول بحيث يشعر بالإعراض عن القبول، وضبطه القفال بأن يكون زمنه لو سكتا فيه لخرج الجواب عن كونه جوابًا، والأولى ضبطه بالعرف (لم يصح) النكاح جزمًا لإشعاره بالإعراض".
قوله: (وَمِمَّنْ أَجَازَهُ مُطْلَقًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لِمَالِكٍ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ مِنْ شَرْطِ الانْعِقَادِ وُجُودُ الْقَبُولِ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا؟ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟ وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ عَرَضَ فِي الْبَيْعِ).
الحنفية: أكثر المذاهب تسامحًا في مواضع النكاح والولاية، ليس معنى هذا أنه أيسر المذاهب، إنما الحق ما كان معه الدليل من الكتاب والسنة، يعني: هناك مسائل نسبية قد يرجع فيها عادة إلى عرف الناس وعادتها، والعادة محكَّمة.
والعادة بنيت على الأثر الذي جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئ"
(2)
، فالعادات التي لا تتعارض مع الأحكام الشرعية معتبرة، وهي تُعتبر في أبواب كثيرة منها:
1 -
أحكام الحيض.
1 -
أحكام النفاس.
3 -
مسائل البيوع.
4 -
وهناك مسائل متفرقة العادة معتبرة فيها، مثل التعامل من بلد إلى بلد كيف تتعامل مع عملة هذه البلد وتنتقل إلى بلد أخرى فالمعتبر هنا البلدة التي أنت تعيش فيها
(3)
.
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 14)؛ حيث قال: " (قوله: اتحاد المجلس) قال في البحر: فلو اختلف المجلس لم ينعقد، فلو أوجب أحدهما فقام الآخر أو اشتغل بعمل آخر بطل الإيجاب؛ لأن شرط الارتباط اتحاد الزمان فجعل المجلس جامعا تيسيرا؛ وأما الفور فليس من شرطه؛ ولو عقدا وهما يمشيان أو يسيران على الدابة لا يجوز، وإن كان على سفينة سائرة جاز. اهـ. أي؛ لأن السفينة في حكم مكان واحد".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(3600)، وحسنه الأرناؤوط.
(3)
يُنظر: "غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 295)؛ حيث قال: "العادة محكمة، وأصلها =
[الرُّكْنُ الثَّانِي: فِي شُرُوطِ العَقْدِ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّل: فِي الأَوْلِيَاءِ]
[والنَّظرُ في الأولياءِ في مواضعَ أربعة]
[أمَّا الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: قِي اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الرُّكْنُ الثَّانِي: فِي شُرُوطِ الْعَقْدِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْليَاءِ. وَالثَّانِي: فِي الشُّهُودِ. وَالثَّالِثُ: فِي الصَّدَاقِ)
(1)
.
فيما يتعلق في الأولياء: الولي هو الذي يتولى عقد النكاح.
المسألة الأخرى في الشهود: هل لا بد في النكاح من الشهود؟ كما
= قوله عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"
…
واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة".
(1)
صداق: بفتح الصاد. العوض المسمى في عقد النكاح، وما قام مقامه، وله ثمانية أسماء:"الصداق، والمهر، والنخلة، والفريضة، والأجر، والعقر، والحباء، والعلائق". انظر: "المطلع" للبعلي (396).
في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلَّا بوليٍّ وشاهدي عدل"
(1)
، أو أنه لا حاجة للولي؟
والجواب: أكثر العلماء يشترطون أمورًا أربعة:
الأمر الأول: الولي
(2)
.
الأمر الثاني: الشاهدان
(3)
.
الأمر الثالث: الزوج.
الأمر الرابع: والولي الذي كلفه الأب للزوجة؛ لأن الولي ينوب عنها في هذه الحالة.
قوله: (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْليَاءِ وَالنَّظَرُ فِي الْأَوْليَاءِ فِي مَوَاضِعَ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: فِي اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. الْمَوْضِعُ الثَانِي: فِي صِفَةِ الْوَلِيِّ. الثَّالِثُ: فِي أَصْنَافِ الْأَوْليَاءِ وَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْوِلَايَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. الرَّابِعُ: فِي عَضْلِ
(4)
الْأَوْليَاءِ مَنْ يَلُونَهُمْ، وَحُكْمِ الاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ).
هذه الولاية شرط في صحة النكاح، بمعنى: لو لم يُعقد للزوجين بوجود الولي يفسد النكاح، فإن قلنا هو شرط تمام حينئذ ينعقد النكاح كمذهب أبو حنيفة
(5)
، هل الأولياء يُرتبون كترتيبهم في الفرائض، أم أنهم يختلفون؟
(1)
أخرجه ابن حبان (4075)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1858).
(2)
يشترطه الجمهور خلافًا للحنفية، وسيأتي.
(3)
يشترطه الجمهور خلافًا للمالكية فحضور الشاهدين مندوب عند العقد واجب عند البناء، وسيأتي.
(4)
عضل: أي منع، يقال: عضل المرأة يعضلها ويعضلها. انظر: "المطلع" للبعلي (1/ 389).
(5)
سيأتي تفصيل مذهبه.
الجواب: لا شك أن في ذلك بعض الخلاف، والمقصود بعضل الأولياء: أن يثق الولي في سبيل تزويج من تولى أمرها فإذا جاءها كفءٌ ومنعها أن تتزوج به فعضلها، فالولاية تنتقل إلى من بعده، فإن اشتكت وحصل خلاف فيرجع بعد ذلك إلى السلطان لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن اشْتَجَرُوا
(1)
فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ"
(2)
.
قوله: (الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلِ الْوِلَايَةُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ؟ أَمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؟).
فإذا قلنا هي: شرط صحة لم يصح النكاح وإن عقد فالعقد باطل ويفسخ، وعلى القول أنه ليس شرط صحة، فالأولى هو رأي الجمهور الذي ذكرنا.
والثاني: هو رأي الحنفية، ومعهم جماعة ليس الولي شرطًا في عقد النكاح، وإن كانوا يستحبون ذلك فهم يرون أنه من شروط التمام والكمال لا بشروط الصحة، فرق بين الأمرين؛ لأنك إذا قلت شرط صحة، ولم يكن ولي فسد النكاح؛ أي: يبطل العقد، وإن قلت هو شرط تمام وكمال معنى هذا: إن لم يوجد فالمرأة تعقد لنفسها ولها أن تُوكل غيرها، فنجد أن المؤلف وسع البحث فيها وفصل القول فيها تفصيلًا طيبًا.
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(3)
إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَأَنَّهَا
(1)
اشتجر القوم وتشاجروا؛ أي: تنازعوا. والمشاجرة: المنازعة. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 396).
(2)
أخرجه أبو داود (2083) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل" ثلاث مرات "فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1840).
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (3/ 266)؛ حيث قال: " (وركنه)؛ أي: النكاح
…
(ولي) للمرأة بشروطه الآتية فلا ينعقد نكاح بدونه".
شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ
(1)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَزُفَرُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ: إِذَا عَقَدَتِ الْمَرْأَةُ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ وَليٍّ، وَكَانَ كفُؤًا - جَازَ
(4)
، وَفَرَّقَ دَاوُدُ
(5)
بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَقَالَ بِاشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي الْبِكْرِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الثَّيِّبِ
(6)
).
الفرق واضح؛ لأنه يرى أن الثيب من أدركت وعرفت نعمة الزواج،
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 182)؛ حيث قال: " (وصح بها)؛ أي: بالولاية العامة؛ أي: بسببها (في دنيئة)؛ أي: في عقد نكاح امرأة دنيئة (مع خاص)؛ أي: مع وجود ولي خاص ذي نسب أو ولاء أو ولاية (لم يجبر) ولا يجوز الإقدام على ذلك ابتداء وهذه الرواية عليها الفتوى والعمل
…
(قوله: عليها الفتوى) ومقابله ما رواه أشهب من أنها ليست بولاية".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 236)؛ حيث قال: " (لا تزوج امرأة نفسها) ولو (بإذن) من وليها (ولا غيرها) ولو (بوكالة) من الولي".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 117)؛ حيث قال: " (نفذ نكاح حرة مكلفة بلا ولي)، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية وكان أبو يوسف أولًا يقول: إنه لا ينعقد إلا بولي إذا كان لها ولي، ثم رجع وقال: إن كان الزوج كفئًا لها جاز وإلا فلا، ثم رجع وقال: جاز سواء كان الزوج كفئًا أو لم يكن، وعند محمد ينعقد موقوفًا على إجازة الولي سواء كان الزوج كفئًا لها أو لم يكن، ويروى رجوعه إلى قولهما".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 48)؛ حيث قال: "الشرط (الثالث: الولي فلا يصح نكاح إلا بولي) ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 393)؛ حيث قال: "كان الزهري يقول - وهو رواية هذا الحديث -: إذا تزوجت المرأة بغير إذن وليها كفؤًا جاز، وهو قول الشعبي، وبه قال أبو حنيفة، وزفر".
(5)
الثيب من النساء: "من أزيلت بكارتها، وقد يطلق على البالغة وإن كانت بكرًا مجازًا واتساعًا، والبكر: العذراء، وهي: الباقية العذرة، والعذرة: ما للبكر من الالتحام قبل الافتضاض". انظر: "المطلع" للبعلي (1/ 278).
(6)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 33)؛ حيث قال: "قال أبو سليمان: أما البكر فلا يزوجها إلا وليها، وأما الثيب فتولي أمرها من شاءت من المسلمين ويزوجها، وليس للولي في ذلك اعتراض".
وأما البكر فهي جاهلة في هذا الأمر، وربما يلحقها الغرر فليس لها أن تعقد النكاح، والقولان المشهوران هما: رأي الجمهور وهو الأولى والأسلم؛ ولأنه لا يجوز للمرأة أن تعقد لنفسها، وإنما الذي يعقد لها وليها، والحنفية أدلتهم قوية كما سيعلق المؤلف.
قوله: (وَيَتَخَرَّجُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْوِلَايَةِ قَوْلٌ رَابعٌ: أَنَّ اشْتِرَاطَهَا سُنَّةٌ لَا فَرْضٌ)
(1)
.
التخريج
(2)
طِبق أصول المذهب وتفرع عليه المسمائل، وهذا هو المسلك الذي سار عليه التلاميذ، لما عوفوا أصول كل إمام عوفوا علل الأحكام، فأخذوا يُخَرِّجون على علل هذه الأحكام، ولذلك تجد من يقول: هذا قول الإمام فلان، هذه رواية
(3)
في المذهب، وأحيانًا يقال: وجه
(4)
وهو: التخريج أيضًا.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْمِيرَاثَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
(1)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (2/ 120)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت الذي تزوجها بغير ولي أيقع طلاقه عليها قبل أن يجيز الولي النكاح، دخل بها أو لم يدخل بها؟ قال: نعم، وقال: وبهذا يستدل على الميراث في هذا النكاح؛ لأن مالكًا قال: كل نكاح إذا أراد الأولياء وغيرهم أن يجيزوه جاز، فالفسخ فيه تطليقة فإذا طلق هو جاز الطلاق والميراث بينهما في ذلك". وينظر: "الاستذكار"(5/ 395).
(2)
التخريج: "إذا أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، جاز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة منهما إلى الأخرى". انظر: "المطلع" للبعلي (13).
(3)
الرواية: الحكم المروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه في المسألة، وكذا هي في اصطلاح أصحاب أبي حنيفة ومالك، وأصحاب الشافعي يعبرون عن ذلك بالقول، فيقولون:"فيها قول، وقولان وأقوال". انظر: "المطلع" للبعلي (11).
(4)
الوجه: "الحكم المنقول في المسألة لبعض أصحاب الإمام المجتهدين فيه، ممن رآه فمن بعدهم جاريًا على قواعد الإمام، فيقال: وجه في مذهب الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي أو نحوهما، وربما كان مخالفًا لقواعد الإمام إذا عضده الدليل".
انظر: "المطلع" للبعلي (12).
بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ غَيْرِ الشَّرِيفَةِ
(1)
أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ عَلَى إِنْكَاحِهَا)
(2)
.
هذه مسألة أخرى؛ يعني: المرأة إذا لم تجد وليًّا أصلًا ولم تجد من يعقد لها فبعض العلماء
(3)
يقول: تختار لها رجل من الصالحين.
قوله: (وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ تُقَدِّمَ الثَّيِّبُ وَلَيَّهَا لِيَعْقِدَ عَلَيْهَا
(4)
، فَكَأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ لَا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ).
أصبح عندهم من شروط التمام والكمال لا من شروط الصحة، وثمرة الخلاف تحصل فيما لو تم ذلك، فالشريعة أعطت للولي الإذن؛ أي: يُستأذن.
(1)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 8)؛ حيث قال: "والدنيئة غير الشريفة وهي التي لا يرغب فيها لعدم مالها وجمالها وحسبها".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 182)؛ حيث قال: "فلو عقد النكاح بالولاية العامة في امرأة دنيئة كمعتقة ومسلمانية [والمراد بها التي أسلمت من أهل الذمة أو غيرهم]- مع وجود الولي الخاص وهو غير مجبر فالمشهور وهو ابن القاسم أن النكاح صحيح، وإليه أشار بقوله:(وصح بها)؛ أي: بالولاية العامة؛ أي: بسببها (في دنيئة)؛ أي: في عقد نكاح امرأة دنيئة (مع خاص)؛ أي: مع وجود ولي خاص ذي نسب أو ولاء أو ولاية (لم يجبر) ولا يجوز الإقدام على ذلك ابتداء وهذه الرواية عليها الفتوى والعمل وسواء دخل بها أم لا لكن إن حصل دخول عزر الزوجان
…
".
(3)
وهم الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 639)؛ حيث قال: "قال أحمد في دهقان قرية يزوج من لا ولي لها: إذا احتاط لها في الكفء والمهر إذا لم يكن في الرستاق قاض لأن اشتراط الولي في هذا الحال يمنع النكاح بالكلية".
(4)
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (2/ 106 - 107)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت إن كانت ثيبًا فخطب الخاطب إليها نفسها، فأبى والدها أو وليها أن يزوجها فرفعت ذلك إلى السلطان وهو دونها في الحسب والشرف إلا أنه كفء في الدين فرضيت به وأبى الولي؟ قال: يزوجها السلطان ولا ينظر إلى قول الأب والولي إذا رضيت به وكان كفؤًا في دينه قال: وهذا قول مالك".
قوله: (بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ؛ أَعْنِي: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ لَا مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ تَأْتِ آيَةٌ وَلَا سُنَّةٌ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ بَلِ الْآيَاتُ وَالسُّنَنُ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِالاحْتِجَاجِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهَا هِيَ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ وَالسُّنَنُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يَشْتَرِطُ إِسْقَاطَهَا هِيَ أَيْضًا مُحْتَمَلَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثُ مَعَ كوْنِهَا مُحْتَمَلَةً فِي أَلْفَاظِهَا مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا إِلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ)
(2)
.
الحقيقة لم تأت آية قاطعة يُستدل بها على هذا الذي ذكره المؤلف، وإنما الاستدلال بالآيات عن طريق المفهوم، بلاليل أن الحنفية والجمهور
(3)
يستدلون بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فالجمهور يرون: أن الخطاب للأولياء، والحنفية: يجعلون هذا من أقوى الأدلة على مذهبهم؛ لأنه أضاف النكاح إليهن، لكن جاء في الحديث:"لا نكاح إلا بولي"
(4)
، والذين قدحوا فيه قالوا: إنه من رواية الزهري وهو في
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (727)؛ حيث قال: "الولي شرط في صحة عقد النكاح، فلا يجوز لامرأة أن تزوج نفسها ولا غيرها".
(2)
أخرجه ابن ماجه (1880)، وعن عكرمة، عن ابن عباس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1858).
(3)
يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 73)؛ حيث قال: "وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري. ولو أن له حقًّا في الإنكاح ما نهي عن العضل. قلت: ومما يدل على هذا أيضًا من الكتاب قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن".
(4)
تقدَّم تخريجه.
حديث ابن عباس، وعائشة
(1)
وأبي هريرة
(2)
، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(3)
كلها جاءت بألفاظ متقاربة: "لا نكاح إلا بولي".
قوله: (وَإِنْ كَانَ الْمُسْقِطُ لَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَنَحْنُ نُورِدُ مَشْهُورَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ).
المؤلف سيناقش المسألة مناقشة تفصيلية فيها إنصاف، وفي النهاية يميل إلى مذهب الحنفية
(4)
، لأن هذا هو الذي ظهر له في النهاية ليس متعصبًا؛ لأنه لو كان متعصبًا لأخذ برأي المالكية فلا يتهم بهذه المسألة وهذا هو شأن العلماء.
قوله: (وَنُبَيِّنُ وَجْهَ الاحْتِمَالِ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْ أَظْهَرِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مِنَ الْكتَابِ مَنِ اشْتَرَطَ الْوِلَايَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، قَالُوا
(5)
: وَهَذَا خِطَابٌ لِلأَوْلِيَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْوِلَايَةِ لَمَا نُهُوا عَنِ الْعَضْلِ).
هذه الآية سيحتج بها الجمهور، وهي في نفس الوقت حجة للحنفية؛ لأن الجمهور سيحتجون بها على أن الخطاب للأولياء، قوله تعالى: {فَلَا
(1)
أخرجه أحمد (26235)، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له". وصححه الألباني في "الإرواء"(1858).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبري"(7/ 203) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا نكاح إلا بولي وخاطب وشاهدي عدل".
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(4/ 184) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".
(4)
وهو عدم اشتراط الولي، وسيأتي.
(5)
يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 158)؛ حيث قال: "إذا ثبت هذا الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي؛ لأن أخت معقل كانت ثيبًا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذن في قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن".
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، هذا خطاب على قول الجمهور من الله للأولياء، فلو لم يكن لهم الحق وكامل الولاية في تزويج منهن لما نهوا عن العضل؛ فلما نهوا عن عضلهن دل ذلك على أن الأمر منوط بهم هذا هو وجه الدلالة، أما الحنفية استدلوا بدليلين الأول قالوا: الله تعالى أضاف النكاح إليهن وهذا دليل على أنه خاص بهن، وأنهن هن الآتي يعقدن النكاح.
الدليل الثاني قالوا: والله تعالى نهى عن منعهن من ذلك هذا تأويل الحنفية، هذا نهي للأولياء أن يمنعوا النساء من التمتع بحقهن أن يعقدن العقد بأنفسهن.
وهنالك دليل ثالث قالوا: النكاح هو خالص حق المرأة وهي التي ستستفيد به، وهي التي ستتمتع بالنكاح فهي أولى به ما دام يخصها أن تعقد لنفسها، أليس من حقها أن تبيع وتشتري في ملكها، فهذا مراد المؤلف، وبهذا يتبين لنا أن الاستدلال بالآيات ليست صريحة الدلالة، وكلام الجمهور والاستدلال بالحديث أوضح وهو:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"
(1)
.
قوله: (وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] قَالُوا
(2)
: وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْليَاءِ أَيْضًا، وَمِنْ أَشْهَرِ مَا احْتَجَّ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 72)؛ حيث قال: "في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي، قال محمد بن على ابن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} ".
فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ". خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
(1)
).
هذا الحديث فيه تحذير للمرأة: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ"، إن اختلفوا في الأمر فيرجع بعد ذلك على القاضي، وهذا أقوى دليل تمسك به جمهور العلماء، وهو نص في هذه المسألة أورده المؤلف، وهذا الحديث رواه الخمسة إلا النسائي
(2)
، وقد جاء عن طريق أبي هريرة، وعن طريق عائشة، وعن طريق ابن عمر
(3)
، وعن طريق جابر بن عبد الله، وعن غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم، والحديث بلا شك بتعدد طرقه فهو صحيح
(4)
.
قوله: (وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوِلَايَةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ).
الدين لا يشترطون الرواية: هم الحنفية والحنابلة معًا والتابعين وغيرهم
(5)
، وأيضًا هناك أقوال في بعض المذاهب تتفق مع الحنفية.
(1)
أخرجه الترمذي (1101) وحسنه وقال: "وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وأنس".
(2)
أخرجه أبو داود (2085).
(3)
أخرجه الدارقطني (4/ 322) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
(4)
قال الألباني في "الإرواء"(1839): "وخلاصة القول: أن الحديث صحيح بلا ريب، فإن حديث أبي موسى قد صححه جماعة من الأئمة كما عرفت، وأسوأ أحواله أن يكون الصواب فيه أنه مرسل، أخطأ في رفعه أبو إسحاق السبيعي، فإذا انضم إليه متابعة من تابعه موصولًا، وبعض الشواهد المتقدمة التي لم يشتد ضعفها عن غير أبي موسى من الصحابة - مثل حديث جابر من الطريق الثانية، وحديث أبي هريرة من الطريق الأولى - إذا نظرنا إلى الحديث من مجموع هذه الطرق والشواهد فإن القلب يطمئن لصحته لا سيما وقد صح عن ابن عباس موقوفًا عليه كما سبق، ولم يعرف له مخالف من الصحابة".
(5)
وهم: زفر، والشعبي، والزهري.
قوله: (فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]. قَالُوا: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهَا فِي الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا. قَالُوا: وَقَدْ أَضَافَ إِلَيْهِنَّ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْفِعْلَ، فَقَالَ: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]).
الآية التي ذكرت هي من أقوى الأدلة عند الحنفية، وبعض العلماء يقتصر عليها.
قوله: (وَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا"
(1)
).
المتفق على صحته إن كان يريد أنه صحيح باتفاق، ولكن إن كان المراد المتفق على صحته أنه في الصحيحين فهذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري، "الأيم أحق بنفسها" فسَّرته الرواية الأخرى:"لا تنكح الأيم حتى تستأمر"
(2)
، فالقصد أنها أحق بنفسها أنه يؤخذ رأيها، فإن أكرهت وهي ثيب فيفسخ النكاح في هذه الحالة
(3)
، وليس الحديث فيه دلالة على أنها هي التي تعقد لنفسها.
(1)
أخرجه مسلم (1421).
(2)
أخرجها البخاري (5136) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:"أن تسكت".
(3)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(9/ 203 - 204)؛ حيث قال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "أحق بنفسها" يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق من وليها في كل شيء من عقد وغيره كما قاله أبو حنيفة وداود ويحتمل أنها أحق بالرضا؛ أي: لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"
…
تعين الاحتمال الثاني، واعلم أن لفظة أحق هنا للمشاركة معناه أن لها في نفسها في النكاح حقًّا ولوليها حقًّا، وحقها أوكد من حقه فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا وامتنعت لم تجبر ولو =
قوله: (وَبِهَذَا الْحَدِيثِ احْتَجَّ دَاوُدُ فِي الْفَرْقِ عِنْدَهُ بَيْنَ الثَّيِّب وَالْبِكْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى
(1)
. فَهَذَا مَشْهُورُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ مِنَ السَّمَاعِ).
من أجمل ما في المسائل الفقهية أن تعرض الأقوال، ثم تبين الخلاف، ثم تناقش كل قول، ثم تنتهي إلى الراجح في المسألة على ضوء الدليل، أن يكون عندك دليل صحيح، أو أن يكون علة دليل صحيح، أو تعليل سليم مقبول؛ لأنه قد لا تجد دليلًا فيكون عندك حجة أخرى.
قوله: (فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نَهْيِ قَرَابَةِ الْمَرْأَةِ وَعَصَبَتِهَا مِنْ أَنْ يَمْنَعُوهَا النِّكَاحَ، وَلَيْسَ نَهْيُهُمْ عَنِ الْعَضْلِ مِمَّا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ إِذْنِهِمْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا)
(2)
.
وهذا يناقش مذهب الجمهور؛ يعني: المؤلف: يُظهر أنَّه يميل إلى مذهب الحنفية.
= أرادت أن تتزوج كفؤًا فامتنع الولي أجبر فإن أصر زوجها القاضي فدل على تأكيد حقها ورجحانه".
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 35)؛ حيث قال: "أما قول أبي سليمان: فإنما عول على الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "البكر يستأذنها أبوها والثيب أحق بنفسها من وليها". قال أبو محمد: وهذا لو لم يأت غيره لكان كما قال أبو سليمان، لكن قوله عليه الصلاة والسلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" عموم لكل امرأة ثيب أو بكر".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 117)؛ حيث قال: "وأما قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فالمراد بالعضل المنع حسًّا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج كما في "المبسوط" إن كان نهيًا للأولياء لا المنع عن العقد بدليل: {أَنْ يَنْكِحْنَ}؛ حيث أضاف العقد إليهن، وإن كان نهيًا للأزواج المطلقين عن المنع عن التزوج بعد العدة كما في المعراج بدليل أنه قال في أول الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فلم يكن حجة أصلًا".
قوله: (أَعْنِي: بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ أَدِلَّةِ الْخِطَابِ الظَّاهِرَةِ أَوِ النَّصِّ، بَلْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ ضِدُّ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَيْسَ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى مَنْ يَلُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] هُوَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لِأُولِي الْأَمْرِ، فَمَنِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي خِطَابِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُ فِي أُولِي الْأَمْرِ)
(1)
.
باختصار يريد المؤلف أن يقول: التردد في الاستدلال بالآية يضعف كونها حجة لجمهور العلماء.
قوله: (فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ، وَالْعَامُّ يَشْمَلُ ذَوِي الْأَمْرِ وَالْأَوْلِيَاءَ - قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ بِالْمَنْعِ، وَالْمَنْعُ بِالشَّرْعِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَوْنُ الْوَلِيِّ مَأْمُورًا بِالْمَنْعِ بِالشَّرْعِ لَا يُوجِبُ لَهُ وِلَايَةً خَاصَّةً فِي الْإِذْنِ، أَصْلُهُ الْأَجْنَبِيُّ)
(2)
.
يعني: الأصل الذي يقاس عليه هو الأجنبي يلحق به في ذلك.
قوله: (وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَوْليَاءِ يُوجِبُ اشْتِرَاطَ إِذْنِهِمْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ لَكَانَ مُجْمَلًا لَا يَصِحُّ بِهِ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَصْنَافِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا صِفَاتِهِمْ وَلَا مَرَاتِبِهِمْ).
هذا الكلام لو لم ترد هناك أحاديث، ولكن القدح كله في حديث:
(1)
هل هو خطاب عام لمنع تزويج الكفار أو خطاب لأولياء المرأة فيه تردد عند المصنف مما يضعف الاحتجاج بالآية.
(2)
أي: أن ما ليس بولي للمرأة له أن يمنع ما يمنعه الشرع ولا يوجب له ذلك ولاية خاصة عليها.
"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"
(1)
، وفي بعض الروايات:"لا نكاح إلا بولي مرشد"
(2)
، الكلام هنا فيما يتعلق بنسيان الزهري راوي هذا الحديث في القصة التي حكيت عن ابن جريج
(3)
.
قوله: (وَالْبَيَانُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
(4)
. وَلَوْ كانَ فِي هَذَا كُلِّهِ شَرْعٌ مَعْرُوفٌ لَنُقِلَ تَوَاتُرًا أَوْ قَرِيبًا مِنَ التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى)
(5)
.
لكننا ننقض هذه المقايسة، وهذا التعليل، ونقول: لو كان ذلك مطلوبًا لنقل.
قوله: (وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَا وَلِيَّ لَه، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَعْقِدُ أَنْكِحَتَهُمْ وَلَا يُنَصِّبُ لِذَلِكَ مَنْ يَعْقِدُهَا).
لم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وكل إلى النساء أن يعقدن نكاحهن فيبقى الأمر على ما سبق، وحديث: "لا نكاح إلا بولي
(1)
تقدَّم تخريجه. وينظر: "نصب الراية" للزيلعي (3/ 183 - 190).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الصغرى"(3/ 19) موقوفًا عن ابن عباس قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل". هذا هو المحفوظ موقوفًا.
(3)
يُنظر: "سنن الترمذي"(1102)؛ حيث قال: "وقد تكلم بعض أصحاب الحديث في حديث الزهري عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: ثم لقيت الزهري فسألته فأنكره فضعفوا هذا الحديث من أجل هذا".
(4)
يُنظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 26)؛ حيث قال: "أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب، وذلك في الواجبات الفورية لم يجز، لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق، وأما من جوز التكليف بما لا يطاق، فهو يقول بجوازه فقط، لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقًا عليه بين الطائفتين".
(5)
وهذه قاعدة الحنفية في خبر الواحد. وشظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 44)؛ حيث قال: "وخبر الواحد إذا ورد فيما تعم به البلوى لا يقبل؛ إذ لو كان صحيحًا لاشتهر نقله فيما عم به البلوى".
وشاهدي عدل"
(1)
، لا نافية، ونكاح نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم
(2)
، ثم جاء بعد ذلك أداة الحصر.
وأما تعليل المؤلف: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها"
(3)
فالمقصود: على أغلب الأحوال هو أن تُستأذن المرأة فجاء هذا الحديث ليبين أنه ليس المقصود من الولي أن يأذن لها بأن تتزوج، وإنما المطلوب في ذلك أنه هو الذي يتولى عقد النكاح؛ لأن الولاية نوع من السلطة والمرأة قاصرة.
قوله: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ حُكْمٌ، وإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما قال لأم حكيم: أتأذنين لي أن أُزوجك قالت: نعم، فقال: تزوجتكِ
(4)
، فبين لها أنه يريد أن يتزوجها فقال: تزوجتك ولم يقل زوجيني نفسك، وعبد الرحمن بن عوف من الصحابة المشهود لهم بالجنة، فالأدلة تدل على خلاف ما ذكره المؤلف.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ
(5)
: فَهُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِه، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَا لَا يُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (1/ 308)؛ حيث قال: "النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلًا، وذلك يعم لضرورة صحة الكلام، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته. فالعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري معلقًا، باب: إذا كان الولي هو الخاطب، وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ:"أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم، فقال: قد زوجتك".
(5)
تقدَّم تخريجه.
وَأَيْضًا فَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا اشتِرَاطُ إِذْنِ الْوَلِيِّ لِمَنْ لَهَا وَلِيٌّ).
إذا كان الحديث قد اختلف في صحته فحينئذٍ يختلف في العمل به، وهذا الحديث جاء عن طريق ابن عباس
(1)
، وعائشة
(2)
، وعمران بن الحصين
(3)
، وفيه أيضًا عدة روايات عن عبد الله بن عباس
(4)
، فهذا الحديث جاء بألفاظ متعددة، وهي بمجموعها صالحة للاستدلال بها، بل إن حديث الزهري:"لا نكاح إلا بولي وشاهدى عدل" وهو حديث صحيح
(5)
، لكن هذا الحديث لم يتحدث عن الإذن، وإنما الذي تحدث عن الإذن هو حديث:"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل". ولذلك أضاف بعض العلماء: العدالة؛ أي: أن الفاسق ليس له أن يعقد النكاح، وهي مسألة مختلف فيها، والفسق أيضًا أنواع: فهناك من الفسق ما لا يمنع عقد النكاح، ومن الفسق ما يمنعه إذا كان فسقًا في العقيدة كما مثل العلماء لذلك.
قوله: (أَعْنِي: الْمَوْلَى عَلَيْهَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةُ لَا تَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا؛ أَعْنِي: أَلَّا تَكُون هِيَ الَّتِي تَلِي الْعَقْدَ، بَلِ الْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ الْوَلِيَّ لَهَا جَازَ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى نَفْسِهَا دُونَ أَنْ تَشْتَرِطَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ إِشْهَادَ الْوَلِيِّ مَعَهَا)
(6)
.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(10/ 55) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
(4)
منها: ما أخرجه أحمد في "مسنده"(2260) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي، والسلطان مولى من لا مولى له". وتقدمت رواية ابن ماجه عنه.
(5)
تقدَّم.
(6)
لأن الحديث فيه: "بغير إذن وليها
…
" فمفهومه عنده: إن أذن فلا بأس بأن تعقد لنفسها.
الحديث صريح في الدلالة على مذهب جمهور العلماء، و "أي" تدل على العموم
(1)
، فهي تدل على عموم النساء جميعًا، وأن المرأة ليس لها أن تعقد لنفسها إلا إذا تعطل ذلك كله، فتستند ذلك إلى أحد المسلمين كما قال العلماء لكنها ترجع قبل ذلك إلى السلطان.
قوله: (وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]- فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّثْرِيبِ
(2)
عَلَيْهِنَّ فِيمَا اسْتَبْدَدْنَ
(3)
بِفِعْلِهِ دُونَ أَوْلِيَائِهِنَّ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَبِدَّ بِهِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْوَلِيِّ إِلَّا عَقْدَ النِّكَاحِ)
(4)
.
المرأة لها أن تتصرف في أمور كثيرة، وليست مقصورة حقيقة على عقد النكاح؛ لأن عقد النكاح أصلًا ليس من اختصاصها، ولا من شأنها فإن الشريعة فوَّضته إلى الرجال الأولياء على حسب ترتيبهم الأب، ثم بعد ذلك الابن أو الجد على خلاف بين العلماء، وهكذا الإخوة الأشقاء، وهناك من يسوي بينهم.
(1)
يُنظر: "إرشاد الفحول"(1/ 298)؛ حيث قال: "لفظ (أي) فإنها من جملة صيغ العموم، إذا كانت شريطة أو استفهامية، كقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقوله تعالى:"{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ".
(2)
الثثريب: "كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوم". انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 235).
(3)
استبد بالأمر يستبد به استبدادًا: إذا انفرد به دون غيره. واستبد برأيه: انفرد به. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 81).
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 91)؛ حيث قال: "وجه قول أبي حنيفة قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وقال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وفي آية أخرى: {مِنْ مَعْرُوفٍ} أضاف النكاح والفعل إليهن، وذلك يدل على صحة عبارتهن ونفاذها؛ لأنه أضافه إليهن على سبيل الاستفلال؛ إذ لم يذكر معها غيرها. وهي إذا زوجت نفسها من كفء بمهر المثل فقد فعلت في نفسها بالمعروف، فلا جناح على الأولياء في ذلك".
قوله: (فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ لَهَا أَنْ تَعْقِدَ النِّكَاحَ، وَللْأَوْليَاءِ الْفَسْخُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ
(1)
، وَأَنْ يُحْتَجَّ بِبَعْضِ ظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى رَأْيِهِمْ
(2)
، وَلَا يُحْتَجَّ بِبَعْضِهَا
(3)
- فِيهِ ضَعْفٌ، وَأَمَّا إِضَافَةُ النِّكَاحِ إِلَيْهِنَّ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِنَّ بِالْعَقْدِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الاخْتِصَاص، إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ).
المؤلف عاد وقال: إن إضافة النكاح ليس فيه دلالة قطعية على أنهن يتولَّين عقد النكاح إلا أن يأتي دليل آخر، بل الدليل أثبت أنها لا تعقد لنفسها.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ لَعَمْرِي ظَاهِرٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَأْذَن، وَيَتَوَلَّى الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا الْوَلِيُّ فَبِمَاذَا - لَيْتَ شِعْرِي - تَكُونُ الْأَيِّمُ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا؟ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ
(4)
هُوَ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا هَذَا الْحَدِيثَ أَحْرَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لَه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي السُّكُوتِ وَالنُّطْقِ فَقَطْ، وَيَكُونَ السُّكُوتُ كَافِيًا فِي الْعَقْدِ)
(5)
.
الكل يستأذن لكن الثيب لا بد أن تقول: نعم، أو لا؛ لأنها قد
(1)
يقصد أن ظاهرها إن عقدت لنفسها بالمعروف فلا تثريب عليها، ولا يقول بذلك أحد.
(2)
أي: أن أنها تعقد النكاح.
(3)
أي: إذا لم يكن بالمعروف، كما نصت الآية.
(4)
حديث عائشة المتقدم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها
…
".
(5)
يُنظر: "شرح النووي علي مسلم"(9/ 204)؛ حيث قال: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر: "ولا تنكح البكر حتى تستأمر
…
" والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء؛ لعموم الحديث لوجود الحياء، وأما الثيب فلا بد فيها من النطق بلا خلاف سواء كان الولي أبًا أو غيره؛ لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال".
جربت النكاح، وذاقت حلوه ومره، أما البكر فالمعروف فيها أنها تستحي، ويصعب عليها أن تنطق، وإن كان في زماننا هذا قد تغيرت الأمور فهي تعبر عما في نفسها.
قوله: (وَالاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] هُوَ أَظْهَرُ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلِي الْعَقْدَ مِنَ الاحْتِجَاجِ بقَوْلِهِ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ، وَقَدْ ضَعَّفَتِ الْحَنَفِيَّةُ
(1)
حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَحَكَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ)
(2)
.
الذين رووا الحديث ثقات وغير متهمين بالكذب، ثم إن الزهري بشر، وهو ينسى
(3)
.
وفي قصة آدم عليه السلام لما رأى ابنه داود فمنحه من عمره أربعين سنة فلما جاء ملك الموت يقبضه قال: يا رب بقي من عمري أربعون
(1)
ضعفه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(73)؛ حيث قال: "حديث ابن جريج الذي ذكرناه عن سليمان بن موسى، قد ذكر ابن جريج أنه سأل عنه ابن شهاب، فلم يعرفه
…
وهم يسقطون الحديث بأقل من هذا، وحجاج بن أرطاة، فلا يثبتون له سماعًا عن الزهري، وحديثه عنه عندهم مرسل، وهم لا يحتجون بالمرسل، وابن لهيعة، فهم ينكرون على خصمهم الاحتجاج عليهم بحديثه، فكيف يحتجون به عليه في مثل هذا".
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (19/ 68)؛ حيث قال: "ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه عنه جماعة لم يذكروا ذلك ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة؛ لأنه قد نقله عنه ثقات
…
فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك شيء؛ لأن النسيان لا يعصم منه إنسان".
(3)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 287 - 286)؛ حيث قال: "وإذا ثبت هذا عن الزهري كان نسيانًا منه، وذلك لا يدل على الطعن في سليمان لأنه ثقة، ويدل على أنه نسي: أن هذا الحديث قد رواه عنه جعفر بن ربيعة وقرة بن عبد الرحمن وابن إسحاق، فدل على ثبوته عنه. والإنسان قد يحدث وينسى".
سنة، ثم ذُكِّر بأنه قد أعطاها، أو وهبها لابنه داود ثم جاء الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"فنسي آدم فنسيت ذريته"
(1)
، إذن هذا أول نبي أرسله الله سبحانه وتعالى أرسله إلى الأرض، ومن هذا النبي خلقت زوجته حواء، ومع هذا نسي.
وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يقول: "إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني"
(2)
.
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم انصرف من ركعتين في صلاة الظهر فلما جاءه المعروف بذي اليدين قال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: "ما قصرت وما نسيت"، ثم التفت إلى أصحابه فسألهم فأقروا ذا اليدين فقام عليه الصلاة والسلام فأتم صلاته وسجد سجود السهو
(3)
، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان سمي إنسانًا لكثرة نسيانه
(4)
.
فليس من الغريب أن ينسى الزهري مع حفظه لجملة من آلاف
(1)
أخرجه الترمذي (3076) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلًا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته". وحسنه الألباني في "المشكاة"(118).
(2)
أخرجه البخاري (401)، ومسلم (89 - 572)، عن عبد الله بن مسعود:"ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى ما تنسون، فإذا نسيت فذكروني".
(3)
أخرجه البخاري (714)، ومسلم (573)، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين" فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين، ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول.
(4)
روي عن ابن عباس أنه قال: "إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي". انظر: "تفسير الطبري"(18/ 383).
الأحاديث التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يقدح في الحديث، وهو حديث صحيح والنسيان لا يرد ذلك
(1)
.
قوله: (قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوِلَايَةَ، وَلَا الْوِلَايَةُ مِنْ مَذْهَبِ عَائِشَةَ
(2)
، وَقَدِ احْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:"لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، وَلَكِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ
(3)
).
"ولا الولاية من مذهب عائشة" يعني: عائشة أيضًا لا تشترط هذا، لكن روي عن عائشة حديث:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
(1)
يُنظر: "مقدمة ابن الصلاح"(117)؛ حيث قال: "إذا قال المروي عنه: "لا أعرفه، أو لا أذكره" أو نحو ذلك، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه. ومن روى حديثًا ثم نسيه لم يكن ذلك مسقطًا للعمل به عند جمهور أهل الحديث، وجمهور الفقهاء، والمتكلمين، خلافًا لقوم من أصحاب أبي حنيفة صاروا إلى إسقاطه بذلك، وبنوا عليه ردهم حديث سليمان بن موسى عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها، فنكاحها باطل
…
" الحديث، من أجل أن ابن جريج قال: "لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه"".
(2)
أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" عن عائشة رضي الله عنها: "أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: مثلي يصنع هذا به ويفتات عليه؟ فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن الزبير، فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت لأرد أمرًا قضيته، فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقًا".
وحمله البيهقي على تمهيد الزواج لا العقد، فقال عقب روايته لهذا الحديث:"إنما أريد به أنها مهدت تزويجها، ثم تولى عقد النكاح غيرها، فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك وتمهيدها أسبابه، والله أعلم".
(3)
يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 352)؛ حيث قال: "حديث ابن عباس لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل، الشافعي والبيهقي من طريق ابن خثيم عن سعيد بن جبير عنه موقوفًا. وقال البيهقي بعد أن رواه من طريق أخرى عن ابن خثيم بسنده مرفوعًا بلفظ: "لا نكاح إلا بولي بإذن ولي مرشد أو سلطان" قال: والمحفوظ الموقوف". وانظر: "سنن الدارقطني"(4/ 15)؛ حيث قال: "رفعه عدي بن الفضل ولم يرفعه غيره".
وروي عن ابن عباس رواه الدارقطني
(1)
برواية أخرى: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوَلِيٍّ مرشد وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، والأحاديث في ذلك كثيرة عن عدد من الصحابة.
ثم لو سلمنا بذلك فالأوْلى أن هذا النكاح فيه حفظ النسب فكيف يعقد نكاح مشكوك فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل"
(2)
.
قوله: (وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي نِكَاحِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أُمَّ سَلَمَةَ وَأَمْرِهِ لابْنِهَا أَنْ يُنْكِحَهَا إِيَّاهُ
(3)
).
هذا الحديث الذي يشير إليه المؤلف رواه الخمسة إلا النسائي
(4)
وهو حديث صحيح، ولكن رُدَّ عليه أن الذي عقد النكاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 15) عن عدي بن الفضل، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل".
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 318)؛ حيث قال: "وفي هذا الحديث نظر؛ لأن عمر كان له من العمر يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، وكيف يقال له: زوج؟! وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في سنة أربع، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمر تسع سنين، فعلى هذا يحمل قولها لعمر: "قم فزوج" أن يكون على وجه المداعبة للصغير".
ولو صح أن يكون الصغير قد زوجها فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر نكاحه إلى ولي، قال أبو الوفاء بن عقيل: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز أن يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ولي لأنه مقطوع بكفاءته".
وروي عن أحمد ما يخالف ذلك.
وينظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 15)؛ حيث قال: "قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله، فحديث عمر بن أبي سلمة، حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة، أليس كان صغيرًا؟ قال: ومن يقول كان صغيرًا، ليس فيه بيان".
(4)
أخرجه أبو داود (3119)، وأخرجه الترمذي (3511)، وابن ماجه (1598)، وابن حبان (2949)، وصححه الألباني في "الإرواء"(1818).
هو عمر بن سلمة يعني: ابن أم سلمة، وكان صغيرًا كما ذكر الرواة أنه ولد بعد الهجرة إلى الحبشة
(1)
بسنتين، وفي بعض الروايات أن الذي تولى العقد سلمة ابنها الأكبر
(2)
، ثم المعقود له هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يتولى ذلك كما قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)} [الأحزاب: 6].
إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه في هذا الأمر
(3)
، وهذا ليس فيه دلالة على ضعف الحديث، وإنما فيه أن الذي عقد النكاح هو: لأنها قالت قم يا عمر بعد أن قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا أحد من أوليائك حاضر ولا غائب" قالت: قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
قوله: (وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي فَمُحْتَمَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّشْدَ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَرْأَةِ اكتُفِيَ بِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، كَمَا يُكْتَفَى بِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ).
(1)
يُنظر: "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 169)؛ حيث قال: "عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد القرشي المخزومي ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، وقيل: إنه كان له يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين
…
وتوفي بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وثمانين".
(2)
يُنظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 641)؛ حيث قال: "سلمة بن أبي سلمة
…
ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول أهل العلم بالنسب: إنه الذي عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمه أم سلمة، فلما زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب أقبل على أصحابه، فقال: تروني كافأته! وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبي سلمة، وعاش إلى خلافة عبد الملك بن مروان، لا أحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أخوه عمر". وانظر أيضًا:"نصب الراية"(4/ 93).
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 9)؛ حيث قال: "فأما نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بغير ولي وغير شهود، فمن خصائصه في النكاح، فلا يلحق به غيره".
(4)
تقدَّم تخريجه.
فمهما وجد الرشد في النساء فهن كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عنهن: "ناقصات عقلٍ ودين، لو أحسنت لهن الدهر كله تم رأت منك شْيئًا ولو يسيرًا قالت: ما رأيت خيرًا قط"
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: "يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "لا؛ يكفرن العشير"
(2)
.
وقال: "قد عوضت عليَّ النار فرأيت أكثرها النساء".
ولا شك أن الكثير منهن صالحات مؤمنات كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب: 35]، لكن غالب عادات النساء أنه مهما حصل لها من شيء فتنكر لما مضى؛ هذه صفة من صفاتها المرأة قاصرة ناقصة يلحقها القصور فلا يمكن أن تصل إلى درجة الريادة ولذلك لا تقاتل، ولا تجاهد، وفي كثير من الأحكام على النصف من أحكام الرجل.
قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مَائِلَةٌ بِالطَّبْعِ إِلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ مِنْ مَيْلِهَا إِلَى تَبْذِيرِ الْأَمْوَالِ).
قصد المؤلف: أن المرأة تميل إلى الرجل بطبيعتها وعادتها وتأنس
(1)
أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79، 80) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان دينها".
(2)
أخرجه البخاري (29)، ومسلم (907) عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط".
بالرجل شرعًا؛ لأنها ضعيفة فمن الذي يجبر نقصها هو الرجل فهذا دلالة على ضعفها، لكنها ربما تفرط في المال هذا الذي يريد المؤلف، ولكن قد نجد من النساء مَن عندهن من انرشد والتصرف ما لا قد تجده عند بعض الرجال، أليس يوجد من الرجال من يحجر عليه لسفهه؟ والله تعالى يقول:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 5، 6]، فالمرأة مهما كانت فهي ناقصة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
(1)
. ويقول: "أخروهن من حيث أخرهن الله"
(2)
؛ ليس ذلك لعيب في المرأة، ولكن هذه منزلة وضعها الله سبحانه وتعالى لها؛ فالمرأة خلقت لتكون ربة بيت، لتحمل، لتلد، لتربي الأولاد، لتقوم بشؤون المنزل، وهي فوق ذلك أم فيها الحنان والشفقة، والرحمة والعطف، وهي أيضًا تمثل جانبًا كبيرًا في المجتمع الإسلامي.
قوله: (فَاحْتَاطَ الشَّرْعُ بِأَنْ جَعَلَهَا مَحْجُوزةً فِي الْمَعْنَى عَلَى التَّأْبِيدِ، مَعَ أَنَّ مَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْعَارِ فِي إِلْقَاءِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ كَفَاءَةٍ يَتَطَرَّقُ إِلَى أَوْليَائِهَا، لَكِنْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْفَسْخُ أَوِ الْحِسْبَةُ).
يتطرق لأوليائها؛ لأنه إن تزوجت إنسانًا قاصرًا سيترتب على هذا البيت أنه سيعيش في عذاب، وفي فلق وفي نكد، وربما يصل ذلك إلى الطلاق، لكن عندما يختار الزوجة العاقلة الحكيمة الراشدة لا شك أن هذا
(1)
أخرجه البخاري (4425).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 149) عن ابن مسعود موقوفًا، وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (918):"لا أصل له مرفوعًا".
بإذن الله فيه السعادة، لكن تصرف الرجل ليس كتصرف المرأة فالرجل عنده من الإدراك، ومن البصيرة، ومن أخذ الحيطة ما ليس عند المرأة، فالمرأة كما ذكر المؤلف تأخذها العاطفة والميل إلى الرجال.
والحسبة
(1)
: من الاحتساب بمعنى: أنه يريد أن الولي يحتسب في ذلك.
والفقهاء فَصَّلوا ما يعرف بالسياسة الشرعية من الفقه، وهذا مصطلح جديد ومعروف فجعلوا مثلًا: السياسة الشرعية تتعلق بأحكام النظام المالي في الإسلام نظام الدولة، ومن الحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة كانت فيما مضى أوسع مما نحن فيه الآن كان يدخل فيها بعض الأنظمة التي تقوم بها البلديات والشرطة وغيرهم، الآن الحسبة هم الذين يسمونهم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأصل في الحسبة أنك تحتسب وتقتضي بهذا الأمر وجه الله سبحانه وتعالى لا تريد عليه شيئًا، لكن إن وضع لك رزق وأنت بحاجة إليه ووقفت نفسك على هذا فهذا أمر جائز شرعًا.
قوله: (وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ كمَا تَرَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الشَّارعُ اشْتِرَاطَ الْوِلَايَةِ لَبَيَّنَ جِنْسَ الْأَوْليَاءِ وَأَصْنَافَهُمْ وَمَرَاتِبَهُمْ).
في الولي الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلَّا بولي وشاهدي عدل"
(2)
، وكثير من الأدلة التي في كتاب الله عز وجل جاءت مجملة، والمجملة بينتها سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك كثير من المسائل اجتهد فيها العلماء فخَرجوها عن أدلة الكتاب والسنة، فذكر الأصول:"لا نكاح إلا بولي مرشد"، فوضع المقياس السليم للولي.
(1)
الحسبة: بكسر الحاء الأجر، وحاسبته من المحاسبة واحتسبت عليه كذا، إذا أنكرته عليه. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 110).
(2)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (فَإِنَّ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ).
هذا إذا كان لا يوجد بيان، لكن البيان موجود، ولأنه لا بد من وجود الولي، وأن يكون عدلًا أي: مرشدًا عند بعض العلماء، وأن يتولى العقد بنفسه والرجل له القوامة، والله تعالى يقول:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، ويقول تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
قوله: (فَإِذَا كانَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
(1)
، وَكَانَ عُمُومُ الْبَلْوَى
(2)
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُنْقَلَ اشْتِرَاطُ الْوِلَايَةِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم توَاتُرًا أَوْ قَرِيبًا مِنَ التَّوَاتُرِ، ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ - فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُ لَيْسَتِ الْوِلَايَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا لِلْأَوْلِيَاءِ الْحِسْبَةُ فِي ذَلِكَ).
يعني: أن يكون محتسبًا أقرب ما يكون إلى التبرع، وهذا أعلى درجة في نظر المؤلف.
قوله: (وَإِمَّا إِنْ كَانَ شَرْطًا فَلَيْسَ مِنْ صِحَّتِهَا تَمْيِيزُ صِفَاتِ الْوَلِيِّ وَأَصْنَافِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ يَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ يُبْطِلُ عَقْدَ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأَقْرَبِ.
(1)
يعني: أن العبادة إذا احتاجت إلى بيان واحتيج إليه فلا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم، ومذاله أن يقول: صلوا غدًا، ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون. وهذا محل اتفاق بين الأصوليين، قال الغزالي في "المستصفى" (ص 192):"لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال". وينظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 688).
(2)
قال الزركشي في "البحر المحيط"(6/ 258) قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في "تعليقه": "ومعنى قولنا: تعم به البلوى: أن كل أحد يحتاج إلى معرفته".
الْمَوْضِعُ الثَّانِي:
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْوِلَايَةِ وَالسَّالِبَةِ لَهَا، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوِلَايَةِ الْإِسْلَامَ
(1)
، وَالْبُلُوغَ، وَالذُّكورَةَ).
المؤلف يرد على نفسه بنفسه؛ لأنه الآن سيتكلم عن شروط الولاية:
* الإسلام: مسألة متفق عليها عندما درسنا الصلاة قلنا أيضًا لا تُقبل الصلاة إلا من مسلم، والله تعالى يقول:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، هذه كلها يشترط فيها الإسلام؛
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 106)؛ حيث قال: "ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون ولا كافر على مسلمة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 428)؛ حيث قال: "شروط الولاية ثمانية: ستة متفق عليها واثنان مختلف فيهما فالستة: أن يكون حرًّا بالغًا عاقلًا ذكرًا حلالًا مسلمًا والاثنان: أن يكون رشيدًا عدلًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للخطيب الشربيني (2/ 408)؛ حيث قال: " (ويفتقر الولي والشاهدان) المعتبرون لصحة النكاح (إلى ستة شرائط) بل إلى أكثر كما سيأتي الأول (الإسلام) وهو في ولي المسلمة إجماعًا، وسيأتي أن الكافر يلي الكافرة، وأما الشاهدان فالإسلام شرط فيهما سواء أكانت المنكوحة مسلمة أم ذمية؛ إذ الكافر ليس أهلًا للشهادة (و) الثاني (البلوغ و) الثالث (العقل) فلا ولاية لصبي ومجنون لأنهما ليسا من أهل الشهادة (و) الرابع (الحرية) فلا ولاية لرقيق ولا يكون شاهدًا (و) الخامس (الذكورة)
…
(و) السادس (العدالة) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع" للبهوتي (ص 514)؛ حيث قال: " (وشروطه)؛ أي: شروط الولي: (التكليف)؛ لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له فلا ينظر لغيره. (والذكوردة) لأن المرأة لا ولاية لها على نفسها فغيرها أولى. (والحرية) لأن العبد لا ولاية له على نفسه فغيره أولى. (والرشد في العقد) بأن يعرف الكفء ومصالح النكاح لا حفظ المال، فرشد كل مقام بحسبه. (واتفاق الدين) فلا ولاية لكافر على مسلمة ولا لنصراني على مجوسية لعدم التوارث بينهما
…
(والعدالة) ولو ظاهرة، لأنها ولاية نظرية، فلا يستبد بها الفاسق إلا في سلطان وسيد يزوج أمته".
إذن هذا أمر معروف ومُطِرِد في أحكام الشريعة الإسلامية وفي أحكام الفقه، فيشترط في الولى أن يكون مسلمًا؛ لأن الله تعالى يقول:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
ويقول عن الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
فالإسلام مطلوب في هذا المقام؛ لأن هذه ولاية بمعنى أنها سلطة، والكافر لا سلطة له على مسلم ذكرًا كان أو أنثى، فلا ولاية لكافر على مسلم.
* البلوغ: ذهبا إليه جمهور العلماء: الحنفية والمالكية والشافعية وهي رواية للإمام أحمد
(1)
، إلى أنه يشترط في الولي أن يكون وصل سن البلوغ، والبلوغ يُعرف بعدة علامات: الإنبات، وصوله الخمس عشرة سنة، خروج المني؛ يعني: الاحتلام، والإمام أحمد له رواية أخرى
(2)
يقول: إذا بلغ الغلام عشر سنين فله أن يتزوج وله أن يعقد النكاح وله أيضًا أن يُوكل غيره وله أن يُطلِّق إذا بلغ عشر سنوات، لكن مذهب الجمهور في الحقيقة هو الراجح في هذه المسألة؛ لأن البلوغ مطلوب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:"رُفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصغير حتى يبلغ"
(3)
.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 72)؛ حيث قال: "وهل يشترط بلوغه وعدالته؟ على روايتين
…
إحداهما: يشترط بلوغه. نص عليه في رواية ابن منصور، والأثرم، وعلي بن سعيد، وحرب. وهو المذهب. قال المصنف، والشارح: هذا ظاهر المذهب. قال في المذهب: يشترط بلوغه في أصح الروايتين".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 73)؛ حيث قال: "والرواية الثانية: لا يشترط بلوغه. فعليها: يصح تزويج ابن عشر. قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا بلغ عشرًا: زوج وتزوج".
(3)
أخرجه أبو داود (4400)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).
فهذا الحديث يدل على أن الصغير ليس له حق الولاية، هذا هو الذي نرجحه وهو مذهب جمهور العلماء.
* أما الذكورة: ضد الأنوثة؛ لأن المرأة كما ذكرنا خلافًا للحنفية ليس لها أن تعقد لنفسها، فمن باب أولى أن تعقد لغيرها؛ لأنه يتطرق إليها صفة النقص، هي ناقصة عن الرجال في كثير من الأحكام، وقد ذكرناها في أسباب التخفيف السبعة التي منها: المرض والسفر والنسيان والإكراه والجهل، والنقص موجود في المرأة وفي العبد المملوك، فهؤلاء يتطرق إليهم النقص، فكيف تكون لا ولاية لها على نفسها ثم تكون لها ولاية على غيرها؛ ولذلك المرأة إذا كانت عندها مملوكة فيتولى عقدها من يتولى عقد المرأة نفسها.
قوله: (وَأَنَّ سَوَالِبَهَا أَضْدَادُ هَذِهِ؛ أَعْنِي: الْكُفْرَ وَالصِّغَرَ وَالْأُنُوثَةَ).
السوالب يعني: الكفر، الإسلام ضده الكفر، الصغر وضده البلوغ، الجنون وضده العقل، الأنوثة ضدها الذكورة، والذكورة ضدها الأنوثة، أجمل المؤلف، وقلت لكم: ليس لكافر أن يعقد على مسلمة؛ لأنه بإجماع العلماء لا يجوز لكافر أن يعقد على مسلمة؛ لأنها ولاية، ولا ولاية لكافر على مسلم، والله تعالى قد قصر الولاية على المؤمنين بعضهم ببعض كما قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ وَالسَّفِيهِ).
اختلفوا في ثلاثة: في العبد: الذي هو المملوك هل له أن يعقد؟ جمهور العلماء ليس له أن يتولى العقد؛ لأنه كما قلنا ناقصٌ، فيه قصور، فهو مما يتطرق إليه الناس؛ ولأنه لا يتولى العقد لنفسه؛ لأنه لا ولاية له على نفسه، فمن باب أولى لا ولاية له على غيره، لكن بعض العلماء استثنى صورة: أنه إذا كانت المرأة لها مملوك فأذنت له أن يُزوِّجها هذه المسألة فيها خلاف.
قوله: (فَأَمَّا الْعَبْدُ فَالْأَكثَرُ عَلَى مَنْعِ وِلَايَتِهِ
(1)
، وَجَوَّزَهَا أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَمَّا الرُّشْدُ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ؛ أَعْنِي: عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(3)
أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا).
الرشد هو: أن يكون بلغ سن الرشد، وهذا قد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس:"لا نكاح إلا بولي مرشد"
(4)
، فالمشهور في المذهب عند أكثر المالكية هو كذلك أيضًا عند الحنابلة في المشهور وعند الشافعية.
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
(5)
، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَشْهَبُ، وَأَبُو مُصْعَبٍ
(6)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ تَشْبِيهُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ
(1)
وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، والحنفية أيضًا:
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 428)؛ حيث قال: "شروط الولاية ثمانية: ستة متفق عليها واثنان مختلف فيهما فالستة: أن يكون حرًّا
…
".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع" للخطيب الشربيني (2/ 408)؛ حيث قال: " (ويفتقر الولي والشاهدان) المعتبرون لصحة النكاح (إلى ستة شرائط)
…
الرابع (الحرية) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع" للبهوتي (ص 514)؛ حيث قال: (وشروطه)؛ أي: شروط الولي:
…
والحرية".
(2)
المعروف من المذهب عدم تجويز ولاية العبد.
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 69)؛ حيث قال: "ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون، ولا كافر على مسلمة". وانظر: "فتح القدير" لابن الهمام (3/ 255).
(3)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (5/ 108)؛ حيث قال: "وليست العدالة ولا الرشد في المال بشرط في صحتها".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (5/ 108)؛ حيث قال: "وإن كان الاختيار أن يكون عدلًا رشيدًا".
(6)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 72)؛ حيث قال: "إن لم يول على السفيه وهو ذو رأي جاز إنكاحه اتفاقًا. الباجي عن أشهب وابن وهب: أخته كابنته. ابن العطار: لا يزوجها بل وصيه أو السلطان فإن عقد فسخ، وروى ابن أشرس عن مالك في =
بِوِلَايَةِ الْمَال فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ قَدْ يُوجِبُ الرُّشْدَ فِي هَذه الْوِلَايَةِ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْمَالِ).
المال يشترط أن مَن يتصرف فيه يكون راشدًا، لا أن يكون سفيهًا؛ ولذلك في قصة الرجل الذي كان يخدع في البيع، قال له الرسول:"اشترِ وقل لا خِلابة"
(1)
؛ يعني: لا خديعة، ولأجل ذلك وُضعت الشروط المعروفة: شرط المجلس والخيار، إلى غير ذلك من الشروط التي تُذكر في أقوال البيع.
قوله: (قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا فِي الْمَالِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ قَالَ: لا بد مِنَ الرَّشِيدِ فِي الْمَالِ، وَهُمَا قِسْمَانِ كَمَا تَرَى؛ أَعْنِي: أَنَّ الرُّشْدَ فِي الْمَالِ غَيْرُ الرُّشْدِ فِي اخْتِيَارِ الْكَفَاءَةِ لَهَا).
والحقيقة أن الرشد في المال مطلوب؛ ولذلك جاء الحَجْر على السفيه، حتى لا يحصل تصرف سيئ؛ لأنه يُضيع المال ويُخدع في البيع، لكن من الناس من يوفقه الله وتجده ذو مهارة ومعرفة.
لَوْ كانَتِ الأرزَاقُ تَجْري على الحِجَا
…
هلكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهنَّ البَهَائِمُ
(2)
فليس الاشتغال بالمال علامة العقل فقد تجد الإنسان بسيطًا لكن تجد عنده مهارة في البيع، وتجد إنسان عنده الورع والتُّقى والدقة، لكن ما يعرف البيع والشراء، وقد يُخدع.
= المرأة لا يكون لها ولي إلا مولى عليه: ليس له أن يستخلف من يزوجها لأنه لا نكاح لسفيه. وقال أبو مصعب: النكاح فاسد".
(1)
أخرجه البخاري (2117)، ومسلم (1533) عن ابن عمر: أنه ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من بايعت فقل: لا خلابة". أي: لا خديعة.
(2)
البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي. يُنظر: "نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري (3/ 95).
قوله: (وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا
(1)
فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا نَظَرٌ لِلْمَعْنَى؛ أَعْنِي: هَذه الْوِلَايَةَ).
العدالة: ضد السفه، والسفه ذكر في مواضع كثيرة، حتى في أبواب الصلاة، وأن السفه لا يؤثر وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة واجبة عليهم خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا"
(2)
، وصلى الصحابة رضي الله عنهم خلف الفُسَّاق وشواهد ذلك كثيرة.
ولكن الفسق أنواع:
* فسق في العقيدة: مثل ما يتعلق بأن يكون جهميًّا
(3)
أتباع
(1)
فذهب الحنفية إلى عدم اشتراط العدالة واختلف فيها المالكية والمختار اشتراطها كما عند الشافعية والمعتمد للحنابلة:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 190)؛ حيث قال: "لا تشترط العدالة حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله له أن الشهادة من باب الكرامة والفاسق من أهل الإهانة ولنا أنه من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (5/ 108)؛ حيث قال: "وإن كان الاختيار أن يكون عدلًا رشيدًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 331)؛ حيث قال: "لأنه لما منعه الفسق من الولاية على أولاده، كان أولى أن يمنعه من الولاية على أولاد غيره".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (93)؛ حيث قال: "ويشترط للولي ثمانية شروط
…
السادس: العدالة فلا يلي الفاسق نكاح قريبته وإن كان أبًا".
(2)
أخرجه أبو داود (594) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(527).
(3)
الجهمية: أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وإنكار الاستطاعات كلها، وزعموا أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعموا أيضًا أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، وقالوا: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الاعمال إلى المخلوقين على المجاز. انظر: "مقالات الإسلاميين" للأشعري (ص 279)، "الفرق بين الفرق" للبغدادي (ص 199).
جعد بن درهم وغير أولئك الأقوام الذين خرجوا عن الطريق السوي، فمنهم من قال: بخلق القرآن، منهم من قال: بنفي القدر، إلى غير ذلك، لكن إذا كان السفه غير ذلك بمعنى أن يكون الإنسان مقصرًا في بعض الأمور فهذا لا يؤثر في ولايته عند بعض العلماء وبعضهم قال: يؤثر فإذا وجد الإنسان الذي جمع صفات الكمال الظاهرة فهو أولى، لكن لو وُجِد مثلا أب عنده نوع من السفه، وعم يتصف بكل الصفات، فهل تنتقل الولاية؟
والجواب: إن وُجِد أخ شقيق وأخ لابن والأخ لأب أكثر تقًى وورعًا وصلاحًا من الأخ الشقيق، من أن هناك خلافًا: هل قضية الأخ الشقيق يختلف عن الأخ لأب، بعضهم يرى: أنهم سواء؛ لأنهما يدليان بالأب في هذه الولاية، فلا تأثير، وبعضهم يقول: لا، الأخ الشقيق هو أولى وهذا الصحيح، والعدالة تأتي في الشهادة، فالشاهد لا بد أن يكون عدلًا، أما الفاسق فلا تُقبل شهادته، وليست كرواية العدل.
قوله: (فَلَا يُؤْمَنُ مَعَ عَدَمِ الْعَدَالَةِ أَلَّا يَخْتَارَ لَهَا الْكَفَاءَةَ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَالَةَ الَّتِي بِهَا يَخْتَارُ الْأَوْلِيَاءُ لِمُوَلِّيَاتِهِمُ الْكُفْءَ غَيْرُ حَالَةِ الْعَدَالَةِ، وَهِيَ خَوْفُ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ).
المؤلف الآن أشار إلى أن اختيار الأولياء لمولياتهم الكفء، فلو تساهل في هذا الأمر فرمى ابنته أو أخته لرجل ليس مستقيمًا قد يجره ذلك إلى العار، فيقال: هذا هو صهرك، هذا زوج ابنتك أو زوج أختك فهذا يضره، هذا هو المراد.
قوله: (وَهَذِهِ هِيَ مَوْجُودَةٌ بِالطَّبْعِ، وَتلْكَ الْعَدَالَةُ الْأُخْرَى مُكْتَسَبَةٌ).
موجودة يعني: بطبيعة الإنسان، فكل إنسان يغار على محارمه، والذي لا يغار على محارمه هو الديوث، وفي قصة الشاب الذي جاء فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جريئًا، وقال: يا رسول الله، ائذن
لي في الزنا، فيشتد الصحابة يريدون ضربه، فيشير إليهم؛ أي: دعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أترضاه لأمك" قال: لا، قال:"ولا الناس يرضونه لأمهاتهم"، قال:"أترضاه لابنتك"، قال: لا، قال:"ولا الناس يرضونه لبناتهم، أترضاه لأختك"، قال: لا، قال:"ولا الناس يرضونه لأخواتهم"، إلى أن وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال:"اللهم حصن فرجه واغفر ذنبه وطهر قلبه"، فقال الشاب: فما كرهت شيئًا أعظم من كرهي للزنا
(1)
.
هذه هي التربية الإسلامية، فقد ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشاب الذي جاء في عنفوان شبابه، كانت الشهوة تسيطر على جوارحه، فأخمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أعطاه درسًا مؤثرًا، لو كانت عندك أم أترضى أن يحصل لها ذلك، لا، هذا من أشد الأمور، ولذلك ترون ما جاء في الربا كما جاء في الحديث:"أعظم من أن يزني الإنسان بأمه ستة وثلاثين زنية"
(2)
، هذا مما يدلنا على خطورة الربا، كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وبين الله سبحانه تعالى أن من يتعامل بالربا:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
فهذه الشريعة الخالدة تعالج المشكلة؛ فهل نحن تأثرنا بمنهج رسول الله في سيرته، في تربيته لأمته، في شفقته بهم، إننا لو سلكنا هذا المسلك الرشيد في الدعوة إلى دين الله، في تبصير الناس، في الأخذ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(22211) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة"(370): "هذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح".
(2)
أخرج الإمام أحمد في "مسنده"(21957) عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية". وقال الأرناؤوط: "ضعيف مرفوعًا، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه".
وأخرج ابن ماجه في "سننه"(2274) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون حُوبًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمَّه". وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه".
بأيديهم إلى شاطئ الخير والسلام، فلو أمسكت شابًا فأخذت تؤثر فيه، تُبيِّن له الحق، لا شك أن دورك هذا الطيب إنما سينفذ إلى قلبه، ويستولي عليه، لكن لو تكلمت معه بشدة وبغلظة لنَفَّرْته ومن ذلك، والله تعالى يقول عن نبيه:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وفي قصة الرجل الذي بال في المسجد فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دعوه لا تزرموه
(1)
"ثم يأمر بذنوب
(2)
من ماء فيصبه عليه
(3)
.
وفي قصة الرجل الذي يعطس في الصلاة فيقول: يرحمك الله، فيرميه القوم بأبصارهم ثم يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه وهو ترتعد فرائصه، فقال له:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكببر وقراءة القرآن"، ولذلك قال: ما رأيت معلمًا أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا شتمني ولا ضربني
(4)
.
وفي قصة الرجلين الذين كانا في الحج في مسجد الخيف؛ لما صلى
(1)
لا تزرموه: أي: لا تقطعوا بوله عليه. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 310).
(2)
الذَّنوب: الدلو العظيمة، وقيل: لا تسمى ذنوبًا إلا إذا كان فيها ماء. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 171).
(3)
أخرجه البخاري (6025)، ومسلم (284) عن أنس بن مالك: أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال. رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تزرموه" ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه.
(4)
أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
رسول الله صلى الله عليه وسلم واتجه بوجهه إلى القوم فرأى رجلين قد اعتزلا القوم في آخر المسجد، فدعاهما فجاؤوا ترتعد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا"، قالا: صلينا في رحالنا، قال:"إذا صليتما في رحالكما وأتيتما مسجد جماعة فصليا؛ فإنها تكون لكما نافلة"
(1)
.
فما أحوجنا أن نأخذ التربية الإسلامية من منهج وطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الجن قد أخذ هذا القرآن بقلوبهم وسيطر عليهم ونزلوا عنده ونقلوا ذلك إلى أقوامهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج ربَّى أصحابه رضي الله عنهم، أخذوا العلم من مشكاة النبوة صافيًا نقيًّا؛ ولذلك تأثروا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا يفتحون البلاد بهديهم بالقرآن قبل أن يفتحوها بالسيف والسنان، كانوا يرون هذا القرآن مطبقًا في أقوالهم، في أفعالهم، في أخلاقهم، في أعمالهم، هذا هو واجب المسلمين جميعًا أن يكونوا كذلك.
قوله: (وَلِنَقْصِ الْعَبْدِ يَدْخُلُ الْخِلَافُ فِي وِلَايَتِهِ كمَا يَدْخُلُ فِي عَدَالَتِهِ).
العبد ناقص؛ لأنه لا يملك نفسه، ولكن سيده يملك رقبته، وأنه لا يجاهد وإن كان هناك جهاد فلا بد من إذن سيده، فهو ناقص كالمرأة ولذلك ليس له أن يعقد النكاح لغيره؛ لأنه لا ولاية له على نفسه فكيف تكون له ولاية على غيره.
(1)
أخرجه الترمذي (219) عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال:"علي بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال:"فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة".
[الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ فِي أَصْنَافِ الْأَوْليَاءِ وَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْوِلَايَةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: وَأَمَّا أَصْنَافُ الْوِلَايَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا
(1)
فَهِيَ نَسَبٌ، وَسُلْطَانٌ، وَمَوْلًى أَعْلَى وَأَسْفَلَ).
في هذا نجد قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ
…
وَلَكِنَّ التَّقيَّ هُوَ السَعيدُ
وتقوى الله للمرء ذخرٌ
…
وعند الله للأتقى مزيدُ
(2)
إذن هذه هي التقوى، ولذلك في قصة زين العابدين، عندما سُئِلَ الفرزدق عنه فقيل: من هذا؟ قال:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
…
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ
…
هذا التَّقيُّ النَّقيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
(3)
ونجد أن الله يشيد بأهل التقوى في كتابه كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].
هل الكفاءة شرط أو ليست بشرط، وما المراد بالكفاءة، وهل هي الكفاءة فقط في الدين فقط؟ وكما هو مذهب المالكية، ويُضَافُ إليها النسب والحرية، ويضاف إليها الصناعة، ويضاف إليها اليسر، هذه شروطٌ
(1)
يعني: عند الجمهور خلافًا للحنفية الذين لم يشترطوا الولاية في النكاح كما تقدم.
(2)
من شعر الحطيئة العبسي. يُنظر: "أمالي القالي"(2/ 202).
(3)
من شعر الفرزدق في مديح الإمام زين العابدين. انظر "شرح ديوان الحماسة" للتبريزي (2/ 284).
خمسة بعضها متفقٌ عليها وهي الدين، الدين هذا لا يخالف فيه أحد من أئمة المذاهب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:"تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَع: لِمَالِهَا، وَلحَسَبِهَا، وَلجَمَالِهَا، وَلدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"
(1)
.
فالمرأة التي تكون صالحة دينة تقية ورعة ذات خلقٍ كريم، وصفاتٍ حميدة، هذه كل إنسانٍ يسعى إليها، حتى ولو كان عندها تقصير هو يريد هذا النوع من النساء، ولاية النسب هي التي تأتي في التعصيب الأب وإن علا، والابن وإن نزل، والإخوة، وأبناء الإخوة، والأعمام وأبناء الأعمام، هؤلاء هم النسب، والمملوك من الذي يتولى أمره سيده، ولذلك العلماء يشترطون ويقولون: يتولى عقد المرأة الحرة الأب وإن علا والإخوة، وأبناء الإخوة، والأعمام وأبناء الأعمام؛ لأن المملوكة لا ولاية لأبيها عليها ولا لابنها وإنما وليها هو سيدها الذي يملك رقبتها.
قوله: (وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
صِفَةٌ تَقْتَضِي الْوِلَايَةَ عَلَى الدَّنِيئَةِ).
يعني: المالكية عمومًا يُقسِّمون النساء إلى قسمين:
* نساء أشراف التي تكون من قريش أو من القبائل المعروفة المشهورة.
* أو أن تكون دنيئة؛ يعني: لا أصل لها.
أما تقسيم الولاية من هذا الجانب إلى قسمين:
* الأولى: ولايةٌ خاصة تختص بها الشريفة.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 182)؛ حيث قال: "فلو عقد النكاح بالولاية العامة في امرأة دنيئة مع وجود الولي الخاص وهو غير مجبر فالمشهور وهو ابن القاسم أن النكاح صحيح، وإليه أشار بقوله (وصح بها)؛ أي: بالولاية العامة؛ أي: بسببها (في دنيئة)؛ أي: في عقد نكاح امرأة دنيئة (مع خاص)؛ أي: مع وجود ولي خاص ذي نسب أو ولاء أو ولاية".
* الثانية: ولايةٌ عامة.
والصحيح أن الإسلام ما جاء بهذا التفصيل ولا بهذا التفريق.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيِّ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يَكُونُ الْوَصِيُّ وَلِيًّا، وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
وهي رواية عن الإمام أحمد
(3)
ومعه الشافعي، فلو أن وليًّا وصَّى غيره، فالوصية تنفذ بعدما يموت الإنسان ويكون تطبيقها بعد الموت، والوكالة تكون في الحياة، هذا هو الفرق بينهما.
الوصيُّ: يقوم مقام الموصِي، فلو أن الأب أَوصى رجلًا بعد وفاته بأن يزوج ابنته أو بناته، وهذه البنت لها إخوةٌ إلى غير ذلك من الأولياء، فهل هذه الوصية تنفذ؛ لأنها بذلك ستحجب حق الأولياء الذين يلون الأب فهل تنفذ هذه الوصية؟
والجواب: في تنفيذها تقديم لها على بقية الأولياء الذين يلوون الأب، وكذلك لو أن الأخ أوصى بتزويج أخته، لأن الوصية تختلف عن الوكالة، والوكالة تُنفَّذ في وقت الحياة، أما الوصية فإنها لا تكون إلا بعد الممات، فهذه اختلف فيها العلماء: فذهب مالكٌ وأحمد إلى اعتبار - الوصية، وأحمد له رواية ولكن الرواية الأخرى مع بقية العلماء فيها، يرون
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 526)؛ حيث قال: "والوصي عند مالك أولى من الولي بالإنكاح، ويستحب له أن يشاور الولي ولو زوجها الولي بإذن الوصي كان حسنًا، وقد روي عن مالك أن الوصي في الثيب ولي من الأولياء وأنه وغيره منهم في ذلك سواء".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 46)، حيث قال:"لا ولاية لوصي، لأنه ليس بولي ولا نائب عمن هو في الحال ولي".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 20)؛ حيث قال: "واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية؟ فروي أنها تستفاد بها".
وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 68)؛ حيث قال: "وعنه: لا تستفاد ولاية النكاح بالوصية".
أن الولاية لا تنتقل للوصيِّ، وتنتقل للولي الأقرب تنتقل إلى الذي يليه وهكذا.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ صِفَةُ الْوِلَايَةِ مِمَّا يُمْكِنُ أن يُسْتَنَابَ فِيهَا؟ أَمْ لَيْسَ يُمْكِنُ ذَلِكَ؟).
هذه مسألة مهمة أشار إليها المؤلف وهي: قضية الوكالة، هل لولي المرأة أن يُوكل في تزويجها؟
والجواب: مسألة الولاية هذه ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنه وَكَّلَ أبا رافع في تزويجه ميمونة"
(1)
، فهذه وكالةٌ قد ثبتت في النكاح.
وصح: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ عمرو بن أمية في تزويجه أم حبيبة بنت أبي سفيان"
(2)
، وكانت في الحبشة، وقصتها "أن عمرو بن أمية ذهب إلى الحبشة وعقد للرسول عليه الصلاة والسلام عليها والذي عقد النكاح هو النجاشي، فكان هو الوكيل"، وورد في بعض الروايات "أن النجاشي دفع أربعمائة دينار"
(3)
.
فكل هذا يثبت صحة الوكالة، وهذا هو رأي الجمهور، ولا يُلتفت لرأي أبي ثور الذي أشار إليه المؤلف، فجمهور العلماء ومنهم الأئمة
(1)
أخرجه الترمذي (841) عن أبي رافع قال: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(5/ 283).
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 23) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يخطب عليه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت تحت عبيد الله بن جحش فزوجها إياه وأصدقها النجاشي من عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1850).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 225) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وساق عنه أربعمائة دينار". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1460).
الأربعة يعتبرون الوكالة، لكنهم يختلفون في تفصيلها، هل تكون مقيدة أم تكون مطلقة، أي: للإنسان أن يُوَكِّلَ غيره في تزويج ابنته أو أخته فهذه وكالةً مطلقة، أو يقول: زوِّجها فلانًا، فهذه نسميها وكالةً مقيدة، وله أن يقول له: زوجها من تشاء، أو زوجها كفئًا، فبذلك يكون أطلق، ولا شك أن ذلك جائز، وقد جاء في قصة ذلك:"الأعرابي الذي جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقدَّم إليه ابنته وقال: زوجها كفئًا إذا جاءك، فما كان من عمر رضي الله عنه وهو الحصيف فاختار لها رجلًا نعم الكفاءة وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه "
(1)
.
فالذين يتكلمون في الوكالة يقولون: هل الوكيل تكون عنده الشفقة كالولاية أصلًا كالولي؟
والجواب: الأصل أن الإنسان لا يختار إلا وكيلًا يتحين فيه الخير، والصلاح والتقى، والورع، فبذلك يكون أهلًا لهذه الوكالة، وبهذا يتبين أن الوكالة في النكاح جائزة، وأنها تجوز على الصحيح إطلاقًا وتقييدًا.
قوله: (وَلِهَذَا السَّبَبِ بِعَيْنِهِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَكالَةِ فِي النِّكَاحِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ
(2)
عَلَى جَوَازِهَا إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ
(3)
، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِيصَاءِ؛ لِأنَّ الْوَصِيَّ وَكيلٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَكَالَةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ).
(1)
لم أقف عليها.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (8/ 83)؛ حيث قال: "وإذا وكل رجل رجلًا أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه فهو جائز".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 520)؛ حيث قال: "والوكالة في النكاح جائزة إذا ذكر امرأة بعينها وسمى صداقًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 113)؛ حيث قال: "فإذا تقرر جواز الوكالة في النكاح جاز أن يوكل الولي والزوج".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 82)؛ حيث قال: "الصحيح من المذهب: جواز الوكالة في النكاح".
(3)
لم أقف عليه، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 152): "
…
في رواية مالك لهذا الحديث دليل على جواز الوكالة في النكاح، وهو أمر لا أعلم فيه خلافًا".
حقيقةً هناك فرقٌ بينهما؛ لأنك إذا وكلت إنسانًا في وقت حياتك وأنت موجود فنزَّلت ذلك الإنسان منزلتك، لكن الوصية تكون بعد الموت فهي لا تنفذ إلا بعد أن يذهب حقه، وولاية الأقرب تنتهي بموته، فإذا مات انتهت ولايته، وانتقلت للذي يليه، فحقه قد انتهى، لكن الكلام لو وصَّى غيره لا تنفذ الوصية، فلا شك أن الوكالة ليست بمثابة الوصية.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ الْوِلَايَةِ مِنَ النَّسَبِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
أن الْوِلَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّعْصِيبِ إِلَّا الابْنَ).
وهذه مسألةٌ مهمة، والعلماء رتبوها على التأصيل، وهم دائمًا قياسهم في ذلك بالمواريث والتي نعرفها: بالفرائض، فإن قاسوا ولاية النكاح في الترتيب على الترتيب بالنسبة للعصبة في الميراث، معتبرة بالتعصيب إلا الابن، فأخرجه إبعادًا؛ يعني: الإمام مالك أراد أن يعطيه المقام الأول والدرجة الأولى، نظرًا لقربه بأمه؛ لأن له هو الأولى أن يزوج أمه، في نظر الإمام مالك، فهو بلا شك أقوى تعصيبًا من الأب وأكثر ميراثًا منه، كما تعلمون، فالأب الأقرب إلى الأم، فمالكٌ انفرد بهذا الرأي، ورأى أن الابن يُقَدَّم، وخالفه بقية العلماء فرأوا تقديم الأب.
قوله: (فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ عَصَبَةً كَانَ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ، وَالْأَبْنَاءُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْآبَاءُ).
لأنه كما ذكرنا أنهم أقرب عصبًا؛ ولأنهم أولى بالميراث، والابن يأخذ المال تعصيبًا، ولكن يبقى للأب حق؛ إذن فهو في الميراث مُقدَّمٌ على الأب.
لكن هذه القضية إذا نظرنا إليها نظرة عميقة؛ لأن المقصود من دراسة
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 279)؛ حيث قال: "والولاية ولايتان: خاصة وعامة فالخاصة في أربعة أوجه: نسب أو خلافة نسب أو ولاء أو سلطان؛ فأما ولاية النسب فمستحقة بالتعصيب لا مدخل فيها لذوي الأرحام الذين لا تعصيب لهم كالأخ للأم والخال وغيرهما".
الفقه هو: أن يتعمق الدارسُ فيه وأن يجمع الأدلة، وأن يستقري ما يتعلق بالموضوع ثم بعد ذلك يقرر الحكم فيه، فإذا نظرنا من هذه الزاوية لوجدنا أن مذهب الجمهور
(1)
فيها أولى؛ لأن الولاية هي: احتكام؛ لأن الولي كأنه يصدر حكمًا على هذه المرأة، فأيهما أولى أن تحتكم إلى الأصل أو الفرع؟
والجواب: الأولى أن تحتكم إلى الأصل. فهذه قاعدة نؤسسها أولًا.
ثانيًا: أن الابن موهوبٌ لأبيه، بنص القرآن الكريم كما قال الله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90].
وقوله تعالى: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38].
وقال عن الخليل إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)} [إبراهيم: 39].
فتبينا من هذا بنص القرآن أن الابن موهوبٌ لأبيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أنت ومالُك لأبيك"
(2)
، إذن أنت موهوبٌ ومِلكٌ لأبيك.
ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن أطيَبَ ما أكل الرَّجُل من كسبِه، وإنَّ ولدَه من كسْبِه"
(3)
، إذن أصبح الابن موهوبًا لأبيه، فكيف يُقَدَّم عليه الابن، فمن هذه الناحية نُقَدِّمُ الأب على الابن.
ثالثًا: ولأنه تتوفر في الأب من الصفات ما لا يوجد في غيره؛ لأن الابن يحب أمه ولا شك أن لها منزلة عظيمة عنده إلا من شَذَّ فأولئك
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي (1/ 272)؛ حيث قال: "ولا ولاية للابن مع الأب في قول أبي حنيفة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 405)؛ حيث قال: "ويقدم من القرابة الأب، ثم أبوه، ثم أبوه، إلى حيث ينتهي".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (7/ 16)؛ حيث قال: "الولاية بعد من ذكرنا تترتب على ترتيب الإرث بالتعصيب، فأحقهم بالميراث أحقهم بالولاية، فأولاهم بعد الآباء بنو المرأة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم بنوا أبيها وهم الإخوة".
(2)
أخرجه ابن ماجه (3477)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2/ 1138).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2137)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2162).
لا يُعتَدُّ بهم، لكن لا شك أن الأب عنده من الشفقة ومن الرحمة ومن المودة ومن الحرص على سعادة أبنائه بحيث إنه يتمنى أن يكونوا في أحسن حالًا منه، إذن هناك صفاتٌ أيضًا توجد في الأب لا توجد لغيره.
بهذه الأسس والقواعد التي ذكرنا نميل إلى مذهب جمهور العلماء الذين قالوا: يُقَدَّمُ الأب أولًا.
أما عند الإمام مالك: الأبناء أولًا ثم الآباء؛ لأنه لحظ جهة القرابة، وجهة التعصيب وجهة الميراث.
لكن الجمهور: لاحظوا جهات ومعاني أخرى، وهذه الناحية هي أولى أن تراعى في جانب الولايةِ في النكاح، فليست القضية قضية أن يرث هذا أكثر وأن يكون التعصيب أكثر، ولكن ينظر إلى من هو أكثر شفقة وأولى بأن يتولى ومن هو الذي له القوامة الكبرى على المرأة هو أبوها، ولذلك ترون أن له أن يجبرها وليس ذلك لغيره.
إذن مالكٌ عنده يُقَدَّمُ الأبناء، وإن نَزَلوا، ثم الآباء وإن علوا، يعني الجد فأعلى للأب، ثم بعد ذلك الأخوة فأبناؤهم فالأعمام فأبناؤهم وهكذا.
وعند غيره وبخاصة عند الشافعية والحنابلة: يُقَدَّمُ الأب أولًا، ثم بعد ذلك يختلف الشافعية والحنابلة، فعند الشافعية يُقَدَّمُ الجد
(1)
، وعند الحنابلة في المشهور يُقَدَّمُ الابن
(2)
، فبهذه يتفقون مع المالكية، والمالكية لهم رأيٌ وجيه اتفقوا فيه مع الشافعية والحنابلة في تقديم الأب وهو الذي استحسنه المؤلف.
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 405)؛ حيث قال: "ويقدم من القرابة الأب، ثم أبوه، ثم أبوه، إلى حيث ينتهي".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 16)؛ حيث قال: "الولاية بعد من ذكرنا تترتب على ترتيب الإرث بالتعصيب، فأحقهم بالميراث أحقهم بالولاية، فأولاهم بعد الآباء بنو المرأة، ثم بنوهم وإن سفلوا".
لماذا الشافعية خالفوا في تقديم الابن؟
والجواب: لأن الشافعية لا يرون أن الابن يتولى العقد أصلًا إلا أن يكون ابن عم، يعني: من أبناء عمها، أو أن يكون حاكمًا أو سلطانًا، ففي هذه الحالة له أن يُزوِّجها، فهو يُزوِّجها من حيث إنه ابن عمٍ لها، لا إنه ابن، ومن حيث إنه سلطان لو كان سلطانًا.
ولكن ناقشهم غيرهم وقالوا: ما الفرق؟ أنتم تقولون لا يُزوج الابن؛ لأنه يلحقه عارٌ ومذلةٌ في تزويج أمه؛ ولأن نفس الابن لا تطمئن أن يُزوِّج أمه فيدخل عليها رجلًا غريبًا، لا ترتاح نفسه وإن كان ذلك أمرًا أحله الله، لكن طبيعته ومروءته تأبى ذلك، هذا عند الشافعية
(1)
، وغيرهم يناقشهم يقول أبدًا هذا غير وارد؛ لأن هذا هو شرع الله، وشرع الله ينبغي أن ننزل عنده، ثم ما الفرق فيما لو كان سلطانًا؟ أو كان حاكمًا أو ابن عم؟ هو نفسه ابنها، فلم يختلف الوضع، فما ذكرتم من العلل لو قُدِّر وجوده يلحقه في الصفات الأخرى، هم يقولون: في هذه الناحية لا يدلي بأنه ابن وإنما يدلي بأنه ابن عم أو حاكم أو سلطان، فالأولى أن يُقَدَّمُ الأب ثم الابن، وهكذا، ويختلفون بعد ذلك في الجد فمنهم الحنابلة مثلًا عندهم: بعد الابن يُقدم الجد وفي روايةٍ يُقدم الأخ، وفي رواية يتساوون معًا، ولذلك نجد أن الحنابلة لهم في الجد أربع روايات
(2)
:
(1)
قال زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب"(3/ 129): " (إلا أن الابن لا يزوج) أمه (بالبنوة)؛ إذ لا مشاركة بينه وبينها في النسب فلا يعتني بدفع العار عن النسب؛ ولهذا لم تثبت الولاية للأخ من الأم (بل) يزوج (بالعصوبة أو بالولاء أو بالقضاء) ولا يضر البنوة؛ لأنها غير مقتضية لا مانعة".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 69)؛ حيث قال: "وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة: أبوها. ثم أبوه وإن علا. ثم ابنها. ثم ابنه، وإن سفل. هذا المذهب. وعليه الأصحاب. وعنه: يقدم الابن وابنه على الأب والجد. ذكره ابن المنى في "تعليقه". وأخذه أبو الخطاب في "انتصاره" من قول الإمام أحمد رحمه الله في رواية حنبل العصبة فيه: من أحرز المال. وخرجه الشيخ تقي الدين رحمه الله من رواية تقديم الأخ على الجد؛ لاشتراكهما في المعنى. وعنه: يقدم الابن على الجد. اختاره ابن أبي موسى، والشيرازي. قال في "الفروع": وعنه عليها تقديم الأخ على الجد. وعنه =
الرواية الأولى: يلي الأب يعني: يأتي بالمنزلة التي بعد الأب.
الرواية الثانية: من الناحية الأخرى يُقدَّم على الأخ.
الرواية الثالثة: يتساوى مع الأخ.
الرواية الرابعة: يقدم الأخ على الجد؛ لأنهما متساويان في الإدلاء كل منهما يدلي بالأب هذا من جهة البنوة وهذا من جهة الأبوة.
وهذه مسائل اجتهادية، وهي مسائل في الحقيقة إنما بناها العلماء على التعصيب، وقاسوها أيضًا على مسائل الفرائض، ودائما الإنسان يأخذ بما يجد أنه أقرب.
قوله: (ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ
(1)
ثُمَّ لِلْأَبِ).
قضية الإخوة الأشقاء مختلفٌ فيها؛ يعني: الأخ لأب وأم يسمى شقيقًا، ولأب غير شقيق، أما لأم غير واردٍ هنا بالنسبة للولاية؛ لأن الولاية تكون عن طريق الأب، بعض العلماء يقول: لا نرى فرقًا بين الأخ الشقيق والأخ لأب
(2)
، قالوا: لأن الإدلاء بهذه الولاية عن طريق الأب، فهذه لا يختلف فيها الوضع، وبعضهم يقول
(3)
: لا، وإن كان
= سواء. وذكر الزركشي رواية ثالثة بتقديم الجد على الأخ، على هذه الرواية. وأطلقهن. وخرج الشيخ تقي الدين رحمه الله وجهًا بتساوي الابن والأب والجد وابن الابن وخرجه بعضهم من رواية استواء الأخ والجد".
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 279)؛ حيث قال: "وترتيب العصابات فيه بحسب قوة تعصيبهم فأولاهم البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب، ثم الإخوة للأب والأم ثم للأب ثم بنو الإخوة للأب والأم ثم بنو الإخوة للأب ثم الأجداد للأب وإن علوا ثم العمومة على ترتيب الإخوة ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سفلوا ثم الموالي ثم السلطان".
(2)
وهو القول القديم للشافعي والمذهب عند الحنابلة المتقدمين.
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (/ 59)؛ حيث قال: "الأخ للأبوين يقدم على الأخ للأب في الإرث، وهنا قولان. أظهرهما وهو الجديد: يقدم أيضًا. والقديم: يستويان".
وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 69)؛ حيث قال: "وعنه: هما سواء. وهو المذهب عند المتقدمين".
(3)
وهو مذهب الحنفية والقول الجديد للشافعي والمعتمد من مذهب الحنابلة. =
الأمر كذلك لكن إدلاؤه أيضًا من جهة الأم لكونه شقيقًا هو أقوى وغالبًا، ولا نقول في كل الأمور: غالبًا؛ لأن الأخ الشقيق يكون عنده شفقة أكثر، لكن ليس هذا على إطلاقه فقد رأينا عددًا من الإخوة لأب عندهم من الشفقة والرحمة لأخواتهم ما ليس عند الإخوة الأشقاء، وهذا يرجع إلى الاستقامة، إذا كان الإنسان مستقيمًا على طريق الهداية، عنده من الورع، عنده من الزهد، عنده من الخشية والرأفة، حتى وإن كان أخًا لأب فإنه يتغلب على الأخ الشقيق، فما قيمة الأخ الشقيق إن ضلَّ الطريق السوي، ولكن الغالب أن الأخ الشقيق يكون عنده من الشفقة أكثر، وقد يوجد عددٌ من الإخوة لأبٍ ما يمتاز على الإخوة الأشقاء.
قوله: (ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ لِلْأَبِ فَقَطْ، ثُمَّ الْأَجْدَادُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَوْا، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ
(1)
: الْجَدُّ وَأَبُوهُ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ، وَابْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَصْلٍ).
هذه مسألةٌ مختلفٌ فيها منهم من يُقدِّم الجد على الابن، ومنهم من يُقدِّم الجد على الإخوة، ومنهم من يُقدِّم الإخوة على الجد الأشقاء، ومنهم من يسوي بينهم، وهذا موجود هذه الصور الأربعة في مذهب الحنابلة، وعند الشافعية يُقَدَّم الجد على الابن كما ذكرنا.
= يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (1/ 272)؛ حيث قال: "العصبات من الأقرباء على المراتب ولا ولاية للأبعد مع الأقرب متفقًا".
وينظر: "روضة الطالبين" للنووي (/ 59)؛ حيث قال: "الأخ للأبوين يقدم على الأخ للأب في الإرث، وهنا قولان. أظهرهما وهو الجديد: يقدم أيضًا. والقديم: يستويان".
وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 69)؛ حيث قال: "ثم أخوها لأبويها. ثم لأبيها. هذا إحدى الروايتين. وهو المذهب عند المتأخرين".
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 420)؛ حيث قال: "وقال المغيرة: الجد وأبوه أولى من الأخ وابنه، ثم العم، ثم ابنه على ترتيبهم في عصوبة الإرث".
قوله: (ثُمَّ الْعُمُومَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الْمَوْلَى، ثُمَّ السُّلْطَانُ).
والمولى: فهناك مولى أعلى وهناك مولى أسفل، كالأب هناك أبٌ أعلى، يأتي الجد فأعلى، وهناك أسفل وهم الأبناء، فالمولى قد يأتي عن طريق العلو، وقد يكون عن طريق الأبناء فيكون مولى أسفل، هذا الذي أشار إليه المؤلف.
قوله: (وَالْمَوْلَى الْأَعْلَى عِنْدَهُ أَحَقُّ مِنَ الْأَسْفَلِ، وَالْوَصِيُّ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ وَليِّ النَّسَبِ؛ أَعْنِي: وَصِيَّ الْأَبِ).
قضية الوصيِّ: عند مالك
(1)
يُقَدَّمُ على الولي الذي يلي الأب، لكن أكثر العلماء
(2)
يرون: أنه بعد الأب لنتقل إلى الولي الأبعد ولا تنتقل إلى الوصيِّ.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَنْ هُوَ أَوْلَى: وَصِيُّ الْأَبِ
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 279)؛ حيث قال: "فأما خلافة النسب فوصى الأب خاصة في البكر هو أولى من سائر الأولياء بإذنها وهو في الثيب واحد منهم".
(2)
هو مذهب الحنفية والشافعية.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 222)؛ حيث قال: "والوصي ليس بولي عندنا في التزويج".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (12/ 42)؛ حيث قال: "لا يملك الوصي التزويج؛ لأنه لا يلحقه عار الدناءة؛ فلم يفوض إليه العقد الذي هو بسبب رعاية الكفاءة".
أما الحنابلة فالوصي عندهم كالوكيل فوصي كل ولي يقوم مقامه.
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 20)؛ حيث قال: "على هذا تجوز الوصية بالنكاح من كل ذي ولاية، سواء كان مجبرًا كالأب، أو غير مجبر كغيره، ووصي كل ولي يقوم مقامه، فإن كان الولي له الإجبار فكذلك لوصيه، وإن كان يحتاج إلى إذنها فوصيه كذلك؛ لأنه قائم مقامه، فهو كالوكيل".
أو وَليُّ النَّسَبِ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
: الْوَصِيُّ أَوْلَى مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ).
الوصيُّ أولى؛ ولكي أقرب المسألة أقول: إذا أوصى الأب لشخصٍ تنفذ وصيته بعد الموت، وهل له أن يُزوِّج هذه البنت أم تنتقل الولاية للأخوة الأشقاء؟
الجواب: مالكٌ وأحمد في رواية نفذوا الوصية، وبقية العلماء وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد يُنتَقلُ إلى الولي الأبعد وهو الأخ هنا.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
(2)
: الْوَلِيُّ أَوْلَى، وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي وِلَايَةِ الْبُنُوَّةِ فَلَمْ يُجِزْهَا أَصْلًا).
هذا تعليل الشافعية
(3)
: أن الابن لا يرضى أن يُزوِّج أمه، كيف يُدخِلُ رجلًا عليها؟ نفسه تنفر من ذلك، ويرى في ذلك عارًا عليه، وهذا التعليل لا يُنظَر إليه؛ لأن الشريعة ينبغي أن نأخذها مُسَلَّمةً.
قوله: (وَفِي تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ، فَقَالَ: لَا وِلَايَةَ لِلابْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أن الأب أَوْلَى مِنَ الابْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ
(4)
).
عاد المؤلف فذكر الرواية الأخرى عن الإمام مالك، وبذلك يلتقي في هذه الرواية مع جمهور العلماء، وهذا ما رجَّحناه، قال: وعند مالكٍ تقديم الأب على الابن في الولاية ثم علَّق وقال: وهو أحسن، وننظر إلى المسألة من ناحية واقعية، فمثلًا هذه المرأة لها ابنٌ وأب، ثم يأتي الابن
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 416)؛ حيث قال: "قال غير ابن القاسم من أصحابنا: الأولياء أولى بالعقد من الوصي".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 416)، حيث قال:"وقال ابن الماجشون في "مختصر ما ليس في المختصر" ومحمد بن عبد الحكم: لا تزويج لوصي إلا أن يكون وليًّا".
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 86)؛ حيث قال: "وروي: الأب ثم الابن، ثم بعدهما الأخ".
أمه وأبوها موجود، فمن حيث الأدب أن الأب هو صاحب السلطة وهو الذي ينبغي أن يُزوِّج.
قوله: (وَقَالَ أيضًا: الْجَدُّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ، وَبِهِ قَالَ الْمُغِيرَةَ
(1)
).
الجد يُقَدَّم على الأخ، وهذه مسائل فيها خلاف، لكننا نُرجِّح أنه يقدم الأب، الأب مباشرةً ثم الابن ثم بعد ذلك الجد وإن علا ثم الإخوة الأشقاء ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، وهكذا كالحال بالنسبة للمواريث.
قوله: (وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ التَّعْصِيبَ؛ أَعْنِي: أن الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِإِذْنِ وَلَيِّهَا، أو ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أو السُّلْطَانِ"
(2)
).
وهذا يرده قصة عمر بن أبي سلمة، عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم أم سلمة، وقالت: لا أحد من أوليائي موجود، فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام:"لا أحد من أوليائك شاهدًا ولا غائبًا يكره ذلك"، قال:"قم يا عمر فزوِّج رسول الله" صلى الله عليه وسلم، وهو صغير في السن.
قوله: (وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ مَالِكٌ فِي الابْنِ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ابْنَهَا أن يُنْكِحَهَا إِيَّاهُ")
(3)
.
وهذا الذي ذهب إليه الإمام مالك وهو الأولى.
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 420)؛ حيث قال: "وقال المغيرة: الجد وأبوه أولى من الأخ وابنه، ثم العم، ثم ابنه على ترتيبهم في عصوبة الإرث".
(2)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 328)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1596).
(3)
تقدَّم.
قوله: (وَلأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا؛ أَعْنِي: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ عَلَى أن الابْنَ يَرِثُ الْوَلَاءَ الْوَاجِبَ لِلْأُمِّ، وَالْوَلَاءُ عِنْدَهُمْ لِلْعَصَبَةِ).
مالك والشافعي وجمهور العلماء
(1)
كلهم اتفقوا على هذا، ولكن كونه يرث الولاء ليس معنى هذا أنه يُقَدَّم.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْجَدِّ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ هُوَ أَقْرَبُ هَلِ الْجَدُّ؟ أو الْأَخُ؟).
من حيث الأبوة فلا شك أن الجد أولى؛ لأن الجد يحل محل الأب إذا غاب، فهو أولى في هذه الناحية.
قوله: (وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّرْتِيبِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ: أَحَدُهَا: إِذَا زَوَّجَ الْأَبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ).
بدأ يدخل المؤلف في المسائل الجوهرية ذات الأهمية في هذا الموضوع:
* منها: إذا زَوَّجَ الأبعد مع وجود الأقرب، فهذه لها عدة صور:
الصورة الأولى: ممكن أن يُزوِّج الأبعد مع وجود الأقرب وهو حاضرٌ معه؛ يعني: موجودًا؛ يعني: معه في البلدة ويقوم الأبعد ويزوج،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي حيث قال (1/ 433): "الولاء كله للابن دون الأب؛ لأنه أقرب العصبة".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (6/ 36)؛ حيث قال: "إن لم يكن مولاه الذي أعتقه حيًّا ورثه ولد مولاه ثم ولد ولده وإن سفلوا الأقرب فالأقرب فإن لم يكونوا فأبوه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 92)؛ حيث قال: "فإن كان المولى ميتًا، فالولاء بعده لأقرب عصباته يوم يموت العبد المعتق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (3/ 128)؛ حيث قال: "وإذا ماتت امرأة وخلفت ابنها وعصبتها ومولاها فولاؤه وارثه لابنها".
مثلًا امرأةٌ لها أبٌ وأخ فيقوم الأخ فيُزوِّج أخته وأبوه موجود، هذا زوَّج وهو حاضر.
الصورة الثانية: أن يكون الأب غير موجود؛ يعني: يكون مسافرًا، والسفر يختلف فيه العلماء بُعدًا وقصرًا، وكذلك يختلفون في بُعدِ الأبِ، أن تكون غيبته منقطعة أم لا، فإن كانت منقطعة فلها حال، وإن كانت غير منقطعة بمعنى أنه يمكن الوصول إليه وبإمكانه أن يُرسَل إليه فيرد في الكتاب أم أن يعقد في ذلك المكان الذي هو فيه.
الصورة الثالثة: قد يكون الولي الأقرب أسيرًا أو محبوسًا وهو يختلف، فإن كان أسيرًا أو محبوسًا ويمكن الوصول إليه، فهو الأولى، وإن كان الوصول إليه مُتعذِّرًا فحينئذٍ يُلحَق بالغيبة المنقطعة.
قوله: (وَالثَّانِيَةُ: إِذَا غَابَ الْأَقْرَبُ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلى الْأَبْعَدِ؟ أو إلى السُّلْطَانِ؟).
يعني: الولي الأقرب يكون موجودًا وأحيانًا يكون غير موجود؛ أي: غائبًا، والحقيقة أنها لا تنتقل مباشرةً بمجرد الغياب، نفرض مثلًا: أن أبًا سافر للحج أو لأداء العمرة هل نقول انقطع حقه وانتقلت الولاية؟ لا، يُنتَظَر، والعلماء عللوا في قضية غيبة الأب إذا كانت هناك دوافع أخرى يُخشَى على هذه المرأة من الفتنة والوقوع في محرم أو غيره، فبعض العلماء يجتهد في هذه المسائل، ويرى أن للولي الذي يليه أن يعقد له.
قوله: (وَالثَّالِثَةُ: إِذَا غَابَ الأب عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ هَلْ تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ أو لَا تَنْتَقِلُ؟).
هذه في غيبة الولي المطلقة، لكن هو نصَّ على الأب؛ لأهمية الأب، فإذا غاب هل غيبة الأب فقط تقتضي الانتقال أو لا بد أن يكون في مكانٍ منقطع؟ تُرسَلُ إليه الرسائل، فلا تصل إليه، أو تُرسَلُ إليه وتصل ولكنه لا يرد عليها، ويُخشَى على هذه المرأة، هذه كلها مسائل فيها خلاف.
قوله: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى فَاخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
).
إذن الإمام مالك له روايتان:
* الرواية الأولى: يوافق فيها جمهور العلماء
(2)
أنه إذا زوَّج الأبعد مع وجود الأقرب فالنكاح غير صحيح ويُفسخ.
* الرواية الثانية: لو زوَّج الأبعد مع وجود الأقرب فالنكاح صحيح وهذه ينفرد بها.
قوله: (فمَرَّةً قَالَ: إن زَوَّجَ الْأَبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَمَرَّةً قَالَ: النِّكَاحُ جَائِزٌ).
مفسوخ؛ أي: أنه يُفسخ؛ لأن النكاح غير صحيح؛ ولأنه لم يتوفر شروطه، أو أن الولي الذي عقد ليس المستحق؛ لأنه محجوبٌ بغيره والحاجب له لا يزال موجودًا فكيف يُزوِّج وهو موجود.
قوله: (وَمَرَّةً قَالَ: لِلْأَقْرَبِ أن يُجِيزَ أو يَفْسَخَ).
يعني: مرةً قال: جائزًا مطلقًا، ومرةً قال: للأقرب أن يجيز، فلو أن
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 420)؛ حيث قال: "إذا أنكح الأبعد مع وجود الأقعد نفذ وقال سحنون: قال بعض الرواة: ينظر السلطان في ذلك.
وقال الآخرون: للأقرب أن يجيز أو يرد إلا أن يتطاول الأمر، وتلد الأولاد.
وقال ابن حبيب: للأقرب أن يفسخه أو يمضيه، ما لم يبن بها ويطلع على عورتها".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 128)؛ حيث قال: "وأما إذا كان أحدهما أقرب من الآخر فلا ولاية للأبعد مع الأقرب إلا إذا غاب غيبة منقطعة فنكاح الأبعد يجوز إذا وقع قبل عقد الأقرب".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان" للعمراني (9/ 174)؛ حيث قال: "إذا كان للمرأة وليان، أحدهما أقرب من الآخر
…
فإن الولاية للأقرب؛ فإن زوجها من بعد لم يصح".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي "لابن قدامة (3/ 9)؛ حيث قال: "فلا تثبت الولاية للأبعد مع حضور الأقرب الذي اجتمعت الشروط فيه".
مثلًا رجلًا وليًّا أبعد زوج هذه البنت بموافقته، ثم بعد ذلك استأذن الأقرب، هذه رواية عند مالك يرى هذا الرأي.
الرأي الآخر: أنه إذا زوَّج مع وجود الأقرب لا يصح.
الرأي الثالث: أنه يجوز مطلقًا.
هذه الثلاثة: التي قال بها الإمام مالك أو المالكية: إذن زوَّج الأبعد مع وجد الأقرب هذه يتفق فيها الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
في حالة الغيبة، إذا كان غائبًا ثم زوَّج الأبعد وأقرَّه الأقرب فإنه في هذه الحالة يصح النكاح، وإن لم يقرَّه فلا يصح النكاح.
قوله: (وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ عِنْدَهُ فِيمَا عَدَا الأب فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالْوَصِيِّ فِي مَحْجُورَتَهِ. فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ
(3)
أن النِّكَاحَ فِي هَذَيْنِ مَفْسُوخٌ؛ أَعْنِي: تَزْوِبجَ غَيْرِ الأب الْبِنْتَ الْبِكْرَ مَعَ حُضُورِ الأب أو غَيْرِ الْوَصِيِّ الْمَحْجُورَةَ مَعَ حُضُورِ الْوَصِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا يَعْقِدُ أَحَدٌ مَعَ حُضُورِ الأب لَا فِي بِكْرٍ وَلَا فِي ثَيِّبٍ).
وكذلك الإمام أحمد
(5)
مع الشافعي فيها.
قوله: (وَسَبَبُ هَذَا الاخْتِلَافِ هُوَ هَلِ التَّرْتِيبُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ أَعْنِي: ثَابِتًا بِالشَّرْعِ فِي الْوِلَايَةِ؟ أَمْ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؟).
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 432)؛ حيث قال: "قال مالك وكذلك إن كانت بكرًا بالغًا لا أب لها ولا وصي ولها من الأولياء من ذكرنا فزوجها الأبعد برضاها وأنكر الأقعد فالنكاح جائز".
(4)
تقدَّم مذهب الشافعي في عدم تجويز تزويج الأبعد مع وجود الأقرب أب أو غيره.
(5)
تقدَّم مذهب الحنابلة في عدم تجويز تزويج الأبعد مع وجود الأقرب أب أو غيره.
أراد المؤلف أن يثبت هل هو حكمٌ شرعي بمعنى: ورد نصًّا؟ أم هذا هو الترتيب الذي يجب الالتزام به؟
لكننا نقول: العلماء رتبوا ولاية النكاح على مراتب التأصيل، وقاسوا ذلك على الميراث، وحجتهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بوليٍّ مرشد وشاهدي عدل"
(1)
، ثم قال في الحديث الآخر:"فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"
(2)
، هذا الذي ورد فيما يتعلق بالأولياء.
قوله: (وَإِنْ كانَ حُكْمًا فَهلْ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ؟ أَمْ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؟ فَمَنْ لَمْ يَرَ التَّرْتِيبَ حُكْمًا شَرْعِيًّا قَالَ: يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَبْعَدِ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ. وَمَنْ رَأَى أنه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَرَأَى أنه حَقٌّ لِلْوَلِيِّ - قَالَ: النِّكَاحُ مُنْعَقِدٌ؛ فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ، وإِنْ لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ).
هذا هو حق للولي؛ لأن الولي كلما كان أقرب كان أحق بتولي لهذا الأمر كالحال بالنسبة للميراث.
قوله: (وَمَنْ رَأَى أنه حَقٌّ لِلَّهِ قَالَ: النِّكَاحُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَذْهَبِ؛ أَعَنَى: أن يَكُونَ النِّكَاحُ مُنْفَسِخًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ).
يعني: أكثر جمهور العلماء يرون أنه إذا زوَّج الأبعد مع وجود الأقرب فالنكاح منفسخ، حتى ولو أجازه الأقرب ما دام موجودًا، لكن لو كان غائبًا وأجازه فحينئذٍ يصح عند بعضهم.
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ:
…
).
في مذهب الحنابلة
(1)
وقليل من الشافعية
(2)
يقولون: لا يجوز للولي الأبعد أن يزوِّج مع وجود الولي الأقرب
(3)
، إلا أن يكون قد سافر الولي الأقرب منقطعًا؛ أي: لا يمكن الوصول إليه، فإذا سافر سفرًا منقطعًا لا يمكن الوصول إليه، فينبغي أن تراعى مصلحة البنت، وحينئذٍ تُزوَّج، وتُنتقل الولاية إلى الأبعد، فإن كان في مكان لا يمكن الوصول إليه مثل: أن يكون أسيرًا عند الكفار، أو يكون في سجن لا يمكن أن تصل إليه، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تُعطَّل البنت؛ لأنها سيلحقها ضرر فتنتقل الولاية إلى الأبعد، أما إن كان في مكان يمكن الوصول إليه فإنه يُستأذن في ذلك أو يعقد النكاح.
قوله: (إِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إلى الْأَبْعَدِ
(4)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَنْتَقِلُ إلى السُّلْطَانِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْغَيْبَةُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ؟ أم لا؟ وَذَلِكَ أنه لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي انْتِقَالِهَا فِي الْمَوْت).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 32)؛ حيث قال: "الأقرب إذا غاب غيبة منقطعة، فللأبعد من عصبتها تزويجها دون الحاكم".
(2)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 96)؛ حيث قال: "ولو غاب الأقرب إلى مرحلتين زوج السلطان ودونهما لا يزوج إلا بإذنه في الأصح".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 249)؛ حيث قال: " (وأحق الأولياء) بالتزويج (أب) لأن سائر الأولياء يدلون به كما قاله الرافعي ومراده الأغلب، وإلا فالسلطان والمعتق وعصبته لا يدلون به، (ثم جد) أبو أب (ثم أبوه) وإن علا؛ لاختصاص كل منهم عن سائر العصبات بالولادة مع مشاركته في العصوبة (ثم أخ لأبوين أو لأب)؛ لأن الأخ يدلي بالأب فهو أقرب من ابنه (ثم ابنه)؛ أي: ابن كل منهما (وإن سفل) لأنه أقرب من العم (ثم عم) لأبوين أو لأب ثم ابن كل منهما وإن سفل (ثم سائر العصبة) من القرابة؛ أي: باقيهم (كالإرث)؛ لأن المأخذ فيهما واحد".
(4)
يُنظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 257)؛ حيث قال: "وإذا غاب الأقرب غيبة بعيدة زوج الحاكم وقيل أو الأبعد".
هذا قول مالك ومعه جمهور العلماء
(1)
: تنتقل إلى الأبعد، فلو غاب الأب انتقلت إلى الأخ إن كان هو الذي يليه.
أما الشافعي فيقول: تنتقل إلى السلطان، وعلل وقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"
(2)
، فالشافعية يقولون: إذا غاب الأقرب فليس للأبعد أن يُزوِّج؛ لأن الأقرب يحجب الأبعد، فلو قُدِّر أنه موجود يحجبه، فكذلك ما دام موجودًا على هذه الحياة الدنيا فالحجب لا يزال قائمًا؛ إذن لا يجوز أن تنتقل للأبعد، فالحل قالوا: نحسم الخلاف في الرجوع إلى السلطان كما قال عليه الصلاة والسلام.
والجمهور ردُّوا وقالوا: يأتي حق السلطان إذا فُقد الأولياء جميعًا، ولكن هل الغيبة بمنزلة الموت؟
والجواب: إذا مات انقطعت ولايته، والشافعية يقولون: الغيبة ليست بمنزلة الموت؛ لأنه لا تدري اليوم أو غدًا أو بعد سنة فيأتي؛ لأنه لا يزال على قيد الحياة؛ إذن الحجب قائم المنع، لا شك أن مذهب الجمهور أولى في هذه المسألة، فما دام هذا الرجل قد ذهب وانقطع ولا ندري أين هو وربما مات، فينبغي أن تنتقل الولاية إلى الولي الأقرب فهو الأولى
(3)
.
قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ غَيْبَةُ الأب عَنِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ: فَإِنَّ فِي الْمَذْهَبِ فِيهَا تَفْصِيلًا وَاخْتِلَافًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلى بُعْدِ الْمَكَانِ وَطُولِ الْغَيْبَةِ أو قُرْبِهِ، وَالْجَهْلِ بِمَكَانِهِ أو الْعِلْمِ بِهِ، وَحَاجَةِ الْبِنْتِ إلى
(1)
وهم الحنفية والمالكية والحنابلة، وتقدم مذهب المالكية والحنابلة.
ومذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 200)؛ حيث قال: "فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة جاز لمن هو أبعد منه أن يزوج".
(2)
أخرجه أحمد (24372)، وقال الأرناؤوط:"حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة. وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 32).
النِّكَاحِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَإِمَّا لِمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ عَدَمِ الصَّوْنِ، وَإِمَّا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبُ
(1)
عَلَى أنه إِذَا كَانَتِ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً، أو كَانَ الأب مَجْهُولَ الْوَضْعِ أو أَسِيرًا، وَكَانَتْ فِي صَوْنٍ وَتَحْتَ نَفَقَةٍ: أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَدْعُ إلى التَّزْوِيجِ لَا تُزَوَّجَ، وَإِنْ دَعَتْ فَتُزَوَّجُ عِنْدَ الْأَسْرِ وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِمَكَانِهِ).
هذه الخلافات موجودة في المذاهب كلها، وهذا قريبٌ من مذهب الحنابلة تمامًا، وفي مذهب المالكية هنا في التعريف قريبٌ منه، وقد ذكرناه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُزَوَّجُ مَعَ الْعِلْمِ بِمَكَانِهِ؟ أَمْ لَا؟ إِذَا كَانَ بَعِيدًا، فَقِيلَ: تُزَوَّج، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: لَا تُزَوَّج، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنِ وَهْبٍ
(2)
. وَأَمَّا إن عُدِمَتِ النَّفَقَةَ، أو كَانَتْ فِي غَيْرِ صَوْنٍ - فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ أيضًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلاثَةِ).
فإذا كانت لا توجد نفقة يُنفق عليها؛ إذن فيلحقها ضرر، أو كانت في مكان غير مصون بأن تكون تقيم في بيتٍ ليس هناك مَن يحميها ويُخشى عليها من الاعتداء فأصبحت المصلحة تقتضي أن يُزوِّجها الأبعد.
قوله: (أَعْنِي: فِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ، وَفِي الْأَسْرِ، وَالْجَهْلِ بِمَكَانِهِ.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (3/ 435)؛ حيث قال: "إن كان الأب أسيرًا أو فقيدًا فلا خلاف أن الإمام يزوجها إذا دعته إلى ذلك ولو كانت في نفقته وأمنت عليها الضيعة".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 438)؛ حيث قال: "إذا غاب الأب غيبة انقطاع فإن كانت حياته معلومة ومكانه معروفًا إلا أن استئذانه يتعذر وهي بالغة فاختلف في جواز نكاحها: فقال مالك: يزوجها الإمام إن رفعت إليه. وقال عبد الملك: لا يجوز إنكاحها في حياة الأب بوجه. وقال ابن وهب: إن قطع. عنها النفقة جاز إنكاحها برضاها وإن أكرهها لم يجز".
وَكَذَلِكَ إِنِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ، فَإِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ صَوْنٍ تُزَوَّج، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إلى ذَلِكَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا
(1)
- فِيمَا أَحْسَبُ - أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ فِي الْغَيْبَةِ الْقَرِيبَةِ الْمَعْلُومَةِ؛ لِمَكَانِ إِمْكَانِ مُخَاطَبَتِهِ).
في هذه المسألة هذا مذهب مالك ومعه أيضًا جمهور العلماء
(2)
.
قوله: (وَلَيْسَ يَبْعُدُ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ هَذَا النَّظَرُ أن يُقَالَ).
النظر المصلحي الذي أشرنا إليه
(3)
.
قوله: (إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَشِيَ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا الْفَسَادَ زُوِّجَتْ وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَجُوزُ وِلَايَةُ الْأَبْعَدِ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ؛ فَإِنْ جَعَلَتِ امْرَأَةٌ أَمْرَهَا إلى وَليَّيْنِ، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أن يَكُونَ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ).
يعني: لو أن امرأة جعلت أمرها إلى وليين فزوَّجها كل واحد منهما وكل منهما مستحق أن يعقد لها، فهذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: لو كان هناك الولي الأقرب والأبعد فالولي الأقرب هو الذي له الحق.
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 246)؛ حيث قال: "إذا كانت غيبة الأب عشرة أيام ونحوها فلا خلاف في المنع فإن زوجت فسخ".
(2)
تقدَّم تقييد الجميع بالغيبة التي تجيز انتقال الولاية من الأقرب إلى الأبعد بالغيبة المنقطعة.
(3)
جعل القاضي عياض أحد الاعتبارات المرجحة لمذهب مالك هو النظر المصلحي القائم على مقاصد الشريعة وقواعده.
قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك"(1/ 92): "الاعتبار الثالث: يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب شهيد، وهو الالتفاف إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها".
الأمر الثاني: إذا وُجِد وليَّان متساويان وجعلت أمرها إليهما فعقدا لها فإن كان ذلك قبل الدخول وعُرِف الأسبق فإنه له الحق أن يزوِّجها، أما بعد الدخول: على الصحيح
(1)
يُفسخ النكاح ويكون الأول هو الأحق بها، لأنه هو الذي ملك عصمتها، وإن لم يُعلم ففي هذه الحالة لا تثبت لواحدٍ منهما ويتقدمان كغيرهما.
قوله: (أو يَكُونَا عَقَدَا مَعًا، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أن يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّم، أو لَا يُعْلَم، فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهمَا فَأَجْمَعُوا
(2)
إِذَا دَخَلَ الثَّانِي؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِلْأَوَّلِ
(3)
، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِلثَّانِي
(4)
. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ
(5)
. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
(6)
).
الذين قالوا: الأول في هذه الصورة الشافعية والحنابلة، يعني:
(1)
سيأتي.
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 25)؛ حيث قال: "أكثر أهل العلم يقولون: إذا زوج المرأة الوليان بأمرها، فالنكاح للأول". وانظر: "المعاني البديعة" للريمي (2/ 203).
(3)
وهو مذهب الحنفية والشافعية:
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (3/ 290)؛ حيث قال: "فإن زوجها كل منهما فالصحة للسابق".
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 122)؛ حيث قال: "أما القسم الأول وهو: أن يسبق أحدهما الآخر ويعلم أيهما هو السابق بالنكاح لأسبق الزوجين عقدا والنكاح الثاني المسبوق باطل سواء دخل هذا الثاني بها أو لم يدخل".
(4)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (5/ 127)؛ حيث قال: "فهي للأول منهما، إلا أن يدخل بها الآخر. قال ذلك مالك في "المدونة" وغيرها".
(5)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 92)؛ حيث قال: "إذا أذنت لوليين ولم تعين الزوج، فعقد كل واحد منهما مع شخص، ولم يعلم أحد الزوجين بصاحبه حتى دخل بها أحدهما، فهي للذي دخل بها منهما، ويفسخ نكاح الآخر. قال المتأخرون: وهكذا قال في الكتاب، إذا لم يعلم بعقد الأول حتى دخل، فلو دخل بعد علمه بذلك لم ينفعه الدخول، وكانت للأول".
(6)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 253)؛ حيث قال: "قال ابن عبد الحكم: ليست للثاني وإن دخل لعدم قبول المحل له".
أنها للأول منهما وإن دخل بها الثاني وهو قول الشافعي وأحمد.
قوله: (وَأَمَّا إنْ أَنْكَحَاهَا مَعًا فَلَا خِلَافَ
(1)
فِي فَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا أَعْرِفُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الدُّخُولِ أو لَا اعْتِبَارِهِ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ أنه قَدْ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَليَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا"
(2)
. فَعُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أو لَمْ يَدْخُلْ).
(1)
مذهب الأئمة الأربعة بطلان النكاح:
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (3/ 290)؛ حيث قال: "فإن لم يعلم السابق أو وقعا معًا بطلَا لعدم الأولوية بالتصحيح".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة" للقرافي (4/ 253)؛ حيث قال: "فإن لم يدخل بها وجهل الأول فسخا جميعًا لتعذر الجمع".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 123)؛ حيث قال: "وأما القسم الثاني وهو أن يقع النكاح معاولًا يسبق أحدهما الآخر، فالنكاحان باطلان
…
وأما القسم الثالث: وهو أن يشك هل وقع النكاحان معًا أو سبق أحدهما الآخر فالنكاحان باطلان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي "لابن قدامة (3/ 9)؛ حيث قال: "فإن زوجها الوليان لرجلين دفعة واحدة فهما باطلان
…
فإن جهل الأول منهما ففيه روايتان:
إحداهما: يفسخ النكاحان لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح لأنه لا سبيل إلى الجمع ولا إلى معرفة الزوج فيفسخ الإزالة الزوجية، ثم لها أن تتزوج من شاءت منهما أو من غيرهما.
والثانية: يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أمر صاحبه بالطلاق".
وقال الثوري: يخيرها السلطان فيما إذا لم يعلم أيَّ النكاحين وقع أولًا.
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 26)؛ حيث قال: "وقال الثوري: يخيرها السلطان لكل واحد منهما على تطليقه، فإن أبيا، فرق السلطان بينهما، ففرقة السلطان فرقة".
(2)
أخرجه أبو داود (2088) عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(355).
وهذا هو الصحيح وأخذ بها الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
، وهو الراجح.
قوله: (وَمَنِ اعْتَبَرَ الدُّخُولَ فَتَشْبِيهًا بِفَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمِ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْفَسْخِ
(3)
، وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدُهُمَا
(4)
، وَقَالَ شُرَيْحٌ: تُخَيَّر، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَتْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَفَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(5)
).
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (3/ 290)؛ حيث قال: "فإن لم يعلم السابق
…
بطلا لعدم الأولوية بالتصحيح".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 123)؛ حيث قال: "وأما القسم الثالث: وهو أن يشك هل وقع النكاحان معًا أو سبق أحدهما الآخر فالنكاحان باطلان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي "لابن قدامة (3/ 9)؛ حيث قال: "فإن جهل الأول منهما ففيه روايتان:
إحداهما: يفسخ النكاحان لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح؛ لأنه لا سبيل إلى الجمع ولا إلى معرفة الزوج فيفسخ الإزالة الزوجية، ثم لها أن تتزوج من شاءت منهما أو من غيرهما.
والثانية: يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أمر صاحبه بالطلاق".
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 442)؛ حيث قال: "لم يدخل بها واحد منهما ولم يعلم الأول فسخا جميعًا: في الكتاب في هذه المسألة ثلاث صور:
الأولى: إذا علم الأول ولم يدخل الثاني فهذه ترد للأول ويفسخ نكاح الثاني بغير طلاق. قاله ابن المواز.
الثانية: أن يكون دخل بها والمسألة بحالها فهذه مسألة الخلاف. قال في الكتاب: الثاني أحق.
الثالثة: ألا يعلم واحد منهما فهذه أيضًا قال فيها في الكتاب: فسخا جميعًا فإن دخل بها الثاني كان أحق بها بطريق الأولى على مذهب الكتاب وعلى قول ابن عبد الحكم يفسخ حكى ذلك اللخمي".
(5)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 26)؛ حيث قال: "وقد روينا عن شريح وعمر بن عبد العزيز وحماد بن أبي سليمان أنها تخير، فأيهما اختارت فهو زوجها".
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[الموضع الرَّابعُ: فِي عَضْلِ الْأَوْليَاءِ]
هذه مسألة في غاية الأهمية: والعضل
(1)
هو: أن يمنع الولي المرأة من أن يتزوجها كفء، إذا طلبت ذلك ورَغِبَ كل منهما بالآخر.
والدليل على أنه ليس للولي أن يعضلها قصة معقل بن يسار، عندما زوَّج أختًا له رجلًا فطلقها، فلما انقضت عدتها تقدم يخطبها مرةً أخرى، فقال له معقل: زوَّجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها، يعني زوَّجتك أختي، وأفرشتك؛ أي: جعلتها فراشًا لك، وأكرمتك وقدرتك، ثم بعد ذلك تكون النتيجة أنك تُطلقها، وتريد أن تتزوجها مرةً أخرى، وكان هذا الرجل كما جاء في الحديث لا بأس به، يعني: رجلًا كان طيبًا، مستور الحال، وكانت أخت معقل تريد الرجوع إليه، فأقسم معقل ألّا يزوجها إياه، فنزل قول الله سبحانه وتعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا معقلًا فأخبره بما نزل فقال: الآن يا رسول الله
(2)
.
(1)
العَضْل - بفتح العين وسكون الضاد -: هو منع الرجل وليته من التزويج ظلمًا. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 96)، و "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 346).
(2)
أخرجه البخاري (5130) عن الحسن، {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} قال: حدثني معقل بن يسار، أنها نزلت فيه، قال:"زوجت أختًا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: "فزوجها إياه".
فما كان من الصحابة إذا دُعِي أحدهم إلى حكمٍ شرعي نزل عنده ولا تردد، قال: الآن يا رسول الله؛ فنزل القرآن حاسمًا للنزاع والخلاف، قال الله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فقال: سمعنا وأطعنا، وهذا شأن كل مؤمن، إذا دُعِي إلى الحق، وإلى ما فيه سعادته في الدنيا ونجاته وفلاحه في الآخرة، فعليه أن يستجيب، وينبغي دائمًا أن يكون هينًا لينًا في طاعة الله، مستجيبًا.
فتبين أنه لا يجوز لولي المرأة أن يعضلها، واليوم نجد أن بعض أولياء الأمور يعضلون أخواتهم وبناتهم وبعض قريباتهم، لمصلحةٍ من مصالح الدنيا: إما أن تكون موظفة، أو مدرسة، أو لها دخلٌ من أموالها من هذه الدنيا لهذه الأسباب تجد أنه يبقيها محبوسة حتى تُعنِّس، فتمر عليها السنوات الطوال فيُضيِّع حقها، فالمرأة بطبيعتها تميل إلى الرجال مهما أُعطِيَت من أموال الدنيا، ومهما أُكرِمَت راحتها وسعادتها وطمأنينتها مع زوج يحفظها ويكرمها.
قوله: (وَاتَّفَقُوا
(1)
عَلَى أنه لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أن يَعْضُلَ وَليَّتَهُ إِذَا دَعَتْ
(1)
ينظر مذهب الحنفية في: "تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 220)؛ حيث قال: "كالولي في باب النكاح إذا عضل انتقلت الولاية بسبب العضل إلى القاضي".
وينظر مذهب المالكية في: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 279)؛ حيث قال: "ولا يجوز لولي عضل وليته إذا دعته إلى كفء في الدين والحال والمروءة ويزوجها عليه الإمام".
وينظر مذهب الشافعية في: "روضة الطالبين" للنووي (7/ 77)؛ حيث قال: "ولو عضل الواحد أو الجمع، زوج السلطان".
وينظر مذهب الحنابلة في: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 54)؛ حيث قال: " (أو عضل الأقرب زوج الأبعد) يعني: من يلي الأقرب من الأولياء؛ لأن الولاية لا تثبت للأقرب مع اتصافه بما تقدم، فوجوده كعدمه، ولتعذر التزويج من جهة الأقرب بالعضل جعل كالعدم، كما لو جن. فإن عضل الأبعد أيضًا زوجها الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها". (والعضل منعها) أن تتزوج (بكفء إذا طلبت ذلك ورغب كل منهما في صاحبه) بما صح مهرًا (ولو) كان (بدون مهر مثلها) يقال: داء عضال إذا أعيا الطبيب دواؤه، وامتنع عليه. وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 57).
إلى كُفْءٍ، وَبِصَدَاقِ مِثْلِهَا
(1)
).
أما بصداق مثلها: فهذه ليست محل اتفاق كما عند الحنفية
(2)
، لكن لو كان الصداق أقل فلا يضر، ما دامت رضيت به؛ لأنه خالص حقها؛ يعني: إذا جاءها إنسان كفء واطمأنت إليه، فينبغي أن يُستجاب له في هذا الأمر حتى وإن نقص في الصداق.
وفي قصة تزويج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، قال أبو طالب:"إن كان في المال قِلة فإن المال ظلٌّ زائل، وعاريةٌ مستردة"
(3)
، الظل: هو عندما تأتي الشمس تظلل الجدار ثم يزول هذا الظل، وعاريةٌ مستردة؛ أي: عندما تستعير إناءً أو كتابًا أو فراشًا أو غير ذلك، فالواجب أن ترده، والله تعالى نهى عن ذلك فقال:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7]، فرد العارية
(4)
مطلوب.
وفي قصة المخزومية، التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وكانت تستعير الحلي ولا تردها، ولما أرادوا أن يتوسطوا، كيف تُقطَعُ امرأة لها مكانة وشهرة من قبيلة، أقسم الرسول عليه الصلاة والسلام: "وَاللَّهِ لَوْ أن
(1)
صداق المثل: هو القدر الذي يعطى في العادة لمثيلات هذه المرأة بحسب حالها وجمالها ونسبها وبكارتها، أو هو مهر امرأة تماثل الزوجة وقت العقد بمن يساويها من أقاربها؛ قال القاضي عبد الوهاب في "التلقين في الفقه المالكي" (1/ 116):"وصداق المثل معتبر بحالها وما هي عليه من جمال وحال وأبوة، فيكون لها بحسب ذلك وما يكون مثله لأقرانها في السن ومن كان في مثل حالها".
(2)
سيأتي.
(3)
ذكره السهيلي في "الروض الأنف"(2/ 89) قال: "وهو الذي خطب خطبة النكاح وكان مما قاله في تلك الخطبة: أما بعد فإن محمدًا ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفًا ونبلًا وفضلًا وعقلًا، فإن كان في المال قُلٌّ فإنما ظل زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك".
(4)
العارية: ما استعرت من شيء، سميت به لأنها عار على من طلبها، يقال: هم يتعاورون من جيرانهم الماعون والأمتعة. ويقال: العارية من المعاورة والمناولة. يتعاورون: يأخذون ويعطون. "العين"(2/ 239).
فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"
(1)
؛ فهذا الشرع لا يختلف فيه الكبير والصغير والشريف والدنيء، هذه شريعة عدل، ينبغي أن تُطبَّق على جميع الناس، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ذلك.
قوله: (وَأَنَّهَا تَرْفَعُ أَمْرَهَا إلى السُّلْطَانِ فَيُزَوِّجُهَا، مَا عَدَا الْأَبَ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَذْهَبُ)
(2)
.
فعندما يعضلها الولي يلحقها الضرر؛ لأنها أصبحت عانسًا
(3)
؛ يعني: عندما يأتيها شاب صغير لا يُقبل عليها، وربما يأتيها إنسانٌ في سن والدها، لا تستقر معه، فلا ينبغي أن تكون أمور الدنيا عائقًا للبنت عن أن تزوج وإلا سيُسأل ولي أمرها عنها يوم القيامة، وإذا وقف هذا الولي بين يدي الله عز وجل وسُئِلَ لماذا أخرت هذه عن الزواج؟ وأهملت حقها؟ ما جوابك؟ تقول: لأنني أستفيد من كذا، فأنت أمام حكم عدل، لا يمكن أن تحتال أو أن تخادع، فالأب إذا عضل المرأة وألحق الضرر بها فمن حقها أن تتقدم إلى السلطان، والسلطان جعله الله سبحانه وتعالى حَكَمًا، وهو المسؤول عن الرعية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ
(1)
أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688/ 8) عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتشفع في حد من حدود الله" ثم قام فاختطب، ثم قال:"إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 82)؛ حيث قال: "ويصير الولي عاضلًا إذا عينت كفؤًا فرده، إلا الأب في ابنته البكر، فإنه لا يكون برد أول خاطب أو خاطبين عاضلًا".
(3)
العانس من النساء والرجال: الذي يبقى زمانًا بعد أن يدرك لا يتزوج، وأكثر ما يستعمل في النساء. يقال: عنست المرأة فهي عانس، وعنست فهي معنسة. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 308).
رَعِيَّتِهِ"
(1)
، فالسلطان يعطي صلاحياته في هذه الأمور للقاضي، فيُلزمه بتزويجها.
كما لو أن إنسانًا امتنع عن النفقة على أولاده فيلزمه القاضي بالإنفاق؛ إذن السلطان القاضي حكمٌ عدلٌ في هذا المقام.
فهناك فرقٌ بين القاضي والمفتي: فإذا جئت تستفتي عن مسألة فتخبر بحكم الشرع فيها ولا تلزم بالعمل بها، لأنه ليس لدى المفتي أن يلزمك.
لكن عندما تذهب في قضية بين خَصمين إبى القاضي، فإما أن يُصلح والصلح خير، كما قال الله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصلح خير، إلا صلحًا حرَّم حلالًا أو أحل حرامًا
(2)
"، فهذا لا يجوز.
فإذا لم يمكن الصلح فحينئذٍ يحكم، وحكم القاضي إلزامي، ويحكم بما تكون عنده الأدلة من الشهود وغيرها، لكن هو لا يعلم ما في قلوب الناس، ولا يعلم ما تُكِنُّ صدورهم.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم البشير النذير الذي نزل عليه الوحي يقول: "إنكم تختصمون إليَّ، فأحكم بينكم وقد يكون أحدكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي على نحو مما أسمع"؛ يعني: بعض الناس يهبه الله القوة والقدرة على البلاغ، والبيان، والتأثير، تتوارد عليه الحجج والمعاني، فتجد أنه قوي الحجة، فربما يغلب خصمه، من هذه الناحية، وتجد الآخر مسكينًا لا يستطيع أن يتكلم، فيأتي مثلًا الحاكم فيحكم في المسألة بالذي ظهر له، ولكن هل إذا حكم لك الحاكم يصبح ذلك حلالًا لك وأنت تعلم
(1)
أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).
(2)
أخرجه أبو داود (3594)، ولفظه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1303).
أنك على باطل؟ ولذلك قال الرسول: "فأقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعةً من نار، فليأخذها أو فليدعها"
(1)
، فإن كنت أخذتها فستوقد بها في نار جهنم، وإن تركتها وعدلت إلى الحق، فالرجوع إلى الحق خيرٌ وفضيلة.
ولذلك عندما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الملهم، كتابه العظيم الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري، الذي رسم له المنهج السوي والطريق الأمثل فيما يحكم به القاضي، كان يقول له:"فإن قضيت في أمر فتبين لك أن الحق في غيره، فارجع إليه؛ فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل"
(2)
، وحثه على عدة أمور.
وابن القيم قد شرح هذا الكتاب الذي أرسله عمر وبيَّن ما فيه من الفوائد والعظات، وهو مرجعٌ للقضاة الذين يحكمون في هذه الأحكام
(3)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الاتِّفَاقِ فِيمَا هِيَ الْكَفَاءَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ صَدَاقُ الْمِثْلِ مِنْهَا؟ أَمْ لَا؟).
في الحقيقة أنَّ صداق المثل ليس منها، لأن الصداق يخص المرأة.
فمثلًا: المرأة إذا ظهر في زوجها عيب فهي مخيرة، فإن رضيت به فينتهي الأمر، لكن إذا أخفي عنها هذا العيب كأن كان الزوج عِنِّينًا
(4)
(1)
أخرجه البخاري (2680) واللفظ له، ومسلم (1713) عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها".
(2)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(5/ 367)، وصححه الألباني في "الإرواء" (2619) وقال ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة. انظر:"إعلام الموقعين"(1/ 68).
(3)
انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/ 67 وما بعدها).
(4)
العنين: "هو الذي لا يقدر على إتيان المرأة. وسمي عنينًا لأن ذكره يعن؛ أي: يعترض إذا أراد إيلاجه". "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 47)، "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 208).
مَثلًا؛ فلها أن تطالب بفسخ النكاح، كذلك الحال بالنسبة للرجل.
قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أن لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ إِنْكَاحِ مَنْ لَهُ مِنَ الْأوْليَاء جَبْرُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا الْكَفَاءَةُ مَوْجُودَةً كَالْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، أَمَّا غَيْرُ الْبَالِغِ بِاتِّفَاقٍ، وَالْبَالِغُ وَالثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ بِاخْتِلَافٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي مَحْجُورِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ).
وهذه كلها مسائل قد تحدثنا عنها في إجبار الأب وغيره، وتقدم أيضًا الكلام في الوصيِّ.
قوله: (فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أن الدِّينَ مُعْتَبَرٌ فِي ذَلِكَ"
(1)
.
الكفاءة هل هي الدين؟ هل هي الدين والحَسَب؟ هل في الحسب هو المال؟ هل الحسب هو النسب؟ هل الحسب هو المنصب؟ يختلف العلماء في تفسير معنى الحسب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال:"تُنْكَحُ المرأة لأربع: لمالها وجمالها وحسبها"، وفي رواية:"ونسبها"
(2)
، الدين هو الأصل، ولذلك قال:"فاظفر بذات الدين تربت يداك"
(3)
.
فهذه الكفاءة على القول بوجودها والتي اختلف العلماء فيها تفصيلًا
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 424)؛ حيث قال: "الدين، وهو معتبر في الكفاءة بلا خلاف".
وينظر: "الحاوي الكبير" للماوردي حيث قال: "وهو الدين فإن اختلافهما في الإسلام والكفر كان شرطًا معتبرًا بالإجماع".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 166) عن جعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة على أربع خلال: على دينها، وعلى جمالها، وعلى مالها، وعلى حسبها ونسبها، فعليك بذات الدين تربت يداك".
(3)
أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) واللفظ له عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
هل هي من شروط الصحة أم اللزوم؟ لأننا إذا قلنا هذا شرطٌ لازم، بمعنى: إذا طولب به الإنسان وفَّى، أما إذا قلنا هي من شروط الصحة فمعنى ذلك لو حصل عقدٌ ووجد أن هذا الشرط غير متوفر فإن النكاح يكون غير صحيح، كالحال بالنسبة للحرية، كما سنبين ذلك إن شاء الله.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ إِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الدِّينِ)
(1)
.
مراد محمد بن الحسن هنا يقصد بإسقاط الدين ما يتعلق بالكفر؛ يعني: الفسق لا يؤثر يُزوَّج الفاسق، إلا أن يكون مثلًا شاربًا للخمر يخرج بحيث يضحك به الصبيان؛ أي: ممن يرتكب الكبائر، لكن الحقيقة جمهور العلماء
(2)
خالفوه في هذه المسألة، فلا توازن بين العفيفة وبين الفاسق.
قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ
(3)
أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زَوَّجَهَا الْأَبُ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ مِنْ فَاسِقٍ - أن لَهَا أن تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ النِّكَاحِ).
فالأب كما ذكرنا له أن يجبر البكر، ولكن ليس له أن يجبرها على التزويج بغير كفء، فلو أن أبًا تساهل في أمر ابنته وأراد أن يُزوِّجها فاسقًا، فللبنت أن تعترض عليه وأن تمتنع؛ لأن الكفاءة بين الزوجين غير متوفرة، هذه بنت عفيفة وهذا رجلٌ فاسق فلا يُجمَعُ بينهما.
أما ما يتعلق بالموافقة فهذا يحتاج إلى تحديد الفسق، فإذا كان
(1)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 201)؛ حيث قال: "قال محمد رحمه الله: لا تعتبر لأنه من أمور الآخرة فلا تبتنى أحكام الدنيا عليه إلا إذا كان يصفع ويسخر منه أو يخرج إلى الأسواق سكران ويلعب به الصبيان لأنه مستخف به".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 424)؛ حيث قال: "الدين، وهو معتبر في الكفاءة بلا خلاف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للما وردي (9/ 101)؛ حيث قال: "وهو الدين فإن اختلافهما في الإسلام والكفر كان شرطًا معتبرًا بالإجماع".
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 460)؛ حيث قال: "إذا زوج الأب ابنته البكر من رجل سكير فاسق لا يؤمن عليها لم يجز وليرده الإمام وإن رضيت هي به".
الفسق في أمر عقدي فلا ينبغي أن يُزوَّج هذا الإنسان، وبعض الناس لا يُصلي فهذا لا يُزوَّج؛ لأنه وإن كان لا ينكر وجوب الصلاة فمن العلماء من يرى أنه كافر
(1)
، فهو في هذه الحالة لا يُكافئ هذه المرأة.
قوله: (وَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إن زَوَّجَهَا مِمَنْ مَالُهُ حَرَامٌ)
(2)
.
يعني: إذا اعترضت البنت ووقف الأب عند رأيه، فإنه يُلجَأ إلى الحاكم السلطان فهو الذي يحسم الخلاف في هذه المسألة ويقرر الحكم فيها، كذلك لو كان إنسان جمع ماله من حرام، ويرفع يديه إلى السماء كما جاء في الحديث:"يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام فأنَّى يُستَجَاب لذلك؟! "
(3)
، فإذا جمع ماله من
(1)
هو مذهب الحنابلة. يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 228)؛ حيث قال: " (فإن تركها تهاونًا وكسلًا) لا جحودًا (دعاه إمام أو نائبه إلى فعلها) لاحتمال أن يكون تركها لعذر يعتقد سقوطها به، كالمرض ونحوه ويهدده فيقول له: إن صليت وإلا قتلناك وذلك في وقت كل صلاة (فإن أبى) أن يصليها (حتى تضايق وقت التي بعدها)؛ أي: بعد التي دعي لها عن فعل الثانية، كما جزم به في "مختصر المقنع" تبعًا "للوجيز" وغيره (وجب قتله) لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
…
فمن ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل
…
قاله في "المبدع": ولأنها من أركان الإسلام لا تدخلها النيابة فقتل تاركها كالشهادتين، ولا يقتل بترك الأولى لأنه لا يعلم أنه عزم على تركها إلا بخروج وقتها فإذا خرج علمنا أنه تركها ولا يجب قتله بها؛ لأنها فائتة فإذا ضاق وقت الثانية وجب قتله (ولا يقتل) من ترك الصلاة تهاونًا وكسلًا وكذا من جحد وجوبها (حتى يستتاب ثلاثة أيام كمرتد)؛ أي: كسائر المرتدين (نصًّا) ويضيق عليه". وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 329).
(2)
لم أجد المسألة بنصها ولعلها مفرعة عندهم على مسألة التزويج بالفاسق المتقدمة.
(3)
أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المومنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر: "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟! ".
حرام سينفق على أولاده وعلى زوجته أو زوجاته وعلى من تلزمه نفقته، ففي هذه الحالة لا تريد هذه المرأة أن تَدخل بيتًا جُمِعَ المال فيه من حرام.
قوله: (أَوْ مِمَّنْ هُوَ كَثِيرُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ).
أصلًا كثرة الحلف بالله لا تنبغي كما قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، وهذه مسألة تكلمنا عنها في مواضعها
(1)
.
أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحلف أيمانًا: "والله لأغزونَّ قريشًا، والله لأغزونَّ قريشًا"
(2)
، وأحيانًا في أثناء الخطبة، فالقصد في ذلك التأكيد على الأمر، فلا مانع إذا كان الإنسان يعظ الناس أو يخطب في يوم جمعة فألقى عددًا من الأقسام ليؤكد ذلك فالأمر هذا ليس فيه شيء، لكن أن تتعود على كثرة الأيمان، فهذا أمر لا ينبغي أن يفعله الإنسان
(3)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي النَّسَبِ هَلْ هُوَ مِنَ الْكَفَاءَةِ؟ أَمْ لَا؟ وَفِي الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْيَسَارِ، وَفِي الصِّحَّةِ مِنَ الْعُيُوبِ).
النسب: بعض العلماء يعبر عنه بالحسب، وبعضهم يعبر عنه بالمنصب، وجاء بأن الحسب هو المال، وكما أشار إليه المؤلف، والله سبحانه وتعالى يقول:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} [السجدة: 18]،
(1)
سبق الحديث عنها في كتاب الأيمان.
(2)
أخرجه أبو داوب (3285) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا"، ثم قال:"إن شاء الله". وضعفه الألباني. يُنظر: "ضعيف أبي داود"(3286).
(3)
قال الطبري في "جامع البيان"(10/ 562) في قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} : "واحفظوا أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم".
وقال القرطبي في "تفسيره"(6/ 285): "قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، أي: بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم. وقيل: أي: بترك الحلف؛ فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات".
فشتان بين الفاسق وبين التقي، فالمؤلف ذكر الكفاءة التي هي: في النسب وذكر الحرية، والصنعة أو الصناعة.
وكذلك اليسار؛ يعني: أن يكون موسرًا، لديه القدرة على أن ينفق على نفسه وعلى زوجته.
وبعضهم أضاف السلامة من العيوب.
وبعضهم أضاف ألا يكون مهرها أقل من مثلها.
وما يتعلق بالعيوب في المهر فقد يكون من يتقدم كفئًا لهذه المرأة ولكن لا يستطيع النفقة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل الذي جاء إليه في الحديث المتفق عليه:"التمس ولو خاتمًا من حديد"
(1)
، وقال له صلى الله عليه وسلم:"زوجتكها بما معك من القرآن"
(2)
؛ فلا ينبغي أن يكون الصداق عائقًا لهذا الأمر.
فالذين يُغالون في المهور ويرفعون أسعاره ويجعلون بناتهم يمكثن في بيوتهن وتمر عليهم السنون والأشهر والدهور حتى تكبر هذه البنت فيعزف عنها الناس وينصرفون، فتعيش في تعاسة
(3)
وفي تعبٍ وفي ألم، وعائشة رضي الله عنها تخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة"
(4)
.
قوله: (فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ
(5)
أنه يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَوَالِي مِنَ
(1)
أخرجه البخاري (5135)، ومسلم (1425) عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلًا، فقال رجل: زوِّجْنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال:"هل عندك من شيء تصدقها؟ " قال: ما عندي إلا إزاري، فقال:"إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا" فقال: ما أجد شيئًا، فقال:"التمس ولو خاتما من حديد".
(2)
أخرجه البخاري (5029)، ومسلم (1425/ 77).
(3)
التعس: الهلاك؛ وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 910).
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده"(25119)، وضعفه الأرناؤوط.
(5)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 424)؛ حيث قال: "قال ابن القاسم فيه: سألت مالكًا عن نكاح الموالي في العرب، فقال: لا بأس بذلك".
الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]).
هذه مسألةٌ فيها خلاف، فأبو حنيفة
(1)
مثلًا يرى: أن قريشًا بعضهم لبعضٍ أكفاء، ويوافقه أحمد في روايةٍ عنه
(2)
في هذه المسألة، لكن عند الإمام أحمد أيضًا تفصيلٌ بين قبائل من قريش
(3)
من بني هاشم وغيرهم، ورواية أخرى للإمام أحمد
(4)
يرى فيها: أن العرب بعضهم لبعضٍ أكفاء، وأن الموالي بعضهم لبعضٍ أكفاء، والعجم بعضهم لبعضٍ أكفاء، وأبو حنيفة يرى: تقديم القرشيين، ثم العرب بعضهم لبعضٍ أكفاء، وهذه قضايا الحقيقة يحتاج الأمر إلى الاستدلال بها، وأعظم شيءٍ يتوفر في المسلم هو التقوى، وأبو العتاهية يقول:
ألا إنّما التَّقوَى هيَ العِزُّ وَالكَرَمْ
…
وحبكَ للمال هو الذلُّ والسقمْ
وليسَ على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ
…
إذا حقق التَّقوَى وَإن حاكَ أو حجمْ
(5)
"أبو العتاهية"
(6)
من الشعراء العباسيين الذين عُرِفوا بالزهد في آخر حياته، فله كثيرٌ من الأبيات الشعرية المؤثرة التي تؤثر في القلوب وفي النفوس.
ألا إنّما التّقوَى هيَ العِزّ وَالكَرَمْ: بلا شك التقي هو: الذي يكون
(1)
سيأتي.
(2)
سيأتي.
(3)
سيأتي.
(4)
سيأتي.
(5)
يُنظر: "عيون الأخبار" لابن قتيبة (2/ 403).
(6)
لُقب بأبي العَتَاهية لاضطرابٍ كان فيه، وقيل: بل كَانَ يحبُّ الخَلاعة؛ فكُنِّي بأبي العَتاهية لعُتُوِّه. ويرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة، وهو أحد مَن سار قولُهُ وانتشرَ شِعره، ولم يجتمع لأحدٍ ديوان شِعره لكثرته. وقد نَسَكَ بأخرة. تنظر ترجمته في:"طبقات الشعراء" لابن المعتز (ص 227)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (5/ 486).
في مكانةٍ عزيزة؛ لأن الناس يجلونه فقيرهم وغنيهم، فهو صاحب كرم، وهو كريمٌ عند الله سبحانه وتعالى، لأنه من المطيعين لله، كما قال الله:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} [النبأ: 31]، فكل تقي ترى أنه محل احترامٍ عند الناس
(1)
.
ثم يقول: حبكَ للمال هو الذلُّ والسقمْ: لكننا نقول: هذا فيمن يجعل المال غايته، أما من يبحث عن المال ويطلبه من أوجهٍ حلال ويجعله وسيلةً إلى الدار الآخرة فنعم المال، ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا، واللّه تعالى يقول:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
لا شك أن الإنسان إذا وُفِّقَ إلى جمع مالٍ حلال يُنفق منه على نفسه وعلى أولاده ويُحسن إلى الفقراء والمحتاجين ويؤدي حق الله عليه، فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله
(2)
.
ثم يقول بعد ذلك: وليسَ على عبدٍ تقيٍّ نقيصة: لا شك أن العبد إذا كان تقيًّا فلا ينقصه شيء مهما كان، حتى وإن كان ممن ينظف الشوارع، نحن نرى هؤلاء الأقوام الذين يأتون من بعض البلاد الإسلامية ترى أنه ينظف الشارع، ويلبس ملابسه الرسمية فما دام يتقي الله سبحانه وتعالى فهذه أمورٌ لا تنقصه، لأنه قال: إذا حقق التَّقوَى، وإن حاكَ أو حجمْ؛ ولذلك في قصة أبي هند الذي حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى الرسول وقال:"يا بني بياضة أنكحوا أبا هندٍ وأنكحوا إليه"
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".
(2)
أخرجه أبو داود (2102)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2446).
(3)
ينسب البيت لسلمان الفارس في "ربيع الأبرار"(4/ 187)، وينسب لنهار بن توسعة اليشكري في "الكامل" للمبرد (3/ 133).
والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وذاك يقول:
أبي الإسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ
…
إِذَا افتخروا بِقيسٍ أو تَميمِ
(1)
فلا ينبغي للإنسان أن يفتخر بأنه من قبيلة قيس أو تميم، أو بأنه من قبيلة حرب، أو بأنه من أي قبيلةٍ من القبائل، وإنما دائمًا الإنسان يفخر ويعتز بدينه، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
قوله: (فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أنه يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَوَالِي مِنَ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]).
ونعمت الحجة في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وهل هناك حجة أقوى من أن يُورِدَ الإنسانُ دليلًا جاء في هذا الكتاب المُطهَّر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا شك أن هذا دليلٌ واضح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طبَّق ذلك الأمر، وفي قصة عائشة: نجد أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان مولى لرجلٍ من الأنصار، هو أبو حذيفة وكان رجلًا من العرب وقد زوَّجه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة
(2)
، ولم
(1)
أخرج البخاري (4000): "أن أبا حذيفة وكان ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى سالمًا وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار".
(2)
أخرجه البخاري (2168) وهذا لفظه، ومسلم (1504) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام وقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من=
ينظر إلى كونه مولى، ولكنه كان رجلًا صالحًا، فما كان منه إلا أن زوَّجه امرأةً من الأنصار، فالتقوى هي الأصل، لكن لو وُضعَ هذا الشرط فإنَّه يُوفَّى.
كما في قصة بريرة، وكانت مملوكة، وسعت في عتق نفسها، وطلبت من عائشة رضي الله عنها أن تعينها على ذلك، فاشترت نفسها من مواليها، وكانوا قد اشترطوا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اشترطي لهم الولاء، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط"
(1)
، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تغيرت حالها من الرق إلى الحرية خيرها بين أن تبقى مع زوجها مغيث وكان عبدًا وبين أن تَنفصل عنه وتتركه، فاختارت فراقه، فأثر ذلك على الرجل، وتألم كثيرًا؛ لأن نفسه تعلقت بها، وشق عليه أن تفارقه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو راجعتيه"، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ إن كنت تأمرني فليس لي إلا السمع والطاعة، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لها:"إنما أنا شفيعٌ ولست بآمر" فقالت: لا حاجة لي به
(2)
.
= شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق".
(1)
أخرجه البخاري (5283) عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس:"يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا" فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو راجعته" قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال:"إنما أنا أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه.
(2)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 412 وما بعدها)؛ حيث قال: "جمعوا الفوائد المستنبطة من حديث بريرة، ومن ذلك: أن من أدى أكثر نجومه لا يعتق تغليبًا لحكم الأكثر، وأن من أدى من النجوم بقدر قيمته يعتق، وأن من أدى بعض نجومه لم يعتق منه بقدر ما أدى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في شراء بريرة من غير استفصال، وفيه جواز بيع المكاتب والرفيق بشرط العتق، وأن بيع الأمة المزوجة ليس طلاقًا كما تقدم تقريره قريبًا، وأن عتقها ليس طلاقًا ولا فسخًا لثبوت التخيير؛ فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرجعة ولم يتوقف على إذنها أو ثلاثًا لم يقل لها: لو راجعته لأنها ما كانت تحل له إلا بعد زوج آخر، وأن بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها؛ لأن تخييرها يدل على بقاء عَلَقة العصمة، وأن سيد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب،=
هذا هو الإسلام، هذا هو منهج الإسلام، وهؤلاء هم المسلمون الأوائل، رجالًا ونساءً، أدب مع الإسلام، وأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزولهم عند أحكام الإسلام، في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعارضون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا ولا يخرجون عن هديه، ولا يتجاوزون طاعةً من طاعاته، فهذا فيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها الحرية بأن تختار الفراق أو البقاء، فدلَّ ذلك على أن للحرة أن تنفصل من المملوك، وفيه دليلٌ آخر على أن تبقى إن أرادت؛ لأن الرسول عرض عليها أن تراجعه، فإذا رضيت المرأة وأولياؤها من الزواج بمولى فليس هناك مانع من ذلك
(1)
.
قوله: (وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
(2)
وَأحمد
(3)
: لَا تُزَوَّجُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ مَوْلًى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة، وَأَصْحَابُهُ
(4)
: لَا تُزَوَّجُ قُرَشِيَّةٌ إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، وَلَا عَرَبِيَّةٌ إِلَّا مِنْ عَرَبِيٍّ).
= وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له جواز سؤال المكاتب من يعينه على بعض نجومه وإن لم تحل وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه، وجواز سؤال ما لا يضطر السائل إليه في الحال
…
".
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 7)؛ حيث قال: "وكان الثوري يرى التفريق إذا نكح المولى عربية ويشدد فيه".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 23)؛ حيث قال: "اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الكفاءة لصحة النكاح، فروي عنه أنها شرط له. قال: إذا تزوج المولى العربية فرق بينهما. وهذا قول سفيان".
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 67)؛ حيث قال: "المنصب وهو النسب فلا يكون العجمي وهو من ليس من العرب كفئًا لعربية؛ لقول عمر: "لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء". رواه الخلال والدارقطني، ولأن العرب يعتدون الكفاءة في النسب ويأنفون من نكاح الموالي ويرون ذلك نقصًا وعارًا".
(3)
يُنظر:، "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 319)؛ حيث قال:"فتعتبر فيه الكفاءة، فقريش بعضهم أكفاء لبعض على اختلاف قبائلهم حتى يكون القرشي الذي ليس بهاشمي كالتيمى، والأموي والعدوي، ونحو ذلك كفئًا للهاشمي". وانظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (5/ 110).
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 33)؛ حيث قال: "والرواية الثانية عن أحمد أنها ليست شرطًا في النكاح. وهذا قول أكثر أهل العلم".
مذهب أحمد فيه تفصيل، ولكن له رواية
(1)
قريبة من مذهب أبي حنيفة، فيما يتعلق بأن القرشيين بعضهم لبعضٍ أكفاء، وله رواية أخرى
(2)
أن العرب كلهم بعضهم لبعضٍ أكفاء، والموالي بعضهم لبعضٍ أكفاء، فالقرشي لا يساويه أحد؛ لأن منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكننا لو لجأنا إلى غير القرشي لوجدنا أن الرسول زَوَّجَ بنتيه لعثمان رضي الله عنه
(3)
، وعلي بن أبي طالب زَوَّجَ ابنته لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم
(3)
، والنسب بينهم كان مختلفًا؛ فلا تأثير له.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجِمَالِهَا، وَمَالِهَا، وَحَسَبِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ ").
هذا ما يُعرَفُ بالخبرِ ويُعبَّر عنه بالإنشاء، فهنا في هذا الحديث:"تنكح المرأة لأربع"
(4)
، هذا إخبار
(5)
، وليس أمرًا، يعني: قد تجتمع هذه الصفات وهي طيبة إذا اجتمعت، ولكن عند الانفراد ينبغي أن تقف عند ما أوصاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها
…
"، إذن قد يجد الإنسان صاحبة مال فيريد أن يتزوجها لأجل المال، فهذا غرضه، وقد يكون له
(1)
هي الرواية الأول التي تقدمت.
(2)
أخرج ابن ماجه (110) عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عثمان عند باب المسجد، فقال:"يا عثمان، هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، على مثل صحبتها". وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(4824).
(3)
قال ابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 309): "وقد تزوج عمر بن الخطاب في أيام ولايته بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة، وأكرمها إكرامًا زائدًا أصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله، فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
الخبر ما أتاك من نبأ عمن تستخبر. تقول: أخبرته وخبرته. والأسلوب الخبري هو الكلام الذي يحتمل الصدق والكذب. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (7/ 157)، و"البحر المحيط " للزركشي (6/ 79).
غرضٌ آخر طيب، لكنه ما دفعه إلى الزواج منها هو المال، وقد يبلغه أن هذه امرأةٌ جميلة، فيريد أن يتزوجها لجمالها، إذن هناك المال وهناك الجمال، وقد يكون السبب هو الحسب؛ أي: النسب والمنصب هذا هو الداعي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث "فاظفر بذات الدين تربت يداك"
(1)
؛ لأن هذه هي التي فيها السعادة، هي التي سيجد الإنسان فيها بتوفيق الله سبحانه وتعالى الراحة، فإذا أخذت امرأةً تقية تخشى الله ستؤدي حقوقك وتُخيم عليك السعادة والطمأنينة والراحة والألفة والمجبة والمودة التي أشار الله إليها سبحانه وتعالى بقوله:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا ولا يرشدنا إلا فيما فيه خيرٌ لنا وسعادة، فينبغي أن نقف عند توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن هذه الشريعة كلها خير وكلها سعادة وكلها فلاحٌ ونجاة، فمن تمسك بأهدابها فاز ونجا.
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أن الدِّينَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَقَطْ
(2)
، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ"
(3)
).
وهذا عند مالك
(4)
وهو: يرى الاقتصار على الدين، وقد مر بنا ما يشير إلى ذلك، وأن العلماء يختلفون في تزويج الفاسق، كما ذكرنا.
(1)
أخرجها البخاري (5090)، ومسلم (1466/ 53).
(2)
ينسب للشافعي وهو محكي عن مالك:
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 6)؛ حيث قال: "وحكى البوطي عن الشافعي أنه قال: الكفؤ هو في الدين".
وينظر:، (اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (2/ 134)؛ حيث قال:"وحكى ابن القصار عن مالك الكفاءة في الدين فحسب".
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(11765) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاث: تنكح المرأة على مالها، وتنكح المرأة على جمالها، وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك". وقال الأرناؤوط: "صحيح لغيره، وهذا سند حسن".
(4)
مذهب مالك أن الكفاءة تعتبر في خمسة أشياء.
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 212)؛ حيث قال: "وأما نحن فنعتبر فيه خمسة أوصاف: الوصف الأول: الدين
…
الوصف الثاني: الحرية
…
".
وقد جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده جارية فعلَّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوَّجها دخل الجنة"
(1)
، فهذه أجور عظيمة أن يُعتق عبدًا في سبيل الله سبحانه وتعالى.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أن الْحَسَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِمَعْنَى الدِّينِ).
وفي قصة زين العابدين رضي الله عنه كانت عنده جاربةٌ مهذبة وكانت تصب عليه الماء فكأن الإبريق انفلت من يدها فوقع عليه، فتأثر بما حصل، فتلت عليه قول الله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133، 134].
قالت: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، قال: كظمت غيظي.
قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، قال: عفوت عنكِ.
قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، قال: أنتِ عتيقة لوجه الله
(2)
فامتصت غضب ذلك الرجل الكريم، وذكَّرته بالآية، وهكذا شأن السلف رضي الله عنه، إذا ذُكِّروا بأمرٍ من أمور الصلاح والتقى رجعوا، ولو قلبنا
(1)
أخرجه البخاري (97) ومسلم (154) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران".
(2)
أخرجها البيهقي في "شعب الإيمان"(10/ 545) عن طاهر بن يحيى الحسيني، حدثني أبي، حدثني شيخ من أهل اليمن قد أتت عليه بضع وسبعون سنة فيما أخبرني يقال له: عبد الله بن محمد، قال: سمعت عبد الرزاق، يقول:"جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فقال لها: قد عفا الله عنك، قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة".
صفحات التاريخ لوجدنا في ذلك دروسًا ومواعظ وبخاصة في سيرة البشير النذير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فالحسب أحيانًا يطلق ويراد به: النسب أو بمعنى الدين والمال، وأحيانًا المنصب فبعض الفقهاء يقول: أن تكون ذات دينٍ ومنصب، والحسب يُطلَقُ على المال، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"الحسب المال"
(1)
، ويقول عليه الصلاة والسلام:"إن أحساب الناس بينهم في هذه الدنيا إنما هذا المال"
(2)
، هذان حديثان صحيحان، أحدهما عند الخمسة إلا أبا داود، والاخر عند بعض أصحاب السنن
(3)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ الْمَال، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْإِجْمَاع، وَهُوَ كَوْنُ الْحُسْنِ لَيْسَ مِنَ الْكَفَاءَةِ).
المؤلف يقصد: أن الحُسن والمنظر هذا ليس من الكفاءة، فقد تجد امرأةً دون امرأةٍ في الشكل، لكن أخلاقها تُغطِّي ذلك، فتساوي مائة امرأة من أصحاب الأخلاق السيئة وإن كان عند إحداهن جمال الدنيا.
قوله: (وَكُلّ مَنْ يَقُولُ بَرَدِّ النِّكَاحِ مِنَ الْعُيُوبِ يَجْعَلُ الصِّحَّةَ مِنْهَا مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْحُسْنُ يُعْتَبَرُ لِجِهَةٍ مَا).
ولله در القائل:
ليس الجمال بأثواب تزيننا
…
إن الجمال جمال العلم والأدب
(4)
(1)
جزء من حديث أخرجه الترمذي (3271) وتتمته: "والكرم التقوى". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1870).
(2)
أخرجه النسائي (3225) عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1871).
(3)
أخرجه أحمد (22990)، وقوى إسناده الأرناوؤط.
(4)
ينسب البيت لعلي بن أبي طالب. انظر: "ديوان الإمام علي"(ص 66).
فالجمال هو جمال الخُلق، والطاعة والتقوى والصلاح والخير، هذا هو الجمال الحقيقي، فإذا اجتمعت هذه الصفات فما أحسنها!
قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أيضًا أن الْفَقْرَ مِمَّا يُوجِبُ فَسْخَ إِنْكَاحِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ
(1)
؛ أَعْنِي: إِذَا كانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، فَالْمَالُ عِنْدَهُ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
).
يعني: لو أن إنسانًا تزوج امرأة وعجز عن النفقة، وهناك أسباب أخرى لفسخ النكاح كوجود عيبٍ في أحد الزوجين مثل أن يكون عنِّينًا
(3)
؛ يعني: لا يستطيع أن يقوم بحقوق المرأة وأخفى ذلك، أو أن يكون الزوج غير قادرٍ على الإنفاق على المرأة، فإن صبرت واحتسبت فستنال الأجر من الله سبحانه وتعالى، ولقد مر بنساءٍ كثيرات مواقف مثل ذلك، فساعدن أزواجهن على أمور الدنيا، وحملن معهم أمورًا كثيرة في هذا المقام، فتجد أن المرأة تذهب وتحتطب، وتطحن القمح وتحمل الماء على رأسها، وغير ذلك.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 249)؛ حيث قال: "قوله: (من فقير)، أي: سواء كان ابن أخ له أو غيره وأسقط المصنف ابن أخ الواقع في الرواية، لأنه وصف طردي مخرج على سؤال سائل، وحينئذ فلا مفهوم له كما أنه أسقط المطلقة من قوله: "وللأم" لما ذكرنا وقوله: (في تزويج الأب)؛ أي: وغير الأب أولى بذلك، وأما الأم فخاص بها مطلقة أم لا ومثل الفقير من يغربها عن أمها مسافة خمسة أيام، ويشكل على هذا الفرع ما تقدم في قوله: "إلا لكخصي"؛ أي: فليس للأب أن يجبر ابنته على التزويج بخصي ونحوه من العيوب الموجبة للخيار، وأما الفقر فلم يذكروه فله جبرها ولا كلام لأحد حتى الأم؛ فكيف يحكم هنا لها بالتكلم إلا أن يقال: ما هنا مبني على أن اليسار معتبر في الكفاءة ولا مانع من بناء مشهور على ضعيف".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 319)؛ حيث قال: "ومنها المال، فلا يكون الفقير كفئًا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، وخصوصًا في زماننا هذا؛ ولأن للنكاح تعلقًا بالمهر والنفقة تعلقًا لازمًا، فإنه لا يجوز بدون المهر، والنفقة لازمة".
(3)
العُنَّة الحبس، رجلٌ عنِّينٌ: لا يريد النساء، بيِّن العنِّينِيَّة. وامرأة عِنِّينَة: لا تشتهي الرجال. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 22).
والعلماء ذكروا من الأسباب التي تجعل المملوك غير كفء للحرة قالوا:
أولًا: لأن سيده يملكه، فهو لا يستطيع أن يقوم بالإنفاق على زوجته إلَّا لو كان سيده ينفق عليه.
ثانيًا: يكون مشغولًا بسيده فلا أوقات عنده للقيام بكثيرٍ من حقوق الزوجة.
هذه تعليلاتٌ ذكرها العلماء تجعل المملوك غير كفء للحرة
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا مِنَ الْكَفَاءَةِ؛ لِكَوْنِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ لِتَخْيِيرِ الأمَةِ إِذَا عُتِقَتْ)
(2)
.
في قصة بريرة: أن المرأة إذا كانت تحت عبد ثم عُتقت أصبحت حرة تُخيَّر، لكن إن رضيت فالحمد لله، وكونه يجوز لها أن تبقى مع زوجها المملوك هذا دليلٌ على أن الكفاءة بالنسبة للحرية ليست شرط صحة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم خيَّرها ثم عرض عليها أن تبقى معه، فدلَّ ذلك على أن زواج الحر بالمملوكة لا تأثير له.
(1)
يُنظر: "أعلام الموقعين" لابن القيم (2/ 66)؛ حيث قال: "أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره، ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره؛ فهذا أيضًا من كمال هذه الشريعة وحكمتها، فإن السيد قاهر لمملوكه، حاكم عليه، مالك له، والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها، وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير؛ ولهذا منع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها، وبين كونها سيدته وموطوءته، وهذا أمر مشهور بالفطرة والعقول قبحه، وشريعة أحكم الحاكمين منزهة عن أن تأتي به".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 250)؛ حيث قال: " (قوله: وفي العبد تأويلان) المذهب أنه ليس بكفء كما في الشارح تبعًا لشب، وفي عبق أن الراجح أنه كفء، وهو الأحسن لأنه قول ابن القاسم. أقول: والظاهر التفصيل فما كان من جنس الأبيض فهو كفء؛ لأن الرغبة فيه أكثر من الأحرار وبه الشرف في عرف مصرنا وما كان من جنس الأسود فليس بكفء؛ لأن النفوس تنفر منه ويقع به الذم للزوجة. اهـ عدوي. وظاهر المصنف جريان الخلاف في عبد أبيها وغيره".
قوله: (وَأَمَّا مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
يَرَيَانِ أنه لَيْسَ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَأَنَّ لِلأبِ أن يُنْكِحَ ابْنَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ؛ أَعْنِي: الْبِكْرَ. وَأَنَّ الثَّيِّبَ الرَّشِيدَةَ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلأوْلِيَاءِ مَقَالٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: مَهْرُ الْمِثْلِ مِنَ الْكَفَاءَةِ).
المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فزوَّجها الرسول بخاتم من حديد"
(4)
، ليس حتى من فضة ولا من ذهب، فما دامت المرأة قد رضيت فالحمد لله، فهذا هو مستند من يقول بذلك، وهذا هو رأي أبي حنيفة، ولكن الجمهور خالفوه، والأدلة كما ذكرنا.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَمَّا فِي الْأَبِ فَلاخْتِلَافِهِمْ هَلْ لَهُ أن يَضَعَ مِنْ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ شَيْئًا؟ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا فِي الثَّيِّبِ فَلاخْتِلَافِهِمْ هَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهَا الْوِلَايَةُ فِي مِقْدَارِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَتْ رَشِيدَةً كمَا تَرْتَفِعُ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهَا الْمَالِيَّةِ؟).
أما مهر المثل: فإذا جاءها إنسان ذو تقوى وصلاح فله أن يُزوِّجه
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 480)؛ حيث قال: "إذا زوج الأب من ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل، أو من ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، فإن ذلك جائز إذا كان نظرًا لهما".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين " للنووي (7/ 249)؛ حيث قال: "ثم ليس للصداق حد مقدر، بل كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو مثمنًا أو أجرة، جاز جعله صداقًا؛ فإن انتهى في القلة إلى حد لا يتمول، فسدت التسمية".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 319)؛ حيث قال: "تعتبر الزيادة على ذلك حتى أن الزوج إذا كان قادرًا على مهر مثلها ونفقتها يكون كفئًا لها، وإن كان لا يساويها في المال".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 229)؛ حيث قال: "ولا يتقدر أقله ولا أكثره، بل كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو أجرة: جاز أن يكون صداقًا. هذا المذهب. وعليه الأصحاب".
(4)
تقدَّم تخريجه.
بما يشاء، وفي قصة سعيد بن المسيب، اختار تلميذًا عنده من فقراء المسلمين على ابن الخليفة في ذلك الوقت، هو رَغِب فيه، وأخذها بنفسه وأدخلها عليه في بيته
(1)
، فهذا أمر إذا اقتنع الأب بذلك ورضيت هي فهذا هو المطلوب.
(1)
قصة تزويج ابنة سعيد بن المسيب لابن أبي وداعة.
أخرجها أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 168) عن ابن أبي وداعة قال: "كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أيامًا فلما جئته قال: أين كنت؟ قال: توفيت أهلي فاشتغلت بها فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: أنا، فقلت: أَوَتفعل؟ قال: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال: ثلاثة قال: فقمت ولا أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي واسترحت وكنت وحدي صائمًا فقدمت عشائي أفطر كان خبزًا وزيتًا فإذا بآت يقرع فقلت: من هذا؟ قال: سعيد قال: فتفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه قد بدا له فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إلي فاتيك قال: لأنت أحق أن تؤتى قال: قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلًا عزبًا فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك فإذا هي قائمة من خلفه في طوله ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم قدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم زوجني سعبد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها على غفلة فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم وها هي في الدار قال: فنزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس وإذا هي من أحفض الناس لكتاب الله وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج قال: فمكثت شهرًا لا يأتيني سعيد ولا آتيه فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدًا وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تقوض أهل المجلس فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرًا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو قال: إن رابك شيء فالعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن =
قوله: (أَمْ لَيْسَ تَرْتَفِعُ الْوِلَايَةُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّدَاقِ، إِذْ كَانَتْ لَا تَرْتَفِعُ عَنْهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ، وَالصَّدَاقُ مِنْ أَسْبَابِهِ؟ وَقَدْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَخْلَقَ
(1)
بِمَنْ يَشْتَرِطُ الْوِلَايَةَ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، وَلَكِنْ أَتَى الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَيَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْوِلَايَةِ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أن يُنْكِحَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ؟ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟).
يعني: لو أن إنسانًا أصبح هو الولي على امرأة، كابن عمها، فهل يجوز له أن يزوِّجها من نفسه بمعنى: يتولى طرفي العقد، فيقول مثلًا: تزوجت فلانة أو تزوجتك، ثم بعد ذلك أيضًا هو يجيب؟
والجواب: أكثر الفقهاء وهم الجمهور يقولون: يجوز له ذلك، فله أن يتولى طرفي العقد.
وبعضهم يقول: يختار من يليه في الولاية فيطلب منه أن يُزوِّجه، وفي قصة صفية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتقها وتَزَوَّجها
(2)
.
ولكن الحقيقة غفل المؤلف وقال: هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وغفل عن أن هناك القضية هي في "صحيح البخاري" وهي حجة في ذلك، وهي قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: عندما جاءت إليه أم حكيم بنت قارظ
(3)
وذكرت له أنها قد خُطبت وطلبت منه أن يتزوجها، فقال: أتجعلين
= مروان لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف".
(1)
أخلق به: أي أولى وأجدر. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 214).
(2)
أخرجها البخاري (5086)، ومسلم (1365/ 85) عن أنس بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها".
(3)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (6/ 17)، ووصله ابن سعد في "الطبقات" (8/ 472) من طريق ابن أبى ذئب عن سعيد بن خالد وقارظ بن شيبة: "أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد فزوجني أيهم =
أمرك إليَّ؟ قالت: نعم قال: قد تزوجتك، فتزوجها في هذا المقام، وتولى طرفي العقد وانتهى، وهذه القضية قد اشتهرت وعُرِفَت ولم يُخالف فيها أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولكن الخصوصية لا بد لها من دليل، كقوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
قوله: (فَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(1)
قِيَاسًا عَلَى الْحَاكمِ وَالشَّاهِدِ، أَعْنِي: أنه لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ. وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ
(2)
).
وأجاز ذلك مالك وأحمد وجمهور العلماء؛ يعني: الشافعي انفرد في هذه المسألة، أما الثاني فمذهب الجمهور: له أن يُزوِّجها.
المسألة الأخرى: يختار غيره ليتولى العقد، وهذا في قصة المغيرة
(3)
عندما أراد أن يتزوج امرأة فطلب من آخر هو أدنى ولايةً منه أن يزوجه إياها، ففى قصة عبد الرحمن بن عوف هو نفسه تزوجها
(4)
، وقصة المغيرة بن شعبة طلب من غيره ممن هو دونه في الولاية أن يزوِّجه، فدلَّ على جواز هذا وذاك، وكل ذلك جائز.
= رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي
…
" والباقي مثله، وزاد: "قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه". وقال الألباني: "إسناده صحيح". انظر: "إرواء الغليل" (6/ 256).
(1)
يُنظر: "نهاية المطلب" للجويني (12/ 141)"حيث قال: "إذا أراد الولي أن يتزوج وليته، وذلك يفرض في بني الأعمام من القرابة، وفي المعتق والمعثقة؛ فمذهبنا: أنه إذا أراد ذلك، ورضيت المرأة به زوجًا، فليس له أن يتولى طرفي العقد".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 422)؛ حيث قال: "والحاكم يعقد لنفسه على مَن يتولى عليها بإذنها له في ذلك، فيتولى طرفي العقد".
(3)
أخرجه البخاري تعليقًا (7/ 16)، قال الحافظ في "الفتح" (9/ 188):"وصله وكيع في "مصنفه" والبيهقي من طريقه عن الثوري عن عبد الملك بن عمير: "أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فجعل أمرها إلى رجل المغيرة أولى منه، فزوجه".
(4)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (وَلَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَزَوَّجَ أَمَّ سَلَمَةَ بِغَيْرِ ولِيٍّ
(1)
؛ لِأَنَّ ابْنَهَا كَانَ صَغِيرًا).
بل له حجة وهي قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهذه في البخاري وغيره، أما أم سلمة؛ لأنه زوَّجها ابنها عمر:"قم فاعقد لرسول الله"
(2)
، وفي بعض الروايات أن ابنها سلمة وهو كبير زوَّجها
(3)
.
قوله: (وَمَا ثَبَتَ: "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، فَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا"
(4)
. وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(5)
فِي أَنْكِحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه النسائي (3254) عن أم سلمة: لما انقضت عدتها، بعث إليها أبو بكر يخطبها عليه، فلم تزوجه، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يخطبها عليه، فقالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غيرى، وأني امرأة مصبية، وليس أحد من أوليائي شاهد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال:"ارجع إليها فقل لها: أما قولك: إني امرأة غيرى؛ فسأدعو الله لك فيذهب غيرتك، وأما قولك: إني امرأة مصبية؛ فستكفين صبيانك، وأما قولك: أن ليس أحد من أوليائي شاهد؛ فليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك"، فقالت لابنها: يا عمر، قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1846).
(2)
انظر ما قبله.
(3)
ذكره ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(4/ 321) من طريق سعيد بن يحيى الأموي عن ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث وهو حرام، وأقام بمكة ثلاثًا
…
فذكر الحديث إلى أن قال: وقد جاءته بنت حمزة بن عبد الطلب وكانت مع خالتها - بمكة - أسماء بنت عميس ليخرجها معه، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد وحمزة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر لمكان خالتها أسماء بنت عميس، وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فماتا قبل أن يجتمعا، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول:"هل حزنت سلمة؟! ". وهو كان زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 96)؛ حيث قال: "النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص في مناكحه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الفروع" لابن مفلح (8/ 227)؛ حيث قال: "ولولي مجبر في طرفي العقد توليهما، كتزويج عبده الصغير بأمته أو بنته، وكذلك لغيره، فيكفي: زوجت فلانًا فلانة، أو تزوجتها إن كان هو الزوج".
أَنَّهَا عَلَى الْخُصُوصِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِكَثْرَةِ خُصُوصِيَّتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ تَرَدَّدَ قَوْلُهُ فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ)
(1)
.
يعني: ليس بكثرة الأحكام الخاصة بالرسول، وإنما ببعض الأحكام في النكاح تخصه وهذه أمورٌ معروفة، وقصده في الإمام الأعظم أن يُزوِّج نفسه.
[الْفَصْلُ الثَّانِي: في الشهادة]
قوله: (وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
وَمَالِكٌ
(4)
عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ).
ومعهم الإمام أحمد
(5)
في رواية انفرد فيها عن الجمهور في هذه المسألة
(6)
، وأُثِر عن كثير من الصحابة ومن التابعين
(7)
، وثبت أن ابن عمر
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 422)؛ حيث قال: "والحاكم يعقد لنفسه على مَن يتولى عليها بإذنها له في ذلك، فيتولى طرفي العقد".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 83)؛ حيث قال: "ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور رجلين، أو رجل وامرأتين".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 206)؛ حيث قال: "ولا يصح إلا بحضرة شاهدين".
(4)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 4)؛ حيت قال: "ولا نكاح إلا بشهادة شاهدي عدل".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 65)؛ حيث قال: "فلا ينعقد النكاح إلا بشاهدين".
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 102)؛ حيث قال: "وعنه: أن الشهادة ليست من شروط النكاح".
(7)
قال ابن المنذر في "الإشراف على مذاهب العلماء"(5/ 30): "هذا قول ابن عباس، =
والحسن بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم تَزَوَّجوا دون إشهاد
(1)
، صحَّ ذلك عنهم، والخلاف يدور حول حديث:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"
(2)
، تكلم العلماء في ذلك منهم ابن المنذر
(3)
وابن عبد البر
(4)
وبيَّنوا أن هذا الحديث مع تعدد طرقه هو حديث ضعيف، لكننا نقول: هذا الحديث له شواهد كثيرة بمجموعها يصل على الأقل إلى درجة الحسن.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطُ تَمَام يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ؟ أَوْ شَرْطُ صِحَّةٍ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ؟ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ السِّرِّ
(5)
).
= وقال عطاء: لا نكاح إلا بشاهدين، وبه قال سعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، والثوري، والأوزاعي".
(1)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 31): "وقد روي عن ابن عمر أنه زوج ولم يحضر النكاح شاهدين. وروي أن الحسن بن علي زوج عبد الله بن الزبير، وما معهما أحد من الناس، ثم أعلنوه بعد ذلك".
(2)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 386)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1839).
(3)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 318): "وليس يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الشاهدين في النكاح خبر إلا حديث مرسل".
(4)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(19/ 89): "إلا أن في نقلة ذلك ضعفًا".
(5)
ذهب جمهور الفقهاء: الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن نكاح السر هو ما لم يحضره الشهود، أما ما حضره شاهدان فهو نكاح علانية لا نكاح السر.
أما المالكية فلهم في حقيقة نكاح السر طريقتان:
الأولى: طريقة الباجي وهي استكتام غير الشهود كما لو تواصى الزوجان والولي على كتمه سواء أوصى الشهود بذلك أم لا.
الثانية: طريقة ابن عرفة وهي ما أوصى الشهود على كتمه سواء أوصى غيرهم على كتمه أم لا.
وأما مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 252 - 253) ومنها الشهادة وهي: "حضور الشهود، والكلام في هذا الشرط في ثلاث مواضع، أحدها: في بيان أن أصل الشهادة شرط جواز النكاح أم لا
…
أما الأول: فقد اختلف أهل العلم فيه قال عامة العلماء: إن الشهادة شرط جواز النكاح
…
ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بشهود". وروي: "لا نكاح إلا بشاهدين". وعن =
جاءت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف
(1)
" (*).
= عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الزانية التي تنكح نفسها بغير بينة". ولو لم تكن الشهادة شرطًا لم تكن زانية بدونها، ولأن الحاجة مست إلى دفع تهمة الزنا عنها ولا تندفع إلا بالشهود؛ لأنها لا تندفع إلا بظهور النكاح واشتهاره ولا يشتهر إلا بقول الشهود وبه تبين أن الشهادة في النكاح ما شرطت إلا في النكاح للحاجة إلى دفع الجحود والإنكار".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 236)؛ حيث قال: " (وبدأ بنكاح السر)؛ أي: بحكمه حيث قال، وفسخ إن لم يدخل ويطل وقوله: وفي ضمنه معناه؛ أي: معنى نكاح السر؛ لأن قوله موصى بكتمه عن امرأة أو منزل أو أيام هو معنى نكاح السر (قوله: وفسخ موصى بكتمه) لا يخفى أن بكتمه نائب الفاعل فهو عمدة لا يحذف إلا أن يقال: إنه حذف الجار، ثم المضاف فاتصل الضمير واستتر في عامله وإنما فسخ لأن الكتم من أوصاف الزنا فلما كان نكاح الموصى بكتمه شبيها بالزنا فسخ قاله شيخنا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 57)؛ حيث قال: "وهذا صحيح، الشهادة في النكاح واجبة. وقال داود: غير واجبة وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير؛ وعمر، وعبد الله بن عباس. ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والنخعي".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 65)؛ حيث قال: " (فلا ينعقد النكاح إلا بشاهدين) روي عن عمر وعلي وهو قول ابن عباس رواه الدارقطني لما تقدم، ولما روت عائشة مرفوعًا: "لا بد في النكاح من حضور أربعة الولي والزوج والشاهدين". رواه الدارقطني.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البغايا اللواتي ينكحن أنفسهن بغير بينة". رواه الترمذي. ولأنه عقد يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد فاشترطت الشهادة فيه لئلا يجحد أبوه فيضيع نسبه بخلاف غيره من العقود، وما روي عن أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها من غير شهود".
(*) أخرجه الترمذي (1089)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(966).
(1)
الدف: هو الذي يلعب به. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 196). وقال الدسوقي من فقهاء المالكية: الدف هو المغشى من جهة واحدة إذا لم يكن فيه أوتار ولا جرس.: "حاشية الدسوقي"(2/ 339). وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (6/ 349).
وألحق فقهاء المالكية والحنفية والغزالي من الشافعية بالدف جميع أنواع الطبول =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - وهي الآلات الفرعية - ما لم يكن استعمالها للهو محرمًا. وعند الحنابلة (يستحب ضرب الدف) الذي لا حلق فيه ولا صنوج.
واستثنى من ذلك بعضهم - كالغزالي مثلًا - الكوبة، لأنها من آلات الفسقة. واستثنى الحنفية من ذلك الضرب بالقضيب.
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 350)؛ حيث قال: "وهذا يفيد أن آلة اللهو ليست محرمة لعينها، بل لقصد اللهو منها إما من سامعها أو من المشتغل بها وبه تشعر الإضافة، ألا ترى أن ضرب تلك الآلة بعينها حل تارة وحرم أخرى باختلاف النية بسماعها، والأمور بمقاصدها، وفيه دليل لساداتنا الصوفية الذين يقصدون أمورًا هم أعلم بها، فلا يبادر المعترض بالإنكار كي لا يحرم بركتهم، فإنهم السادة الأخيار أمدنا الله تعالى بإمداداتهم، وأعاد علينا من صالح دعواتهم وبركاتهم (قوله: وتمامه فيما علقته) على "الملتقى"؛ حيث قال بعد عزوه ما مر إلى الملاعب للإمام البزدوي: وينبغي أن يكون بوق الحمام يجوز كضرب النوبة. وعن الحسن لا بأس بالدف في العرس ليشتهر. وفي "السراجية": هذا إذا لم يكن له جلاجل ولم يضرب على هيئة التطرب. اهـ. أقول: وينبغي أن يكون طبل المسحر في رمضان لإيقاظ النائمين للسحور كبوق الحمام تأمل".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 339)؛ حيث قال: " (قوله: أي الدف المعروف بالطار) قال ابن عرفة: هو المسمى عندنا بالبندير قال بن: مقتضى كلامه ولو كان فيه أوتار لأنه لا يباشرها بالقرع بالأصابع كالعود ونحوه من الآلات الوترية. زروق: رأيت أهل الدين ببلادنا يتكلمون في أوتاره ولم أقف فيه على شيء (قوله: فلا يكره ولو لرجل)؛ أي: فلا يكره الطبل به ولو كان الطبل به صادرًا من رجل خلافًا لأصبغ القائل بالمنع له وإنما يجوز للنساء (قوله: وهو الطبل الكبير إلخ) وقيل إنه الطبلخانا وهو طبلان متلاصقان أحدهما أكبر من الآخر وهو المسمى بالنقرازان. وقال ميارة: هو طبل صغير طويل العنق مجلد من جهة واحدة وهو المعروف الآن بالدربكة وفي الحديث بالكوبة والقرطبة (قوله: وفي كراهتهما
…
) إلخ، المعتمد من الأقوال الثلاثة أولها وهو قول ابن حبيب. والحاصل: أن الطبل بجميع أنواعه يجوز في النكاح ما لم يكن فيه صراصر أو ولو كان فيه على ما مر من الخلاف، وأما في غير النكاح فلا يجوز شيء منه اتفاقًا في غير الدف وعلى المشهور بالنسبة للدف. اهـ تقرير شيخنا عدوي".
مذهب الغزالي من الشافعية، يُنظر:"إحياء علوم الدين"(2/ 272)؛ حيث قال: "فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمى كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره، ولا يستثنى من =
وفي رواية: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال"
(1)
.
وجاء أيضًا: "أعلنوا النكاح في المساجد واضربوا عليه بالدف وليولم أحدكم ولو بشاة"
(2)
.
وجاء في آخر الحديث: "أن الرجل إذا تزوج امرأة وخضَّب شعره - يعني: سوَّد شعره - فليعلمها حتى لا يضرها"
(3)
؛ يعني: الإنسان يكون صريحًا، قد يأتي الإنسان فيغير شعره فيُظن أنه شباب.
وفي حديث صحيح لا إشكال فيه قال صلى الله عليه وسلم: "فصل بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح"
(4)
، هذا الحديث أخرجه الخمسة إلا النسائي وهو حديث صحيح، الصوت يعني: رفع الصوت بالنكاح.
والشاهد: أن إعلان النكاح مطلوب وأُثِر عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكرهون ذلك، وجمهور العلماء
(5)
يرون أن نكاح السر مكروه،
= هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها، لا للذتها؛ إذ لو كان للذَّة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"(5/ 22)؛ حيث قال: " (يستحب ضرب الدف) الذي لا حلق فيه ولا صنوج".
(1)
أخرجه ابن ماجه (1895)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1993).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 290)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(967).
(3)
لم نقف عليه.
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده"(15451)، وابن ماجه (1896)، والترمذي (1088)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1994)، وليس هو عند أبي داود.
(5)
اعتبر الحنفية أن النكاح لا يكون سرًّا إذا حضره شاهدان. يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 98)؛ حيث قال: "لأنه بحضور الشاهدين يحصل الإعلان ويخرج من أن يكون سرًا".
وقال الشافعية باستحباب الإعلان. يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 59)؛ حيث قال: "يحمل إعلانه على الاستحباب كما حصل ضرب الدف على الاستحباب دون الإيجاب".
وقال الحنابلة بكراهته. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 83)؛ حيث قال: "فإن عقده =
ومالكٌ
(1)
يرى أنه لا يجوز.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ، وَوُصِّيَا بِالْكِتْمَانِ - هَلْ هُوَ سِرٌّ؟ أَوْ لَيْسَ بِسِرٍّ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: هُوَ سِرٌّ وَيُفْسَخُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: لَيْسَ بِسِرٍّ).
هؤلاء يقولون: هو سر، وهؤلاء يقولون: ليس بسر، لكن الجمهور: على أن الأولى أن يُعلن النكاح هذا هو المستحب والأفضل، ويُكره إخفاؤه، لكن لو أخفي هو نكاح صحيح، لكن فُعِل المكروه، أما عند مالك فلا يجوز، ومن حينئذٍ يُفسخ النكاح، إذن فرقٌ بين مالك وبين الجمهور من حيث تقرير الحكم.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؟ أَمْ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا سَدُّ ذَرِيعَةِ الاخْتِلَافِ أَوِ الْإِنْكَارِ؟).
= بولي وشاهدين، فأسروه، أو تواصوا بكتمانه، كره ذلك".
وممن روي عنه أنه كره نكاح السر: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعروة بن الزبير، والشعبي، ونافع مولى ابن عمر، وعبد الله بن عتبة قال: شر النكاح نكاح السر.
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (8/ 321). وهي مسألة قريبة من مسألة تواصي الشهود بكتمانه وهي المسألة التالية.
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 520)؛ حيث قال: "ونكاح السر لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده إذا وقع إلا أن يعلن قبل أن يعثر عليه".
(2)
تقدَّم قوله.
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 253)؛ حيث قال: "وما روي أنه نهى عن نكاح السر فنقول بموجبه، لكن نكاح السر ما لم يحضره شاهدان، فأما ما حضره شاهدان فهو نكاح علانية لا نكاح سر؛ إذ السر إذا جاوز اثنين خرج من أن يكون سرًّا".
(4)
يُنظر: "تكملة المجموع " للمطيعي (16/ 200)؛ حيث قال: "لأنه عقد فلم يكن من شرطه ترك التواصي بالكتمان كالبيع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 648)؛ حيث قال: "ولا يبطله؛ أي: العقد تواص بكتمانه لأنه لا يكون مع الشهادة عليه مكتومًا ويكره كتمانه قصدًا".
مراد المؤلف: أن هذه الشهادة المطلوبة عند النكاح قد يُحتاج إليها، فهذا النكاح لما يُشهَد عليه يُصبح هؤلاء يُرجع إليهم عند الحاجة، فإذا لم تكن هناك شهادة صار نكاح سر، قد يوجد من أحد الطرفين ما ينكر ذلك، فسيترتب عليه خللٌ في هذا العقد، ولذلك قال المؤلف: أن الإشهاد أمر شرعي في الأصل؛ ولأن هناك شهادة للأموال، وشهادة بالنسبة للحدود، وشهادة بالنسبة للديون وغير ذلك من الأمور، فالشهادة أمرها عظيم، والإنسان إذا تداين مع غيره بدين فينبغي أن يكتبه وليُشهِد الشهود على ذلك.
هناك مواضع أحكام لا يكفي فيه إلا أربعة، والنكاح يُشرط فيه اثنان، ولكن هل يكفي رجلٌ وامرأتان، كما قال الله تعالى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، بعض العلماء يقول: لا بد في النكاح من شهادة رجلين
(1)
، ومنهم من يقول يكفي رجلٌ وامرأتان، وهذا يختلف فيه العلماء فعند أحمد
(2)
: يجوز رجل وامرأتان، وعند بعض الفقهاء: لا يجوز
(3)
، وانفرد أحمد بأنه تجوز شهادة عبدين
(4)
، وعند غيره لا يجوز، وهل تجوز شهادة غير المسلم؟
(1)
وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة:
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 413)؛ حيث قال: "ولا يثبت عندنا إلا بشهادة رجلين".
وينظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 8)؛ حيث قال: "والقسم الثاني: ما يقبل فيه شهادة رجلين ولا يقبل فيه شهادة النساء بحال، وهو كل ما لم يكن حالًّا ولا المقصود منه المال، ويجوز أن يطلع عليه الرجال الأجانب كالنكاح والطلاق".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 10)؛ حيث قال: "ولا ينعقد بشهادة رجل وامرأتين".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 102)؛ حيث قال: "وعنه: ينعقد بحضور فاسقين، ورجل وامرأتين، ومراهقين عاقلين".
(3)
وهم الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 235): " (وذكورة) فلا ينعقد بالنساء ولا برجل وامرأتين؛ لأنه لا يثبت بقولهن".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 11)؛ حيث قال: "وينعقد بشهادة عبدين".
والجواب: عند الجمهور
(1)
لا تجوز شهادة الغير مسلم، وعند أبي حنيفة
(2)
يجوز إذا كانت الزوجة ذميَّة، فهناك فروعٌ مختلفٌ فيها، لكن الشهادة من حيث الجملة هي أمرٌ شرعي طبِّقت في أمور كثيرة، ويُحتاج إليها؛ ولأن الشريعة ما دامت أقرتها فأصبحت حكمًا.
قوله: (فَمَنْ قَالَ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ - قَالَ: هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّة
(3)
، وَمَنْ قَالَ: تَوَثُّقٌ - قَالَ: مِنْ شُرُوطِ التَّمَامِ
(4)
).
يعني: من قال حكمٌ من الأحكام قال: هي من شروط الصحة، فإن لم يوجد شاهدان بطل النكاح كالحال بالنسبة للولي خلاف لأبي حنيفة، كما ذكرنا أن الجمهور يقولون: بالحديث "أيما امرأةٍ أنكحت نفسها بغير
(1)
المسلم إذا نكح ذمية فذهب الشافعية والحنابلة والمالكية إلى أنه يشترط إسلام الشاهدين على هذا النكاح، لأن شهادة الذميين على الزوجة الذمية غير مقبولة عندهم.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 165) حيث قال: فلا تصح شهادة الرقيق أو من فيه شائبة رق (مسلم) لا كافر ولو على مثله (عاقل) حال التحمل والأداء معا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 236 - 237)؛ حيث قال: (لا مستور الإسلام والحرية) بأن لم يعرف إسلامه ولا حريته بأن يكون في موضع يختلط فيه المسلمون بالكفار والأحرار بالأرقاء ولا غالب، أو يكون ظاهر الإسلام والحرية بالدار فلا ينعقد النكاح به، بل لا بد من معرفة حاله بهما باطنًا لسهولة الوقوف على ذلك بخلاف العدالة والفسق.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 81) حيث قال: (فلا ينعقد) النكاح (إلا بشهادة ذكرين) لما روى أبو عبيدة في الأموال عن الزهري أنه قال: مضت السنة أن لا يجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا الطلاق (بالغين عاقلين) لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الشهادة (متكلمين) لأن الأخرس لا يتمكن من أداء الشهادة (سميعين) لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به (مسلمين)
…
(ولو أن الزوجة ذمية عدلين ولو ظاهرا) لأن الغرض من الشهادة إعلان النكاح وإظهاره، ولذلك يثبت بالاستفاضة، فإذا حضر من يشتهر بحضوره، صح.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 253)؛ حيث قال: "وأما المسلم إذا تزوج ذمية بشهادة ذميين فإنه يجوز في قول أبي حنيفة".
(3)
وهو المالكية والشافعية والحنابلة كما تقدم.
(4)
وهم الحنفية.
إذن ولي فنكاحها باطل"
(1)
، أما هنا في الشهود الذين قالوا بعدم الإشهاد حجتهم أن الأحاديث لم تصح، وإلَّا لو صحَّت الأحاديث لسلَّموا بذلك فهذا هو الواقع.
فالخلاف: هل الأحاديث بمجموعها صالحة للاحتجاج بها، فيبنى عليها حكمٌ شرعي أم لا؟ فمن قال: نعم، يبنى عليها حكمٌ شرعي، وباستقراء الشريعة الإسلامية في مواضع كثيرة نجد أن الإشهاد مطلوب في أمور كثيرة والنكاح من أولى ما ينبغي أن يُبنى على الاحتياط؛ لأن فيه نسبًا، فيه أحكام كثيرة جدًّا فهي تحتاج إلى الحيطة.
قوله: (وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ ووَليٍّ مُرْشِدٍ"
(2)
، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ
(3)
).
هذا رُوِي عن ابن عباس وعن ابن عمر
(4)
وعن أبي هريرة
(5)
،
(1)
أخرجه الترمذي (1102) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". وقال الترمدي: "حديث حسن"، وصححه الألباني في "المشكاة"(3131).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الصغري"(3/ 19) موقوفًا عن ابن عباس قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل". هذا هو المحفوظ موقوفًا.
(3)
قال الألباني في "الإرواء"(1839): "وخلاصة القول: أن الحديث صحيح بلا ريب؛ فإن حديث أبى موسى قد صححه جماعة من الأئمة كما عرفت، وأسوأ أحواله أن يكون الصواب فيه أنه مرسل، أخطأ في رفعه أبو إسحاق السبيعي، فإذا انضم إليه متابعة من تابعه موصولًا، وبعض الشواهد المتقدهة التي لم يشتد ضعفها عن غير أبي موسى من الصحابة: مثل حديث جابر من الطريق الثانية، وحديث أبي هريرة من الطريق الأولى؛ إذا نظرنا إلى الحديث من مجموع هذه الطرق والشواهد فإن القلب يطمئن لصحته، لا سيما وقد صح عن ابن عباس موقوفًا عليه كما سبق، ولم يعرف له مخالف من الصحابة".
(4)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 322) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل".
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبري"(7/ 203) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وخاطب وشاهدي عدل".
وعن عائشة
(1)
، والمؤلف هنا: نحا منحًى جيدًا، في قضية الإشهاد لم يخالف فيه الصحابة، إذن لم يقع فيه خلاف في الصدر الأول فينبغي أن يكون حُكمًا، وقد تعددت الأحاديث في ذلك وعَمِل بها العلماء إذن هو حكمٌ شرعي.
قوله: (وَكثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَأَى هَذَا دَاخِلًا فِي بَاب الْإِجْمَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(2)
، وَذَكَرَ أَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلَ).
المؤلف يقصد: أن قضية الإشهاد من الأمور التي يُجمع عليها، لكن أين دليل الإجماع وأين الإجماع؟ ولكن الإجماع لم يُنقل، وإنما نُقِل أنه لا خلاف بين الصحابة، والمسألة متفقٌ عليها فيُبنى على ذلك أن هناك إجماعًا، كما نجد كثيرًا ما يتكلم العلماء كابن المنذر
(3)
، وابن قدامة، والنووي، وابن تيمية
(4)
، أمثال هؤلاء، يقول: وقد قال به فلان من الصحابة ولا مخالف له فيكون إجماعًا، لكن فرق بين أن يقول صحابي بقول ولم يُنقل خلافه، وبين أن يُنقل لنا الإجماع فلا شك أن نقل
(1)
أخرجه أحمد (26235) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1858).
(2)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 328)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1596).
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (6/ 542).
وقد أنكر ابن حزم كون عدم العلم بالخلاف إجماعًا فقال في "الإحكام في أصول الأحكام"(4/ 566): "وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارًا فادعى الإجماع إذ لم يعلم خلافًا".
(4)
ذكره ابن تيمية كأحد أنواع الإجماع، وسماه الإجماع الإقراري أو الاستقرائي، فقال:"بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدًا أنكره؛ فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها؛ فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف". انظر: "مجموع الفتاوى"(19/ 268).
الإجماع أقوى؛ ولذلك تجدون أن علماء الأصول يُفرِّقون بين: أجمعوا، وبين: اتفقوا، فيقولون: أجمعوا: الذين يُعتد بقولهم في الإجماع مُسَلَّمٌ بهذا، أما اتفقوا: معنى ذلك أن هناك خلافًا لكن الخلاف ضعيف، وربما يكون شاذًّا فلا يُعتد به
(1)
.
قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ هُوَ الْإِعْلَانُ فَقَطْ، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
يَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ؛ أَعْنِي: الْإِعْلَانَ وَالْقَبُولَ. وَيذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهَا الْعَدَالَةَ، وَأَمَّا مَالِكٌ
(4)
فَلَيْسَ تَتَضَمَّنُ عِنْدَهُ الْإِعْلَانَ إِذَا وُصِّيَ الشَّاهِدَانِ بِالْكِتْمَانِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ مَا تَقَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السِّرِّ أَمْ لَا؟، وَالْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ قَوْلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:"أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ". خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(5)
).
(1)
فإن من الأئمة من لا يفرق بين الإجماع والاتفاق، ويرى أنها من المترادفات، فيطلق على المسألة الواحدة إذا أراد حكاية الإجماع فيها كلمة (الإجماع) و (الاتفاق)، ومن هؤلاء الأئمة ابن عبد البر، والنووي. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 285)، و"شرح مسلم " للنووي (6/ 110).
ووجه الفرق بين الإجماع والاتفاق عند كثير من الأئمة: أن الإجماع يراد به إجماع الأمة، وأما الاتفاق يراد به اتفاق أصحاب المذهب.
قال العدوي في "حاشيته": " (قوله: وبغيرها اتفاقًا) الأولى وبغيرها إجماعًا لأن الاتفاق اتفاق المذهب، والإجماع إجماع الأمة". "حاشية العدوي على الخرشي"(1/ 158).
(2)
يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 255)؛ حيث قال: "وأما عدالة الشاهد فليست بشرط لانعقاد النكاح عندنا فينعقد بحضور الفاسقين".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 206)؛ حيث قال: "ولا يصح إلا بحضرة شاهدين وشرطهما حرية وذكورة وعدالة".
(4)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 400)؛ حيث قال: "اختلف فيه؛ فقيل: ما أمر الشهود يكتمانه وإن كثروا. وقيل: ما عقد بغير شهادة ولو بامرأة وعلى
…
وهو قول مالك وأصحابه وإذا لم يؤمر الشاهدان بالكتمان".
(5)
لم نقف عليه عند أبي داود.
لم يخرِّجه أبو داود، إنما خرَّجه الترمذي
(1)
والبيهقي
(2)
وغير هؤلاء
(3)
.
قوله: (وَقَالَ عُمَرُ فِيهِ: "هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ، وَلَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ").
هذا حكاه مالك في الموطأ
(4)
والمعروف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يكره نكاح السر، نُقِل عنه، لكن نكاح السر لا يستدعي الرجم، لكن عمر نُقِل عنه كما نُقِل عن بعض الصحابة يكره نكاح السر.
قوله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَة
(5)
: لَيْسَ الشُّهُودُ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ، لَا شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَا شَرْطَ تَمَامٍ).
قالوا ذلك لأن الأحاديث في ذلك لم تصح، كما ذكر ابن المنذر
(6)
قال: لم يصح حديث في الإشهاد، وذكر ذلك ابن عبد البر
(7)
في كتابه "الاستذكار".
(1)
أخرجه الترمذي (1089) وقال: "هذا حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث، وعيسى بن ميمون الذي يروي عن ابن أبي نجيح التفسير هو ثقة".
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 473) وقال: "فيه عيسى بن ميمون ضعيف"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(967).
(3)
أخرجه ابن ماجه (1895) بلفظ: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال".
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(3/ 767).
(5)
قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 8): "وبه قال عبد الله بن إدريس، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، والعنبري، وأبو ثور".
(6)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 318): "وليس يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الشاهدين في النكاح خبر إلا حديث مرسل".
(7)
لم أجده في "الاستذكار"، وإنما ذكره في "التمهيد" (19/ 89)؛ حيث قال:"إلا أن في نقلة ذلك ضعفًا".
قوله: (وَفَعَلَ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، ثُمَّ أَعْلَنَ بِالنِّكَاحِ)
(1)
.
ذكر الحسن بن علي، وكذلك حدث من عبد الله بن عمر وكذلك من عبد الله بن الزبير
(2)
، فثلاثة من الصحابة عُرِفوا بتُقاهم وبورعهم ومع ذلك حصل منهم ذلك، فهذا دليلٌ: على أن الإشهاد ليس لازمًا في هذا المقام.
إذن يجوز النكاح دون إشهاد، فهذا حجة للرواية الأخرى
(3)
عن الإمام أحمد التي انفرد بها عن الجمهور، لكن جاءت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يرد فيها إلا الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الفصل بين الحلال والحرام الصوت والدف"
(4)
؛ يعني: الضرب بالدف في النكاح، فهذا صريحٌ في إعلان النكاح.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الصَّدَاقِ
(5)
]
[الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ فِي حِكَمِ الصداق وَأَرْكَانِه]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي الصَّدَاقِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ).
(1)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(8/ 316): "أن عبد الله بن الزبير خطب إلى الحسن بن علي، فواعده ضفة زمزم فزوجه، وما معهما أحد من الناس ثم أعلنوه بعد ذلك".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
الصداق: مهر المرأة، سمي بذلك لقوته وأنه حق يلزم. انظر:"مقاييس اللغة" لابن فارس (3/ 339).
وفي اصطلاح الفقهاء: =
من مزايا هذا الكتاب أنه يُحسن التقسيم والترتيب، وهذه حقيقة مما يُسهل على الدارس والباحث أن يعرف ما سيدرس فيه من الموضوعات، فإذا حصلت على مقدمات موجزة تُمهِّد لك الطريق وتضيء لك السبيل، فالشاهد: هنا يبدأ بمقدمات فيُقسِّم الباب، ثم يذكر الجمل ويُقسِّمها، ثم يذكر فصولًا ومسائل.
قوله: (الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِهِ وَأَرْكَانِه).
هل الصداق واجب؟ هل الصداق شرطٌ من شروط الصحة؛ لأنه على القول بأنه شرطٌ من شروط الصحة فمعنى ذلك أنه لا يصح الزواج بدونه، والمؤلف ربما وَهِم ونقل عبارة عن ابن عبد البر في كتابه "الاستذكار" يُفهم منها ما ذهب إليه المؤلف، لكن ابن عبد البر أدخل جملةً في جملة، فيظهر أنه يريد التفريق بينهم؛ لأن ابن عبد البر أشار إلى الخلاف في المسألة.
قوله: (الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فِي تَقَرُّرِ جَمِيعِهِ لِلزَّوْجَةِ).
تقرير جميعه للزوجة بمجرد تسميته؛ أي: أنه ما هو المقدم والمؤخر هذا موضع يختلف فيه الفقهاء.
قوله: (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي تَشْطِيرِهِ)
(1)
.
في تشطيره: يعني تنصيفه؛ يعني: الرجل إذا طلق المرأة قبل الدخول
= مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 366)؛ حيث قال: "ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرًا كرضاع ورجوع شهود".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (2/ 428)؛ حيث قال: "هو ما يجعل للزوجة في نظير الاستمتاع بها".
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (3/ 316)؛ حيث قال: "والمهر هو المال يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة منافع البضع، إما بالتسمية أو بالعقد".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 128)؛ حيث قال: "الصداق هو العوض في النكاح سواء سمي في العقد أو فرض بعده بتراضيهما".
(1)
شطر الشيء نصفه، وتشطيره تنصيفه. انظر:"الصحاح" للجوهري (697).
بها فإنها تستحق نصف المهر، أما بعد الدخول فإنها تستحق المهر.
قوله: (الْمَوْضِعُ الرَّابعُ: التَّفْوِيضِ وَحُكْمِهِ).
التفويض سيأتي الكلام عنه إن شاء الله.
قوله: (الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: الْأَصْدِقَةُ الْفَاسِدَةُ وَحُكْمُهَا).
لأن الصداق له مقومات وشروط: أن يكون مالًا مقومًا؛ أي: له قيمة، فلا يجوز مثلًا أن يُصدقها طيرًا في السماء أو سمكًا في الماء، أو أمرًا مجهولًا، فله أن يُصدِقها ذهبًا أو فضة، وكذلك له أن يصدقها عَرَضًا من العروض ثوبًا أو دارًا أو دابة أو غير ذلك، لكن يُشترط أن يكون هذا المال له قيمة، وأن يكون مباحًا وأن يكون خاليًا من الغرر
(1)
، وسيأتي اختلاف العلماء في الجهالة، بمعنى: هل يُشترط أن يكون معيَّنًا موصوفًا، بمعنى: أنه لو أصدقها شاةً أو دارًا أو خادمًا هل ينبغي أن يُوصف نوعه أو أنه يكفي أنه يطلقه؟ هذه المسألة فيها خلاف سيأتي الكلام فيها إن شاء الله.
قوله: (الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ).
فقد يقول لها أعطيتك، وقد تقول: لا، قد تقول: لا أوافق إلَّا على كذا، وهو يقول: لا، وهكذا مسائل سيأتي تفصيلها إن شاء الله.
قوله. (الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: وَهَذَا الموضع فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: فِي حُكْمِهِ. الثَّانِيَةُ: فِي قَدْرِهِ).
حكم الصداق، هل الصداق كما ذكرنا شرطٌ من شروط الصحة أو أنه واجب، لكن لا يترتب عليه صحة النكاح؟ فعلى القول بصحته لا ينقعد النكاح، ولا بد من أن يُسمى، وإن لم يُسمَّ فلا بد من تعيينه بعد ذلك، بمعنى أنه لا يجوز العقد بدون مالٍ.
(1)
الغرر: ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا. انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 161).
أما قدره: فهناك ما هو أقل وهناك ما هو أكثر، ولكن هل لأعلاه حد؟ وهل لأقله حد؟ هذه هي التي فيها خلاف بين العلماء؛ ولذلك كل المسائل المجمع عليها هذه تُمرُّ مرور الكرام، لأنها ليست محل خلاف.
قوله: (الثَّالِثَةُ: فِي جِنْسِةِ وَوَصْفِهِ، والرَّابِعَةُ: فِي تَأْجِيلِهِ).
أي: في ماهية جنسه وهل يُشترط أن يكون ذهبًا وفضة بمعنى: أن يكون عينًا أو هل يجوز أن يكون عرضًا من عروض التجارة؟ وعلى القول بأنه يصح في النقدين، وهذا ليس فيه خلاف، وفي عروض التجارة، هل يصح أن تُصدِقها مثلًا إجارة بمعنى: أن يخدم أو أن يُصدِقها مثلًا خادمًا ونحو ذلك، يعني: يختلف العلماء بين خدمة الحُرِّ مع المملوك، وهذا سيأتي إن شاء الله.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا حُكْمُهُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ)
(1)
.
قد ذكرنا أن هذا نُقل من كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر
(2)
، وفي الحقيقة كلامه مجمل لا يمكن أن يُؤخذ عليه هذا، إنما يؤخذ على ابن رشد؛ لأنه أخذ هذه المسألة وسلَّم بها، وابن رشد ذكر مسألتين، ذكر مسألة وأتبعها بهذه، فلا يلزم من كونه أضاف هذه أو عطف هذه أو ذكرها بعد تلك أنه يرى الإجمال؛ لأن الحقيقة المسألة فيها خلاف، فهناك من العلماء من يخالف في ذلك، وهناك من العلماء من أنه يصح النكاح بدون تسمية مهر
(3)
، وإن كان يرى وجوبه، ولا شك أن في القرآن ما يدل على ذلك.
(1)
لم يتفقوا على شرطيته في النكاح، ووقع الخلاف فيه كما سيأتي.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 66)؛ حيث قال: "فلا بد لكل مسلم من صداق قل أو كثر".
(3)
هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة.
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 198)؛ حيث قال: "ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرًا؛ لأن النكاح عقد انضمام وازدواج لغة فيتم بالزوجين ثم المهر واجب شرعًا".
وينظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 462)؛ حيث قال: "المستحب ألا يعقد النكاح إلا بصداق".
وينظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 208)؛ حيث قال: "ويكره ترك التسمية فيه".
قوله: (وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَاطُؤُ
(1)
عَلَى تَرْكهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقَوْله تَعَالَى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25]).
لكن الله يقول في كتابه العزيز: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، فانتبه إلى الركنين اللذين نريد أن نتحدث عنهما؛ في قوله:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إذن هنا طلاق، والطلاق عادةً إنما يأتي بعد إنكاح، وفي قوله:{مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} معنى: هذا أن الطلاق لا يقع إلا بعد نكاح، والنكاح إنما يتم بعقد، إذن في هذه الآية دليل للحنابلة: ومن معهم من العلماء الذين قالوا: بأن المهر ليس شرطًا من شروط الصحة، لكنهم يرونه واجبًا، وأنه لا ينبغي أن يخلو النكاح منه.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تزوج امرأةٍ من نسائه إلا وقدم لها صداقًا اثني عشر أُوقية
(2)
، وفي بعض الروايات في حديث عائشة:"ونصف"
(3)
، والأوقية: أربعون درهمًا
(4)
إذن يبلغ ما قدموه خمسمائة درهم
(5)
.
وكذلك زواج بنات الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع لهن، ولذلك في قصة
(1)
التواطؤ: الاتفاق. يُنظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 82).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1887) وفيه: "ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1927).
(3)
أخرجه مسلم (1426) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشًّا"، قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية
…
".
(4)
الدرهم: ستة دوانيق، والدانق قيراطان. وهو جزء من اثني عشر جزءًا من الأوقية، وقطعة من فضة مضروبة للمعاملة. ويساوي تقريبًا 3 جرامات من الفضة الخالصة.
انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 297)، و"القاموس الفقهي" سعدي أبو حبيب (ص 130).
(5)
الأوقية - بضم الهمزة وبالتشديد -: وهي عند العرب أربعون درهمًا. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 669).
علي رضي الله عنه عندما زوجه ابنته فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أعطها مهرًا" قال: لا أجد شيئًا عندي، قال:"أين درعك؟ "
(1)
، يعني: أمره أن يُصدِقها إياه.
إذن المهر مطلوب لكن الكلام هنا هل هو شرطٌ من شروط الصحة أو ليس شرطًا من شروط الصحة؟ هذا هو محل خلاف المؤلف نفسه قال: أنها مسألة مسلَّمة، والواقع أنها غير مسلَّمة، قوله تعالى:{صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} يعني: عن طيب نفس؛ لأن المهر يسمى صداقًا ويسمى صدقة كما في الآية، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} والنحلة
(2)
بمعنى: الهبة والمقصود بها: الصداق؛ لأنك عندما تدفعه عن طيب نفسِ ورضا هذا من تمام الألفة والمحبة التي أشار الله إليها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، لكن ليس معنى ذلك أن يغالي الناس في الأمور وأن يضعوا عقبات أما الشباب، ففي أثر عائشة:"أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة"
(3)
.
ولذلك نجد شيخ التابعين وأحد كبارهم سعيد بن المسيب زوَّج ابنته بدرهمين
(4)
، وقال له: لو أصدقها ثوبًا لكفى.
وجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلًا أعطى امرأةً مهرًا أو صداقًا ملء يديه طعامًا لكان حلالًا"
(5)
؛ فهذا يدل على أنه لا ينبغي المبالغة في ذلك.
(1)
أخرجه أبو داود (2125) عن ابن عباس قال: لما تزوج علي فاطمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئًا"، قال: ما عندي شيء، قال:"أين درعك الحطمية؟ ". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2125).
(2)
النُّحْلُ: بالضم: مصدر قولك نَحَلْتُهُ من العَطِيَّةِ أنْحَلُه نَحلًا. والنِّحلى: العطية، على فِعلى. ونحلت المرأة مهرها عن طيب نفسٍ من غير مطالبةٍ، أنحَلُها. انظر:"الصحاح" للجوهري (5/ 1826).
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
تقدمت قصته.
(5)
أخرجه أحمد (14824) عن جابر بن عبد الله أن صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلًا أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا، كانت له حلالًا". وقال الأرناوؤط: "إسناده ضعيف لضعف صالح بن مسلم بن رومان".
وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهنَّ وهذا دليلٌ على تسمية الصداق أجرًا.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا قَدْرُهُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَكثَرِهِ حَدٌّ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّابِعِينَ: لَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ).
القدر: العلماء أجمعوا على أنه لا حد للأعلى، فالله تعالى يقول:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، والقنطار اختلف العلماء في تفسيره لكنه شيءٌ كثير
(2)
.
وفي قصة زواج عمر من أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أصدقها أربعين ألفًا؛ إذن عمر أصدقها أربعين ألفًا
(3)
.
وأُثِر عن عمر رضي الله عنها أنه عزم على أنه يخطب الناس أن يدعو الناس إلى عدم المبالغة في المهور، قال: عزمت على ذلك فتذكرت قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]
(4)
.
لكن كونه لا حد لأعلاه لا يكون ذلك مبرِّرًا بأن يتنافس الناس في
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" لابن المنذر (5/ 34)؛ حيث قال: "النكاح بكل ما ذكرناه جائز، لا اختلاف أعلمه، ولا حد لأكثر الصداق لا يتجاوز ذلك".
(2)
قال الواحدي في "الوجيز"(ص 258): "أي: مالًا كثيرًا".
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 381)(14341) عن أسلم مولى عمر: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصدق أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه أربعين ألف درهم".
(4)
أخرجه أبو داود (2106) عن أبي العجفاء السلمي، قال: خطبنا عمر رحمه الله فقال: "ألا لا تغالوا بصدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1927).
زيادة المهور وفي المبالغة في ارتفاعها؛ لأن ذلك مما يجعل الشباب يحجمون وتوضع أمامهم عقبات تقف أمامهم في الزواج الذي رغَّب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم واعتبره سنة من سننه.
والزوج كما أشرنا يسكن إلى الزوجة وتسكن إليه ويطمئن كلٌّ منهما إلى الآخر وهما يتعاونان في أمور الدنيا ويكدحان في الجمع وفي الإنفاق على الأبناء؛ فلا ينبغي الحقيقة أن يُثقل كاهل
(1)
الزوج من أول الأمر فتتراكم عليه الديون ويظل أكثر حياته يسدد في هذه الديون، ليس هذا من مصلحة الزوج ولا من مصلحة الزوجة ولا مصلحة أوليائها ولا أبناء الزوجين أيضًا؛ إذن التيسير مطلوب في هذا المقام.
واختلفوا العلماء في أقله، هل لأقله حد؟ العلماء انقسموا إلى قسمين:
الأول: بعضهم قالوا: كل ما ينطبق عليه مهر فهو كافٍ، كما قال سعيد بن المسيب:"لو أعطاها سوطًا لكان"
(2)
، فلو أعطاها ثوبًا أو إزارًا.
وفي قصة الرجل لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة وسيأتي ذكرها التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقام طويلًا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أحس أحد الجالسين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرغب فيها قال لكنه تكلم بأدب قال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها رغبة، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما تُصدِقها"، فأجاب: بأنه يصدقها إزاره، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرفيق وهو الرحيم الشفيق، قال:"لو أعطيتها إزارك بقيت وما لك إزار"، فقال له: التمس ولو خاتمًا"، فقال: لا أجد، فقال: "هل معك شيء من القرآن"
(1)
الكاهل: ما بين الكتفين. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1813).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 89) عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: بشر رجل بجارية، فقال رجل: هبها لي، فقال: هي لك فسئل عنها سعيد بن المسيب فقال: "لا تحل الهبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أصدقها سوطًا أحلت". وقال الألباني في "ضعيف أبي داود"(362): "رواه سعيد بن منصور بسند صحيح".
فقال: نعم، فقال:"زوجتك بما معك من القرآن"
(1)
.
وسيأتي اختلاف العلماء في أن يكون تقديم القرآن مهرًا أم لا؟ مع أنه وقع في هذه القصة وفي هذا الحديث الصحيح، وذكر المؤلف أن الإمامين الشافعي وأحمد، قالوا: لا حد لأقله، فكل ما انطبق عليه أنه مهر فإنه يسمى صداقًا ولا داعي لتحديده؛ لأنه لم يرد تحديد أقله في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَقِيمَةً لِشَيْءٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا).
هذه قاعدة، كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو إجارة جاز أن يكون صداقًا؛ يعني: كل ما جاز أن يكون ثمنًا لمبيع أو يكون أجرًا لأجرة أو لإجارة فإنه يصح أن يكون صداقًا؛ لأنه ما جاز أن يكون مبيعًا يجوز أن يكون صداقًا، والبيع له شروط وكذلك الإجارة لها شروط
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (5030) ومسلم (1425) عن سهل بن سعد: أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال:"هل عندك من شيء؟ " فقال: لا واللّه يا رسول الله، قال:"اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا؟ " فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئًا، قال:"انظر ولو خاتمًا من حديد" فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري - قال سهل: ما له رداء - فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تصنع بإزارك، إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك شيء" فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًا، فأمر به فدعي، فلما جاء قال:"ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا - عدها - قال:"أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال:"اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن".
(2)
قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 212): "وكل ما جاز ثمنًا في البيع، أو أجرة في الإجارة، من العين والدين، والحال والمؤجل، والقليل والكثير، ومنافع الحر والعبد وغيرهما، جاز أن يكون صداقًا".
قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ طَائِفَة بِوُجُوبِ تَحْدِيدِ أَقَلِّهِ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَانِ).
نلاحظ في هذا الكتاب عندما يكون الدليل عقليًّا نجد أن المؤلف يستطرد في دراسة المسائل وفي تفصيلها، وهو قد أطال نَفَسَه في هذه المسألة بعض الشيء؛ ولهذا تحتاج منا إلى انتباه ووقفات لنتبين كلام المؤلف وما ذكره عن الحنفية والمالكية وعن الشافعية والحنابلة في هذا المقام.
قوله: (أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
(2)
، وَالثَّانِى: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
(3)
).
وهنا الخلاف يمكن أن نُقسِّمه إلى قولين:
القول الأول: للحنفية والمالكية: يلتقون من حيث الأصل، لكنهم يختلفون عند التحديد، وهم يقيسون ذلك على نصاب القدر التي تقطع فيها اليد عند السرقة.
القول الثاني: للشافعية والحنابلة. لم يحددوا في ذلك شيئًا.
أما قول القائلين بالتحديد فنُقسِّمهم إلى قسمين:
الأول: الحنفية ومن معهم.
الثاني: المالكية ومن معهم.
(1)
يُنظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 551)؛ حيث قال: "وبه يقول ابن وهب من بين أصحاب مالك".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 262)؛ حيث قال: "الفاسد لأقله وهو على المشهور ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما يساوي أحدهما ولا حد لأكثره".
(3)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (1/ 295)؛ حيث قال: "قال أبو حنيفة وأصحابه أقل المهر عشرة دراهم وما يكون دونها فهو مهر البغي".
قوله: (فَأَمَّا مَالِكٌ
(1)
فَقَالَ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ كيْلًا مِنْ فِضَّةٍ).
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار أو ثلاثة دراهم"
(2)
، والحنفية يقولون: لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق النصاب وهو عشرة دراهم فقط فالخلاف بينهم في القدر.
قوله: (أَوْ مَا سَاوَى الدَّرَاهِمَ الثَّلَاثَةَ؛ أَعْنِي: دَرَاهِمَ الْكَيْلِ فَقَطْ فِي الْمَشْهُورِ).
الخلاف ليس فقط هو قول المالكية فهناك من يقول: أقل المهر خمسون درهمًا، وهناك من يقول: أربعون درهمًا، وهناك من يقول: عشرون، وهناك من يقول: عشرة وهم الحنفية، ومنهم من يقولون: خمسة كابن شُبرمة، ومنهم من يقول: درهمان كسعيد بن المسيب وكذلك زوَّج ابنته
(3)
، ومنهم من لا يرى حدًّا وهو الأولى في هذا المقام.
قوله: (وَقِيلَ: أَوْ مَا يُسَاوِي أَحَدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَقَلُّهُ
(4)
، وَقِيلَ: خَمْسَة دَرَاهِمَ
(5)
، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّقْدِيرِ سَبَبَان: أَحَدُهُمَا: تَرَدُّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مِنَ الْأَعْوَاضِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي بِالْقَلِيلِ كَانَ أَوْ بِالْكَثِيرِ).
يعني: لا ينبغي أن يقيد ذلك بمجرد الاستمتاع؛ لأن الاستمتاع
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 287)؛ حيث قال: "وأقله محدود وهو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم فضة".
(2)
أخرجه مسلم (1684) عن عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".
(3)
تقدمت.
(4)
تقدَّم.
(5)
وهو قول ابن شبرمة. يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 411)؛ حيث قال: "وقال ابن شبرمة أقل المهر خمسة دراهم".
يحصل من الجانبين، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أوصى بالنساء قال:"أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله"
(1)
، فالزوج ينتفع بالزوجة في أمور كثيرة منها: خدمة أولاده، وخدمته في البيت، والاستمتاع هو أصل، لكن هناك اعتبارات أخرى تنظر إليها الشريعة، فالرسول رغَّبَ في الزواج وحضَّ عليه وقال:"النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني"
(2)
؛ فهناك غاياتٌ وحِكمٌ منها: المحافظة على النسل فيما يتعلق بأحكام الزواج
(3)
.
قوله: (كَالْحَالِ فِي الْبَيُوعَاتِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً فَيَكُونَ مُؤَقَّتًا).
مراد المؤلف: هل هذا المهر عِوض من الأعواض فيلحق بالبيوع وأمثالها؟ أم هل هو عبادة فيلحق بالعبادات؟
(1)
جزء من حديث أخرجه مسلم (1218/ 147) ولفظه: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح
…
" الحديث.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1846) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني
…
" الحديث. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6807).
(3)
قال ابن القيم في "زاد المعاد"(4/ 228) "وأما الجماع والباه فكان هديه فيه أكمل هدي، يحفظ به الصحة، وتتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة؛ إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإنزال
…
ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهده ويحبه، ويقول:"حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب".
فيريد بذلك أن ينشئ قياسًا للذي اعتبره المالكية والحنفية، ولكن المؤلف بعد ذلك سيأتي ويُضعِف هذا الخلاف وينقضه وهو الصحيح.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَنَافِعَهَا عَلَى الدَّوَامِ يُشْبِهُ الْعِوَضَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى إِسْقَاطِهِ يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ).
وهذا القول أولى يملك منافع المرأة على الدوام ما دامت زوجة له، فإن كان من جهة العوض فيشبه المعاملات وبخاصة البيع، ومن جهة أنه لا يجوز التغاضي على إسقاطه هذا في الأصل المسألة فيها خلاف فإنه يشبه العبادة؛ لأن العبادة لا يمكن أن تُسقطه.
قوله: (وَالسَّبَبُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ هَذَا الْقِيَاسِ فَالْمُقْتَضِي التَّحْدِيدَ لِمَفْهُومِ الْأثَرِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ).
فهناك سببان للخلاف:
السبب الأول: هل يُلحق بالبيوع، لأنه عِوض، والبيع إنما هو مبادلة مالٍ بمال، ومبادلة منفعة بمنفعة، تبيع هذه السلعة وتأخذ مقابلها مالًا ثمنًا.
السبب الثاني: أو يُلحق بالعبادة من حيث إنه لا ينبغي التواطؤ على إسقاطه وإنما هو أمرٌ واجب، وهذا بناه المؤلف على أنه شرط صحة، وإلا لو عَفت الزوجة عنه ففي هذه الحالة يُمَكن للأولياء.
قوله: (أَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا: إِنَّهُ عِبَادَة، وَالْعِبَادَاتُ مُؤَقَّتَةٌ).
ليس هذا إطلاقًا فإن من العبادات ما هي مطلقة في التحديد.
قوله: (وَأَمَّا الْأثَرُ الَّذِي يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ عَدَمَ التَّحْدِيدِ فَحَدِيثُ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ
(1)
وَفِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا).
الخلاف الذي اتجه إليه المؤلف كأنه خلاف بين قياس وبين أثر، فإذا وجد خلاف بين قياس وحديث صحيح فلا يُنظر إلى القياس في مثل هذا المقام، لأنه لا اجتهاد مع النص
(2)
، لكن قد يكون النص غير ظاهر فيأتي القياس فيوضح بعض الأمور، ولكن النص هنا واضح، فالذين يقولون بأن المهر شرطٌ من شروط الصحة يقولون: هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، لكن قضية أنها وهبت نفسها للرسول هذا أمر، أما وجود رجلٍ آخر يعرض على الرسول أن يزوجها له إن لم يكن فيها رغبة، هذا أمرٌ آخر؛ لأن هذا يختلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحل الشاهد: في الحديث هو تزويج الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرأة.
قوله: (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ مَعَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ " فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا"، فَقَالَ: لَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ"، فَالْتَمَسَ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآن؟ " قَالَ: نَعَمْ،
(1)
أخرجه البخاري (5149) واللفظ له، ومسلم (1425).
(2)
يعني: أن النص إذا ورد في مقابلة الأدلة العقلية من قياس أو غيره، والنص المراد هو ما أفاد بنفسه من غير احتمال. ويشمل جميع النصوص الشرعية من الكتاب أو السنة، سواء أكانت قطعية أم ظنية. وقد يرد في مقابلة الظاهر والمجمل. انظر:"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 506).
سُورَةُ كَذَا وَكَذَا - لِسُوَرٍ سَمَّاهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآن")
(1)
.
وهذا من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته، فهذا الرجل عندما يأخذ هذا الإزار
(2)
الذي هو بأمسِّ الحاجة إليه ولم يوجد عنده غيره يريد أن يُصدقها إياه، فمن أين له من إزارٍ يلبسه ويلتف به، والرسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: هل عندك شيءٌ آخر درعٌ مثلًا أو ثوب أو غير ذلك، قال: لا أجد شيئًا، وهنا قد يرد إشكال عند بعضنا الرسول صلى الله عليه وسلم "نهى عن خاتم الذهب والحديد"
(3)
، وقد ورد في ذلك عدة أحاديث وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن خاتم الحديد إنما هو حلية أهل النار، وهنا قال:"التمس خاتمًا من حديد؟ ".
والجواب: هناك فرقٌ بين أن تلتمس شيئًا وبين أن تلبس شيئًا، فالنهي جاء على اللبس، وهذا كان في أول الأمر؛ يعني: قبل أن يرد النهي عن لبس خاتم الحديد، فالصحابة كانوا يلبسون خواتم الذهب حتى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(4)
.
قوله: (قَالُوا: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ"
(5)
دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا قَدْرَ لِأَقَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
(1)
أخرجه البخاري وفيه قال: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن".
(2)
الإزار: هو ما يلبس على الحقوين، والحقو عند العرب الإزار الذي تؤزر به العوره ما بين السر. والركبه. انظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 578). "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 90).
(3)
أخرجه البخاري (5864)، ومسلم (2089) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن خاتم الذهب".
(4)
أخرجه مسلم (2590/ 52) عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال:"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده"، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5)
تقدَّم تخريجه.
لَهُ قَدْرٌ لَبَيَّنَهُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَان عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ).
وهذه قاعدة أصولية: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
والناس أحوج ما يكونون إلى معرفة الأحكام، وهذا حكمٌ مجمل فلو كان الأمر يقتضي البيان والتوضيح لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أكثر الناس على أمته شفقة ورحمة بهم ومع ذلك قال:"التمس ولو خاتمًا من حديد"، ولو كان الأمر يخص الرجل كما ذكر البعض لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يُبيِّن فدلَّ ذلك على أن الحكم عام يشمل هذا الرجل وغيره.
قوله: (وَهَذَا الاسْتِدْلَالُ بَيِّن كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ لَيْسَ تَسْلَمُ مُقَدِّمَاتُهُ).
القياس الذي اعتمده الحنفية والمالكية لا تسلم مقدماته؛ لأنه قياس شبه
(2)
وهو ضعيف
(3)
، والقياس المعتد به والمعتبر هو: قياس العلة
(4)
وهو: إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكم لعلة تجمع بينهما.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ انْبَنَى عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ عِبَادةٌ).
يريد المؤلف: أن يطعن في هذا القياس ويبيِّن أنه انبنى على مقدمتين
(1)
يُنظر: "العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى (3/ 724)؛ حيث قال: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبينًا تعذر الأداء، فلم يكن بدٌّ من البيان".
(2)
يُنظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (ص 312)؛ حيث قال: "هو أن يتردد الفرع بين أصلين حاظر ومبيح مثلًا ويكون شبهه بأحدهما أكثر، نحو أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة فلنلحقه بأشبههما به".
(3)
قال القرافي في "شرح تنقيح الفصول"(ص 205): "ولا شك أن هذا قياس ضعيف بالنسبة إلى قياس المعنى".
(4)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 33)؛ حيث قال: "وهو أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علق الحكم عليها في الشرع ويسمى قياس المعنى".
ضعيفتين، ولكن الأقرب هو إلحاق المهر بالبيع؛ لأنه عِوض من الأعواض.
قوله: (وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ مُؤَقَّتَةٌ).
ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءته امرأة تذكر له أن رجلًا أصدقها نعلين، قال لها:"أرضيتِ من نفسك ومالك"، قالت: نعم
(1)
، فأجاز ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فدلَّ ذلك على أن الأصل فيه التيسير وأنه غير محدد.
قوله: (وَفِي كِلَيْهِمَا نِزَاعٌ لِلْخَصْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُلْفَى فِي الشَّرْعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا لَيْسَتْ مُؤَقَّتَةً).
"يُلْفَى" أي: يوجد، فليست كل العبادات مؤقتة، فلك أنت تؤجلها، أو أن تقضيها في وقتٍ آخر، لكن هناك عبادات مؤقتة محددة بزمن كالصلوات المفروضة، لا يجوز لك أن تؤخرها، إلا أنت تكون معذورًا.
قوله: (بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ).
الاسم أنها عبادة، وقد ذكرنا في مسألة الرأس، بعضهم يقول: أقل ما ينطلق عليه الاسم، وبعضهم قال: لا، لا بد من تعميم الرأس، وهذا هو الصحيح لقصة الصحابي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بمقدمة رأسه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ به
(2)
، وكذلك الوجه يعمم واليدان.
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235):"أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء، فأفرغ على يديه فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه".
قوله: (وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَبَهُ الْعِبَادَاتِ خَالِصًا، وَإِنَّمَا صَارَ الْمُرَجِّحُونَ لِهَذَا الْقِيَاسِ عَلَى مَفْهُومِ الْأثَرِ
(1)
؛ لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَثَرُ خَاصًّا بِذَاكَ الرَّجُلِ).
يريد المؤلف أن يقول: هذا القياس الذي بُنِي على مقدمتين ضعيفتين وهو في الأصل قياس شبه ضعيف، إنما أيَّدوا أو قوَّوا قياسهم بالاحتمال المتطرق للحديث، وهو أن يكون هذا خاصًّا بالرجل، والأصل في الأحكام أنها عامة
(2)
، والأحكام التي تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيها المؤمنون إلا أن يُخص عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، فما بالك بحكمٍ يحصل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في رجلٍ من المسلمين؛ لأنه لو كان خاصًّا لبيَّنَه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن واجبه البيان.
قوله: (لِقَوْلِهِ فِيهِ: "قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآن"
(3)
وَهَذَا خِلَافٌ لِلأُصُولِ).
قضية أخذ الأجرة على القرآن هذه المسألة مختلفٌ فيها، فالحنفية
(4)
(1)
يقصد حديث الرجل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتمًا من حديد".
(2)
يعني: أن الأصل في إطلاق الكلام دلالته العمومية إذا تضمن لفظًا أو صيغة من صيغ العموم، مثل أن يقول الناس على سبيل المثال، فإن هذا اللفظ يعمل على عمومه بتناول منع أفراد جنسه في الخارج ولا يخصص بعض تلك الأفراد إلى بأن يأتي دليل يخصص ذلك العموم بإخراج بعض أفراده منه أو قصر دلالته على بعضها دون باقي الأفراد. انظر:"الموافقات" للشاطبي (4/ 23)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 521).
(3)
أخرجه البخاري وفيه قال: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن".
(4)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 278) قال: " (وكذا الإمامة وتعليم القرآنَ والفقه) ش: أي وكذا لا يجوز
…
وفي "خلاصة الفتاوى" ناقلًا عن الأصل: لا يجوز الاستئجار على الطاعات كتعليم القرآن والفقه والأذان والتذكير والتدريس والحج والقر ويعني الأجر". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 191).
يمنعون ذلك وهي رواية للحنابلة
(1)
، وبعض العلماء يجيزون ذلك
(2)
، ومن العلماء من يُفرِّق بين أخذ الأجرة وبين الزرق على هذه الأعمال
(3)
، وهناك
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 45)؛ حيث قال: "قوله: (ولا يصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة)؛ يعني: بكونه مسلمًا، ولا يقع إلا قربة لفاعله
…
كالإقامة، وإمامة صلاة، وتعليم القرآن". وانظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 224).
(2)
وهو مذهب المالكية والشافعية وأحمد في رواية.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 16)؛ حيث قال: " (و) جازت الإجارة (على تعليم قرآن مشاهرة) مثلًا ككل شهر بدرهم أو كل سنة بدينار (أو على الحذاق) بكسر الحاء والذال المعجمة؛ أي: الحفظ لجميعه أو جزء معين بأجر معلوم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 292)؛ حيث قال: " (وتصح) الإجارة لكل ما لا تجب له نية كما أفهمه كلامه
…
(وتعليم القرآن) كله أو بعضه وإن تعين عليه تعليمه لخبر: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"".
ومذهب الحنابلة في رواية. يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 45)؛ حيث قال: " (ولا يصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة)؛ يعني: بكونه مسلمًا، ولا يقع إلا قربة لفاعله. كالحج؛ أي: النيابة فيه، والعمرة، والأذان ونحوهما. كالإقامة، وإمامة صلاة، وتعليم القرآن
…
وعنه: يصح كأخذه بلا شرط نص عليه".
(3)
مثل استئجار قارئ على تلاوة القرآن.
فقد اختلف الفقهاء في حكم الاستئجار على تلاوة القرآن على قولين:
القول الأول: منع الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم مطلقًا وهو:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 56)؛ حيث قال: "إن القرآن بالأجرة لا يستحق الثواب لا للميت ولا للقارئ". وانظر "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 278 - 279).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و (حاشية الدسوقي)(1/ 423)؛ حيث قال: " (و) كره قراءة عند موته
…
وعلى قبره لأنه ليس من عمل السلف؛ أي: فقد كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة، ونص المصنف في "التوضيح" على أن مذهب مالك كراهة القراءة على القبور، ونقله ابن أبي جمرة في "شرحه على مختصر البخاري" قال: لأنا مكلفون بالتفكر فيم قيل لهم وماذا لقوا ومكلفون بالتدبر في القرآن فآل الأمر إلى إسقاط أحد العملين. اهـ. وهذا صريح في الكراهة مطلقًا" =
من يُفرِّق بين من وقف نفسه لهذا العمل، فالمسألة فيها خلاف معروف، وهذا الاختلاف أيضًا تطرق إلى مسألة المهر، هل يجوز أن يكون المهر تعليم القرآن، الحنفية يخالفون في ذلك وينازعون بدعوى أن تعليم القرآن ليس مالًا، والله تعالى يقول:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، وهذا ليس مالًا، والعلماء الآخرون قالوا: لا، هذه أجرة والأجرة إنما يقابلها شيء.
= ومذهب الشافعية في المشهور عندهم، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 110)؛ حيث قال: "تنبيه: كلام المصنف قد يفهم أنه لا ينفعه ثواب غير ذلك كالصلاة عنه قضاء أو غيرها، وقراءة القرآن، وها هو المشهور عندنا، ونقله المصنف في "شرح مسلم" و"الفتاوى" عن الشافعي رضي الله عنه والأكثرين
…
وقال ابن عبد السلام في بعض فتاويه: لا يجوز أن يجعل ثواب القراءة للميت؛ لأنه تصرف في الثواب من غير إذن الشارع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 638)؛ حيث قال: "لا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن في ذلك، وقد قال العلماء: إن القارئ، إذا قرأ لأجل المال؛ فلا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟: وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة".
والقول الثاني: ذهبوا إلى جواز الاستئجار على تلاوة القرآن لانتفاع الميت بها لا حصول ثوابها له.
وهم المتأخرون من المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 423)؛ حيث قال: "لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت ويحصل له الأجر إن شاء الله وهو مذهب الصالحين من أهل الكشف". وانظر: "الفروق" للقرافي (3/ 193).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 456)؛ حيث قال: "فرع الإجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرًا معلومًا جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن ويكون الميت كالحي الحاضر، سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل أجر قراءته له أم لا، فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك؛ ولأن الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة؛ ولأنه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءته للميت فهو دعاء بحصول الأجر له فينتفع به، فقول الشافعي - رضي الله تعالى عنه -: إن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك". وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 191).
قوله: (وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ: "قُمْ فَعَلِّمْهَا"
(1)
، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ فَعَلَّمَهَا، فَجَاءَ نِكَاحًا بِإِجَارَة).
على فرض أنه جاء في بعض الروايات: "قُمْ فَعَلِّمْهَا" هذا لا يدل على تحديد.
قوله: (لَكِنْ لَمَّا الْتَمَسُوا أَصْلًا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ قَدْرَ الصَّدَاقِ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا أَقْرَبَ شَبَهًا بِهِ مِنْ نِصَابِ الْقَطْعِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا).
بعدما أسسوا هذا القياس وبنوه على أصول ضعيفة وقواعد مُنخرمة فعادوا مرة أخرى وأشكل عليهم عندما جاؤوا للتحديد فليس في هذا تحديد، فبحثوا عن أمرٍ آخر أقرب شبهًا للنكاح، فقالوا: هذا المهر الذي يُدفع فيه استباحة للعضو؛ أي: فرج المرأة، كذلك أيضًا القطع فيه استباحة للعضو، وقضية الاستباحة فيها خلاف؛ لأن الاستباحة هي منافع المرأة عمومًا.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: عُضْوٌ مُسْتَبَاحٌ بِمَالٍ).
بمعنى: أنه جاز للرجل أن يطأ هذه المرأة مقابل هذا الصداق الذي دفعه لها.
قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا، أَصْلُهُ الْقَطْعُ).
يعني: قياسًا على القطع
(2)
، فيقولون: حكمٌ فيه استباحة، لكن شتان بين الأمرين، فهذه استباحة على جهة التلذذ وذاك على جهة الرح والزجر
(1)
أخرجه أبو داود (2112)، قال الألباني في "إرواء الغليل" (1925):"وهذه الزيادة منكرة لمنافاتها للرواية الصحيحة".
(2)
أي: نصاب القطع في السرقة وقد تقدم ذلك.
والعقوبة، فهذا سرق فأصبحت يده مباحة للقطع، وهذا، حصل على تحكيم لشرع الله ونزولًا عند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَضَعْفُ هَذَا الْقِيَاسِ هُوَ مِنْ قِبَلِ الاسْتِبَاحَةِ فِيهِمَا هِيَ مَقُولَةٌ بِاشْتِرَاكِ الاسْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْوَطْءِ).
وضعف هذا القياس؛ لأنه اسمٌ مشترك، هنا إزالة وهنا إزالة، هنا استباحة وهنا استباحة، مجرد الاسم لا يكفي، هنا استباحة على جهة التلذذ والتمتع وهي أيضًا استجابة لشرع الله، وهناك إزالة لعضوٍ على جهة العقوبة والزجر، ومن أُزيل عضوه إنما هو خارج عن حدود الله، متعدٍ على شرعه، فشتان بين هذا وذاك.
قوله: (وَأَيضًا فَإِنَّ الْقَطْعَ اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى وَنَقْصُ خِلْقَةٍ، وَهَدا اسْتِبَاحَةٌ عَلَى جِهَةِ اللَّذَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَمِنْ شَأْنِهِ قِيَاسُ الشَّبَهِ عَلَى ضَعْفِهِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي بِهِ تَشَابَهَ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ شَيْئًا وَاحِدًا لَا بِاللَّفْظِ بَلْ بِالْمَعْنَى).
يعني: أن قياس الشبه ضعيف من أصل تركيبه
(1)
؛ لأن الشبه فيه غير واضح بين المقيس والمقيس عليه.
قوله: (وَأَنَّ يَكُونَ الْحُكْمُ إِنَّمَا وُجِدَ لِلأَصْلِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْدُومٌ فِي هَذَا الْقِيَاسِ).
يعني: الفريقين قد اختلفوا في أقل الصداق:
* فالفريق الأول وهم الشافعية والحنابلة: يرون أنه لا حد لأقله وهو مذهب كثير من العلماء، فكل ما كان مالًا جاز أن يكون صداقًا.
* وأما الفريق الثاني وهم الحنفية والمالكية: يخالفون في ذلك،
(1)
تقدَّم.
وأنهم حدُّوه بقدرٍ اختلفوا فيه بسبب اختلافهم في القدر الذي تُقطع به يد السارق، لكنهم قاسوه على ذلك.
قوله: (وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ مِنَ الشَّبَهِ الَّذِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ اللَّفْظ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ
(1)
مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ).
يقصد عند المحققين من الأصوليين
(2)
.
قوله: (لَكِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا الْقِيَاسَ فِي إِثْبَاتِ التَّحْدِيدِ الْمُقَابِلِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ؛ إِذْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ).
هذا القياس الذي تعرَّض له من قبلُ وهو: هل هو عِوض فيُلحق بالبيوع أو هو عبادة فيُلحق بغيره من العبادات فيكون مؤقتًا؟ فبيَّن ضعفه، وذكر القياس الآخر الذي هو القياس على حد السرقة وهو أيضًا قياس ضعيف؛ لأنه جامع الاستباحة في كلٍّ، والاستباحة أولًا غير مسلَّمة في غير الإطلاق ثم هناك فرقٌ بين استباحة تكون غايتها اللذة، وبين استباحة يكون غايتها إزالة هذا العضو الذي تجاوز الحد وارتكب حدًا من حدود الشريعة فكان سببًا في قطع هذا العضو.
قوله: (وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي تَعْيِينِ قِدْرِ التَّحْدِيدِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِي مُعَارَضَةِ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَيَشْهَدُ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟ " فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا. وَقَالَ:"حَدِيثٌ حَسَن صَحِيحٌ"
(3)
).
(1)
يقصد قياس الشبه، وتقدم تعريفه.
(2)
يعني: إذا كان حكم الأصل تعبديًّا محضًا لم يصح القياس عليه؛ ولهذا قلنا: لا قياس في العبادات - ليس في شروطها وأركانها - لكن في أصل مشروعيتها.
انظر: "المحصول" للرازي (5/ 348).
(3)
أخرجه الترمذي (1113) عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه: أن امرأة من بني فزارة =
هذا الحديث حجة للذين يقولون بعدم التحديد؛ لأنه تأتي امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطبها خاطب، فيسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟ " فتقول: نعم، فيجيز ذلك.
وجاء في الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلًا أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالًا"
(1)
، وهذا من الأحاديث التي يستدل بها على عدم التحديد.
قوله: (وَلَمَّا اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْدِيدِ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ).
يعني: المالكية والحنفية التقوا في الأصل وقاسوه على نصاب السرقة ليحددوا ذلك، لكنهم عندما أوجدوا هذا القياس اختلفوا بعد ذلك في القدر؛ لأنهم أصلًا يختلفون في القدر التي تُقطع فيه يد السارق، فالمالكية يقفون عند الحديث الصحيح الذي يلتقون فيه مع الشافعية والحنابلة في حد القطع وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم، لكن الحنفية يقولون: لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو دينار؛ لأن الدينار يساوي عشرة دراهم، وعند الآخرين القطع فيما هو أقل من ذلك.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: هُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ النِّصَابُ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَه، وَقَالَ أبو حنيفة
(3)
: هو عشرة دراهم لِأنَّهُ
= تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، قال: فأجازه. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1926).
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 287)؛ حيث قال: "وأقله محدود وهو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم فضة".
(3)
تقدَّم.
النِّصَابُ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَهُ وقال ابْنُ شُبْرُمَةَ
(1)
: هُوَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ النِّصَابُ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي السَّرِقَةِ).
الأقوال في هذه المسألة كثيرة لكنها بحاجة إلى دليل، فمنهم من قال: لا يقل المهر عن خمسين درهمًا، ومنهم من قال: عن أربعين وعن عشرين، وسعيد بن المسيب زوَّج ابنته بدرهمين، وقال:"لو أصدقها سوطًا لكفاها".
قوله: (وَقَدِ احْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ لِكَوْنِ الصَّدَاقِ مُحَدَّدًا بِهَذَا الْقَدْرِ بِحَدِيثٍ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَا مَهْرَ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ"
(2)
).
هذا الحديث لو صحَّ لرفع النزاع؛ لأن (لا) نافية للجنس، و (مهر) نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم
(3)
، "لا مهر أقل"، وفي رواية:"بأقل من عشرة دراهم"، هذا مما يتمسك به الحنفية، لكنه حديث ضعيف، وما دام أنه حديث ضعيف فلا يصلح أن يكون حجة؛ ولذا فلا ينبغي أن يُعارض به الدليل الصحيح المتفق عليه الذي تمسك به الشافعية والحنابلة ومن معهم.
قوله: (وَلَوْ كَانَ هذا ثَابِتًا لَكَانَ رَافِعًا لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ؛ لِأنَّهُ كَانَ يَجِبُ لِمَوْضِعِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ يُحْمَلَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 411)؛ حيث قال: "وقال ابن شبرمة أقل المهر خمسة دراهم".
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 393) عن علي رضي الله عنه قال: "لا يكون مهر أقل من عشرة دراهم". وقال الألباني في "إرواء الغليل"(1866): "موضوع".
(3)
يُنظر: "المحصول" للرازي (2/ 563)؛ حيث قال: "النكرة في سياق النفي تعم".
وانظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (ص 222).
يَرْوِيهِ - قَالُوا - مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَمُبَشِّرٌ وَالْحَجَّاجُ ضَعِيفَانِ
(1)
، وَعَطَاءٌ أَيْضًا لَمْ يَلْقَ جَابِرًا، وَيذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ).
الخلاف في تحديد أقل المهر كبير، ولكن هناك قضية ينبغي أن ننبه عليها: أنه ليس معنى كلام العلماء: أنه لا حد لأقله أنه يجوز أن يصدقها حبة شعير أو قمح أو حبة عنب أو تمرة وغير ذلك، ولكن ينبغي أن يكون متموَّنًا يستفاد منه أو ينبغي أن يكون شيئًا من النقدين. هذا أمر.
الأمر الآخر: أن هناك محل إجماع بين العلماء، وهو ما يتعلق بأعلى المهر وأنه غير محدد وسبب إجماعِ العلماء على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} [النساء: 20]؛ ولذلك لما عزم عمر رضي الله عنه أنه يتكلم في ذلك الأمر ويقول بالتحديد رجع عن ذلك فقد أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "أيها الناس لا تغلو الصداق فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق امرأةً من نسائه ولا أصدقت امرأةً من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية"
(2)
. هذا هو كلام عمر رضي الله عنه هذا الرجل الذي وهبه الله تعالى فهم كتابه بجانب ما وهبه من البلاغة ودقة الوصف.
(1)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 378)؛ حيث قال: "قد روينا هذا الحديث من طرق، مدارها كلِّها على مبشر بن عبيد، قال أحمد بن حنبل: مبشر ليس بشيءٍ، أحاديثه موضوعات كذبٌ، يضع الحديث. وقال الدارقطني: يكذب. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحلُّ كتب حديثه إلا على سبيل التعجُّب. ز: هذا الحديث لم يخرِّجه أحد من أصحاب السنن. وقال البيهقيُّ: هو حديث ضعيفٌ بمرَّة، وقد رواه بقيَّة عن مبشر عن الحجَّاج عن أبي الزبير عن جابر. وقال أبو عليٍّ الحافظ: مبشر بن عبيد متروك الحديث، وهذا منكر لم يتابع عليه".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 174) عن أبي العجفاء أن عمر بن الخطاب قال: "لا تغالوا في صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله =
قال في آخره ما معناه: "إن الرجل ليزاد عليه في المهر حتى ليترك ذلك أثرًا في نفسه"، وفي بعض الروايات:"أن ذلك يترك حقدًا في نفس ذلك الزوج"؛ ولأن هذا الزوج تجد أنه يشتري هذا وهذا فتتراكم عليه الديون هذا الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه: "فلا تبالغوا في صَّدُقات النساء"، فهذا يترك أثرًا في نفس الزوج، فليس كل الناس عندهم قدرة، وليس كل الناس آباؤهم أغنياء لكي يساعدوهم، ولكن كثير من الناس لا يستطيعون، فينبغي أن يراعى ذلك.
ثم قال عمر رضي الله عنه: "لو كان مكرمة
(1)
في الدنيا لكان أولاكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله كان أكرم الناس، وكان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أتقى الناس وأخشاهم لله تعالى، وقد نص على ذلك عليه الصلاة والسلام في قوله:"إني لأتقاكم وأخشاكم لله"
(2)
. وكان عليه - الصلاة والسلام - أجود من الريح: "وكان أجود ما يكون في رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة"
(3)
.
= كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدقت امرأة من نسائه ولا من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها فيكون حسرة في صدره، فيقول: كلفت إليك علق القربة". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (4857).
(1)
الكرم: "الشرف في الشيء أو في الخلق، يقال رجل كريم، وفرس كريم، ونبات كريم. وأكرم الرجل، إذا أتى بأولاد كرام. واستكرم: اتخذ علقًا كريمًا. وكرم السحاب: أتى بالغيث. وأرض مكرمة للنبات، إذا كانت جيدة النبات". يُنظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/ 172).
(2)
جزء من حديث أخرجه مسلم (1108) عن عمر بن أبي سلمة: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبِّل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل هذه" لأم سلمة؛ فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له".
(3)
أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308) عن ابن عباس، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان إن جبريل عليه السلام كان يلقاه، - في كل سنة، - في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
إذن عمر رضي الله عنه بَيَّن أن الزيادة في المهور سيترك أثرًا غير طيب في نفس المتزوج، فليس معنى أن العلماء بيَّنوا أنه لا حد لأعلاه أن يتنافس المتنافسون فيه، وإنما ينبغي أن تكون المنافسة بالتقليل منه لا بالزيادة فيه.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا جِنْسُهُ: فَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُتَمَلَّكَ وَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا).
يعني: المهر يصح من كل شيء يجوز أن يباع ويشترى وكذلك ما يجوز للإنسان أن يتملك به فيدفع من النقدين، وكذلك من القمح والشعير وغير ذلك، لكن ينبغي أن يكون معينًا وأن يكون معلوم الجنس، وقضية الوصف هي التي فيها الخلاف.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَكَانَيْنِ: فِي النِّكَاحِ بِالْإِجَارَةِ، وَفي جَعْلِ عِتْقِ أَمَتِهِ صَدَاقَهَا، أَمَّا النّكَاحُ عَلَى الْإِجَارَةِ فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
(1)
: قَوْلٌ بِالْإِجَازَةِ، وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ، وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ).
يعني: هل يجوز أن يكون المهر إجارة؟ والإجارة أنواع؛ لأنه قد يكون المؤجر ولي المهر كما في قصة شعيب كما قال الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، وربما يكون الذي استأجره المرأة؛ لأن المرأة قد تكون غنية.
فاستئجار المرأة للرجل على نوعين:
النوع الأول: أن تستأجره لخدمتها في المنزل، وهذا له حكم وفيه
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 424)؛ حيث قال: "وأما النكاح بالأجرة مثل أن يتزوجها على أن يحجها أو يعمل لها عملًا ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك مكروه
…
والثاني: أن ذلك لا يجوز كان معه نقد أو لم يكن، فإن وقع فسخ قبل الدخول وثبت بعده، وكان فيه صداق المثل.
والثالث: الفرق بين أن يكون معه نقد أو لا يكون معه نقد".
خلاف بين العلماء
(1)
.
النوع الثاني: أن تستأجره على مالها كأن يرعى غنمها أو يسقي مزارعها، إلى غير ذلك.
فهذه المسألة من حيث الجملة اختلفوا باعتبار الصداق إجارة فمنهم من أجاز ومنهم من منع.
قوله: (والْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ؛ وَلِذَلِكَ رَأَى فَسْخَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَجَازَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَصْبُغُ
(2)
وَسُحْنُونٌ
(3)
. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(4)
، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ
(5)
وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا فِي الْعَبْدِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَه
(6)
).
أي: في مذهب مالك، وهذا القول بالإجازة هو مذهب الحنابلة
(7)
،
(1)
سيأتي.
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 424)؛ حيث قال: "وأما النكاح بالأجرة مثل أن يتزوجها على أن يحجها أو يعمل لها عملًا ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك مكروه كان معه نقد أو لم يكن، فإن وقع نفذ ومضى ولم يفسخ، وهو قول أصبغ".
(3)
لم أقف على قوله.
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 410)؛ حيث قال: "يجوز أن تكون منافع العبد والحر صداقًا لزوجته، مثل أن يتزوجها على أن يخدمها شهرًا، أو يبني لها دارًا، أو يخيط لها ثوبًا، أو يرعى لها غنمًا".
(5)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 424)؛ حيث قال: "وأما النكاح بالأجرة مثل أن يتزوجها على أن يحجها أو يعمل لها عملًا ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك مكروه كان معه نقد أو لم يكن، فإن وقع نفذ ومضى ولم يفسخ، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم".
(6)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 278)؛ حيث قال: "ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة، فالتسمية فاسدة ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة
…
ولا خلاف في أن العبد إذا تزوج بإذن المولى امرأة على أن يخدمها سنة أن تصح التسمية ولها المسمى".
(7)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (5/ 176)؛ حيث قال: "ومنافع الحر والعبد سواء لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ =
وبعض العلماء كره أن يكون الزوج تستأجره المرأة لخدمتها في بيتها لكن لو كان في أعمالها فلا كراهة في ذلك.
لماذا فرق أبو حنيفة بين العبد وبين الحر؟
والجواب: لأن الحر يرى أن خدمته لا تكون مالًا، وأما العبد فإنه مال يباع ويشترى فمن هنا فرق بين العبد وغيره، وهي أيضًا الرواية القوية في مذهب أحمد
(1)
، أما الإمامان أحمد والشافعي فيجيزان ذلك كما سيذكر المؤلف، فمعنى كلامه أن الشافعي وأحمد يُجيزان الإجارة؛ يعني: أن يكون المهر إجارة.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ سَبَبَان: أَحَدُهُمَا: هَلْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمٌ لنَا
(2)
حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ؟ أَمِ الْأمْرُ بِالْعَكْسِ؟ فَمَنْ قَالَ: هُوَ لَازِمٌ - أَجَازَه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الْآيَةَ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِلَازِمٍ - قَالَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِالْإِجَارَةِ).
الآية في قصة موسى مع شعيب والقصة مذكورة مفصلة في كتاب الله عز وجل:
أولًا: موسى عليه السلام تعلمون ما حدث له في مصر وأنه خرج منها خائفًا يترقب وذهب إلى المكان الذي يقيم فيه شعيب عليه السلام وأنه وقف عند الماء ورأى امرأتين تذودان، وقال لهما: ما خطبكما؟ قالتا:
= هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، ولأن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، فجازت صداقًا كمنفعة العبد".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 213)؛ حيث قال: "وقد نقل مهنا عن أحمد: إذا تزوجها على أن يخدمها سنة أو أكثر، كيف يكون هذا؟ قيل له: فامرأة يكون لها ضياع وأرضون، لا تقدر على أن تعمرها؟، قال: لا يصلح هذا".
(2)
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة"(3/ 169): "شرع من قبلنا ما لم يرد نسخه شرع لنا في أحد القولين. اختاره التميمي والحنفية، والثاني: لا، وللشافعية".
لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فدعا ربه قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فذهبتا وقص لأبيهما فاستدعاه وقال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} ، وقد تزوج موسى عليه السلام وعقد على زوجته وخرج بها كما جاء في بقية الآيات، فكلام المؤلف معناه: هذا حصل في شرع من قبلنا وهذه مسألة أصولية معروفة.
ويستدلون بدليل آخر: وهو من السنة وهو ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدُّوا علائق
(1)
القوم" قيل: يا رسول الله وما العلائق؟ قال: "ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيب من أراك"
(2)
.
والصداق له عدة أسماء منها العلائق، فيحتمل أن يقدم مباشرة أو أن يكون نتيجة إجارة ما تراضى عليه الأهلون، فلو تراضوا على مهر مقدم أو تراضوا على أجرة فكلاهما جائز إلى جانب الآية التي أوردها المؤلف.
قوله: (وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِجَارَةِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الإِجَارَةَ هِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بُيُوعِ الْغَزَرِ الْمَجْهُولِ).
هذه القضية التي يتحدث عنها المؤلف قضية مهمة تتعلق ببعض مسائل الفقه الإسلامي: كالإجارة والجعالة، وهناك عدة أحكام يذكرها العلماء ويقولون: بأنها جاءت على خلاف القياس، وأنها جاءت مستثناة في الشريعة الإسلامية، ومن العلماء الأعلام الذين حققوا في هذه المسألة وبَيَّنوا أنَّه لا يوجد قياس صحيح يتعارض مع نص صحيح
(3)
.
(1)
العلائق: المهور، الواحدة: علاقة وعلاقة المهر: ما يتعلقون به على المتزوج. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 289).
(2)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 357) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنكحوا الأيامى" ثلاثًا، قيل: ما العلائق بينهم يا رسول الله؟، قال:"ما تراضى عليه الأهلون، ولو قضيب من أراك". وضعفه ابن الملقن في "البدر المنير"(7/ 677).
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل"(3/ 342): "ولا يجوز =
وأن مثل هذه الأمور لم تأت على خلاف القياس، وإنما جاءت على وفق القياس ولكن قوله: استثني منها بعض الأشياء هذا من باب التيسير على الناس فشريعتنا الإسلامية الخالدة بُنيت على أسس وقواعد، ومن هذه القواعد التيسير ورفع الحرج
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا
(2)
. وقال: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"
(3)
. والأدلة في ذلك كثيرة.
إذن هذه الشريعة قامت على التيسير والتخفيف كما قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]، فكون الصداق يكون نتيجة إجارة فيلتقي بذلك مع روح الشريعة ولا يتعارض معها.
وأما دعوى أن الإجارة استثنيت كبعض الأحكام الأخرى فهذا حقيقة غير وارد؛ لأن الإجارة إنما أقرت ببعض المصالح، والشريعة بُنيت على مراعاة مصالح الناس، وهذا أصل من الأصول، فالذين قالوا باعتبار الإجارة هم أقرب إلى روح هذه الشرعية وإلى مقاصدها التي استمدت من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجارة تختلف عن الملك؛ لأنها عقد على المآل، وبعض الناس يفهم أن الإجارة جاءت على خلاف
= أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومنقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس، كان أحد الأمرين لازمًا: إما أن القياس فاسد، وإما أن النص لا دلالة له".
(1)
وأصل ذلك قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ولذلك فإن هذا الأصل صار من القواعد الكلية الكبرى في الفقه الإسلامي وهو ما يعرف عند العلماء بالمشقة تجلب التيسير أو ما عبر به البعض بقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، فكلما كان في الأمر مشقة وحرج كلما ارتفعت تلك المشقة وذلك الحرج بأصل الشريعة، وفروعها أكثر من أن تحصى في الشريعة. انظر:"الأشباه والنظائر" للسيوطي (1/ 49).
(2)
أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
(3)
أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1732).
القياس، وهي في الحقيقة لم تأت على خلاف القياس، وإنما جاءت لتلتقي مع روح هذه الشريعة ويسرها وسماحتها ومراعاتها لأحوال الناس ومصالحهم.
قوله: (وَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهَا الْأَصَمُّ
(1)
وَابْنُ عُلَيَّةَ
(2)
، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ التَّعَامُلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ ثَابِتَةٍ فِي عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ ثَابِتَةٍ. وَالْإِجَارَةُ هِيَ عَيْنٌ ثَابِتَةٌ فِي مُقَابَلَتِهَا حَرَكَاتٌ وَأَفْعَالٌ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَلَا مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا).
ابن علية والأصم لا اعتبار بهما؛ لأنهما يُشددان ويُخالفان العلماء، ولذلك نجد أن العلماء المحققين كابن قدامة
(3)
وابن المنذر وابن عبد البر والنووي
(4)
إذا ذكروا هذين الاثنين قالوا: ولا يعتد بقولهما؛ لأنهما يُشددان في مثل هذه المسائل.
يعني: عندما تستأجر سيارة لمدة كذا وتُحمل عليها ركاب، قد يكون هذا العمل غير مُقدر، ولكنه في الغالب معروف، لكن لو أنك زدت على السيارة في الحمولة تكون بذلك قد تجاوزت الحد فتعاقب على ذلك،
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 322)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 3)؛ حيث قال: "إلا أن إبراهيم بن علية قال: لا تجوز لأنها أكل مال بالباطل".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 322)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة، إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز ذلك؛ لأنه غرر؛ يعني: أنه يعقد على منافع لم تخلق. وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار".
(4)
يُنظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 301)؛ حيث قال: "أبطل الإجارة، اسمه عبد الرحمن الأصم، ذكره الرافعي، وكنيته أبو بكر، وقوله في "الوسيط": لا مبالاة بالقاشاني وابن كيسان، معناه: لا يُعتد بهما في الإجماع، ولا يجرحه خلافهما، وهذا موافق لقول ابن الباقلاني، وإمام الحرمين، فإنهما قالا: لا يُعتد بالأصم في الإجماع والخلاف".
ولكن شرعت الإجارة لمصلحة الناس والذي أقر بذلك قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26].
وجاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإجارة وعمل بذلك الصحابة رضي الله عنهم وعمل بها المسلمون إلى يومنا هذا، فالإجارة ثابتة في الكتاب والسنة، وأجمع العلماء عليها
(1)
، وكون منافع هذه الإجارة أنها عقد على المنافع لا يلزم حقيقة أن تعرف جزئياته وما يترتب عليها؛ لأنه قد تحصل أمور لا يدركها الإنسان وهذا قد يحصل في المساقاة والمزارعة وقد يحصل في النكاح.
قوله: (وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مَتَى تَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ)
(2)
.
هذه مسألة خلافية هل يحصل على الأجرة في مقدمة الأمر أو في وقته، والإجارات تختلف من حال إلى حال لكن لو قُدمت الأجرة أو أخرت أو جزئت كل ذلك جائز؛ لأنه مما يتفق عليه المؤجر والمستأجر.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 286)؛ حيث قال: "فالإجارة ثابتة بكتاب الله عز وجل، وبالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق على إجازتها كل من نحفظ عنه قوله من علماء الأمة".
(2)
مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أنها تجب وتستحق بتمام العمل.
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 559)؛ حيث قال: "فإن وقعت على عمل معلوم فلا تجب الأجرة إلا بإتمام العمل إذا كان العمل مما لا يصلع أوله إلا بآخره، وإن كان يصلح أوله دون آخره فتجب الأجرة بمقدار ما عمل، وإذا وقعت على وقت معلوم فتجب الأجرة بمضي الوقت إن هو استعمله أو لم يستعمله".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (8/ 411)؛ حيث قال: "فإن لم يكن شرط ولا عرف لم يلزمه دفع الأجرة إلا بعد تمام العمل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 175)؛ حيث قال: "لأن الاستحقاق يثبت بتمام العمل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 373)؛ حيث قال: "يستقر بتمام العمل كالأجرة".
قوله: (وَأَمَّا كَوْنُ الْعِتْقِ صَدَاقًا فَإِنَّهُ مَنَعَهُ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ).
العلماء قد اختلفوا هل يجوز أن تكون الإجارة مهرًا؟ بمعنى: أن يُستأجر هذا الزوج ليعمل عملًا من الأعمال إما للزوجة وإما لولي الزوجة.
وقد يسأل سائل يقول: كيف يعمل لولي الزوجة وهي صاحبة الحق في ذلك؟ هذه مسألة معروفة بين العلماء وقد يسأل سائل هل للأب أن يأخذ شيئًا من ذلك؟
والجواب: العلماء مختلفون أن للوارث أَبًا وأُمًّا أن يحسب له ذلك على خلاف في المسألة، والذين يجيزون ذلك؛ لأنه جاء في الأحاديث:"أنت ومالك لأبيك"
(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"
(2)
، هذا فيما يتعلق بالإجارة لكننا نقول: يجوز أن تكون الإجارة على شيء معلوم، ولا فرق أن يكون عمله للمرأة أو لولي أمرها وهذا من التيسير وكان معروفًا فيما مضى، فهذه الأجرة أصلها تؤول إلى المال؛ فالإنسان يستحق مقابل العمل مال هذا الذي يعمل يستحق لكنه سيزوجه ابنته.
قوله: (مَا عَدَا دَاوُدَ
(3)
وَأَحْمَدَ
(4)
).
(1)
أخرجه ابن ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال:"أنت ومالك لأبيك".
وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1486).
(2)
أخرجه أبو داود (3528) ولفظه: "إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(7/ 230)(2162).
(3)
لم نقف عليه. ومذهب ابن حزم الجواز، قال في "المحلى" (9/ 501):"من أعتق أمته على أن يتزوجها وجعل عتقها صداقها لا صداق لها غيره فهو صداق صحيح ونكاح صحيح وسنة فاضلة".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع"(5/ 63)؛ حيث قال: " (أو) قال (جعلت عتق أمتي صداقها أو) قال: (صداق أمتي عتقها أو) قال: (قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها أو) أعتقتها على أن عتقها صداقها أو قال: (أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك صداقك) أو قال: أعتقتك على أن أتزوجك وعتقي صداقك (صح) العتق والنكاح في هذه =
وهذا حقيقة تقصير من المؤلف ليس داود وأحمد وحدهما، إنما هذا قال به جمع من العلماء؛ فقد نُقل عن التابعين كسعيد بن المسيب والزهري وطاوس وإبراهيم النخعي ومن الأئمة الأوزاعي والثوري وإسحاق بن رهوايه
(1)
وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة
(2)
؛ فمن الأولى أن يقول ما عدا أحمد وداود وغيرهم
(3)
، لكن المؤلف يشير أنه انفرد أحمد وداود بذلك.
لكن لا ينبغي أن نضع أعيننا على أن الحق ليس دائمًا في صف الأغلبية إنما الحق مع من يكون عنده حجة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبق ذلك وعمل به عندما أعتق صفية وجعل صداقها عتقها
(4)
. فهذا نص حديث متفق عليه بل في "الصحيحين" وغيرهما في كثير من الكتب من "السنن" و"مسند أحمد" وغير ذلك، أما التعليل الذي ذكره المؤلف فهذا لا يؤثر على الحكم في المسألة؛ لأن هذه المسألة منصوص عليها ولا اجتهاد مع النص
(5)
.
= الصور كلها وإن لم يقل: وتزوجتك أو وتزوجتها؛ لأن قوله: وجعلت عتقها صداقها ونحوه يتضمن ذلك والأصل في ذلك ما روى أنس: "أن النبي أعتق صفية وجعل عتقها صداقها". رواه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه". يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 74).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 135)؛ حيث قال:" وبه قال سعيد بن المسيب، وطاوس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والنخعى، والحسن البصري، والزهري، وأحمد، وإسحاق".
وقال ابن قدامة في "المغني"(7/ 74):" وقال الأوزاعي: يلزمها أن تتزوجه".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 281)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف: صداقها إعتاقها ليس لها غير ذلك".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 74)؛ حيث قال: "ظاهر المذهب: أن الرجل إذا أعتق أمته وجعل عتقها صداقها فهو نكاح صحيح. نص عليه أحمد في رواية الجماعة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وفعله أنس بن مالك، وبه قال سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن، والزهري وإسحاق".
(4)
أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (1365).
(5)
تقدَّم الكلام على هذه القاعدة.
ولا ينبغي أن يشق علينا أو يزعجنا أن نرى أئمتنا يقولون في قول ونرى دليلًا على خلافه؛ لأن هؤلاء لهم وجهة، ولكن الخطأ من يتبع قولًا يرى أنه مرجوح ويرى الخطأ في غيره، لكن الأئمة رضي الله عنه كلهم مجتهدون ويريدون الوصول إلى الحق من أقرب طريق ومن أهدى سبيل، ولذلك الإمام الشافعي بَيَّن أنه ما ناظر أحدًا وتمنى أن ينتصر عليه ولكنه تمنى أن يظهر الله الحق إما على يديه هو أو على يد خصمه
(1)
، فالغاية أن الحق يظهر هكذا كان شأن العلماء. لكن الآن تجد من ينتصر للرأي الذي يميل إليه أو للمذهب الذي يتمذهب به، ونحن لا نقول نترك المذاهب لا ولكن ينبغي أن نتمسك بها وندرسها دراسة جيدة؛ لأن هؤلاء الأئمة أفنوا أعمارهم واجتهدوا واستنبطوا من كتاب الله وسنة رسوله ثم خَرَّجوا لنا هذه الأحكام.
وعندما يقول الحنابلة مثلًا: كل جلد الميتة دبغ فهو نجس فليس معنى هذا أنني أتعصب لمذهب الحنابلة وأخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أيما إهاب دبغ فقد طهر"
(2)
، أو قوله:"إذا دبغ الإهاب فقد طهر هلا انتفعتم بجلدها"
(3)
. ليس كذلك، وعندما أجد رأيًا في مذهب مالك، وأجد أن الدليل على خلافه أو في مذهب أبي حنيفة أو الشافعي، ولذلك الشافعي وضع قاعدة وقال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"
(4)
.
(1)
يُنظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (9/ 118) وفيه: سمعت الشافعي يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ. وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه".
(2)
أخرجه مسلم (366) عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
واللفظ الذي أشار إليه الشارح أخرجه النسائي (4241).
(3)
أخرجه البخاري (1492) ومسلم (363) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها؟ " قالوا: إنها ميتة: قال: "إنما حرم أكلها".
(4)
يُنظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (6/ 140)؛ حيث قال: "وكان يقول إمامنا الشافعي رحمه الله قال: إذا صح الحديث فاتركوا قولي وخذوا بالحديث".
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ لِلأصُولِ؛ أَعْنِي: مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا).
معارضة الأثر: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بمشهد من المؤمنين وعرفوا ذلك وانتشر بينهم ولم يقل الرسول أن هذا أمر يخصني، فالأصل أن ذلك له ولغيره من المؤمنين، وهناك مسائل اختلف فيها العلماء هل هي خاصة بالرسول، أم لا؟ كالركعتين بعد العصر
(2)
وغير ذلك من المسائل.
قوله: (مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِهِ عليه الصلاة والسلام؛ لِكَثْرَةِ اخْتِصَاصِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَوَجْهُ مُفَارَقَتِهِ لِلأصُولِ أَنَّ الْعِتْقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ وَالْإِزَالَةُ لَا تَتَضَمَّنُ اسْتِبَاحَةَ الشَّيْءِ بِوَجْهٍ آخَرَ).
يعني: العتق إنما هو إزالة ملك، وإذا زال العتق أصبح الإنسان حرًّا
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (1233) ومسلم (834) عن كريب: أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أخبرنا عنك أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنها، فقال كريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها، فبلغتها ما أرسلوني، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم، فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله، سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال:"يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان".
فكيف يشترط أن يكون هذا صداقًا؟ يشترط المولى على مولاته أن عتقها صداقها ورضيت بذلك وانتهى الأمر.
قوله: (لِأَنَّهَا إِذَا أُعْتِقَتْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَكَيْفَ يُلْزِمُهَا النِّكَاحَ؟).
المسألة ليست عن أنه يلزمها النكاح ولا غيره، إنما هل يجوز أن يعتق المالك مملوكته ويجعل عتقها صداقها؟
والجواب: نعم كما دل الحديث على ذلك، لكن هل يلزم هذه مسألة متفرعة.
قوله: (وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: إِنَّهَا إِنْ كَرِهَتْ زَوَاجَهُ غَرِمَتْ لَهُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا قَدْ أُتْلِفَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا أَتْلَفَهَا بِشَرْطِ الاسْتِمْتَاعِ بِهَا).
وهذا، كلام سديد للمصنف رحمه الله؛ لأن هذا القول يخالف مذهبه فيصدع بقول الحق أينما كان.
قوله: (وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام).
لأنه الأحكام تتلقى من كتاب الله عز وجل كما قال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]، ومن السنة الصحيحة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، فهذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح الحديث الثابت في "الصحيحين" وفي غيرهم وهو صريح الدلالة فينبغي الوقوف عنده.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 85)؛ حيث قال: "إذا أعتق السيد أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها، إما أن ابتدأها بذلك أو سألته فأجابها إلى ذلك فقد عتقت، وهي بالخيار في الحالين بين أن تتزوج به أو لا تتزوج
…
فإن لم يتناكحا إما لامتناعه أو امتناعها فله عليها قيمتها".
قوله: (وَلَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِغَيْرِهِ لَبَيَّنَهُ عليه الصلاة والسلام).
يريد المؤلف أن يقول: الرسول أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، وهذا أمر شاع بين الصحابة رضي الله عنهم وتلقوا ذلك وعلموه، ولو كان ذلك خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم لبَيَّنه للصحابة الذين يتلقون عن رسول الله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك فدل ذلك على أن الحكم له ولغيره عليه الصلاة والسلام.
قوله: (وَالْأَصْلُ أَنَّ أَفْعَالَهُ لَازِمَةٌ لَنَا، إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ).
هذا هو الأصل أن أفعاله لازمة
(1)
، لكن لا يفهم من هذا أن أفعاله كلها واجبة؛ لأن منها الواجبة ومنه النافلة، وكذلك أفعاله عليه الصلاة والسلام، لكن قول المؤلف أن الأحكام الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أحكام نأخذ بها ولا نقول إنها خاصة بالرسول إلا ما قام الدليل على خصوصيته للرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ الصَّدَاقِ).
انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى مهمة تتعلق بالمهر، والمهر عين، لكن هذه العين هل ينبغي أن يُعرف جنسها، وأن تكون موصوفة أم لا؟ فلو مثلًا أصدقها حيوانًا من بهيمة الأنعام إذن هو عين لكننا لا نعرف الجنس ولا الوصف، ولو عرفنا الجنس هل يكفي؟ يعني: نقول شاة فعرفنا أنه من بهيمة الأنعام وحدد لنا الجنس أنه شاة فهل يكفي ذلك أم لا بد أن يكون وصفًا يقتصر به على معرفة العين التي يراد جنسها؟ فكأننا تجاوزنا عن الوصف، وعدم الوصف تقوم به الجهالة فهل الجهالة هنا معتبرة أو غير
(1)
قال أبو يعلى بن الفراء في "العدة"(2/ 478): "الفعل كالقول في أنه يقتضي الإيجاب".
معتبرة بمعنى أن: المهر لو كان مجهولًا هل يصح أم لا؟ أو أن هناك تفصيلًا فرق بين الجهالة اليسيرة وبين الجهالة غير اليسيرة هذا ما يتطرق إليه المؤلف إجمالًا.
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ عَلَى الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْصُوفِ)
(1)
.
اتفقوا العلماء على انعقاد النكاح على العوض المعين؛ أي: يذكر حيوان ويبين جنسه ونوعه؛ يعني: أنه حيوان هو من بهيمة الأنعام ويصف هذا الحيوان وصفًا دقيقًا هذا لا إشكال فيه ولا خلاف؛ لأنه عرفت العين والجنس وكذلك وصف لنا هذا المهر، لكن قد تذكر العين ولا يذكر الجنس ولا الوصف، وقد تذكر العين ويذكر السن كما ذكرت لكم يحدد نوع بهيمة الأنعام هل هي حلوب أو غير حلوب سنها شكلها هذه كلها أوصاف نحتاج إلى بيانها.
قوله: (أَعْنِي: الْمُنْضَبِطَ جِنْسُهُ وَقَدْر بِالْوَصْفِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِوَضِ الْغَيْرِ مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّن).
"واختلفوا في العوض الغير موصوف ولا معيَّن" يعني: الغير معروف الجنس والوصف.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْكَحْتُكَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ خَادِمٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِفَ ذَلِكَ وَصْفًا يَضْبُطُ قِيمَتَه، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ:
(1)
قال ابن المنذر في "الإشراف" بعد ذكر أمثلة للصداق الكثير المعين: "النكاح بكل ما ذكرناه جائز، لا اختلاف أعلمه، ولا حد لأكثر الصداق لا يتجاوز ذلك".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 552)؛ حيث قال: "وقد يجوز عند مالك عقد النكاح بما لا يجوز بيعه كالوصفاء المطلقين غير الموصوفين، مثل أن يقول: أنكحوا على عبد أو على أمة أو على عبيد ولا يصف شيئًا من ذلك فيجوز عند مالك ويرجع في ذلك إلى الغالب من رقيق البلد".
يَجُوزُ
(1)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ)
(2)
.
يعني: ما نوع العبد، وما نوع الخادم؟ لا بد أن يذكر هذا العبد هل هو مسن، وهل هو صحيح، أو مريض؟ وكذلك الخادم وهل هذا الخادم يجيد صنعة من الصناعات أو لا يجيد صنعة؛ يعني: نحتاج إلى وصف ذلك إذن لو قال: أصدقت عبدًا، لكن لو قال: أصدقت عبدًا من عبيدي هذا هو الذي يقع فيه الخلاف، لو قال: فرسًا مثلًا مما هو عندي أو دارًا من أو غير ذلك ولم يحدد فهذا فيه الجهالة موجودة، لكن من حيث الجملة الجهالة اليسيرة متفق عليها متى عين وذكر الجنس ففي هذه الحالة لا يُشترط أن يكون الوصف دقيقًا والمسألة فيها خلاف.
فالشريعة متسامحة في عدة أمور، لكن لا تتسامح في أمور يكون فيها تعطيل في حكم من أحكام الله أو في ترك عبادة من العبادات الواجبة يترتب عليه إخلال في طاعة العبد لربه، ولا يترتب عليه إلحاق ضرر بعبد من عبيد الله كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"
(3)
، ولكن الآن كثرت الأمور وتنوعت وجدت ولما جدت هذه الأمور، احتاجت لبعض الأحكام هذه الشريعة وقفت عند هذه الأمور؟
والجواب: هذه الشريعة تستوعب كل ما يحتاج إليه الناس؛ لأنها شريعة خالدة شاملة تسير مع الإنسان في أيِّ وقت وفي أيِّ زمن فهي معك
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 283)؛ حيث قال: "وإن كان المسمى معلوم الجنس والنوع مجهول الصفة والقدر كما إذا تزوجها على عبد أو أمة أو فرس أو جمل أو حمار أو ثوب مروي أو هروي صحت التسمية".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 395)؛ حيث قال: "كذلك إذا أصدقها عبدًا وأطلق لم يجز أن يحمل على عبد وسط، كما لا يجوز أن يحمل على أعلى وأدنى".
(3)
الضَّرَر: المَضرة، والضِّرار: المضارَّة.
والحديث أخرجه ابن ماجه (2340)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(896).
في سفرك، وفي حضرك، وفي حالة نومك ويقظتك، وفي حالة رضاك وغضبك، وفي أي حال من الأحوال، ولذلك ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين كل أمر فيه مصلحة للناس؛ لأن الله تعالى قال وقوله الحق:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز وهي أيضًا رواية مع الإمام أحمد
(1)
.
قول: (وَإِذَا وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ عِنْدَ مَالِكٍ كَانَ لَهَا الْوَسَطُ مِمَّا سَمَّى)
(2)
.
وفي قضية الوسطية معه الحنابلة على الرواية الأخرى
(3)
؛ يعني: عندما يحصل فإنه يرجع إلى الوسط إذن "لا ضرر ولا ضرار"
(4)
؛ لأن الشريعة الإسلامية تراعي الحق وتراعي جانب الضعيف، وهذا مشاهد في كثير من أحكام الشريعة الإسلامية.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْبَرُ عَلَى الْقِيمَةِ
(5)
، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ يَجْرِي النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْبَيْعِ مِنَ الْقَصْدِ فِي التَّشَاحِّ
(6)
؟ أَوْ
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 320)؛ حيث قال: "لأن جعفر بن محمد نقل عن أحمد في رجل تزوج امرأة على ألف درهم وخادم، فطلقها قبل أن يدخل بها: يقوم الخادم وسطًا على قدر ما يخدم مثلها".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 552)؛ حيث قال: "ويرجع في ذلك إلى الغالب من رقيق البلد، فإن اختلف رقيق البلد قضي بالأوسط منه".
(3)
وهي الموافقة لمذهب الشافعية. يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 132)؛ حيث قال: " (أو) أصدقها (دابة) مبهمة (أو) أصدقها (عبدًا مطلقًا) بأن لم يعينه ولم يصفه ولم يقل من عبدي لم يصح".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 278)؛ حيث قال: "لو تزوجها على عبد فاستحق العبد أنه يجب عليه قيمة العبد".
(6)
تشاح الرجلان على الأمر، إذا أراد كل واحد منهما الفوز به ومنعه من صاحبه. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 378).
لَيْسَ يَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَكْثَرُ ذَلِكَ الْمُكَارَمَةُ؟ فَمَنْ قَالَ: يَجْرِي فِي التَّشَاحِّ مَجْرَى الْبَيْعِ - قَالَ: كمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، كذَلِكَ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْمُكَارَمَةُ - قَالَ: يَجُوزُ).
العلماء اختلفوا في هذه المسألة؛ لأنهم لم يجدوا نصًّا صريحًا، وإنما جاء تسمية الصداق نوعه وصفته ولم تذكر مبينة، كما أن البيع يشترط فيه ارتفاع الجهالة فلا بد أن يكون موصوفًا، لكن قد يُتسامح في بعض الأمور كأن يبيعه دارًا ولا يشترط أن يعرف أساسها أو أصلها؛ لأن هذا مما يشق فهذا مما عوفي عنه، لكن لا بد من وجود الوصف المنضبط في الأمور الظاهرة؛ يعني: المقصود منه كالحال في بيع التشاح، أو أنه بنى علي الكرم والتسامح؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، فعلى الرغم من كونه واجبًا، لكنه ينبغي أن يدفعه الزوج إلى الزوجة صادرًا عن طيب نفس.
قوله: (وَأَمَّا التَّأْجِيلُ فَإِنَّ قَوْمًا لَمْ يُجِيزُوهُ أَصْلًا)
(1)
.
هذه المسألة فرعية أدرجها المؤلف ضمن مسألة أخرى، المراد بالتأجيل يعني: هل يشترط في المهر الذي يتقرر أن يكون معجلًا أن يدفع مقدمًا هذا هو الأصل، أو يجوز أن يقدم بعضه ويؤخر بعضه الآخر على اتفاق بينهما؛ أي: أن المال يُقدم نصفه ويترك نصفه الآخر إلى ما بعد فترة، أو أن يقدم بعضه ويترك البعض الأكثر، أو العكس، أو هل له أن يؤجله جميعًا؛ إذن هناك صور ثلاثة:
(1)
هو قول الحسن البصري والثوري. يُنظر: "المعاني البديعة" لجمال الدين الريمي (2/ 224)؛ حيث قال: "إذا تزوجها على صداق بعضه عاجل وبعضه آجل ولم يذكر أجلًا معلومًا لم تصح التسمية ووجب لها مهر المثل. وعند الحسن البصري وحماد والثوري وأبي عبيد ذلك جائز، ويكون كله حالًّا".
الصورة الأولي: تقديم أن يكون حالًّا؛ أي: معجلًا يسميه الفقهاء ويعبرون عنه بالتعجيل.
الصورة الثانية: أن يكون مؤجلًا؛ أي: مؤخرًا.
الصورة الثالثة: أن يكون بعضه معجلًا والبعض الآخر مؤجلًا، وهذه فيها خلاف بين العلماء.
قوله: (وَقَوْمٌ أَجَازُوهُ وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُقَدِّمَ شَيْئًا مِنْهُ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(1)
.
وفي مذهب الحنابلة
(2)
يجوز في الصداق أن يكون معجلًا وأن يكون مؤجلًا، وأن يكون بعضه معجلًا وبعضه مؤجلًا، هذا معروف في المذهب وهو مسلَّم عندهم، ومذهب المالكية
(3)
أيضًا قريب من هذا، والشافعية قريب
(4)
"لأن فيه تفصيلًا يفرقون بين العين والدين؛ فهم يرون في الدين أن يكون مؤجلًا، أما العين فإنه يكون معجلًا، وبعض الفقهاء
(5)
يتفقون على أنه إذا أطلق؛ يعني: اتفق على الصداق، ولم يبين أهو مُعجل، أو مؤجل فإنه يكون حالًّا في الحال، لأن هذا هو الأصل فيه، ولكننا نقول: هذا يرجع إلى حال الزوجين فالأولى في
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 287)؛ حيث قال: "ويجوز تعجيل المهر وتأجيله، ويستحب تقديم ربع دينار قبل الدخول".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 11)؛ حيث قال: "وعلم منه أنه يصح جعل بعضه حالًّا، وبعضه مؤجلًا بموت أو فراق كما هو معتاد الآن".
(3)
تقدَّم مذهبهم.
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 401)؛ حيث قال: "ويجوز الصداق عينًا حاضرة، ودينًا في الذمة: حالًّا ومؤجلًا ومنجمًا".
(5)
وهو قول الحسن البصري والثوري. يُنظر: "المعاني البديعة" لجمال الدين الريمي (2/ 224)؛ حيث قال: "إذا تزوجها على صداق بعضه عاجل وبعضه آجل ولم يذكر أجلًا معلومًا لم تصح التسمية ووجب لها مهر المثل. وعند الحسن البصري وحماد والثوري وأبي عبيد ذلك جائز ويكون كله حالًّا".
الصداق أن يكون مُعجلًا مُقدمًا؛ لتستفيد منه المرأة في حاجاتها فإنها تحتاج إلى أن تجهز نفسها، ويحتاج إلى ذلك أهلها، وإن أجَّل فلا بأس في ذلك إذ لم يرد ما يمنعه، ولو دفع بعضه مقدمًا وأخَّر بعضه، وهذا ما يتعامل به الناس فذلك أيضًا جائز.
قوله: (وَالَّذِينَ أَجَازُوا التَّأْجِيلَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا لِزَمَنٍ مَحْدُودٍ، وَقَدَّرَ هَذَا الْبُعْدَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(1)
. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ لِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ
(2)
).
في مذهب مالك عدة روايات؛ يعني: المراد أنه يجوز تأجيله، لكن إلى أن يحصل الفراق أو الموت.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يُشْبِهُ النِّكَاحُ البَيْعَ فِي التَّأجِيلِ؟ أَوْ لَا يُشْبِهُهُ؟ فَمَنْ قَالَ: يُشْبِهُهُ - لَمْ يُجِزِ التَّأْجِيلَ لِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ. وَمَنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُهُ - أَجَازَ ذَلِكَ. وَمَنْ مَنَعَ التَّأْجِيلَ فَلِكَوْنِهِ عِبَادَةً).
ذاك أمر يختلف نعم هو يشبه البيع، لكنه في الحقيقة يختلف عنه كما ذكر المؤلف بأن الظاهر فيه المكارمة، وأنه في الأصل يُدفع عن طيب نفس، ولذلك لو قُدم، أو أُخر فذلك جائز.
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 393)؛ حيث قال: "يجوز في البعيد ما لم يتأخر وفي الجواهر كره مالك وأصحابه تأجيل بعض الصداق، وجوزه ابن القاسم لأربع سنين وابن وهب لسنة، وقال ابن وهب: لا يفسخ إلا أن يزيد على عشرين سنة وقال ابن القاسم: لا أفسخ إلا الأربعين وروي الستون والمدرك أن الصداق قبالة الإباحة فلا ينبغي أن يتأخر عنها بخلاف الثمن في البيع".
(2)
لم أقف على نسبته للأوزاعي، وفي الإشراف لابن المنذر منسوب للشعبي والنخعي (5/ 43) قال:"وفيه قول ثان: وهو أن الآجل في ذلك في طلاق أو موت، كذلك قال الشعبي، والنخعي".