المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم 178 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - جـ ٢

[ابن دقيق العيد]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

178 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الصِّيَامِ]

[حَدِيثُ لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ]

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: فِيهِ صَرِيحُ الرَّدِّ عَلَى الرَّوَافِضِ، الَّذِينَ يَرَوْنَ تَقْدِيمَ الصَّوْمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ " رَمَضَانَ " اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ. فَإِذَا صَامَ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: فِيهِ تَبْيِينٌ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ، الَّذِي فِي «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَبَيَانُ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّأْقِيتِ، لَا لِلتَّعْلِيلِ، كَمَا زَعَمَتْ الرَّوَافِضُ. وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَيْضًا، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ زَيْدًا لِدُخُولِهِ. فَلَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْإِكْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَحَمْلُهُ عَلَى التَّأْقِيتِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ تَجَوُّزٍ، وَخُرُوجٍ عَنْ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ - وَهُوَ اللَّيْلُ - لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ.

1 -

الثَّالِثُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمُعْتَادَ إذَا وَافَقَتْ الْعَادَةُ فِيهِ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ: أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ. وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَادَةُ بِنَذْرٍ أَوْ بِسَرْدٍ عَنْ غَيْرِ نَذْرٍ فَإِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ «إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» .

1 -

ص: 7

179 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا. وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الرَّابِعُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ إنْشَاءِ الصَّوْمِ قَبْلَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِالتَّطَوُّعِ. فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا رَخَّصَ فِيهِ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ النَّذْرُ الْمَخْصُوصُ بِالْيَوْمِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ. وَلَكِنَّهُ تُعَارِضُهُ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ.

[حَدِيثُ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا]

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالرُّؤْيَةِ. وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ: رُؤْيَةُ كُلِّ فَرْدٍ، بَلْ مُطْلَقُ الرُّؤْيَةِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ الَّذِي يَرَاهُ الْمُنَجِّمُونَ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّهُ رَأَى الْعَمَلَ بِهِ. وَرَكَنَ إلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الْحِسَابِ. وَقَدْ اُسْتُشْنِعَ هَذَا، لِمَا حُكِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْتَهُ لَمْ يَقُلْهُ. وَاَلَّذِي أَقُولُ بِهِ: إنَّ الْحِسَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ، لِمُفَارَقَةِ الْقَمَرِ لِلشَّمْسِ، عَلَى مَا يَرَاهُ الْمُنَجِّمُونَ، مِنْ تَقَدُّمِ الشَّهْرِ بِالْحِسَابِ عَلَى الشَّهْرِ بِالرُّؤْيَةِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إحْدَاثٌ لِسَبَبٍ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا إذَا دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ طَلَعَ مِنْ الْأُفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى، لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ - كَالْغَيْمِ مِثْلًا فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ. وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ بِشَرْطٍ مِنْ اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إذَا عُلِمَ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ، أَوْ بِالِاجْتِهَادِ بِالْأَمَارَاتِ: أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ

وَإِنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ. وَلَا أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ.

1 -

الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَعَلَى الْإِفْطَارِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ إذَا انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ. وَلَكِنْ قَالُوا: يُفْطِرُ سِرًّا.

1 -

ص: 8

180 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ الرُّؤْيَةِ بِبَلَدٍ: هَلْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُرَ فِيهِ؟ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى الْبَلَدِ الْآخَرِ. كَمَا إذَا فَرَضْنَا: أَنَّهُ رُئِيَ الْهِلَالُ بِبَلَدٍ فِي لَيْلَةٍ، وَلَمْ يُرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِآخَرَ. فَتَكَمَّلَتْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالرُّؤْيَةِ الْأُولَى. وَلَمْ يُرَ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ: هَلْ يُفْطِرُونَ أَمْ لَا فَمَنْ قَالَ بِتَعَدِّي الْحُكْمِ، قَالَ بِالْإِفْطَارِ. وَقَدْ وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ «لَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ وَقَالَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَامَّ، لَا حَدِيثًا خَاصًّا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الرَّابِعُ: اُسْتُدِلَّ لِمَنْ قَالَ بِالْعَمَلِ بِالْحِسَابِ فِي الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ " فَاقْدُرُوا لَهُ " فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ. وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ. وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " فَاقْدُرُوا لَهُ " عَلَى هَذَا الْمَعْنَى - أَعْنِي إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ - مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مُبَيَّنًا فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ". وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه السلام " غُمَّ عَلَيْكُمْ " اسْتَتَرَ أَمْرُ الْهِلَالِ وَغُمَّ أَمْرُهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ.

[حَدِيثُ تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ لِلصَّائِمِ. وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ بَرَكَةً. وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ: يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. فَإِنَّ إقَامَةَ السُّنَّةِ تُوجِبُ الْأَجْرَ وَزِيَادَتَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصَّوْمِ، وَتَيْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ بِهِ. وَ " السَّحُورُ " بِفَتْحِ السِّينِ: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ. وَبِضَمِّهَا الْفِعْلُ. هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ.

وَ " الْبَرَكَةُ " مُحْتَمَلَةٌ لَأَنْ تُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمُتَسَحَّرِ بِهِ مَعًا.

وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. بَلْ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ " فِي " وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ فِي السَّحُورِ -

ص: 9

181 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهما قَالَ «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ أَنَسٌ: قُلْت لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» .

182 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَفِي السُّحُورِ بِضَمِّهَا. وَمِمَّا عُلِّلَ بِهِ اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ: الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ السُّحُورُ. وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ.

[حَدِيثُ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ]

فِيهِ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ السَّحُورِ، وَتَقْرِيبِهِ مِنْ الْفَجْرِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَذَانِ هَهُنَا: الْأَذَانُ الثَّانِي. وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الْقُوَى، وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ وَأَرْبَابِ الْبَاطِنِ فِي هَذَا كَلَامٌ تَشَوَّفُوا فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّوْمِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ كَسْرُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَقَالُوا: إنَّ مَنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ فِي مِقْدَارِ أَكْلِهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّوْمِ، وَهُوَ كَسْرُ الشَّهْوَتَيْنِ.

وَالصَّوَابُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ مَا زَادَ فِي الْمِقْدَارِ، حَتَّى تُعْدَمَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يُسْتَحَبُّ، كَعَادَةِ الْمُتْرَفِينَ فِي التَّأَنُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا، وَمَا لَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ هَذَا الِاسْتِحْبَابِ بِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِ مِقْدَارِ مَا يَسْتَعْمِلُونَ.

ص: 10

183 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ. فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ]

كَانَ قَدْ وَقَعَ خِلَافٌ فِي هَذَا. فَرَوَى فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثًا «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» إلَى أَنْ رُوجِعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ يَصُومُ» وَصَحَّ أَيْضًا " أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ " وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا أَوْ كَالْإِجْمَاعِ.

وَقَوْلُهَا " مِنْ أَهْلِهِ " فِيهِ إزَالَةٌ لِاحْتِمَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ

فَإِنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الْمَنَامِ آتٍ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْجُنُبِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ. فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ لِيَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَلَمْ يَقَعْ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي مِثْلِ هَذَا، إلَّا فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَطَلَعَ عَلَيْهَا الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ. فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ - أَعْنِي فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ - وَقَدْ يَدُلُّ كِتَابُ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا. فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى () {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ فِي لَيْلَةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا. وَمِنْ جُمْلَتِهِ.

الْوَقْتُ الْمُقَارِبُ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُ الْغُسْلَ. فَتَقْتَضِي الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ: الْإِصْبَاحُ جُنُبًا. وَالْإِبَاحَةُ لِسَبَبِ الشَّيْءِ إبَاحَةٌ لِلشَّيْءِ. وَقَوْلُهَا " مِنْ أَهْلِهِ " فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ جِمَاعِ أَهْلِهِ.

[حَدِيثُ مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ]

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْلِ النَّاسِي لِلصَّوْمِ، هَلْ يُوجِبُ الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ. وَهُوَ الْقِيَاسُ. فَإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَاتَ رُكْنُهُ. وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ. وَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي: أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَلَبِ الْمَأْمُورَاتِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْقَضَاءَ: هَذَا الْحَدِيثُ

ص: 11

184 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: مَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَأَنَا صَائِمٌ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَكَثَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَمَا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ. وَسُمِّيَ الَّذِي يُتِمُّ " صَوْمًا " وَظَاهِرُهُ: حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ صَوْمًا وَقَعَ مُجْزِئًا. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ: عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَالْمُخَالِفُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إتْمَامُ صُورَةِ الصَّوْمِ. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُجَابُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَمْلِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ. كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ أَوْلَى. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ يُقَوِّي بِهِ هَذَا التَّأْوِيلَ الْمَرْجُوحَ فَيُعْمَلُ بِهِ. وَقَوْلُهُ «فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ. فَإِنَّ فِيهِ إشْعَارًا بِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ مَسْلُوبُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ. وَالْحُكْمُ بِالْفِطْرِ يَلْزَمُهُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْإِفْطَارِ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُ، وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ. وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَالَفَةٌ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِاللَّقَبِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَالِبِ. فَإِنَّ نِسْيَانَ الْجِمَاعِ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وَالتَّخْصِيصُ بِالْغَالِبِ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا.

1 -

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِمَاعِ النَّاسِي، هَلْ يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى قَوْلِنَا: إنْ أَكَلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُهُ؟ وَاخْتَلَفَ أَيْضًا الْقَائِلُونَ بِالْفَسَادِ: هَلْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُهَا، وَمَدَارُ الْكُلِّ عَلَى قُصُورِ حَالَةِ الْمُجَامِعِ نَاسِيًا عَنْ حَالَةِ الْأَكْلِ نَاسِيًا، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُذْرِ وَالنِّسْيَانِ.

وَمَنْ أَرَادَ إلْحَاقَ الْجِمَاعِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْقِيَاسُ، وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ مُتَعَذَّرٌ، إلَّا إذَا بَيَّنَ الْقَائِسُ أَنَّ الْوَصْفَ الْفَارِقَ مُلْغًى.

ص: 12

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ - قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقَ بِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ]

" الْحَرَّةُ " أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ. يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا. وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا: أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالْمَعْصِيَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ مَجِيئَهُ مُسْتَفْتِيًا يَقْتَضِي النَّدَمَ وَالتَّوْبَةَ، وَالتَّعْزِيرُ

اسْتِصْلَاحٌ

. وَلَا اسْتِصْلَاحَ مَعَ الصَّلَاحِ، وَلِأَنَّ مُعَاقَبَةَ الْمُسْتَفْتِي تَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ الِاسْتِفْتَاءِ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ وُقُوعِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ دَفْعُهَا.

[مَسْأَلَةُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْطَارِ الْمُجَامِعِ عَامِدًا فِي رَمَضَان]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْطَارِ الْمُجَامِعِ عَامِدًا، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ: أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَهُوَ شَاذٌّ جِدًّا. وَتَقْرِيرُهُ - عَلَى شُذُوذِهِ - أَنْ يُقَالَ: لَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ، لِمَا سَقَطَتْ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ لَهُ، لَكِنْ سَقَطَتْ. فَلَا تَجِبُ. أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ وَالْأَصْلَ: أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَالِ إذَا وُجِدَ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ. فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تَعْمَلُ إلَّا مَعَ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا. وَالْإِعْسَارُ إنَّمَا يُعَارِضُ وُجُوبَ الْإِخْرَاجِ فِي الْحَالِ؛ لِاسْتِحَالَتِهِ، أَوْ مَشَقَّتِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَى السَّبَبِ فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ فِي الْحَالِ. أَمَّا تَرَتُّبُهُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ: فَلَا يُعَارِضُهُ الْإِعْسَارُ فِي وَقْتِ السَّبَبِ. فَالْقَوْلُ بِرَفْعِ مُقْتَضَى السَّبَبِ

ص: 13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ: غَيْرُ سَائِغٍ. وَأَمَّا أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ: فَلِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ، وَلَا أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي الذِّمَّةِ. وَلَوْ تَرَتَّبَتْ لَأَعْلَمَهُ.

وَجَوَابُ هَذَا: إمَّا بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ. وَيُجِيبُ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ بِالْمُلَازَمَةِ، وَيَمْنَعَ كَوْنَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تُؤَدَّ وَيُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ عليه السلام " كُلْهُ وَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ، وَيُعْتَذَرَ عَنْ السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الِاعْتِذَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَةُ الثَّالِثَة جِمَاعِ النَّاسِي فِي نَهَار رَمَضَان]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي جِمَاعِ النَّاسِي، هَلْ يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ؟ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلَانِ. وَيَحْتَجُّ مَنْ يُوجِبُهَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عِنْدَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ بَيْنَ كَوْنِ الْجِمَاعِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ أَوْ النِّسْيَانِ، وَالْحُكْمُ مِنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إذَا وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِ وَاقِعَةٍ مُحْتَمِلَةٍ لِأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُكْمِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ: يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ حَالَةَ النِّسْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِمَاعِ، وَمُحَاوَلَةِ مُقَدِّمَاتِهِ، وَطُولِ زَمَانِهِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ: مِمَّا يَبْعُدُ جَرَيَانُهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْصَالِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ " هَلَكْتُ " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِتَعَمُّدِهِ ظَاهِرًا، وَمَعْرِفَتِهِ بِالتَّحْرِيمِ.

[مَسْأَلَةُ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَرَيَانِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ. أَعْنِي: الْعِتْقَ، وَالصَّوْمَ، وَالْإِطْعَامَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ غَيْرَ الْإِطْعَامِ " فَإِنْ أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ - مِنْ عَدَمِ جَرَيَانِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْمُفْطِرِ - فَهِيَ مُعْضِلَةٌ زَبَّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ. لَا يُهْتَدَى إلَى تَوْجِيهِهَا، مَعَ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ. وَتَأَوَّلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي تَقْدِيمِ الْإِطْعَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْخِصَالِ

وَذَكَرُوا وُجُوهًا فِي تَرْجِيحِ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِهِ:

مِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ رُخْصَةً لِلْقَادِرِ. وَنَسْخُ هَذَا الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْفَضِيلَةِ بِالذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِلْإِطْعَامِ؛ لِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي حَقِّ الْمُفْطِرِ:

وَمِنْهَا: بَقَاءُ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُفْطِرِ لِلْعُذْرِ، كَالْكِبَرِ وَالْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ:

وَمِنْهَا: جَرَيَانُ حُكْمِهِ فِي حَقِّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ، حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ ثَانٍ.

وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ إيجَابِ الْإِطْعَامِ لِجَبْرِ فَوَاتِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إمْسَاكٌ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَا تُقَاوِمُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْعِتْقِ، ثُمَّ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ بِالْإِطْعَامِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْبُدَاءَةَ إنْ لَمْ تَقْتَضِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَقْتَضِيَ اسْتِحْبَابَهُ. وَقَدْ وَافَقَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْتِيبِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ. فَفِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ تَكُونُ بِالْإِطْعَامِ. وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ، وَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِهِ. وَجَعَلَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ: يُكَفَّرُ بِالْإِطْعَامِ لَا غَيْرُ. وَهَذَا أَقْرَبُ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ مِنْ الْأَوَّلِ.

[مَسْأَلَةُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الصِّيَامَ هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَ جَرَيَانُ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ - أَعْنِي الْعِتْقَ وَالصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ - فَهَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ، أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ. وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُوبِ بِالتَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُ أَوَّلًا " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ " ثُمَّ رَتَّبَ الصَّوْمَ بَعْدَ الْعِتْقِ، ثُمَّ الْإِطْعَامَ بَعْدَ الصَّوْمِ، وَنَازَعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ظُهُورِ دَلَالَةِ التَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ عَلَى ذَلِكَ

وَقَالَ: إنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ وَجَعَلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ مَعَ التَّخْيِيرِ. وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ» وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الشَّاةِ وَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْفِدْيَةِ ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

[مَسْأَلَةُ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ]

1

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ. وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِيمَانَ: يُقَيِّدُ الْإِطْلَاقَ هَهُنَا بِالتَّقْيِيدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ

وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ السَّبَبَ إذَا اخْتَلَفَ وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ، هَلْ يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُيِّدَ، فَهَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا؟ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْأَقْرَبُ: أَنَّهُ إنْ قُيِّدَ فَبِالْقِيَاسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْجِمَاع فِي رَمَضَان]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا " لَا إشْكَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ نَفَى

ص: 15

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الِاسْتِطَاعَةَ. وَعِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ يُنْتَقَلُ إلَى الصَّوْمِ. لَكِنْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ " وَهَلْ أَتَيْتُ إلَّا مِنْ الصَّوْمِ؟ " فَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ، بِسَبَبِ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ فِي الصَّوْمِ عَنْ الْوِقَاعِ: فَنَشَأَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نَظَرٌ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكُونُ عُذْرًا مُرَخِّصًا فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، أَعْنِي شَدِيدَ الشَّبَقِ؟ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ.

[مَسْأَلَةُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَة الْجِمَاع فِي رَمَضَان]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ " فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إطْعَامِ هَذَا الْعَدَدِ. وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ " الْإِطْعَامَ " الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ " أَطْعَمَ " إلَى سِتِّينَ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ مَنْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ بِإِجْزَاءِ ذَلِكَ عَمَلٌ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ تَعُودُ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ وَقَدْ عُرِفَ مَا فِي ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

[مَسْأَلَةُ الْعَرَقُ معناه ومقداره]

1

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: " الْعَرَقُ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مَعًا: الْمِكْتَلُ مِنْ الْخُوصِ. وَاحِدُهُ " عَرَقَةٌ " وَهِيَ ضَفِيرَةٌ تُجْمَعُ إلَى غَيْرِهَا. فَيَكُونُ مِكْتَلًا. وَقَدْ رُوِيَ " عَرْقٌ " بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَأُخِذَ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ إطْعَامَ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ. وَقَدْ صُرِفَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَشَرَ صَاعًا إلَى سِتِّينَ مُدًّا. وَقِسْمَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى سِتِّينَ بِرُبْعٍ. فَلِكُلِّ مِسْكِينٍ رُبْعُ صَاعٍ. وَهُوَ مُدٌّ.

[مَسْأَلَةُ حكمة ضَحِكِ النَّبِيّ ممن جَامِع فِي نَهَار رَمَضَان]

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: " اللَّابَةُ " الْحَرَّةُ. وَالْمَدِينَةُ تَكْتَنِفُهَا حَرَّتَانِ. وَالْحَرَّةُ حِجَارَةٌ سُودٌ.

وَقِيلَ فِي ضَحِكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَبَايُنِ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ، حَيْثُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مُتَحَرِّقًا مُتَلَهِّفًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى طَلَبِ الطَّعَامِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْسِعَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِطْعَامِهِ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ، وَإِحْلَالِهِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ إخْرَاجَهُ. .

[مَسْأَلَةُ المذاهب فِي قَوْلُ النَّبِيّ للمكفر عَنْ جماعه أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ]

1

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَ: قَوْلُهُ عليه السلام " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " تَبَايَنَتْ الْمَذَاهِبُ فِيهِ.

فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْرِفَ كَفَّارَتَهُ إلَى أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ. وَإِذَا تَعَذَّرَ أَنْ تَقَعَ كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ اسْتِقْرَارَ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ إلَى حِينِ الْيَسَارِ: لَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمُقَارِنِ لِسَبَبِ وُجُوبِهَا وَرُبَّمَا قُرِّرَ ذَلِكَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، حَيْثُ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ لِاسْتِهْلَالِ الْهِلَالِ. وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، أَعْنِي سُقُوطَ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا الْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ.

وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَبَعْدَ الْقَوْلِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فَهَهُنَا طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَنْ لَا تَكُونَ الْكَفَّارَةُ أُخْرِجَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " فَفِيهِ وُجُوهٌ:

مِنْهَا: ادِّعَاءُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ، أَيْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَدَقَةِ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ. فَسَوَّغَهَا لَهُ النَّبِيُّ.

وَمِنْهَا: ادِّعَاءُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَهَذَانِ ضَعِيفَانِ. إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَلَا عَلَى النَّسْخِ.

وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ صُرِفَتْ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ عَاجِزٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِعُسْرِهِ. وَهُمْ فُقَرَاءُ أَيْضًا. فَجَازَ إعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَهُمْ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ الْفَقْرِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ. وَهَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " كُلْهُ وَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ".

وَمِنْهَا: مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا مَلَّكَهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْتَاجٌ جَازَ لَهُ أَكْلُهَا وَإِطْعَامُهَا أَهْلَهُ لِلْحَاجَةِ. وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ عَامًّا فَلَيْسَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَإِنْ جُعِلَ خَاصًّا فَهُوَ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ أَوَّلًا.

الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ - الْأَقْرَبُ - أَنْ يُجْعَلَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهَا لَا عَنْ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ. وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةً فِي الذِّمَّةِ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ. وَالسُّكُوتُ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ. فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مَعَ اسْتِقْرَارِ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ يَتَأَخَّرُ لِلْإِعْسَارِ، وَلَا يَسْقُطُ، لِلْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالنَّظَائِرِ، أَوْ يُؤْخَذُ الِاسْتِقْرَارُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ السُّكُوتِ. .

[مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى مُفْسِدِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَ: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مُفْسِدِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، لِسُكُوتِهِ عليه السلام عَنْ ذِكْرِهِ. وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ أَجْزَأَهُ الشَّهْرَانِ. وَإِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِهِ قَضَى يَوْمًا. وَالصَّحِيحُ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ.

وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لِتَقَرُّرِهِ وَظُهُورِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - أَعْنِي الْقَضَاءَ - وَالْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلِأَصْحَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَهِيَ

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَذَاهِبُ الَّتِي حَكَيْنَاهَا. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الرَّجُلِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، إذْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ.

[مَسْأَلَةُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا مَكَّنَتْ طَائِعَةً فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي نَهَار رَمَضَان]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا مَكَّنَتْ طَائِعَةً فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ: هَلْ تَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا؟ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْوُجُوبُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.

الثَّانِي: عَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا. وَاخْتِصَاصُ الزَّوْجِ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَوْلَيْهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ لَا تُلَاقِي الْمَرْأَةَ، أَوْ هِيَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَقُومُ عَنْهُمَا جَمِيعًا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجَّ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ بِأُمُورٍ:

مِنْهَا: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ. فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذِكْرِهِ.

وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مِنْ اسْتِدْلَالِهِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْلِمْ الْمَرْأَةَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا، مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِعْلَامِ. وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. «وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الْعَسِيفِ. فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا» .

فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَأَعْلَمَهَا النَّبِيُّ بِذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُنَيْسٍ. وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ أَجَابُوا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْحَاجَةَ إلَى إعْلَامِهَا. فَإِنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ. وَإِقْرَارُ الرَّجُلِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حُكْمًا. وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِهَا إذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهَا قَضِيَّةُ حَالٍ. يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ. وَلَا عُمُومَ لَهَا. وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ بِهَذَا الْوَطْءِ: إمَّا لِصِغَرِهَا، أَوْ جُنُونِهَا، أَوْ كُفْرِهَا، أَوْ حَيْضِهَا، أَوْ طَهَارَتِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ.

وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَيْضِ امْرَأَةِ أَعْرَابِيٍّ لَمْ يَعْلَمْ عُسْرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ مُسْتَحِيلٌ. وَأَمَّا الْعُذْرُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْكُفْرِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ: فَكُلُّهَا أَعْذَارٌ تُنَافِي التَّحْرِيمَ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَيُنَافِيهَا قَوْلُهُ فِيمَا رَوَوْهُ " هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ " وَجَوْدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

ص: 18

185 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ - وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ -

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَثَالِثُهَا: لَا نُسَلِّمُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْحُكْمِ. فَإِنَّ بَيَانَهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ بَيَانٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ. لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْفِطْرِ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ سَبَبَ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هُوَ ذَاكَ. وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ: كَافٍ عَنْ ذِكْرِهِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَذْكُرْ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ غَيْرَ الْأَعْرَابِيِّ، لِعِلْمِهِمْ بِالِاسْتِوَاءِ فِي الْحُكْمِ. وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ.

وَإِنَّمَا حَاوَلُوا التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ بِأَنْ بَيَّنُوا فِي الْمَرْأَةِ مَعْنًى يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافُ حُكْمِهَا مَعَ حُكْمِ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ النَّاسِ. فَإِنَّهُ لَا مَعْنًى يُوجِبُ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمْ مَعَ حُكْمِهِ. وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدُوهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: هُوَ أَنَّ مُؤَنَ النِّكَاحِ لَازِمَةٌ لِلزَّوْجِ، كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ مَاءِ الْغُسْلِ عَنْ جِمَاعِهِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ.

وَأَيْضًا: فَجَعَلُوا الزَّوْجَ فِي الْوَطْءِ هُوَ الْفَاعِلُ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ. وَالْمَرْأَةُ مَحِلٌّ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ. فَيُقَالُ وَاطِئٌ وَمُوَاقِعٌ. وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَانِ بِقَوِيَّيْنِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ، وَتَأْثَمُ بِهِ إثْمَ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، كَمَا فِي الرَّجُلِ. وَقَدْ أُضِيفَ اسْمُ الزِّنَا إلَيْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَدَارُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

1 -

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: دَلَّ الْحَدِيثُ بِنَصِّهِ عَلَى إيجَابِ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ.

[مَسْأَلَةُ التَّتَابُع فِي صِيَام الشَّهْرَيْنِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْخِصَالِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّهُ أَدْخَلَ الْبَدَنَةَ فِيهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّقَبَةِ وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍ. وَقِيلَ: إنَّ سَعِيدًا أَنْكَرَ رِوَايَتَهُ عَنْهُ. بَابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.

ص: 19

فَقَالَ: إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» .

186 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ. وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» .

187 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ]

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ.

وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَوْمُ رَمَضَانَ. وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَمَنَعُوا الدَّلَالَةَ مِنْ حَيْثُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَوْمَ رَمَضَانَ.

[حَدِيثُ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ]

وَهَذَا أَقْرَبُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ بِعَرْضِ كَوْنِهِ يُعَابُ عَلَى عَدَمِهِ، بِقَوْلِهِ " فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ " وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ. وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمُرْسَلُ: فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَابَ. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ هَذَا الْوَهْمِ فِيهِ.

ص: 20

188 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» .

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ]

وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا الصَّوْمَ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ. وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: صِحَّةُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ. وَالظَّاهِرِيَّةُ خَالَفَتْ فِيهِ - أَوْ بَعْضُهُمْ - بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْإِضْمَارِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.

[حَدِيثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ]

أُخِذَ مِنْ هَذَا: أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقُرُبَاتِ

وَيَكُونُ قَوْلُهُ " لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " مُنَزَّلًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ

وَالظَّاهِرِيَّةُ الْمَانِعُونَ مِنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ. وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَيَجِبُ أَنْ تَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ، وَلَا تُجْرِيهِمَا مَجْرًى وَاحِدًا. فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى السَّبَبِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ.

كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بِسَبَبِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ. وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ: فَإِنَّهَا الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ. وَهِيَ الْمُرْشِدَةُ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ، وَتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلَاتِ.

فَاضْبُطْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ. فَإِنَّهَا مُفِيدَةٌ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى. وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» مَعَ حِكَايَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَتَيْنِ هُوَ؟ فَنَزِّلْهُ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّكُ بِالرُّخْصَةِ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا. وَلَا تُتْرَكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّعَمُّقِ.

ص: 21

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلًّا: صَاحِبُ الْكِسَاءِ. وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ. قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ. وَسَقَوْا الرِّكَابَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ]

أَمَّا قَوْلُهُ " فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ " فَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: تَقْرِيرُ النَّبِيِّ لِلصَّائِمِينَ عَلَى صَوْمِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ " فَفِيهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ. قُدِّمَ أَوْلَاهَا وَأَقْوَاهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ رضي الله عنه " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ " فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِالْأَجْرِ أَجْرُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلُوهَا، وَالْمَصَالِحُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَلَا يُرَادُ مُطْلَقُ الْأَجْرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُمْ قَدْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَجْرِ الصَّوْمِ مَبْلَغًا يَنْغَمِرُ فِيهِ أَجْرُ الصَّوْمِ فَتَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَجْرَ كُلَّهُ لِلْمُفْطِرِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي إحْبَاطِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِبَعْضِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ صَارَ مَغْمُورًا جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ، فَكَأَنَّهُ كَالْمَعْدُومِ الْمُحْبَطِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ الْمُحْبِطَاتِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ: التَّشْبِيهُ فِي أَنَّ مَا قَلَّ جِدًّا قَدْ يُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ مُبَالَغَةً. وَهَذَا قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَعْمَالُ النَّاسِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ حَسَنَاتُ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِسَيِّئَاتِهِ، وَيُجْعَلُ الْيَسِيرُ مِنْهَا جِدًّا كَالْمَعْدُومِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ، كَحِجَامَةِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ فِي دَفْعِ الْمَرَضِ الْأَعْظَمِ عَنْهُ. فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُحْسِنًا مُطْلَقًا. وَلَا يُعَدُّ مُسِيئًا بِالنِّسْبَةِ إلَى إيلَامِهِ بِالْحِجَامَةِ، لِيَسَارَةِ ذَلِكَ الْأَلَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى

ص: 22

190 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَّا فِي شَعْبَانَ ".

191 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ " هَذَا فِي النَّذْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

دَفْعِ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ.

[حَدِيثُ عَائِشَةَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فأقضيه فِي شَعْبَانَ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ عَنْ شَعْبَانَ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ ثَانٍ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ ثَانٍ: فَمِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ كَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[حَدِيثُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ]

لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إخْرَاجِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَصُومُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ، وَذَهَبَ إلَيْهِ قَوْمٌ وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَالْجَدِيدُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: عَدَمُ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ. وَالْحَدِيثُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالنَّذْرِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. نَعَمْ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَا يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي الصَّوْمِ عَنْ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ بِصَوْمٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ لِلتَّخْصِيصِ بِصُورَةِ النَّذْرِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُعْتَبَرِ فِي الْوِلَايَةِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ، أَهُوَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ، أَوْ بِشَرْطِ الْعُصُوبَةِ، أَوْ الْإِرْثِ؟ وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ: لَا نَقْلَ عِنْدِي

ص: 23

192 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» .

وَفِي رِوَايَةٍ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ. أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِي ذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَأَنْتَ إذَا فَحَصْتَ عَنْ نَظَائِرِهِ، وَجَدْتَ الْأَشْبَهَ: اعْتِبَارَ الْإِرْثِ.

وَقَوْلُهُ " صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إنْ أَرَادَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنْ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ. وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَفِي هَذَا بَحْثٌ. وَهُوَ أَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ خَبَرٍ، أَعْنِي " صَامَ " وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ. فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَمْرِ. وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنَةِ. وَفِي " افْعَلْ " مَثَلًا، أَوْ يَعُمُّهَا مَعَ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يَصُومُ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ، إمَّا لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ الْوِلَايَةِ لِذَلِكَ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ: عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ. فَلَا تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ. وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ النِّيَابَةِ: وَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَيَجْرِي فِي الْبَاقِي عَلَى الْقِيَاسِ.

1 -

وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَوْ أَمَرَ الْوَلِيُّ أَجْنَبِيًّا أَنْ يَصُومَ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ، كَمَا فِي الْحَجِّ. فَلَوْ اسْتَقَلَّ بِهِ الْأَجْنَبِيُّ، فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَنْعُ. وَأَمَّا إلْحَاقُ غَيْرِ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ: فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ. وَلَيْسَ أَخْذُ الْحُكْمِ عَنْهُ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ.

ص: 24

فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا]

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ الْقَوْلَ بِأَنَّ أُمَّ الرَّجُلِ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنَّذْرِ. وَهُوَ يَقْتَضِي: أَنْ لَا يُتَخَصَّصَ جَوَازُ النِّيَابَةِ بِصَوْمِ النَّذْرِ.

وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ، تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ أَحْمَدُ.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ، بَعْدَ سُؤَالِ السَّائِلِ مُطْلَقًا عَنْ وَاقِعَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِيهَا عَنْ نَذْرٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهِ. فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام إذَا أَجَابَ بِلَفْظٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ عَنْ سُؤَالٍ وَقَعَ عَنْ صُورَةٍ مُحْتَمَلَةٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا مُخْتَلِفًا: أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ شَامِلًا لِلصُّوَرِ كُلِّهَا. وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ " تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ عَنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ: مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ " وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ هَذَا

وَجَعَلَهَا كَالْعُمُومِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّلَ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ لِلنَّذْرِ وَغَيْرِهِ

وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَيْهَا. وَقَاسَهُ عَلَى الدَّيْنِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالنَّذْرِ - أَعْنِي كَوْنَهَا حَقًّا وَاجِبًا - وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرِيعَةِ بِهَذَا، مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاسَ وُجُوبَ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ. وَجَعَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَحَقِّ. فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْقِيَاسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى () {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُ عليه السلام " أَرَأَيْتِ " إرْشَادٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَشَيْءٍ مُسْتَقِرٍّ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ

وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " دَلَالَةٌ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، عِنْدَ تَزَاحُمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ، كَمَا إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ. وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ الْوَفَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ ".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِيهَا مَا فِي الْأُولَى مِنْ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ، وَالْقِيَاسِ

ص: 25

193 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ.»

194 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا. وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا: فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ التَّخْصِيصُ فِيهَا بِالنَّذْرِ. فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَرَى التَّخْصِيصَ بِصَوْمِ النَّذْرِ، إمَّا بِأَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ. يُبَيَّنُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا وَاقِعَةُ نَذْرٍ.

فَيَسْقُطُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ إذَا تَبَيَّنَ عَيْنُ الْوَاقِعَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَبْعُدُ لِتَبَايُنٍ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. فَإِنَّ فِي إحْدَاهُمَا " أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ " وَفِي الثَّانِيَةِ " أَنَّهُ امْرَأَةٌ " وَقَدْ قَرَرْنَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يُعْرَفُ كَوْنُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا بِاتِّحَادِ سَنَدِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَتَقَارُبِ أَلْفَاظِهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ.

فَيَبْقَى الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِ الْعِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعَنَا عُمُومًا. وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» فَيَكُونُ التَّنْصِيصُ عَلَى مَسْأَلَةِ صَوْمِ النَّذْرِ، مَعَ ذَلِكَ الْعُمُومِ رَاجِعًا إلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ. وَهُوَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى بَعْضِ صَوْمِ الْعَامِّ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَقَدْ تَشَبَّثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنْ يَقِيسَ الِاعْتِكَافَ وَالصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ فِي النِّيَابَةِ، وَرُبَّمَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَجْهًا فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِ هَذَا التَّعْلِيلِ.

[حَدِيثُ لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ]

تَعْجِيلُ الْفِطْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْغُرُوبِ: مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقٍ. وَدَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُتَشَيِّعَةِ، الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ إلَى ظُهُورِ النَّجْمِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ النَّاسِ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَخَّرُوهُ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي فِعْلٍ خِلَافِ السُّنَّةِ. وَلَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا فَعَلُوا السُّنَّةَ.

ص: 26

195 -

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشْرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ. قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى» وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. 196 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ» . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا]

الْإِقْبَالُ، وَالْإِدْبَارُ " مُتَلَازِمَانِ. أَعْنِي: إقْبَالَ اللَّيْلِ وَإِدْبَارَ النَّهَارِ.

وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَظْهَرَ لِلْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْخَفِيِّ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مَا يَسْتُرُ الْبَصَرَ عَنْ إدْرَاكِ الْغُرُوبِ. وَكَانَ الْمَشْرِقُ بَارِزًا ظَاهِرًا فَيُسْتَدَلُّ بِطُلُوعِ اللَّيْلِ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: فَقَدْ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: فَقَدْ دَخَلَ فِي الْفِطْرِ. وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ اللَّيْلَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ. وَأَنَّهُ بِنَفْسِ دُخُولِهِ خَرَجَ الصَّائِمُ مِنْ الصَّوْمِ. وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: ذَكَرَ الْعَلَامَةَ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ جَوَازُ الْإِفْطَارِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: بَيَانُ امْتِنَاعِ الْوِصَالِ، بِمَعْنَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِمَعْنَى الْإِمْسَاكِ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ مَنْ أَمْسَكَ حِسًّا فَهُوَ مُفْطِرٌ شَرْعًا. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ: إبْطَالُ فَائِدَةِ الْوِصَالِ شَرْعًا. إذْ لَا يَحْصُلُ بِهِ ثَوَابُ الصَّوْمِ.

[حَدِيثُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ الْوِصَال]

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ الْوِصَالِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَازَهُ إلَى السَّحَرِ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ

ص: 27

بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ 197 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْوِصَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ: مَا اتَّصَلَ بِالْيَوْمِ الثَّانِي. فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْوِصَالُ إلَى السَّحَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عليه السلام " فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ " يَقْتَضِي تَسْمِيَتَهُ وِصَالًا. وَالنَّهْيُ عَنْ الْوِصَالِ يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ بِالتَّعْرِيضِ بِصَوْمِ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ بِمَثَابَةِ الْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَرَّضُ بِهِ الصَّوْمُ لِلْبُطْلَانِ

وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَدِيدَةً. وَإِنْ كَانَ صَوْمَ نَفْلٍ: فَفِيهِ التَّعَرُّضُ لِإِبْطَالِ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَإِبْطَالُهَا: إمَّا مَمْنُوعٌ - عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - وَإِمَّا مَكْرُوهٌ. وَكَيْفَمَا كَانَ: فَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَوْجُودَةٌ، إلَّا أَنَّهَا تَخْتَلِفُ رُتْبَتُهَا. فَإِنْ أَجَزْنَا الْإِفْطَارَ: كَانَتْ رُتْبَةُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَخَفَّ مِنْ رُتْبَةِ الْكَرَاهَةِ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ قَطْعًا. وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَهَلْ يَكُونُ كَالْكَرَاهَةِ فِي تَعْرِيضِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَسْتَوِيَانِ.

لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُوبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَالْمَصَالِحُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ أَقْوَى وَأَرْجَحُ؛ لِأَنَّهَا انْتَهَضَتْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالنَّذْرِ - وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ - فَلَا يُسَاوِيهِ فِي مِقْدَارِ الْمَصْلَحَةِ. فَإِنَّ الْوُجُوبَ هَهُنَا إنَّمَا هُوَ لِلْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ.

وَهَذَا بِمُفْرَدِهِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي الْمَصَالِحِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ الثَّانِيَ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ النَّذْرِ» مَعَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ. فَلَوْ كَانَ مُطْلَقُ الْوُجُوبِ مِمَّا يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمَنْذُورِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ: لَكَانَ فِعْلُ الطَّاعَةِ بَعْدَ النَّذْرِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهَا قَبْلَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ «مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» وَيُحْمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَكَانَ النَّذْرُ وَسِيلَةً إلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ. فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا، وَهَذَا عَلَى إجْرَاءِ النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ عَلَى عُمُومِهِ.

ص: 28

قَالَ «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ. وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ. قُلْتُ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا. فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد. وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» .

وَفِي رِوَايَةٍ «لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد - شَطْرَ الدَّهْرِ - صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ]

فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ الْأُولَى: " صَوْمُ الدَّهْرِ " ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى جَوَازِهِ. مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَمَنَعَهُ الظَّاهِرِيَّةُ، لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ، كَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَأَوَّلَ مُخَالِفُوهُمْ هَذَا عَلَى مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْ صَوْمِهَا، كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَكَأَنَّ هَذَا مُحَافَظَةٌ عَلَى حَقِيقَةِ صَوْمِ الْأَبَدِ. فَإِنَّ مَنْ صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، مَعَ غَيْرِهَا: هُوَ الصَّائِمُ لِلْأَبَدِ. وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهَا لَمْ يَصُمْ الْأَبَدَ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا خُرُوجًا عَنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَدْلُولُ لَفْظَةِ " صَامَ " فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ شَرْعًا. إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا حَقِيقَةُ الصَّوْمِ، فَلَا يَحْصُلُ حَقِيقَةُ " صَامَ " شَرْعًا لِمَنْ أَمْسَكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِ " الْأَبَدِ " فَقَدْ وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِحَقِيقَةِ لَفْظِ " صَامَ " شَرْعًا، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ. وَإِذَا تَعَارَضَ مَدْلُولُ اللُّغَةِ وَمَدْلُولُ الشَّرْعِ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِصَوْمِ الْأَبَدِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ " أَنَّ الْأَبَدَ " مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ " أَبَدٌ " فَإِذَا وَقَعَ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَعِلَّةُ الْحُكْمِ: وُقُوعُ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ. وَيَبْقَى تَرْتِيبُهُ عَلَى مُسَمَّى الْأَبَدِ غَيْرَ وَاقِعٍ. فَإِنَّهُ إذَا صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ تَعَلَّقَ بِهِ الذَّمُّ، سَوَاءٌ صَامَ غَيْرَهَا أَوْ أَفْطَرَ وَلَا يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ عَلَيْهِ صَوْمُ الْأَبَدِ، بَلْ هُوَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَوْمُ الْأَبَدِ يَلْزَمُ مِنْهُ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ: تَعَلَّقَ بِهِ الذَّمُّ، لِتَعَلُّقِهِ بِلَازِمِهِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ. فَمِنْ هَهُنَا نَظَرَ الْمُتَأَوِّلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَتَرَكُوا التَّعْلِيلَ بِخُصُوصِ صَوْمِ الْأَبَدِ.

[مَسْأَلَة كَرِهَ جَمَاعَةٌ قِيَامَ كُلِّ اللَّيْلِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَرِهَ جَمَاعَةٌ قِيَامَ كُلِّ اللَّيْلِ. لِرَدِّ النَّبِيِّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ، وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْإِجْحَافِ بِوَظَائِفَ عَدِيدَةٍ

وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَعَلَّهُمْ حَمَلُوا الرَّدَّ عَلَى طَلَبِ الرِّفْقِ بِالْمُكَلَّفِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْكَرَاهَةِ بِالرَّدِّ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الرَّدَّ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ صِيَامُ النَّهَارِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ فَلَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " إنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " تُطْلِقُ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَعَذَّرِ مُطْلَقًا، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاقِّ عَلَى الْفَاعِلِ. وَعَلَيْهِمَا ذُكِرَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ، حَتَّى أُخِذَ مِنْهُ جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا يَشُقُّ. وَهُوَ الْأَقْرَبُ. فَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْكَ، عَلَى الْأَقْرَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ: إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ الْعُمْرِ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ ذَلِكَ. وَعَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقٍ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْتِزَامٌ لِأَوْقَاتٍ تَقْتَضِي الْعَادَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا، مَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " مَعَ الْقِيَامِ بِبَقِيَّةِ الْمَصَالِحِ الْمَرْعِيَّةِ شَرْعًا.

[مَسْأَلَة اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ]

1

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ

وَعِلَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهَا مِنْ الشَّهْرِ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الْأَحَبِّ وَالْأَفْضَلِ لَا غَيْرُ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَأَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ " مُؤَوَّلٌ

ص: 30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِثْلُ أَصْلِ صِيَامِ الدَّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ لِلْحَسَنَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ الْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ. وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يَكُونُ كَالْمُحَقَّقِ، وَأَنَّ الْأُجُورَ تَتَفَاوَتُ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ، أَوْ الْمَشَقَّةِ فِي الْفِعْلِ. فَكَيْفَ يَسْتَوِي مَنْ فَعَلَ الشَّيْءَ بِمَنْ قُدِّرَ فِعْلُهُ لَهُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ أَصْلُ الْفِعْلِ فِي التَّقْدِيرِ، لَا الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّضْعِيفُ فِي التَّحْقِيقِ

وَهَذَا الْبَحْثُ يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ. وَلَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.

وَمِنْ هَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَشِبْهِهِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الدَّهْرِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ هَذَا الصَّوْمِ. وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ: أَنَّهُ مَثَّلَ بِصَوْمِ الدَّهْرِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ التَّرْغِيبِ هِيَ جِهَةَ الذَّمِّ.

وَسَبِيلُ الْجَوَابِ: أَنَّ الذَّمَّ - عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ - مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ، وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ هَهُنَا: حُصُولُ الثَّوَابِ عَلَى الْوَجْهِ التَّقْدِيرِيِّ. فَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ التَّرْغِيبِ وَجِهَةُ الذَّمِّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ الَّذِي ذُكِرَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ أَقْوَى مِنْهُ دَلَالَةً. وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ، وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا صَوْمَ الدَّهْرِ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى ذِي عَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ، أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ لُزُومِ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ رَاجِحَةٍ عَلَى الصَّوْمِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ الْغَيْرِ كَالزَّوْجَةِ مَثَلًا. .

[مَسْأَلَة الْفَضْلُ فِي صِيَامِ دَاوُد]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام فِي صَوْمِ دَاوُد " وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ " ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي تَفْضِيلِ هَذَا الصَّوْمِ عَلَى صَوْمِ الْأَبَدِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ: نَظَرُوا إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَتَى كَانَ أَكْثَرَ كَانَ الْأَجْرُ أَوْفَرَ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِ هَذَا. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ حَالُهُ مِثْلُ حَالِكَ، أَيْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّوْمِ الْأَكْثَرِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ. وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي: أَنْ يُجْرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي تَفْضِيلِ صِيَامِ دَاوُد عليه السلام، وَالسَّبَبُ فِيهِ: أَنَّ الْأَفْعَالَ مُتَعَارِضَةُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ.

وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَنَا وَلَا مُسْتَحْضَرًا، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، فَمِقْدَارُ تَأْثِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْحَثِّ وَالْمَنْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ لَنَا. فَالطَّرِيقُ حِينَئِذٍ أَنْ نُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَنَجْرِيَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مَعَ قُوَّةِ الظَّاهِرِ هَهُنَا. وَأَمَّا زِيَادَةُ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءُ الْقَاعِدَةِ لِزِيَادَةِ

ص: 31

198 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد. وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد. كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ. وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا.»

199 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْأَجْرِ بِسَبَبِهِ: فَيُعَارِضُهُ اقْتِضَاءُ الْعَادَةِ وَالْجِبِلَّةِ لِلتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقٍ يُعَارِضُهَا الصَّوْمُ الدَّائِمُ، وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ الْفَائِتِ مَعَ مَقَادِيرِ ذَلِكَ الْحَاصِلِ مِنْ الصَّوْمِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَنَا. وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُد " يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَوْقَهُ فِي الْفَضِيلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا.

[حَدِيثُ أَحَبّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد]

وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ.

وَتَقْدِيرُهُ بِمَا ذَكَرَ. وَنَوْمُ سُدُسِهِ الْأَخِيرِ: فِيهِ مَصْلَحَةُ الْإِبْقَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَاسْتِقْبَالُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَذْكَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ بِالنَّشَاطِ. وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فِي الصَّوْمِ مِنْ الْمُعَارِضِ: وَارِدٌ هُنَا. وَهُوَ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْفَضِيلَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّوْمِ مِنْ تَفْوِيضِ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ.

وَمِنْ مَصَالِحِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقِيَامِ أَيْضًا: أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى عَدَمِ الرِّيَاءِ فِي الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ مَنْ نَامَ السُّدُسَ الْأَخِيرَ: أَصْبَحَ جَامًّا غَيْرَ مَنْهُوكِ الْقُوَى. فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُخْفِيَ أَثَرَ عَمَلِهِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ، وَمَنْ يُخَالِفُ هَذَا يَجْعَلُ قَوْلَهُ عليه السلام:" أَحَبَّ الصِّيَامِ " مَخْصُوصًا بِحَالَةٍ، أَوْ بِفَاعِلٍ، وَعُمْدَتُهُمْ: النَّظَرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

[حَدِيثُ أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْقَصْدِ إلَى الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَدْ

ص: 32

200 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَزَادَ مُسْلِمٌ " وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَرَدَتْ عِلَّتُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ أَجْرِ الشَّهْرِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ، وَرَأَى مَنْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ أَجْرٌ بِلَا تَضْعِيفٍ، لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَوْمِ الشَّهْرِ تَقْدِيرًا، وَبَيْنَ صَوْمِهِ تَحْقِيقًا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنَّهَا رَكْعَتَانِ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْأَقَلَّ الَّذِي تَوَجَّهَ التَّأْكِيدُ لِفِعْلِهِ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ يَقُومُ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ: أَنْ تَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، نَعَمْ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم تَتَرَجَّحُ مَرْتَبَتُهُ عَلَى هَذَا ظَاهِرًا. وَأَمَّا النَّوْمُ عَنْ الْوِتْرِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا كَلَامٌ فِي تَأْخِيرِ الْوِتْرِ وَتَقْدِيمِهِ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ آخِرَ اللَّيْلِ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَثِقْ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ مَخْصُوصَةً بِحَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي حَالِهِ.

[حَدِيثُ النَّهْي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ]

النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِهِ مُفْرَدًا، كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَعَلَّ سَبَبَهُ: أَنْ لَا يُخَصَّ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ بِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لِمَا فِي التَّخْصِيصِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي تَخْصِيصِ السَّبْتِ بِالتَّجَرُّدِ عَنْ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَخُصُّونَ يَوْمَ السَّبْتِ بِخُصُوصِ الصَّوْمِ، فَلَا يَقْوَى التَّشَبُّهُ بِهِمْ، بَلْ تَرْكُ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ النَّهْيُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ كَرَاهَتُهُ مِنْ قَاعِدَةِ كَرَاهَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ يُكْرَهُ التَّخْصِيصُ لِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَقَدْ أَبْطَلَ تَخْصِيصَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَعَلَّهُ يَنْضَمُّ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى: أَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ فَضِيلًا جِدًّا عَلَى الْأَيَّامِ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، كَانَ الدَّاعِي إلَى صَوْمِهِ قَوِيًّا،

ص: 33

201 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» .

202 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ: «شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الْآخَرُ: تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَنَهَى عَنْهُ، حِمَايَةً أَنْ يَتَتَابَعَ النَّاسُ فِي صَوْمِهِ، فَيَحْصُلُ فِيهِ التَّشَبُّهُ أَوْ مَحْذُورُ إلْحَاقِ الْعَوَامّ إيَّاهُ بِالْوَاجِبَاتِ إذَا أُدِيمَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى صَوْمِهِ، فَيُلْحِقُونَ بِالشَّرْعِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَهُ مُفْرَدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ.

[حَدِيثُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ]

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُبَيِّنُ الْمُطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَيُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ، وَيَظْهَرُ مِنْهُ: أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْإِفْرَادُ بِالصَّوْمِ وَيَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهَذَا الْيَوْمِ، أَمْ نُعَدِّيهِ إلَى قَصْدِ غَيْرِهِ بِالتَّخْصِيصِ بِالصَّوْمِ؟ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَخْصِيصِهِ وَتَخْصِيصِ غَيْرِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ هَهُنَا إلَى تَخْصِيصِهِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأُمَّةِ. فَالدَّاعِي إلَى حِمَايَةِ الذَّرِيعَةِ فِيهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ. فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: يُمْكِنُ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِهِ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَقْتَضِي عُمُومَ النَّهْيِ عَنْ التَّخْصِيصِ بِصَوْمِ غَيْرِهِ، وَوَرَدَتْ دَلَائِلُ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ بِعَيْنِهِ: لَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ قَدْ اُعْتُبِرَ فِيهَا وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النَّهْيِ. وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ احْتِمَالُ الرَّفْعِ. فَلَا يُعَارِضُهُ مَا يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْمَحَالِّ.

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ صِيَامِهِمَا]

مَدْلُولُهُ: الْمَنْعُ مِنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدِ. وَيَقْتَضِي ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ صَوْمِهِمَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ مُخَالَفَةٌ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَقَالُوا: إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ: صَحَّ نَذْرُهُ. وَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِصَوْمِ ذَلِكَ. وَطَرِيقُهُمْ فِيهِ: أَنَّ الصَّوْمَ لَهُ جِهَةُ عُمُومٍ وَجِهَةُ خُصُوصٍ. فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمٌ: يَقَعُ الِامْتِثَالُ بِهِ. وَمَنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمُ عِيدٍ: يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ: يَحْصُلُ بِالْجِهَةِ الْأُولَى، أَعْنِي كَوْنَهُ صَوْمًا. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ: خِلَافُ ذَلِكَ. وَبُطْلَانُ النَّذْرِ، وَعَدَمُ صِحَّةِ الصَّوْمِ: وَاَلَّذِي يُدَّعَى مِنْ الْجِهَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازَمَ هَهُنَا. وَلَا انْفِكَاكَ. فَيَتَمَكَّنُ النَّهْيُ مِنْ هَذَا الصَّوْمِ. فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً. فَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ.

بَيَانُهُ: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ. وَالنَّاذِرُ لَهُ مُعَلِّقٌ لِنَذْرِهِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّتِهَا. فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ التَّلَازُمُ بَيْنَ جِهَةِ الْعُمُومِ، أَعْنِي كَوْنَهَا صَلَاةً وَبَيْنَ جِهَةِ الْخُصُوصِ أَعْنِي كَوْنَهَا حُصُولًا فِي مَكَان مَغْصُوبٍ، وَأَعْنِي بِعَدَمِ التَّلَازُمِ هَهُنَا: عَدَمَهُ فِي الشَّرِيعَةِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ وَجَّهَ الْأَمْرَ إلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيَ إلَى مُطْلَقِ الْغَصْبِ. وَتَلَازُمُهُمَا وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، لَا فِي الشَّرِيعَةِ. فَلَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ شَرْعًا بِهَذَا الْخُصُوصِ، بِخِلَافِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ خُصُوصِهِ. فَتَلَازَمَتْ جِهَةُ الْعُمُومِ وَجِهَةُ الْخُصُوصِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَتَعَلَّقَ النَّهْيُ بِعَيْنِ مَا وَقَعَ فِي النَّذْرِ. فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً.

وَتَكَلَّمَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي قَاعِدَةٍ تَقْتَضِي النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْكَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: إذْ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى: لَا تُبْصِرْ، وَلِلْإِنْسَانِ: لَا تَطِرْ، فَإِذًا هَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ - أَعْنِي صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ - مُمْكِنٌ، وَإِذَا أَمْكَنَ ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ إنَّمَا تَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ، وَالْإِمْكَانَ الْعَقْلِيَّ أَوْ الْعَادِيَّ، وَالنَّهْيُ يَمْنَعُ التَّصَوُّرَ الشَّرْعِيَّ، فَلَا يَتَعَارَضَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَصْرِفُ اللَّفْظَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ.

ص: 35

203 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. وَعَنْ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الصَّوْمَ فَقَطْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَطِيبَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْتِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إشْعَارٌ وَتَلْوِيحٌ بِأَنَّ عِلَّةَ الْإِفْطَارِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى: الْأَكْلُ مِنْ النُّسُكِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ النُّسُكِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالنُّسُكِ. وَأَجَازَ الْأَكْلَ إلَّا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ، وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحِلِّهِ. وَجَعَلَ الْهَدْيَ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَمَا وَجَبَ لِنَقْصٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.

[حَدِيثُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ]

أَمَّا " صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ " فَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا " اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ " فَقَالَ عَبْدُ الْغَفَّارِ الْفَارِسِيُّ فِي مَجْمَعِهِ تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ يَشْتَمِلُ بِثَوْبٍ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّكَشُّفِ، وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ. قَالَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ " الصَّمَّاءِ " وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ فَيَسْتُرُ بِهِ جَمِيعَ جَسَدِهِ، بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ فُرْجَةً، يُخْرِجُ مِنْهَا يَدَهُ، وَاللَّفْظُ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى.

وَالنَّهْيُ عَنْهُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَخَافُ مَعَهُ أَنْ يُدْفَعَ إلَى حَالَةٍ سَادَّةٍ لِمُتَنَفَّسِهِ. فَيَهْلِكُ غَمًّا تَحْتَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ فُرْجَةٌ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ بِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاحْتِرَاسِ وَالِاحْتِرَازِ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ، أَوْ نَابَهُ مُؤْذٍ. وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّقِيَهُ

ص: 36

204 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» .

205 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِيَدَيْهِ، لِإِدْخَالِهِ إيَّاهُمَا تَحْتَ الثَّوْبِ الَّذِي اشْتَمَلَ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ.

وَأَمَّا الِاحْتِبَاءُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ: فَيُخْشَى مِنْهُ تَكَشُّفُ الْعَوْرَةِ.

[حَدِيثُ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّه]

قَوْلُهُ " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " الْعُرْفُ الْأَكْثَرُ فِيهِ: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ: كَانَتْ الْفَضِيلَةُ لِاجْتِمَاعِ الْعِبَادَتَيْنِ - أَعْنِي عِبَادَةَ الصَّوْمِ وَالْجِهَادِ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ: طَاعَتُهُ كَيْفَ كَانَتْ. وَيُعَبَّرُ بِذَلِكَ عَنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فِيهِ وَالْأَوَّلُ: أَقْرَبُ إلَى الْعُرْفِ

وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: جَعْلُ الْحَجِّ أَوْ سَفَرِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَضْعِيٌّ.

" وَالْخَرِيفُ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ السَّنَةِ، فَمَعْنَى " سَبْعِينَ خَرِيفًا " سَبْعُونَ سَنَةً. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْخَرِيفِ عَنْ السَّنَةِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّنَةَ لَا يَكُونُ فِيهَا إلَّا خَرِيفٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا مَرَّ الْخَرِيفُ فَقَدْ مَضَتْ السَّنَةُ كُلُّهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَبَّرَ بِسَائِرِ الْفُصُولِ عَنْ الْعَامِ، كَانَ سَائِغًا بِهَذَا الْمَعْنَى، إذْ لَيْسَ فِي السَّنَةِ إلَّا رَبِيعٌ وَاحِدٌ وَصَيْفٌ وَاحِدٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَكِنَّ الْخَرِيفَ أَوْلَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْفَصْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ نِهَايَةُ مَا بَدَأَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأَزْهَارَ تَبْدُو فِي الرَّبِيعِ، وَالثِّمَارُ تَتَشَكَّلُ صُوَرُهَا فِي الصَّيْفِ وَفِيهِ يَبْدُو نُضْجُهَا، وَوَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَكْلًا وَتَحْصِيلًا وَادِّخَارًا فِي الْخَرِيفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، فَكَانَ فَصْلُ الْخَرِيفِ أَوْلَى بِأَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 37

«أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ. فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

[حَدِيثُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الرُّؤْيَا، وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّاتِ، وَعَلَى مَا لَا يُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ، وَأَمَرَهُ بِأَمْرٍ: هَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا عَمِلَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ؛ لِأَنَّا - وَإِنْ قُلْنَا: بِأَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْقُولِ مِنْ صِفَتِهِ، فَرُؤْيَاهُ حَقٌّ - فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ. وَالْعَمَلُ بِأَرْجَحِهِمَا. وَمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ فَهُوَ أَرْجَحُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ: فَفِيهِ خِلَافٌ.

1 -

وَالِاسْتِنَادُ إلَى الرُّؤْيَا هَهُنَا: فِي أَمْرٍ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ لِسَبَبِ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ، إنَّهُ اسْتِحْبَابٌ شَرْعِيٌّ: مَخْصُوصٌ بِالتَّأْكِيدِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ اللَّيَالِي، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ، مِنْ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ " لَيْلَةَ الْقَدْرِ " فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَقَالُوا: لَوْ قَالَ فِي رَمَضَانَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَمْ تَطْلُقْ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَخْصُوصَةً بِرَمَضَانَ مَظْنُونٌ. وَصِحَّةُ النِّكَاحِ مَعْلُومَةٌ، فَلَا تُزَالُ إلَّا بِيَقِينٍ، أَعْنِي بِيَقِينِ مُرُورِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، كَانَ إزَالَةُ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ. وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحْكَامُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ يَجُوزُ أَنْ تُبْنَى عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَيُرْفَعُ بِهَا النِّكَاحُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ أَوْ أَحْكَامِهِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى

ص: 38

206 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» .

207 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ. فَاعْتَكَفَ عَامًا، حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ: مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا. فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ. فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ. فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، أَوْ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ اتِّفَاقًا، نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى دَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَمَرْتَبَتِهَا فِي الظُّهُورِ وَالِاحْتِمَالِ. فَإِنْ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا؛ فَلِمَا قِيلَ وَجْهٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَجَّحَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ غَيْرَ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَالثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ.

[حَدِيثُ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ]

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ قَبْلَهُ. مَعَ زِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِالْوِتْرِ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ.

ص: 39

208 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ]

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَجَّحَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي اللَّيَالِي، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: كَانَتْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَتَرَجَّحَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ بِتَنَقُّلِهَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَحَثًّا عَلَى إحْيَاءِ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّيَالِي.

وَقَوْلُهُ " يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ " الْأَقْوَى فِيهِ: أَنْ يُقَالَ: " الْوُسُطُ " وَ " الْوُسَطُ " بِضَمِّ السِّينِ أَوْ فَتْحِهَا، وَأَمَّا " الْأَوْسَطُ " فَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا رُجِّحَ الْأَوَّلُ: لِأَنَّ " الْعَشْرَ " اسْمٌ لِلَّيَالِيِ، فَيَكُونُ وَصْفُهَا الصَّحِيحُ جَمْعًا لَائِقًا بِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْعَشْرِ كَانَ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. وَقَوْلُهُ " فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ " أَيْ قَطَرَ، يُقَالُ: وَكَفَ الْبَيْتُ يَكِفُ وَكْفًا وَوُكُوفًا: إذَا قَطَرَ، وَوَكَفَ الدَّمْعُ وَكِيفًا وَوَكَفَانًا: بِمَعْنَى قَطَرَ.

وَقَدْ يَأْخُذُ مِنْ الْحَدِيثِ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْجِهَةِ بِالْمُصَلَّى فِي السُّجُودِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ - كَالطَّاقَةِ وَالطَّاقَتَيْنِ - صَحَّ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّهُ إذَا سَجَدَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ فَفِي السُّجُودِ الْأَوَّلِ: يَعْلَقُ الطِّينُ بِالْجَبْهَةِ، فَإِذَا سَجَدَ السُّجُودَ الثَّانِيَ: كَانَ الطِّينُ الَّذِي عَلِقَ بِالْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ الْأَوَّلِ حَائِلًا فِي السُّجُودِ الثَّانِي عَنْ مُبَاشَرَةِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ احْتِمَالٌ لَأَنْ يَكُونَ مَسَحَ مَا عَلِقَ بِالْجَبْهَةِ أَوَّلًا قَبْلَ السُّجُودِ الثَّانِي.

وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ " وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ " وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ " يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ تَكَلَّمُوا فِيهَا، وَهِيَ أَنَّ لَيْلَةَ الْيَوْمِ: هَلْ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، أَوْ الْآتِيَةُ بَعْدَهُ، كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةُ؟ .

ص: 40

وَجَلَّ. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ» .

وَفِي لَفْظٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ. فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ]

" الِاعْتِكَافُ " الِاحْتِبَاسُ وَاللُّزُومُ لِلشَّيْءِ كَيْفَ كَانَ وَفِي الشَّرْعِ: لُزُومُ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ مُطْلَقِ الِاعْتِكَافِ، وَاسْتِحْبَابُهُ فِي رَمَضَانَ بِخُصُوصِهِ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِخُصُوصِهَا، وَفِيهِ تَأْكِيدُ هَذَا الِاسْتِحْبَابِ بِمَا أَشْعَرَ بِهِ اللَّفْظُ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ، وَبِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، مِنْ قَوْلِهَا " فِي كُلِّ رَمَضَانَ " وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.

وَقَوْلُهَا " فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ " الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ: دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالدُّخُولُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَقْتَضِي الدُّخُولَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَغَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَلَكِنَّهُ أُوِّلَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ كَانَ مَوْجُودًا، وَأَنَّ دُخُولَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِمُعْتَكَفِهِ، لِلِانْفِرَادِ عَنْ النَّاسِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءَ دُخُولِ الْمُعْتَكَفِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُعْتَكَفِ هَهُنَا: الْمَوْضِعُ الَّذِي خَصَّهُ بِهَذَا، أَوْ أَعَدَّهُ لَهُ، كَمَا جَاءَ " أَنَّهُ اعْتَكَفَ فِي قِبْلَةٍ " وَكَمَا جَاءَ " أَنَّ أَزْوَاجَهُ ضَرَبْنَ أَخْبِيَةً " وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ " بِلَفْظِ الْمَاضِي. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَصْدٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ، لَا سِيَّمَا النِّسَاءُ فَلَوْ جَازَ الِاعْتِكَافُ فِي الْبُيُوتِ: لِمَا خَالَفَ الْمُقْتَضَى؛ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي الْخُرُوجِ لِعَوَارِضِ الْخِلْقَةِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ

ص: 41

209 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ. وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا: يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ.» وَفِي رِوَايَةٍ «وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " إنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ. فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّتْهُ لِلصَّلَاةِ، وَهَيَّأَتْهُ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ أَلْحَقَ بِهَا الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ.

[حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ]

" التَّرْجِيلُ " تَسْرِيحُ الشَّعْرِ.

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ رَأْسِ الْمُعْتَكِفِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ الْبَدَنِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَلَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ لَا يُوجِبُ حِنْثَهُ، وَكَذَلِكَ دُخُولُ بَعْضِ بَدَنِهِ، إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّ امْتِنَاعَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ يُوَازِنُ تَعَلُّقَ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ فَخُرُوجُ بَعْضِ الْبَدَنِ: إنْ اقْتَضَى مُخَالَفَةَ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ؛ اقْتَضَى مُخَالَفَتَهُ فِي الْآخَرِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقْتَضِ فِي أَحَدِهِمَا، لَمْ يَقْتَضِ فِي الْآخَرِ، لِاتِّحَادِ الْمَأْخَذِ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ تُنْقَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي الدُّخُولِ أَيْضًا، بِأَنْ تَقُولَ: لَوْ كَانَ دُخُولُ الْبَعْضِ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الْكُلِّ: لَكَانَ خُرُوجُ الْبَعْضِ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِخُرُوجِ الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ ثَمَّ، فَلَا يَقْتَضِيهِ هُنَا.

وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُعَلَّقٌ بِالْجُمْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ مُوجِبًا لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ لَا - إلَى آخِرِهِ.

ص: 42

210 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً» - وَفِي رِوَايَةٍ: «يَوْمًا - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهَا " وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ " كِنَايَةٌ عَمَّا يَضْطَرُّ إلَيْهِ مِنْ الْحَدَثِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ لَهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَالْمَسْجِدُ مَانِعٌ مِنْهُ. وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَيْهِ، أَوْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ إلَيْهِ - فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ إلَيْهِ لِعُمُومِهِ. فَإِذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ قَرِينَةُ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ لِكَثِيرٍ مِنْهُ، أَوْ قِيَامِ الدَّاعِي الشَّرْعِيِّ فِي بَعْضِهِ، كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَشَبَهِهِ. قَوِيَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَنْعِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ: جَوَازُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى وَجْهِ الْمُرُورِ، مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ. وَفِي لَفْظِهَا إشْعَارٌ بِعَدَمِ عِيَادَتِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.

[حَدِيثُ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً]

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

أَحَدُهَا: لُزُومُ النَّذْرِ لِلْقُرْبَةِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِهِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِكُلِّ مَنْذُورٍ.

1 -

وَثَانِيهَا: يُسْتَدَلُّ بِهِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ النَّذْرِ مِنْ الْكَافِرِ.

وَهُوَ قَوْلٌ - أَوْ وَجْهٌ - فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَشْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ. وَمَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَوِّلَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاعْتِكَافِ يَوْمٍ شَبِيهٍ بِمَا نَذَرَ، لِئَلَّا يُخِلَّ بِعِبَادَةٍ نَوَى فِعْلَهَا.

فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْذُورٌ لِشَبَهِهِ بِالْمَنْذُورِ، وَقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِي فِعْلِ مَا نَوَاهُ مِنْ الطَّاعَةِ. وَعَلَى هَذَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَوْ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ. ظَاهِرُ الْحَدِيثِ خِلَافُهُ. فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُ الْكَافِرِ الِاعْتِكَافَ: اُحْتِيجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِلَّا فَلَا.

ص: 43

211 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا. فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا. فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكُمَا. إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئًا» .

وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً. ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ» ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَثَالِثُهَا: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ فِيهِ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَاشْتِرَاطُهُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَدْ أَوَّلَ مَنْ اشْتَرَطَ الصَّوْمَ قَوْلَهُ " لَيْلَةً " بِيَوْمٍ. فَإِنَّ اللَّيْلَةَ تَغْلِبُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى الْيَوْمِ. حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: صُمْنَا خَمْسًا. وَالْخَمْسُ يُطْلَقُ عَلَى اللَّيَالِي. فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَيَّامِ لَقِيلَ خَمْسَةٌ. وَأُطْلِقَتْ اللَّيَالِي وَأُرِيدَتْ الْأَيَّامُ. أَوْ يُقَالُ: الْمُرَادُ لَيْلَةٌ بِيَوْمِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ وَرَدَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ " الْيَوْمِ ". .

[حَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا]

" صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، مِنْ شَعْبِ بَنِي إسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ هَارُونَ عليه السلام. نُضَيْرِيَّةٌ. كَانَتْ عِنْدَ سَلَامٍ - بِتَخْفِيفِ اللَّامِ - ابْنِ مِشْكَمٍ. ثُمَّ خَلَفَ

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَيْهَا كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَتُوُفِّيَتْ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَكِفَ. وَجَوَازِ التَّحَدُّثِ مَعَهُ. وَفِيهِ تَأْنِيسُ الزَّائِرِ بِالْمَشْيِ مَعَهُ، لَا سِيَّمَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ كَاللَّيْلِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَشَى مَعَهَا إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَطْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّحَرُّزِ مِمَّا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ نِسْبَةُ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ، مِمَّا لَا يَنْبَغِي. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَوْ وَقَعَ بِبَالِهِمَا شَيْءٌ لَكَفَّرَا. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ تَعْلِيمَ أُمَّتِهِ. وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ ظَنَّ السُّوءِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسَبُّبٌ إلَى إبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْحُكْمِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ نَفْيِ التُّهْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ: عَلَى هُجُومِ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّفْسِ؛ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى دَفْعِهِ: لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى (){لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَلِقَوْلِهِ عليه السلام فِي الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يَتَعَاظَمُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا " ذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ " وَقَدْ فَسَّرُوهُ: بِأَنَّ التَّعَاظُمَ لِذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ. لَا الْوَسْوَسَةَ. كَيْفَمَا كَانَ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا. نَعَمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَبَيْنَ مَا يَقَعُ شَكًّا: إشْكَالٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 45

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ. وَلِأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ. وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ. وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ. هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ. وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ: فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْحَجِّ]

[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

" الْحَجُّ " بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا: الْقَصْدُ فِي اللُّغَةِ. وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدٌ مَخْصُوصٌ إلَى مَحِلٍّ مَخْصُوصٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَقَوْلُهُ " وَقَّتَ " قِيلَ: إنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْأَصْلِ ذِكْرُ الْوَقْتِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْوَقْتِ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّحْدِيدِ لِلشَّيْءِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ تَحْدِيدٌ بِالْوَقْتِ، فَيَصِيرُ التَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ التَّوْقِيتِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ التَّوْقِيتُ. وَقَوْلُهُ هَهُنَا " وَقَّتَ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: التَّحْدِيدُ. أَيْ حَدُّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِحْرَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ: تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ. وَمَعْنَى تَوْقِيتِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ لِلْإِحْرَامِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ

ص: 46

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مُجَاوَزَتُهَا لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظَةُ " وَقَّتَ " مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ تَصْرِيحٌ بِالْوُجُوبِ. فَقَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ " يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ " وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ، يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ. وَوَرَدَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَةُ الْأَمْرِ، وَفِي ذِكْرِهِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ مَسَائِلُ.

الْأُولَى: أَنَّ تَوْقِيتَهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَأَمَّا إيجَابُ الدَّمِ لِمُجَاوَزَتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ مُجَاوِزَهَا لَا يَصِحُّ حَجُّهُ، وَلَهُ إلْمَامٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ. وَكَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدَّمَةٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِهِ.

الثَّانِيَةُ: " ذُو الْحُلَيْفَةِ " بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ اللَّامِ. أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ عَلَى عَشْرِ مَرَاحِلَ أَوْ تِسْعٍ مِنْهَا.

وَ " الْجُحْفَةُ " بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ. قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ اجْتَحَفَهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، وَيُقَالُ لَهَا " مَهْيَعَةُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْهَاءِ وَ " قَرْنُ الْمَنَازِلِ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ ذَكَرَ فَتْحَ الرَّاءِ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، كَمَا غَلِطَ فِي أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ " مَنْسُوبٌ إلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى " قَرَنٍ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ طَلَبِ عُمَرَ لَهُ.

وَ " يَلَمْلَمُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا. وَيُقَالُ فِيهِ " أَلَمْلَمُ " قِيلَ: هِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ " قَرْنٌ " عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَيْضًا.

الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " هُنَّ " لِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ. " لَهُنَّ " أَيْ لِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ: الْمَدِينَةِ، وَالشَّامِ، وَنَجْدٍ وَالْيَمَنِ.

وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لَهَا، وَالْمُرَادُ

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَهْلُهَا. وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ " هُنَّ لَهُمْ "؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَهْلُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْأَصْلِ.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " يَقْتَضِي: أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمِيقَاتِهِ: أَحْرَمَ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يُجَاوِزْهُنَّ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الشَّامِ، يَمُرُّ أَحَدُهُمْ بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُهَا إلَى الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ إلَى الْجُحْفَةِ. قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ إحْرَامُهُ مِنْهَا - أَيْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ - وَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْمِلَ الْكَلَامَ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ الْحُكْمَ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَذْهَبِ أَحَدٍ. وَحَكَى أَنْ لَا خِلَافَ، وَهَذَا أَيْضًا مَحِلُّ نَظَرٍ. فَإِنَّ قَوْلَهُ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " عَامٌّ فِيمَنْ أَتَى، يَدْخُلُ تَحْتَهُ: مَنْ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي مَرَّ بِهَا، وَمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهَا.

وَقَوْلُهُ " وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ " عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتٍ آخَرَ أَوَّلًا، فَإِذَا قُلْنَا بِالْعُمُومِ الْأَوَّلِ: دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الشَّامِيُّ الَّذِي مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا. وَإِذَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ - دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الْمَارُّ أَيْضًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَيَكُونُ لَهُ التَّجَاوُزُ إلَيْهَا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ. فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ " وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ " مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ " مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ " يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُرِيدِ لِأَحَدِهِمَا، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ إذَا مَرَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، وَلَهُ تَجَاوُزُهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ.

السَّادِسَةُ: اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ " عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ

ص: 48

213 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، مِنْ حَيْثُ إنَّ مَفْهُومَهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ. وَهَذَا أَوَّلًا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُ عُمُومٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَفْهُومَهُ: أَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَلَا دُخُولَ مَكَّةَ، وَمَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَيُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ. وَفِي عُمُومِ الْمَفْهُومِ نَظَرٌ فِي الْأُصُولِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْرَامِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَكَانَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ لَفْظًا: قُدِّمَ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ: حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ بَيَانَ حُكْمِ الدَّاخِلِ إلَى مَكَّةَ. وَالْعُمُومُ إذَا لَمْ يُقْصَدْ: فَدَلَالَتُهُ لَيْسَتْ بِتِلْكَ الْقَوِيَّةِ إذَا ظَهَرَ مِنْ السِّيَاقِ الْمَقْصُودُ مِنْ اللَّفْظِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْعُمُومِ وَتَنَاوُلِهِ لِمَنْ يُرِيدُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الْوُجُوبِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِحْرَامِ لِدُخُولِ مَكَّةَ.

السَّابِعَةُ: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَرَّ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ، فَيَقْتَضِي اللَّفْظُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ. فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ لَلَزِمَهُ، أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ. وَفِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.

الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ " وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ " يَقْتَضِي: أَنَّ مَنْ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، فَمِيقَاتُهُ مَنْزِلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَسِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ.

التَّاسِعَةُ: يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُحْرِمُونَ مِنْهَا، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِمَّنْ هُوَ فِي مَكَّةَ: يُحْرِمُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ: وَيَقْتَضِي الْحَدِيثُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ مَكَّةَ نَفْسِهَا. وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْحَرَمِ لَهُ جَائِزٌ. وَالْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِهِ ظَاهِرًا. وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ مَنْ بِمَكَّةَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

ص: 49

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» .

214 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ]

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " يُهِلُّ " فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِهْلَالِ، خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ. وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عُمَرَ سَمَاعَهُ لِمِيقَاتِ الْيَمَنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

فَلِذَلِكَ حَسَنٌ أَنْ يُقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. .

[بَابُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ]

[حَدِيثُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ]

فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ. فَأُجِيبَ بِمَا لَا يَلْبَسُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَلْبَسُ مَحْصُورٌ. وَمَا يَلْبَسُ غَيْرُ مَحْصُورٍ. إذْ الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي وَضْعُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَلْبَسُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ

ص: 50

وَلِلْبُخَارِيِّ «وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ. وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِي الْجَوَابِ: مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَيْفَ كَانَ. وَلَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ.

وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُطَابَقَةُ.

الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ عَدَّوْهُ إلَى مَا رَأَوْهُ فِي مَعْنَاهُ. فَالْعَمَائِمُ وَالْبَرَانِسُ: تُعَدَّى إلَى كُلِّ مَا يُغَطِّي الرَّأْسَ، مَخِيطًا أَوْ غَيْرَهُ. وَلَعَلَّ " الْعَمَائِمَ " تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُغَطِّيهَا مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَ " الْبَرَانِسَ " تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُغَطِّيهَا مِنْ الْمَخِيطِ. فَإِنَّهُ قِيلَ: إنَّهَا قَلَانِسُ طِوَالٌ كَانَ يَلْبَسُهَا الزُّهَّادُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ. وَالتَّنْبِيهُ بِالْقُمُصِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحِيطِ بِالْبَدَنِ، وَمَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْمَنْسُوجِ. وَالتَّنْبِيهُ بِالْخِفَافِ وَالْقُفَّازَيْنِ - وَهُوَ مَا كَانَتْ النِّسَاءُ تَلْبَسُهُ فِي أَيْدِيهِنَّ - وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُحْشَى بِقُطْنٍ وَيُزَرُّ بِأَزْرَارٍ. فَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى كُلِّ مَا يُحِيطُ بِالْعُضْوِ الْخَاصِّ إحَاطَةَ مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ. وَمِنْهُ السَّرَاوِيلَاتُ، لِإِحَاطَتِهَا بِالْوَسَطِ إحَاطَةَ الْمُحِيطِ. .

[مَسْأَلَة لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِم نَعْلَيْنِ]

1

الثَّالِثَةُ: إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ. وَعِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ لَا يَقْطَعُهُمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ هَهُنَا مَعَ إتْلَافِهِ الْمَالِيَّةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ.

[مَسْأَلَة لُبْسُ الْمُحْرِم عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ]

1

الرَّابِعَةُ: اللُّبْسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَحْمُولٌ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ. فَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ الْمُعْتَادَ فِي الْقَمِيصِ غَيْرُ الِارْتِدَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَبَاءِ إذَا لُبِسَ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ. وَمَنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ: جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَادِ فِيهِ أَحْيَانًا. وَاكْتَفَى فِي التَّحْرِيمِ فِيهِ بِذَلِكَ. .

[مَسْأَلَة الْمُحْرِم يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ]

الْخَامِسَةُ: لَفْظُ " الْمُحْرِمِ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا. وَ " الْإِحْرَامُ " الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَالتَّشَاغُلُ بِأَعْمَالِهِمَا. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ " الْإِحْرَامِ " جِدًّا. وَيَبْحَثُ فِيهِ كَثِيرًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُ: إنَّهُ النِّيَّةُ، اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ. وَيَعْتَرِضُ عَلَى أَنَّهُ " التَّلْبِيَةُ " بِأَنَّهَا لَيْسَتْ

ص: 51

215 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ: لِلْمُحْرِمِ» . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِرُكْنٍ. وَالْإِحْرَامُ رُكْنٌ. هَذَا أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ. وَكَانَ يُحْرِمُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ. .

[مَسْأَلَة مَنْعُ الْمُحْرِم مِنْ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ]

1

السَّادِسَةُ: الْمَنْعُ مِنْ " الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ " وَهُوَ نَبْتٌ يَكُونُ بِالْيَمَنِ يُصْبَغُ بِهِ: دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ. وَعَدَّاهُ الْقَائِسُونَ إلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْمُطَيِّبَاتِ. وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَاخْتِلَافُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ الطِّيبِ أَمْ لَا؟ .

[مَسْأَلَة إحْرَام الْمَرْأَةِ]

1

السَّابِعَةُ: نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْ التَّنَقُّبِ وَالْقُفَّازَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ إحْرَامِ الْمَرْأَةِ يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ، وَفِي تَحْرِيمِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَأْلُوفِ لِإِشْعَارِ النَّفْسِ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ عَنْ الدُّنْيَا، وَالتَّذَكُّرُ لِلُبْسِ الْأَكْفَانِ عِنْدَ نَزْعِ الْمَخِيطِ.

وَالثَّانِي: تَنْبِيهُ النَّفْسِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ بِالْخُرُوجِ عَنْ مُعْتَادِهَا وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى قَوَانِينِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا وَآدَابِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

[حَدِيثُ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ]

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ. إحْدَاهُمَا: قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْقَطْعَ فِي الْخُفَّيْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ. فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِهِ

وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ هَهُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قُيِّدَ فِيهِ الْقَطْعُ: قَدْ وَرَدَتْ فِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ. وَذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى الصِّيغَةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ لَمْ نَعْمَلْ بِهَا، وَأَجَزْنَا مُطْلَقَ الْخُفَّيْنِ. تَرَكْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْقَطْعِ. وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي

ص: 52

[مَسْأَلَة الْقَطْعَ فِي الْخُفَّيْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ لِلْمُحْرِمِ]

216 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» . قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

جَانِبِ الْإِبَاحَةِ. فَإِنَّ إبَاحَةَ الْمُطْلَقِ حِينَئِذٍ تَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ إبَاحَةُ الْمُقَيَّدِ فَإِنْ أُخِذَ بِالزَّائِدِ كَانَ أَوْلَى. إذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ إبَاحَةِ الْمُقَيَّدِ وَإِبَاحَةِ مَا زَادَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَانِبِ النَّهْيِ: لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُطْلَقَ دَالٌّ عَلَى النَّهْيِ فِيمَا زَادَ عَلَى صُورَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِيهِ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ - مَثَلًا - مُخْتَلِفَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَخْرَجِهِمَا.

أَمَّا إذَا كَانَ الْمَخْرَجُ لِلْحَدِيثِ وَاحِدًا، وَوَقَعَ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، فَهَهُنَا نَقُولُ: إنَّ الْآتِيَ بِالْقَيْدِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ. فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا. فَيَتَقَيَّدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ: مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّ الْعَامَّ فِي الذَّوَاتِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَأَمَّا عَلَى مِثْلِ مَا نَخْتَارُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ؛ تَبَعًا لِلْعُمُومِ فِي الذَّوَاتِ: فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. .

[مَسْأَلَة لُبْسُ الْمُحْرِم السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا]

1

الثَّانِيَةُ: لُبْسُ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا، يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوِيٌّ هَهُنَا. إذْ لَمْ يُرِدْ بِقَطْعِهِ مَا وَرَدَ فِي الْخُفَّيْنِ. وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُبِيحُ السَّرَاوِيلَ عَلَى هَيْئَتِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ. .

[حَدِيثُ تلبية رَسُول اللَّهِ]

" التَّلْبِيَةُ " الْإِجَابَةُ. وَقِيلَ فِي مَعْنَى " لَبَّيْكَ " إجَابَةٌ بَعْدَ إجَابَةٍ، وَلُزُومًا لِطَاعَتِكَ. فَثَنَّى لِلتَّوْكِيدِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي أَنَّهُ تَثْنِيَةٌ أَمْ لَا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ

ص: 53

217 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ» . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ " لَا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُثَنَّى. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُثَنَّى. وَقِيلَ: إنَّ " لَبَّيْكَ " مَأْخُوذٌ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ وَلَبَّ: إذَا أَقَامَ بِهِ. أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لُبَابِ الشَّيْءِ، وَهُوَ خَالِصُهُ، أَيْ إخْلَاصِي لَكَ.

وَقَوْلُهُ " إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك " يُرْوَى فِيهِ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَكَسْرُهَا. وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ. فَإِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْفَتْحُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: أُجِيبُكَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ.

وَقَوْلُهُ " وَالنِّعْمَةَ لَكَ " الْأَشْهَرُ فِيهِ: الْفَتْحُ. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُ " إنَّ " مَحْذُوفٌ وَ " سَعْدَيْكَ " كَلَبَّيْكَ قِيلَ: مَعْنَاهُ مُسَاعَدَةٌ لِطَاعَتِكَ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ. وَ " الرَّغْبَاءُ إلَيْكَ " بِسُكُونِ الْغَيْنِ، فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: ضَمُّ الرَّاءِ، وَالثَّانِي: فَتْحُهَا. فَإِنْ ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وَإِنْ فَتَحْتَ مَدَدْتَ. وَهَذَا كَالنَّعْمَاءِ وَالنُّعْمَى.

وَقَوْلُهُ " وَالْعَمَلُ " فِيهِ حَذْفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ نُقَدِّرَهُ كَالْأَوَّلِ، أَيْ وَالْعَمَلُ إلَيْكَ، أَيْ إلَيْكَ الْقَصْدُ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ بِهِ إلَيْكَ، لِتُجَازِيَ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ: وَالْعَمَلُ لَكَ.

وَقَوْلُهُ " وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ " مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الْمُخَاطَبَةِ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . .

[حَدِيثُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ]

فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ أَمْ

ص: 54

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لَا؟ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ، إلَّا بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ. وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ: اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنَّ سَفَرَهَا لِلْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْفَارِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْحَدِيثِ. فَيَمْتَنِعُ إلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ. وَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ رُفْقَةٍ مَأْمُونِينَ إلَى الْحَجِّ، رِجَالًا أَوْ نِسَاءً. وَفِي سَفَرِهَا مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّصَّيْنِ إذَا تَعَارَضَا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ، خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ. بَيَانُهُ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] يَدْخُلُ تَحْتَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَيَقْتَضِي ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ - الْحَدِيثَ " خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ، عَامٌّ فِي الْأَسْفَارِ. فَإِذَا قِيلَ بِهِ وَأُخْرِجَ عَنْهُ سَفَرُ الْحَجِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قَالَ الْمُخَالِفُ: نَعْمَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِيهِ. وَيَخْرُجُ سَفَرُ الْحَجِّ عَنْ النَّهْيِ. فَيَقُومُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. وَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ. أَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» . وَلَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمَسَاجِدِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى السَّفَرِ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّهْيِ. .

1 -

الثَّانِيَةُ: لَفْظُ " الْمَرْأَةِ " عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: هَذَا عِنْدِي فِي الشَّابَّةِ. وَأَمَّا الْكَبِيرَةُ غَيْرُ الْمُشْتَهَاةِ: فَتُسَافِرُ حَيْثُ شَاءَتْ فِي كُلِّ الْأَسْفَارِ، بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ. وَخَالَفَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَرْأَةَ مَظِنَّةُ الطَّمَعِ فِيهَا، وَمَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً. وَقَدْ قَالُوا: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ. وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمَالِكِيُّ: تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ اخْتَارَ هَذَا الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَافِرُ فِي الْأَمْنِ. وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ، بَلْ تَسِيرُ وَحْدَهَا فِي جُمْلَةِ الْقَافِلَةِ، فَتَكُونُ آمِنَةً. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

[مَسْأَلَة أَقَلّ السَّفَر]

1

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ " مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ " اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ فِي الْأَحَادِيثِ. فَرُوِيَ " فَوْقَ ثَلَاثٍ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ " وَرُوِيَ " لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ يَوْمَيْنِ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ يَوْمٍ " وَرُوِيَ " يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَرُوِيَ

ص: 55

[مَسْأَلَة هَلْ الْمَحْرَمَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ أَمْ لَا]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بَرِيدًا " وَهُوَ أَرْبَعُ فَرَاسِخَ. وَقَدْ حَمَلُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ.

[مَسْأَلَة مِنْ هُوَ ذو الرحم لِلْمَرْأَةِ]

الرَّابِعَةُ " ذُو الْمَحْرَمِ " عَامٌّ فِي مَحْرَمِ النَّسَبِ، كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ أُخْتهَا وَخَالِهَا وَعَمِّهَا، وَمَحْرَمِ الرَّضَاعِ، وَمَحْرَمِ الْمُصَاهَرَةِ، كَأَبِي زَوْجِهَا وَابْنِ زَوْجِهَا.

وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ ابْنَ زَوْجِهَا.

فَقَالَ: يُكْرَهُ سَفَرُهَا مَعَهُ، لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي النَّاسِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ.؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يُنَزِّلُ زَوْجَةَ الْأَبِ فِي النَّفْرَةِ عَنْهَا مَنْزِلَةَ مَحَارِمِ النَّسَبِ. وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إلَّا فِيمَا جَبَلَ اللَّهُ عز وجل النُّفُوسَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفْرَةِ عَنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّحْرِيمِ - مَعَ مَحْرَمِيَّةِ ابْنِ الزَّوْجِ - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَعِيدٌ. وَإِنْ كَانَتْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَهُوَ أَقْرَبُ تَشَوُّفًا إلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَا يُقَوِّي هَهُنَا: أَنَّ قَوْلَهُ " لَا يَحِلُّ " اسْتَثْنَى مِنْهُ السَّفَرَ مَعَ الْمَحْرَمِ. فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَيَحِلُّ. وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِنَا " يَحِلُّ " هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ " يَحِلُّ " تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ الْمُتَسَاوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ، فَالْأَمْرُ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ، إلَّا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَنَاوَلُ، فَهُوَ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُنَافِيًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.

وَ " الْمَحْرَمُ " الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ السَّفَرُ وَالْخَلْوَةُ: كُلُّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ لِحُرْمَتِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، فَقَوْلُنَا " عَلَى التَّأْبِيدِ " احْتِرَازًا مِنْ أُخْتِ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَقَوْلُنَا " بِسَبَبٍ مُبَاحٍ " احْتِرَازًا مِنْ أُمِّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحْرَمًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ، وَقَوْلُنَا " لِحُرْمَتِهَا " احْتِرَازًا مِنْ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ لِحُرْمَتِهَا، بَلْ تَغْلِيظًا، هَذَا ضَابِطُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

الْخَامِسَةُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لِلزَّوْجِ.

وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَلَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحُكْمِ بِالْمَحْرَمِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ مَعَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَسْتَعْمِلُوا لَفْظَةَ " الْحُرْمَةِ " فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَعْنَى الْمَحْرَمِيَّةِ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا فِيمَا يَقْتَضِي الِاحْتِرَامَ. فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوَاجُ لَفْظًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 56

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: «جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. فَسَأَلَتْهُ عَنْ الْفِدْيَةِ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً. وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي. فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الْفِدْيَةِ]

[حَدِيثُ مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى]

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: " مَعْقِلٌ " وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ - هَذَا - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ. وَعَبْدُ اللَّهِ - هَذَا - هُوَ ابْنُ مَعْقِلِ بْنُ مُقَرِّنٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُهْمَلَةِ - مُزَنِيٌّ كُوفِيٌّ، يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ: كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ. وَ " عُجْرَةُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. " وَكَعْبٌ " وَلَدُهُ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وَقِيلَ، مِنْ بَلِيٍّ. وَقِيلَ: هُوَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَدِيٍّ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الثَّانِي فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِأَذَى الْقَمْلِ. وَقَاسُوا عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَرَضِ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " نَزَلَتْ فِي " يَعْنِي آيَةَ الْفِدْيَةِ. قَوْلُهُ " خَاصَّةً " يُرِيدُ اخْتِصَاصَ سَبَبِ النُّزُولِ بِهِ. فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي الْآيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] وَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ.

الرَّابِعُ: قَوْلُهُ عليه السلام " مَا كُنْتُ أُرَى " بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ أَظُنُّ. وَقَوْلُهُ عليه السلام " بَلَغَ بِك مَا أَرَى " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. يَعْنِي أُشَاهِدُ. وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ.

ص: 57

219 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ «أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَ " الْجَهْدُ " بِفَتْحِ الْجِيمِ: هُوَ الْمَشَقَّةُ. وَأَمَّا الْجُهْدُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - فَهُوَ الطَّاقَةُ. وَلَا مَعْنَى لَهَا هَهُنَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ " أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ " تَبْيِينٌ لِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ تُصْرَفُ إلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ عَدَدِهِمْ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّهُ يُطْعِمُ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ، وَكَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.

السَّادِسُ: قَوْلُهُ " لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ " بَيَانٌ لِمِقْدَارِ الْإِطْعَامِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ: إنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَةِ. فَأَمَّا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا: فَيَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّ حِنْطَةٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَعْيِينُ نِصْفِ الصَّاعِ مِنْ تَمْرٍ.

السَّابِعُ: " الْفَرَقُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ. مُفَسَّرٌ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ. وَهِيَ تَقْسِيمُ الْفَرَقِ عَلَى ثَلَاثَةِ آصُعٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: هُوَ تَعْيِينُ نِصْفِ الصَّاعِ مِنْ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.

الثَّامِنُ: قَوْلُهُ " أَوْ تُهْدِيَ شَاةً " هُوَ النُّسُكُ الْمُجْمَلُ فِي الْآيَةِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ " أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْمُجْمَلِ فِي الْآيَةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّ الصَّوْمَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مَعًا يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ - أَعْنِي الصِّيَامَ وَالصَّدَقَةَ وَالنُّسُكَ -؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " أَوْ " تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ.

وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ " أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لَا " فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِي إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ، قِيلَ: بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ النُّسُكِ؟ فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ. وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.

بَابُ حُرْمَةِ مَكَّةَ

ص: 58

الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. وَوَعَاهُ قَلْبِي. وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ. فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ]

. " الْخَرْبَةُ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: هِيَ الْخِيَانَةُ. وَقِيلَ: الْبَلِيَّةُ وَقِيلَ: التُّهْمَةُ. وَأَصْلُهَا فِي سَرِقَةِ الْإِبِلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَتِلْكَ قُرْبَى مِثْلَ أَنْ تُنَاسِبَا

أَنْ تُشْبِهُ الضَّرَائِبُ الضَّرَائِبَا

وَالْخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الْخَارِبَا.

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: " أَبُو شُرَيْحٍ " الْخُزَاعِيُّ، وَيُقَالُ فِيهِ: الْعَدَوِيُّ وَيُقَالُ: الْكَعْبِيُّ، اسْمُهُ: خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو - وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ وَقِيلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو. وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو - أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.

ص: 59

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الثَّانِي: قَوْلُ " ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ فِي أَنْ أُحَدِّثَكَ " فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَكَابِرِ - لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ - لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُ مَقْصُودَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَدْعَى لِلْقَبُولِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ ارْتِكَابُ غَرَضِهِ، فَإِنَّ الْغِلْظَةَ عَلَيْهِ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَةِ نَفْسِهِ، وَمُعَانِدَةِ مَنْ يُخَاطِبُهُ.

وَقَوْلُهُ " أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ. وَقَوْلُهُ " سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ " نَفْيٌ لِوَهْمِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ " وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِفَهْمِهِ، وَالتَّثَبُّتُ فِي تَعَقُّلِ مَعْنَاهُ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا " يُؤْخَذُ مِنْهُ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ، فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ، فِي ذِكْرِ الْخَصَائِصِ: لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ. قَالَ: حَتَّى لَوْ تَحَصَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ فِيهَا وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا: أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ: أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ. فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ، وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، قَالَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُقَاتَلُونَ عَلَى الْبَغْيِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنْ الْبَغْيِ إلَّا بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَجُوزُ إضَاعَتُهَا، فَحِفْظُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْلَى مِنْ إضَاعَتِهَا.

وَقِيلَ: إنَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسِيَرِ الْوَاقِدِيِّ. وَقِيلَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيثِ: بِأَنَّ مَعْنَاهَا تَحْرِيمُ نَصْبِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ بِمَا يَعُمُّ، كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ إصْلَاحُ الْحَالِ بِدُونِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْحَصَرَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ آخَرَ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَقُولُ: هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ خُصُوصِيَّتَهُ لِإِحْلَالِهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَالَ " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ " فَأَبَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ: أَنَّ الْمَأْذُونَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ لِغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي أُذِنَ

ص: 60

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لِلرَّسُولِ فِيهِ: إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الْقِتَالِ، وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ مَكَّةَ بِمَنْجَنِيقٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعُمُّ، كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ الْبُقْعَةِ بِتَحْرِيمِ مُطْلَقِ الْقِتَالِ فِيهَا وَسَفْكِ الدَّمِ. وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَأْصَلُ. وَأَيْضًا فَتَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَا يُسْتَأْصَلُ لَيْسَ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا الْوَجْهِ بِعَيْنِهِ لَأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا أَبْدَى مَعْنًى آخَرَ، وَخَصَّ بِهِ الْحَدِيثَ: لَمْ يَكُنْ بِأَوْلَى مِنْ هَذَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: يَسْتَدِلُّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُلْتَجِئَ إلَى الْحَرَمِ لَا يُقْتَلُ بِهِ. لِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» وَهَذَا عَامٌّ تَدْخُلُ فِيهِ صُورَةُ النِّزَاعِ قَالَ: بَلْ يُلْجَأُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ، فَيُقْتَلَ خَارِجَهُ، وَذَلِكَ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ.

الرَّابِعُ " الْعَضْدُ " الْقَطْعُ، عَضَدَ - بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْمَاضِي يَعْضِدُ - بِكَسْرِ الضَّادِ: يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَسْتَنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ فِي الْعَادَةِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ. وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي عَضْدِ مَا يُسَمَّى شَجَرًا.

الْخَامِسُ: قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا التَّوَهُّمِ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِأَحْكَامِنَا، وَيَنْزَجِرُ عَنْ مُحَرَّمَاتِ شَرْعِنَا، وَيَسْتَثْمِرُ أَحْكَامَهُ. فَجُعِلَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ: أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ.

وَأَقُولُ: الَّذِي أُرَاهُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّهْيِيجِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ: أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، بَلْ يُنَافِيهِ: هَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ. وَلَوْ قِيلَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مُطْلَقًا، لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْغَرَضُ. وَخِطَابُ التَّهْيِيجِ مَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

السَّادِسُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: فُتِحَتْ صُلْحًا، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ: إنَّ الْقِتَالَ كَانَ جَائِزًا

ص: 61

220 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - «لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، وَقَالَ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا. وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا الْإِذْخِرَ. فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ فَلَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ لَفَعَلَهُ. وَلَكِنْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ.

وَهَذَا التَّأْوِيلُ: يُضَعِّفُهُ قَوْلُهُ عليه السلام «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُودَ قِتَالٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرًا. وَأَيْضًا السِّيَرُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ الْقِتَالِ، وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَمَانِ الْمُعَلَّقِ عَلَى أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، تُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَيْضًا.

السَّابِعُ قَوْلُهُ " فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " فِيهِ تَصْرِيحٌ بِنَقْلِ الْعِلْمِ، وَإِشَاعَةِ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ.

وَقَوْلُ عَمْرٍو " أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ - إلَى آخِرِهِ " هُوَ كَلَامُهُ. وَلَمْ يَسْنُدْهُ إلَى رِوَايَةٍ. وَقَوْلُهُ " لَا يُعِيذُ عَاصِيًا " أَيْ لَا يَعْصِمُهُ. وَقَوْلُهُ " وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ " قَدْ فَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ، وَيُقَالُ فِيهَا: بِضَمِّ الْخَاءِ وَأَصْلُهَا: سَرِقَةُ الْإِبِلِ، كَمَا قَالَ. وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ خِيَانَةٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهَا الْبَلِيَّةُ " وَعَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْفَسَادُ فِي الدِّينِ، مِنْ الْخَارِبِ وَهُوَ اللِّصُّ الْمُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: هِيَ الْعَيْبُ.

[حَدِيثُ إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ]

" الْقَيْنَ " الْحَدَّادُ.

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ عليه السلام " لَا هِجْرَةَ " نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَإِنَّ " الْهِجْرَةَ " تَجِبُ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إسْلَامٍ بِالْفَتْحِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَيَكُونُ حُكْمًا وَرَدَ لِرَفْعِ وُجُوبِ هِجْرَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَجِبُ الْهِجْرَةُ الْيَوْمَ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ.

وَفِي ضِمْنِ الْحَدِيثِ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ أَبَدًا.

وَقَوْلُهُ عليه السلام، " وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " أَيْ إذَا طُلِبْتُمْ لِلْجِهَادِ فَأَجِيبُوا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ وَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْجِهَادِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ بَعْضَ النَّاسِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ مَنْ عُيِّنَ لِلْجِهَادِ. وَيُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جِهَادًا مَعَ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ إذْ غَيْرُ الْخَالِصَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. فَهِيَ كَالْعَدَمِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: وَلَكِنْ جِهَادٌ بِالْفِعْلِ، أَوْ نِيَّةُ الْجِهَادِ لِمَنْ يَفْعَلُ، كَمَا قَالَ عليه السلام «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ. مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ» تَكَلَّمُوا فِيهِ، مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» فَقِيلَ بِظَاهِرِ هَذَا، وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ أَظْهَرَ حُرْمَتُهَا بَعْدَ مَا نُسِيَتْ. وَالْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقِيلَ: إنَّ التَّحْرِيمَ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ، وَحُرْمَتُهَا يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: كِتَابَتُهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ غَيْرِهِ: حَرَامًا. وَأَمَّا الظُّهُورُ لِلنَّاسِ: فَفِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.

وَقَوْلُهُ " فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ الْقِتَالُ " يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ يَتَنَاوَلُ الْقِتَالَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ لَا يُنْسَخُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ أَوْ إبَاحَتِهِ.

وَقَوْلُهُ " لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الشَّوْكِ مُمْتَنِعٌ كَغَيْرِهِ. وَذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ. وَالْحَدِيثُ مَعَهُ. وَأَبَاحَهُ غَيْرُهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّوْكَ مُؤْذٍ.

ص: 63

221 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَلِمُسْلِمٍ «يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ " أَيْ يُزْعَجُ مِنْ مَكَانِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ: أَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ إذَا حَرَّمَ تَنْفِيرَهُ، بِأَنْ يُزْعَجَ مِنْ مَكَانِهِ، فَقَتْلُهُ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ " وَلَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا " اللُّقْطَةُ - بِإِسْكَانِ الْقَافِ، وَقَدْ يُقَالُ بِفَتْحِهَا - الشَّيْءُ الْمُلْتَقَطُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ لُقْطَةَ الْحَرَمِ لَا تُؤْخَذُ لِلتَّمَلُّكِ. وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ لِتُعَرَّفَ لَا غَيْرُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهَا كَغَيْرِهَا فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّمَلُّكِ. وَيُسْتَدَلُّ لِلشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ.

وَ " الْخَلَى " بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْقَصْرِ: الْحَشِيشُ إذَا كَانَ رَطْبًا، وَاخْتِلَاؤُهُ: قَطْعُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَ " الْإِذْخِرَ " نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. وَقَوْلُهُ " فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ " الْقَيْنُ: الْحَدَّادُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِ النَّارِ، وَ " بُيُوتِهِمْ " تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّسْقِيفِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " إلَّا الْإِذْخِرَ " عَلَى الْفَوْرِ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرْوِي اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَفْوِيضَ الْحُكْمِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُوحَى إلَيْهِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ. فَإِنَّ الْوَحْي إلْقَاءٌ فِي خُفْيَةٍ. وَقَدْ تَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ وَقَدْ لَا تَظْهَرُ.

[بَابُ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي الحرم]

. فِيهِ مَبَاحِثُ، الْأَوَّلُ: الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ " خَمْسٌ " بِالتَّنْوِينِ " فَوَاسِقُ " وَيَجُوزُ خَمْسُ فَوَاسِقَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَشْهُورِ. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ " خَمْسٌ " بِقَوْلِهِ " كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُنَوَّنَ " خَمْسٌ " فَيَكُونُ " فَوَاسِقُ " خَبَرًا. وَبَيْنَ التَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ فِي هَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي الْمَعْنَى. وَذَلِكَ: أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَى خَمْسٍ مِنْ

ص: 64

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْفَوَاسِقِ بِالْقَتْلِ. وَرُبَّمَا أَشْعَرَ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا وَبِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ. وَأَمَّا مَعَ التَّنْوِينِ: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْقَتْلُ - مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا، وَهُوَ الْفِسْقُ. فَيَقْتَضِي ذَلِكَ التَّعْمِيمَ لِكُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَهُوَ ضِدُّ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَفْهُومِ. وَهُوَ التَّخْصِيصُ.

الثَّانِي: الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّ الْغُرَابَ يُرْمَى وَلَا يُقْتَلُ.

الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ، أَوْ التَّعْدِيَةِ لِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا بِالْمَعْنَى. فَقِيلَ: بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ الْمُخَالِفِينَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْحَقَ الذِّئْبَ بِهَا. وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُنَاقَضَاتِهِ، وَاَلَّذِي قَالُوا بِالتَّعْدِيَةِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ التَّعْدِيَةُ. فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّارِحِينَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: الْمَعْنَى فِي جَوَازِ قَتْلِهِنَّ: كَوْنُهُنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، فَكُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ قَتْلُهُ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُنَّ مُؤْذِيَاتٍ، فَكُلُّ مُؤْذٍ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَمَا لَا فَلَا.

وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ جَوَازَ الْقَتْلِ غَيْرُ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ، وَإِنَّمَا يَرَى الشَّافِعِيُّ جَوَازَ الِاصْطِيَادِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْقَتْلِ لِغَيْرِ الْمَأْكُولِ، وَأَمَّا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ: فَغَيْرُ هَذَا، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اصْطِيَادُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرُدُّونَ هَذَا بِظُهُورِ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْسِ، وَهُوَ الْأَذَى الطَّبِيعِيُّ، وَالْعُدْوَانُ الْمُرَكَّبُ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَدَّى الْقَائِسُونَ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمَ، كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي فِي بَابِ الرِّبَا، وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى التَّعْدِيَةِ فِيهَا، وَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُعَدَّى بِهِ.

وَأَقُولُ: الْمَذْكُورُ ثَمَّ: هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَلْقَابِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَالتَّعْدِيَةُ لَا تُنَافِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مَفْهُومُ عَدَدٍ، وَقَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ لِلتَّخْصِيصِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَوَّلَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ بِالْخَمْسِ

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَذْكُورَاتِ - أَعْنِي مَفْهُومَ الْعَدَدِ - وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ هَذَا أَيْضًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى الْأَذَى إلَى كُلِّ مُؤْذٍ: قَوِيٌّ، بِالْإِضَافَةِ إلَى تَصَرُّفِ الْقَائِسِينَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَاءِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِحُرْمَةِ الْأَكْلِ: فَفِيهِ إبْطَالُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إيمَاءُ النَّصِّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ: أَنْ يَتَقَيَّدَ الْحُكْمُ بِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ، وَثَبَتَ الْحُكْمُ حَيْثُ تُعْدَمُ: بَطَلَ تَأْثِيرُهَا بِخُصُوصِهَا فِي الْحُكْمِ، حَيْثُ ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَ انْتِفَائِهَا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِهَا.

الْبَحْثُ الرَّابِعُ: الْقَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ بِالْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا جَاءَ مَعَهَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ - مِنْ ذِكْرِ الْحَيَّةِ - وَفُوا بِمُقْتَضَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْدِيَةِ إلَى غَيْرِهَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ فِي تَخْصِيصِ الْمَذْكُورَاتِ بِالذِّكْرِ، وَقَالَ مَنْ عَلَّلَ بِالْأَذَى: إنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيُنَبِّهَ بِهَا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا، وَأَنْوَاعُ الْأَذَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَيَكُونُ ذِكْرُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مُنَبِّهًا عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا فِيهِ ذَلِكَ النَّوْعُ، فَنَبَّهَ بِالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ عَلَى مَا يُشَارِكُهُمَا فِي الْأَذَى بِاللَّسْعِ، كَالْبُرْغُوثِ مَثَلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَنَبَّهَ بِالْفَأْرَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ بِالنَّقْبِ وَالتَّقْرِيضِ، كَابْنِ عِرْسٍ، وَنَبَّهَ بِالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ بِالِاخْتِطَافِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِ، وَنَبَّهَ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى كُلِّ عَادٍ بِالْعَقْرِ وَالِافْتِرَاسِ بِطَبْعِهِ، كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّعْدِيَةِ إلَى كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ: فَقَدْ أَحَالُوا التَّخْصِيصَ فِي الذِّكْرِ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْغَالِبِ، فَإِنَّهَا الْمُلَابِسَاتُ لِلنَّاسِ وَالْمُخَالِطَاتُ فِي الدُّورِ، بِحَيْثُ يَعُمُّ أَذَاهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، إلَّا أَنَّ خُصُومَهُمْ جَعَلُوا هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَرَضًا عَلَيْهِمْ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْمُؤْذِيَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ قِيَاسًا شَرْطُهُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ أَوْ رُجْحَانُهُ. أَمَّا إذَا انْفَرَدَ الْأَصْلُ بِزِيَادَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُعْتَبَرَ، فَلَا إلْحَاقَ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَامَّةَ الْأَذَى - كَمَا ذَكَرْتُمْ - نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ قَتْلِهَا، لِعُمُومِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا لَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ مِمَّا لَا يُخَالِطُ فِي الْمَنَازِلِ، فَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ، كَمَا دَعَتْ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِ مَا يُخَالِطُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ.

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ نَادِرٌ، وَقَدْ أُبِيحَ قَتْلُهُ.

وَالثَّانِي: مُعَارَضَةُ النُّدْرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الضَّرَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْفَأْرَةِ بِالنَّقْبِ - مَثَلًا - وَالْحِدَأَةِ بِخَطْفِ شَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُسَاوِي مَا فِي الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ مِنْ إتْلَافِ الْأَنْفُسِ؟ فَكَانَ إبَاحَةُ الْقَتْلِ أَوْلَى.

الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفُوا فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ. فَقِيلَ: هُوَ الْإِنْسِيُّ الْمُتَّخَذُ. وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا يَعْدُو، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ. وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ " بِأَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ. افْتَرَسَهُ السَّبُعُ " فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلُونَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكَلْبِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسِيِّ الْمُتَّخَذِ: خِلَافُ الْعُرْفِ. وَاللَّفْظَةُ إذَا نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى مَعْنًى، كَانَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْبَحْثُ السَّادِسُ: اخْتَلَفُوا فِي صِغَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مُنْقَسِمَةٌ. فَأَمَّا صِغَارُ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ: فَفِي قَتْلِهِمَا قَوْلَانِ لَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ: الْقَتْلُ. وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ " الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ " وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْقَتْلَ لِلصِّغَارِ: فَاعْتَبَرَ الصِّفَةَ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْقَتْلَ، وَهِيَ " الْفِسْقُ " عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ إيمَاءُ اللَّفْظِ. وَهَذَا الْفِسْقُ مَعْدُومٌ فِي الصِّغَارِ حَقِيقَةً. وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ. وَأَمَّا صِغَارُ الْكِلَابِ فَفِيهَا قَوْلَانِ لَهُمْ أَيْضًا. وَأَمَّا صِغَارُ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ: فَتُقْتَلُ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ وَالْإِطْلَاقِ: يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ الصِّغَارُ لِانْطِلَاقِ لَفْظِ " الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ " وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْكَلْبُ الْعَقُورُ: فَإِنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَيَّدُ الْإِبَاحَةُ بِهَا. لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الصَّغِيرِ، وَلَا هِيَ مَعْلُومَةُ الْوُجُودِ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ عِنْدَ الْكِبَرِ يَنْتَهِي بِطَبْعِهِ إلَى الْأَذَى قَطْعًا.

الْبَحْثُ السَّابِعُ: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ مَثَلًا، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرَمِ: مُعَلَّلٌ بِالْفِسْقِ وَالْعُدْوَانِ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ. وَالْقَاتِلُ عُدْوَانًا فَاسِقٌ بِعُدْوَانِهِ. فَتُوجَدُ الْعِلَّةُ فِي قَتْلِهِ، فَيُقْتَلُ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ. وَهَذِهِ الْفَوَاسِقُ فِسْقُهَا طَبْعِيٌّ. وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا. وَالْمُكَلَّفُ إذَا ارْتَكَبَ الْفِسْقَ هَاتِكٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ. فَهُوَ أَوْلَى بِإِقَامَةِ مُقْتَضَى الْفِسْقِ عَلَيْهِ. وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِالْهَيِّنِ. وَفِيهِ غَوْرٌ، فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 67

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ. فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ» .

223 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ دُخُولُ مَكَّةَ وَغَيْرِهِ]

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ]

ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ذَلِكَ الْيَوْمَ " وَظَاهِرُ كَوْنِ " الْمِغْفَرُ " عَلَى رَأْسِهِ. يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ. وَأُخِذَ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمُرِيدَ لِدُخُولِ مَكَّةَ إذَا كَانَ مُحَارَبًا يُبَاحُ لَهُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، لِحَاجَةِ الْمُحَارَبِ إلَى التَّسَتُّرِ بِمَا يَقِيهِ وَقْعَ السِّلَاحِ.

" وَابْنُ خَطَلٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى. وَإِبَاحَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَتْلِهِ قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ إبَاحَةِ قَتْلِ الْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ.

وَيُجَابُ عَنْهُ. بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ عليه السلام «وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» .

ص: 68

224 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمَّا فَتَحُوا: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ. فَلَقِيتُ بِلَالًا، فَسَأَلَتْهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَل مَكَّة مِنْ كَدَاءٍ]

كَدَاءٌ " بِفَتْحِ الْكَافِّ وَالْمَدِّ. وَ " الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى " الْمَعْرُوفُ فِيهَا " كُدَا " بِضَمِّ الْكَافِّ وَالْقَصْرِ. وَثَمَّ مَوْضِعٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ " كُدَيٌّ " بِضَمِّ الْكَافِّ وَفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ السُّفْلَى عَلَى الْمَعْرُوفِ. وَ " الثَّنِيَّةُ " طَرِيقٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَالْمَشْهُورُ: اسْتِحْبَابُ الدُّخُولِ مِنْ كَدَاءَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَرِيقَ الدَّاخِلِ إلَى مَكَّةَ، فَيَعْرُجُ إلَيْهَا. وَقِيلَ: إنَّمَا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى طَرِيقِهِ. فَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ.

[حَدِيثُ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْبَيْتَ]

فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادٍ لَا تُحْصَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

1 -

وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. وَمَالِكٌ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ. فَكَرِهَ الْفَرْضَ أَوْ مَنَعَهُ. وَخَفَّفَ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ فِي الشُّرُوطِ.

1 -

وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ وَالْأَعْمِدَةِ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي الْجِهَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُسَامَتَتِهِمَا حَقِيقَةٌ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا قُدِّمَ هَذَا الْحَدِيثُ

ص: 69

225 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: «عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ. وَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» .

226 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ " بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ " وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا: أُوِّلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّهُ صَلَّى فِي سَمْتٍ مَا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا فَقَطْ: قُدِّمَ الْمُسْنَدُ عَلَيْهَا.

[حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَد فَقَبَّلَهُ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَقَوْلُ عُمَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي ابْتِدَاءِ تَقْبِيلِهِ: لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا وَلِيُزِيلَ بِذَلِكَ الْوَهْمَ الَّذِي كَانَ تَرَتَّبَ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُحَقِّقُ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَحْجَارِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ فِي الْأَصْنَامِ.

[حَدِيثُ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ]

قِيلَ: إنَّ هَذَا الْقُدُومَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَجَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فَأُخِذَ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ نُسِخَ مِنْهُ عَدَمُ الرَّمَلِ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. فَإِنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» وَذَكَرَ: أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَجِّ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا، فَيُقَدَّمُ عَلَى

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمُتَقَدِّمِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ مُطْلَقًا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ زَالَتْ. فَيَكُونُ اسْتِحْبَابُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا وَاقْتِدَاءً بِمَا فُعِلَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ: تَذَكُّرُ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ لِلسَّلَفِ الْكِرَامِ، وَفِي طَيِّ تَذَكُّرِهَا: مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ. إذْ يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهِ، وَبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْحَجِّ، وَيُقَالُ فِيهَا " إنَّهَا تَعَبُّدٌ " لَيْسَتْ كَمَا قِيلَ. أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا فَعَلْنَاهَا وَتَذَكَّرْنَا أَسْبَابَهَا: حَصَلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْأَوَّلِينَ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، فَكَانَ هَذَا التَّذَكُّرُ بَاعِثًا لَنَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمُقَرِّرًا فِي أَنْفُسِنَا تَعْظِيمَ الْأَوَّلِينَ. وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْقُولٌ. مِثَالُهُ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. إذَا فَعَلْنَاهُ وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ سَبَبَهُ: قِصَّةُ هَاجَرَ مَعَ ابْنِهَا، وَتَرْكُ الْخَلِيلِ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُوحِشِ مُنْفَرِدَيْنِ مُنْقَطِعَيْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ مَا أَظْهَرهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا مِنْ الْكَرَامَةِ، وَالْآيَةِ فِي إخْرَاجِ الْمَاءِ لَهُمَا - كَانَ فِي ذَلِكَ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ. أَيْ فِي التَّذَكُّرِ لِتِلْكَ الْحَالِ. وَكَذَلِكَ " رَمْيُ الْجِمَارِ " إذَا فَعَلْنَاهُ، وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ سَبَبَهُ: رَمْيُ إبْلِيسٍ بِالْجِمَارِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخَلِيلِ ذَبْحَ وَلَدِهِ: حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَصَالِحُ عَظِيمَةُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ.

1 -

وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ تَسْمِيَةِ الطَّوَّافَات بِالْأَشْوَاطِ. لِقَوْلِهِ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ " وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمَا كَرِهَا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ. وَالْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِهِ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّهُمْ لَمْ يَرْمُلُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ " لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا فِي هَذَا الْمَكَانِ.

ص: 71

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ - أَوَّلَ مَا يَطُوفُ - يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ» .

228 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِلَامِ لِلرُّكْنِ. وَذَكَرَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ اسْتِلَامَ الرُّكْنِ يُسْتَحَبُّ مَعَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ أَيْضًا، وَلَهُ مُتَمَسَّكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " اسْتَلَمَ الْحَجَرَ. وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " عَنْ كَوْنِهِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، فَإِنَّ الْحَجَرَ بَعْضُ الرُّكْنِ. كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " إنَّمَا يُرِيدُ بَعْضَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى " الْخَبَبِ " فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الطَّوَافِ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِ مَكَّةَ.

[حَدِيثُ طَافَ النَّبِيُّ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِير يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ]

الْمِحْجَنُ: عَصًا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ.

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ رَاكِبًا. وَقِيلَ: إنَّ الْأَفْضَلَ: الْمَشْيُ. وَإِنَّمَا طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا لِتَظْهَرَ أَفْعَالُهُ، فَيُقْتَدَى بِهَا وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ. وَهُوَ أَنَّ

ص: 72

229 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ رَاجِحًا بِالنَّظَرِ إلَى مَحِلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. فَإِذَا عَارَضَهُ أَمْرٌ آخَرُ أَرْجَحُ مِنْهُ: قُدِّمَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ الْفَضِيلَةُ الْأُولَى، حَتَّى إذَا زَالَ ذَلِكَ الْمُعَارَض الرَّاجِحُ: عَادَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. وَهَذَا إنَّمَا يَقْوَى إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ. وَقَدْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِقَرَائِنَ وَمُنَاسَبَاتٍ. وَقَدْ يَضْعُفُ، وَقَدْ يَقْوَى بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ. وَهَهُنَا يَصْطَدِمُ الظَّاهِرُ مَعَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمَعَانِي.

1 -

وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُؤْمَنُ بَوْلُ الْبَعِيرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُعَرِّضْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ لِلنَّجَاسَةِ. وَقَدْ مُنِعَ لِتَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا.

1 -

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِلَامِ بِالْمِحْجَنِ، إذَا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِتَقْبِيلِهِ.

اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ تُعِمُّ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا بِالِاسْتِلَامِ، أَمْ لَا؟ وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ. وَهُوَ اخْتِصَاصُ الِاسْتِلَامِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. وَعِلَّتُهُ: أَنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام. وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ فَاسْتَقْصَرَا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ. كَذَا ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ مُنَاسِبٌ. وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَيَقُولُ " لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا " وَاتِّبَاعُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَوْلَى. فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعِبَادَاتِ: الِاتِّبَاعُ، لَا سِيَّمَا إذَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ مَعَ تَوَهُّمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ. وَهُنَا أَمْرٌ زَائِدٌ. وَهُوَ إظْهَارُ مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا تُرِكَ فِيهِ الِاسْتِلَامُ.

ص: 73

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ - قَالَ «سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ: فِيهِ جَزُورٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ: وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ. فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: كَأَنَّ إنْسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَتْهُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ التَّمَتُّعِ]

[حَدِيثُ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ]

" أَبُو جَمْرَةَ " بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ " نَصْرٌ " بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، الضُّبَعِيُّ: بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ " الظَّاهِرُ: أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ.

وَقَوْلُهُ " أَمَرَنِي بِهَا " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ " وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا " وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَرِهَهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ: هَلْ هِيَ الْمُتْعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ؟ وَالْأَقْرَبُ: أَنَّهَا هَذِهِ. فَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَالنَّهْيَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْأَوْلَى، وَالْمَشُورَةُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُنَادِي. .. إلَخْ فِيهِ: اسْتِئْنَاسٌ بِالرُّؤْيَا فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، لِمَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ قَدْرِهَا، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَاسُ وَالتَّرْجِيحُ لَا يُنَافِي الْأُصُولَ.

وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " اللَّهُ أَكْبَرُ. سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَأَيَّدَ بِالرُّؤْيَا وَاسْتَبْشَرَ بِهَا. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.

ص: 74

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى. فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ. وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ]

قَوْلُهُ " تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " قِيلَ ": هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّمَتُّعِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ. وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَارِنًا عِنْدَ قَوْمٍ، وَالْقِرَانُ فِيهِ تَمَتُّعٌ وَزِيَادَةٌ - إذْ فِيهِ إسْقَاطُ أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ، وَأَحَدُ الْمِيقَاتَيْنِ - سُمِّيَ تَمَتُّعًا عَلَى هَذَا، بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. وَقَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " تَمَتَّعَ " عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ، كَمَا قِيلَ بِمِثْلِ هَذَا فِي حَجَّةِ

ص: 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ، وَأُرِيدَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْمُحْتَمَلِ: مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ - هُوَ الَّذِي رَوَى " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ ".

وَقَوْلُهُ " وَسَاقَ الْهَدْيَ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَوْقِ الْهَدْيِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ. وَقَوْلُهُ " فَبَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " نَصٌّ فِي الْإِهْلَالِ بِهِمَا.

وَلَمَّا ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَارَنَ - بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا - احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ اخْتِيَارِهِ. فَيَجْعَلُ الْإِهْلَالَ فِي قَوْلِهِ: أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَكُونُ قَدْ قَدَّمَ فِيهَا لَفْظَ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ عَلَى لَفْظِهِ بِالْحَجِّ. وَلَا يُرَادُ بِهِ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا رَوَاهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نَحْتَاجُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إلَى ارْتِكَابِ كَوْنِ " الْقِرَانِ " بِمَعْنَى: تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ. فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا. فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ: غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ.

وَقَوْلُهُ " فَتَمَتَّعَ النَّاسُ إلَى آخِرِهِ " حَمْلٌ عَلَى التَّمَتُّعِ اللُّغَوِيِّ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَتِّعِينَ بِمَعْنَى التَّمَتُّعِ الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ ابْتِدَاءً. وَإِنَّمَا تَمَتَّعُوا بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ. فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ " التَّمَتُّعُ " فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، أَوْ يَكُونُونَ تَمَتَّعُوا بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ابْتِدَاءً. نَظَرًا إلَى الْمَآلِ. ثُمَّ إنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانُوا مُتَمَتِّعِينَ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ أَهْدَى - إلَى آخِرِهِ " مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .

وَقَوْلُهُ " فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ هَذَا الطَّوَافِ فِي الِابْتِدَاءِ.

1 -

وَقَوْلُهُ " فَلْيُقَصِّرْ " أَيْ مِنْ شَعْرِهِ. وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا. قِيلَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْحَلْقِ حَتَّى يَبْقَى عَلَى الرَّأْسِ مَا يَحْلِقُهُ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْحِلَاقَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ الْحِلَاقِ فِي الْعُمْرَةِ. كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ. وَاسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِي قَوْلِهِ " فَلْيَحْلِقْ " عَلَى أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ " فَلْيَحْلِلْ " إنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يَصِيرُ حَلَالًا. إذْ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَ فِعْلِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَالْحِلَاقِ فِيهَا: إلَى تَجْدِيدِ فِعْلٍ آخَرَ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْلَالِ: هُوَ فِعْلُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ.

1 -

وَقَوْلُهُ " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الرُّجُوعِ إلَى الصَّوْمِ عَنْ الْهَدْيِ بِعَدَمِ وِجْدَانِهِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ صِيَامَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ إذَا عَدَمَ الْهَدْيُ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِهَذَا الْبَدَلِ فِي الْحَالِ، لِقَوْلِهِ " ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ " وَأَيَّامُ الْحَجِّ مَحْصُورَةٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ فِي الْحَجِّ إلَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّوْمِ فِي الْحَالِ، عَاجِزًا عَنْ الْهَدْيِ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَاهُ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " فِي الْحَجِّ " هُوَ نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ الصِّيَامُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْحَجِّ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا الْهَدْيُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحَجِّ: فَقِيلَ لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ: جَوَازُ الْهَدْيِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا: مَنْ أَجَازَ الْهَدْيَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ إثْبَاتِ مَقْدَمِهِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ الْحَجِّ، أَوْ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الْبَاقِيَةَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا: أَنَّهَا مِنْ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتَهَا مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ.

وَقَوْلُهُ " إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ " دَلِيلٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّجُوعِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَهْلِ، لَا الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ.

وَقَوْلُهُ " وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ بِذَلِكَ

1 -

ص: 77

232 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: «عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخَبَبِ وَهُوَ الرَّمَلُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ.

وَقَوْلُهُ " ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ " يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخَبَبِ، عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ.

1 -

وَقَوْلُهُ " عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عِنْدَ الْمَقَامِ. وَ " طَوَافُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَاسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّعْيِ: أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ طَوَافٍ كَيْفَ كَانَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ طَوَافٍ وَاجِبٍ. وَهَذَا الْقَائِلُ يَرَى أَنْ طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا.

وَقَوْلُهُ " ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ. .. إلَخْ " امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْقَارِنِ.

وَقَوْلُهُ " وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ " يُبَيِّنُ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِأَنْ " لَا يَحِلُّ مِنْهَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا ".

[حَدِيثُ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّلْبِيدِ لِشَعْرِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَ " التَّلْبِيدُ " أَنْ يَجْعَلَ فِي الشَّعْرِ مَا يُسَكِّنُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاشِ، كَالصَّبِرِ أَوْ الصَّمْغِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلتَّلْبِيدِ أَثَرًا فِي تَأْخِيرِ الْإِحْلَالِ إلَى النَّحْرِ. وَفِيهِ: أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَوْمَ النَّحْرِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .

ص: 78

233 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ «أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ» قَالَ الْبُخَارِيُّ " يُقَالُ: إنَّهُ عُمَرُ ". وَلِمُسْلِمٍ «نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ» وَلَهُمَا بِمَعْنَاهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

/ وَقَوْلِهَا " مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ؟ " هَذَا الْإِحْلَالُ: هُوَ الَّذِي وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ فِي فَسْخِهِمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، لَيَحِلُّوا بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ. وَلَمْ يَحِلَّ هُوَ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ.

وَقَوْلُهَا " مِنْ عُمْرَتِكَ " يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم قَارِنًا. وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهَا " مِنْ عُمْرَتِكَ " أَيْ مِنْ عُمْرَتِكَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِكَ وَقِيلَ " مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ لَمْ تَحِلَّ بِعُمْرَتِكَ، أَيْ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَحَلَّلَ بِهَا النَّاسُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: كَوْنُ " مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاءِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهَا " عُمْرَتِكَ " تَقْتَضِي الْإِضَافَةُ فِيهِ تَقَرُّرَ عُمْرَةٍ لَهُ تُضَافُ إلَيْهِ. وَالْعُمْرَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّحَلُّلُ لَمْ تَكُنْ مُتَقَرِّرَةً وَلَا مَوْجُودَةً وَقِيلَ: يُرَادُ بِالْعُمْرَةِ الْحَجُّ بِنَاءً عَلَى النَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الزِّيَارَةُ. وَالزِّيَارَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَجِّ، أَيْ مَوْجُودَةُ الْمَعْنَى فِيهِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ إذَا انْتَقَلَ إلَى حَقِيقَةٍ عُرْفِيَّةٍ كَانَتْ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ.

[حَدِيثُ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى]

يُرَادُ بِآيَةِ الْمُتْعَةِ: قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ

ص: 79

234 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا - أَوْ قَلَّدْتُهَا - ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ. وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا " نَفْيٌ مِنْهُ لِمَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ الثَّابِتِ بِالْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّفْعُ مُمْكِنًا لَمَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ " وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا " وَمُرَادُهُ بِنَفْيِ نَسْخِ الْقُرْآنِ: الْجَوَازُ، وَيَنْفِي وُرُودَ السُّنَّةِ بِالنَّهْيِ: تَقَرُّرُ الْحُكْمِ وَدَوَامُهُ. إذْ لَا طَرِيقَ لِرَفْعِهِ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ. إذْ لَوْ نُسِخَ بِهِ لَقَالَ: وَلَمْ يُتَّفَقْ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ الْحُكْمِ. فَكَانَ يُحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ، كَمَا نُفِيَ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِالنَّسْخِ. وَوُرُودُ السَّنَةِ بِالنَّهْيِ

1 -

وَقَوْلُهُ " قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ " هُوَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ عُمَرُ رضي الله عنه. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عُمَرُ: هُوَ مُتْعَةُ الْحَجِّ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ الْحَجُّ فِي عَامِهِ، خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: الْمُتْعَةُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، أَوْ لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ هَاتَيْنِ الْمُتْعَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِجَوَازِهِ. وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورُ قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ. وَحُمِلَ عَلَى الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ. وَحَذَرًا أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ الْأَفْضَلَ، وَيَتَتَابَعُوا عَلَى غَيْرِهِ، طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

[بَابُ الْهَدْيِ]

[حَدِيثُ فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ مِنْ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ لِمَنْ لَا يُسَافِرُ مَعَهُ. وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِهِ لِلْهَدْيِ، وَإِشْعَارِهِ مِنْ بَلَدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَارَ مَعَ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الْإِشْعَارَ إلَى حِينِ الْإِحْرَامِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِشْعَارِ فِي الْجُمْلَةِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ. وَهُوَ شَقُّ صَفْحَةِ السَّنَامِ طُولًا وَسَلْتُ الدَّمِ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ يَكُونُ فِي الْأَيْمَنِ، أَوْ فِي الْأَيْسَرِ؟ وَمَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ: إنَّهُ مُثْلَةٌ. وَالْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى.

ص: 80

235 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غَنَمًا» .

236 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ ارْكَبْهَا. فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا، يُسَايِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» وَفِي لَفْظٍ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ الثَّالِثَةِ: ارْكَبْهَا. وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَعَثَ بِهَدْيِهِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ، وَنُقِلَ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ فَتْلِ الْقَلَائِدِ.

[حَدِيثُ أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ مَرَّةً غَنَمًا]

فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إهْدَاءِ الْغَنَمِ.

[حَدِيثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا]

اخْتَلَفُوا فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ عَلَى مَذَاهِبَ. فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَرَدَتْ بِهِ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ سِيرَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ مُجَانَبَةِ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَتَوَقِّيهَا. وَرُدَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْكَبْ هَدْيَهُ، وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِرُكُوبِ الْهَدَايَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَرْكَبُهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَرْكَبُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيَرْكَبُهَا مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ. وَهَذَا الْمَنْقُولُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " ارْكَبْهَا إذَا احْتَجْتَ إلَيْهَا " فَحُمِلَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ رُكُوبِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ.

وَقَوْلُهُ " وَيْلَكَ " كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَفِيهَا هَهُنَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْبَدَنَةِ ذَلِكَ لِمُرَاجَعَتِهِ وَتَأَخُّرِ امْتِثَالِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. لِقَوْلِ الرَّاوِي " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ "

ص: 81

237 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا. وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرَادَ بِهَا مَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ. وَيَكُونُ مِمَّا جَرَى عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمَوْضُوعِهِ. كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام " تَرِبَتْ يَدَاكَ " وَ " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ " وَكَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ " وَيْلَهُ " وَنَحْوِهِ. وَمَنْ يَمْنَعُ رُكُوبَ الْبَدَنَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ: يَحْمِلُ هَذِهِ الصُّورَةَ عَلَى ظُهُورِ الْحَاجَةِ إلَى رُكُوبِهَا فِي الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ.

[حَدِيثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْقِيَامِ عَلَى الْهَدْيِ وَذَبْحِهِ، وَالتَّصَدُّقِ بِهِ.

وَقَوْلُهُ " وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا " يَدُلُّ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالْجَمِيعِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَوَاجِبٌ فِي بَعْضِ الدِّمَاءِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُلُودَ تَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ فِي التَّصَدُّقِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. فَحُكْمُهَا حُكْمُهُ. وَقَوْلُهُ " أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا " ظَاهِرُهُ: عَدَمُ الْإِعْطَاءِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَجْهٍ. وَلَا شَكَّ فِي امْتِنَاعِهِ إذَا كَانَ الْمُعْطَى أُجْرَةَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِبَعْضِ الْهَدْيِ وَالْمُعَاوَضَةُ فِي الْأُخْرَى كَالْبَيْعِ. وَأَمَّا إذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ خَارِجًا عَنْ اللَّحْمِ الْمُعْطَى، وَكَانَ اللَّحْمُ زَائِدًا عَلَى الْأُجْرَةِ، فَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجُوزَ. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا " وَأَطْلَقَ الْمَنْعَ مِنْ إعْطَائِهِ مِنْهَا. وَلَمْ يُقَيِّدْ الْمَنْعَ بِالْأُجْرَةِ. وَاَلَّذِي يُخْشَى مِنْهُ فِي هَذَا: أَنْ تَقَعَ مُسَامَحَةٌ فِي الْأُجْرَةِ لِأَجْلِ مَا يَأْخُذُهُ الْجَازِرُ مِنْ اللَّحْمِ. فَيَعُودُ إلَى الْمُعَاوَضَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَمَنْ يَمِيلُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ الذَّرَائِعِ يَخْشَى مِنْ مِثْلِ هَذَا.

ص: 82

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ، فَنَحَرَهَا. فَقَالَ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .

239 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه. فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ. فَسَلَّمْت عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ. ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: اُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ. ثُمَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ نَحْرِ الْإِبِلِ قَائِمَة]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَحْرِ الْإِبِلِ مِنْ قِيَامٍ. وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أَيْ سَقَطَتْ وَهُوَ يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَائِمَةً.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ تَكُونَ مَعْقُولَةً. وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى وَبَعْضُهُمْ سَوَّى بَيْنَ نَحْرِهَا بَارِكَةً وَقَائِمَةً. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: تُنْحَرُ بَارِكَةً. وَالسُّنَّةُ أَوْلَى.

ص: 83

حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ» .

وَفِي رِوَايَةٍ " فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الْغُسْلِ لِلْمُحْرِمِ]

[حَدِيثُ اخْتِلَاف ابْن عباس والمسور فِي غَسَلَ الْمُحْرِم رأسه]

" الْقَرْنَانِ " الْعَمُودَانِ اللَّذَانِ تُشَدُّ فِيهِمَا الْخَشَبَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ " الْأَبْوَاءُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ: مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا حُكْمٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ سَائِغٌ شَائِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ عِلْمَ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ: قَبُولُ خَبَرِهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ فِيمَا أُرْسِلَ فِيهِ. وَ " الْقَرْنَانِ " فَسَّرَهُمَا الْمُصَنِّفُ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّسَتُّرِ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ فِي الطَّهَارَةِ. لِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ " اُصْبُبْ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاسْتِعَانَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَوَرَدَ فِي تَرْكِهَا شَيْءٌ لَا يُقَابِلُهَا فِي الصِّحَّةِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ فِي حَالِ طَهَارَتِهِ، بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَدَثِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيكِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ فِي غُسْلِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى نَتْفِ الشَّعْرِ.

وَقَوْلُهُ " أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ؟ " يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْغُسْلِ. فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الشَّيْءِ: إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَصْلِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ كَانَ عِنْدَهُ مُتَقَرِّرُ الْجَوَازِ، إذْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ غُسْلِ الرَّأْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ. إذْ الشَّعْرُ عَلَيْهِ، وَتَحْرِيكُ الْيَدِ فِيهِ

ص: 84

240 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيُّ رضي الله عنه مِنْ الْيَمَنِ. فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ: أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ. وَحَاضَتْ عَائِشَةُ. فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ: أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

يُخَافُ مِنْهُ نَتْفُ الشَّعْرِ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ غُسْلِ الْمُحْرِمِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ جُنُبًا، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا، فَطَهُرَتْ. وَبِالْجُمْلَةِ الْأَغْسَالُ الْوَاجِبَةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ تَبَرُّدًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُهُ. وَزَادَ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ. وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. أَعْنِي غَسْلَ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَلَا يَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ حِكَايَةُ حَالٍ، لَا عُمُومُ لَفْظٍ. وَحِكَايَةُ الْحَالِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا. وَتَحْتَمِلُ أَنْ لَا. وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا تَقُومُ حُجَّةٌ.

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ]

[حَدِيثُ أَهَلَّ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ]

قَوْلُهُ " أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " الْإِهْلَالُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ. ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّلْبِيَةِ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا. وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ.

وَقَوْلُهُ " بِالْحَجِّ " ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَهُوَ رِوَايَةُ جَابِرٍ.

وَقَوْلُهُ " وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ " كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، إذَا لَمْ يَكُنْ هَدْيٌ.

وَقَوْلُهُ " أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ وَانْعِقَادِ إحْرَامِ الْمُعَلِّقِ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ الْغَيْرُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَدَّى هَذَا إلَى صُوَرٍ أُخْرَى أَجَازَ فِيهَا التَّعْلِيقَ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ يَقُولُ: الْحَجُّ مَخْصُوصٌ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ. وَيُجْعَلُ مَحَلَّ النَّصِّ مِنْهَا.

وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً " فِيهِ عُمُومٌ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. وَفَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ: كَانَ جَائِزًا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: إنَّ عِلَّتَهُ حَسْمُ مَادَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ.

1 -

وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: هَلْ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى جَوَازِهِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ إلَى مَنْعِهِ وَقِيلَ: إنَّ هَذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ. وَفِي هَذَا حَدِيثٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا. أَعْنِي فِي كَوْنِهِ مَخْصُوصًا.

وَقَوْلُهُ " فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا " يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ " فَيَطُوفُوا " وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ يَطُوفُوا وَيَسْعَوْا. فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ السَّعْيِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ الطَّوَافَ فِي الطَّوْفِ بِالْبَيْتِ، وَفِي السَّعْيِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى طَوَافًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .

1 -

ص: 86

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَلَامِ. فَإِنَّهُمْ إذَا حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَوَاقَعُوا النِّسَاءَ، كَانَ إحْرَامُهُمْ لِلْحَجِّ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ الْمُوَاقَعَةِ، وَالْإِنْزَالِ. فَحَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي قُرْبِ الزَّمَانِ بِأَنْ قِيلَ " وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ " وَكَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي الْحَجِّ. وَهُوَ الشَّعَثُ وَعَدَمُ التَّرَفُّهِ. فَإِذَا طَالَ الزَّمَنُ فِي الْإِحْرَامِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ. وَإِذَا قَرُبَ زَمَنُ الْإِحْرَامِ مِنْ زَمَنِ التَّحَلُّلِ: ضَعُفَ هَذَا الْمَقْصُودُ، أَوْ عَدِمَ وَكَأَنَّهُمْ اسْتَنْكَرُوا زَوَالَ هَذَا الْمَقْصُودِ أَوْ ضَعْفَهُ، لِقُرْبِ إحْرَامِهِمْ مِنْ تَحَلُّلِهِمْ

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ» فِيهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: جَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ " لَوْ " فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَهُوَ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: إنَّ كَرَاهَتَهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي التَّلَهُّفِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، إمَّا طَلَبًا كَمَا يُقَالُ: لَوْ فَعَلْتُ كَذَا حَصَلَ لِي كَذَا. وَإِمَّا هَرَبًا كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ كَذَا لَمَا وَقَعَ لِي كَذَا وَكَذَا. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صُورَةِ عَدَمِ التَّوَكُّلِ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ وَأَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي تَمَنِّي الْقُرُبَاتِ - كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - فَلَا كَرَاهَةَ هَذَا أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْهُ.

الثَّانِي: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَنَّى مَا يَكُونُ بِهِ مُتَمَتِّعًا لَوْ وَقَعَ. وَإِنَّمَا يَتَمَنَّى الْأَفْضَلَ مِمَّا حَصَلَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْآخَرِ. ثُمَّ يَقْتَرِنُ بِالْمَفْضُولِ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. وَهَهُنَا كَذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا التَّلَهُّفَ اُقْتُرِنَ بِهِ قَصْدُ مُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَهَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّمَتُّعُ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَفْضَلَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ التَّمَتُّعُ بِمُجَرَّدِهِ أَفْضَلَ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " مُعَلَّلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَفَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ: يَقْتَضِي التَّحَلُّلَ

ص: 87

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ. وَلَوْ تَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ: لَحَصَلَ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ التَّقْصِيرِ بِالْحَلْقِ فِي مَنْعِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْحَلْقِ. فَلَوْ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّصِّ، لَمْ يَمْتَنِعْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ يُمْكِنُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالتَّقْصِيرِ. وَيَبْقَى النَّصُّ مَعْمُولًا بِهِ فِي مَنْعِ الْحَلْقِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَحَيْثُ حَكَمَ بِامْتِنَاعِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَعَلَّلَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَى التَّقْصِيرَ مَجْرَى الْحَلْقِ فِي امْتِنَاعِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ بِالْمَعْنَى.

1 -

وَقَوْلُهُ " وَحَاضَتْ عَائِشَةُ - إلَى آخِرِهِ " يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّوَافِ عَلَى الْحَائِضِ إمَّا لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا لِمُلَازَمَتِهِ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ. وَيَدُلُّ عَلَى فِعْلِهَا لِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ إلَّا ذَلِكَ. وَعَلَى أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ.

وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ " فِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَمْ تَسْعَ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى صَحِيحَةٌ، ذَكَرَ فِيهَا " أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ ".

1 -

وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا: أَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ. فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا لَزِمَ مِنْ تَأْخِيرِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تَأْخِيرُ السَّعْيِ، إذْ هِيَ قَدْ فَعَلَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَى السَّعْيِ لَفَعَلَتْ فِي السَّعْيِ مَا فَعَلَتْ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلًا آخَرَ: أَنَّ السَّعْيَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافٍ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا صَحَّ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - لِاعْتِقَادِ هَذَا الْقَائِلِ وُجُوبَ طَوَافِ الْقُدُومِ.

وَقَوْلُهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ " تُرِيدُ الْعُمْرَةَ الَّتِي فَسَخُوا الْحَجَّ إلَيْهَا، وَالْحَجُّ الَّذِي أَنْشَئُوهُ مِنْ مَكَّةَ. وَقَوْلُهَا " وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟ " يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ لَهَا الْعُمْرَةُ، وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ الْأَوَّلِ إلَى الْعُمْرَةِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا إلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى اقْتَضَتْ: أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام أَمَرَهَا بِتَرْكِ عُمْرَتِهَا، وَنَقْضِ رَأْسِهَا، وَامْتِشَاطِهَا، وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ لَمَّا حَاضَتْ لِامْتِنَاعِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ، وَمُزَاحَمَتِهِ وَقْتَ الْحَجِّ وَحَمَلُوا أَمْرَهُ عليه السلام -

ص: 88

241 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ «قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِتَرْكِ الْعُمْرَةِ عَلَى تَرْكِ الْمُضِيِّ فِي أَعْمَالِهَا. لَا عَلَى رَفْضِهَا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا. وَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، مَعَ بَقَاءِ الْعُمْرَةِ. فَكَانَتْ قَارِنَةً - اقْتَضَى ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهَا عُمْرَةٌ. فَأَشْكَلَ حِينَئِذٍ قَوْلُهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ " إذْ هِيَ أَيْضًا قَدْ حَصَلَ لَهَا حَجٌّ وَعُمْرَةٌ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ كَوْنِهَا صَارَتْ قَارِنَةً. فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ. فَأَوَّلُوا قَوْلَهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ، وَعُمْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ حَجٍّ. وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ غَيْرِ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ، لِيَحْصُلَ لَهَا قَصْدُهَا فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ عَنْ حَجٍّ، وَحَجٍّ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ. هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي هَذَا. مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَلْجَأَهُمْ إلَى مِثْلِ هَذَا.

وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ - إلَى آخِرِهِ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ " أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ لَا يُحْرِمُ بِهَا مِنْ جَوْفِهَا. بَلْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ. فَإِنَّ " التَّنْعِيمَ " أَدْنَى الْحِلِّ. وَهَذَا مُعَلَّلٌ بِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فِي الْعُمْرَةِ، كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ. فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. فَإِنَّ " عَرَفَةَ " مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحِلِّ: هَلْ يَكُونُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ صَحِيحًا وَيَلْزَمُهُ دَمٌ، أَوْ يَكُونُ بَاطِلًا؟ وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَجَمَدَ بَعْضُ النَّاسِ فَشَرْطُ الْخُرُوجِ إلَى التَّنْعِيمِ بِعَيْنِهِ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْخُرُوجِ إلَى مُطْلَقِ الْحِلِّ. وَمَنْ عَلَّلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفَهِمَ الْمَعْنَى - وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ - اكْتَفَى بِالْخُرُوجِ إلَى مُطْلَقِ الْحِلِّ.

ص: 89

242 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ» .

243 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - وَأَنَا جَالِسٌ - كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ]

حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ. وَرَدُّوهُ إلَى الْعُمْرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا. وَهُوَ الْمَحْكِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ " وَنَحْنُ نَقُولُ لِبَيْتٍ بِالْحَجِّ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا عَلَى بَعْضِهِمْ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ «فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ. وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ» .

[حَدِيثُ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ]

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ: أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ كَامِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّحَابَةِ لَمَّا قَالُوا " أَيُّ الْحِلِّ؟ " قَالَ " الْحِلُّ كُلُّهُ " وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهُ لِاسْتِبْعَادِهِمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْحِلِّ. وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْإِحْرَامِ. فَأُجِيبُوا بِمَا يَقْتَضِي التَّحَلُّلَ الْمُطْلَقَ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا: قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «يَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ» وَهَذَا يُشْعِرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِبْعَادِ التَّحَلُّلِ الْمُبِيحِ لِلْجِمَاعِ

[حَدِيثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ]

" الْعَنَقَ " انْبِسَاطُ السَّيْرِ. وَ " النَّصُّ " فَوْقَ ذَلِكَ.

ص: 90

244 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ. فَقَالَ: رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ. اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أُسَامَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَقَدْ أَدْخَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ. وَ " الْعَنَقَ " بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ. وَ " النَّصُّ " بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - ضَرْبَانِ مِنْ السَّيْرِ. وَالنَّصُّ: أَرْفَعُهُمَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِازْدِحَامِ: كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَخَفَّ. وَعِنْدَ وُجُودِ الْفَجْوَةِ - وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْفَسِحُ - يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَشَدَّ. وَذَلِكَ بِاقْتِصَادٍ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ» .

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ]

" الشُّعُورُ " الْعِلْمُ. وَأَصْلُهُ: مِنْ الْمَشَاعِرِ. وَهِيَ الْحَوَاسُّ. فَكَأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْحَوَاسِّ، وَ " النَّحْرُ " مَا يَكُونُ فِي اللَّبَّةِ، وَ " الذَّبْحُ " مَا يَكُونُ فِي الْحَلْقِ. وَالْوَظَائِفُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّمْيُ. ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ. ثُمَّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ. ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمَشْرُوعُ فِيهَا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي طَلَبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَجَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ - مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - يَرَى أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْقَارِنَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ قَدْ تَدَاخَلَا. فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّهِ. وَالْعُمْرَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ. وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا: قَوْلُهُ عليه السلام فِي الْقَارِنِ " حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي

ص: 91

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَنَّ الْإِحْلَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. فَإِذَا حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ: فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَيَقَعُ الْحَلْقُ فِيهِمَا قَبْلَ الطَّوَافِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ نَظَرٌ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ: مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا فِي آخِرِ الْأَمْرِ " وَأَنَّهُ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ. وَهَذَا إنَّمَا ثَبَتَ بِأَمْرٍ اسْتِدْلَالِيٍّ، لَا نَصِّيٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ كَثِيرٍ، أَعْنِي: كَوْنَهُ عليه السلام قَارِنًا. وَابْنُ الْجَهْمِ بَنَى عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُفْرِدًا وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَبَعِيدُ الثُّبُوتِ، إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِجْمَاعَ النَّقْلِيَّ الْقَوْلِيَّ. وَإِنْ أَرَادَ السُّكُوتِيَّ: فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ أَيْضًا.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَظَائِفَ أَرْبَعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ: وَجَعَلَ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَبًّا، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعَانِ تَقْدِيمَ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَلْقًا قَبْلَ وُجُودِ التَّحَلُّلَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ مِثْلُهُ. وَقَدْ بُنِيَ الْقَوْلَانِ لَهُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، أَوْ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ نُسُكٌ، جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ: لَمْ يَجُزْ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْحَلْقِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ. وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ. وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ. وَيَرَى - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الرَّمْيِ. إذْ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا: أَنَّهُ مَطْلُوبٌ، مُثَابٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّحَلُّلِ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إنْ قُدِّمَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إنْ كَانَ جَاهِلًا. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا: فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي، دُونَ الْعَامِدِ: قَوِيٌّ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَفْعَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ، بِقَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرَخَّصَةُ فِي التَّقْدِيمِ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ: إنَّمَا قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ " لَمْ أَشْعُرْ " فَيُخَصَّصُ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَتَبْقَى حَالَةُ الْعَمْدِ عَلَى أَصْلِ

ص: 92

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الدَّمِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، عِنْدَ تَقَدُّمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ: فَإِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عليه السلام " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِي التَّقْدِيمِ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِثْمِ نَفْيُ وُجُوبِ الدَّمِ.

وَادَّعَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ: أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام " لَا حَرَجَ " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعَنَى بِذَلِكَ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا. وَفِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الظُّهُورِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُنَازِعُهُ خُصُومُهُ فِيهِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ. فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ " لَا حَرَجَ " كَثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ يَقْتَضِي نَفْيَ الضِّيقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا السُّؤَالُ عَنْ تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: فَلَا تَعُمُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّمَ، وَحَمَلَ نَفْيَ الْحَرَجِ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ، فَيَشْكُلُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ بَيَانِ وُجُوبِ الدَّمِ. فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى تِبْيَانِ هَذَا الْحُكْمِ. فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهَا بَيَانُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ فِي الرِّوَايَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا. فَلَا يَلْزَمُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيُبْنَى أَيْضًا عَلَى الْقَاعِدَةِ: فِي أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لَمْ يَجُزْ اطِّرَاحُهُ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُسَاوِيه بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ. وَالْحُكْمُ عَلِقَ بِهِ. فَلَا يُمْكِنُ اطِّرَاحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهِ. إذْ لَا يُسَاوِيهِ. فَإِنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ الرَّاوِي " فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ " فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى فِي الْوُجُوبِ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْكِ لَفْظًا عَامًا عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَقْتَضِي جَوَازَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مُطْلَقًا. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " لَا حَرَجَ " بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حِينَئِذٍ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ مِنْ الرَّاوِي: إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ. وَذَلِكَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ السُّؤَالِ، وَكَوْنِهِ وَقَعَ عَنْ الْعَمْدِ أَوْ عَدَمِهِ، وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصِّينَ بِعَيْنِهِ. فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي

ص: 93

245 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ «أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم» .

246 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

حَالِ الْعَمْدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[حَدِيثُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى بِسَبْعٍ كَغَيْرِهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْوُقُوفِ لِرَمْيِهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَمْرَةَ تُرْمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَدَلِيلٌ عَلَى مُرَاعَاةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْحَجِّ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ " قَاصِدًا بِذَلِكَ الْإِعْلَامَ بِهِ، لِيُفْعَلَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِنَا " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ " السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ " فَرَدَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ

[حَدِيثُ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ]

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مَعًا. وَعَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ظَاهَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ، وَاقْتَصَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُقَصِّرِينَ عَلَى مَرَّةٍ. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ

ص: 94

247 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ. فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: اُخْرُجُوا» . وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «عَقْرَى، حَلْقَى. أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْفِرِي» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَلَعَلَّهُ وَقَعَ فِيهِمَا مَعًا. وَهُوَ الْأَقْرَبُ. وَقَدْ كَانَ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ تَوَقُّفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلْقِ. أَمَّا فِي الْحُدَيْبِيَةِ: فَلِأَنَّهُمْ عَظُمَ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَمَامِ مَقْصُودِهِمْ، مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ وَكَمَالِ نُسُكِهِمْ. وَأَمَّا فِي الْحَجِّ. فَلِأَنَّهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ. وَكَانَ مَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ شَعْرَهُ اعْتَقَدَ: أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْحَلْقِ. إذْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ. فَكَرَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ لِلْمُحَلِّقَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَأَتَمُّوا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. فَقِيلَ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا ".

[حَدِيثُ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا تَنْفِرُ حَتَّى تَطُوفَ. لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ " فَقِيلَ:" إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ - إلَى آخِرِهِ " فَإِنَّ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مُوجِبٌ لِلْحَبْسِ.

ص: 95

248 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَائِضَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ. لَا تَقْعُدُ لِأَجْلِهِ. لِقَوْلِهِ " فَانْفِرِي ".

وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ " عَقْرَى " مَفْتُوحُ الْعَيْنِ، سَاكِنُ الْقَافِ، وَ " حَلْقَى " مَفْتُوحُ الْحَاءِ، سَاكِنُ اللَّامِ. وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: ضَبْطُهُمَا. فَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ - حَتَّى لَا يَكَادَ يُعْرَفُ غَيْرُهُ - أَنَّ آخِرَ اللَّفْظَتَيْنِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ " عَقْرًا حَلْقًا " بِالتَّنْوِينِ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ دُعَاءٍ. فَأَجْرَاهُ مَجْرَى كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ بِأَلْفَاظِ الْمَصَادِرِ. فَإِنَّهَا مُنَوَّنَةٌ. كَقَوْلِهِمْ سَقْيًا وَرَعْيًا، وَجَدْعًا، وَكَيًّا " وَرَأْيٌ أَنَّ " عَقْرَى " بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ نَعْتٌ لَا دُعَاءٌ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُونَ صَحِيحٌ أَيْضًا.

وَمِنْهَا: مَا تَقْتَضِيهِ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ. فَقِيلَ " عَقْرَى " بِمَعْنَى: عَقَرَهَا اللَّهُ. وَقِيلَ: عَقَرَ قَوْمَهَا. وَقِيلَ: جَعَلَهَا عَاقِرًا، لَا تَلِدُ. وَأَمَّا " حَلْقَى " فَإِمَّا بِمَعْنَى حَلَقَ شَعْرَهَا، أَوْ بِمَعْنَى أَصَابَهَا وَجَعٌ فِي حَلْقِهَا، أَوْ بِمَعْنَى تَحْلِقُ قَوْمَهَا بِشُؤْمِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي كَثُرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا يُرَادَ بِهِ أَصْلُ مَوْضُوعِهِ. كَقَوْلِهِمْ: تَرِبَتْ يَدَاكَ. وَمَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ. وَأَفْلَحَ وَأَبِيهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ أَصْلُ مَوْضُوعِهَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا.

[حَدِيثُ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ. وَهَذَا بَعْدُ تَقْرِيرٌ أَنَّ إخْبَارَ الصَّحَابِيِّ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ كَحِكَايَتِهِ لَهَا. وَلَا دَمَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَلَا وُجُوبَ لَهُ عِنْدَهُ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْ الْحَائِضِ. وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَعْنِي ابْنَ عُمَرَ، أَوْ مَا يُقَرِّبُ - أَيْ مِنْ الْخِلَافِ - مِنْهُ.

ص: 96

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ» .

250 -

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ «جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ. وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى]

أُخِذَ مِنْهُ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ: وَهَذَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُهُ " أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِذْنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِذْنُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَبِيتُ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ. وَمَدْلُولُ الْحَدِيثِ: تَعْلِيقُ هَذَا الْحُكْمِ بِوَصْفِ السِّقَايَةِ، وَبِاسْمِ الْعَبَّاسِ: فَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. فَأَمَّا غَيْرُ الْعَبَّاسِ: فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحُكْمُ اتِّفَاقًا، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِآلِ الْعَبَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّهُ فِي بَنِي هَاشِمٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّ، وَقَالَ: كُلُّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْمَبِيتِ لِلسِّقَايَةِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ: فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ بِهَا، حَتَّى لَوْ عُمِلَتْ سِقَايَةٌ أُخْرَى لَمْ يُرَخَّصْ فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِهَا. وَالْأَقْرَبُ: اتِّبَاعُ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعِلَّةَ: الْحَاجَةُ إلَى إعْدَادِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ

[حَدِيثُ جَمَعَ النَّبِيُّ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَمْعِ التَّأْخِيرِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَهِيَ " جَمْعٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَقْتَ الْغُرُوبِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ إلَّا وَقَدْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ بِعُذْرِ النُّسُكِ، أَوْ بِعُذْرِ السَّفَرِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ سَفَرًا يَجْمَعُ فِيهِ، هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَمْ

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لَا؟ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْجَمْعَ بِعُذْرِ النُّسُكِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ. وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ. وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ بِعُذْرِ النُّسُكِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي طُولِ سَفَرِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَقْوَى أَنْ يَكُونَ لِلنُّسُكِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَجَدِّدَ عَنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي إضَافَةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ: إمَّا بِأَنْ يَرِدَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ خَاصٌّ، أَوْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» فَقَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْجَمْعِ سَبَبَانِ: السَّفَرُ، وَالنُّسُكُ. فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى أَحَدِهِمَا، عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ نَظَرًا. مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّيْرَ لَمْ يَكُنْ مُجِدًّا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَازِلًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَنْشَأَ الْحَرَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْجِدُّ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ. أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ: فَلَا، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تُقَامَ الْمَغْرِبُ بِعَرَفَةَ. وَلَا يَحْصُلُ جِدُّ السَّيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا. وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ: مَا إذَا كَانَ الْجِدُّ وَالسَّيْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ.

1 -

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا: فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْجَمْعَ بِغَيْرِ جَمْعٍ، كَمَا لَوْ جَمَعَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِعَرَفَةَ عَلَى التَّقْدِيمِ، هَلْ يَجْمَعُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِينَ عَلَّلُوا الْجَمْعَ بِالسَّفَرِ: يُجِيزُونَ الْجَمْعَ مُطْلَقًا. وَاَلَّذِينَ يُعَلِّلُونَهُ بِالنُّسُكِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ إلَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، إقَامَةً لِوَظِيفَةِ النُّسُكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.

وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ: الْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاتَيْ الْجَمْعِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: أَنَّهُ جَمَعَ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ. وَلَمْ يُذْكَرْ الْأَذَانُ.

وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَنَّ الْجَمْعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ

ص: 98

251 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا. فَخَرَجُوا مَعَهُ. فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، حَتَّى نَلْتَقِيَ. فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

التَّقْدِيمِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ: أَذَّنَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ لِلثَّانِيَةِ، إلَّا عَلَى وَجْهٍ غَرِيبٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ - كَمَا فِي هَذَا الْجَمْعِ - صَلَّاهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَجْرَوْا فِي الْأَذَانِ لِلْأُولَى الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْأَذَانِ لِلْفَائِتَةِ. وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْأَذَانِ دَلَالَةُ سُكُوتٍ، أَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

1 -

وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا: عَدَمُ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ لِقَوْلِهِ " وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا " وَ " السُّبْحَةُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْمَسْأَلَةُ مُعَبَّرٌ عَنْهَا: بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِلَ. أَعْنِي لِلْجَامِعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ شَرْطٌ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَفِيهَا فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ. فَجَازَ تَأْخِيرُهَا. وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا قَدْرَ الْإِقَامَةِ، وَلَا قَدْرَ التَّيَمُّمِ لِمَنْ يَتَيَمَّمُ، وَلَا قَدْرَ الْأَذَانِ لِمَنْ يَقُولُ بِالْأَذَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَقَدْ حَكَيْنَاهُ وَجْهًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ؟ فَلِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: هُوَ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيَحْتَاجُ إلَى ضَمِيمَةِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ - أَعْنِي كَلَامَ الْمُخَالِفِ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَنَفَّلْ بَعْدَهُمَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. فَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنَفُّلِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ. وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ " أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِحَطِّ الرِّحَالِ " وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى مَسَافَةٍ فِي الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْ الْمُصَنِّفِ إيرَادُ أَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُنَاسِبُ تَرْجَمَتَهُ.

ص: 99

فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَلَمْ يُحْرِمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ. فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ. فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا. فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا. ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» وَفِي رِوَايَةٍ " قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَ مِنْهَا ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الْمُحْرِمِ يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ]

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ]

تَكَلَّمُوا فِي كَوْنِ أَبِي قَتَادَةَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، مَعَ كَوْنِهِمْ خَرَجُوا لِلْحَجِّ، وَمَرُّوا بِالْمِيقَاتِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ.

وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا: مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّهُ أُرْسِلَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لِكَشْفِهَا. وَكَانَ الِالْتِقَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ مَكَانِ الْمِيقَاتِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَبْلَ تَوْقِيتِ الْمَوَاقِيتِ. وَ " الْأَتَانُ " الْأُنْثَى مِنْ الْحُمُرِ. وَقَوْلُهُمْ " نَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ " وَرُجُوعُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ: دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمْ أَكَلُوهُ بِاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي: وُجُوبُ الرُّجُوعِ إلَى النُّصُوصِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ.

«وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ دَلَالَةٌ وَلَا إشَارَةٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، صِيدَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا. وَهَذَا مَذْكُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَدَلِيلُهُ: حَدِيثُ الصَّعْبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ إنْ صَادَهُ أَوْ صِيدَ لِأَجْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ

ص: 100

252 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " رِجْلَ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " شِقَّ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " عَجُزَ حِمَارٍ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَالشَّافِعِيِّ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِاصْطِيَادِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدَلَالَتِهِ حَرُمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ: لَمْ يَحْرُمْ.

وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - هَذَا - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْأَوَّلِ. وَيَدُلُّ ظَاهِرُهُ: عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشِرْ الْمُحْرِمُ إلَيْهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ: يَجُوزُ أَكْلُهُ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمَوَانِعَ الْمَانِعَةَ مِنْ أَكْلِهِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهَا مَانِعًا لَذُكِرَ. وَإِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِدَلَالَتِهِ وَإِذْنِهِ: بِأُمُورٍ أُخْرَى. مِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» .

وَاَلَّذِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام " هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ " فِيهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَبَسُّطُ الْإِنْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ فِي طَلَبِ مِثْلِ هَذَا.

وَالثَّانِي: زِيَادَةُ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ فِي مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا قَوْلُهُ عليه السلام «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ» وَالْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِطَلَبِ مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ كَانَ أَطْيَبَ لِقُلُوبِهِمْ.

[حَدِيثُ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ حِمَارًا وَحْشِيًّا]

وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَالْمُحْرِمُ لَا يَأْكُلُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ " الصَّعْبُ " بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَ " جَثَّامَةَ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ.

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " الْأَصْلُ: أَنْ يَتَعَدَّى " أَهْدَى " بِإِلَى، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى " أَجْلِ " وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَقَوْلُهُ حِمَارًا وَحْشِيًّا " ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ أَهْدَاهُ بِجُمْلَتِهِ وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ رحمه الله وَقِيلَ: إنَّهُ تَأْوِيلُ مَالِكٍ رحمه الله وَعَلَى مُقْتَضَاهُ: يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ وَضْعِ الْمُحْرِمِ يَدَهُ عَلَى الصَّيْدِ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالْهَدِيَّةِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا: مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، إلَّا أَنَّهُ رُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسْلِمٍ، مِنْ قَوْلِهِ " عَجُزَ حِمَارٍ، أَوْ شِقَّ حِمَارٍ، أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ " فَإِنَّهَا قَوِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُهْدَى بَعْضًا وَغَيْرَ حَيٍّ. فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ " حِمَارًا وَحْشِيًّا " الْمَجَازَ. وَتَسْمِيَةَ الْبَعْضِ بِاسْمِ الْكُلِّ، أَوْ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، وَلَا تَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِالْهِبَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ ". " إنَّا " الْأُولَى مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ؛ لِأَنَّهَا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ. وَأَصْلُهُ: إلَّا لِأَنَّا.

وَقَوْلُهُ " لَمْ نَرُدَّهُ " الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ: فِيهِ فَتْحُ الدَّالِ. وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَهُمْ ضَمُّ الدَّالِ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ مُضَاعَفٍ مَجْزُومٍ، أَوْ مَوْقُوفٍ، اتَّصَلَ بِهِ هَاءُ ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ. وَذَلِكَ مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْهَاءَ حَرْفٌ خَفِيٌّ، فَكَأَنَّ الْوَاوَ تَالِيَةٌ لِلدَّالِ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْهَاءِ، وَمَا قَبْلَ الْوَاوِ: يُضَمُّ. وَعَبَّرُوا عَنْ ضَمَّتِهَا بِالِاتِّبَاعِ لِمَا بَعْدَهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُضَاعَفِ الْمُشَدَّدِ. فَإِنَّهُ يُفْتَحُ بِاتِّفَاقٍ. وَحُكِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَوَّلِ الْمَوْقُوفِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ. إحْدَاهُمَا: الْفَتْحُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحَدِّثُونَ. وَالثَّانِيَةُ: الْكَسْرُ. وَأُنْشِدَ فِيهِ:

قَالَ أَبُو لَيْلَى لِحُبْلَى مُدِّهِ

حَتَّى إذَا مَدَدْتِهِ فَشُدِّهْ

إنَّ أَبَا لَيْلَى نَسِيجُ وَحْدِهِ

1 -

. وَقَوْلُهُ عليه السلام " إلَّا أَنَّا حُرُمٌ " يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَنْعِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ. وَاَلَّذِينَ أَبَاحُوا أَكْلَهُ: لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ

ص: 102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْأَحْرَامِ عِنْدَهُمْ عِلَّةً وَقَدْ قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ لِأَجْلِهِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَ " الْحُرُمُ " جَمْعُ حَرَامٍ.

وَ " الْأَبْوَاءُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ. وَ " وَدَّانُ " بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، آخِرُهُ نُونٌ: مَوْضِعَانِ مَعْرُوفَانِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

وَلِمَسْأَلَةِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ، تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَهَلْ الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ: نَفْسُ الِاصْطِيَادِ، أَوْ الْمَصِيدِ؟ وَلِلِاسْتِقْصَاءِ فِيهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَلَكِنَّ تَعْلِيلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمْ حُرُمٌ قَدْ يَكُونُ إشَارَةً إلَيْهِ.

وَفِي اعْتِذَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّعْبِ: تَطْيِيبٌ لِقَلْبِهِ، لِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ فِي رَدِّ هَدِيَّتِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ: اسْتِحْبَابُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِذَارِ.

وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي " يُرِيدُ مِنْ الْكَرَاهَةِ بِسَبَبِ الرَّدِّ.

ص: 103

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ. فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» .

وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَهُوَ:

254 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا. وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْبُيُوعِ]

الْحَدِيثُ: يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ إثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَنَفَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَوَافَقَ

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ابْنُ حَبِيبٍ - مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَاَلَّذِينَ نَفَوْهُ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْعُذْرِ عَنْهُ. وَاَلَّذِي يَحْضُرُنَا الْآنَ مِنْ ذَلِكَ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ خَالَفَهُ رَاوِيهِ. وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ: لَمْ يُعْمَلْ بِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَالِكًا رَوَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا خَالَفَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ عِلْمِهِ بِالصِّحَّةِ، فَيَكُونُ فَاسِقًا، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا مَعَ عِلْمِهِ بِالصِّحَّةِ. فَهُوَ أَعْلَمُ بِعِلَلِ مَا رَوَى. فَيُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ.

وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ الْمُقَدَّمَةِ.

الثَّانِيَةِ: وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا خَالَفَ لَمْ يُعْمَلْ بِرِوَايَتِهِ. وَقَوْلُهُ " إذَا كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِالصِّحَّةِ كَانَ فَاسِقًا " مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَعْلَمَ بِالصِّحَّةِ، وَيُخَالِفُ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ عِنْدَهُ. وَلَا يَلْزَمُ تَقْلِيدُهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ " إنْ كَانَ لَا مَعَ عِلْمِهِ بِالصِّحَّةِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِرِوَايَتِهِ، فَيُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ " مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِعَدَالَةِ اللَّهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ ظَاهِرًا. فَلَا يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالِاحْتِمَالِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَال بِهِ مِنْ جِهَةِ رِوَايَةِ مَالِكٍ، لَمْ يُتَعَذَّرْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّفَرُّدِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْمَأْخَذِ - أَعْنِي أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِرِوَايَتِهِ تَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِهَا - فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يُتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ مَأْخَذٍ مُعَيَّنٍ بُطْلَانُ مَأْخَذِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الِاعْتِذَارَاتِ: أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْبِيَاعَاتِ مِمَّا تَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ لَا تُحْصَى. وَمِثْلُ هَذَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى يَكُونُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْكَافَّةِ. فَانْفِرَادُ الْوَاحِدِ بِهِ: عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَيُرَدُّ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِمَنْعِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ مَعًا. أَمَّا الْأُولَى - وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ بِمَا تَعُمُّ بِهِ

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْبَلْوَى - فَالْبَيْعُ كَذَلِكَ. وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ خِيَارِ الْفَسْخِ. وَلَيْسَ الْفَسْخُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي الْبِيَاعَاتِ. فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْبَيْعِ: الرَّغْبَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ. فَالْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْفَسْخِ لَا تَكُونُ عَامَّةً.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ الْمُعْتَمِدَ فِي الرِّوَايَةِ عَلَى عَدَالَةِ الرَّاوِي وَجَزْمِهِ بِالرِّوَايَةِ. وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ. وَعَدَمُ نَقْلِ غَيْرِهِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، لِجَوَازِ عَدَمِ سَمَاعِهِ لِلْحُكْمِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبَلِّغُ الْأَحْكَامَ لِلْآحَادِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَبْلِيغُ كُلِّ حُكْمٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّمَاعِ: فَجَائِزٌ أَنْ يَعْرِضَ مَانِعٌ مِنْ النَّقْلِ، أَعْنِي نَقْلَ غَيْرِ هَذَا الرَّاوِي. فَإِنَّمَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ إذَا اقْتَضَتْ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُخْفِيَ الشَّيْءَ عَنْ أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ الْجُزْئِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِذَارَاتِ: هَذَا حَدِيثٌ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْأُصُولِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعْمَلُ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَعْنِي بِمُخَالِفِ الْأُصُولِ الْقِيَاسِيَّةِ: مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي أَصْلِهِ قَطْعًا. وَثَبَتَ كَوْنُ الْفَرْعِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، لَمْ يُخَالَفْ إلَّا فِيمَا يُعْلَمُ عَرْوُهُ عَنْ مَصْلَحَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً بِشَرْعِ الْحُكْمِ. وَهَهُنَا كَذَلِكَ. فَإِنَّ مَنْعَ الْغَيْرِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ: ثَابِتٌ بَعْدَ التَّفَرُّقِ قَطْعًا. وَمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي مَعْنَاهُ، لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا فِيمَا يُقْطَعُ بَتَعَرِّيهِ عَنْ الْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْقَاطِعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ لَا مَحَالَةَ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِمَنْعِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ مَعًا.

أَمَّا الْأُولَى: فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ افْتِرَاقِ الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمَصَالِحِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ. وَقَدْ يَحْصُلُ النَّدَمُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ. فَيُنَاسِبُ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، دَفْعًا لِضَرَرِ النَّدَمِ، فِيمَا لَعَلَّهُ يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ. وَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ مُطْلَقًا فِيمَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَقَبْلَهُ. فَإِنَّهُ رُفِعَ لِحِكْمَةِ الْعَقْدِ وَالْوُثُوقِ بِالتَّصَرُّفِ، فَجُعِلَ مَجْلِسُ الْعَقْدِ حَرِيمًا لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَهَذَا مَعْنًى مُعْتَبَرٌ. لَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَعَ مَا بَعْدَهُ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُخَالِفَ لِلْأُصُولِ يُرَدُّ. فَإِنَّ الْأَصْلَ يَثْبُتُ بِالنُّصُوصِ. وَالنُّصُوصُ ثَابِتَةٌ فِي الْفُرُوعِ الْمُعَيَّنَةِ. وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: أَنْ يَكُونَ

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّرْعُ أَخْرَجَ بَعْضَ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ الْكُلِّيَّاتِ لِمَصْلَحَةٍ تَخُصُّهَا، أَوْ تَعَبُّدًا فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ.

1 -

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنْ الِاعْتِذَارَاتِ: هَذَا حَدِيثٌ مُعَارِضٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلِهِمْ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ. فَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَالِكًا قَالَ عَقِيبَ رِوَايَتِهِ " وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْلُومٌ. وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ " وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِمَا اُخْتُصَّ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ سُكْنَاهُمْ فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَوَفَاةِ الرَّسُولِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَمُخَالَفَتُهُمْ لِبَعْضِ الْأَخْبَارِ تَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِمَا أَوْجَبَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ نَاسِخٍ أَوْ دَلِيلٍ رَاجِحٍ، وَلَا تُهْمَةَ تَلْحَقُهُمْ فَيَتَعَيَّنُ اتِّبَاعُهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ أَرْجَحُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ لِعَمَلِهِمْ.

وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى. وَهُوَ كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا: أَنَّا تَأَمَّلْنَا لَفْظَ مَالِكٍ فَلَمْ نَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي أَلْفَاظِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ إجْمَاعٌ سَابِقٌ أَوْ لَاحِقٌ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأْسُ الْمُفْتِينَ فِي الْمَدِينَةِ فِي وَقْتِهِ. وَقَدْ كَانَ يَرَى إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ. فَإِنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ - مِنْ أَقْرَانِ مَالِكٍ وَمُعَاصِرِيهِ - وَقَدْ أَغْلَظَ عَلَى مَالِكٍ لَمَّا بَلَغَهُ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ.

وَثَانِيهِمَا: مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. وَهُوَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلَهُمْ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا. فَإِنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ عَمَلَهُمْ وَإِجْمَاعَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَاصِمَ لِلْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَهُمْ. وَلَا مُسْتَنَدَ لِلْعِصْمَةِ سِوَاهُ. وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُقْبَلُ خِلَافُهُ مَا دَامَ مُقِيمًا بِهَا فَإِذَا خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يُقْبَلْ خِلَافُهُ؟ فَإِنَّ هَذَا مُحَالٌ. فَإِنَّ قَبُولَ خِلَافِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ حَيْثُ حَلَّ.

فَتُفْرَضُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا مِنْ الصَّحَابَةِ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْوَحْي وَمَوْتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. فَكُلُّ مَا قِيلَ مِنْ تَرْجِيحٍ لِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا اجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ الْأَوْصَافِ قَدْ كَانَ حَاصِلًا لِهَذَا الصَّحَابِيِّ، وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِخُرُوجِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي ذَلِكَ

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه. وَقَالَ أَقْوَالًا بِالْعِرَاقِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ إهْدَارُهَا إذَا خَالَفَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ وَهُوَ كَانَ رَأْسَهُمْ. وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَمَحِلُّهُ مِنْ الْعِلْمِ مَعْلُومٌ. وَغَيْرُهُمَا قَدْ خَرَجُوا، وَقَالُوا أَقْوَالًا. عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: إنَّ الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ وَادُّعِيَ الْعُمُومُ فِي ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِلْحَدِيثِ «وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» فَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَمَا احْتَاجَ إلَى الِاسْتِقَالَةِ، وَلَا طَلَبَ الْفِرَارَ مِنْ الِاسْتِقَالَةِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِقَالَةِ: فَسْخُ الْبَيْعِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ. وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ الِاسْتِقَالَةِ " لَكِنْ جَازَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَقَدْ دَلَّ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى التَّفَرُّقِ. فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ، صَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَرْتَفِعُ بِالتَّفَرُّقِ. وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِقَالَةِ. فَالِاسْتِقَالَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّفَرُّقِ. وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِالْمَجْلِسِ.

الثَّانِي: أَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ، فَالتَّفَرُّقُ مُبْطِلٌ لَهُ قَهْرًا. فَيُنَاسِبُ الْمَنْعَ مِنْ التَّفَرُّقِ الْمُبْطِلِ لِلْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ. أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَوْفَ الِاسْتِقَالَةِ. وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا النَّظَرُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ التَّحْرِيمِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بِحَمْلِ الْمُتَبَايِعَيْنِ " عَلَى " الْمُتَسَاوِمَيْنِ " لِمَصِيرِ حَالِهِمَا إلَى الْبَيْعِ، وَحَمْلِ " الْخِيَارِ " عَلَى " خِيَارِ الْقَبُولِ ".

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْمُتَسَاوِمَيْنِ مُتَبَايِعَيْنِ مَجَازٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا " مُتَبَايِعَيْنِ " بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْبَيْعِ مَجَازٌ أَيْضًا. فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْحَمْلَ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ أَوْلَى؟ فَقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ إذَا صَدَرَ الْبَيْعُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْحَقِيقَةُ. فَهَذَا الْمَجَازُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مَجَازٍ لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَتُهُ أَصْلًا عِنْدَ إطْلَاقِهِ. وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: حَمْلُ " التَّفَرُّقِ " عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَقْوَالِ. وَقَدْ عُهِدَ ذَلِكَ

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

شَرْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 130] أَيْ عَنْ النِّكَاحِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ: التَّفَرُّقُ عَنْ الْمَكَانِ. وَأَيْضًا فَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا» وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ. وَرُبَّمَا اُعْتُرِضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّفَرُّقِ: لَا تَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ. بَلْ هِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِي الْأَقْوَالِ: كَانَ التَّفَرُّقُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا: كَانَ التَّفَرُّقُ عَنْهُ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ الْمَكَانِ بِقَرِينَةٍ: يَكُونُ مَجَازًا.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ. فَالْحَالُ لَا تَخْلُو: إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الِاخْتِيَارِ، أَوْ يَخْتَلِفَا. فَإِنْ اتَّفَقَا لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ خِيَارٌ. وَإِنْ اخْتَلَفَا - بِأَنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ، فَقَدْ اسْتَحَالَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ. إذْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ مُسْتَحِيلٌ. فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ. وَلَا نَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَيَكْفِينَا صَدُّكُمْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنْ قِيلَ: لَمْ يُثْبِتْ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقَ الْخِيَارِ، بَلْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ، وَسَكَتَ عَمَّا فِيهِ الْخِيَارُ. فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ. فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ ادِّعَاءُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَنْسُوخٌ: إمَّا لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ. وَإِمَّا لِحَدِيثِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَاجَةَ إلَى الْيَمِينَيْنِ. وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ. فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.

أَمَّا النَّسْخُ لِأَجْلِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ. وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَمُجَرَّدُ الْمُخَالَفَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّسْخِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ

ص: 109

255 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لِدَلِيلٍ آخَرَ رَاجِحٍ فِي ظَنِّهِمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا حَدِيثُ " اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ " فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِ التَّفَرُّقِ وَزَمَنِ الْمَجْلِسِ. فَيُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى النَّسْخِ. وَالنَّسْخُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: حَمْلُ " الْخِيَارِ " عَلَى خِيَارِ الشِّرَاءِ، أَوْ خِيَارِ إلْحَاقِ الزِّيَادَةِ بِالثَّمَنِ، أَوْ الْمُثَمَّنِ. وَإِذَا تَرَدَّدَ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَةَ " الْخِيَارِ " قَدْ عُهِدَ اسْتِعْمَالُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خِيَارِ الْفَسْخِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ «وَلَكَ الْخِيَارُ» فَالْمُرَادُ مِنْهُ خِيَارُ الْفَسْخِ. وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ «فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا» وَالْمُرَادُ خِيَارُ الْفَسْخِ. فَيُحْمَلُ الْخِيَارُ الْمَذْكُورُ هَهُنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْهُودًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَظْهَرَ فِي الْإِرَادَةِ.

الثَّانِي: قِيَامُ الْمَانِعِ مِنْ إرَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِيَارَيْنِ. أَمَّا خِيَارُ الشِّرَاءِ: فَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اسْمِ " الْمُتَبَايِعَيْنِ " الْمُتَعَاقِدَانِ. وَالْمُتَعَاقِدَانِ: مَنْ صَدَرَ مِنْهُمَا الْعَقْدُ وَبَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ لَهُمَا خِيَارُ الشِّرَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا ذَلِكَ إلَى أَوَانِ التَّفَرُّقِ.

وَأَمَّا خِيَارُ إلْحَاقِ الزِّيَادَةِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْمُثَمَّنِ: فَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ثُبُوتَهُ مُطْلَقًا، أَوْ عَدَمَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِيَارَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا. فَلَا يَكُونُ لَهُمَا إلَى أَوَانِ التَّفَرُّقِ، وَإِنْ كَانَ: فَيَبْقَى بَعْدَ التَّفَرُّقِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَيْفَمَا كَانَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْخِيَارُ لَهُمَا ثَابِتًا، مُغَيًّا إلَى غَايَةِ التَّفَرُّقِ. وَالْخِيَارُ الْمُثْبَتُ بِالنَّصِّ هَهُنَا: هُوَ خِيَارٌ مُغَيًّا إلَى غَايَةِ التَّفَرُّقِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْخِيَارِ هَذَا وَمِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ، مَا ذُكِرَ: أَنَّ مَالِكًا نُسِبَ إلَى مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ. وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا حُمِلَ الْخِيَارُ " وَ " الْمُتَبَايِعَانِ " وَ " الِافْتِرَاقُ " عَلَى مَا ذُكِرَ. هَكَذَا قَالَ بَعْضُ النُّظَّارِ، إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ. فَإِنَّ نِسْبَةَ مَالِكٍ إلَى ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ كُلِّ الْأُمَّةِ وَلَا أَكْثَرِهِمْ.

ص: 110

«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى. عَنْ الْمُنَابَذَةِ - وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ - وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ. وَالْمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ وَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ.»

256 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ]

[حَدِيثُ نَهَى رَسُول اللَّهِ عَنْ الْمُنَابَذَةِ]

اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مَنْعِ هَذَيْنِ. الْبَيْعَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ " الْمُلَامَسَةِ " فَقِيلَ: هِيَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّمْسُ بَيْعًا، بِأَنْ يَقُولَ: إذَا لَمَسْتُ ثَوْبِي فَهُوَ مَبِيعٌ مِنْكَ بِكَذَا وَكَذَا. وَهَذَا بَاطِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فِي الصِّيغَةِ، وَعُدُولِهِ عَنْ الصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيْعِ شَرْعًا وَقَدْ قِيلَ: هَذَا مِنْ صُوَرِ الْمُعَاطَاةِ. وَقِيلَ: تَفْسِيرُهَا أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمَسَ الثَّوْبَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ. وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: بِأَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ، فَيَلْمِسَهُ الرَّاغِبُ، وَيَقُولَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: بِعْتُكَ هَذَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ لِمَسْكِ مَقَامَ النَّظَرِ. وَهَذَا فَاسِدٌ إنْ أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ. وَكَذَا إنْ صَحَّحْنَاهُ، لِإِقَامَةِ اللَّمْسِ مَقَامَ النَّظَرِ. وَقِيلَ يَتَخَرَّجُ عَلَى نَفْيِ شَرْطِ الْخِيَارِ.

وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ: عَدَمُ النَّظَرِ وَالتَّقْلِيبِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَمْنَعُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ، عَمَلًا بِالْعِلَّةِ. وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْوَصْفَ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ وَصْفًا.

1 -

وَأَمَّا " الْمُنَابَذَةُ " فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ " أَنَّهَا طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ لَا يُنْظَرُ إلَيْهِ " وَالْكَلَامُ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَاطَاةِ وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ. فَإِذَا عُلِّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ الْمَشْرُوطَةِ: فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ. وَإِذَا فُسِّرَ بِأَمْرٍ لَا يَعُودُ إلَى ذَلِكَ: اُحْتِيجَ حِينَئِذٍ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمُعَاطَاةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا.

ص: 111

تَنَاجَشُوا. وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ. وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا. وَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَفِي لَفْظٍ هُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ]

" تَلَقِّي الرُّكْبَانِ " مِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ. وَهُوَ أَنْ يَتَلَقَّى طَائِفَةً يَحْمِلُونَ مَتَاعًا، فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُوا الْبَلَدَ، فَيَعْرِفُوا الْأَسْعَارَ. وَالْكَلَامُ فِيهِ: فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:

أَحَدُهَا: التَّحْرِيمُ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ قَاصِدًا لِلتَّلَقِّي: فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ خَرَجَ لِشُغْلٍ آخَرَ، فَرَآهُمْ مُقْبِلِينَ، فَاشْتَرَى: فَفِي إثْمِهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ. أَظْهَرُهُمَا: التَّأْثِيمُ.

الْمَوْضِعُ الثَّانِي: صِحَّةُ الْبَيْعِ أَوْ فَسَادُهُ. وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: صَحِيحٌ. وَإِنْ كَانَ آثِمًا. وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يَبْطُلُ. وَمُسْتَنَدُهُ: أَنَّ النَّهْيَ لِلْفَسَادِ. وَمُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ. وَلَا يُخِلُّ هَذَا الْفِعْلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ بِالرُّكْبَانِ. وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ.

الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: إثْبَاتُ الْخِيَارِ. فَحَيْثُ لَا غُرُورَ لِلرُّكْبَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِالسِّعْرِ فَلَا خِيَارَ. وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ السِّعْرِ فَلَهُمْ الْخِيَارُ. وَمَا فِي لَفْظِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ " أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ بِالسِّعْرِ كَاذِبًا " لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ. وَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ بِمِثْلِ سِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ أَكْثَرَ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُمْ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ. مِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إلَى انْتِفَاءِ الْمَعْنَى. وَهُوَ الْغَرَرُ وَالضَّرَرُ. فَلَمْ يُثْبِتْ الْخِيَارَ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إلَى لَفْظِ حَدِيثٍ وَرَدَ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمْ فَجَرَى عَلَى ظَاهِرِهِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْمَعْنَى. وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ: فَهَلْ

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ يَمْتَدُّ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَظْهَرُ: الْأَوَّلُ.

[مَسْأَلَةٌ البع عَلَى الْبَيْع]

1

وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» فَقَدْ فُسِّرَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا فَيَدْعُوهُ غَيْرُهُ إلَى الْفَسْخِ لِيَبِيعَهُ خَيْرًا مِنْهُ بِأَرْخَصَ. وَفِي مَعْنَاهُ: الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَا الْبَائِعَ إلَى الْفَسْخِ لِيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِأَكْثَرَ وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ إنَّمَا تُتَصَوَّرَانِ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ فِي حَالَةِ الْجَوَازِ، وَقَبْلَ اللُّزُومِ. وَتَصَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا النَّهْيِ. وَخَصَّصَهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصُّورَةِ غَبْنٌ فَاحِشٌ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا فَيَدْعُو إلَى الْفَسْخِ. وَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِأَكْثَرَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ فَسَّرَ الْبَيْعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالسَّوْمِ عَلَى السَّوْم. وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لِيَشْتَرِيَهُ فَيَقُولَ لَهُ إنْسَانٌ رُدَّهُ، لِأَبِيعَ مِنْكَ خَيْرًا مِنْهُ وَأَرْخَصَ، أَوْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: اسْتَرِدَّهُ لِأَشْتَرِيَهُ مِنْك بِأَكْثَرَ. وَلِلتَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ شَرْطَانِ:

أَحَدُهُمَا: اسْتِقْرَارُ الثَّمَنِ. فَأَمَّا مَا يُبَاعُ فِيمَنْ يَزِيدُ: فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الطَّالِبِ. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ التَّرَاضِيَ بَيْنَ الْمُتَسَاوِمَيْنِ صَرِيحًا. فَإِنْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ: فَوَجْهَانِ. وَلَيْسَ السُّكُوتُ بِمُجَرَّدِهِ مِنْ دَلَائِلِ الرِّضَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ.

[التَّنَاجُش]

1

وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَلَا تَنَاجَشُوا " فَهُوَ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَجْلِ الضَّرَرِ. وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي سِلْعَةٍ تُبَاعُ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ. وَهُوَ رَاغِبٌ فِيهَا. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ اللَّفْظَةِ. فَقِيلَ: إنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الْإِثَارَةِ. كَأَنَّ النَّاجِشَ يُثِيرُ هِمَّةَ مَنْ يَسْمَعُهُ لِلزِّيَادَةِ. وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إثَارَةِ الْوَحْشِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان. وَقِيلَ: أَصْلُ اللَّفْظَةِ: مَدْحُ الشَّيْءِ وَإِطْرَاؤُهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَدِيعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي. الَّذِي غُرَّ

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِالنَّجْشِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّجْشُ عَنْ مُوَاطَأَةٍ مِنْ الْبَائِعِ. فَلَا خِيَارَ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

[مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي]

وَأَمَّا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي " فَمِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِأَجْلِ الضَّرَرِ أَيْضًا. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَحْمِلَ الْبَدْوِيُّ أَوْ الْقَرَوِيُّ مَتَاعَهُ إلَى الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَيَرْجِعَ فَيَأْتِيهِ الْبَلَدِيُّ فَيَقُولُ: ضَعْهُ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِزِيَادَةِ سِعْرٍ. وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَحَرَامٌ إنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ. وَتَصَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ. فَقَالُوا: شَرْطُهُ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ الْمَتَاعِ الْمَجْلُوبِ سِعْرٌ فِي الْبَلَدِ. فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ - لِكَثْرَتِهِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ لِقِلَّةِ الطَّعَامِ الْمَجْلُوبِ: فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ. يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا: إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَفِي الْآخَرِ: إلَى الْمَعْنَى وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ، وَتَفْوِيتِ الرِّبْحِ، أَوْ الرِّزْقِ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ. وَقَالُوا أَيْضًا: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، دُونَ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا نَادِرًا. وَأَنْ يَدْعُوَ الْبَلَدِيُّ الْبَدْوِيَّ إلَى ذَلِكَ. فَإِنْ الْتَمَسَهُ الْبَدْوِيُّ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ وَلَوْ اسْتَشَارَهُ الْبَدْوِيُّ، فَهَلْ يُرْشِدُهُ إلَى الِادِّخَارِ وَالْبَيْعِ عَلَى التَّدْرِيجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ: قَدْ تَدُورُ بَيْنَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِ اللَّفْظِ. وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمَعْنَى إلَى الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ. فَحَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصِ النَّصِّ بِهِ، أَوْ تَعْمِيمِهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَيَّاسِينَ. وَحَيْثُ يَخْفَى، وَلَا يَظْهَرُ ظُهُورًا قَوِيًّا. فَاتِّبَاعُ اللَّفْظِ أَوْلَى. فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَلَدِيُّ ذَلِكَ: فَلَا يَقْوَى لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِيهِ. فَإِنَّ الضَّرَرَ الْمَذْكُورَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ النَّهْيُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ سُؤَالِ الْبَدْوِيِّ وَعَدَمِهِ ظَاهِرًا. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ: فَمُتَوَسِّطٌ فِي الظُّهُورِ وَعَدَمِهِ. لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَاعَى مُجَرَّدُ رِبْحِ النَّاسِ فِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى مَا أَشْعَرَ بِهِ التَّعْلِيلُ، مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَأَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ الْمَتَاعِ الْمَجْلُوبِ سِعْرٌ فِي الْبَلَدِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، أَيْ أَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي الظُّهُورِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْوِيتِ الرِّبْحِ وَالرِّزْقِ

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْهَا مَا يَقُومُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ، كَشَرْطِنَا الْعِلْمَ بِالنَّهْيِ. وَلَا إشْكَالَ فِيهِ. وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ بِاسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى، فَيُخَرَّجُ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ. وَهِيَ أَنَّ النَّصَّ إذَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالتَّخْصِيصِ. هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا؟ وَيَظْهَرُ لَكَ هَذَا بِاعْتِبَارِ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشُّرُوطِ.

[قَوْلُهُ وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ]

1

وَقَوْلُهُ «وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ» فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: ضَمُّ التَّاءِ وَفَتْحُ الصَّادِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ عَلَى وَزْنِ " تُزَكُّوا " مَأْخُوذٌ مِنْ صَرَّى يُصَرِّي. وَمَعْنَى اللَّفْظَةُ: يَرْجِعُ إلَى الْجَمْعِ. تَقُولُ: صَرَّيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَصَرَيْته - بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ إذَا جَمَعْتَهُ، وَ " الْغَنَمَ " مَنْصُوبَةُ الْمِيمِ عَلَى هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ " لَا تَصُرُّوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ - مِنْ صَرَّ يَصُرُّ: إذَا رَبَطَ. " وَالْمُصَرَّاةُ " هِيَ الَّتِي تُرْبَطُ أَخْلَافُهَا لِيَجْتَمِعَ اللَّبَنُ وَ " الْغَنَمَ " عَلَى هَذَا: مَنْصُوبَةُ الْمِيمِ أَيْضًا وَأَمَّا مَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ - مِنْ ضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ مِيمِ الْغَنَمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - فَهَذَا لَا يَصِحُّ مَعَ اتِّصَالِ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ إفْرَادِ الْفِعْلِ. وَلَا نَعْلَمُ رِوَايَةً حُذِفَ فِيهَا هَذَا الضَّمِيرُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ حَرَامٌ. لِأَجْلِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ الَّتِي فِيهَا لِلْمُشْتَرِي. وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، مَعَ عِلْمِ تَحْرِيمِ الْخَدِيعَةِ قَطْعًا مِنْ الشَّرْعِ.

[مَسْأَلَةٌ تَحَفَّلَتْ الشَّاةُ بِنَفْسِهَا أَوْ نَسِيَهَا الْمَالِكُ بَعْدَ أَنْ صَرَّاهَا لَا لِأَجْلِ الْخَدِيعَةِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّهْيُ وَرَدَ عَنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ مَا يَصْدُرُ بِاخْتِيَارِهِ وَتَعَمُّدِهِ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ. فَلَوْ تَحَفَّلَتْ الشَّاةُ بِنَفْسِهَا، أَوْ نَسِيَهَا الْمَالِكُ بَعْدَ أَنْ صَرَّاهَا، لَا لِأَجْلِ الْخَدِيعَةِ، فَهَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْمَعْنَى أَثْبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ مُثْبِتٌ لِلْخِيَارِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَدْلِيسُ الْبَائِعِ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ خَصَّهُ بِمَوْرِدِهِ. وَهُوَ حَالَةُ الْعَمْدِ. فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْعَمْدِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ " لَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ " وَفِي الصَّحِيحِ " الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ " وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ التَّصْرِيَةِ. وَالْفُقَهَاءُ تَصَرَّفُوا، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّاهُ إلَى النَّعَمِ خَاصَّةً وَمِنْهُمْ مِنْ عَدَّاهُ إلَى كُلِّ حَيَوَانٍ مَأْكُولِ اللَّحْمِ. وَهَذَا نَظَرَ إلَى الْمَعْنَى. فَإِنَّ الْمَأْكُولَ اللَّحْمَ يُقْصَدُ لَبَنُهُ فَتَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْخَدِيعَةِ مُوجِبٌ لِلْخِيَارِ.

فَلَوْ حَفَّلَ أَتَانًا، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ لَهُمْ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِشُرْبِ الْآدَمِيِّ، إلَّا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِتَرْبِيَةِ الْجَحْشِ. وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْمَعْنَى. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْوَجْهُ. لِأَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ يَعْتَمِدُ فَوَاتَ أَمْرٍ مَقْصُودٍ. وَلَا يَتَخَصَّصُ ذَلِكَ بِأَمْرِ مُعَيَّنٍ. أَعْنِي الشُّرْبَ مَثَلًا. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْجَارِيَةِ مِنْ الْآدَمِيَّاتِ لَوْ حَفَّلَهَا. وَإِذَا أُثْبِتَ الْخِيَارُ فِي الْأَتَانِ، فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا يَرُدُّ لِأَجْلِ لَبَنِهَا شَيْئًا.

وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ: أَنَّ الْأَتَانَ لَا يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، أَعْنِي الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ: اتِّحَادُ الْحُكْمِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِيهَا مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى. وَفِي رَدِّ شَيْءٍ لِأَجْلِ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ خِلَافٌ أَيْضًا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا " مُطْلَقٌ فِي الْحَلَبَاتِ، لَكِنْ قَدْ تَقَيَّدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إثْبَاتُ الْخِيَارِ " بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ " وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَبَهَا ثَانِيَةً، وَأَرَادَ الرَّدَّ: أَنَّ لَهُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا إذَا حَلَبَهَا الثَّالِثَةَ، هَلْ يَكُونُ رَضِيَ بِمَنْعِ الرَّدِّ. وَرَجَّحُوا أَنْ لَا يُمْنَعَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْحَدِيثُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ التَّصْرِيَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِثَلَاثِ حَلَبَاتٍ. فَإِنَّ الْحَلْبَةَ الثَّانِيَةَ إذَا نَقَصَتْ مِنْ الْأُولَى: جَوَّزَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى، أَوْ لِأَمْرٍ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ. فَإِذَا حَلَبَهَا الثَّالِثَةَ تَحَقَّقَ التَّصْرِيَةُ. وَإِذَا كَانَتْ لَفْظَةُ " حَلَبَهَا " مُطْلَقَةً. فَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْحَلْبَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ.

[مَسْأَلَةٌ الْخِيَارِ بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ]

1

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ «وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا» يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِيَارِ بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ يَمْتَدُّ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ فَقِيلَ يَمْتَدُّ، لِلْحَدِيثِ. وَقِيلَ: يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، طَرْدًا لِقِيَاسِ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ. وَالصَّوَابُ: اتِّبَاعُ النَّصِّ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُ

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُولِفَ الْقِيَاسُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، لِأَجْلِ النَّصِّ فَيَطَّرِدُ ذَلِكَ، وَيُتَّبَعُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: يَقْتَضِي الْحَدِيثُ رَدَّ شَيْءٍ مَعَهَا عِنْدَمَا يَخْتَارُ رَدَّهَا وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ " وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْغَلَّةَ لِمَنْ اسْتَوْفَاهَا بِعَقْدٍ أَوْ شُبْهَتِهِ، تَكُونُ لَهُ بِضَمَانِهِ. فَاللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ إذَا فَاتَ غَلَّةٌ. فَلْتَكُنْ لِلْمُشْتَرِي. وَلَا يَرُدُّ لَهَا بَدَلًا. وَالصَّوَابُ: الرَّدُّ، لِلْحَدِيثِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي رَدَّ الصَّاعِ مَعَ الشَّاةِ بِصَرِيحِهِ. وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ رَدِّ اللَّبَنِ. وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إنْ كَانَ اللَّبَنَ بَاقِيًا فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؟ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُسْتَحَقِّهِ.

وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّ طَرَاوَتَهُ ذَهَبَتْ. فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. وَاتِّبَاعُ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَوْلَى فِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الرَّدُّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ زَادُوا عَلَى هَذَا. وَقَالُوا: لَوْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا قَوْلَانِ. وَوَجَّهُوا الْمَنْعَ: بِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ الصَّاعُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. فَبَاعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِاللَّبَنِ. وَوَجَّهُوا الْجَوَازَ: بِأَنَّهُ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِمْ فِي اتِّبَاعِ الْمَعَانِي، دُونَ اعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمَرْدُودِ فِي التَّمْرِ. فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ. وَهُوَ الصَّوَابُ وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّاهُ إلَى سَائِرِ الْأَقْوَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ غَالِبَ قُوتِ الْبَلَدِ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، لَا سَمْرَاءَ» وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَدَّاهُ إلَى سَائِرِ الْأَقْوَاتِ. وَإِنْ كَانَتْ السَّمْرَاءُ غَالِبَ قُوتِ الْبَلَدِ - أَعْنِي الْمَدِينَةَ - فَهُوَ رَدٌّ عَلَى قَائِلِهِ أَيْضًا.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ فِي الصَّاعِ مُطْلَقًا. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ الصَّاعُ، قَلَّ اللَّبَنُ أَوْ كَثُرَ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ اللَّبَنُ، اتِّبَاعًا لِقِيَاسِ الْغَرَامَاتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

[مَسْأَلَةٌ الْخِيَارِ بَعْدَ حَلْبِ المصراة]

1

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ عليه السلام «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا» قَدْ يُقَالُ هَهُنَا سُؤَالٌ.

وَهُوَ أَنَّ. الْحَدِيثَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْحَلْبِ. وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْحَلْبِ إذَا عُلِمَتْ التَّصْرِيَةُ.

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِيَارِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، أَعْنِي الْإِمْسَاكَ وَالرَّدَّ مَعَ الصَّاعِ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَلْبِ، لِتَوَقُّفِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْحَلْبِ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ عِوَضٌ عَنْ اللَّبَنِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ: الْحَلْبُ.

[مَسْأَلَةٌ لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ المصراة]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ أَيْضًا بِعَدَمِ الْقَوْلِ بِهِ. وَاَلَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ: أَنَّهُ قِيلَ حَدِيثٌ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ - فَمِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ الْأُصُولِ: أَنَّ ضَمَانَ الْمِثْلِيَّاتِ بِالْمِثْلِ. وَضَمَانَ الْمُتَقَوِّمَاتِ بِالْقِيمَةِ مِنْ النَّقْدَيْنِ. وَهَهُنَا إنْ كَانَ اللَّبَنُ مِثْلِيًّا كَانَ يَنْبَغِي ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ لَبَنًا. وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا ضُمِنَ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّقْدَيْنِ. وَقَدْ وَقَعَ هَهُنَا مَضْمُونًا بِالتَّمْرِ. فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا.

الثَّانِي: أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ مُقَدَّرَ الضَّمَانِ بِقَدْرِ التَّالِفِ. وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ، فَقَدْرُ الضَّمَانِ مُخْتَلِفٌ لَكِنَّهُ قُدِّرَ هَهُنَا بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ الصَّاعُ مُطْلَقًا. فَخَرَجَ مِنْ الْقِيَاسِ الْكُلِّيِّ فِي اخْتِلَافِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِاخْتِلَافِ قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا.

الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّبَنَ التَّالِفَ إنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَدْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ، كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ بَعْضُ أَعْضَاءِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ. فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ. وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّبَنُ حَادِثًا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَقَدْ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. فَلَا يَضْمَنُهُ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ الرَّدِّ. وَمَا كَانَ حَادِثًا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ.

الرَّابِعُ: إثْبَاتُ الْخِيَارِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ: مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. فَإِنَّ الْخِيَارَاتِ الثَّابِتَةَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ: لَا تَتَقَدَّرُ بِالثَّلَاثَةِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ، وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ.

الْخَامِسُ: يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِظَاهِرِهِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ لِلْبَائِعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَ الصَّاعِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ ثَمَنِهَا.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السَّادِسُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ الرِّبَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً بِصَاعٍ. فَإِنْ اسْتَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَقَدْ اسْتَرْجَعَ الصَّاعَ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ. فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ صَاعًا وَشَاةً بِصَاعٍ وَذَلِكَ خِلَافُ قَاعِدَةِ الرِّبَا عِنْدَكُمْ. فَإِنَّكُمْ تَمْنَعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ.

السَّابِعُ: إذَا كَانَ اللَّبَنُ بَاقِيًا لَمْ يُكَلَّفْ رَدَّهُ عِنْدَكُمْ فَإِذَا أَمْسَكَهُ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَلِفَ فَيَرُدُّ الصَّاعَ. وَفِي ذَلِكَ ضَمَانٌ بِالْأَعْيَانِ مَعَ بَقَائِهَا. وَالْأَعْيَانُ لَا تُضْمَنُ بِالْبَدَلِ إلَّا مَعَ فَوَاتِهَا، كَالْمَغْصُوبِ وَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ.

الثَّامِنُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ أَثْبَتَ الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ اللَّبَنِ لَوْ كَانَ عَيْبًا لَثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيَةٍ. وَلَا يَثْبُتُ الرَّدُّ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ شَرْطٍ وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مُخَالِفًا لِقِيَاسِ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ: لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ - فَلِأَنَّ الْأُصُولَ الْمَعْلُومَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا مِنْ الشَّرْعِ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ. وَالْمَظْنُونُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ. أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: بِالطَّعْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ جَمِيعًا. أَعْنِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَأَنَّهُ إذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ - فَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ، وَمُخَالَفَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ. وَخُصَّ الرَّدُّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْمُخَالَقَةِ لِلْأُصُولِ، لَا بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ. وَهَذَا الْخَبَرُ إنَّمَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَسَلَكَ آخَرُونَ تَجْرِيحَ. جَمِيعِ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ. وَالْجَوَابَ عَنْهَا

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَمَّا الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَمِيعَ الْأُصُولِ تَقْتَضِي الضَّمَانَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ. فَإِنَّ الْحُرَّ يُضْمَنُ بِالْإِبِلِ. وَلَيْسَتْ بِمِثْلٍ لَهُ وَلَا قِيمَةٍ. وَالْجَنِينُ يُضْمَنُ بِالْغُرَّةِ، وَلَيْسَتْ بِمِثْلٍ لَهُ وَلَا قِيمَةٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ يُضْمَنُ الْمِثْلِيُّ بِالْقِيمَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثَلَةُ. وَهَهُنَا تَعَذَّرَتْ. أَمَّا الْأُولَى: فَمَنْ أَتْلَفَ شَاةً لَبُونًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا مَعَ اللَّبَنِ. وَلَا يُجْعَلُ بِإِزَاءِ لَبَنِهَا لَبَنٌ آخَرُ، لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثَلَةُ هَهُنَا -؛ فَلِأَنَّ مَا يَرُدُّهُ مِنْ اللَّبَنِ عِوَضًا عَنْ اللَّبَنِ التَّالِفِ لَا تَتَحَقَّقُ مُمَاثَلَتُهُ لَهُ فِي الْمِقْدَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ أَقَلَّ. وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: فَقِيلَ فِي جَوَابِهِ: إنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ لَا يَتَقَدَّرُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ، كَالْمُوضِحَةِ، فَإِنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ، مَعَ اخْتِلَافِهَا بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ. وَالْجَنِينُ مُقَدَّرٌ أَرْشُهُ. وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ. وَالْحُرُّ دِيَتُهُ مُقَدَّرَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ: أَنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ وَالتَّشَاجُرُ يُقْصَدُ قَطْعُ النِّزَاعِ فِيهِ بِتَقْدِيرِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ. وَتُقَدَّمُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ، أَنْ يُقَالَ: مَتَى يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالنَّقْصِ: إذَا كَانَ النَّقْصُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي: مُسَلَّمٌ. وَهَذَا النَّقْصُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ. فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: فَإِنَّمَا يَكُونُ الشَّيْءُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ وَخُولِفَ فِي حُكْمِهِ. وَهَهُنَا هَذِهِ الصُّورَةُ انْفَرَدَتْ عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ: أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ الَّتِي يُتَبَيَّنُ بِهَا لَبَنُ الْخِلْقَةِ الْمُجْتَمِعُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَاللَّبَنُ الْمُجْتَمِعُ بِالتَّدْلِيسِ فَهِيَ مُدَّةٌ يَتَوَقَّفُ عِلْمُ الْعَيْبِ عَلَيْهَا غَالِبًا. بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فِيهِمَا. وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ لَيْسَ لِاسْتِعْلَامِ عَيْبٍ وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ الْخَبَرَ وَارِدٌ عَلَى الْعَادَةِ. وَالْعَادَةُ: أَنْ لَا تُبَاعَ شَاةٌ بِصَاعٍ. وَفِي هَذَا ضَعْفٌ. وَقِيلَ: إنَّ صَاعَ التَّمْرِ بَدَلٌ عَنْ اللَّبَنِ لَا عَنْ الشَّاةِ. فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ: فَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إنَّ الرِّبَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي

ص: 120

257 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ. وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْعُقُودِ لَا فِي الْفُسُوخِ. بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ تَقَايَلَا فِي هَذَا الْعَقْدِ. جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ: فَجَوَابُهُ فِيمَا قِيلَ: إنَّ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ فِي الضَّرِعِ حَالَ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ، لِاخْتِلَاطِهِ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَأَحَدُهُمَا لِلْبَائِعِ، وَالْآخَرُ لِلْمُشْتَرِي. وَتَعَذَّرَ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ الضَّمَانِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ: فَقِيلَ فِيهِ: إنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالتَّدْلِيسِ، كَمَا لَوْ بَاعَ رَحًا دَائِرَةً بِمَاءٍ قَدْ جَمَعَهُ لَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ النِّزَاعُ فِي تَقْدِيمِ قِيَاسِ الْأُصُولِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ - فَقِيلَ فِيهِ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، يَجِبُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْأُصُولِ: نَصَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهَا. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ، بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ وَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَظْنُونًا: فَتَنَاوُلُ الْأَصْلِ لِمَحِلِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ مَحَلِّ الْخَبَرِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَعِنْدِي: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَقْوَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِالِاعْتِذَارَاتِ عَنْ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةً أُخْرَى فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ الْحَدِيثِ وَهِيَ ادِّعَاءُ النَّسْخِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِالْمَالِ جَائِزَةً. وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ إثْبَاتُ نَسْخٍ بِالِاحْتِمَالِ وَالتَّقْدِيرِ. وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً بِشَرْطِ أَنَّهَا تَحْلُبُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مَثَلًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فَاسِدٌ. فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا بَطَلَ وَأَمَّا رَدُّ الصَّاعِ: فَلِأَنَّهُ كَانَ قِيمَةَ اللَّبَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالتَّصْرِيَةِ، وَمَا ذُكِرَ يَقْتَضِي تَعْلِيقَهُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، سَوَاءٌ أَحْدَثَ التَّصْرِيَةَ أَمْ لَا.

ص: 121

الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ. ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا. قِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الشَّارِفَ - وَهِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُسِنَّةُ - بِنِتَاجِ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ» .

258 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ]

فِي تَفْسِيرِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ " وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَ إلَى أَنْ تَحْمِلَ النَّاقَةُ وَتَضَعَ، ثُمَّ يَحْمِلَ هَذَا الْبَطْنُ الثَّانِي. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَ نِتَاجَ النِّتَاجِ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ. وَهَذَا الْبَيْعُ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَبَايَعُهُ فَأَبْطَلَهُ الشَّارِعُ لِلْمَفْسَدَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَهُوَ مَا بَيَّنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَكَأَنَّ السِّرَّ فِيهِ: أَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ إلَى التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ الْمُنَافِي لِلْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ.

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُول اللَّه عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا]

أَكْثَرُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنْ هَذَا النَّهْيَ: نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَالْفُقَهَاءُ أَخْرَجُوا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ: بَيْعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا إبْقَاءٍ وَلِمَنْ يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ عُمُومِهِ بَيْعُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ يَدْخُلُ بَاقِي صُوَرَ الْبَيْعِ تَحْتَ النَّهْيِ. وَمِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْبَيْعِ: بَيْعُ الْإِطْلَاقِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْمَنْعِ فِيهِ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَوْلُهُ " نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ " تَأْكِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الْبَيْعَ - وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَكِبْ النَّهْيَ فِيهِ، قَائِلًا: أَسْقَطْتُ حَقِّي مِنْ اعْتِبَارِ

ص: 122

259 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ .»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي؟ فَإِنَّ الثِّمَارَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُعَرَّضَةٌ لِلْعَاهَاتِ. فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا حَصَلَ الْإِجْحَافُ بِالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ، وَمَعَ هَذَا: فَقَدْ مَنَعَهُ الشَّرْعُ. وَنَهَى الْمُشْتَرِيَ كَمَا نَهَى الْبَائِعَ، وَكَأَنَّهُ قَطَعَ النِّزَاعَ وَالتَّخَاصُمَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمَعْنَى: حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ.

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُول اللَّهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ]

وَ " الْإِزْهَاءُ " تَغَيُّرُ لَوْنِ الثَّمَرَةِ فِي حَالَةِ الطِّيبِ. وَالْعِلَّةُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهَا لِلْجَوَائِحِ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِمُسَمَّى الْإِزْهَاءِ وَابْتِدَائِهِ، مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ تَكَامُلِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْإِزْهَاءِ غَايَةً لِلنَّهْيِ، وَبِأَوْلِهِ يَحْصُلُ الْمُسَمَّى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ - أَعْنِي مَا لَمْ يَزْهُ مِنْ الْحَائِطِ - إذَا دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ الثَّمَرَةِ. فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْإِزْهَاءِ، فَإِنْ قَالَ بِهَذَا أَحَدٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَهْوَ بَعْضِ الثَّمَرَةِ كَافٍ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا أَزْهَتْ بِإِزْهَاءِ بَعْضِهَا مَعَ حُصُولِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ غَالِبًا. وَلَوْلَا وُجُودُ الْمَعْنَى كَانَ تَسْمِيَتُهَا " مُزْهِيَةً " بِإِزْهَاءِ بَعْضِهَا: قَدْ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِكَوْنِهِ مَجَازًا. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» عَلَى وَضْعِ الْحَوَائِجِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ

ص: 123

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ: فَقُلْتُ لَابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ

261 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُزَابَنَةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، إنْ كَانَ نَخْلًا: بِتَمْرٍ كَيْلًا. وَإِنْ كَانَ كَرْمًا: أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا، أَوْ كَانَ زَرْعًا: أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ. نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.»

262 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَعَنْ الْمُزَابَنَةِ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَأَنْ لَا تُبَاعَ إلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إلَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ]

فِي النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَتَفْسِيرُهُمَا. وَاَلَّذِي زَادَ هَذَا الْحَدِيثُ: تَفْسِيرَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَفُسِّرَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارًا.

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ الْمُزَابَنَةِ]

الْمُزَابَنَةُ " مَأْخُوذَةٌ مِنْ الزَّبْنِ وَهُوَ الدَّفْعُ. وَحَقِيقَتُهَا: بَيْعُ مَعْلُومٍ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لَهَا أَمْثِلَةٌ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ. وَمِنْ بَيْعِ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ. وَمِنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِكَيْلِ الطَّعَامِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُزَابَنَةً " مِنْ مَعْنَى الزَّبْنِ، لِمَا يَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ عَمَّا يَرُومُهُ مِنْهُ.

ص: 124

الْعَرَايَا.»

263 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.»

264 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه «أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ. وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَعَنْ الْمُزَابَنَةِ]

" الْمُحَاقَلَةُ " بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ.

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُول اللَّه عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ]

اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، فَمَنْ يَرَى نَجَاسَةَ الْكَلْبِ - وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ قَائِمَةٌ فِي الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ. وَمَنْ يَرَى بِطَهَارَتِهِ: اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْمُعَلَّمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ غَيْرُ عَامَّةٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْمُعَلَّمِ مِنْهُ حَدِيثٌ فِي ثُبُوتِهِ بَحْثٌ، يُحَالُ عَلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا " مَهْرُ الْبَغِيِّ " فَهُوَ مَا تُعْطَاهُ عَلَى الزِّنَا. وَسُمِّيَ مَهْرًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. أَوْ اسْتِعْمَالًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ " فِي الْوَضْعِ: مَا يُقَابَلُ بِهِ النِّكَاحُ. " وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ " هُوَ مَا يُعْطَاهُ عَلَى كِهَانَتِهِ. وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَذْلِ الْأَعْوَاضِ فِيمَا لَا يَجُوزُ مُقَابَلَتُهُ بِالْعِوَضِ. أَمَّا الزِّنَا: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْكِهَانَةُ: فَبُطْلَانُهَا وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا: مِنْ بَابِ أَكَلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ مِنْ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ.

ص: 125

الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»

265 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا وَلِمُسْلِمٍ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ]

إطْلَاقُ " الْخَبِيثِ " عَلَى ثَمَنِ الْكَلْبِ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي كُلِّ كَلْبٍ. فَإِنْ ثَبَتَ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِلَّا وَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَالْخَبِيثُ مِنْ حَيْثُ هُوَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ صَرِيحًا. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ " أَنَّهُ خَبِيثٌ " وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّحْرِيمِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ. وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ» ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ " فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَةَ " الْخَبِيثِ " ظَاهِرَةٌ فِي الْحَرَامِ، فَخُرُوجُهَا عَنْ ذَلِكَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ بِدَلِيلٍ: لَا يَلْزَمُ مِنْهُ خُرُوجُهَا فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَمَّا " الْكَلْبُ " فَإِذَا قِيلَ بِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ: كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى طَهَارَتِهِ. وَلَيْسَ يَدُلُّ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ عَلَى نَجَاسَتِهِ

؛ لِأَنَّ عِلَّةَ مَنْعِ الْبَيْعِ: مُتَعَدِّدَةٌ لَا تَنْحَصِرُ فِي النَّجَاسَةِ

[بَابُ الْعَرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ]

[حَدِيثٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العرية أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا]

اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ " الْعَرِيَّةِ " الْمُرَخَّصِ فِيهَا. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هُوَ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِقَدْرِ كَيْلِهِ مِنْ التَّمْرِ خَرْصًا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ صُورَتُهُ: أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ - أَيْ يَهَبَ - ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلَاتٍ، ثُمَّ يَتَضَرَّرَ بِمُدَاخَلَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِخَرْصِهَا تَمْرًا. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ رَبِّ الْبُسْتَانِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ: أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرِيَّةَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ

ص: 126

266 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَدِينَةِ، مُتَدَاوَلَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَقَدْ نَقَلَهَا مَالِكٌ هَكَذَا.

وَالثَّانِي: قَوْلُهُ " لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِصِفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَهِيَ الْهِبَةُ الْوَاقِعَةُ. وَأَنْشَدُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَرَايَا بِالْهِبَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رَجَبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " بِخَرْصِهَا " فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَقَيُّدٌ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ بَيْعُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِإِطْلَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِمَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِالرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا فِيهِمَا، وَبِالرُّطَبِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَيْلًا. وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ لِلْحَاجَةِ إلَى تَحْصِيلِ الرُّطَبِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تُوجَدُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الرُّطَبِ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ ذَلِكَ النَّوْعُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ بَاعَ رُطَبًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِرُطَبٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمَعَانِي فِي الرُّخْصَةِ أَنْ يَأْكُلَ الرُّطَبَ عَلَى التَّدْرِيجِ طَرِيًّا، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ فِيمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ مَنْ لَا يَرَى اخْتِصَاصَ جَوَازِ بَيْعِ الْعَرَايَا لِمَحَاوِيجِ النَّاسِ. وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِمْ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِيهِ " أَنَّهُ سَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ. صلى الله عليه وسلم وَلَا نَقْدَ فِي أَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا وَيَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولُ قُوتِهِمْ مِنْ التَّمْرِ. فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ ".

ص: 127

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.» .

267 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ.» وَلِمُسْلِمٍ «وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَنَّ رَسُول اللَّهِ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ]

أَمَّا تَجْوِيزُ بَيْعِ الْعَرَايَا: فَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ بَيَانَ مِقْدَارِ مَا تَجُوزُ فِيهِ الرُّخْصَةُ. وَهُوَ مَا دُونَ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا دُونَهَا. وَفِي خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ قَوْلَانِ. وَالْقَدْرُ الْجَائِزُ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالصَّفْقَةِ، إنْ كَانَتْ وَاحِدَةً: اعْتَبَرْنَا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ فَمَنَعْنَا. وَمَا دُونَهَا فَأَجَزْنَا. أَمَّا لَوْ كَانَتْ صَفَقَاتٍ مُتَعَدِّدَةً: فَلَا مَنْعَ. وَلَوْ بَاعَ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ رَجُلَيْنِ مَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَدْرُ الْجَائِزُ: جَازَ. وَلَوْ بَاعَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ: فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ، أَظْهَرُ مِنْ تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ. أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، نَظَرًا إلَى مُشْتَرِي الرُّطَبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ قِيَاسِ الرِّبَوِيَّاتِ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ فَوْقَ الْقَدْرِ الْمُجَوَّزِ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَعَدُّدِ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ، جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ. .

ص: 128

268 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ]

يُقَالُ: أَبَرْتُ النَّخْلَةَ آبُرُهَا. وَقَدْ يُقَالُ بِالتَّشْدِيدِ، وَ " التَّأْبِيرُ " هُوَ التَّلْقِيحُ. وَهُوَ أَنْ يُشَقِّقَ أَكِمَّةَ إنَاثِ النَّخْلِ، وَيَذُرَّ طَلْعَ الذَّكَرِ فِيهَا. وَلَا يُلَقَّحُ جَمِيعُ النَّخِيلِ، بَلْ يُؤَبَّرُ الْبَعْضُ وَيُشَقَّقُ الْبَاقِي. بِانْبِثَاثِ رِيحِ الْفُحُولِ إلَيْهِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ تَشَقُّقُ الطَّلْعِ. وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ. وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ خَالَفَ فِي هَذَا، وَقَالَ تَبْقَى الثِّمَارُ لِلْبَائِعِ، أُبِّرَتْ أَوْ لَمْ تُؤَبَّرْ. وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطَاهَا لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي: فَالشَّرْطُ مُتَّبَعٌ. وَقَوْلُهُ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ» حَقِيقَتُهُ: اعْتِبَارُ التَّأْبِيرِ فِي الْمَبِيعِ حَقِيقَةً بِنَفْسِهِ. وَقَدْ أَجْرَى تَأْبِيرَ الْبَعْضِ مَجْرَى تَأْبِيرِ الْجَمِيعِ إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ وَاحِدٍ، وَاتَّحَدَ النَّوْعُ، وَبَاعَهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالنَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ النَّوْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: إنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْكُلَّ يَبْقَى لِلْبَائِعِ، كَمَا لَوْ اتَّحَدَ النَّوْعُ، دَفْعًا لِضَرَرِ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ إذَا بَاعَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مُفْرَدًا بِالْعَقْدِ بَعْدَ تَأْبِيرِ غَيْرِهِ فِي الْبُسْتَانِ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَبِيعِ شَيْءٌ مُؤَبَّرٌ فَيَقْتَضِي مَفْهُومُ الْحَدِيثِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْبَائِعِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَجْهَيْ الشَّافِعِيَّةِ. كَأَنَّهُ إنَّمَا يَعْتَبِرُ عَدَمَ التَّأْبِيرِ إذَا بِيعَ مَعَ الْمُؤَبَّرِ. فَيُجْعَلُ تَبَعًا. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ. لَيْسَ هَهُنَا فِي الْمَبِيعِ شَيْءٌ مُؤَبَّرٌ. فَيُجْعَلُ غَيْرُهُ تَبَعًا. لَهُ.

وَأُدْخِلَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْحَدِيثِ: مَا إذَا كَانَ التَّأْبِيرُ وَعَدَمُهُ فِي بُسْتَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَالْأَصَحُّ هَهُنَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ لِاخْتِلَافِ الْبِقَاعِ تَأْثِيرًا فِي التَّأْبِيرِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ ضَرَرُ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَقَوْلِهِ «مَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ؛ لِإِضَافَةِ الْمَالِ إلَيْهِ بِاللَّامِ. وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ.

ص: 129

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» وَفِي لَفْظٍ «حَتَّى يَقْبِضَهُ» .

269 -

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ.

270 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ]

هَذَا نَصٌّ فِي مَنْعِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى. وَمَالِكٌ خَصَّصَ الْحُكْمَ بِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ التَّوْفِيَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالطَّعَامِ، بَلْ جَمِيعُ الْمَبِيعَاتِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا عِنْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الْمَنْعِ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَمْلُوكًا بِجِهَةِ الْبَيْعِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَمْنُوعُ هُوَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ مَا إذَا كَانَ مَمْلُوكًا بِجِهَةِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ مَثَلًا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِعُقُودِ غَيْرِ الْبَيْعِ. مِنْهَا: الْعِتْقُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَنْفُذُ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، بِأَنْ أَدَّى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، فَقِيلَ: هُوَ كَعِتْقِ الرَّاهِنِ. وَقِيلَ: لَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: الْمَنْعُ. وَكَذَلِكَ فِي التَّزْوِيجِ خِلَافٌ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: خِلَافُهُ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ التَّوْلِيَةُ وَالشَّرِكَةُ. وَأَجَازَهُمَا مَالِكٌ مَعَ الْإِقَالَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالتَّوْلِيَةَ بَيْعٌ. فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْحَدِيثِ. وَفِي كَوْنِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا: خِلَافٌ فَمَنْ لَا يَرَاهَا بَيْعًا لَا يُدْرِجُهَا تَحْتَ الْحَدِيثِ.

وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى ذَلِكَ مَالِكٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ فِيهَا حَدِيثًا يَقْتَضِي الرُّخْصَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 130

الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ. وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: لَا. هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ. إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا. جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . قَالَ " جَمَلُوهُ " أَذَابُوهُ. .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ]

أُخِذَ مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ: نَجَاسَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِمَا لَمْ يُعْدَمْ. فَإِنَّهُ قَدْ يُنْتَفَعُ بِالْخَمْرِ فِي أُمُورٍ، وَيُنْتَفَعُ بِالْمَيْتَةِ فِي إطْعَامِ الْجَوَارِحِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْأَصْنَامِ: فَلِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى صُورَتِهَا، وَعَدَمُ الِانْتِفَاعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَقَدْ يَكُونُ مَنْعُ بَيْعِهَا مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا.

ص: 131

271 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ. .. إلَخْ فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهَا، وَإِطْلَاءِ السُّفُنِ بِقَوْلِهِ عليه السلام لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ:" لَا. هُوَ حَرَامٌ " وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ. فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْمَيْتَةِ قَالُوا لَهُ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ. فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ. .. إلَخْ قَصْدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ تَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ": لَا. هُوَ حَرَامٌ " وَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " هُوَ " عَلَى الْبَيْعِ. كَأَنَّهُ أَعَادَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ بَعْدَمَا بَيَّنَ لَهُ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً، إهْدَارًا لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي ذَكَرْتُ. وَقَوْلُهُ عليه السلام قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ. .. إلَخْ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ بَيْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِنَّ الْعِلَّةَ تَحْرِيمُهَا. فَإِنَّهُ وَجَّهَ اللُّوَّمَ عَلَى الْيَهُودِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ الثَّمَنِ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الشُّحُومِ. اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذَا عَلَى تَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْيَهُودَ تُوَجِّهَ عَلَيْهِمْ اللَّوْمُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الثَّمَنِ، مِنْ جِهَةِ تَحْرِيمِ أَكْلِ الْأَصْلِ. وَأَكْلُ الثَّمَنِ لَيْسَ هُوَ أَكْلُ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَسَبُّبًا إلَى أَكْلِ الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْمَعْنَى اسْتَحَقُّوا اللَّوْمَ بِهِ. .

[بَابُ السَّلَمِ]

[حَدِيثٌ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْجُمْلَةِ. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ إلَى السَّنَةِ وَالسَّنَتَيْنِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا يَنْقَطِعُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، إذَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحَلِّ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي الثَّمَرَةِ

ص: 132

272 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ: فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ. فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَوَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ: لَهُمْ. فَأَبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ. فَقَالَتْ إنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي، فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ. فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ. فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كُلُّ شَرْطٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ. فَلَا مَحَالَةَ يَنْقَطِعُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ إذَا حُمِلَتْ الثَّمَرَةُ عَلَى " الرُّطَبِ ". وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» أَيْ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلًا. وَقَوْلُهُ «وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ» أَيْ إذَا كَانَ مَوْزُونًا. وَالْوَاوُ هَهُنَا بِمَعْنَى " أَوْ " فَإِنَّا لَوْ أَخَذْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا - مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ - لَزِمَ أَنْ يَجْمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَيْلًا وَوَزْنًا. وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى عِزَّةِ الْوُجُودِ. وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ السَّلَمِ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ التَّفْصِيلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: السَّلَمُ بِالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ، وَبِالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام " إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ مَنَعَ السَّلَمَ الْحَالَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا يُوَجِّهُ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ " فَلْيُسْلِفْ " إلَى الْأَجَلِ وَالْعِلْمِ مَعًا. وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا الْحَالَّ وَجَّهُوا الْأَمْرَ إلَى الْعِلْمِ فَقَطْ. وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إنْ أَسْلَمَ إلَى أَجَلٍ فَلْيُسْلِمْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَا إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

ص: 133

لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ. وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ]

[حَدِيثٌ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ]

قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَفْرَدُوا التَّصْنِيفَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَائِدِهِ: وَبَلَغُوا بِهَا عَدَدًا كَثِيرًا. وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ عُيُونًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا " كَاتَبْتُ " فَاعَلْتُ مِنْ الْكِتَابَةِ. وَهُوَ الْعَقْدُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ كِتَابَةِ الْخَطِّ، لِمَا أَنَّهُ يَصْحَبُ هَذَا الْعَقْدَ الْكِتَابَةُ لَهُ، فِيمَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] كَأَنَّ السَّيِّدَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِتْقَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَالْعَبْدُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْأَدَاءَ لِلْمَالِ الَّذِي تَكَاتَبَا عَلَيْهِ.

الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْمَنْعُ وَالْجَوَازُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْعِتْقِ، فَيَجُوزُ، أَوْ لِلِاسْتِخْدَامِ فَلَا. فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ: فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ مُكَاتَبَةٌ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ: فَيَحْتَاجُ إلَى الْعُذْرِ عَنْهُ، فَمِنْ الْعُذْرِ عَنْهُ مَا قِيلَ. إنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ، أَوْ الضَّعْفِ عَنْ الْكَسْبِ فَقَدْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنْ الِاعْتِذَارَاتِ: أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ اشْتَرَتْ الْكِتَابَةَ، لَا الرَّقَبَةَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَكِ» فَإِنَّهُ يُشْعِرُ

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِأَنَّ الْمُشْتَرَى: هُوَ الْكِتَابَةُ لَا الرَّقَبَةَ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ شِرَائِهِ لِلْعِتْقِ وَغَيْرِهِ: فَلَا إشْكَالَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا أُجِيزُ بَيْعَهُ لِلْعِتْقِ. وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِمَا أَقُولُ

[بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ]

1

الثَّالِثُ: بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهِبَهُ. وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ. لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَمَنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُمْنَعُ كَوْنُ عَائِشَةَ مُشْتَرِيَةً لِلرَّقَبَةِ. وَيُحْمَلُ عَلَى قَضَاءِ الْكِتَابَةِ عَنْ بَرِيرَةَ، أَوْ عَلَى شِرَاءِ الْكِتَابَةِ خَاصَّةً.

وَالْأَوَّلُ: ضَعِيفٌ، مُخَالِفٌ لِلَّفْظِ الْوَارِدِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام " ابْتَاعِي " وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ مُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ قَدْ قِيلَ بِمَنْعِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، مَعَ جَوَازِ بَيْعِ الْكِتَابَةِ. وَيَكُونُ قَدْ ذَهَبَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ ذَاهِبٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ. وَهَذَا يُسْتَمَدُّ مِنْ مَسْأَلَةِ إحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ.

الرَّابِعُ: إذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ، أَوْ يَفْسُدُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ إلَّا اشْتِرَاطَ الْوَلَاءِ. وَالْعَقْدُ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ: اشْتِرَاطَ الْعِتْقِ، وَاشْتِرَاطَ الْوَلَاءِ. وَلَمْ يَقَعْ الْإِنْكَارُ إلَّا لِلثَّانِي. فَيَبْقَى الْأَوَّلُ مُقَرَّرًا عَلَيْهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ " اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ " مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الْعِتْقِ. فَيَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ مُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ. وَمَعْنَى صِحَّةِ الشَّرْطِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ امْتَنَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ، أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ.

[اشْتِرَاطُ الْوَلَاءِ لِلْبَائِعِ]

1

الْخَامِسُ: اشْتِرَاطُ الْوَلَاءِ. لِلْبَائِعِ، هَلْ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يُفْسِدُهُ لِمَا قَالَ فِيهِ " وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ " وَلَا يَأْذَنُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَقْدٍ بَاطِلٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ صَحِيحٌ. فَهَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ مُوَافِقٌ لِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَسِيَاقِهِ، وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ. وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي: أَنَّ الْأَثَرَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ السَّبَبُ. وَالْوَلَاءُ مِنْ آثَارِ الْعِتْقِ. فَيَخْتَصُّ بِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْعِتْقُ. وَهُوَ الْمُعْتِقُ. وَهَذَا التَّمَسُّكُ وَالتَّوْجِيهُ فِي حِصَّةِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ: يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ " وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ " وَسَيَأْتِي.

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السَّادِسُ: الْكَلَامُ عَلَى الْإِشْكَالِ الْعَظِيمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ يَأْذَنُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ؟ وَكَيْفَ يَأْذَنُ، حَتَّى يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَيَدْخُلَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُبْطِلُ اشْتِرَاطَهُ؟ . فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْإِشْكَالِ. فَمِنْهُمْ مَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ. أَعْنِي قَوْلَهُ " وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ " وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ. وَبَلَغَنِي عَنْ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِنْهُ. وَأَنَّهُ قَالَ " اشْتِرَاطُ الْوَلَاءِ " رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَغَيْرُهُ مِنْ رُوَاتِهِ: أَثْبَتُ مِنْ هِشَامٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى إثْبَاتِ اللَّفْظَةِ، لِلثِّقَةِ بِرَاوِيهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّخْرِيجِ. وَذُكِرَ فِيهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ " لَهُمْ " بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَشْهَدُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] بِمَعْنَى " عَلَيْهِمْ "{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] بِمَعْنَى عَلَيْهَا " وَفِي هَذَا ضَعْفٌ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرًا مِنْ أَلْفَاظِهِ: يَنْفِيه. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ اللَّامَ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ النَّافِعِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ. فَقَدْ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ النَّافِعِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ.

وَثَانِيهِمَا مَا فَهِمْتُهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَتَلْخِيصُهُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاشْتِرَاطُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا شَرَطَهُ الْبَائِعُونَ، وَعَدَمِ إظْهَارِهِ النِّزَاعَ فِيمَا دَعُوا إلَيْهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ التَّخْلِيَةِ وَالتَّرْكِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِذْنِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَالتَّجْوِيزَ؟ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] .

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ هَهُنَا: إبَاحَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِضْرَارِ بِالسِّحْرِ. وَلَكِنَّهُ لَمَّا خَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْإِضْرَارِ: أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَةَ " الْإِذْنِ " مَجَازًا، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ عَلَى الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ.

وَثَالِثُهُمَا: أَنَّ لَفْظَةَ " الِاشْتِرَاطِ " وَ " الشَّرْطِ " وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا تَدُلُّ عَلَى

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْإِعْلَامِ وَالْإِظْهَارِ. وَمِنْهُ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَالشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ وَالشَّرْعِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُوَيْسِ بْنِ حَجَرٍ - بِفَتْحِ الْحَاء وَالْجِيم - فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ أَيْ أَعْلَمَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ " اشْتَرِطِي " عَلَى مَعْنَى: أَظْهِرِي حُكْمَ الْوَلَاءِ وَبَيِّنِيهِ وَأَعْلِمِي: أَنَّهُ لِمَنْ أَعْتَقَ، عَلَى عَكْسِ مَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ وَفَهِمَهُ مِنْ الْحَدِيثِ. وَرَابِعُهَا: مَا قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَدْ كَانَ أَخْبَرَهُمْ «أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى اشْتِرَاطِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي عَلِمُوهُ، فَوَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْكِيلِ، لِمُخَالَفَتِهِمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ.

وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: إخْرَاجُ لَفْظَةِ الْأَمْرِ عَنْ ظَاهِرِهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ خَارِجَةً عَنْ ظَاهِرِهَا فِي مَوَاضِعَ يَمْتَنِعُ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي ذُكِرَ: لَا يَبْقَى غُرُورٌ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ إبْطَالُ هَذَا الشَّرْطِ عُقُوبَةً، لِمُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ إبْطَالَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي تَغْرِيمَ مَا قُوبِلَ بِهِ الشَّرْطُ مِنْ الْمَالِيَّةِ، الْمُسَامَحِ بِهَا لِأَجْلِ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، لَا عَامًّا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَيَكُونُ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِإِبْطَالِ هَذَا الشَّرْطِ: الْمُبَالَغَةَ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ، كَمَا أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَة كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، مُبَالَغَةً فِي إزَالَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ: الْأَصَحَّ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ لَمَا لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ نَفْيُهُ عَمَّنْ لَمْ

ص: 137

273 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما «أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ. فَلَحِقَنِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

يَعْتِقْ. لَكِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ نَفْيِهِ عَمَّنْ لَمْ يَعْتِقْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَاهَا الْحَصْرُ

[ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَنْ نَفْسِهِ]

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: لَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَنْ نَفْسِهِ، بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ. وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّائِبَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: بُطْلَانُ هَذَا الشَّرْطِ، وَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ، وَالْحَدِيثُ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي ذَلِكَ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: قَالُوا: يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْعِتْقِ، كَالْكِتَابَةِ وَالتَّعْلِيقِ بِالصِّفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: يَقْتَضِي حَصْرَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ، وَيَسْتَلْزِمُ حَصْرَ السَّبَبِيَّةِ فِي الْعِتْقِ. فَيَقْتَضِي ذَلِكَ: أَنْ لَا وَلَاءَ بِالْحِلْفِ، وَلَا بِالْمُوَالَاةِ، وَلَا بِإِسْلَامِ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، وَلَا بِالْتِقَاطِهِ لِلَّقِيطِ، وَكُلُّ هَذِهِ الصُّوَرِ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنْ لَا وَلَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِلْحَدِيثِ.

الْحَادِيَ عَشَرَ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكِتَابَةِ، وَجَوَازِ كِتَابَةِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ.

[تَنْجِيمِ الْكِتَابَةِ]

1

الثَّانِيَ عَشَرَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَنْجِيمِ الْكِتَابَةِ، لِقَوْلِهَا «كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ» وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ، فَيُتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ عليه السلام «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِكِتَابِ اللَّهِ: حُكْمَ اللَّهِ، أَوْ يُرَادُ بِذَلِكَ: نَفْيُ كَوْنِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: إمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَالْمَنْصُوصَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ " أَيْ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ الشُّرُوطِ الْمُخَالِفَةِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَ " شَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ " أَيْ بِاتِّبَاعِ حُدُودِهِ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّجْعِ الْغَيْرِ الْمُتَكَلِّفِ.

ص: 138

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ. فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ. قُلْتُ: لَا. ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ. فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ. وَاسْتَثْنَيْتُ حِمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي. فَلَمَّا بَلَغْتُ: أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ. فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ. ثُمَّ رَجَعْتُ. فَأَرْسَلَ فِي إثْرِي. فَقَالَ: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لَآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ. فَهُوَ لَكَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لَآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ]

فِي الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَمُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا بَيْعُهُ وَاسْتِثْنَاءُ حِمْلَانَهُ إلَى الْمَدِينَةِ: فَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ مِثْلَهُ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: الْمَنْعُ وَقِيلَ: بِالْجَوَازِ، تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ تَكُونُ مُسْتَثْنَاةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: الْأَوَّلُ. وَاَلَّذِي يُعْتَذَرُ بِهِ عَنْ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: أَنْ لَا يُجْعَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ تَبَرُّعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَمَلِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونَ الشَّرْطُ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ. وَالشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ: مَا تَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْعَقْدِ وَمَمْزُوجَةً بِهِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مِمَّا يُمْنَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ صَرِيحٌ فِي الِاشْتِرَاطِ، وَبَعْضُهَا لَا. فَيَقُولُ: إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ، وَكَانَتْ الْحُجَّةُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ: تَوَقَّفَ الِاحْتِجَاجُ. فَنَقُولُ: هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ بِشَرْطِ تَكَافُؤِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ تَقَارُبِهَا. أَمَّا إذَا كَانَ التَّرْجِيحُ وَاقِعًا لِبَعْضِهَا - إمَّا؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ، أَوْ أَحْفَظُ - فَيَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهَا. إذْ الْأَضْعَفُ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الْعَمَلِ بِالْأَقْوَى، وَالْمَرْجُوحُ لَا يَدْفَعُ التَّمَسُّكَ بِالرَّاجِحِ. فَتَمَسَّك بِهَذَا الْأَصْلِ. فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ. مِنْهَا: أَنَّ الْمُحْدِثِينَ يُعَلِّلُونَ الْحَدِيثَ بِالِاضْطِرَابِ " وَيَجْمَعُونَ الرِّوَايَاتِ الْعَدِيدَةِ. فَيَقُومُ فِي الذِّهْنِ مِنْهَا صُورَةٌ تُوجِبُ التَّضْعِيفَ. وَالْوَاجِبُ: أَنْ يُنْظَرَ إلَى تِلْكَ الطُّرُقِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا

ص: 139

274 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ. وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ. وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ضَعِيفًا أُسْقِطَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ. وَلَمْ يُجْعَلْ مَانِعًا مِنْ التَّمَسُّكِ بِالصَّحِيحِ الْقَوِيِّ. وَلِتَمَامِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - وَإِنْ قَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ - فَهُوَ يُخَصِّصُهُ بِاسْتِثْنَاءِ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَرُبَّمَا قِيلَ: إنَّهُ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: جَوَازُ بَيْعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِأَنْ يُجْعَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا. وَيُجْعَلُ بَيْعُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْمَعْنَى. فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ، إلَّا أَنَّ فِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا مَعْدُودًا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ وَفَائِدَةٌ مِنْ فَوَائِدِهِ نَظَرًا.

[حَدِيثٌ لَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ]

أَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالنَّجْشِ، وَبَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْخِطْبَةِ: فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي إطْلَاقِهِ الْفُقَهَاءُ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِحَالَةِ التَّرَاكُنِ، وَالتَّوَافُقِ بَيْنَ الْخَاطِبِ وَالْمَخْطُوبِ إلَيْهِ، وَتَصَدَّى نَظَرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا بِهِ يَحْصُلُ تَحْرِيمُ الْخِطْبَةِ. وَذَكَرُوا أُمُورًا لَا تُسْتَنْبَطُ مِنْ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْخِطْبَةُ قَبَلَ التَّرَاكُنِ: فَلَا تَمْتَنِعُ. نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَتْ الْخِطْبَةُ، وَهُوَ وُقُوعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَإِيحَاشِ النُّفُوسِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ أَمَّا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فَاسِقًا، وَالْآخَرُ صَالِحًا. فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّهْيِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ النَّهْيَ، وَخَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ: لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، وَلَمْ يُفْسَخْ.

ص: 140

275 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ. وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لِأَنَّ النَّهْيَ مُجَانَبٌ لِأَجْلِ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَذَلِكَ لَا يَعُودُ عَلَى أَرْكَانِ الْعَقْدِ وَشُرُوطِهِ بِالِاخْتِلَالِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْ سُؤَالِ طَلَاقِ أُخْتِهَا: فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ أَلْفَاظٌ مَجَازِيَّةٌ. فَجُعِلَ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِمَثَابَةِ تَفْرِيغِ الصَّحْفَةِ بَعْدَ امْتِلَائِهَا. وَفِيهِ مَعْنَى آخَرُ. وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى الرِّزْقِ، لِمَا يُوجِبُهُ النِّكَاحُ مِنْ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الصَّحْفَةَ وَمَلْأَهَا مِنْ بَابِ الْأَرْزَاقِ، وَكِفَاؤُهَا قَلْبُهَا.

[بَابُ الرِّبَا وَالصَّرْفِ]

[حَدِيث الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا]

الْحَدِيثُ: يَدْخُلُ عَلَى وُجُوبِ الْحُلُولِ وَتَحْرِيمِ النَّسَاءِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ. وَاللَّفْظَةُ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقَابُضِ. وَهِيَ مَمْدُودَةٌ مَفْتُوحَةٌ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ:

لَمَّا رَأَتْ فِي قَامَتِي انْحِنَاءَ

وَالْمَشْيَ بَعْدَ قَعَسٍ أَجْنَاءَ

أَجْلَتْ وَكَانَ حُبُّهَا إجْلَاءَ

وَجَعَلَتْ نِصْفَ غَبُوقِي مَاءَ

تَمْزُجُ لِي مِنْ بُغْضِهَا السِّقَاءَ

ثُمَّ تَقُولُ مِنْ بَعِيدٍ هَاءَ

دَحْرَجَةً إنْ شِئْتَ أَوْ إلْقَاءَ

ثُمَّ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ دَاءَ

لَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ شِفَاءً

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ الْحُلُولَ وَالتَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ. فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْ غَيْرَهُ. وَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُ طُولُ الْمَجْلِسِ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ حَالًّا. وَشَدَّدَ مَالِكٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَلَمْ يُسَامِحْ بِالطُّولِ فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنْ وَقَعَ

ص: 141

276 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» . وَفِي لَفْظٍ «إلَّا يَدًا بِيَدٍ» . وَفِي لَفْظٍ «إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْقَبْضُ فِيهِ. وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَدْخُلُ فِي الْمَجَازِ. وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَخْتَصُّ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، بَلْ إذَا جَمَعَ الْمَبِيعَيْنِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ - كَالنَّقْدِيَّةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالطَّعْمِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قِيلَ بِهِ -: اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ. وَقَدْ اشْتَمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، حَيْثُ مَنَعَ ذَلِكَ بَيْنَ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَبَيْنَ الْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ. فَإِنَّ هَذَيْنِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَالْأَوَّلُ فِي جِنْسَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.

[حَدِيثٌ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ]

فِي الْحَدِيثِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَنِصْفِهِ فِي الذَّهَبِ مِنْ قَوْلِهِ " إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ".

الثَّانِي: تَحْرِيمُ النَّسَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» وَلَا بَقِيَّةَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ مَا كَانَ مِنْهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: أُخِذَ فِيهِ بِالنَّصِّ وَمَا لَا، قَاسَهُ الْقَائِسُونَ. وَقَوْلُهُ " إلَّا يَدًا بِيَدٍ " فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَقْتَضِي مَنْعَ النَّسَاءَ. وَقَوْلُهُ " وَزْنًا بِوَزْنٍ " يَقْتَضِي اعْتِبَارَ التَّسَاوِي، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّسَاوِي فِي هَذَا بِالْوَزْنِ لَا بِالْكَيْلِ، وَالْفُقَهَاءُ قَرَّرُوا أَنَّهُ يَجِبُ التَّمَاثُلُ بِمِعْيَارِ الشَّرْعِ، فَمَا كَانَ مَوْزُونًا فَبِالْوَزْنِ، وَمَا كَانَ مَكِيلًا فَبِالْكَيْلِ.

ص: 142

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ بِلَالٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ، بِصَاعٍ لِيَطْعَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ، أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ. وَلَكِنْ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ. ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» .

278 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ «

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ جَاءَ بِلَالٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ]

هُوَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فِي التَّمْرِ، وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ رِبَا الْفَضْلِ، وَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَأَخَذَ قَوْمٌ مِنْ الْحَدِيثِ: تَجْوِيزَ الذَّرَائِعِ، مِنْ حَيْثُ قَوْلُهُ «بِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» فَإِنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهُ، وَالشِّرَاءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ بَاعَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّوَصُّلَ إلَى شِرَاءِ الْأَكْثَرِ أَوْ لَا: وَالْمَانِعُونَ مِنْ الذَّرَائِعِ: يُجِيبُونَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ، فَيُحْمَلُ عَلَى بَيْعِهِ مَعَ غَيْرِ الْبَائِعِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَمْنَعُونَهَا. فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُكْتَفَى فِي الْعَمَلِ بِهِ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ فِعْلًا، كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِالدُّخُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ، حَمْلًا عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ اللَّفْظُ مِنْ الْإِطْلَاقِ إلَى التَّقْيِيدِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ. فِي الصِّفَاتِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ " بِبَيْعٍ آخَرَ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: بِمَبِيعٍ آخَرَ، وَيُرَادُ بِهِ: التَّمْرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: بَيْعٌ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، عَلَى مَعْنَى زِيَادَةِ الْبَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْهُ بَيْعًا آخَرَ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ: قَوْلُهُ " ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ "

ص: 143

سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، عَنْ الصَّرْفِ؟ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِنِّي. وَكِلَاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا.»

279 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا: أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، كَيْفَ شِئْنَا. وَنَشْتَرِيَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا. قَالَ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ» .

280 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا]

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ، وَالِاعْتِرَافِ بِحُقُوقِ الْأَكَابِرِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ رِبَا النَّسِيئَةِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ - وَهُوَ الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ - لَاجْتِمَاعِهِمَا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ النَّقْدِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الْأَجْنَاسُ الْأَرْبَعَةُ - أَعْنِي الْبُرَّ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ - بِاجْتِمَاعِهَا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أُخْرَى، فَلَا يُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ نَسِيئَةً، وَالْوَاجِبُ فِيمَا يُمْنَعُ فِيهِ النَّسَاءُ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: التَّنَاجُزُ فِي الْبَيْعِ، أَعْنِي أَلَّا يَكُونَ مُؤَجَّلًا. وَالثَّانِي: التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ ".

[حَدِيثٌ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ]

قَوْلُهُ «نَشْتَرِيَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، كَيْفَ شِئْنَا» يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّفَاضُلِ وَالتَّسَاوِي، لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ، حَيْثُ قِيلَ " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ".

ص: 144

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.» .

281 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ]

[حَدِيث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ]

اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَبْسِ وَالْإِقَامَةِ، رَهَنَ بِالْمَكَانِ: إذَا أَقَامَ بِهِ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ، مَعَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْفَسَادِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ. وَوَقَعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ فِي جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَخَّرِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يَتَأَتَّى الْإِقْبَاضُ فِي الْحَالِ غَالِبًا، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الثَّمَنِ فِي وَقْتِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

[حَدِيثٌ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَطْلِ بِالْحَقِّ. وَلَا خِلَافَ فِيهِ، مَعَ الْقُدْرَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَاخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يَجِبُ الْأَدَاءُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ؟ وَذُكِرَ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ الْوُجُوبُ مِنْ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " الْمَطْلِ " تُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ. فَيَكُونُ مَأْخَذُ الْوُجُوبِ دَلِيلًا آخَرَ. وَقَوْلُهُ " الْغَنِيِّ " يُخْرِجُ الْعَاجِزَ عَنْ الْأَدَاءِ. " فَإِذَا أُتْبِعَ " مَضْمُومُ الْهَمْزَةِ سَاكِنُ التَّاءِ مَكْسُورُ الْبَاءِ. وَقَوْلُهُ " فَلْيَتْبَعْ " مَفْتُوحُ الْيَاءِ سَاكِنُ التَّاءِ، مَفْتُوحُ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِنَا: أَتْبَعْتُ فُلَانًا: جَعَلْتُهُ تَابِعَا لِلْغَيْرِ. وَالْمُرَادُ هَهُنَا تَبَعِيَّتُهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بِالْحَوَالَةِ. وَقَدْ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ:

ص: 145

282 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ - أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِوُجُوبِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ، لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحِيلِ بِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَتَرْكِ تَكْلِيفِهِ التَّحْصِيلَ بِالطَّلَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ إشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِ مَطْلِ الْغَنِيِّ ظُلْمًا، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ ظُلْمًا - وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ - فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ الْمَطْلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلِيءَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ، بَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ قَهْرًا وَيُوفِيهِ. فَفِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ: تَحْصِيلُ الْغَرَضِ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةِ تَوَاءِ الْحَقِّ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَرْجَحُ. لِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ بِكَوْنِ الْمَطْلِ ظُلْمًا. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي تَكُونُ الْعِلَّةُ عَدَمَ تَوَاءِ الْحَقِّ لَا الظُّلْمُ.

[حَدِيثٌ مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ]

فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى رُجُوعُ الْبَائِعِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الثَّمَنِ بِالْفَلَسِ، أَوْ الْمَوْتِ. فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، لَا فِي الْمَوْتِ وَلَا فِي الْفَلَسِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ. وَيَكُونُ فِي الْمَوْتِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْفَلَسِ، وَدَلَالَتُهُ قَوِيَّةٌ جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لَهُ. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ.

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَرَأَيْتُ فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَيْنِ ضَعِيفَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمَالِيَّةِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْفَلَسِ.

الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَدْ اُسْتُضْعِفَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَدْرَكَ مَالَهُ، أَوْ وَجَدَ مَتَاعَهُ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إمْكَانَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ السِّلْعَةِ مِنْ يَدِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّ الرَّجُلَ الْمُدْرِكَ هَهُنَا: هُوَ الْبَائِعُ، وَأَنَّ الْحُكْمَ يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ. لَكِنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْبَائِعِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ مَا إذَا أَقْرَضَ رَجُلٌ مَالًا، وَأَفْلَسَ الْمُسْتَقْرِضُ، وَالْمَالُ بَاقٍ، فَإِنَّ الْمُقْرِضَ يَرْجِعُ فِيهِ. وَقَدْ عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَبِيعِ، بَعْدَ التَّفْرِيعِ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ.

وَقِيلَ فِي الْقِيَاسِ: مَمْلُوكٌ بِبَدَلِ تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ. فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ. وَإِدْرَاجُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ مُمْكِنٌ إذَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ. فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا بُدَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ إضْمَارِ أُمُورٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لَفْظًا. مِثْلُ: كَوْنِ الثَّمَنِ غَيْرَ مَقْبُوضٍ. وَمِثْلُ: كَوْنِ السِّلْعَةِ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي دُونَ غَيْرِهِ. وَمِثْلُ: كَوْنِ الْمَالِ لَا يَفِي بِالدُّيُونِ، احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ مُسَاوِيًا، وَقُلْنَا: يُحْجَرُ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا أَجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً. فَأَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْأُجْرَةِ وَمُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَلِلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَإِدْرَاجُهُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِيثِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ: هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ " الْمَتَاعِ " أَوْ " الْمَالِ "؟ وَانْطِلَاقُ اسْمِ " الْمَالِ " عَلَيْهَا أَقْوَى وَقَدْ عُلِّلَ مَنْعُ الرُّجُوعِ: بِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ. إذْ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ مُسْتَقِرٌّ. فَإِذَا ثَبَتَ انْطِلَاقُ اسْمِ " الْمَالِ " أَوْ " الْمَتَاعِ " عَلَيْهَا فَقَدْ انْدَرَجَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ وَإِنْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ، فَالطَّرِيقُ أَنْ يُقَالَ: إنْ اقْتَضَى الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: الرُّجُوعُ فِي الْمَنَافِعِ. فَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللَّازِمِ، لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَنْ كَوْنِ اسْمِ " الْمَنَافِعِ " يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ " الْمَالِ " أَوْ " الْمَتَاعِ "؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي اللَّفْظِ مُعَلَّقٌ بِذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ

ص: 147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَنَقُولُ أَيْضًا: الرُّجُوعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَنَافِعِ. فَإِنَّهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ. وَالْعَيْنُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ.

[مَسْأَلَةٌ الْتَزَمَ نَقْلَ مَتَاعٍ ثُمَّ أَفْلَسَ وَالْأُجْرَةُ بِيَدِهِ قَائِمَةٌ]

1

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ نَقْلَ مَتَاعٍ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ. ثُمَّ أَفْلَسَ، وَالْأُجْرَةُ بِيَدِهِ قَائِمَةٌ: ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْأُجْرَةِ. وَانْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ، إنْ أَخَذْنَا بِاللَّفْظِ. وَلَمْ نَخْصُصْهُ بِالْبَائِعِ. فَإِنْ خُصَّ بِهِ فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالْقِيَاسِ، لَا بِالْحَدِيثِ.

[مَسْأَلَةٌ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْحَجْرِ]

1

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْحَجْرِ. وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ كَوْنِهِ أَدْرَكَ مَالَهُ. فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ يَحِلَّ، إذْ لَا مُطَالَبَةَ بِالْمُؤَجَّلِ قَبْلَ الْحُلُولِ

[مَسْأَلَةٌ الْغُرَمَاءَ إذَا قَدَّمُوا الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغُرَمَاءَ إذَا قَدَّمُوا الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الرُّجُوعِ. لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ. وَالْفُقَهَاءُ عَلَّلُوهُ بِالْمِنَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قِيلَ: إنَّ هَذَا الْخِيَارَ فِي الرُّجُوعِ يَسْتَبِدُّ بِهِ الْبَائِعُ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ. وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَحَقِّيَّةِ بِالْمَالِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَخْذِ: فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لَهُ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْحُكْمُ فِي الْحَدِيثِ مُعَلَّقٌ بِالْفَلَسِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ. وَمَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الرُّجُوعَ بِامْتِنَاعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّسْلِيمِ، مَعَ الْيَسَارِ، أَوْ هَرَبِهِ، أَوْ امْتِنَاعِ الْوَارِثِ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ مَوْتِهِ - فَإِنَّمَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَلَسِ، وَمَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فِي مِثْلِ هَذَا: فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا الْحُكْمَ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: شَرْطُ رُجُوعِ الْبَائِعِ: بَقَاءُ الْعَيْنِ فِي مِلْكِ الْمُفْلِسِ، فَلَوْ هَلَكَتْ لَمْ يَرْجِعْ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَوَجَدَ مَتَاعَهُ، أَوْ أَدْرَكَ مَالَهُ» فَشَرْطٌ فِي الْأَحَقِّيَّةِ: إدْرَاكُ الْمَالِ بِعَيْنِهِ، وَبَعْدَ الْهَلَاكِ: فَاتَ الشَّرْطُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْهَلَاكِ الْحِسِّيِّ. وَالْفُقَهَاءُ نَزَّلُوا التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ مَنْزِلَةَ الْهَلَاكِ الْحِسِّيِّ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَقْفِ، وَلَمْ يَنْقُضُوا هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ. بِخِلَافِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِهَا. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَالْهَالِكَةِ شَرْعًا: دَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ. فَإِنَّ الْبَائِعَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِمَالِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ

ص: 148

[مَسْأَلَةٌ رُجُوعُ الْبَائِعِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الثَّمَنِ بِالْفَلَسِ أَوْ الْمَوْتِ]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِغَيْرِ عِوَضٍ. فَقِيلَ: يَرْجِعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ مُتَلَقَّى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَخَلَّلَتْ حَالَةٌ لَوْ صَادَفَهَا الْإِفْلَاسُ وَالْحَجْرُ، لَمَا رَجَعَ، فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُهَا. وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ بِالتَّخْصِيصِ، بِسَبَبِ مَعْنَى مَفْهُومٍ مِنْهُ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْعَيْنِ، لِتَعَذُّرِ الْعِوَضِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، أَوْ تَخْصِيصٌ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ سُلِّمَ بِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لَهُ.

[مَسْأَلَةٌ بَاعَ عَبْدَيْنِ مَثَلًا فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا وَوَجَدَ الثَّانِيَ بِعَيْنِهِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ - مَثَلًا - فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، وَوَجَدَ الثَّانِيَ بِعَيْنِهِ. رَجَعَ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيُضَارِبُ بِحِصَّةِ ثَمَنِ التَّلَفِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْبَاقِي بِكُلِّ الثَّمَنِ. فَأَمَّا رُجُوعُهُ فِي الْبَاقِي فَقَدْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ " فَوَجَدَ مَتَاعَهُ، أَوْ مَالَهُ " فَإِنَّ الْبَاقِيَ مَتَاعُهُ أَوْ مَالُهُ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرُّجُوعِ: فَلَا تَعَلُّقَ لِلَّفْظِ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا تَعَذَّرَ الْمَبِيعُ فِي صِفَتِهِ، بِحُدُوثِ عَيْبٍ. فَأَثْبَتَ الشَّافِعِيُّ الرُّجُوعَ، إنْ شَاءَهُ الْبَائِعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ يَأْخُذُهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَارَبَ بِالثَّمَنِ. وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَجَ تَحْتَ اللَّفْظِ. فَإِنَّهُ وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَالتَّغَيُّرُ حَادِثٌ فِي الصِّفَةِ لَا فِي الْعَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إطْلَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي: الرُّجُوعَ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قُدِّمَ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْعَيْنِ إذَا قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ. لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ فِي مَتَاعِهِ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي غَيْرِ مَتَاعِهِ. فَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنَّهَا تُحْدِثُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ بِمَتَاعٍ لِلْبَائِعِ. فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ سَبَبُ لُزُومِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُفْلِسِ. وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي لَفْظِهِ تَرْتِيبُ الْأَحَقِّيَّةِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِصِيغَةِ

ص: 149

283 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ " جَعَلَ - وَفِي لَفْظٍ: «قَضَى - النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ. فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ: فَلَا شُفْعَةَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ مَعَ الشَّرْطِ، أَوْ عَقِيبَهُ. وَمَنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ: تَقَدُّمُ سَبَبِ اللُّزُومِ عَلَى الْفَلَسِ.

[حَدِيثٌ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ]

اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَفْهُومُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ جَعَلَ الشُّفْعَةَ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " يَقْتَضِي: أَنْ لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِمَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ» وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ. لَا سِيَّمَا إذَا جَعَلْنَا " إنَّمَا " دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ بِالْوَضْعِ، دُونَ الْمَفْهُومِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " وَهَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي: يَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: وُقُوعُ الْحُدُودِ، وَصَرْفُ الطُّرُقِ. وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ. مِمَّنْ يُثْبِتُ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ: إنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَتَبْقَى دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ الْأَوَّلِ مُطْلَقَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ " إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ " فَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ: تَمَسَّكَ بِهَا، وَمَنْ خَالَفَهُ: يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارِ قَيْدٍ آخَرَ، يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَهُوَ صَرْفُ الطُّرُقِ مَثَلًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَيُجْعَلُ مَفْهُومُهُ مُخَالَفَةَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: وُقُوعُ الْحُدُودِ، وَصَرْفُ الطُّرُقِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَسْأَلَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ الشُّفْعَةَ هَلْ تَثْبُتُ فِيمَا لَمْ يَقْبَلْ الْقِسْمَةِ أَمْ لَا؟ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ

ص: 150

284 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدْ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ: إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا. غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ. قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ. لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا: أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. وَفِي لَفْظٍ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الصِّيغَةَ فِي النَّفْيِ تُشْعِرُ بِالْقَبُولِ، فَيُقَالُ لِلْبَصِيرِ: لَمْ يُبْصِرْ كَذَا. وَيُقَالُ لِلْأَكْمَهِ: لَا يُبْصِرُ كَذَا، وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي الْآخَرِ فَذَلِكَ لِلِاحْتِمَالِ. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ فِي قَوْلِهِ " فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ. فَإِذَا دَخَلَتْ " إنَّمَا " الْمُعْطِيَةُ لِلْحَصْرِ: اقْتَضَتْ انْحِصَارَ الشُّفْعَةِ فِي الْقَابِلِ. وَقَدْ ذَهَبَ شُذَّاذٌ مِنْ النَّاسِ إلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُولَاتِ وَاسْتَدِلَّ بِصَدْرِ الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنَّ آخِرَهُ وَسِيَاقَهُ: يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقَارُ، وَمَا فِيهِ الْحُدُودُ وَصَرْفُ الطُّرُقِ.

[حَدِيثٌ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا]

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَالْحَبْسِ عَلَى جِهَاتِ الْقُرُبَاتِ. وَهُوَ مَشْهُورٌ مُتَدَاوَلُ النَّقْلِ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. أَعْنِي الْأَوْقَافَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ

ص: 151

285 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَى مَا كَانَ أَكَابِرُ السَّلَفِ وَالصَّالِحِينَ عَلَيْهِ، مِنْ إخْرَاجِ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَانْظُرْ إلَى تَعْلِيلِ عُمَرَ رضي الله عنه لِمَقْصُودِهِ، بِكَوْنِهِ " لَمْ يُصِبْ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدَهُ مِنْهُ ". وَقَوْلُهُ " تَصَدَّقْتَ بِهَا " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْأَصْلِ الْمُحْبَسِ. وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّحْبِيسِ، الَّتِي مِنْهَا " الصَّدَقَةُ " وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُقْتَرَنُ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْوَقْفِ وَالتَّحْبِيسِ، كَالتَّحْبِيسِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَقَوْلِنَا مُؤَبَّدَةً " مُحَرَّمَةً " أَوْ " لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَتَصَدَّقْتَ بِهَا " رَاجَعَا إلَى الثَّمَرَةِ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَيَبْقَى لَفْظُ " الصَّدَقَةِ " عَلَى إطْلَاقِهِ. وَقَوْلُهُ فَتَصَدَّقْ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ. .. إلَخْ مَحْمُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ - مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ - عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ لِلْوَقْفِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقْفٌ، وَيُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إرْشَادًا إلَى شَرْطِ هَذَا الْأَمْرِ فِي هَذَا الْوَقْفِ. فَيَكُونَ ثُبُوتُهُ بِالشَّرْطِ، لَا بِالشَّرْعِ وَالْمَصَارِفُ الَّتِي ذَكَرهَا عُمَرُ رضي الله عنه: مَصَارِفُ خَيْرَاتٍ، وَهِيَ جِهَةُ الْأَوْقَافِ. فَلَا يُوقَفُ عَلَى مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ. وَالْقُرْبَى " يُرَادُ بِهَا هَهُنَا: قُرْبَى عُمَرَ ظَاهِرًا، وَالرِّقَابُ " قَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مَعْلُومًا عِنْدَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِلَّا كَانَ الْمَصْرِفُ مَجْهُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا. و " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " الْجِهَادُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَمِنْهُمْ مِنْ عَدَّهُ إلَى الْحَجِّ. وَ " ابْنِ السَّبِيلِ " الْمُسَافِرُ، وَالْقَرِينَةُ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ حَاجَتِهِ. " وَالضَّيْفُ " مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، وَالْمُرَادُ: قِرَاهُ، وَلَا تَقْتَضِي الْقَرِينَةُ تَخْصِيصَهُ بِالْفَقْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ، وَاتِّبَاعِهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي بَعْضِهَا، حَيْثُ عَلَّقَ الْأَكْلَ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ. وَقَوْلُهُ " غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ " أَيْ: مُتَّخِذٍ أَصْلَ مَالٍ، يُقَالُ: تَأَثَّلْتُ الْمَالَ: اتَّخَذْتُهُ أَصْلًا.

ص: 152

فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ. فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ. وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ. فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ]

وَفِي لَفْظٍ «فَإِنَّ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» هَذَا " الْحَمْلُ " تَمْلِيكٌ لِمَنْ أُعْطِيَ الْفَرَسَ، وَيَكُونُ مَعْنَى كَوْنِهِ " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ غَازِيًا. فَآلَ الْأَمْرُ بِتَمْلِيكِهِ: إلَى أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِتَمْلِيكِهِ: أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا عَادَتُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ أَرَادَ بَيْعَهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ: حَمْلَ تَحْبِيسٍ، لَمْ يَبِعْ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ انْتَهَى إلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ. لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُشْعِرُ بِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَمْلُ تَحْبِيسٍ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ الْحَيَوَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ تَمْلِيكٍ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام " وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " وَقَوْلُهُ " فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ". وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ: عَلَى مَنْعِ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ لِلْمُتَصَدِّقِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ. وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ رُبَّمَا سَامَحَ الْمُتَصَدِّقَ فِي الثَّمَنِ، بِسَبَبِ تَقَدُّمِ إحْسَانِهِ إلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ رَاجِعًا فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي سُومِحَ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، لِتَشْبِيهِهِ بِرُجُوعِ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّنْفِيرِ. وَالْحَنَفِيَّةُ اعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ رُجُوعَ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بِأَمْرٍ مَكْرُوهٍ فِي الطَّبِيعَةِ، لِتَثْبُتَ بِهِ الْكَرَاهَةَ فِي الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّشْدِيدُ فِي التَّشْبِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَشْبِيهُ الرَّاجِعِ بِالْكَلْبِ.

وَالثَّانِي: تَشْبِيهُ الْمَرْجُوعِ فِيهِ بِالْقَيْءِ.

وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ رُجُوعَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْهِبَةِ.

ص: 153

286 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ «تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ. فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. وَفِي لَفْظٍ فَلَا تُشْهِدْنِي إذًا. فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَفِي لَفْظٍ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَمَنَعَ مِنْ رُجُوعِ الْوَالِدِ فِي الْهِبَةِ لِوَلَدِهِ، عَكْسَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالْحَدِيثُ: يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ رُجُوعِ الْوَاهِبِ مُطْلَقًا. وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْوَالِدُ فِي الْهِبَةِ لِوَلَدِهِ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ.

[حَدِيثٌ اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ]

الْحَدِيثُ: يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ: أَنَّ التَّفْضِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْإِيحَاشِ وَالتَّبَاغُضِ، وَعَدَمِ الْبِرِّ مِنْ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ. أَعْنِي الْوَلَدَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ التَّسْوِيَةِ: هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْمِيرَاثِ فِي تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، أَمْ لَا؟ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مُطْلَقًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْضِيلِ: هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، لِتَسْمِيَتِهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ جَوْرًا " وَأَمْرِهِ بِالرُّجُوعِ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ صَدَقَةً، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. فَإِنَّ الرُّجُوعَ هَهُنَا يَقْتَضِي أَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَوْقِعِ الشَّرْعِيِّ، حَتَّى نُقِضَتْ بَعْدَ لُزُومِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ مَكْرُوهٌ لَا غَيْرَ، وَرُبَّمَا اُسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي إبَاحَةَ إشْهَادِ الْغَيْرِ، وَلَا يُبَاحُ إشْهَادُ الْغَيْرِ إلَّا عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ. وَيَكُونُ امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ

ص: 154

287 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ» .

288 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ «كُنَّا أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ حَقْلًا. وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا بِالْوَرِقِ: فَلَمْ يَنْهَنَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ. وَلَيْسَ هَذَا بِالْقَوِيِّ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهَا الْإِذْنُ - إلَّا أَنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِالتَّنْفِيرِ الشَّدِيدِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، حَيْثُ امْتَنَعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّهَا جَوْرٌ. فَتَخْرُجُ الصِّيغَةُ عَنْ ظَاهِرِ الْإِذْنِ بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ. وَقَدْ اسْتَعْمَلُوا مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَقْصُودِ التَّنْفِيرِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ أَيْضًا: قَوْلُهُ " اتَّقُوا اللَّهَ " فَإِنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ خِلَافَ التَّسْوِيَةِ لَيْسَ بِتَقْوَى، وَأَنَّ التَّسْوِيَةَ تَقْوَى.

[حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ]

اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إلَى جَوَازِهَا عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إلَى الْمَنْعِ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُعَامَلَةَ كَانَتْ مُسَاقَاةً عَلَى النَّخِيلِ، وَالْبَيَاضُ الْمُتَخَلَّلُ بَيْنَ النَّخِيلِ كَانَ يَسِيرًا، فَتَقَعُ الْمُزَارَعَةُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّ صُورَةَ هَذِهِ: صُورَةُ الْمُعَامَلَةِ، وَلَيْسَتْ لَهَا حَقِيقَتُهَا، وَأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ قَدْ مُلِكَتْ بِالِاغْتِنَامِ. وَالْقَوْمُ صَارُوا عَبِيدًا فَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاَلَّذِي جُعِلَ لَهُمْ مِنْهَا بَعْضُ مَالِهِ، لِيَنْتَفِعُوا بِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْمُعَامَلَةِ. وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ اُسْتُرِقُّوا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَرِّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَحْصُلُ الِاسْتِرْقَاقُ لِلْبَالِغِينَ.

ص: 155

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ «سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا. وَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ. فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ: فَلَا بَأْسَ بِهِ. الْمَاذِيَانَاتِ الْأَنْهَارُ الْكِبَارُ وَالْجَدْوَلُ النَّهْرُ الصَّغِيرُ» .

290 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» . وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ. فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا. لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ كُنَّا أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ حَقْلًا]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ مُطْلَقَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَائِهَا، وَهَذَا مُفَسِّرٌ لِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ شَيْئًا غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ عِنْدَ الْعَقْدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِجَارَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ مَنْعِ الْكِرَاءِ بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ - إلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تُغْتَفَرْ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ كِرَائِهَا بِطَعَامٍ مَضْمُونٍ، لِقَوْلِهِ " فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ " وَجَوَازُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ أَيْ الْإِجَارَةِ عَلَى طَعَامٍ مَعْلُومٍ مُسَمَّى فِي الذِّمَّةِ -: هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ " نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِكَذَا - إلَى قَوْلِهِ - أَوْ بِطَعَامٍ مُسَمَّى ".

ص: 156

وَقَالَ جَابِرٌ «إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْتَ: فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا» .

291 -

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا: حَيًّا، وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ]

" الْعُمْرَى " لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُمْرِ وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ أَوْ إبَاحَتُهَا مُدَّةَ الْعُمْرِ، وَهِيَ عَلَى وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهَا لِلْمُعَمَّرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَهَذِهِ هِبَةٌ مُحَقَّقَةٌ، يَأْخُذُهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُعْمِرَهَا، وَيَشْتَرِطَ الرُّجُوعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعَمَّرِ وَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْعُمْرَى خِلَافٌ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ وَضْعِ الْهِبَةِ.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْمِرَهَا مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، وَلَا يَشْتَرِطَ الرُّجُوعَ إلَيْهِ، وَلَا التَّأْبِيدَ، بَلْ يُطْلِقُ وَفِي صِحَّتِهَا: خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا إذَا شَرَطَ الرُّجُوعَ إلَيْهِ، وَأَوْلَى هَهُنَا بِأَنْ تَصِحَّ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ بَعْدِ قَوْلِهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى» يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْمِلَ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ مُبَيَّنٌ بِالْكَلَامِ بَعْدُ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَمِيعِ الصُّوَرِ، إذَا قُلْنَا: إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ الرَّاوِي: تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ " لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ " يُرِيدُ: أَنَّهَا الَّتِي شَرَطَ فِيهَا لَهُ وَلِعَقِبِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: صُورَةَ الْإِطْلَاقِ، وَيُؤْخَذُ كَوْنُهُ وَقَعَتْ فِيهِ

ص: 157

292 -

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ»

293 -

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ: طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَوَارِيثُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَابِرٌ: تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ صُورَةُ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهَا لَهُ وَلِعَقِبِهِ.

وَقَوْلُهُ " إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَيْ أَمْضَاهَا، وَجَعَلَهَا لِلْعَقِبِ لَا تَعُودُ وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ هَذِهِ الْعُمْرَى: أَنَّهَا تَرْجِعُ وَهُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُ، وَيَجُوزُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ: أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ، أَعْنِي قَوْلَهُ «إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ» فَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا، فَلَا إشْكَالَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا، فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى تَأْوِيلِ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي، فَهَلْ يَكُونُ مُقَدَّمًا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ تَقَعُ لَهُ قَرَائِنُ تُوَرِّثُهُ الْعِلْمَ بِالْمُرَادِ، وَلَا يَتَّفِقُ تَعْبِيرُهُ عَنْهَا؟

[حَدِيثٌ لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ]

إذَا طَلَبَ الْجَارُ إعَارَةَ حَائِطِ جَارِهِ لِيَضَعَ عَلَيْهَا خَشَبَةً، فَفِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:

أَحَدُهُمَا: تَجِبُ الْإِجَابَةُ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ - إذَا كَانَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَعَلَى الِاسْتِحْبَابِ، إذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِي قَوْلِهِ " مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ إلَى آخِرِهِ " مَا يُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، لِقَوْلِهِ " وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ " وَهَذَا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ وَالْخَوْفَ وَالْكَرَاهَةَ لَهُمْ

ص: 158

294 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ، أَوْ الْوَرِقِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ: فَأَدِّهَا إلَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ؟ فَقَالَ: مَا لَك وَلَهَا؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ؟ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيك، أَوْ لِلذِّئْبِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ]

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْغَصْبِ " وَالْقِيدُ " بِمَعْنَى الْقَدْرِ وَقَيَّدَهُ بِالشِّبْرِ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْهُ وَ " طُوِّقَهُ " أَيْ جُعِلَ طَوْقًا لَهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ يَصِحُّ غَصْبُهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْأَرْضِ مُتَعَدِّدَةٍ بِسَبْعِ أَرْضِينَ، لِلَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ بِأَنَّ حَمْلَ " سَبْعِ أَرَضِينَ " عَلَى سَبْعَةِ الْأَقَالِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[بَابُ اللُّقَطَةِ]

[حَدِيثٌ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ]

" اللُّقَطَةُ " هِيَ الْمَالُ الْمُلْتَقَطُ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَقِيَاسُ هَذَا: أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ الِالْتِقَاطُ، كَالْهُزَأَةِ وَالضُّحَكَةِ وَأَمْثَالِهِ " وَالْوِكَاءُ " مَا يُرْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ وَ " الْعِفَاصُ " الْوِعَاءُ الَّذِي تُجْعَلُ فِيهِ النَّفَقَةُ ثُمَّ يُرْبَطُ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ: لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى مَعْرِفَةِ الْمَالِ، تَذْكِرَةً لِمَا عَرَّفَهُ الْمُلْتَقِطُ وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّعْرِيفِ سَنَةً وَإِطْلَاقَةُ: يَدْخُلُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْقَلِيلِ وَمُدَّةِ تَعْرِيفِهِ

ص: 159

295 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا " لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِبَاحَةِ.

وَقَوْلُهُ " وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ: بَعْدَ الِاسْتِنْفَاقِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ " وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ " فِيهِ مَجَازٌ فِي لَفْظِ " الْوَدِيعَةِ " فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِذَا اسْتَنْفَقَ اللُّقَطَةَ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا فَتُجَوَّزُ بِلَفْظِ " الْوَدِيعَةِ " عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُرَدُّ إذَا جَاءَ رَبُّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلْتَكُنْ " الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى " أَوْ " فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَمَانَاتِ وَالْوَدَائِعِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا بَقِيَتْ عِنْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ، فَهِيَ كَالْوَدِيعَةِ.

وَقَوْلُهُ " فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إلَيْهِ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، إذَا بَيَّنَ كَوْنَهُ صَاحِبَهَا وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الرَّدِّ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَمْ يَكْتَفِي بِوَصْفِهِ بِأَمَارَاتِهَا الَّتِي عَرَّفَهَا الْمُلْتَقِطُ أَوْ لَا؟

1 -

وَقَوْلُهُ " وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ إلَخْ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الْتِقَاطِهَا وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِيهِ وَهِيَ اسْتِغْنَاؤُهَا عَنْ الْحَافِظِ وَالْمُتَفَقِّدِ وَ " الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ " هَهُنَا مَجَازَانِ كَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْنَتْ بِقُوتِهَا وَمَا رُكِّبَ فِي طَبْعِهَا مِنْ الْجَلَادَةِ عَنْ الْمَاءِ: كَأَنَّهَا أُعْطِيت الْحِذَاءَ وَالسِّقَاءَ

1 -

وَقَوْلُهُ " وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ - إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ " يُرِيدُ الشَّاةَ الضَّالَّةَ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْتِقَاطِهَا وَقَدْ نَبَّهَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ خَوْفُ الضَّيَاعِ عَلَيْهَا، إنْ لَمْ يَلْتَقِطْهَا أَحَدٌ وَفِي ذَلِكَ إتْلَافٌ لِمَالِيَّتِهَا عَلَى مَالِكِهَا وَالتَّسَاوِي بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ إذَا وَجَدَهَا، فَإِنَّ هَذَا التَّسَاوِيَ تَقْتَضِي الْأَلْفَاظُ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ: إمَّا لِهَذَا الْوَاجِدِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 160

مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ، إلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي»

296 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا قُلْت: فَالثُّلُثُ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الْوَصَايَا]

[حَدِيثٌ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ]

" الْوَصِيَّةُ " عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَدَايُنِهِ وَرَدِّهِ مَعَ الْقُرْبِ: هَلْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِهِ عَلَى التَّضْيِيقِ وَالْفَوْرِ؟ وَكَأَنَّهُ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ الْمَشَقَّةُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْوَصِيَّةُ بِالتَّطَوُّعَاتِ فِي الْقُرُبَاتِ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ.

وَالتَّرْخِيصُ فِي " اللَّيْلَتَيْنِ " أَوْ " الثَّلَاثِ " دَفْعٌ لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْخَطِّ وَالْكِتَابَةِ، لِقَوْلِهِ " وَصِيَّةٌ مَكْتُوبَةٌ " وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْرًا زَائِدًا، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ لَمَا كَانَ لِكِتَابَتِهِ فَائِدَةٌ وَالْمُخَالِفُونَ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ وَصِيَّةٌ مَكْتُوبَةٌ بِشُرُوطِهَا، وَيَأْخُذُونَ الشُّرُوطَ مِنْ خَارِجٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ ابْنِ عُمَرَ لِمُبَادَرَتِهِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ

ص: 161

فِي امْرَأَتِكَ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ. اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ بِهَا]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِيَادَةِ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ، وَدَلِيلٌ عَلَى ذِكْرِ شِدَّةِ الْمَرَضِ لَا فِي مَعْرِضِ الشَّكْوَى وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ لِذَوِي الْأَمْوَالِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُبَادَرَةِ الصَّحَابَةِ، وَشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ، لِطَلَبِ سَعْدٍ التَّصَدُّقَ بِالْأَكْثَرِ

[تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ]

1

، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الثُّلُثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَفِي بَعْضِهَا جُعِلَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَفِي بَعْضِهَا جُعِلَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، فَإِذَا جُعِلَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» إلَّا أَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنْ لَا يُعْتَبَرَ السِّيَاقُ الَّذِي يَقْتَضِي تَخْصِيصَ كَثْرَةِ الثُّلُثِ بِالْوَصِيَّةِ، بَلْ يُؤْخَذُ لَفْظًا عَامًّا وَالثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ مُسَمَّى الْكَثْرَةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، بِأَنْ يُقَالَ: الْكَثْرَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ فَالثُّلُثُ مُعْتَبَرٌ، وَمَتَى لَمْ تُلْمَحْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ.

مِثَالٌ مِنْ ذَلِكَ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إلَى أَنَّهُ إذَا مَسَحَ ثُلُثَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ: أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ لِلْحَدِيثِ فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ قُلْتَ إنَّ مُسَمَّى الْكَثْرَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَسْحِ؟ فَإِذَا أَثْبَتَهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ إنَّ مُطْلَقَ الثُّلُثِ كَثِيرٌ، وَإِنَّ كُلَّ ثُلُثٍ فَهُوَ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ حُكْمٍ؟ وَعَلَى هَذَا فَقِسْ سَائِرَ الْمَسَائِلِ، فَيُطْلَبُ فِيهَا تَصْحِيحُ كُلِّ

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ

[طَلَبَ الْغَنِيِّ لِلْوَرَثَةِ رَاجِحٌ عَلَى تَرْكِهِمْ فُقَرَاءَ]

1

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْغَنِيِّ لِلْوَرَثَةِ رَاجِحٌ عَلَى تَرْكِهِمْ فُقَرَاءَ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَمِنْ هَذَا: أَخَذَ بَعْضُهُمْ اسْتِحْبَابَ الْغَضِّ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَالُوا أَيْضًا: يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ الْمَالِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ تَرْكِ الْوَرَثَةِ أَغْنِيَاءً

[الثَّوَابَ فِي الْإِنْفَاقِ مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ النِّيَّةِ]

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ فِي الْإِنْفَاقِ: مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ النِّيَّةِ فِي ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ وَهَذَا دَقِيقٌ عَسِرٌ، إذَا عَارَضَهُ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ الْغَرَضَ مِنْ الثَّوَابِ، حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ. وَيَشُقُّ تَخْلِيصُ هَذَا الْمَقْصُودِ مِمَّا يَشُوبُهُ مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالشَّهْوَةِ

1 -

وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةَ إذَا أُدِّيَتْ عَلَى قَصْدِ الْوَاجِبِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ: أُثِيبَ عَلَيْهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ " حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ " لَا تَخْصِيصَ لَهُ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلَفْظَةُ " حَتَّى " هَهُنَا تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَجْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُغَيَّا، كَمَا يُقَالُ: جَاءَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ، وَمَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: سَبَبُ هَذَا: مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي غَيْرَهُ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى تَحْصِيلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ، مِنْ أَنَّ إنْفَاقَ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَإِطْعَامَهُ إيَّاهَا، وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ: لَا يُعَارِضُ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ إذَا ابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، لَمَّا أَرَادَتْ الْإِنْفَاقَ مِنْ عِنْدِهَا، وَقَالَتْ " لَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ " وَتَوَهَّمَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأُزِيلَ الْوَهْمُ نَعَمْ فِي مِثْلِ هَذَا يُحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، أَمْ تَكْفِي نِيَّةٌ عَامَّةٌ؟ وَقَدْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَعُمُومِهَا فِي بَابِ الْجِهَادِ، حَيْثُ قَالَ " لَوْ مَرَّ بِنَهْرٍ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ، فَشَرِبَتْ: كَانَ لَهُ أَجْرٌ " أَوْ كَمَا قَالَ: فَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّى هَذَا إلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فَيُكْتَفَى بِنِيَّةٍ مُجْمَلَةٍ أَوْ عَامَّةٍ وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ إلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ إلَخْ " تَسْلِيَةٌ لِسَعْدٍ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ لِلتَّخَلُّفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى تَلَمُّحِ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ تَقَعُ

ص: 163

297 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبْعِ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»

298 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتْ: فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِالْإِنْسَانِ الْمَكَارِهُ، حَتَّى تَمْنَعَهُ مَقَاصِدَ لَهُ، وَيَرْجُو الْمَصْلَحَةَ فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُ عليه السلام «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ» لَعَلَّهُ يُرَادُ بِهِ: إتْمَامُ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدْخُلُهُ نَقْضٌ، وَلَا نَقْضَ لِمَا اُبْتُدِئَ بِهِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ تَرْكَ إتْمَامِهَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ " وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ "

[حَدِيثٌ لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبْعِ]

قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى سَبَبِهِ وَقَدْ اسْتَنْبَطَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ لَفْظِ " كَثِيرٌ " وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي أَقَرَّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، وَأَشَارَ لَفْظُهُ إلَى الْأَمْرِ بِهِ - وَهُوَ الثُّلُثُ - يَقْتَضِي الْوَصِيَّةَ بِهِ. وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ هَذَا بِقَوْلِهِ " لَوْ أَنَّ النَّاسَ " فَإِنَّهَا صِيغَةٌ فِيهَا ضَعْفٌ مَا بِالنِّسْبَةِ إلَى طَلَبِ الْغَضِّ إلَى مَا دُونَ الثُّلُثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ الْفَرَائِضِ]

[حَدِيث أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا]

" الْفَرَائِضُ " جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَهِيَ الْأَنْصِبَاءُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:

ص: 164

299 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

النِّصْفُ، وَنِصْفُهُ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَنِصْفُ نِصْفُهُ وَهُوَ الثُّمْنُ وَالثُّلُثَانِ، وَنِصْفُهُمَا وَهُوَ الثُّلُثُ، وَنِصْفُ نِصْفِهِمَا وَهُوَ السُّدُسُ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْفَرَائِضِ تَكُونُ بِالْبُدَاءَةِ بِأَهْلِ الْفَرْضِ وَبَعْدَ ذَلِكَ: مَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ.

وَقَوْلُهُ " فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " أَوْ " عَصَبَةِ ذَكَرٍ " قَدْ يُورَدُ هَهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ " الْأَخَوَاتِ " عَصَبَاتُ الْبَنَاتِ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الذُّكُورَةِ فِي " الْعَصَبَةِ " الْمُسْتَحَقِّ لِلْبَاقِي وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَأَقْصَى دَرَجَاتِهِ: أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ فَيُخَصُّ بِالْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَأَعْنِي: أَنَّ " الْأَخَوَاتِ " عَصَبَاتُ الْبَنَاتِ

[حَدِيثٌ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ]

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى انْقِطَاعِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَمِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ قَالَ: يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَكَأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالنِّكَاحِ حَيْثُ يَنْكِحُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ الْكِتَابِيَّةَ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟ " سَبَبُهُ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا مَاتَ: لَمْ يَرِثْهُ عَلِيٌّ وَلَا جَعْفَرٌ وَوَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا كَانَا مُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَرِثَا أَبَا طَالِبٍ: وَقَدْ تُعُلِّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَسْأَلَةِ دُورِ مَكَّةَ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهَا أَمْ لَا؟

ص: 165

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ»

301 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «قَالَتْ كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا: إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ]

" الْوَلَاءُ " حَقٌّ ثَبَتَ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فَلَا يَقْبَلُ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِوَصْفٍ يَدُومُ بِدَوَامِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ وَقَدْ شَبَّهَ " الْوَلَاءَ " بِالنَّسَبِ قَالَ عليه السلام «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَكَمَا لَا يَقْبَلُ النَّسَبُ النَّقْلَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ

[حَدِيثٌ كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ]

حَدِيثُ بَرِيرَةَ: قَدْ اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ وَجُمِعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَصْنِيفٍ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى أَشْيَاءَ مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ فِيمَا مَضَى وَقَدْ صَرَّحَ هَهُنَا بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ هُوَ فِي حَالِهَا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ إذَا مَلَكَ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ: لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ أَكْلُهُ، إذَا وُجِدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ مِنْ جِهَةِ الْفَقِيرِ يُبِيحُهُ لَهُ

ص: 166

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَبَسُّطِ الْإِنْسَانِ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْزِلِهِ، وَمَا عَهِدَهُ فِيهِ، لِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَصْرِ " الْوَلَاءِ " لِلْمُعْتِقِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى

ص: 167

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ النِّكَاحِ]

[حَدِيث يَا معشر الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ]

" الْبَاءَةُ " النِّكَاحُ، مُشْتَقٌّ مِنْ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِقَامَةِ وَالنُّزُولِ، وَ " الْبَاءَةُ " الْمَنْزِلُ فَلَمَّا كَانَ الزَّوْجُ يَنْزِلُ بِزَوْجَتِهِ: سُمِّيَ النِّكَاحُ " بَاءَةً " لِمَجَازِ الْمُلَازَمَةِ وَاسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ: الْقُدْرَةُ عَلَى مُؤْنَةِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِهِ إلَّا الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّهِ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ.

وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النِّكَاحَ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، أَعْنِي الْوُجُوبَ: وَالنَّدْبَ، وَالتَّحْرِيمَ، وَالْكَرَاهَةَ، وَالْإِبَاحَةَ وَجُعِلَ الْوُجُوبُ فِيمَا إذَا خَافَ الْعَنَتَ، وَقَدَرَ عَلَى النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ وَاجِبًا، بَلْ إمَّا هُوَ، وَإِمَّا التَّسَرِّي فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّسَرِّي تَعَيَّنَ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ لِلْوُجُوبِ، لَا لِأَصْلِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَنْ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ

ص: 168

303 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْعِبَادَاتِ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنْ تَكُونَ " أَفْعَلُ " فِيهِ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ لِغَيْرِ الْمُبَالَغَةِ وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا، فَإِنَّ التَّقْوَى سَبَبٌ لِغَضِّ الْبَصَرِ، وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ وَفِي مُعَارَضَتِهَا: الشَّهْوَةُ، وَالدَّاعِي إلَى النِّكَاحِ وَبَعْدَ النِّكَاحِ: يَضْعُفُ هَذَا الْمُعَارِضُ فَيَكُونُ أَغَضَّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنَ لِلْفَرْجِ مِمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ وُقُوعَ الْفِعْلِ - مَعَ ضَعْفِ الدَّاعِي إلَى وُقُوعِهِ - أَنْدَرُ مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي. وَالْحَوَالَةُ عَلَى الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ كَسْرُ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ شَهْوَةَ النِّكَاحِ تَابِعَةٌ لِشَهْوَةِ الْأَكْلِ، تَقْوَى بِقُوَّتِهَا، وَتَضْعُفُ بِضَعْفِهَا.

وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ " فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ " بِأَنَّهُ إغْرَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَقَدْ مَنَعَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَ " الْوِجَاءُ " الْخِصَاءُ وَجُعِلَ وِجَاءً: نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى فَإِنَّ الْوِجَاءَ قَاطِعٌ لِلْفِعْلِ وَعَدَمُ الشَّهْوَةِ قَاطِعٌ لَهُ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُشَابَهَةِ.

وَإِخْرَاجُ الْحَدِيثِ لِمُخَاطَبَةِ الشَّبَابِ: بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَى النِّكَاحِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، بِخِلَافِ الشُّيُوخِ، وَالْمَعْنَى مُعْتَبَرٌ إذَا وُجِدَ فِي الْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ أَيْضًا

ص: 169

304 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «قَالَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ]

يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُرَجِّحُ النِّكَاحَ عَلَى التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَصَدُوا هَذَا الْقَصْدَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ خِلَافَهُ: رَغْبَةٌ عَنْ السُّنَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنَطُّعِ، وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ - مَثَلًا - يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْصُودِهِ، فَإِنَّ كَانَ مَنْ بَابِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ، وَالدُّخُولِ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ، مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ، كَمَنْ تَرَكَهُ تَوَرُّعًا لِقِيَامِ شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي اللُّحُومِ، أَوْ عَجْزًا، أَوْ لِمَقْصُودٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ النِّكَاحِ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا شَكّ أَنَّ التَّرْجِيحَ يَتْبَعُ الْمَصَالِحَ، وَمَقَادِيرُهَا مُخْتَلِفَةٌ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ بِتِلْكَ الْمَقَادِيرِ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْدَادَهَا: فَالْأَوْلَى اتِّبَاعُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ فِي الشَّرْعِ

ص: 170

305 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنها «أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي قَالَتْ: إنَّا نُحَدَّثُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ: قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي إنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلِيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ. قَالَ عُرْوَةُ وَثُوَيْبَةُ: مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ رَآهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ فَقَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْرًا، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ]

" التَّبَتُّلُ " تَرْكُ النِّكَاحِ: وَمِنْهُ قِيلَ لِمَرْيَمَ عليها السلام " الْبَتُولُ " وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مِمَّنْ قَصَدَ التَّبَتُّلَ وَالتَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ، مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي بَابِ التَّنَطُّعِ وَالتَّشَبُّهِ بِالرَّهْبَانِيَّةِ، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ: يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِمُسَمَّى " التَّبَتُّلِ " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْآيَةِ غَيْرَ الْمَرْدُودِ فِي الْحَدِيثِ لِيَحْصُلَ الْجَمْعُ وَكَأَنَّ ذَلِكَ: إشَارَةٌ إلَى مُلَازَمَةِ التَّعَبُّدِ أَوْ كَثْرَتِهِ، لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، مِنْ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعَهَا تَرْكُ النِّكَاحِ وَلَا أَمْرٌ بِهِ بَلْ كَانَ النِّكَاحُ مَوْجُودًا مَعَ هَذَا الْأَمْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ " التَّبَتُّلُ " الْمَرْدُودُ: مَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ - مِنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وَتَجَنُّبِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَدْخُلُ فِي بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ بِالْإِجْحَافِ بِهَا وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا: مَنْعُ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَشَبَهِهِ، مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ

ص: 171

بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ]

الْخِيبَةُ: الْحَالَةُ، بِكَسْرِ الْخَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الرَّبِيبَةِ: مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّائِلَةُ لِنِكَاحِ أُخْتِهَا: لَمْ يَبْلُغْهَا أَمْرُ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ نِكَاحِ الرَّبِيبَةِ فَإِنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُشْعِرُ بِتَقَدُّمِ نُزُولِ الْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ " لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي " وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَعَنْ بَعْضِ النَّاسِ: فِيهِ خِلَافٌ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْجَمْعَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ: إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِبَاحَةِ وَطْئِهَا إذْ الْجَمْعُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ: غَيْرُ مُمْتَنِعٍ اتِّفَاقًا وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا وَطِئَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ لَمْ يَطَأْ الْأُخْرَى، حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ تَزْوِيجٍ، لِئَلَّا يَكُونَ مُسْتَبِيحًا لِفَرْجَيْهِمَا مَعًا.

وَقَوْلُهَا " لَسْت لَكَ بِمُخْلِيَةٍ " مَضْمُومُ الْمِيمِ سَاكِنُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَكْسُورُ اللَّامِ مَعْنَاهُ: لَسْتُ أُخْلَى بِغَيْرِ ضَرَّةٍ.

وَقَوْلُهَا " وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي " وَفِي رِوَايَةٍ " شَرِكَنِي " بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. وَأَرَادَتْ بِالْخَيْرِ هَهُنَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِصُحْبَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُخْتُهَا: اسْمُهَا عَزَّةُ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَقَوْلُهَا " إنَّا كُنَّا نُحَدَّثُ: أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ " هَذِهِ يُقَالُ لَهَا دُرَّةُ " بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَمَنْ قَالَ فِيهِ " ذَرَّةُ " بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَقَدْ صَحَّفَ.

وَقَدْ يَقَعُ مِنْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ فِي النَّفْسِ: أَنَّهَا إنَّمَا سَأَلَتْ نِكَاحَ أُخْتِهَا لِاعْتِقَادِهَا خُصُوصِيَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِإِبَاحَةِ هَذَا النِّكَاحِ، لَا لِعَدَمِ عِلْمِهَا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ سَبَبُ اعْتِقَادِهَا التَّحْلِيلَ: اعْتِقَادَهَا خُصُوصِيَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم نَاسَبَ ذَلِكَ: أَنْ تَعْتَرِضَ بِنِكَاحِ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: كَمَا جَازَ نِكَاحُ دُرَّةَ - مَعَ تَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهَا - جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، لِلِاجْتِمَاعِ فِي الْخُصُوصِيَّةِ. أَمَّا

ص: 172

306 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إذَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِمُقْتَضَى الْآيَةِ: فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ عَلَى الْأُخْتِ أَنْ يَرِدَ عَلَى ذَلِكَ تَجْوِيزُ نِكَاحِ الرَّبِيبَةِ لُزُومًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يَشْتَرِكَانِ حِينَئِذٍ فِي أَمْرٍ أَعَمَّ. أَمَّا إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِمَدْلُولِ الْآيَةِ: فَيَكُونُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي أَمْرٍ خَاصٍّ. وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْعَامُّ. وَاعْتِقَادِ التَّحْلِيلِ الْخَاصِّ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِثْبَاتِ وَنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِإِظْهَارِ جِهَةِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي» وَ " الرَّبِيبَةُ " بِنْتُ الزَّوْجَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " الرَّبِّ " وَهُوَ الْإِصْلَاحُ؛ لِأَنَّهُ يَرُبُّهَا، وَيَقُومُ بِأُمُورِهَا وَإِصْلَاحِ حَالِهَا وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّرْبِيَةِ، فَقَدْ غَلِطَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاشْتِقَاقِ: الِاتِّفَاقُ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالِاشْتِرَاكُ مَفْقُودٌ فَإِنَّ آخِرَ " رَبَّ " بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَآخِرَ " رَبَّيْ " يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ وَ " الْحَجْرُ " بِالْفَتْحِ أَفْصَحُ وَيَجُوزُ بِالْكَسْرِ.

وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ بِكَوْنِهَا فِي الْحَجْرَ وَهُوَ الظَّاهِرِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، وَحَمَلُوا التَّخْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَقَالُوا: مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ: لَا مَفْهُومَ لَهُ وَعِنْدِي نَظَرٌ فِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ فِيهِ - أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ: هَلْ يَرِدُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ أَوْ لَا؟ .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ شَامِلٌ لِلْجَمْعِ عَلَى صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ: عَلَى صِفَةِ التَّرْتِيبِ

[حَدِيثٌ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا]

جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْجَمْعِ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّا أُخِذَ مِنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ

ص: 173

307 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

كَانَ إطْلَاقُ الْكِتَابِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] إلَّا أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ خَصُّوا ذَلِكَ الْعُمُومَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْمَعِيَّةِ، وَالْجَمْعِ عَلَى صِفَةِ التَّرْتِيبِ وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَى مُسَمَّى الْجَمْعِ - وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَسَادِ - فَيَقْتَضِي ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا نَكَحَهُمَا مَعًا، فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ حَصَلَ فِيهِ الْجَمْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَيَفْسُدُ، وَإِنْ حَصَلَ التَّرْتِيبُ فِي الْعَقْدَيْنِ.

فَالثَّانِي: هُوَ الْبَاطِلُ؛ لِأَنَّ مُسَمَّى الْجَمْعِ قَدْ حَصَلَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ «لَا تُنْكَحُ الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى، وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى» وَذَلِكَ مُصَرِّحٌ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ التَّرْتِيبِ.

وَالْعِلَّةُ فِي هَذَا النَّهْيِ: مَا يَقَعُ بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، مِنْ التَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَدْ وَرَدَ الْإِشْعَارُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ

[حَدِيثٌ إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ]

ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَلْزَمُوا الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَأَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَسَرَّى، وَلَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلَدِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ: إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ عَلَى شُرُوطٍ يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ مِثْلِ: أَنْ يَقْسِمَ لَهَا، وَأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا، أَوْ يُحْسِنَ عِشْرَتَهَا، وَمِثْلِ: أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ

ص: 174

308 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا الصَّدَاقُ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إلَّا بِإِذْنِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ.

وَفِي هَذَا الْحَمْلِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُؤَثِّرُ الشُّرُوطُ فِي إيجَابِهَا فَلَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالِاشْتِرَاطِ فِيهَا.

وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ: أَنَّ لَفْظَةَ " أَحَقَّ الشُّرُوطِ " تَقْتَضِي: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الشُّرُوطِ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ، وَبَعْضُهَا أَشَدَّ اقْتِضَاءٍ لَهُ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْعُقُودِ: مُسْتَوِيَةٌ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا عَدَا النِّكَاحِ: الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ، وَتَأْكِيدِ اسْتِحْلَالِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[حَدِيثٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ]

هَذَا اللَّفْظُ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ " الشِّغَارُ " تَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ، وَالشِّغَارُ " بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِهِ فِي اللُّغَةِ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ شَغَرَ الْكَلْبُ: إذَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِيَبُولَ، كَأَنَّ الْعَاقِدَ يَقُولُ: لَا تَرْفَعْ رِجْلَ ابْنَتِي حَتَّى أَرْفَعَ رِجْلَ ابْنَتِكَ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ شَغَرَ الْبَلَدُ: إذَا خَلَا، كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلشُّغُورِ عَنْ الصَّدَاقِ.

وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ وَاخْتَلَفُوا - إذَا وَقَعَ - فَسَادُ الْعَقْدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْوَاجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ وَعِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ تَقْسِيمٌ. فَفِي بَعْضِ الصُّوَرِ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَفِي بَعْضِ الصُّوَرِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ وَهُوَ مَا إذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ فِي الْعَقْدِ، بِأَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ بِكَذَا، فَاسْتَخَفَّ مَالِكٌ هَذَا، لِذِكْرِ الصَّدَاقِ، وَصُورَةُ الشِّغَارِ الْكَامِلَةُ: أَنْ يَقُولَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، وَبِضْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقُ الْأُخْرَى، وَمَهْمَا انْعَقَدَ لِي نِكَاحُ ابْنَتِكَ انْعَقَدَ لَك نِكَاحُ ابْنَتِي فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ:

ص: 175

309 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ»

310 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وُجُوهٌ مِنْ الْفَسَادِ. مِنْهَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ. وَمِنْهَا: التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ. وَمِنْهَا: اشْتِرَاطُ هَدْمِ الصَّدَاقِ، وَهُوَ مُفْسِدٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ " الِابْنَةُ " بَلْ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْلَيَاتِ.

وَتَفْسِيرُ نَافِعٍ وَقَوْلُهُ " وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا " يُشْعِرُ بِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ: ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمُلَازِمَتِهِ لِجِهَةِ الْفَسَادِ.

وَعَلَى الْجُمْلَةِ: فَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ عَدَمَ الصَّدَاقِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي النَّهْيِ

[حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ]

" نِكَاحُ الْمُتْعَةِ " هُوَ تَزَوُّجُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إلَى أَجَلٍ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا ثُمَّ نُسِخَ وَالرِّوَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ: أُبِيحَ بَعْدَ النَّهْيِ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْإِبَاحَةُ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَقَدْ وَرَدَتْ إبَاحَتُهُ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْهَا وَذَلِكَ بَعْدَ يَوْمِ خَيْبَرَ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِإِبَاحَتِهَا، بَعْدَمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ كُلُّهُمْ عَلَى الْمَنْعِ، وَمَا حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ الْجَوَازِ فَهُوَ خَطَأٌ قَطْعًا وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الِاقْتِصَارِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الْعَقْدِ الْمُؤَقَّتِ وَعَدَّاهُ مَالِكٌ بِالْمَعْنَى إلَى تَوْقِيتِ الْحِلِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَقْدٌ فَقَالَ: إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِوَقْتٍ لَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِ: وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الْآنَ، وَعَلَّلَهُ أَصْحَابُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ تَأْقِيتٌ لِلْحِلِّ، وَجَعَلُوهُ فِي مَعْنَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.

[تَحْرِيمُ لُحُوم الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ]

1

وَأَمَّا " لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ " فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ: التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي طَرِيقَةٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، مُغَلَّظُ الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يُنْهُوهُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَهْلِيَّةِ: يُخْرِجُ الْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَتِهَا.

ص: 176

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ إذْنُهَا قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» .

311 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي. فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ]

كَأَنَّهُ أُطْلِقَتْ " الْأَيِّمُ " هَهُنَا بِإِزَاءِ الثَّيِّبِ، وَ " الِاسْتِئْمَارُ " طَلَبُ الْأَمْرِ، وَ " الِاسْتِئْذَانُ " طَلَبُ الْإِذْنِ وَقَوْلُهُ " فَكَيْفَ إذْنُهَا " رَاجِعٌ إلَى الْبِكْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إذْنَ الْبِكْرِ سُكُوتُهَا، وَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى لَفْظِ " الْبِكْرِ " وَلَفْظُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ " لَا تُنْكَحُ " إمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ: تَعَيَّنَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبِكْرِ مِنْ عَدَا الصَّغِيرَةِ فَعَلَى هَذَا: لَا تُجْبَرُ الْبِكْرُ الْبَالِغُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَمَسُّكُهُ بِالْحَدِيثِ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعُمُومِ فِي لَفْظِ " الْبِكْرِ " وَرُبَّمَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ الِاسْتِئْذَانَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ إذْنٌ، وَلَا إذْنَ لِلصَّغِيرَةِ، فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْإِرَادَةِ، وَيَخْتَصُّ الْحَدِيثُ بِالْبَوَالِغِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّنَاوُلِ.

1 -

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: الْيَتِيمَةَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ فِي الْيَتِيمَةِ: هَلْ يُكْتَفَى فِيهَا بِالسُّكُوتِ، أَمْ لَا؟ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِهِ وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَمَالَ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ مَنْ يَمِيلُ إلَى الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ: يُرَجِّحُ الْآخَرَ.

ص: 177

عُسَيْلَتَكِ، قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى أَبَا بَكْرٍ: أَلَا تَسْمَعُ إلَى هَذِهِ: مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ]

تَطْلِيقُهُ إيَّاهَا بِالْبَتَاتِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ: يُحْتَمَلُ: أَنْ يَكُونَ بِإِرْسَالِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِإِيقَاعِ آخِرِ طَلْقَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَى الْكِنَايَاتِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى الْبَيْنُونَةِ، عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ عُمُومٌ، وَلَا إشْعَارٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ، تُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ بِالْحَدِيثِ: فَلَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى مُطْلَقِ الْبَتِّ، وَالدَّالُّ عَلَى الْمُطْلَقِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ قَيْدَيْهِ بِعَيْنِهِ.

وَقَوْلُهَا " فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ " هُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ، وَثَالِثُهُ يَاءٌ آخِرُ الْحُرُوفِ.

وَقَوْلُهَا " إنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ " فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِذَلِكَ لِصِغَرِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِهِ لِاسْتِرْخَائِهِ، وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَطْءِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى الِانْتِشَارَ فِي الْإِحْلَالِ شَرْطًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُرَجَّحُ حَمْلُ قَوْلِهَا " إنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ " عَلَى الِاسْتِرْخَاءِ وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ، لِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الصِّغَرُ قَدْ بَلَغَ إلَى حَدٍّ لَا تَغِيبُ مِنْهُ الْحَشَفَةُ، أَوْ مِقْدَارُهَا الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ " كَأَنَّهُ بِسَبَبِ: أَنَّهُ فَهِمَ عَنْهَا إرَادَةَ فِرَاقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ إلَى رِفَاعَةَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهَا: إنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالدُّخُولِ. وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِيمَا نَعْلَمُهُ وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْعُسَيْلَةِ " مَجَازٌ عَنْ اللَّذَّةِ، ثُمَّ

ص: 178

312 -

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ: أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ: أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَنْ مَظِنَّتِهَا، وَهُوَ الْإِيلَاجُ فَهُوَ مَجَازٌ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ.

[حَدِيثٌ مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ]

الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ: أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي " مِنْ السُّنَّةِ كَذَا " فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَالَهُ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادٍ رَآهُ وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ خِلَافُهُ.

وَقَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ " لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَخْ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا لَفْظًا مِنْ أَنَسٍ، فَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ تَوَرُّعًا.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّ قَوْلَ أَنَسٍ " مِنْ السُّنَّةِ " فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَلَوْ شَاءَ لَعَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ، عَلَى حَسَبِ مَا اعْتَقَدَهُ: مِنْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَالْأَوَّلُ: أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " مِنْ السُّنَّةِ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ مُحْتَمَلٍ. وَقَوْلُهُ " إنَّهُ رَفَعَهُ " نَصٌّ فِي رَفْعِهِ، وَلَيْسَ لِلرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ إلَى مَا هُوَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ.

وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي: أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لِلْبِكْرِ أَوْ الثَّيِّبِ: إنَّمَا هُوَ فِيهِ إذَا كَانَتَا مُتَجَدِّدَتَيْنِ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ قَبْلَهُمَا، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ ثَابِتٌ لِكُلِّ مُتَجَدِّدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا غَيْرُهَا وَقَدْ اسْتَمَرَّ عَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا امْرَأَةٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْحَدِيثُ لَا يَقْتَضِيهِ.

وَتَكَلَّمُوا فِي عِلَّةِ هَذَا، فَقِيلَ: إنَّهُ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، لِأَجْلِ إينَاسِهَا وَإِزَالَةِ الْحِشْمَةِ عَنْهَا لِتَجَدُّدِهَا، أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ.

وَأَفْرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فَجَعَلَ مُقَامَهُ عِنْدَهَا عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْجُمُعَةِ

ص: 179

313 -

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا» .

314 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إذَا جَاءَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ. وَهَذَا سَاقِطٌ، مُنَافٍ لِلْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْآدَابِ أَوْ السُّنَنِ، لَا يُتْرَكُ لَهُ الْوَاجِبُ وَلَمَّا شَعَرَ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا: تُوُهِّمَ أَنَّ قَائِلَهُ يَرَى الْجُمُعَةَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ مُتَرَدِّدٌ، مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ عُذْرًا، أَوْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَتَخْطِئَتُهُ فِي هَذَا أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَتِهِ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَعَمَلُ الْأُمَّةِ، مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ.

[حَدِيث بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ وَالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي ابْتِدَاءِ الْجِمَاعِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ عَامًّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الضَّرَرُ الدِّينِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الضَّرَرِ الْبَدَنِيِّ. بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَبَّطُهُ، وَلَا يُدَاخِلُهُ بِمَا يَضُرُّ عَقْلَهُ أَوْ بَدَنَهُ وَهَذَا أَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ اقْتَضَى ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَعْصُومًا عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، أَوْ يَعِزُّ وُجُودُهُ. وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَمْرِ الضَّرَرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْبَدَنِ: فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ خِلَافِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 180

315 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ]

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ " الْحَمْوُ " أَخُو الزَّوْجِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ ابْنُ الْعَمِّ وَنَحْوُهُمْ. لَفْظُ " الْحَمْوُ " يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَبِي الزَّوْجِ، وَهُوَ مَحْرَمٌ مِنْ الْمَرْأَةِ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُ عَلَيْهِمَا. فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ اللَّيْثُ بِمَا يُزِيلُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَحَمَلَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِالْمَرْأَةِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجَانِبِ وَقَوْلُهُ " إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ " مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَعَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِنَّ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ مُقْتَضِيًا لِلْخَلْوَةِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ فَلَا يُمْتَنَعُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام " الْحَمْوُ الْمَوْتُ " فَتَأْوِيلُهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَمْوِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ - كَأَبِي زَوْجِهَا - فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " الْحَمْوُ الْمَوْتُ " بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبَاحَةِ دُخُولِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ قَائِلِهِ: طَلَبُ التَّرْخِيصِ بِدُخُولِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَحَارِمَ فَغُلِّظَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ هَذَا الْقَصْدِ الْمَذْمُومِ، بِأَنَّ دُخُولَ الْمَوْتِ عِوَضًا مِنْ دُخُولِهِ، زَجْرًا عَنْ هَذَا التَّرْخِيصِ، عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، وَالدُّعَاءِ، كَأَنَّهُ يُقَالُ: مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ الْمَوْتُ فِي دُخُولِهِ عِوَضًا مِنْ دُخُولِ الْحَمْوِ الَّذِي قَصَدَ دُخُولَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ الْحَمْوَ بِالْمَوْتِ، بِاعْتِبَارِ كَرَاهَتِهِ لِدُخُولِهِ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِكَرَاهَةِ دُخُولِ الْمَوْتِ.

ص: 181

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الصَّدَاقِ]

[حَدِيث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا]

قَوْلُهُ " وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِيَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ عِتْقُهَا قَائِمًا مَقَامَ الصَّدَاقِ، إذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عِوَضٌ: سُمِّيَ صَدَاقًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَلَى قِيمَتِهَا، وَكَانَتْ مَجْهُولَةً، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهَا: أَنْ يُعْتِقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا، فَقَبِلَتْ، فَلَزِمَهَا الْوَفَاءُ بِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ إبْطَالٌ لِلشَّرْطِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ أَعْتَقَهَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَقَبِلَتْ: عَتَقَتْ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ بِتَزَوُّجِهِ، بَلْ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِعِتْقِهَا مَجَّانًا، وَصَارَ ذَلِكَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ كَسَائِرِ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَعْوَاضِ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِالْمَجَّانِ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى مَهْرٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ: كَانَ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا قِيمَتُهَا لِلسَّيِّدِ. فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى قِيمَتِهَا: فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مَعْلُومَةً لَهَا وَلَهُ: صَحَّ الصَّدَاقُ، وَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهَا قِيمَةٌ، وَلَا لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً فَالْأَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّدَاقُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ.

وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ الصَّدَاقَ بِالْقِيمَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ، وَأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ - مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَقَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ -: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَيَكُونَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، وَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَصِحُّ الصَّدَاقُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ.

وَالْأَوَّلُونَ قَدْ يُؤَوِّلُونَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ عِتْقَهَا قَائِمًا مَقَامَ الصَّدَاقِ فَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ، وَالظَّاهِرُ مَعَ الْفَرِيقِ الثَّانِي، إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ الْأَوَّلِ فَيَتَرَدَّدُ الْحَالُ بَيْنَ ظَنٍّ نَشَأَ مِنْ قِيَاسٍ، وَظَنٍّ يَنْشَأُ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، مَعَ احْتِمَالِ الْوَاقِعَةِ لِلْخُصُوصِيَّةِ

ص: 182

316 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ: فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلَّا إزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إزَارَكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا قَالَ: مَا أَجِدْ قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَالْتَمَسَ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ - إلَّا أَنَّهُ يُتَأَنَّسُ فِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ خَصَائِصِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي النِّكَاحِ لَا سِيَّمَا هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ عِتْقِ الْأَمَةِ وَتَزَوُّجِهَا، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ آخَرَ.

[حَدِيث الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ]

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ.

وَقَوْلُهَا " وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ " مَعَ سُكُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: دَلِيلٌ لِجَوَازِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ نِكَاحَهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ صَحَّ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

صَدَاقٍ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، وَلَا بِالدُّخُولِ وَلَا بِالْوَفَاةِ. وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخُصُوصِيَّةِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، إمَّا مُسَمًّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ انْعِقَادَ نِكَاحِهِ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ " الْهِبَةِ " وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ " أَوْ التَّزْوِيجِ " كَغَيْرِهِ.

[طَلَب الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ وَتَسْمِيَتِهِ فِيهِ]

1

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ وَتَسْمِيَتِهِ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إزَارَكَ؛ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَكَ " دَلِيلٌ عَلَى الْإِرْشَادِ إلَى الْمَصَالِحِ مِنْ كَبِيرِ الْقَوْمِ، وَالرِّفْقِ بِرَعِيَّتِهِ.

وَقَوْلُهُ " فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ " دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِئَلَّا يُخْلَى الْعَقْدُ مِنْ ذِكْرِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَنْفَعُ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ: وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى.

1 -

وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الصَّدَاقِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ أَقَلَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ قِيمَتُهَا. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَقَلَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَمَذْهَبُ بَعْضِهِمْ: أَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ قِيلَ: عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَتُهُ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " زَوَّجْتُكَهَا " اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهَا كَمَا ذُكِرَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهَا " مُلِّكْتَهَا " وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهَا " مَلَّكْتُكَهَا " فَيَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْ يَرَى انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ الْقَوِيُّ: أَنَّ الْوَاقِعَ أَحَدُ الْأَلْفَاظِ، لَا كُلُّهَا. فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظَرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَحَدِ وُجُوهِهِ وَنُقِلَ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى " زَوَّجْتُكَهَا "، وَأَنَّهُ قَالَ: وَهُمْ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَيُحْتَمَلُ صِحَّةُ اللَّفْظَيْنِ وَيَكُونُ أَرْجَى لَفْظَ التَّزْوِيجِ أَوَّلًا، فَمَلَّكَهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ " اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا " بِالتَّزْوِيجِ السَّابِقِ

ص: 184

317 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْيَمْ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ: مَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قُلْتُ: هَذَا أَوَّلًا بَعِيدٌ فَإِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْضِي تَعْيِينَ مَوْضِعِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِيهَا، وَأَنَّهَا الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا النِّكَاحُ وَمَا ذَكَرَهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ أَمْرٍ آخَرَ انْعَقَدَ بِهِ النِّكَاحُ وَاخْتِلَافَ مَوْضِعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَأَيْضًا فَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِسَ الْأَمْرَ، وَيَقُولَ: كَانَ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " زَوَّجْتُكَهَا " إخْبَارًا عَمَّا مَضَى بِمَعْنَاهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ التَّمْلِيكَ: هُوَ تُمْلِيك نِكَاحٍ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى " مُلِّكْتَهَا " الَّتِي لَمْ يُتَعَرَّضْ لِتَأْوِيلِهَا: يَبْعُدُ فِيهَا مَا قَالَ، إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِمَعْنَاهُ وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِسَهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى التَّرْجِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[النِّكَاحِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ]

1

وَفِي لَفْظِ الْحَدِيثِ: مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ يَرَى جَوَازَ النِّكَاحِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالرِّوَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا - أَعْنِي قَوْلَهُ " بِمَا مَعَكَ " وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ أَيْضًا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ " الْبَاءَ " هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُقَابَلَةَ فِي الْعُقُودِ، كَقَوْلِك: بِعْتُكَ كَذَا بِكَذَا، وَزَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهَا بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، إمَّا بِأَنْ يُخْلَى النِّكَاحُ عَنْ الْعِوَضِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُخْلَى عَنْ ذِكْرِهِ فَقَطْ، وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي أَمْرِ الصَّدَاقِ.

ص: 185

أَصْدَقْتَهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ]

" رَدْعُ الزَّعْفَرَانِ " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: أَثَرُ لَوْنِهِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " مَهْيَمْ " أَيْ مَا أَمْرُكَ؟ وَمَا خَبَرُكَ؟ قِيلَ: إنَّهَا لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً.

وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام " مَا أَصْدَقْتَهَا؟ " تَنْبِيهٌ وَإِشَارَةٌ إلَى وُجُودِ أَصْلِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، إمَّا بِنَاءً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَسْمِيَتِهِ فِي النِّكَاحِ، وَذَلِكَ: أَنَّهُ سَأَلَهُ بِ " مَا " وَالسُّؤَالُ بِ " مَا " بَعْدَ السُّؤَالِ بِ " هَلْ " فَاقْتَضَى ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْإِصْدَاقِ: مُتَقَرِّرًا لَا يُحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ.

وَفِي قَوْلِهِ " وَزْنَ نَوَاةٍ " قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: نَوَاةٌ مِنْ نَوَى التَّمْرِ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ وَلَا يَتَحَدَّدُ الْوَزْنُ بِهِ، لِاخْتِلَافِ نَوَى التَّمْرِ فِي الْمِقْدَارِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ وَزْنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. ثُمَّ فِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصْدَقُ ذَهَبًا وَزْنُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُصْدَقُ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ " مِنْ ذَهَبٍ " بِلَفْظِ " وَزْنَ " وَعَلَى الثَّانِي يَتَعَلَّقُ " بِنَوَاةٍ.

" وَقَوْلُهُ " بَارَكَ اللَّهُ لَكَ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ وَ " الْوَلِيمَةُ " الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ لِأَجْلِ الْعُرْسِ، وَهُوَ مِنْ الْمَطْلُوبَاتِ شَرْعًا. وَلَعَلَّ مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِهِ: أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ لِذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي اشْتِهَارَ النِّكَاحِ.

وَقَوْلُهُ " أَوْلِمْ " صِيغَةُ أَمْرٍ، مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَأَجْرَاهَا بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهَا، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ " وَلَوْ بِشَاةٍ " يُفِيدُ مَعْنَى التَّقْلِيلِ وَلَيْسَتْ " لَوْ " هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي مَعْنَى التَّمَنِّي.

ص: 186

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل» .

وَفِي لَفْظٍ «حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً، سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا» .

وَفِي لَفْظٍ «فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الطَّلَاقِ]

[حَدِيثٌ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ]

الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ لِلْحَدِيثِ وَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ لِيُعَرِّفَهُ الْحُكْمَ " وَتَغَيُّظُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " إمَّا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي الْمَنْعَ كَانَ ظَاهِرًا، وَكَانَ يَقْتَضِي الْحَالُ التَّثَبُّتَ فِي الْأَمْرِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي الْأَمْرُ الْمُشَاوِرَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِ ذَلِكَ إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لِيُرَاجِعْهَا " صِيغَةُ أَمْرٍ، مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الِاسْتِحْبَابِ وَعِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْوُجُوبِ وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى الرَّجْعَةِ إذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ عِنْدَهُ وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمَنْعِ لِلطَّلَاقِ إلَى أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ " حَتَّى " لِلْغَايَةِ وَقَدْ عُلِّلَ تَوَقُّفُ الْأَمْرِ إلَى الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الْأُولَى، لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضُوعَهَا إنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الطُّهْرِ: اسْتَمَرَّتْ الْإِبَاحَةُ فِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ دَوَامُ مُدَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ مَعَ الْمُعَاشَرَةِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ فَيَمْتَنِعُ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، لِأَجْلِ الْوَطْءِ فِيهِ وَفِي الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِدَوَامِ الْعِشْرَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَلَّلَ امْتِنَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ.

فَإِنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ لَا تُحْسَبُ مِنْ الْعِدَّةِ فَيَطُولَ زَمَانُ التَّرَبُّصِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَلِّلْ بِذَلِكَ، وَرَأَى الْحُكْمَ مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْحَيْضِ وَصُورَتِهِ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا مَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ، فَطَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ الْوَاقِعِ فِي الْحَمْلِ فَمَنْ عَلَّلَ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ: لَمْ يُحَرِّمْ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ هَهُنَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَمَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى صُورَةِ الْحَيْضِ: مَنَعَ.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: تَرْجِيحُ الْمَنْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَ الْمُرَاجَعَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ، وَلَا سُؤَالٍ عَنْ حَالِ الْمَرْأَةِ: هَلْ هِيَ حَامِلٌ، أَوْ حَائِلٌ؟ وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مِثْلِ هَذَا: يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْمَقَالِ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأُصُولِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُضَعَّفُ هَهُنَا هَذَا الْمَأْخَذُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ لِنُدْرَةِ الْحَيْضِ فِي الْحَمْلِ.

وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ: مَا إذَا سَأَلَتْ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ: هَلْ يَحْرُمُ طَلَاقُهَا فِيهِ؟ فَمَنْ مَالَ إلَى التَّعْلِيلِ بِطُولِ الْمُدَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَرْأَةِ: لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الضَّرَرِ. وَمَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى صُورَةِ الْحَيْضِ: مَنَعَ. وَالْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى. وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا مَا قِيلَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ فِيهِمَا بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سُؤَالِ الطَّلَاقِ وَعَدَمُ الْحَمْلِ.

وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، هَلْ هُوَ أَمْرٌ

ص: 188

319 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ " أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ - وَفِي رِوَايَةٍ:«طَلَّقَهَا ثَلَاثًا - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ: فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» - وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا سُكْنَى - فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ " مُرْهُ فَأَمَرَهُ بِأَمْرِهِ " وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الطَّلَبِ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ لَوَازِمَ صِيغَةِ الْأَمْرِ: هَلْ هِيَ لَوَازِمُ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمَا: هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَمْ لَا؟ .

وَفِي قَوْلِهِ " قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا " دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ. فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي الْإِذْنِ عَدَمَ الْمَسِيسِ لَهَا. وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي لِكَوْنِ الطَّلَاقِ بِدْعِيًّا وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ النَّدَمِ. فَإِنَّ الْمَسِيسَ سَبَبُ الْحَمْلِ وَحُدُوثِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِنَدَامَةِ الطَّلَاقِ.

وَقَوْلُهُ " فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا " هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْأُمَّةِ. أَعْنِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَالِاعْتِدَادِ بِهِ.

ص: 189

انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَتْهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ]

قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِلَّفْظِ أَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ. وَقَوْلُهُ " طَلَّقَهَا ثَلَاثًا " تَعْبِيرٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ " أَلْبَتَّةَ ". وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ " أَلْبَتَّةَ " لِلثَّلَاثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ هُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ " تَعْبِيرًا عَمَّا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ " الطَّلَاقُ ثَلَاثًا " وَهَذَا يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا ثَلَاثًا " أَيْ أَوْقَعَ طَلْقَةً تَتِمُّ بِهَا الثَّلَاثُ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ".

1 -

وَقَوْلُهُ " وَهُوَ غَائِبٌ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ هُوَ الْمُرْسِلُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ هُوَ الْمُرْسَلُ. وَقَدْ عَيَّنَ بَعْضُهُمْ لِلرِّوَايَةِ: الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " وَكِيلَهُ " يَعُودُ عَلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ. وَقِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ. وَقِيلَ اسْمُهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبُو حَفْصِ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ: أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَمَنْ قَالَ " أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ " أَكْثَرُ.

1 -

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ " هَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، إذَا كَانَتْ الْبَائِنُ حَائِلًا وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَوْلُهُ " وَلَا سُكْنَى " هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ السُّكْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] وَأَمَّا سُقُوطُ النَّفَقَةِ: فَأَخَذُوهُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فَمَفْهُومُهُ: إذَا لَمْ يَكُنَّ حَوَامِلَ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِنَّ. وَقَدْ نُوزِعُوا فِي تَنَاوُلِ الْآيَةِ لِلْبَائِنِ. أَعْنِي قَوْلَهُ " أَسْكِنُوهُنَّ " وَمَنْ قَالَ: لَهَا السُّكْنَى فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ. فَقِيلَ فِي الْعُذْرِ: مَا حَكَوْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً لَسِنَةً اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا، فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ ". وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَافَتْ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ «أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ: أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ مَعَ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ سَخَطِهَا الشَّعِيرَ، وَأَنَّ الْوَكِيلَ ذَكَرَ: أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنْ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَهَا بِمَا أَجَابَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُودِ النَّفَقَةِ لَا بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذُكِرَتْ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ أَقْوَى وَأَرْجَحُ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ عُمِلَ بِهِ.

وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ " قِيلَ: اسْمُهَا غَزِيَّةُ وَقِيلَ: غُزَيْلَةُ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ عَامِرِيَّةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ.

[قَوْلُ النَّبِيّ اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ]

وَقَوْلُهُ عليه السلام «تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي» قِيلَ: كَانُوا يَزُورُونَهَا، وَيُكْثِرُونَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَيْهَا لِصَلَاحِهَا. فَفِي الِاعْتِدَادِ عِنْدَهَا حَرَجٌ، وَمَشَقَّةٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ الرُّؤْيَةِ: إمَّا رُؤْيَتِهِمْ لَهَا، أَوْ رُؤْيَتِهَا لَهُمْ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ، أَوْ لَهُمَا مَعًا.

وَقَوْلُهُ " اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرْوِي جَوَازَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ عُلِّلَ بِالْعَمَى وَهُوَ مُقْتَضٍ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ، لَا لِعَدَمِ رُؤْيَتِهَا. فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الِاعْتِدَادِ عِنْدَهُ: مُعَلَّلٌ بِالْعَمَى الْمُنَافِي لِرُؤْيَتِهِ

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا إذَا خَافَتْ الْفِتْنَةَ حَرُمَ عَلَيْهَا النَّظَرُ. فَإِذًا هَذِهِ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْغَضُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ حِينَئِذٍ عَلَى وُجُوبِ الْغَضِّ مُطْلَقًا، أَوْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ اللَّفْظِ: فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ احْتِمَالًا جَيِّدًا، يَتَوَقَّفُ مَعَهُ الِاسْتِدْلَال عَلَى مَحِلِّ الْخِلَافِ.

وَقَالَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ: وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، مَعَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: فَلَيْسَ فِيهِ إذْنٌ لَهَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِ، بَلْ فِيهِ: أَنَّهَا تَأْمَنُ عِنْدَهُ مِنْ نَظَرِ غَيْرِهِ. وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ بَصَرِهَا، فَيُمْكِنُهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّظَرِ بِلَا مَشَقَّةٍ، بِخِلَافِ مُكْثِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ: إعْرَاضٌ عَنْ التَّعْلِيلِ بِعَمَاهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ: مَوْجُودٌ فِي نَظَرِهَا إلَيْهِ، مَعَ مُخَالَطَتِهَا لَهُ فِي الْبَيْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا عَلَّلَ بِالْعَمَى لِكَوْنِهَا تَضَعُ ثِيَابَهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَتِهِ لَهَا فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّعْلِيلُ عَنْ الْحُكْمِ بِاعْتِدَادِهَا عِنْدَهُ.

[التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْبَائِنِ]

1

وَقَوْلُهُ عليه السلام «فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي» مَمْدُودُ الْهَمْزِ، أَيْ أَعْلِمِينِي وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْبَائِنِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَوْلُهُ عليه السلام " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَثِيرُ الْأَسْفَارِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَثِيرُ الضَّرْبِ وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الثَّانِي بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ» .

1 -

" وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ عِنْدَ النَّصِيحَةِ. وَلَا يَكُونُ

ص: 192

320 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: «عَنْ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ. فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا: تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ: جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُبِيحَتْ فِيهَا الْغِيبَةُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ. وَ " الْعَاتِقُ " مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالْمَنْكِبِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ مَجَازِ الْمُبَالَغَةِ، وَجَوَازِ إطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ أَبَا جَهْمٍ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَضَعَ عَصَاهُ حَالَةَ نَوْمِهِ وَأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ مَثَلًا، لَكِنْ اعْتَبَرَ حَالَ الْغَلَبَةِ، وَأَهْدَرَ حَالَ النَّادِرِ وَالْيَسِيرِ. وَهَذَا الْمَجَازُ فِيمَا قِيلَ فِي أَبِي جَهْمٍ: أَظْهَرُ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ فِي مُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إنَّ لَفْظَةَ " الْمَالِ " انْتَقَلَتْ فِي الْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ إلَى مَا لَهُ قَدْرٌ مِنْ الْمَمْلُوكَاتِ، أَوْ ذَلِكَ مَجَازٌ شَائِعٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّقْلِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ جِدًّا، بِخِلَافِ مَا قِيلَ فِي أَبِي جَهْمٍ. وَقَوْلُهُ " انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فِيهِ جَوَازُ نِكَاحِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْمَوْلَى. وَكَرَاهَتُهَا لَهُ: إمَّا لِكَوْنِهِ مَوْلًى، أَوْ لِسَوَادِهِ، وَ " اغْتَبَطَتْ " مَفْتُوحُ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَأَبُو جَهْمٍ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ: مَفْتُوحُ الْجِيمِ سَاكِنُ الْهَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ أَبِي الْجُهَيْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ.

ص: 193

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ الْعِدَّةِ]

[حَدِيث سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ]

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّ عِدَّتَهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَإِنْ تَقَدَّمَ وَضْعُ الْحَمْلِ عَلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ: انْتَظَرَتْ تَمَامَهَا. وَإِنْ تَقَدَّمَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ وَالْعَشْرُ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ: انْتَظَرَتْ وَضْعَ الْحَمْلِ. وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَهُوَ سَحْنُونٌ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَعَارُضُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَخَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ. فَالْآيَةُ الْأُولَى: عَامَّةٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، سَوَاءٌ كُنَّ حَوَامِلَ أَمْ لَا.

وَالثَّانِيَةُ: عَامَّةٌ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ، سَوَاءٌ كُنَّ مُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَمْ لَا. وَلَعَلَّ هَذَا التَّعَارُضَ هُوَ السَّبَبُ لِاخْتِيَارِ مَنْ اخْتَارَ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُرْفَعَ تَحْرِيمُ الْعِدَّةِ السَّابِقُ إلَّا بِيَقِينِ الْحِلِّ وَذَلِكَ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. غَيْرَ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ اعْتَمَدُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] مَعَ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِي حُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ".

وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ " بِفَتْحِ السِّينِ وَ " بَعْكَكٍ " بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفَتْحِ الْكَافِ - وَهُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، هَكَذَا نُسِبَ. وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ قِيلَ: اسْمُهُ عَمْرٌو. وَقِيلَ: حَبَّةُ - بِالْبَاءِ - وَقِيلَ: حَنَّةُ - بِالنُّونِ.

وَقَوْلُهَا " فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي " يَقْتَضِي انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ لَمْ تَطْهُرْ مِنْ النِّفَاسِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزُّهْرِيُّ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: لَا تَحِلُّ مِنْ الْعِدَّةِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ. وَلَعَلَّ

ص: 194

321 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ «تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ، فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بِذِرَاعَيْهَا، فَقَالَتْ: إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بَعْضَهُمْ أَشَارَ إلَى تَعَلُّقٍ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ " فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا " أَيْ طَهُرَتْ " قَالَ لَهَا: قَدْ حَلَلْت فَانْكِحِي مَنْ شِئْت " رَتَّبَ الْحِلَّ عَلَى التَّعَلِّي فَيَكُونُ عِلَّةً لَهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِتَصْرِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُ أَفْتَاهَا بِالْحِلِّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ. يَعْنِي تَرْتِيبَ الْحِلِّ عَلَى التَّعَلِّي.

وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً، اسْتَبَانَ فِيهِ الْخَلْقُ أَمْ لَا - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَتَّبَ الْحِلَّ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ. وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي قَضَايَا الْأَحْوَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَهَذَا هَهُنَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَمْلُ التَّامُّ الْمُتَخَلِّقُ، وَوَضْعُ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ نَادِرٌ. وَحَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى الْغَالِبِ ظَاهِرٌ. وَإِنَّمَا تَقْوَى تِلْكَ الْقَاعِدَةُ حَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ بَعْضُ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا. وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ: وَهُوَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ.

[حَدِيثٌ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ]

الْحَمِيمُ: الْقَرَابَةُ.

" الْإِحْدَادُ " تَرْكُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ. وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ.

وَقَوْلُهُ " إلَّا عَلَى زَوْجٍ " يَقْتَضِي الْإِحْدَادَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ

ص: 195

322 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ. وَلَا تَكْتَحِلُ. وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إلَّا إذَا طَهُرَتْ: نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " لِامْرَأَةٍ " عَامٌّ فِي النِّسَاءِ. تَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ وَالْأَمَةُ. وَفِي دُخُولِ الصَّغِيرَةِ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ نَظَرٌ. فَإِنْ وَجَبَ مِنْ غَيْرِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ: فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَمِنْ هَهُنَا خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ - مِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ -: بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَهُ سَبَبٌ. وَالتَّخْصِيصُ إذَا كَانَ لِفَائِدَةٍ أَوْ سَبَبٍ - غَيْرِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ - لَمْ يَدُلَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فِي السَّبَبِ فِي ذَلِكَ: إنَّ الْمُسْلِمَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَثْمِرُ خِطَابَ الشَّارِعِ، وَتَنْتَفِعُ بِهِ، وَتَنْقَادُ لَهُ فَلِهَذَا قَيَّدَ بِهِ. وَغَيْرُ هَذَا أَقْوَى مِنْهُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهُ وَمَفْهُومُهُ، مِنْ أَنَّ خِلَافَهُ مُنَافٍ لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَأْكِيدَ أَمْرِ التَّوَكُّلِ بِرَبْطِهِ بِالْإِيمَانِ، وَكَمَا يُقَالُ: إنْ كُنْتَ وَلَدِي فَافْعَلْ كَذَا.

وَأَصْلُ لَفْظَةِ " الْإِحْدَادِ " مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ وَيُقَالُ: حَدَّتْ تُحِدُّ إحْدَادًا وَحَدَّتْ تَحَدُّ - بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ - وَعَنْ الْأُصْبُعِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إلَّا " أَحَدَّتْ " رُبَاعِيًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

1 -

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا إحْدَادَ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ، لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَتَخْصِيصِ مَنْعِ الْإِحْدَادِ بِمَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا. وَاقْتَضَى مَفْهُومُهُ: أَنْ لَا إحْدَادَ إلَّا لِمَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[حَدِيث لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ]

" الْعَصْبُ " ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ

ص: 196

323 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنُكَحِّلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا - مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا: دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ - حِمَارٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ - فَتَفْتَضَّ بِهِ. فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ. ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْمَرْأَةِ الْمُحِدِّ مِنْ الْكُحْلِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ إلَّا لَيْلًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ. وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ. وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ إذَا خَافَتْ عَلَى عَيْنِهَا بِكُحْلٍ لَا طِيبَ فِيهِ. وَاَلَّذِينَ أَجَازُوهُ: حَمَلُوا النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَلَى حَالَةِ عَدَمِ الْحَاجَةِ. وَالْجَوَازَ عَلَى حَالَةِ الْحَاجَةِ.

[مَنْعُ المحدة مِنْ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ لِلزِّينَةِ]

1

وَفِي الْحَدِيثِ: الْمَنْعُ مِنْ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ لِلزِّينَةِ، إلَّا ثَوْبَ الْعَصْبِ. وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ الْمَصْبُوغِ الْأَسْوَدَ؛ فَرَخَّصَ فِيهِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: كَرَاهَةُ الْعَصْبِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ جَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَصْبُوغٍ، وَهِيَ الثِّيَابُ الْبِيضُ. وَمَنَعَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَرَفِّعَ مِنْهَا الَّذِي يُتَزَيَّنُ بِهِ وَكَذَلِكَ جَيِّدُ السَّوَادِ.

" وَالنُّبْذَةُ " بِضَمِّ النُّونِ: الْقِطْعَةُ وَالشَّيْءُ الْيَسِيرُ وَ " الْقُسْطُ " بِضَمِّ الْقَافِ، وَ " الْأَظْفَارُ " نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ. وَقَدْ رُخِّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ، وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ.

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

" الْحِفْشُ " الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْحَقِيرُ، وَ " تَفْتَضُّ " تُدَلِّكُ بِهِ جَسَدَهَا.

يَجُوزُ فِي قَوْلِهَا " اشْتَكَتْ عَيْنَهَا " وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: ضَمُّ النُّونِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ هِيَ الْمُشْتَكِيَةُ.

وَالثَّانِي: فَتْحُهَا وَيَكُونُ الْمُشْتَكِي مِنْ " اشْتَكَتْ " ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ. وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " عَيْنَاهَا ".

وَقَوْلُهَا " أَفَنُكَحِّلُهَا " بِضَمِّ الْحَاءِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا " يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ، وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي: أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَادَّةِ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا حَالَةَ الْحَادَّةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " تَجْعَلُهُ بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحُهُ بِالنَّهَارِ " فَحُمِلَ عَلَى حَالَةِ الْحَادَّةِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ عليه السلام " لَا " وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ " تَقْلِيلٌ لِلْمُدَّةِ، وَتَهْوِينٌ لِلصَّبْرِ عَلَى مَا مُنِعَتْ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ " قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْإِشَارَةِ، فَقِيلَ: إنَّهَا رَمَتْ بِالْعِدَّةِ وَخَرَجَتْ مِنْهَا، كَانْفِصَالِهَا مِنْ هَذِهِ الْبَعْرَةِ وَرَمْيِهَا بِهَا. وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَتْهُ وَصَبَرَتْ عَلَيْهِ، مِنْ الِاعْتِدَادِ سَنَةً، وَلُبْسِهَا شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلُزُومِهَا بَيْتًا صَغِيرًا: هَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَقِّ الزَّوْجِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمُرَاعَاةِ، كَمَا يَهُونُ الرَّمْيُ بِالْبَعْرَةِ.

وَقَوْلُهَا " دَخَلَتْ حِفْشًا " بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ بَيْتًا صَغِيرًا حَقِيرًا قَرِيبَ السُّمْكِ.

وَقَوْلُهَا " ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ: حِمَارٍ، أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ " هُوَ بَدَلٌ مِنْ " دَابَّةٍ " وَقَوْلُهَا

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَتَفْتَضَّ بِهِ " بِفَتْحِ ثَالِثِ الْحُرُوفِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سَأَلْتُ الْحِجَازِيِّينَ عَنْ مَعْنَى الِافْتِضَاضِ؟ فَذَكَرُوا: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ كَانَتْ لَا تَغْتَسِلُ، وَلَا تَمَسُّ مَاءً، وَلَا تُقَلِّمُ ظُفْرًا. ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِأَقْبَحِ مَنْظَرٍ ثُمَّ تَفْتَضُّ، أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ، تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهُ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَمْسَحُ بِيَدِهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَمْسَحُ بِهِ ثُمَّ تَفْتَضُّ، أَيْ تَغْتَسِلُ وَ " الِافْتِضَاضُ " الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ لِلْإِنْقَاءِ، وَإِزَالَةِ الْوَسَخِ، حَتَّى تَصِيرَ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، كَالْفِضَّةِ فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضِهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ تَتَنَظَّفُ وَتَتَنَقَّى مِنْ الدَّرَنِ، تَشْبِيهًا لَهَا بِالْفِضَّةِ فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضِهَا. وَقِيلَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ الْأَوَّلُ.

ص: 199

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ. وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَقَالَ: لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَأَخْبَرَهَا: أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَقَالَتْ: لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ: إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةَ: أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ. فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ: إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ - ثَلَاثًا» .

وَفِي لَفْظٍ «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي؟ قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 200

لَا مَالَ لَكَ. إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ اللِّعَانِ]

[حَدِيث أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ]

" اللِّعَانُ " لَفْظَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " اللَّعْنِ " سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ ذِكْرِ اللَّعْنَةِ. وَقَوْلُهُ " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ: جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْوَقَائِعِ بِعِلْمِ أَحْكَامِهَا قَبْلَ أَنْ تَقَعَ وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا فَرَّعُوهُ، وَقَرَّرُوهُ مِنْ النَّازِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَكْرَهُ الْحَدِيثَ فِي الشَّيْءِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ، وَيَرَاهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّكَلُّفِ.

وَقَوْلُ الرَّاوِي " فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، ثُمَّ وَقَعَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ أَوَّلًا عَمَّا وَقَعَ، وَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ فِي جَوَابِهِ، فَبَيَّنَ ضَرُورَتَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَلَيْهِ: لِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا وَمَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ اسْتِحْبَابَهَا، عِنْدَمَا تُرِيدُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْفِظَ بِالْغَضَبِ.

وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيهَا وَفِي الرَّجُلِ فَلَعَلَّ هَذِهِ مَوْعِظَةٌ عَامَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعَذَابِ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُتَعَرِّضَةٌ لِلْعَذَابِ، الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ، إلَّا أَنَّ عَذَابَهَا أَشَدُّ.

وَظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ: يَقْتَضِي تَعْيِينَ لَفْظِ " الشَّهَادَةِ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُبَدَّلَ بِغَيْرِهَا.

ص: 201

325 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاعَنَا، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَيْضًا: الْبُدَاءَةَ بِالرَّجُلِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] فَإِنَّ " الدَّرْءَ " يَقْتَضِي وُجُوبَ سَبَبِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَاخْتُصَّتْ الْمَرْأَةُ بِلَفْظِ " الْغَضَبِ " لِعِظَمِ الذَّنْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْفِرَاشِ، وَالتَّعَرُّضِ لِإِلْحَاقِ مَنْ لَيْسَ مِنْ الزَّوْجِ بِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، كَانْتِشَارِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْأَمْوَالِ بِالتَّوَارُثِ. فَلَا جَرَمَ خُصَّتْ بِلَفْظَةِ " الْغَضَبِ " الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ " اللَّعْنَةِ " وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَوْ أَبْدَلَتْ الْمَرْأَةُ الْغَضَبَ بِاللَّعْنَةِ: لَمْ يُكْتَفَ بِهِ. أَمَّا لَوْ أَبْدَلَ الرَّجُلُ اللَّعْنَةَ بِالْغَضَبِ: فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالْأَوْلَى اتِّبَاعُ النَّصِّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَعَرْضِ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ رَجَعَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ: كَانَ تَوْبَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ: وُقُوعُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " رَاجِعًا إلَى الْمَالِ.

وَقَوْلُهُ " إنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى اسْتِقْرَارِ مَهْرِ الْمُلَاعَنَةِ. أَمَّا هَذَا: فَبِالنَّصِّ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَبِتَعْلِيلِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ " بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 202

لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ» .

326 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ لَك إبِلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا. قَالَ: فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهَا زِيَادَةُ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْمَرْأَةِ، وَيَرِثُهَا بِإِرْثِ الْبُنُوَّةِ مِنْهَا. وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْبُنُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا. وَمَفْهُومُهُ: يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسَبِ إلَى الْأَبِ مُطْلَقًا. وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيمَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا: هَلْ يَحِلُّ لِلْمُلَاعِنِ تَزَوُّجُهَا؟ .

وَقَوْلُهُ " فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِذِكْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي لِعَانِهِ، إلَّا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ. فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَقْتَضِي: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا ادَّعَاهُ. وَدَعْوَاهُ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ.

وَقَوْلُهُ " وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " يَقْتَضِي: أَنَّ اللِّعَانَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ ظَاهِرًا.

[حَدِيثٌ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ]

فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ حَدًّا كَمَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْتَاءِ. وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذِكْرِهِ، وَإِلَى عَدَمِ تَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي اللَّوْنِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ - بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ - لَا تُبِيحُ الِانْتِفَاءَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي السَّوَادِ الشَّدِيدِ مَعَ الْبَيَاضِ الشَّدِيدِ. وَ " الْوُرْقَةُ " لَوْنٌ يَمِيلُ إلَى الْغُبْرَةِ، كَلَوْنِ الرَّمَادِ يُسَمَّى أَوْرَقَ. وَالْجَمْعُ " وُرْقٌ " بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ

ص: 203

327 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَصَّلَ مِنْهُ التَّشْبِيهَ لِوَلَدِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُخَالِفِ لِلَوْنِهِ بِوَلَدِ الْإِبِلِ الْمُخَالِفِ لِأَلْوَانِهَا. وَذَكَرَ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ وَهِيَ نَزْعُ الْعِرْقِ، إلَّا أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ. وَاَلَّذِي حَصَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ: هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

[حَدِيثٌ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ]

يُقَالُ " زَمْعَةُ " بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَيُقَالُ " زَمَعَةُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْضًا.

وَالْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ صَاحِبَ الْفِرَاشِ. وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ، وَأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ يَأْخُذُ مُشَابَهَةً مِنْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُعْطَى أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَلَا يُمْحَضُ لِأَحَدِ الْأُصُولِ. وَبَيَانُهُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْفِرَاشَ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِزَمْعَةَ وَالشَّبَهُ الْبَيِّنُ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِعُتْبَةَ فَأُعْطِيَ النَّسَبَ بِمُقْتَضَى الْفِرَاشِ. وَأُلْحِقَ بِزَمْعَةَ، وَرُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ بِأَمْرِ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ. فَأُعْطِيَ الْفَرْعُ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَلَمْ يُمْحَضْ أَمْرُ الْفِرَاشِ فَتَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَوْدَةَ، وَلَا رُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ مُطْلَقًا فَيَلْتَحِقَ بِعُتْبَةَ

ص: 204

328 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ. فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَالُوا: وَهَذَا أَوْلَى التَّقْدِيرَاتِ. فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا دَارَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، فَأُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا مُطْلَقًا، فَقَدْ أَبْطَلَ شَبَهَهُ الثَّانِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِالثَّانِي، وَمُحِضَ إلْحَاقُهُ بِهِ: كَانَ إبْطَالًا لِحُكْمِ شَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ فَإِذَا أُلْحِقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ: كَانَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ: مَا إذَا دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلْحَاقَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَيْهِ. وَهَهُنَا لَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلَّا إلْحَاقَ هَذَا الْوَلَدِ بِالْفِرَاشِ. وَالشَّبَهُ هَهُنَا غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِلْحَاقِ شَرْعًا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ " عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، وَالْإِرْشَادِ إلَى مَصْلَحَةٍ وُجُودِيَّةٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ وُجُوبِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَيُؤَكِّدُهُ: أَنَّا لَوْ وَجَدْنَا شَبَهًا فِي وَلَدٍ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَثْبُتْ لِذَلِكَ حُكْمًا وَلَيْسَ فِي الِاحْتِجَابِ هَهُنَا إلَّا تَرْكُ أَمْرٍ مُبَاحٍ، عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَهُوَ قَرِيبٌ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " هُوَ لَكَ " أَيْ أَخٌ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» أَيْ تَابِعٌ لِلْفِرَاشِ أَوْ مَحْكُومٌ بِهِ لِلْفِرَاشِ، أَوْ يُقَارِبُ هَذَا.

وَقَوْلُهُ عليه السلام «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . قِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ لَهُ الْخَيْبَةَ مِمَّا ادَّعَاهُ وَطَلَبَهُ، كَمَا يُقَالُ: لِفُلَانٍ التُّرَابُ. وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا " تَعْبِيرًا بِذَلِكَ عَنْ خَيْبَتِهِ: وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِثَمَنِ الْكَلْبِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرُوا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَجْعَلُوا الْحَجَرَ " هَهُنَا عِبَارَةً عَنْ الرَّجْمِ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ الزَّانِي: لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَاهِرٍ يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ. وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحْصَنُ فَلَا يَجْرِي لَفْظُ " الْعَاهِرِ " عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ؛ أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا " مِنْ الْخَيْبَةِ: كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ زَانٍ. وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَتُهُ.

ص: 205

إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ» وَفِي لَفْظٍ «كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[الْعَمَلُ بِالْقِيَافَةِ]

" أَسَارِيرُ وَجْهِهِ " تَعْنِي الْخُطُوطَ الَّتِي فِي الْجَبْهَةِ. وَاحِدُهَا سَرَرٌ وَسِرَرٌ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَسَارِيرُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخُطُوطُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْكَفِّ مِثْلُهَا السَّرَرُ - بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ - وَالسِّرَرُ - بِكَسْرِ السِّينِ. اسْتَدَلَّ بِهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِيَافَةِ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأَحَدِ الْوَاطِئِينَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، لَا فِي كُلِّ الصُّوَرِ بَلْ فِي بَعْضِهَا.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَا يُسَرُّ بِبَاطِلٍ. وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَاعْتِذَارُهُمْ عَنْ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلْحَاقُ مُتَنَازَعٍ فِيهِ، وَلَا هُوَ وَارِدٌ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ. فَإِنَّ أُسَامَةَ كَانَ لَاحِقًا بِفِرَاشِ زَيْدٍ، مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ لَوْنِهِ وَلَوْنِ أَبِيهِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَلَمَّا غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، وَأَلْحَقَ مُجَزِّزٌ أُسَامَةَ بِزَيْدٍ: كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِطَعْنِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ اعْتِرَافِهِمْ بِحُكْمِ الْقِيَافَةِ " وَإِبْطَالُ طَعْنِهِمْ حَقٌّ. فَلَمْ يُسَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِحَقٍّ.

وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ: بِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ - إلَّا أَنَّ لَهُ جِهَةً عَامَّةً وَهِيَ دَلَالَةُ الْأَشْبَاهِ عَلَى الْأَنْسَابِ. فَنَأْخُذُ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْحَدِيثِ وَنَعْمَلُ بِهَا.

وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْقِيَافَةِ: هَلْ تَخْتَصُّ بِبَنِي مُدْلِجٍ، أَمْ لَا؟ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْأَشْبَاهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ خَاصٍّ بِهِمْ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ وَمَحَلُّ النَّصِّ إذَا اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لَمْ يُمْكِنْ إلْغَاؤُهُ "، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ.

ص: 206

329 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ «ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ - وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَ " مُجَزِّزٌ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا زَايٌ مُعْجَمَةٌ.

وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْقَائِفِ أَمْ يَكْفِي الْقَائِفُ الْوَاحِدُ؟ فَإِنَّ مُجَزِّزًا انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْقِيَافَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الِاكْتِفَاءُ بِالْقَائِفِ الْوَاحِدِ، فَلَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ، كَمَا قَدَّمْنَا.

وَقَوْلُهُ " آنِفًا " أَيْ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقَوْلِ، وَقَدْ تَرَكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرَ تَغْطِيَةِ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ رُءُوسَهُمَا وَظُهُورِ أَقْدَامِهِمَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ جِدًّا لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الْقِيَافَةِ وَكَانَ يُقَالُ: إنَّ مِنْ عُلُومِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةً: السِّيَافَةُ، وَالْعِيَافَةُ، وَالْقِيَافَةُ. فَأَمَّا السِّيَافَةُ: فَهِيَ شَمُّ تُرَابِ الْأَرْضِ لِيُعْلَمَ بِهَا الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ:

أَوْدِي فَلَيْتَ الْحَادِثَاتِ كِفَافُ

مَالُ الْمُسِيفِ وَعَنْبَرُ الْمُسْتَافِ

وَ " الْمُسْتَافُ " هُوَ هَذَا الْقَاصُّ، وَأَمَّا الْعِيَافَةُ: فَهِيَ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطِّيَرَةُ وَالتَّفَاؤُلُ بِهِمَا، وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَأَمَّا السَّانِحُ وَالْبَارِحُ: فَفِي الْوَحْشِ، وَفِي الْحَدِيثِ " الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ: مِنْ الْجِبْتِ " وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا، وَأَمَّا الْقِيَافَةُ: فَهِيَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَاهِ لِإِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ.

[حَدِيث ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ]

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَزْلِ فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا وَقِيلَ: فِيهِ: إذَا جَازَ تَرْكُ أَصْلِ الْوَطْءِ جَازَ تَرْكُ الْإِنْزَالِ وَرَجَّحَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ

ص: 207

330 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ» .

331 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ. وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ: فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إلَّا حَارَ عَلَيْهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ فِي الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَفِي الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لِحَقِّهِمَا فِي الْوَلَدِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ فِي السَّرَارِي لِمَا فِي ذَلِكَ - أَعْنِي الْإِنْزَالَ - مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى إلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَزْلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ الْعَزْلَ مُطْلَقًا، وَاسْتَدَلَّ جَابِرٌ بِالتَّقْرِيرِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِتَقْرِيرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي إلَّا الِاسْتِدْلَالَ بِتَقْرِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى -.

[حَدِيث لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ]

كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ. يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاءِ مِنْ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ، وَالِاعْتِزَاءِ إلَى نَسَبٍ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِيمَا مَضَى، وَشَرَطَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ الْأَنْسَابَ قَدْ تَتَرَاخَى فِيهَا مَدَدُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَيَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَتِهَا، وَقَدْ يَقَعُ اخْتِلَالٌ فِي النَّسَبِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ، وَلَا يُشْعَرُ بِهِ. فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ " إلَّا كَفَرَ " مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى تَأْوِيلِهِ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ، أَوْ بِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ " كُفْرٌ " لِأَنَّهُ قَارَبَ الْكُفْرَ، لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِيهِ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا قَارَبَهُ، أَوْ يُقَالُ: بِتَأْوِيلِهِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ.

1 -

وَقَوْلُهُ: عليه السلام " مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ " يَدْخُلُ فِيهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ كُلُّهَا وَمِنْهَا: دَعْوَى الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ جَعَلَ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ

؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " اقْتَضَى ذَلِكَ تَعْيِينَ دُخُولِهِ النَّارَ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْأَوْصَافِ فَقَطْ يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ.

وَأَقُولُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّعَاوَى، مِنْ نَصْبِ مُسَخَّرٍ يَدَّعِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، حِفْظًا لِرَسْمِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ، وَهَذَا الْمُسَخَّرُ يَدَّعِي مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَيْسَ حِفْظُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ فِي الشَّرْعِ، حَتَّى يَخُصَّ بِهَا هَذَا الْعُمُومَ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ فِي الْقَضَاءِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، فَانْخِرَامُ هَذِهِ الْمَرَاسِمِ الْحُكْمِيَّةِ، مَعَ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْقَضَاءِ، وَعَدَمِ تَنْصِيصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِهَا - أَوْلَى مِنْ مُخَالِفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ

أَعْنِي عَدَمَ التَّشْدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَرَاسِيمِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " فَلَيْسَ مِنَّا " أَخَفُّ مِمَّا مَضَى فِيمَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الْمَفْسَدَةِ مِنْ الْأُولَى، إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّعْوَى بِأَخْذِ الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ مَثَلًا، وَقَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ فِي الْعُلُومِ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا مَفَاسِدُ.

وَقَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ مِثْلَنَا، فِرَارًا مِنْ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِوَلَدِهِ - إذَا أَنْكَرَ مِنْهُ أَخْلَاقًا أَوْ أَعْمَالًا -: لَسْت مِنِّي، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُسَاوِيًا لِلْأَبِ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ فَلَمَّا

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

انْتَفَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ نُفِيَتْ الْبُنُوَّةُ مُبَالَغَةً.

[مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ]

1

وَأَمَّا مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ فَقَدْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ " حَارَ عَلَيْهِ " بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ رَجَعَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] أَيْ يَرْجِعَ حَيًّا، وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ أَكْفَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهِيَ وَرْطَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَعَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقَائِدِ فَغَلَّظُوا عَلَى مُخَالِفِيهِمْ، وَحَكَمُوا بِكُفْرِهِمْ، وَخَرَقَ حِجَابَ الْهَيْبَةِ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ خُصُومُهُمْ كَذَلِكَ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ وَسَبَبِهِ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهِ مُفْرَدًا، وَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ النَّظَرُ فِي هَذَا: أَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا؟ فَمَنْ أَكْفَرَ الْمُبْتَدِعَةَ قَالَ: إنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ فَيَقُولُ: الْمُجَسِّمَةُ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا جِسْمًا، وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ عَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَفَرَ، وَيَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ - فَقَدْ أَنْكَرُوا الصِّفَاتِ وَيَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ إنْكَارُ أَحْكَامِهَا، وَمَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْسِبُ الْكُفْرَ إلَى غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَآلِ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلشَّرْعِ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاطِعِ مَأْخَذًا لِلتَّكْفِيرِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُهُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ السَّمْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ طَرِيقًا وَدَلَالَةً.

وَعَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأُصُولِ عَنْ هَذَا بِمَا مَعْنَاهُ: إنَّ مَنْ أَنْكَرَ طَرِيقَ إثْبَاتِ الشَّرْعِ لَمْ يَكْفُرْ، كَمَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ، وَمَنْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِطَرِيقِهِ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُكَفِّرُ إلَّا مَنْ كَفَّرَنِي، وَرُبَّمَا خَفِيَ سَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ الصَّحِيحِ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ قَدْ لَمَحَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ - رَجَعَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، وَكَذَلِكَ قَالَ عليه السلام «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: كَافِرٌ: فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» وَكَأَنَّ هَذَا الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ: الْحَدِيثُ

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ الْكُفْرُ لِأَحَدِ الشَّخْصَيْنِ: إمَّا الْمُكَفِّرُ، أَوْ الْمُكَفَّرُ فَإِذَا أَكْفَرَنِي بَعْضُ النَّاسِ فَالْكُفْرُ وَاقِعٌ بِأَحَدِنَا، وَأَنَا قَاطِعٌ بِأَنِّي لَسْت بِكَافِرٍ فَالْكُفْرُ رَاجِعٌ إلَيْهِ.

ص: 211

332 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِنْتِ حَمْزَةَ لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ» (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الرَّضَاعِ]

[حَدِيثٌ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ]

صَرِيحُهُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِنْتَ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرَامٌ، وَقَوْلُهُ عليه السلام " يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " الْحَرَامُ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ: الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَيَحْرُمْنَ بِالرَّضَاعِ كَمَا يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ، فَأُمُّك كُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْك، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ أَرْضَعَتْك، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ وَلَدَتْك بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ الْمُرْضِعَةَ وَالْفَحْلَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِك، أَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ وَلَدَتْهَا، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ مَنْ وَلَدَتْهُ فَهِيَ بِنْتُك. وَكَذَلِكَ بَنَاتُهَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أُمُّك، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أَبِيك فَهِيَ أُخْتُك، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتْهَا الْمُرْضِعَةُ أَوْ الْفَحْلُ، فَأَخَوَاتُ الْفَحْلِ وَالْمُرْضِعَةِ، وَأَخَوَاتُ مَنْ وَلَدَتْهُمَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ عَمَّاتُك وَخَالَاتُك، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ جَدَّاتِك، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ وَاحِدٍ مِنْ أَجْدَادِك مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ. وَبَنَاتُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ، وَالْفَحْلِ فِي الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ: بَنَاتُ أَخِيك وَأُخْتِك، وَكَذَلِكَ كُلُّ أُنْثَى أَرْضَعَتْهَا

ص: 212

333 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أُخْتُك أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أُخْتِك. وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ: بَنَاتُ أُخْتِك، وَبَنَاتُ كُلِّ ذَكَرٍ أَرْضَعَتْهُ أُمُّك أَوْ أُرْضِعَ بِلَبَنِ أَخِيك، أَوْ أُخْتِك، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِنَّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ: بَنَاتُ أَخِيك وَبَنَاتُ كُلِّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أُمُّك أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أَبِيك، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَوْ أُخْتُك.

وَقَدْ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ - أَعْنِي قَوْلَهُ عليه السلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» - أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ وَلَا يَحْرُمْنَ مِنْ الرَّضَاعِ الْأُولَى: أُمُّ أَخِيك، وَأُمُّ أُخْتِك مِنْ النَّسَبِ: هِيَ أُمُّك، أَوْ زَوْجَةُ أَبِيك، وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَلَوْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ أَخَاك أَوْ أُخْتَك: لَمْ تَحْرُمْ. الثَّانِيَةُ: أُمُّ نَافِلَتِك: أُمُّ بِنْتِك، أَوْ زَوْجَةُ ابْنِك. وَهُمَا حَرَامٌ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا تَكُونُ بِنْتًا وَلَا زَوْجَةَ ابْنٍ، بِأَنْ تُرْضِعَ أَجْنَبِيَّةٌ نَافِلَتَك.

الثَّالِثَةُ: جَدَّةُ وَلَدِك مِنْ النَّسَبِ: إمَّا أُمُّك، أَوْ أُمُّ زَوْجَتِك، وَفِي الرَّضَاعَةِ قَدْ لَا تَكُونُ أُمًّا وَلَا أُمَّ زَوْجَةٍ، كَمَا إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَك فَأُمُّهَا جَدَّةُ وَلَدِك، وَلَيْسَتْ بِأُمِّك، وَلَا أُمِّ زَوْجَتِك. الرَّابِعَةُ: أُخْتُ وَلَدِك مِنْ النَّسَبِ: حَرَامٌ؛ لِأَنَّهَا إمَّا بِنْتُك أَوْ رَبِيبَتُك، وَلَوْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَك، فَبِنْتُهَا أُخْتُ وَلَدِك، وَلَيْسَتْ بِبِنْتٍ وَلَا رَبِيبَةٍ. فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِنَا «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .

وَأَمَّا أُخْتُ الْأَخِ: فَلَا تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَلَا مِنْ الرَّضَاعِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكُونَ لَك أَخٌ مِنْ أَبٍ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ، فَيَجُوزُ لِأَخِيك مِنْ الْأَبِ نِكَاحُ أُخْتِك مِنْ الْأُمِّ، وَهِيَ أُخْتُ أَخِيهِ. وَصُورَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ: امْرَأَةٌ أَرْضَعَتْك وَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْك، يَجُوزُ لِأَخِيك نِكَاحُهَا، وَهِيَ أُخْتُك وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» وَهُو

ص: 213

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» 334 - وَعَنْهَا قَالَتْ «إنَّ أَفْلَحَ - أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ - اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ؟ فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ: لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ. فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك» . قَالَ عُرْوَةُ " فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " 335 - وَفِي لَفْظٍ «اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ. فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي، وَأَنَا عَمُّك؟ فَقُلْت: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي، قَالَتْ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِي لَهُ، تَرِبَتْ يَمِينُك» أَيْ افْتَقَرَتْ، وَالْعَرَبُ تَدْعُوَا عَلَى الرَّجُلِ، وَلَا تُرِيدُ وُقُوعَ الْأَمْرِ بِهِ.

336 -

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا قُلْت: أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

َ.

ص: 214

فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ: اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» .

337 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي. قَالَ: فَتَنَحَّيْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» .

338 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ - فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ، تُنَادِي: يَا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ " نَوْعٌ مِنْ التَّعْرِيضِ، لِخَشْيَةِ أَنْ تَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكِبَرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ الرَّضَاعَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْمَجَاعَةِ، لَا مُجَرَّدُ إثْبَاتِ الرَّضَاعَةِ فِي زَمَنِ الْمَجَاعَةِ.

[حَدِيثٌ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ]

مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا فِي الرَّضَاعِ، أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا - إذَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ - مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، وَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْوَرَعِ وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ عليه السلام " كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ " وَالْوَرَعُ فِي مِثْلِ هَذَا مُتَأَكِّدٌ. " وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ " هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ - بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 215

عَمُّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَك ابْنَةَ عَمِّك، فَاحْتَمَلْتُهَا. فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي، وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ. وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْك وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهَتْ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي يَا عَمُّ]

الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ، وَصَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَالَةَ فِيهَا كَالْأُمِّ، عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ. وَقَوْلُهُ عليه السلام «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» سِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِإِطْلَاقِهِ أَصْحَابُ التَّنْزِيلِ عَلَى تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى. فَإِنَّ السِّيَاقَ طَرِيقٌ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ، وَتَعْيِينُ الْمُحْتَمَلَاتِ وَتَنْزِيلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَفَهْمُ ذَلِكَ - قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْكَلَامِ عَلَيْهَا وَتَقْرِيرِ قَاعِدَتِهَا مُطَوَّلَةً إلَّا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا أَصْحَابَهُمْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ مُتَعَيَّنَةٌ عَلَى النَّاظِرِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ شَغَبٍ عَلَى الْمُنَاظِرِ.

وَاَلَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُطَيِّبِ لِقُلُوبِهِمْ: مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّك تَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ: فَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَتُهُ؛ لِأَنَّ حِرْمَانَهُمَا مِنْ مُرَادِهِمَا مُنَاسِبٌ لِجَبْرِهِمَا بِذِكْرِ مَا يُطَيِّبُ قُلُوبَهُمْ وَأَمَّا جَعْفَرٌ: فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ مِنْ أَخْذِ الصَّبِيَّةِ، فَكَيْفَ نَاسَبَ ذَلِكَ جَبْرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ؟ فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ اسْتَحَقَّتْهَا الْخَالَةُ وَالْحُكْمُ بِهَا لِجَعْفَرٍ بِسَبَبِ الْخَالَةِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِصِفَتِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ جَبْرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ.

ص: 216

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْقِصَاصِ]

[حَدِيثٌ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ]

وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مباحو الدَّمِ بِالنَّصِّ. وَقَوْلُهُ عليه السلام " يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ " مُسْلِمٍ " وَكَذَلِكَ " الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ " كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ " التَّارِكُ لِدِينِهِ " وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ: جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا فِرَاقُهُمْ بِالرِّدَّةِ عَنْ الدِّينِ وَهُوَ سَبَبٌ لِإِبَاحَةِ دَمِهِ بِالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ: هَلْ تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، أَمْ لَا؟ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ: تُقْتَلُ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ " الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ " بِمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ يَقُولُ: مُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ كَافِرٌ وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الطَّرِيقَ فِي التَّكْفِيرِ فَالْمَسَائِلُ الْإِجْمَاعِيَّةُ: تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَتَارَةً لَا يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَكْفُرُ جَاحِدُهُ،

ص: 217

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لِمُخَالِفَتِهِ الْمُتَوَاتَرَ، لَا لِمُخَالِفَتِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَنْ يَدَّعِي الْحِذْقَ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَيَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ فَظَنَّ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مُخَالِفَةِ الْإِجْمَاعِ. وَأَخَذَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ قَالَ " إنَّهُ لَا يُكَفَّرُ مُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ ": أَنْ لَا يُكَفَّرَ هَذَا الْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ بِالْمَرَّةِ، إمَّا عَنْ عَمًى فِي الْبَصِيرَةِ، أَوْ تَعَامٍ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. فَيَكْفُرُ الْمُخَالِفُ بِسَبَبِ مُخَالِفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ لَا بِسَبَبِ مُخَالِفَتِهِ الْإِجْمَاعَ.

وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا، فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ - أَعْنِي: زِنَا الْمُحْصَنِ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، وَالرِّدَّةَ - وَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إبَاحَةَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْعَامِّ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ شَيْخُ وَالِدِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ فِي أَبْيَاتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي حُكْمِ تَارِكِ الصَّلَاةِ. أَنْشَدَنَا الْفَقِيهُ الْمُفْتِي أَبُو مُوسَى هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِهْرَانِيُّ قَدِيمًا، قَالَ أَنْشَدَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ لِنَفْسِهِ:

خَسِرَ الَّذِي تَرَكَ الصَّلَاةَ وَخَابَا

وَأَبَى مَعَادًا صَالِحًا وَمَآبَا

إنْ كَانَ يَجْحَدُهَا فَحَسْبُكَ أَنَّهُ

أَمْسَى بِرَبِّكَ كَافِرًا مُرْتَابَا

أَوْ كَانَ يَتْرُكُهَا لِنَوْعِ تَكَاسُلٍ

غَطَّى عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ حِجَابَا

فَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَأَيَا لَهُ

إنْ لَمْ يَتُبْ حَدَّ الْحُسَامِ عِقَابَا

وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ يُتْرَكُ مَرَّةً

هَمْلًا وَيُحْبَسُ مَرَّةً إيجَابَا

وَالظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِهِ

تَعْزِيرُهُ زَجْرًا لَهُ وَعِقَابَا

ص: 218

(1)

.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إلَى أَنْ قَالَ:

وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يُؤَدِّبَهُ الْإِمَا

مُ بِكُلِّ تَأْدِيبٍ يَرَاهُ صَوَابَا

وَيَكُفَّ عَنْهُ الْقَتْلَ طُولَ حَيَاتِهِ

حَتَّى يُلَاقِيَ فِي الْمَآبِ حِسَابَا

فَالْأَصْلُ عِصْمَتُهُ إلَى أَنْ يَمْتَطِي

إحْدَى الثَّلَاثِ إلَى الْهَلَاكِ رِكَابَا

الْكُفْرُ أَوْ قَتْلُ الْمُكَافِي عَامِدًا

أَوْ مُحْصَنٌ طَلَبَ الزِّنَا فَأَصَابَا

فَهَذَا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَتْبَاعِ مَالِكٍ، اخْتَارَ خِلَافَ مَذْهَبِهِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ - أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ - اسْتَشْكَلَ قَتْلَهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَجَاءَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا زَمَنَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ الْإِشْكَالَ. فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عليه السلام «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ: أَنَّهُ وَقَفَ الْعِصْمَةَ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُرَتَّبُ عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِحُصُولِ مَجْمُوعِهَا وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهَا. وَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَنْطُوقِ - وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى إلَخْ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِمَنْطُوقِهِ: الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَقَدْ وَهَلَ وَسَهَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقَتْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ " الْمُقَاتِلَةَ " مُفَاعِلَةٌ، تَقْتَضِي الْحُصُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا قُوتِلَ عَلَيْهَا - إبَاحَةُ الْقَتْلِ عَلَيْهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ عَنْ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا إشْكَالَ بِأَنَّ قَوْمًا لَوْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَنَصَبُوا الْقِتَالَ عَلَيْهَا: أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ. إنَّمَا النَّظَرُ وَالْخِلَافُ: فِيمَا إذَا تَرَكُوا إنْسَانًا مِنْ غَيْرِ نَصْبِ قِتَالٍ: هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا؟ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْقَتْلِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الْمُقَاتَلَةِ عَلَيْهَا إبَاحَةُ الْقَتْلِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أُخِذَ هَذَا مِنْ لَفْظِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ تَرْتِيبُ الْعِصْمَةِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ بِفِعْلِ بَعْضِهِ: هَانَ الْخَطْبُ؛ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ مَفْهُومٍ وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ وَبَعْضُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ

ص: 219

340 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» .

341 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه قَالَ «انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ - وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا - فَدَفْنه، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَبِّرْ، كَبِّرْ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ - فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَلَوْ قَالَ بِهَا فَقَدْ رَجَّحَ عَلَيْهَا دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

[حَدِيث أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ]

هَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الدِّمَاءِ.

فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمُّ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ بِهَا، أَوْ بِحَسَبِ فَوَاتِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَدَمِهَا وَهَدْمُ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ مَخْصُوصَةً بِمَا يَقَعُ فِيهِ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي أَوَّلِيَّةِ مَا يُقْضَى فِيهِ مُطْلَقًا، وَمِمَّا يُقَوِّي الْأَوَّلَ: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ» .

ص: 220

صَاحِبَكُمْ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا قَالُوا: كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ. وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالُوا: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمٌ كُفَّارٌ وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ]

فِيهِ مَسَائِلُ، الْأُولَى:" حَثْمَةُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَ " حُوَيِّصَةُ " بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَدْ تُشَدَّدُ مَكْسُورَةً، وَ " مُحَيِّصَةُ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَقَدْ تُشَدَّدُ.

الثَّانِيَةُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْقَسَامَةِ وَأَحْكَامِهَا، وَ " الْقَسَامَةُ " بِفَتْحِ الْقَافِ: هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُدَّعِي لِلدَّمِ عِنْدَ اللَّوْثِ. وَقِيلَ: إنَّهَا فِي

ص: 221

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى دَعْوَى الدَّمِ.

وَمَوْضِعُ جَرَيَانِ الْقَسَامَةِ: أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَيَدَّعِي وَلِيُّ الْقَتِيلِ قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَيَقْتَرِنُ بِالْحَالِ: مَا يُشْعِرُ بِصِدْقِ الْوَلِيِّ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الشُّرُوطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيُقَالُ لَهُ " اللَّوَثُ " فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ.

الثَّالِثَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا " اللَّوَثَ " وَمَعْنَاهُ، وَفَرَّعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ صُوَرًا: مِنْهَا: وُجْدَانُ الْقَتِيلِ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْقَرْيَةَ هَهُنَا: بِأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً. وَاشْتَرَطَ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ سَاكِنٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ غَيْرِهِمْ حِينَئِذٍ. الرَّابِعَةُ: فِي الْحَدِيثِ " وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّمِ صَرِيحًا، وَالْجِرَاحَةُ ظَاهِرَةٌ. وَلَمْ يَشْتَرِطْ الشَّافِعِيَّةُ فِي اللَّوَثِ " لَا جِرَاحَةً وَلَا دَمًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ جِرَاحَةٌ وَلَا دَمٌ فَلَا قَسَامَةَ، وَإِنْ وُجِدَتْ الْجِرَاحَةُ ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ، وَإِنْ وُجِدَ الدَّمُ دُونَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفِهِ فَلَا قَسَامَةَ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْفَمِ، أَوْ الْأُذُنِ ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ هَكَذَا حَكَى وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْخُصْيَةِ، وَالْقَبْضِ عَلَى مَجْرَى النَّفْسِ فَيَقُومُ أَثَرُهُمَا مَقَامَ الْجِرَاحَةِ. الْخَامِسَةُ: " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ " هُوَ أَخُو الْقَتِيلِ، " وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ " ابْنَا مَسْعُودٍ: ابْنَا عَمِّهِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْكِبَرِ بِقَوْلِهِ " كَبِّرْ كَبِّرْ " فَيُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ الْحَقَّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ لِقُرْبِهِ وَالدَّعْوَى لَهُ، فَكَيْفَ عَدَلَ عَنْهُ؟ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ لِشَرْحِ الْوَاقِعَةِ، وَتَبْيِينِ حَالِهَا، أَوْ يُقَالُ: إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُفَوِّضُ الْكَلَامَ وَالدَّعْوَى إلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَنَّ الْمُدَّعِي فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ يُبْدَأُ بِهِ فِي الْيَمِينِ، كَمَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافُهُ وَكَأَنَّهُ قُدِّمَ الْمُدَّعِي هَهُنَا - عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْخُصُومَاتِ - بِمَا انْضَافَ إلَى دَعْوَاهُ مِنْ شَهَادَةِ اللَّوْثِ، مَعَ عِظَمِ قَدْرِ الدِّمَاءِ، وَلْيُنَبِّهْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءَ عِلَّةٍ.

[مَسْأَلَةٌ الْيَمِينُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْقَسَامَةِ]

1

ص: 222

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السَّابِعَةُ: الْيَمِينُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْقَسَامَةِ: خَمْسُونَ يَمِينًا وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ تَعَدُّدِ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَقِيلَ: لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَأُكِّدَ بِالْعَدَدِ، وَقِيلَ: سَبَبُهُ تَعْظِيمُ شَأْنِ الدَّمِ، وَبُنِيَ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ: مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ مَحَلِّ اللَّوْثِ، وَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي تُعَدِّدْهَا خَمْسِينَ: قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ.

[مَسْأَلَةٌ الْمُدَّعِيَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ إذَا نَكَلَ]

1

الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ إذَا نَكَلَ: أَنَّهُ تُغَلَّظُ الْيَمِينُ بِالتَّعْدَادِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ إحْدَاهُمَا: إجْرَاءُ قَوْلَيْنِ فَإِنَّ نُكُولَهُ يُبْطِلُ اللَّوْثَ، فَكَأَنْ لَا لَوْثَ.

وَالثَّانِيَةُ: - وَهِيَ الْأَصَحُّ -: الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ لِلْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَعَلَ أَيْمَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ كَأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ. .

[مَسْأَلَةٌ الْقَتْلَ بِالْقَسَامَةِ]

التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ " تَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْقَتْلَ بِالْقَسَامَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، إذَا وَجَدَ مَا يَقْتَضِي الْقِصَاصَ فِي الدَّعْوَى، وَالْمُكَافَأَةَ فِي الْقَتْلِ:

أَحَدُهُمَا: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْهِ، تَشْبِيهًا لِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ جَدِيدُ قَوْلَيْهِ - أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا قِصَاصٌ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ دِيَةٌ لَا قَوَدٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقِصَاصِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا " فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ " أَقْوَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ عليه السلام " فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ "؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا " يُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ " يُسْتَعْمَلُ فِي دَفْعِ الْقَاتِلِ لِلْأَوْلِيَاءِ لِلْقَتْلِ. وَلَوْ أَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ لَتُبْعِدَ اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا، وَهُوَ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي تَسْلِيمِ الْقَاتِلِ أَظْهَرُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " أَظْهَرُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ " فَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ "؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْأَخِيرَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضْمَرَ " دِيَةَ صَاحِبِكُمْ " احْتِمَالًا ظَاهِرًا وَأَمَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالدَّمِ: فَتَحْتَاجُ إلَى

ص: 223

[مَسْأَلَةٌ مَوْضِعُ جَرَيَانِ الْقَسَامَةِ]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

تَأْوِيلِ اللَّفْظِ بِإِضْمَارِ " بَدَلَ صَاحِبِكُمْ " وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إضْمَارٍ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي إرَاقَةَ الدَّمِ أَقْرَبَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَشْنَعَةٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِينَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ أَوْ بَعْضِهِمْ فَرُبَّمَا أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ " دَمَ صَاحِبِكُمْ " هُوَ الْقَتِيلُ، لَا الْقَاتِلُ، وَيَرْدُدْهُ قَوْلُهُ " دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلَكُمْ ".

الْعَاشِرَةُ: لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا وَاحِدٌ، خِلَافًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِمَالِكٍ بِقَوْلِهِ عليه السلام «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعَ بِرُمَّتِهِ» فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ " بِرُمَّتِهِ " مَضْمُومُ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِإِسْلَامِهِ لِلْقَتْلِ، وَفِي أَصْلِهِ فِي اللُّغَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمْ: إنَّ " الرُّمَّةَ " حَبْلٌ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْبَعِيرِ، فَإِذَا قُيِّدَ أُعْطِيَ بِهِ.

وَالثَّانِي: إنَّهُ حَبْلٌ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْأَسِيرِ، فَإِذَا أُسْلِمَ لِلْقَتْلِ سُلِّمَ بِهِ.

[مَسْأَلَةٌ تَعَدَّدَ الْمُدَّعُونَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ]

1

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا تَعَدَّدَ الْمُدَّعُونَ فِي مَحَلِّ الْقَسَامَةِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ أَيْمَانِهِمْ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا.

الثَّانِي: أَنَّ الْجَمِيعَ يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَقَعَ كَسْرٌ تُمِّمَ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ مَثَلًا، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَإِنْ اقْتَضَى التَّوْزِيعُ كَسْرًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى - كَمَا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً - كَمَّلْنَا الْكَسْرَ، فَحَلَفَ سَبْعَةَ عَشْرَ يَمِينًا.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ عليه السلام " يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ " قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ مَا إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ. .

[مَسْأَلَةٌ هَلْ تَجْرِي الْقَسَامَةُ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ]

1

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْحَدِيثُ وَرَدَ بِالْقَسَامَةِ فِي قَتِيلٍ حُرٍّ، وَهَلْ تَجْرِي الْقَسَامَةُ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَكَأَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ - أَعْنِي الْحُرِّيَّةَ - هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْبَابِ، أَوْ اعْتِبَارٌ، أَمْ لَا؟ فَمَنْ اعْتَبَرَهُ يَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ، إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، قَالَ: إنَّ السَّبَبَ فِي الْقَسَامَةِ: إظْهَارُ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّمَاءِ وَالصِّيَانَةُ مِنْ إضَاعَتِهَا.

ص: 224

342 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك: فُلَانٌ، فُلَانٌ؟ حَتَّى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» .

343 -

وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَهَذَا الْقَدْرُ شَامِلٌ لِدَمِ الْحُرِّ وَدَمِ الْعَبْدِ، وَأُلْغِي وَصْفُ " الْحُرِّيَّةِ " بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَهُوَ جَيِّدٌ. .

[مَسْأَلَةٌ هَلْ تجرى الْقَسَامَة فِي الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ]

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي قَتْلِ النَّفْسِ، وَهَلْ يَجْرِي مَجْرَاهُ مَا دُونَهَا مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْجِرَاحِ؟ مَذْهَبُ مَالِكٍ: لَا، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِيهَا أَيْضًا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ - أَعْنِي كَوْنَهُ نَفْسًا - هَلْ لَهُ أَثَرٌ أَوْ لَا؟ وَكَوْنُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِمَّا يُقَوِّي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِهِ. .

[مَسْأَلَةٌ يَمِينَ الْمُشْرِكِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ]

1

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قِيلَ فِيهِ: إنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ كَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاحْتِسَابِ بِيَمِينِهِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا، وَأَنَّ يَمِينَ الْمُشْرِكِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَيَمِينِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ النَّاسِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَيْمَانَهُمْ لَا تُسْمَعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَشَهَادَتِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ قَطْعًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْخُصُومَاتِ: إذَا اقْتَضَتْ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[حَدِيث أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ]

الْحَدِيثُ: دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَشَاهِيرِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ: الْأُولَى: أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمِثْقَلِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْحَدِيث، وَقَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ صِيَانَةَ الدِّمَاءِ مِنْ الْإِهْدَار: أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَالْقَتْلُ بِالْمِثْقَلِ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ فِي إزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِالْمِثْقَلِ لَأَدَّى

ص: 225

344 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ذَلِكَ إلَى أَنْ يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى إهْدَارِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الدِّمَاءِ وَعُذْرُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ. وَادَّعَى صَاحِبُ الْمُطَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ قَتْلُ الصِّغَارِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ. قَالَ: أَوْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَحَهَا بِرَضْخٍ، وَبِهِ نَقُولُ، يَعْنِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ.

[مَسْأَلَةٌ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي طَرِيقِ الْقَتْلِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي طَرِيقِ الْقَتْلِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْعُدُولَ إلَى السَّيْفِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا قَوَدَ عِنْدَهُ إلَّا بِالسَّيْفِ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَضَّ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، كَمَا فَعَلَ هُوَ بِالْمَرْأَةِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا: مَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْقَتْلُ مُحَرَّمًا، كَالسِّحْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا قَتَلَ بِاللِّوَاطِ أَوْ بِإِيجَارِ الْخَمْرِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ لِلتَّحْرِيمِ، كَمَا قُلْنَا فِي السِّحْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تُدَسُّ فِيهِ خَشَبَةٌ، وَيَوْجَرُ خَلًّا بَدَّلَ الْخَمْرِ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى السَّيْفِ إذَا اخْتَارَ: فَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهُ: مَا إذَا قَتَلَهُ بِالْخَنْقِ، قَالَ: لَا يَعْدِلُ إلَى السَّيْفِ، وَادَّعَى أَنَّهُ عُدُولٌ إلَى أَشَدَّ فَإِنَّ الْخَنْقَ يُغَيِّبُ الْحِسَّ، فَيَكُونُ أَسْهَلَ.

وَ " الْأَوْضَاحُ " حُلِيٌّ مِنْ الْفِضَّةِ يُتَحَلَّى بِهَا، سُمِّيَتْ بِهَا لِبَيَاضِهَا، وَاحِدُهَا " وَضَحٌ ". وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " فَأَقَادَهُ " مَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ عُذْرِ الْحَنَفِيِّ.

ص: 226

«لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ: حَرَامٌ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ: فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَدِيَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُكْتُبُوا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ، ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إلَّا الْإِذْخِرَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث إنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ]

فِيهِ مَسَائِلُ، سِوَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَجِّ. الْأُولَى: قَوْلُهُ عليه السلام " إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ " هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْحَدِيثِ. و " الْفِيلُ " بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَشَذَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ " الْفِيلُ، أَوْ الْقَتْلُ " وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ. وَحَبَسَهُ: حَبَسَ أَهْلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ عَنْوَةً. فَإِنَّ التَّسْلِيطَ الَّذِي وَقَعَ لِلرَّسُولِ: مُقَابِلٌ لِلْحَبْسِ الَّذِي وَقَعَ لِلْفِيلِ وَهُوَ الْحَبْسُ عَنْ الْقِتَالِ وَقَدْ مَرَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ بِمَكَّةَ.

الثَّالِثَةُ: التَّحْرِيمُ الْمُشَارُ إلَيْهِ يَجْمَعُهُ إثْبَاتُ حُرُمَاتٍ، تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْمَكَانِ. مِنْهَا: تَحْرِيمُ الْقَتْلِ، وَتَحْرِيمُ الْقَتْلِ: هُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ.

الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجَبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ

ص: 227

[مَسْأَلَةٌ مُوجَبِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ]

345 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ - عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ - فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمُوجَبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَيْنًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوجَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ، وَالْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ.

وَمَنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: الْمُوجَبُ هُوَ الْقِصَاصُ قَالَ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَقُّ أَخْذِ الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: لِلْوَلِيِّ حَقُّ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ، وَأَخْذُ الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى هَذَا تَظْهَرُ فِي عَفْوِ الْوَلِيِّ، وَمَوْتِ الْقَاتِلِ، فَعَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ: يَأْخُذُ الْمَالَ فِي الْمَوْتِ لَا فِي الْعَفْوِ، وَعَلَى قَوْلِ التَّعْيِينِ يَأْخُذُ الْمَالَ بِالْعَفْوِ عَنْ الدِّيَةِ، لَا فِي الْمَوْتِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ. وَمَنْ يُخَالِفُ قَالَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ بِرِضَى الْقَاتِلِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الرِّضَى، لِثُبُوتِهِ عَادَةً وَقِيلَ: إنَّهُ كَقَوْلِهِ عليه السلام فِيمَا ذَكَرَ " خُذْ سَلَمَك، أَوْ رَأْسَ مَالِكِ " يَعْنِي: رَأْسَ مَالِكِ بِرِضَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ، لِثُبُوتِهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ. فَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَرْضَى بِأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهِ: يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ.

1 -

الْخَامِسَةُ: كَانَ قَدْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَوَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْكِتَابَةِ، لِتَقْيِيدِ الْعِلْمِ بِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِأَبِي شَاهٍ وَاَلَّذِي أَرَادَ أَبُو شَاهٍ كِتَابَتَهُ: هُوَ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[حَدِيث إمْلَاصِ الْمَرْأَة وَأَن النَّبِيَّ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ]

" إمْلَاصُ الْمَرْأَةِ " أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا.

ص: 228

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْحَدِيثُ: أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ غُرَّةِ الْجَنِينِ وَكَوْنِ الْوَاجِبِ فِيهِ غُرَّةَ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وَذَلِكَ إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ. وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ تَصَرُّفٌ بِالتَّقْيِيدِ فِي سِنِّ الْعَبْدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ فَنَذْكُرُهُ. وَاسْتِشَارَةُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ: أَصْلٌ فِي الِاسْتِشَارَةِ فِي الْأَحْكَامِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لِلْإِمَامِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْخَاصَّ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَكَابِرِ، وَيَعْلَمُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ. وَذَلِكَ يَصُدُّ فِي وَجْهِ مَنْ يَغْلُو مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَعَلِمَهُ فُلَانٌ مَثَلًا فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا خَفَى عَلَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَجَازَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجَوْزُ. وَقَوْلُ " عُمَرَ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك " يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى اعْتِبَارَ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَذْهَبٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ قَاطِعٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي حَدِيثٍ جُزْئِيٍّ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُلِّيًّا؛ لِجَوَازِ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى مَانِعٍ خَاصٍّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، أَوْ قِيَامِ سَبَبٍ يَقْتَضِي التَّثَبُّتَ، وَزِيَادَةَ الِاسْتِظْهَارِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ مِثْلُ عَدَمِ عِلْمِ عُمَرَ رضي الله عنه بِهَذَا الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ وَلَعَلَّ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادُهُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ فِي بَابِ الِاسْتِئْذَانِ أَقْوَى، وَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ رضي الله عنه بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَ.

ص: 229

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ. فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ - عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ - وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ» مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثٌ اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ]

قَوْلُهُ: " فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا " لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِانْفِصَالِ الْجَنِينِ وَلَعَلَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ، بِخِلَافِ حَدِيثِ عُمَرَ الْمَاضِي. فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالِانْفِصَالِ. وَالشَّافِعِيَّةُ شَرَطُوا فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ: الِانْفِصَالُ مَيِّتًا، بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ. فَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَلَمْ يَنْفَصِلْ جَنِينٌ: لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. قَالُوا: لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْجَنِينِ فَلَا نُوجِبُ شَيْئًا بِالشَّكِّ، وَعَلَى هَذَا: هَلْ الْمُعْتَبَرُ نَفْسُ الِانْفِصَالِ، أَوْ أَنْ يَنْكَشِفَ، وَيَتَحَقَّقَ حُصُولُ الْجَنِينِ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا: مَا إذَا قُدَّتْ بِنِصْفَيْنِ، وَشُوهِدَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا وَلَمْ يَنْفَصِلْ. وَمَا إذَا خَرَجَ رَأْسُ الْجَنِينِ بَعْدَ مَا ضُرِبَ وَمَاتَتْ الْأُمُّ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَنْفَصِلْ. وَبِمُقْتَضَى هَذَا: يَحْتَاجُونَ إلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَحَمْلِهَا

ص: 230

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَى أَنَّهُ انْفَصَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

مَسْأَلَةٌ أُخْرَى: الْحَدِيثُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِلَفْظِ " الْجَنِينِ " وَالشَّافِعِيَّةُ: فَسَرُّوهُ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ صُورَةُ الْآدَمِيِّ، مِنْ يَدٍ أَوْ إصْبَعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الصُّورَةَ خَفِيَّةٌ، يَخْتَصُّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِمَعْرِفَتِهَا وَجَبَتْ الْغُرَّةُ أَيْضًا، وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: لَيْسَتْ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ: فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ وَإِنْ شَكَّتْ الْبَيِّنَةُ فِي كَوْنِهِ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَمْ تَجِبْ بِلَا خِلَافٍ. وَحَظُّ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى اسْمِ " الْجَنِينِ " فَمَا تَخَلَّقَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِنَانِ. وَهُوَ الِاخْتِفَاءُ فَإِنْ خَالَفَهُ الْعُرْفُ الْعَامُّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَإِلَّا اُعْتُبِرَ الْوَضْعُ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغُرَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَيُجْبَرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى قَبُولِ الرَّقِيقِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلرَّدِّ فِي الْبَيْعِ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ لَفْظُ " الْغُرَّةِ " قَالَ: وَهِيَ الْخِيَارُ. وَلَيْسَ الْمَعِيبُ مِنْ الْخِيَارِ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ الْإِطْلَاقِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ لِلْغُرَّةِ قِيمَةٌ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْغُرَّةُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَحِقَّ قَبُولُ غَيْرِهَا، لِتَعْيِينِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. وَأَمَّا إذَا عُدِمَتْ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُشْعِرُ بِحُكْمِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: الْوَاجِبُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقِيلَ: يَعْدِلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الْفَقْدِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ الْحَدِيثَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ سِنٍّ دُونَ سِنٍّ وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَبْعًا، لِحَاجَتِهِ إلَى التَّعَهُّدِ، وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ وَأَمَّا فِي طَرَفِ الْكِبَرِ، فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُؤْخَذُ الْغُلَامُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا الْجَارِيَةُ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْحَدَّ: عِشْرِينَ وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُمَا يُؤْخَذَانِ، وَإِنْ جَاوَزَا السِّتِّينَ، مَا لَمْ يَضْعُفَا وَيَخْرُجَا عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِالْهَرَمِ

ص: 231

347 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى

ـــــــــــــــــــــــــــــ

لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ وَمُسَمَّاهُ فَقَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ فَلَزِمَ قَبُولُهُ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالسِّنِّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِ الْحَدِيثِ.

[مَسْأَلَةٌ الْوَاجِبُ فِي دِيَة جَنِينِ الرَّقِيقِ]

1

مَسْأَلَةٌ أُخْرَى: الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي جَنِينِ حُرَّةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ جَنِينُ الْأَمَةِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ وَارِدٌ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ عَامٍّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ السَّابِقُ - وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الِاسْتِشَارَةِ مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، لِقَوْلِهِ " فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ " لَكِنَّ لَفْظَ الرَّاوِي يَقْتَضِي أَنَّهُ شَهِدَ وَاقِعَةً مَخْصُوصَةً، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ جَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي جَنِينٍ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِجَنِينٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالتَّهَوُّدِ أَوْ التَّنَصُّرِ تَبَعًا، وَمَنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَاسَهُ عَلَى الْجَنِينِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْقِيَاسِ، لَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ " قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا " إجْرَاءٌ لِهَذَا الْقَتْلِ مَجْرَى غَيْرِ الْعَمْدِ وَ " حَمَلَ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ مَعًا " وَطَلَّ " دَمُ الْقَتِيلِ: إذَا أُهْدِرَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ فِيهِ شَيْءٌ وَقَوْلُهُ عليه السلام " إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ إلَخْ " فِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ السَّجْعِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّجْعِ الْمُتَكَلَّفِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ تَحْقِيقِ بَاطِلٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّكَلُّفِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ السَّجْعُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِسَجْعِ الْكُهَّانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُرَوِّجُونَ أَقَاوِيلَهُمْ الْبَاطِلَةَ بِأَسْجَاعٍ تَرُوقُ السَّامِعِينَ فَيَسْتَمِيلُونَ بِهَا الْقُلُوبَ، وَيَسْتَصْغُونَ إلَيْهَا الْأَسْمَاعَ قَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَمَّا إذَا كَانَ وَضْعُ السَّجْعِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْكَلَامِ فَلَا ذَمَّ فِيهِ.

ص: 232

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَك» .

348 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ اللَّهُ عز وجل: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَك]

أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا لِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا عَضَّ إنْسَانٌ يَدَ آخَرَ، فَانْتَزَعَهَا فَسَقَطَ سِنُّهُ وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَخْلِيصَ يَدِهِ بِأَيْسَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ أَوْ الضَّرْبِ فِي شِدْقَيْهِ لِيُرْسِلَهَا فَحِينَئِذٍ إذَا سَلَّ أَسْنَانَهُ أَوْ بَعْضَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَخَالَفَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَأَوْجَبَ ضَمَانَ السِّنِّ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّخْلِيصُ إلَّا بِضَرْبِ عُضْوٍ آخَرَ، كَبَعْجِ الْبَطْنِ، وَعَصْرِ الْأُنْثَيَيْنِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قَصْدُ غَيْرِ الْفَمِ، وَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الضَّمَانِ، فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي صُورَةِ التَّلَفِ بِالنَّزْعِ مِنْ الْيَدِ فَلَا نَقِيسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ لَكِنْ إذَا دَلَّتْ الْقَوَاعِدُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَعَدَمِ الْإِمْكَانِ فِي غَيْرِ الضَّمَانِ، وَفَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى غَيْرِ الْفَمِ: قَوِيَ بَعْد هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْفَمِ وَغَيْرِهِ.

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ]

" الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: يُكَنَّى أَبَا سَعِيدٍ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وِسَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ مَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ الْمَذْكُورِينَ وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ " جُنْدُبٌ " بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ الْعَلَقِيُّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ - وَالْعَلَقُ: بَطْنٌ مِنْ بَجِيلَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى جَدِّهِ فَيَقُولُ: جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ كُنْيَتُهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَانَ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ صَارَ إلَى الْبَصْرَةِ، " وَحَزَّ يَدَهُ " قَطَعَهَا، أَوْ بَعْضَهَا، " وَرَقَأَ الدَّمُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْقَافِ وَالْهَمْزِ: ارْتَفَعَ وَانْقَطَعَ، وَفِي الْحَدِيثِ إشْكَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ " وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْآجَالِ وَأَجَلُ كُلِّ شَيْءٍ: وَقْتُهُ يُقَالُ: بَلَغَ أَجَلُهُ، أَيْ تَمَّ أَمَدُهُ، وَجَاءَ حِينُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ وَقْتٍ أَجَلًا، وَلَا يَمُوتُ أَحَدٌ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ إلَّا بِأَجَلِهِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ بِالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَمَا عَلِمَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ فَعَلَى هَذَا: يَبْقَى قَوْلُهُ " بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ " يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُوهِمُ: أَنَّ الْأَجَلَ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ.

الثَّانِي قَوْلُهُ " حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى بِوَعِيدِ الْأَبَدِ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَالتَّخْصِيصِ بِزَمَنٍ، كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ، أَوْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحْلِلًا فَيَكْفُرُ بِهِ، وَيَكُونُ مُخَلَّدًا بِكُفْرِهِ، لَا بِقَتْلِهِ نَفْسَهُ. وَالْحَدِيثُ: أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَعْظِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ، سَوَاءً كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مِلْكَهُ أَيْضًا، فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ.

ص: 234

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ «قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ - أَوْ عُرَيْنَةَ - فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا. فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ. فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ: فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْحُدُودِ]

[حَدِيثٌ قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ]

" اجْتَوَيْت الْبِلَادَ " إذَا كَرِهْتهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوَافَقَةً " وَاسْتَوِ بِأَنَّهَا " إذَا لَمْ تُوَافِقْك. اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، لِلْإِذْنِ فِي شُرْبِهَا. وَالْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهَا، اعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ إلَّا بِالْخَمْرِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الشُّرْبِ لَمَا جَازَ التَّدَاوِي

ص: 235

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّمْثِيلُ بِهِمْ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِالْحُدُودِ، فَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ - وَذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْمُثْلَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْهُ إلَى ابْنِ سِيرِينَ - قَالَ " كَانَ شَأْنُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي الْمَائِدَةِ مِنْ شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا فَكَانَ شَأْنُ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ الَّتِي يَصِفُ فِيهَا إقَامَةَ حُدُودِهِمْ " وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ - وَسُئِلَ عَنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ؟ - فَقَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْمُحَارِبِينَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِي آخِرِهِ " فَمَا مَثَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَنَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ وَقَالَ: لَا تُمَثِّلُوا بِشَيْءٍ " وَفِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الطَّبَرِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ - بِسَنَدِهِ إلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ بِقِصَّتِهِمْ - وَفِي آخِرِهِ «فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَلَ الْأَعْيُنَ فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الْآيَةُ» وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ «مَا قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ» وَقَالَ قَالَ ابْنُ شَاهِينِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَنْسَخُ كُلَّ مُثْلَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَادِّعَاءُ النَّسْخِ مُحْتَاجٌ إلَى تَارِيخٍ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّمَا سَمَلَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ بِمِثْلِ مَا فَعَلُوا وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ. قُلْت: هُنَا تَقْصِيرٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَّ فِيهِ الْمُثْلَةُ مِنْ جِهَاتٌ عَدِيدَةٍ، وَبِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَهَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فِي سَمْلِ الْأَعْيُنِ، فَمَاذَا يَصْنَعُ بِبَاقِي مَا جَرَى مِنْ الْمُثْلَةِ؟ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَوَابٍ عَنْ هَذَا، وَقَدْ رَأَيْت عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُ ذَكَرَ " أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَسَارًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَثَّلُوا بِهِ " فَلَوْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا: كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ سَمْلِ الْأَعْيُنِ فَقَطْ، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا بَعْدَ

ص: 236

350 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما، أَنَّهُمَا قَالَا «إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُلْ، فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

ذَلِكَ يَبْقَى نَظَرٌ فِي بَعْضِ مَا حُكِيَ فِي الْقِصَّةِ وَ " عُكْلُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَ " عُرَيْنَةُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ آخِرِ الْحُرُوفِ بَعْدَهَا نُونٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ، وَبَنِي عُرَيْنَةَ. وَ " اللِّقَاحُ " النُّوقُ ذَوَاتُ اللَّبَنِ.

[حَدِيث وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا]

الْعَسِيفُ: الْأَجِيرُ. قَوْلُهُ " إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ " تَنْطَلِقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى الْقُرْآنِ خَاصَّةً.

ص: 237

351 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَدْ يَنْطَلِقُ " كِتَابُ اللَّهِ " عَلَى حُكْمِ اللَّهِ مُطْلَقًا. وَالْأَوْلَى: حَمْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ التَّغْرِيبَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ. وَفِي قَوْلِهِ " وَأْذَنْ لِي " حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَكَابِرِ. وَقَوْلُهُ " كَانَ عَسِيفًا " أَيْ أَجِيرًا. وَقَوْلُهُ " فَافْتَدَيْت مِنْهُ " أَيْ مِنْ الرَّجْمِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يُخَالِفُونَ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ جَائِزٍ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُهُمْ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَفِي قَوْلِهِ " فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ " دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْعُلَمَاءِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّكِّ فِيهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى الْفَتْوَى فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَالْحُكْمِ بِالْأَصْلِ فِي اسْتِمْرَارِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ زَوَالُهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّسْخِ. وَقَوْلُهُ " رَدٌّ عَلَيْك " أَيْ مَرْدُودٌ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أُخِذَ بِالْمُعَارَضَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَا يُمَلَّكُ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ عُذْرِ مَنْ اعْتَذَرَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْ بَعْضِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَهُ بِأَنَّ الْمُتَعَاوِضَيْنِ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ لَيْسَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَارِضَةِ الْفَاسِدَةِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ فِي مَحِلِّ الِاسْتِفْتَاءِ يُسَامَحُ بِهِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَمْرِ حَدِّهِ بِالْقَذْفِ وَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِحُكْمِ الرَّجْمِ، وَفِيهِ اسْتِنَابَةُ الْإِمَامِ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَكْفِي فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ رَتَّبَ رَجْمَهَا عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِرَافِهَا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِعَدَدٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَرِّفْهُ أُنَيْسًا، وَلَا أَمَرَهُ بِهِ.

ص: 238

أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالَا «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ]

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَدْرِي: أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ؟ وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ. يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَمَالِيكِ كَإِقَامَتِهِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى إقَامَةِ السَّيِّدِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ مُحْتَمَلَةٌ وَلَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُحْصَنْ. وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ تَعَرَّضَ لِحُكْمِهَا إذَا أُحْصِنَتْ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ إذَا لَمْ تُحْصَنْ تُجْلَدُ الْحَدَّ، ونُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنَّهُ قَالَ " إذَا لَمْ يَكُونَا مُزَوَّجَيْنِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَا مُزَوَّجَيْنِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ وَهُوَ خَمْسُونَ " قَالَ بَعْضُهُمْ: وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهُوَ - قَوْله تَعَالَى -:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ رَاجِحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الْجَلْدِ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بِحَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ الْحَدُّ، أَوْ أُخِذَ مِنْ السِّيَاقِ: فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ. وَ " الضَّفِيرُ " الْحَبْلُ الْمَضْفُورُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ قَوْلَهُ " فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الرَّقِيقِ يُرَدُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ حَطَّ مِنْ الْقِيمَةِ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَالَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ. وَفِيمَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَبِيعَهَا وَإِنْ انْحَطَّتْ قِيمَتُهَا إلَى الضَّفِيرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْبَارًا مُتَعَلِّقًا بِحَالٍ وُجُودِيٍّ، لَا إخْبَارًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَرَفَ بِتَكَرُّرِ زِنَا الْأَمَةِ انْحَطَّتْ قِيمَتُهَا عِنْدَهُ.

ص: 239

352 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ " كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّيْ، فَلَمَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِيمَا قَالَهُ فِي الثَّانِي نَظَرٌ أَيْضًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَيْبُ أَوْجَبَ نُقْصَانَ قِيمَتِهَا عِنْدَ النَّاسِ فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِالنُّقْصَانِ بَيْعًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، لَا بَيْعًا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْحَدُّ الْمَنُوطُ بِهَا، دُونَ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ وَالتَّأْدِيبِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إيجَابُ الْحَدِّ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَأَنْ لَا يُمْسِكَهَا إذَا زَنَتْ أَرْبَعًا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ فِي الْحَدِيثِ إشَارَةً إلَى إعْلَامِ الْبَائِعِ الْمُشْتَرِيَ بِعَيْبِ السِّلْعَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْعِلْمِ بِعَيْبِهَا وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَنْقُصْ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: إنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ تُفِدْ مَقْصُودَهَا مِنْ الزَّجْرِ لَمْ تُفْعَلْ، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً كَالْحَدِّ فَلِتَرْكِ الشَّرْطِ فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ: إمَّا تَرْكُ الْحَدِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِوُجُوبِهِ، وَإِمَّا إزَالَةُ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ، فَتَعَيَّنَ. وَلَمْ يَقُلْ: اُتْرُكُوهَا، أَوْ حُدُّوهَا كُلَّمَا تَكَرَّرَ لِأَجَلِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا التَّعْزِيرَاتُ الَّتِي لَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْفِعْلِ فَيُمْكِنُ تَرْكُهَا.

ص: 240

أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيث أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْت]

" الرَّجُلُ " هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ. رَوَى قِصَّتَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا شَرْطٌ لِوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَرَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ - إنَّمَا أَخَّرَ الْحَدَّ إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالُوا: لَوْ وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً لَمَا أَخَّرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْوَاجِبَ، وَفِي قَوْلِ الرَّاوِي " فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ " إلَخْ إشْعَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَرْبَعًا هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْحُكْمِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ تَبِعَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَدِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْبَاتِ وَالتَّحْقِيقِ لِوُجُودِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي تَرْكِهِ وَدَرْئِهِ بِالشُّبُهَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُؤَالِ الْحَاكِمِ فِي الْوَاقِعَةِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، كَسُؤَالِهِ عليه السلام عَنْ الْجُنُونِ لِيَتَبَيَّنَ الْعَقْلَ، وَعَنْ الْإِحْصَانِ لِيُثْبِتَ الرَّجْمَ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ: وَلَا يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بَعْدَ تَبَيُّنِ سَبَبِهِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام " أَبِكَ جُنُونٌ " وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، فَيُقَالَ: إنَّ إقْرَارَ الْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ فَمَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ؟ بَلْ سُؤَالُ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ سَأَلَ غَيْرَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقَعَ سُؤَالُ غَيْرِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ لِيَتَبَيَّنَ بِمُخَاطَبَتِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ تَثَبُّتَهُ وَعَقْلَهُ، فَيَبْنِيَ

ص: 241

353 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنَيَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ: فَرَأَيْت الرَّجُلَ: يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْأَمْرَ عَلَيْهِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ إقْرَارِهِ بِعَدَمِ الْجُنُونِ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى تَفْوِيضِ الْإِمَامِ الرَّجْمَ إلَى غَيْرِهِ وَلَفْظُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْضُرْهُ.

فَيُؤْخَذُ مِنْهُ: عَدَمُ حُضُورِ الْإِمَامِ الرَّجْمَ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ الزِّنَا بِالْإِقْرَارِ، وَيَبْدَأَ الشُّهُودُ بِهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ التَّثَبُّتُ وَالِاحْتِيَاطُ قِيلَ لَهُ: ابْدَأْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا عَنْ التَّسَاهُلِ فِي الْحُكْمِ بِالْحُدُودِ، وَدَاعِيًا إلَى غَايَةِ التَّثَبُّتِ وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِقَوْلِهِمْ. وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ " أَيْ بَلَغَتْ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَقِيلَ: عَضَّته، وَأَوْجَعْته، وَأَوْهَنْته. وَقَوْلُهُ " هَرَبَ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْحَفْرِ لَهُ.

[حَدِيث إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّه فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنَيَا]

قَالَ رضي الله عنه: الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا. اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ: هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ

ص: 242

354 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ أَنَّ رَجُلًا - أَوْ قَالَ: امْرَأً - اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ: مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى الذِّمِّيِّ الْمُحْصَنِ رَجَمَهُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَرَجْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودِيَّيْنِ، وَاعْتَذَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَمَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَادَّعَوْا أَنَّ آيَةَ حَدِّ الزِّنَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا. وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقِ التَّارِيخِ أَعْنِي ادِّعَاءَ النَّسْخِ. وَقَوْلُهُ " فَرَأَيْت الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ " الْجَيِّدُ فِي الرِّوَايَةِ " يَجْنَأُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ، وَالْهَمْزَةِ: أَيْ يَمِيلُ، وَمِنْهُ الْجَنَى، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَبَدَّلَتْنِي بِالشَّطَاطِ الْجَنَى

وَكُنْت كَالصَّعْدَةِ تَحْتَ السِّنَانِ

وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ بِالْحَاءِ، يُقَالُ: حَنَا الرَّجُلُ يَحْنُو إذَا أَكَبَّ عَلَى الشَّيْءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

حُنُوُّ الْعَابِدَاتِ عَلَى وِسَادِي.

[حَدِيثٌ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ]

أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَبَاهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَالُوا: لَا يَقْصِدُ عَيْنَهُ وَلَا غَيْرَهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَوَدُ إنْ فَعَلَ، وَمِمَّا قِيلَ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُدْفَعُ بِالْمَعْصِيَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ بِدَفْعِ الصَّائِلِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً النَّظَرُ إلَى ذَاتِهَا، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ. وَتَصَرَّفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ.

ص: 243

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْهَا: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّاظِرُ وَاقِفًا فِي الشَّارِعِ، أَوْ فِي خَالِصِ مِلْكِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، أَوْ فِي سِكَّةٍ مُنْسَدَّةِ الْأَسْفَلِ. اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالْأَشْهَرُ: أَنْ لَا فَرْقَ، وَلَا يَجُوزُ مَدُّ الْعَيْنِ إلَى حَرَمِ النَّاسِ بِحَالٍ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إلَّا عَيْنَ مَنْ وَقَفَ فِي مِلْكِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ قَبْلَ النَّهْيِ وَالْإِنْذَارِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ:

أَحَدُهُمَا: لَا عَلَى قِيَاسِ الدَّفْعِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ.

وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَعْنِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْقِفِ هَذَا النَّاظِرِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْذَارِ وَوَرَدَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْتِلُ النَّاظِرُ بِالْمِدْرَى» . وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ تَسَمَّعَ إنْسَانٌ، فَهَلْ يُلْحَقُ السَّمْعُ بِالنَّظَرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي الْحَدِيثِ إشْعَارٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ الْعَيْنَ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ، كَمَدًى، وَبُنْدُقَةٍ، وَحَصَاةٍ لِقَوْلِهِ " فَخَذَفْتَهُ " قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَمَّا إذَا زَرَقَهُ بِالنُّشَّابِ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ فَقَتَلَهُ فَهَذَا قَتْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ. وَمِمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا النَّاظِرَ إذَا كَانَ لَهُ مَحْرَمٌ فِي الدَّارِ، أَوْ زَوْجَةٌ، أَوْ مَتَاعٌ لَمْ يَجُزْ قَصْدُ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً وَقِيلَ: لَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الدَّارِ مَحْرَمٌ، إنَّمَا يُمْنَعُ قَصْدُ عَيْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا مَحَارِمُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ إلَّا صَاحِبُهَا فَلَهُ الرَّمْيُ، إنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَلَا ضَمَانَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُ وَمِنْهَا: أَنَّ الْحُرُمَ إذَا كَانَتْ فِي الدَّارِ مُسْتَتِرَاتٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ فَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ قَصْدُ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، لِإِطْلَاقِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْضَبِطُ أَوْقَاتُ السِّتْرِ وَالتَّكَشُّفِ، فَالِاحْتِيَاطُ حَسْمُ الْبَابِ. وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الدَّارِ، فَإِنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا أَوْ ثَمَّ كُوَّةٌ وَاسِعَةٌ، أَوْ ثُلْمَةٌ مَفْتُوحَةٌ، فَنَظَرَ: فَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا لَمْ يَجُزْ قَصْدُهُ وَإِنْ وَقَفَ وَتَعَمَّدَ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ قَصْدُهُ، لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِ الْبَابِ، وَتَوْسِيعِ الْكُوَّةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ، لِتَعْدِيهِ بِالنَّظَرِ. وَأُجْرِيَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا نَظَرَ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ، أَوْ نَظَرَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْمِئْذَنَةِ لَكِنْ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ هَهُنَا جَوَازُ

ص: 244

355 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ» - وَفِي لَفْظٍ: «ثَمَنُهُ - ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْفِقْهِيَّةِ دَاخِلًا تَحْتَ إطْلَاقِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا، وَمَا لَا فَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.

[بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ]

[حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ]

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، أَصْلًا وَقَدْرًا، أَمَّا الْأَصْلُ: فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ، وَشَذَّ الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَقَالُوا بِالْقَطْعِ فِيهِمَا، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ حِكَايَةُ فِعْلٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فِعْلًا - عَدَمُ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ نُطْقًا.

وَأَمَّا الْمِقْدَارُ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى أَنَّ النِّصَابَ رُبْعُ دِينَارٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي يُقَوَّمُ مَا عَدَا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ النِّصَابَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَيُقَوَّمُ مَا عَدَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَمَالِكٌ يَرَى: أَنَّ النِّصَابَ رُبْعُ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَكِلَاهُمَا أَصْلٌ، وَيُقَوَّمُ مَا عَدَاهُمَا بِالدِّرْهَمِ. وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَنَّ الدِّينَارَ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَرُبْعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَعْنِي صَرْفَهُ، وَلِهَذَا قُوِّمَتْ الدِّيَةُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْوَرِقِ، وَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْفِضَّةَ أَصْلٌ فِي التَّقْوِيمِ فَإِنَّ الْمَسْرُوقَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقُوِّمَ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا

ص: 245

356 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَصْلٌ فِي التَّقْوِيمِ وَإِلَّا كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الذَّهَبِ - الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ - أَوْلَى وَأَوْجَبَ، عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّقْوِيمَ بِهِ. وَالْحَنَفِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيمَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " الْقَطْعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " يَقُولُونَ - أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ - فِي التَّأْوِيلِ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ التَّقْوِيمَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ تَخْمِينِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عِنْدَ عَائِشَةَ رُبْعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَيَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهَا أَكْثَرَ. وَقَدْ ضَعَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَشَنَّعَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا مَعْنَاهُ: إنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ لِتُخْبِرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ، إلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ، لِعِظَمِ أَمْرِ الْقَطْعِ. وَ " الْمِجَنُّ " بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ: التُّرْسُ، مِفْعَلٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ وَالِاخْتِفَاءُ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ " الْجِنُّ "، وَكُسِرَتْ مِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الِاجْتِنَانِ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَمَّا يُحَاذِرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أَتَّقِي

ثَلَاثَ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ

وَالْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ: مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ ذِكْرِ " الثَّمَنِ " فَلَعَلَّهُ لِتَسَاوِيهِمَا عِنْدَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ فِي ظَنِّ الرَّاوِي أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ، وَإِلَّا فَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مَالِكُهُ لَمْ تُعْتَبَرْ إلَّا الْقِيمَةُ.

[حَدِيثُ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا]

هَذَا الْحَدِيثُ اعْتِمَادُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِعْلًا وَقَوْلًا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَوْلٌ وَهُوَ أَقْوَى فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ فِي مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ - اتَّفَقَ أَنَّ السَّارِقَ الَّذِي قُطِعَ سَرَقَهُ - أَنْ لَا يُقْطَعَ مَنْ سَرَقَ مَا دُونَهُ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي

ص: 246

357 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَيْمُ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» .

وَفِي لَفْظٍ «كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْقَطْعِ: فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي إبَاحَةِ الْقَطْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ فِيمَا دُونَهُ، وَأَيْضًا: فَرِوَايَةُ الْفِعْلِ يَدْخُلُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ الْمُسْتَضْعَفِ فِي أَنَّ التَّقْوِيمَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ إلَى آخِرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَوِيٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي صَرِيحُهُ الْقَطْعَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يَقُولُونَ بِجَوَازِ الْقَطْعِ بِهِ.

وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ النُّطْقُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَمَرْتَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ.

[حَدِيثُ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا]

قَدْ أُطْلِقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَفْظُ " السَّرِقَةِ " وَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ إطْلَاقُ جَحْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا رِوَايَةً وَهُوَ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ الْإِشْعَار الْعَادِيُّ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، اُخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَذْكُورَةُ سَارِقَةً، أَوْ جَاحِدَةً؟ وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَطْعَ فِي صُورَةِ جُحُودِ الْعَارِيَّةِ، عَمَلًا بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا أُخِذَ بِطَرِيقٍ صِنَاعِيٍّ - أَعْنِي فِي صَنْعَةِ الْحَدِيثِ - ضَعُفَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى

ص: 247

بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ

358 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مَسْأَلَةِ الْجُحُودِ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْجُحُودِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّهَا كَانَتْ جَاحِدَةً " عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " أَنَّهَا كَانَتْ سَارِقَةً ".

وَأَظْهَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ النَّكِيرَ وَالتَّعَجُّبَ مِمَّنْ أَوَّلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ - الَّذِي رُوِيَ فِعْلًا - بِأَنْ اعْتَمَدَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ قَوْلًا فَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفًا، فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَإِنَّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ حِينَئِذٍ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ فِعْلًا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ.

وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَأْوِيلُ احْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي التَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا، فَفِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْآنَ، إلَّا أَنَّهُ هَهُنَا قَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاوِي، إذَا كَانَ سَمِعَهُ لِرِوَايَةِ الْفِعْلِ أَنْ يُغَيِّرَهُ إلَى رِوَايَةِ الْقَوْلِ، فَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْمُحَابَاةِ لِلْأَشْرَافِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظَةُ " إنَّمَا " هَهُنَا دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَصْرِ الْمُطْلَقِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِيهِمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِي الْإِهْلَاكَ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَصْرٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، فَلَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِّ الْمَخْصُوصِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام «وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ هَذَا الْمَخْرَجَ، مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ، وَقَدْ شَدَّدَ جَمَاعَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا. وَمَرَاتِبُهُ فِي الْقُبْحِ مُخْتَلِفَةٌ.

ص: 248

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدّ الْخَمْرِ]

قَالَ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. لَا خِلَافَ فِي الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ: خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ: الْجَوَازُ. وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَحُدَّهُ بِالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَازَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، تَعْلِيلًا بِعُسْرِ الضَّبْطِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ " أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ: هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ.» وَفِي الْحَدِيثِ " قَالَ: فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الضَّرْبَ؟ فَقَوَّمَهُ أَرْبَعِينَ، فَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ " فَفَسَّرَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ: أَيْ قُدِّرَ الضَّرْبُ الَّذِي ضُرِبَهُ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَال وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ: فَكَانَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ ضَرْبَةً لَا أَنَّهَا عَدَدًا أَرْبَعُونَ بِالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، إنَّمَا قَايَسَ مِقْدَارَ مَا ضُرِبَهُ ذَلِكَ الشَّارِبُ فَكَانَ: مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ عَصًا، فَلِذَلِكَ قَالَ " فَقَوَّمَهُ " أَيْ جَعَلَ قِيمَتَهُ أَرْبَعِينَ وَهَذَا عِنْدِي خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَيُبْعِدُهُ: قَوْلُهُ «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ» فَإِنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا

ص: 249

359 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرْبِ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ. وَتَسْلِيطُ التَّأْوِيلِ عَلَى لَفْظَةِ قَوَّمَهُ " أَنَّهَا بِمَعْنَى " قَدَّرَ مَا وَقَعَ " فَكَأَنَّ أَرْبَعِينَ - أَقْرَبُ مِنْ تَسْلِيطِ هَذَا صِدْقَ قَوْلِنَا " جَلَدَ أَرْبَعِينَ " حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ " فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ " وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ " أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ " أَيْ اجْعَلْهُ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْقَوْلِ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ: إنَّ الَّذِي أَشَارَ بِالثَّمَانِينَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْقِيَاسِ أَوْ الِاسْتِحْسَانَ. وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ وِلَايَةِ عُمَرَ، وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ ثَمَانُونَ، عَلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ.

[حَدِيثُ لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ]

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا: إثْبَاتُ التَّعْزِيرِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا، لِمَا يَقْتَضِيه مِنْ جَوَازِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَيُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ هَذَا. وَفَوْقَ الْحُدُودِ عَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ وَصَاحِبِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ وَعَلَى هَذَا: فَفِي الْمُعْتَبَرِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَدْنَى الْحُدُودِ فِي حَقِّ الْمُعَزَّرِ فَلَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ عَلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ضَرْبَةً لِيَكُونَ دُونَ حَدِّ الشُّرْبِ وَلَا فِي تَعْزِيرِ الْعَبْدِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَر أَدْنَى الْحُدُودِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ أَيْضًا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَيْضًا. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَدِّ الْأَحْرَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ تَعْزِيرُ الْعَبْدِ عَلَى عِشْرِينَ، وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشَرَةٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ: أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ وَاخْتَلَفَ الْمُخَالِفُونَ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْعُذْرِ عَنْهُ فَقَالَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ. وَفِعْلُ بَعْضِهِمْ أَوْ فَتْوَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ: فِعْلُ عُمَرَ رضي الله عنه " أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ، أَوْ مِنْ مِائَةٍ " وَصَبِيغٌ هَذَا - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَآخِرُهُ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى الْخُصُوصِ. وَمَا ذَكَرَهُ مُنَاسَبَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ التَّخْصِيصِ.

قَالَ هَذَا الْمَالِكِيُّ: وَتَأَوَّلُوهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ " أَيْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرَةِ حُدُودُهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَصْرِ: أَنَّهُ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْحَدِّ

ص: 251

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِهَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ فِقْهِيٌّ، وَأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ - هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ - فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا التَّأْدِيبَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ عَنْ مُحَرَّمٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا - أَوَّلًا - خُرُوجٌ فِي لَفْظَةِ " الْحَدِّ " عَنْ الْعُرْفِ فِيهَا. وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْعَصْرِيُّ: يُوجِبُ النَّقْلَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَثَانِيًا: أَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَجَزْنَا فِي كُلِّ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ: أَنْ يُزَادَ لَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَخْتَصُّ الْمَنْعُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إذْ مَا عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا الَّتِي لَا تَجُوزُ فِيهَا الزِّيَادَةُ لَيْسَ إلَّا مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ فِيهِ مَمْنُوعٌ. فَلَا يَبْقَى لِخُصُوصِ مَنْعِ الزِّيَادَةِ مَعْنًى وَهَذَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمَالِكِيُّ فِي إطْلَاقِهِ لِحُقُوقِ اللَّهِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَنْهُ بِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا التَّأْدِيبَاتُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَمَعَ هَذَا فَيُحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهَا عَنْ كَوْنِهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ.

وَثَالِثًا - عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ وَمَا قَالَهُ الْعَصْرِيُّ، فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ - مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ " فَإِنَّهُ يَقْطَعُ دَابِرَ هَذَا الْوَهْمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُصْطَلَحَهُمْ فِي الْحُدُودِ: إطْلَاقُهَا عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْحَدِّ " فَإِنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَنْتَهِي إلَى مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ، فَهُوَ ثَمَانُونَ وَإِنَّمَا الْمُنْتَهَى إلَيْهِ: هِيَ الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَاتُ، وَقَدْ ذَهَبَ أَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْحَدِيثُ مُتَعَرِّضٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَيَبْقَى مَا دُونَهَا لَا تَعَرُّضَ لِلْمَنْعِ فِيهِ وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ فِيهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يُفَوَّضُ إلَى الْوُلَاةِ: تَخْيِيرُ تَشَهٍّ، بَلْ لَا بُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ.

وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مُؤَدِّبَ الصِّبْيَانِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَإِنْ زَادَ اُقْتُصَّ مِنْهُ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ يَبْعُدُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ الْمَتِينِ عَلَيْهِ. وَلَعَلَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ أَنَّ الثَّلَاثَ: اُعْتُبِرَتْ فِي مَوَاضِعَ

وَهُوَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ ضَعْفٌ.

وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - مِنْ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ هُوَ هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ - مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ.

ص: 252

‌كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ

360 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَةَ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ مُطْلَقًا، وَالْفُقَهَاءُ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، فَمَنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْوِلَايَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا إنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَطَلَبُهَا إنْ لَمْ تُعْرَضْ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنَعْنَا وِلَايَةَ الْفُضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلَمْ نَمْنَعْ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ فَهَهُنَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَسْأَلَهَا، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ الطَّلَبَ وَكَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَهُ، وَقَالَ: إنْ وَلَّاهُ انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ، وَقَدْ اُسْتُخْطِئَ فِيمَا قَالَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكَرَاهِيَةِ الْقَضَاءِ، لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَانَ خَطَرُ الْوِلَايَةِ عَظِيمًا، بِسَبَبِ أُمُورٍ فِي الْوَالِي، وَبِسَبَبِ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهُ كَانَ طَلَبُهَا تَكَلُّفًا، وَدُخُولًا فِي غَرَرٍ عَظِيمٍ، فَهُوَ جَدِيرٌ

ص: 253

361 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنِّي وَاَللَّهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِعَدَمِ الْعَوْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ إذَا أَتَتْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا هَذَا التَّكَلُّفُ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالْعَوْنِ عَلَى أَعْبَائِهَا وَأَثْقَالِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَلْطَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَبْدِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى إصَابَةِ الصَّوَابِ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، تَفَضُّلًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ وَالْهِدَايَةِ إلَى النَّجْدَيْنِ، هِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ، كَثُرَ فِيهَا الْكَلَامُ فِي فَنِّهَا، وَاَلَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْآن.

[مَسْأَلَة التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَمَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْبُدَاءَةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَالْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ طَرِيقَةُ مَنْ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّ الْفَاءَ تَقْضِي التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ مُسْتَعْقِبًا لِرُؤْيَةِ الْخَيْرِ فِي الْحِنْثِ، فَإِذَا اسْتَعْقَبَهُ التَّكْفِيرُ تَأَخَّرَ الْحِنْثُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا قُلْنَا " إنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ " لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاوِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا " فَكَفِّرْ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَبَيْنَ قَوْلِنَا " فَافْعَلْ هَذَيْنِ "، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ تَرْتِيبًا وَلَا تَقْدِيمًا، فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِالْوَاوِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، وَقَالَ: إنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ غَسْلِ الْوَجْهِ، بِسَبَبِ الْفَاءِ، وَإِذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْوَجْهِ وَجَبَ التَّرْتِيبُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ اتِّفَاقًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

[مَسْأَلَة الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَقْتَضِي الْحَدِيثُ تَأْخِيرَ مَصْلَحَةِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ إذَا كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا، بِنَصِّهِ. وَأَمَّا مَفْهُومُهُ: فَقَدْ يُشِيرُ بِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْخَيْرِ فِي غَيْرِهَا مَطْلُوبٌ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:(){وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَيَكُونُ مَعْنَى " عُرْضَةً " أَيْ مَانِعًا، وَ " أَنْ تَبَرُّوا " بِتَقْدِيرِ: مَا أَنْ تَبَرُّوا.

ص: 254

غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا.»

362 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» .

363 -

وَلِمُسْلِمٍ «فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مِنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا]

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَقْدِيمُ مَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام " وَتَحَلَّلْتُهَا " التَّكْفِيرَ عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إتْيَانَ مَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ فَإِنَّ التَّحَلُّلَ نَقِيضُ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ: هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِنْ مُوَافَقَةِ مُقْتَضَاهَا، فَيَكُونُ التَّحَلُّلُ الْإِتْيَانَ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا، فَإِنْ قُلْتَ: فَيَكْفِي عَنْ هَذَا قَوْلُهُ " أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " فَإِنَّهُ بِإِتْيَانِهِ إيَّاهُ تَحْصُلُ مُخَالَفَةُ الْيَمِينِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا فَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ عليه السلام حِينَئِذٍ " وَتَحَلَّلْتُ " فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ " أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " - قُلْتُ: فِيهِ فَائِدَةُ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى كَوْنِ مَا فَعَلَهُ مُحَلِّلًا. وَالْإِتْيَانُ بِهِ بِلَفْظِهِ يُنَاسِبُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ صَرِيحًا، فَإِذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ مِمَّا إذَا أَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِلْزَامِ.

وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَرْجِيحِ الْحِنْثِ عَلَى الْوَفَاءِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا " الْخَيْرُ " الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ الْحِنْثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَفْعُولِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ مَثَلًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ سَبَبٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ ".

ص: 255

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ " فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ]

يَعْنِي: حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا. الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَبِالصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمَنْعِ هَلْ هُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ؟ وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: مَا يُبَاحُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.

وَالثَّانِي: مَا تَحْرُمُ الْيَمِينُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، كَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، وَاَللَّاتِي وَالْعُزَّى، فَإِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَهُوَ كُفْرٌ كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُعَلِّقًا لِلْقَوْلِ فِيهِ، حَيْثُ يَقُولُ " فَإِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَكُفْرٌ، وَإِلَّا فَحَرَامٌ ".

الْقَسَمُ بِالشَّيْءِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَسَيَأْتِي حَدِيثٌ يَدُلُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْكُفْرِ لِمَنْ حَلَفَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِدَلَالَةِ الْيَمِينِ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْظِيمِ لَهُ.

الثَّالِثُ: مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْتَضِي تَعْظِيمُهُ كُفْرًا. وَفِي قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه " ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا " مُبَالَغَةٌ فِي الِاحْتِيَاطِ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى اللِّسَانِ مَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا.

ص: 256

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عليهما السلام: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ: نِصْفَ إنْسَانٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ: لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً]

قَوْلُهُ " قِيلَ لَهُ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " يَعْنِي قَالَ لَهُ الْمَلَكُ فِيهِ دَلِيلٌ: عَلَى أَنَّ إتْبَاعَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ بِالْمَشِيئَةِ: يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ عليه السلام " لَمْ يَحْنَثْ " وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُرَدَّ الْمَشِيئَةُ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ مَثَلًا " لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَأَرَادَ: رَدَّ الْمَشِيئَةِ إلَى الدُّخُولِ أَيْ إنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَا يَحْنَثُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ.

الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ إلَى نَفْسِ الْيَمِينِ فَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ، لِوُقُوعِ الْيَمِينِ، وَتَيَقُّنِ مَشِيئَةِ اللَّهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُذْكَرَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] لَا عَلَى قَصْدِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَهَذَا لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ.

وَلَا تَعَلُّقَ لِلْحَدِيثِ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ وَمَالِكٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَيُوقِعُ الطَّلَاقَ، وَإِنْ عُلِّقَ بِالْمَشِيئَةِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ قَدْ شَاءَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لِتَقْرِيرِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي الْيَمِينِ مَعَ النِّيَّةِ، كَالصَّرِيحِ فِي حُكْمِ

ص: 257

365 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْيَمِينِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي حَكَاهُ عَنْ سُلَيْمَانَ عليه السلام وَهُوَ قَوْلُهُ " لَأَطُوفَنَّ " لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ، لِأَجْلِ اللَّازِمِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى قَوْلِهِ " لَأَطُوفَنَّ "، فَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْيَمِينَ تَلْزَمُ بِمِثْلِ هَذَا فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ، وَتَقْدِيرِ اللَّفْظِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صَرِيحًا فِي الْمَحْكِيِّ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي الْحِكَايَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي الْحِكَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ " وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ " فَقَدْ قَالَ " لَأَطُوفَنَّ " فَإِنَّ اللَّافِظَ بِالْمُرَكَّبِ لَافِظٌ بِالْمُفْرَدِ. وَقَوْلُهُ " وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ " يُرَادُ بِهِ: أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ مَا أَرَادَ.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ، فَإِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ - أَعْنِي قَوْلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام " تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا " - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَحْيٍ وَإِلَّا لَوَجَبَ وُقُوعُ مَخْبَرِهِ. وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ فِي الْمَاضِي وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَضْعَفَ مِنْ هَذَا وَأَجَازَ الْحَلِفَ فِي صُورَةٍ، بِنَاءً عَلَى قَرِينَةٍ ضَعِيفَةٍ. وَأَمَّا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّهُ دَلَّ لَفْظُهُ عَلَى احْتِمَالٍ فِي هَذَا الْجَوَازِ وَتَرَدُّدٍ، أَوْ عَلَى نَقْلِ خِلَافٍ - أَعْنِي الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ -؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّنَّ كَذَلِكَ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْيَمِينِ فِي اللَّفْظِ: أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مِنْ أَوَّلِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ " قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لَمَا أَفَادَ قَوْلُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ تَأَدُّبًا، لَا لِرَفْعِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ. وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ: قَوْلُهُ عليه السلام «لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ» مَعَ احْتِمَالِهِ لِلتَّأْوِيلِ.

ص: 258

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] إلَى آخِرِ الْآيَةِ ".

366 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ قُلْت: إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ عز وجل وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ]

" يَمِينُ الصَّبْرِ " هِيَ الَّتِي يُصْبِرُ فِيهَا نَفْسَهُ عَلَى الْجَزْمِ بِالْيَمِينِ وَ " الصَّبْرُ " الْحَبْسُ، فَكَأَنَّهُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَهِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ. وَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ " الْغَمُوسُ " أَيْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِفَاعِلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ: يَقْتَضِي تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَبَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ: طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُلُ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحُفُّ بِالْقَضَايَا.

[حَدِيثُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ]

هَذَا الْحَدِيثُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ كَالْأَوَّلِ وَفِيهِ شَيْءٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ، وَهُوَ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى غَرِيمِهِ شَيْئًا، فَأَنْكَرَهُ وَأَحْلَفَهُ ثُمَّ أَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْلَافِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ فِي تَرْكِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَتَوَجَّهُ لَهُ. وَرُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِهِ

ص: 259

367 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ «ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ.» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ.» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عز وجل إلَّا قِلَّةً.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

صلى الله عليه وسلم «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ: أَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ، فَلَوْ أَجَزْنَا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ التَّحْلِيفِ: لَكَانَ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا - أَعْنِي الْيَمِينَ، وَإِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ - مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي: أَنَّ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا.

وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ نَفْيُ طَرِيقٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ، فَيَعُودُ الْمَعْنَى إلَى حَصْرِ الْحُجَّةِ فِي هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ - أَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ - إلَّا أَنَّ هَذَا قَلِيلُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَاظَرَةِ. وَفَهْمُ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ نَافِعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّظَرِ. وَلِلْأُصُولِيَّيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَحْثٌ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذَا حَقَّ التَّنْبِيهِ - أَعْنِي اعْتِبَارَ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ - وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِيهِ إلَّا أَحَدُ مَشَايِخِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ قَبْلَهُ بَعْضُ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الْمَالِكِيِّينَ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ. وَهُوَ عِنْدِي قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ، نَافِعَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنَاظِرَ الْجَدَلِيَّ: قَدْ يُنَازَعُ فِي الْمَفْهُومِ وَيَعْسُرُ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ]

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَلِفُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَة هُوَ الْقَسَمُ بِهِ وَإِدْخَالُ بَعْضِ حُرُوفِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ " وَاَللَّهِ، وَالرَّحْمَنِ "، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّيْءِ يَمِينٌ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى كَذَا، وَمُرَادُهُمْ: تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهِ وَهَذَا مَجَازٌ وَكَأَنَّ سَبَبَهُ مُشَابَهَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ الْحِنْثِ أَوْ الْمَنْعِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ» يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي، لِأَجْلِ قَوْلِهِ " كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا " وَالْكَذِبُ يَدْخُلُ الْقَضِيَّةَ الْإِخْبَارِيَّةَ الَّتِي يَقَعُ مُقْتَضَاهَا تَارَةً، وَتَارَةً لَا يَقَعُ. وَأَمَّا قَوْلُنَا " وَاَللَّهِ " وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَيْسَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهِيَ لِلْإِنْشَاءِ - أَعْنِي إنْشَاءَ الْقَسَمِ - فَتَكُونُ صُورَةُ هَذَا الْيَمِين عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ ".

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَاضِي، مِثْل أَنْ يَقُولَ " إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ". فَأَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ - فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَجَعَلَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ " هُوَ كَمَا قَالَ ". وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَ بِالْمَاضِي: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ. فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يُكَفَّرُ، اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ وَقِيلَ: يُكَفَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ مَعْنًى، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ " هُوَ يَهُودِيٌّ "، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُكَفَّرُ بِالْحَلِفِ يُكَفَّرْ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ، حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ.

[مَسْأَلَة مُجَانَسَةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِلْجِنَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» هَذَا مِنْ بَابِ مُجَانَسَةِ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِلْجِنَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِثْمِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إلَّا أُذِنَ لَهُ فِيهِ. قَالَ

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ الْقَاتِلِ بِمَا قَتَلَ بِهِ، مُحَدَّدًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحَدَّدٍ - خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - اقْتِدَاءً بِعِقَابِ اللَّهِ عز وجل لِقَاتِلِ نَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْيَهُودِيِّ، وَحَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ.

وَهَذَا الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَاسُ بِأَفْعَالِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَشْرُوعٍ لَنَا فِي الدُّنْيَا، كَالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، وَإِلْسَاعِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَسَقْيِ الْحَمِيمِ الْمُقَطِّعِ لِلْأَمْعَاءِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَا لَنَا طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إلَّا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا، أَوْ قِيَاسٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ عِنْد الْقِيَاسِيِّينَ وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ حُكْمًا، أَمَّا مَا كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا وَلَيْسَ مَا نَعْتَقِدَهُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَيْضًا بِالْمُبَاحِ لَنَا فَإِنَّ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ بِعِبَادِهِ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ بِهِمْ إلَّا مَا أُذِنَ لَنَا فِيهِ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.

[مَسْأَلَة التَّصَرُّفَاتُ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ لِلشَّيْءِ]

1

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّصَرُّفَاتُ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ الْمِلْكِ لِلشَّيْءِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَصَرُّفَاتُ التَّنْجِيزِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُتَعَلِّقًا بِهِ فَهَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ لَاغِيَةٌ اتِّفَاقًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي الْعِتْقِ خَاصَّةً، أَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ.

الثَّانِي: التَّصَرُّفَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْكِ، كَتَعَلُّقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ مَثَلًا، فَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَالشَّافِعِيُّ يُلْغِيه كَالْأَوَّلِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرَانِهِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُقَارِبُهُ، وَمُخَالِفُوهُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى التَّنْجِيزِ، أَوْ يَقُولُونَ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ التَّنْفِيذَ إنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْمِلْكِ، فَالطَّلَاقُ - مَثَلًا - لَمْ يَقَعْ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَمِنْ هُنَا يَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ.

وَهَهُنَا نَظَرٌ دَقِيقٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ - أَعْنِي تَعْلِيقَهُ بِالْمِلْكِ - وَبَيْنَ النَّذْرِ فِي ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ. وَاسْتَبْعَدَ قَوْمٌ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ وَمَا يُقَارِبُهُ بِالتَّنْجِيزِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا تَقُومُ بِهِ فَائِدَةٌ يَحْسُنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ جِهَةُ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ بِقَوِيَّةٍ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا: فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً، وَفِي أَثْنَائِهَا فَائِدَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الشُّيُوعُ وَالشُّهْرَةُ لِبَعْضِهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

حُصُولَ الْفَائِدَةِ عِنْدَ تَأْسِيسِ الْأَحْكَامِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» فِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ كَقَتْلِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَوْ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ؟ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحْكَامَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَلَعْنَهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّسَاوِي فِي الْإِثْمِ، أَوْ فِي الْعِقَابِ؟ وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَفْسَدَةِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ إذْهَابُ الرُّوحِ فِي الْمَفْسَدَةِ كَمَفْسَدَةِ الْأَذَى بِاللَّعْنَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْجَرَائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَإِنَّ الْخَيْرَاتِ مَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدَ شُرُورٌ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ الْإِمَامُ - يَعْنِي الْمَازِرِيَّ -: الظَّاهِرُ مِنْ الْحَدِيثِ تَشْبِيهُهُ فِي الْإِثْمِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ قَطْعٌ عَنْ الرَّحْمَةِ، وَالْمَوْتَ قَطْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَالَ الْقَاضِي، وَقِيلَ: لَعْنَتُهُ تَقْتَضِي قَصْدَهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْعَهُمْ مَنَافِعَهُ، وَتَكْثِيرَ عَدَدِهِمْ بِهِ كَمَا لَوْ قَتْلَهُ، وَقِيلَ: لَعْنَتُهُ تَقْتَضِي قَطْعَ مَنَافِعِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَنْهُ، وَبُعْدَهُ مِنْهَا بِإِجَابَةِ لَعْنَتِهِ فَهُوَ كَمَنْ قُتِلَ فِي الدُّنْيَا، وَقُطِعَتْ عَنْهُ مَنَافِعُهُ فِيهَا، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ مِنْ الْحَدِيثِ: تَشْبِيهٌ فِي الْإِثْمِ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتِوَاؤُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ، وَأَقُولُ: هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَلْخِيصٍ وَنَظَرٍ. أَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الْإِمَامِ - مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ - فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ التَّشْبِيهُ وَالِاسْتِوَاءُ فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ وَالْإِثْمِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي مِقْدَارِ الْإِثْمِ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ - قَلَّتْ أَوْ عَظُمَتْ - فَهِيَ مُشَابِهَةٌ أَوْ مُسْتَوِيَةٌ مَعَ الْقَتْلِ فِي أَصْلِ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَبْقَى فِي الْحَدِيثِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ: تَعْظِيمُ أَمْرِ اللَّعْنَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالْقَتْلِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ وَهُوَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَفْسَدَةِ بَيْنَ إزْهَاقِ الرُّوحِ وَإِتْلَافِهَا، وَبَيْنَ الْأَذَى بِاللَّعْنَةِ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الْإِمَامِ - مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّعْنَةَ قَطْعٌ عَنْ الرَّحْمَةِ، وَالْمَوْتَ قَطْعٌ

ص: 263

[مَسْأَلَة الْحَلِفُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَة]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

عَنْ التَّصَرُّفِ - فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ أَنْ نَقُولَ: اللَّعْنَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْإِبْعَادِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّشْبِيهُ.

وَالثَّانِي: أَنْ تُطْلَقَ اللَّعْنَةُ عَلَى فِعْلِ اللَّاعِنِ، وَهُوَ طَلَبُهُ لِذَلِكَ الْإِبْعَادِ بِقَوْلِهِ " لَعَنَهُ اللَّهُ " مَثَلًا، أَوْ بِوَصْفِهِ لِلشَّخْصِ بِذَلِكَ الْإِبْعَادِ بِقَوْلِهِ " فُلَانٌ مَلْعُونٌ " وَهَذَا لَيْسَ بِقَطْعٍ عَنْ الرَّحْمَةِ بِنَفْسِهِ، مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَابَةُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَسَبُّبًا إلَى قَطْعِ التَّصَرُّفِ، وَيَكُونُ نَظِيرُهُ: التَّسَبُّبَ إلَى الْقَتْلِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّسَبُّبَ إلَى الْقَتْلِ بِمُبَاشَرَةِ الْحَزِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ: مُفْضٍ إلَى الْقَتْلِ بِمُطَّرِدِ الْعَادَةِ فَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةُ اللَّعْنِ مُفْضِيًا إلَى الْإِبْعَادِ الَّذِي هُوَ اللَّعْنُ دَائِمًا: لَاسْتَوَى اللَّعْنُ مَعَ مُبَاشَرَةِ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ الْإِيرَادُ عَلَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي، مِنْ أَنَّ لَعْنَتَهُ لَهُ: تَقْتَضِي قَصْدَهُ إخْرَاجَهُ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فَإِنَّ قَصْدَهُ إخْرَاجَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَهُ كَمَا يَسْتَلْزِمُ مُقَدِّمَاتُ الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا حَكَاهُ مِنْ أَنَّ لَعْنَتَهُ تَقْتَضِي قَطْعَ مَنَافِعِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَنْهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ: إنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ لَا تُجَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَحْصُلُ انْقِطَاعُهُ عَنْ مَنَافِعِهِ، كَمَا يَحْصُلُ بِقَتْلِهِ وَلَا يَسْتَوِي الْقَصْدُ إلَى الْقَطْعِ بِطَلَبِ الْإِجَابَةِ، مَعَ مُبَاشَرَةِ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ، وَيُحْتَمَل مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، أَوْ بَعْضِهِ: أَنْ لَا يَكُونَ تَشْبِيهًا فِي حُكْمٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَا أُخْرَوِيٍّ، بَلْ يَكُونُ تَشْبِيهًا لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ كَالْقَطْعِ. وَالْقَطْعُ - مَثَلًا فِي بَعْضِ مَا حَكَاهُ - أَيْ قَطَعَهُ عَنْ الرَّحْمَةِ، أَوْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ حَيَاتِهِ وَفِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ نَظَرٌ، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرَ بِهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي اسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْمِ: أَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَفْسَدَةَ اللَّعْنِ مُجَرَّدُ أَذَاهُ، بَلْ فِيهَا - مَعَ ذَلِكَ - تَعْرِيضُهُ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِيهِ؛ بِمُوَافَقَةِ سَاعَةٍ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ لَا تُوَافِقُوا سَاعَةَ» - الْحَدِيثَ " وَإِذَا عَرَّضَهُ بِاللَّعْنَةِ لِذَلِكَ: وَقَعَتْ الْإِجَابَةُ، وَإِبْعَادُهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى: كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ

ص: 264

‌بَابُ النَّذْرِ

368 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْمًا - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْفَانِيَةِ قَطْعًا، وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَعْظَمُ ضَرَرًا بِمَا لَا يُحْصَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ مُسَاوِيًا أَوْ مُقَارِبًا لِأَخَفِّهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ. وَمَقَادِيرُ الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ وَأَعْدَادُهُمَا: أَمْرٌ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِهِ.

[بَابُ النَّذْرِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالنُّذُورُ ثَلَاثَةُ أَقْسَام:

أَحَدُهَا: مَا عُلِّقَ عَلَى وُجُودِ نِعْمَةٍ، أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ فَوُجِدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَالثَّانِي: مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ لِقَصْدِ الْمَنْعِ أَوْ الْحَثِّ كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ".

وَالثَّالِثُ: مَا يُنْذَرُ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِشَيْءٍ كَقَوْلِهِ " لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا " فَالْمَشْهُورُ: وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي أَرَدْنَاهُ بِقَوْلِنَا " النَّذْرُ الْمُطْلَقُ " وَأَمَّا مَا لَمْ يُذْكَرْ مَخْرَجُهُ، كَقَوْلِهِ " لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ " هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ مَالِكٌ: إنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ. وَقَدْ تَصَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ لَازِمًا بِالنَّذْرِ عِنْدَهُمْ، فَتَكُونُ فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ " لَيْلَةً " وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ وَقَدْ أُوِّلَ قَوْلُهُ " لَيْلَةً " عَلَى الْيَوْمِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِاللَّيْلَةِ عَنْ الْيَوْمِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ

ص: 265

369 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ. وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " يَوْمًا ".

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنْ نَذْرَ الْكَافِرِ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَيَحْتَاجُ - عَلَى هَذَا - إلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِعِبَادَةٍ تُمَاثِلُ مَا الْتَزَمَ فِي الصُّورَةِ، وَهُوَ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا وَفَاءً بِالنَّذْرِ، لِمُشَابَهَتِهَا إيَّاهُ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ.

[حَدِيثُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ]

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ نَذْرَ الطَّاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: يَقْتَضِي أَحَدَ أَقْسَامِ النَّذْرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ غَرَضٍ، أَوْ دَفْعُ مَكْرُوهٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ " وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " وَفِي كَرَاهَةِ النَّذْرِ إشْكَالٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةِ: تَقْتَضِي أَنَّ وَسِيلَةَ الطَّاعَةِ طَاعَةٌ، وَوَسِيلَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَيَعْظُمُ قُبْحُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَكَذَلِكَ تَعْظُمُ فَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ وَسِيلَةً إلَى الْتِزَامِ قُرْبَةٍ لَزِمَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقِسْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِ النَّذْرِ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ - فَذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَوْجُودُ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ طَلَبِ الْعِوَضِ، وَتَوْقِيفِ الْعِبَادَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْغَرَض، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الْتِزَام الْعِبَادَةِ وَالنَّذْرِ بِهَا مُطْلَقًا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْبَخِيلَ لَا يَأْتِي بِالطَّاعَةِ إلَّا إذَا اتَّصَفَتْ بِالْوُجُوبِ فَيَكُونُ النَّذْرُ: هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ فِعْلَ الطَّاعَةِ، لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ

ص: 266

370 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ.»

371 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ «اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَاقْضِهِ عَنْهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْوُجُوبُ لَتَرَكَهُ الْبَخِيلُ، فَيَكُونُ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا: مِمَّا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلُ، إلَّا أَنَّ لَفْظَةَ " الْبَخِيلِ " هُنَا قَدْ تُشْعِرُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَاتِّبَاعُ النُّصُوصِ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّ الْبَخِيلَ لَا يُعْطِي طَاعَةً إلَّا فِي عِوَضٍ وَمُقَابِلٍ يَحْصُلُ لَهُ، فَيَكُونُ النَّذْرُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي اسْتَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الطَّاعَةَ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " لَا يَأْتِي بِخَيِّرٍ " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " الْبَاءُ " بَاءَ السَّبَبِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَأْتِي بِسَبَبِ خَيْرٍ فِي نَفْسِ النَّاذِرِ وَطَبْعِهِ فِي طَلَبِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ، وَهُوَ فِعْلُ الطَّاعَةِ الَّتِي نَذَرَهَا وَلَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْخَيْرِ: حُصُولُ غَرَضِهِ.

[حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً]

نَذَرَ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ: لَازِمٌ عِنْدَ مَالِكٍ مُطْلَقًا وَتَعْلِيقًا فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " وَلْتَرْكَبْ " فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَةِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَشْيِ فَإِنَّهَا تَرْكَبُ وَفِيمَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ الرُّكُوبِ: تَفْصِيلٌ مَذْهَبِيٌّ عِنْدَهُمْ.

ص: 267

372 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: «عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي: أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ اسْتَفْتَى سَعْد رَسُولَ اللَّهِ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْمَنْذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَقَوْلُهُ " فِي نَذْرٍ " هُوَ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مَا كَانَ النَّذْرُ. وَقَدْ انْقَسَمَتْ الْعِبَادَةُ إلَى مَالِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ: وَالْمَالِيَّةُ: لَا إشْكَالَ فِي دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهَا، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْمَيِّت وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ: فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ.

[حَدِيثُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ إخْرَاجِ كُلِّهِ فِي الصَّدَقَةِ. وَقَدْ قَسَّمُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَاقَةِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصْبِرُ: لَمْ يُكْرَهْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ، وَلِأَجْلِ هَذَا شُرِّعَتْ الْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ. وَفِيهَا مَصْلَحَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَصْلُحُ لِلْمَحْوِ إحْدَاهُمَا: الثَّوَابُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهَا وَقَدْ تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَازَنَةُ، فَتَمْحُو أَثَرَ الذَّنْبِ. وَالثَّانِيَةُ: دُعَاءُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَحْوِ الذُّنُوبِ

وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» .

ص: 268

‌بَابُ الْقَضَاءِ

373 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.»

374 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُلِّ مَالِهِ: اكْتَفَى مِنْهُ بِالثُّلُثِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَتَى بِهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ بِتَنْجِيزِ صَدَقَةٍ، حَتَّى يَقَعَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ عَنْ نِيَّةِ قَصْدِ فِعْلِ مُتَعَلَّقِهَا وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ، فَأَشَارَ عليه السلام بِأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَأَنْ يَمْسِكَ بَعْضَ مَالِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ إيقَاعِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْ هُوَ مُحْتَمَلٌ لَهُ، وَكَيْفَمَا كَانَ: فَتَضْعُفُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ، وَهُوَ تَنْجِيزُ الصَّدَقَةِ بِكُلِّ الْمَالِ نَذْرًا مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا.

[بَابُ الْقَضَاءِ]

هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْكَانِ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ، لِكَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ " فَهُوَ رَدٌّ " أَيْ مَرْدُودٌ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَمْنُوعَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتِهَا.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ: يَقْتَضِي الْفَسَادَ. نَعَمْ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا يَقْتَضِيه الْحَدِيثُ مِنْ الرَّدِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ أَمْرَانِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَيَكُونُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ فِي أَحَدِهِمَا كَافِيًا وَيَقَعُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْآخَرِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ، فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.

ص: 269

اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ]

اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَفِيهِ ضَعْفٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَتْوَى، بَلْ نَدَّعِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِلْفَتْوَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ السَّبَبِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْفَتْوَى، وَرُبَّمَا قِيلَ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ الْحَاضِرِ فِي الْبَلَدِ، مَعَ إمْكَانِ إحْضَارِهِ وَسَمَاعِهِ لِلدَّعْوَى عَلَيْهِ، فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ وَجْهٌ يُبْعِدُ الِاسْتِدْلَالَ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ بِحَالِ حُضُورِهِ. نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ، وَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا مِنْ الْجِنْسِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.

وَمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْإِطْلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا: يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي الْجَمِيعِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى تَعَذُّرِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ هِنْدًا كَانَ يُمْكِنُهَا الرَّفْعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْذُ الْحَقِّ بِحُكْمِهِ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِالْكِفَايَةِ، لِقَوْلِهِ «مَا يَكْفِيكِ وَبَنِيكِ» .

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةً عَلَى وَلَدِهَا، مِنْ حَيْثُ إنَّ صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، أَوْ تَمْلِيكَهُ لَهُ: يَحْتَاجُ إلَى وِلَايَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِوُجُودِ الْأَبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابُ عَنْ هَذَا التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْأَبِ أَوْ غَيْرِهِ، مَعَ تَكَرُّرِ الْحَاجَةِ دَائِمًا يَجْعَلُهُ كَالْمَعْدُومِ. وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.

ص: 270

375 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُذْكَرُ فِي الِاسْتِفْتَاءِ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، إذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَذَى الْغَيْرِ: لَا يُوجِبُ تَعْزِيرًا.

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِعْلَامِ النَّاسِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يَفْتَرِقُ مَعَ الْغَيْرِ فِي إطْلَاعِهِ عَلَى مَا يُطْلِعُهُ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ مِنْ الْغُيُوبِ الْبَاطِنَةِ، وَذَلِكَ فِي أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ، لَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ قَوْلُهُ عليه السلام " إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الْحَصَرَ فِي " إنَّمَا " يَكُونُ عَامًّا، وَيَكُونُ خَاصًّا وَهَذَا مِنْ الْخَاصِّ وَهُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ. وَيَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُنَفَّذُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فِي الْبَاطِنِ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْحَنَفِيَّ إذَا قَضَى بِشُفْعَةِ الْجَارِ: لِلشَّافِعِ أَخْذُهَا فِي الظَّاهِرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حِلِّ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْحَدِيثُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ.

وَاَلَّذِي يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ - أَعْنِي أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ الْحُجَجَ إذَا كَانَتْ بَاطِلَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ إذَا خَالَفَ اعْتِقَادُ الْقَاضِي اعْتِقَادَ الْمَحْكُومِ لَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي شُفْعَةِ الْجَارِ.

ص: 271

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ «كَتَبَ أَبِي - أَوْ كَتَبْتُ لَهُ - إلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ: أَنْ لَا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ. فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

377 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ - ثَلَاثًا - قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ]

النَّصُّ وَارِدٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْقَضَاءِ حَالَةَ الْغَضَبِ وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مِنْ التَّشْوِيشِ الْمُوجِبِ لِاخْتِلَالِ النَّظَرِ، وَعَدَمِ اسْتِيفَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ. وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى إلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ مُشَوِّشٌ لِلْفِكْرِ وَلَوْ قَضَى مَعَ الْغَضَبِ وَالْجُوعِ: لَنَفَذَ إذَا صَادَفَ الْحَقَّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْغَضَبَ إنَّمَا خُصَّ لِشِدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَصُعُوبَةِ مُقَاوَمَتِهِ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ بِالْحَدِيثِ كَالسَّمَاعِ مِنْ الشَّيْخِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا فِي الرِّوَايَةِ: فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ أَدَّى الرِّوَايَةَ بِعِبَارَةٍ مُطَابِقَةٍ لِلْوَاقِعِ جَازَ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ إلَيَّ فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا.

ص: 272

وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ]

فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: قَدْ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَدُلُّ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ " كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ " فَالْكَبَائِرُ وَالذُّنُوبُ عِنْدَهُ مُتَوَارِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الذُّنُوبِ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عز وجل عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ: عَلَى خِلَافِهِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَ " الْكَبِيرَة " بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَنَظَرَ إلَى عِظَمِ الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَسَمَّى كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةً.

[مَسْأَلَة انْقِسَامِ الْكَبَائِرِ فِي عِظَمِهَا إلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ]

1

الثَّانِيَةُ: يَدُلُّ عَلَى انْقِسَامِ الْكَبَائِرِ فِي عِظَمِهَا إلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، لِقَوْلِهِ عليه السلام " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ: اسْتِوَاءُ رُتَبِهَا أَيْضًا فِي نَفْسِهَا فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ: أَعْظَمُ كَبِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْكَبَائِرَ.

[مَسْأَلَة اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِر]

1

الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ تَعْرِيفَهَا بِتَعْدَادِهَا وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَعْدَادًا مِنْ الذُّنُوبِ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَلْيَجْمَعْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ الْحَصْرِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ: إنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قِيلَ لَهُ " إنَّهَا سَبْعٌ " فَقَالَ " إنَّهَا إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْحَصْرِ بِالضَّوَابِطِ فَقِيلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: إنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ لَعْنٌ، أَوْ حَدٌّ: فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ، فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ: كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ وَكَذَا قَتْلُ الْمُؤْمِنِ، لِاقْتِرَانِ الْوَعِيدِ بِهِ وَالْمُحَارَبَةُ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ وَالْقَذْفُ، كَبَائِرُ، لِاقْتِرَانِ الْحُدُودِ بِهَا، وَاللَّعْنَةِ بِبَعْضِهَا. وَسَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقًا فَقَالَ: إذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ: فَأَعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ، فَهِيَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَإِنْ سَاوَتْ أَدْنَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ، أَوْ أَرْبَتْ عَلَيْهِ فَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَعَدَّ

ص: 273

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْ الْكَبَائِرِ: شَتْمَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، أَوْ الرَّسُولِ، وَالِاسْتِهَانَةَ بِالرُّسُلِ، وَتَكْذِيبَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَضْمِيخَ الْكَعْبَةِ بِالْعَذِرَةِ وَإِلْقَاءَ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ دَاخِلٌ عِنْدِي فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بِالْكُفْرِ إنْ جَعَلْنَا الْمُرَادَ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ: مُطْلَقَ الْكُفْرِ، عَلَى مَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا - مِنْ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَا تُؤْخَذُ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّابِقَ إلَى الذِّهْنِ: أَنَّ مَفْسَدَةَ الْخَمْرِ: السُّكْرُ وَتَشْوِيشُ الْعَقْلِ؟ فَإِنْ أَخَذْنَا هَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ شُرْبُ الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ كَبِيرَةً، لِخَلَائِهَا عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّهَا كَبِيرَةٌ فَإِنَّهَا - وَإِنْ خَلَتْ عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ - إلَّا أَنَّهُ يَقْتَرِنُ بِهَا مَفْسَدَةُ الْإِقْدَامِ وَالتَّجَرِّي عَلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الْمُوقِعِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَبِهَذَا الِاقْتِرَانِ تَصِيرُ كَبِيرَةً.

وَالثَّانِي: أَنَّا إذَا سَلَكْنَا هَذَا الْمَسْلَكَ فَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ بَعْضِ الْوَسَائِلِ إلَى بَعْضِ الْكَبَائِرِ مُسَاوِيًا لِبَعْضِ الْكَبَائِرِ، أَوْ زَائِدًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا، أَوْ مُسْلِمًا مَعْصُومًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ أَكْلِ مَالِ الرِّبَا، أَوْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ فِرَارِهِ مِنْ الزَّحْفِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ دُونَ هَذِهِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا اللَّعْنُ، أَوْ الْحَدُّ، أَوْ الْوَعِيدُ - فَتُعْتَبَرُ الْمَفَاسِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا سَاوَى أَقَلَّهَا، فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ.

[مَسْأَلَة الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ]

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: مُطْلَقُ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَذُكِرَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: خُصُوصُهُ، إلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ: أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنْ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ كُفْرُ التَّعْطِيلِ. فَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ.

[مَسْأَلَة عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مَعْدُودٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ]

1

الْخَامِسَةُ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مَعْدُودٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا

ص: 274

[مَسْأَلَة انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ]

ـــــــــــــــــــــــــــــ

شَكَّ فِي عِظَمِ مَفْسَدَتِهِ، لِعِظَمِ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ إلَّا أَنَّ ضَبْطَ الْوَاجِبِ مِنْ الطَّاعَةِ لَهُمَا، وَالْمُحَرَّمِ مِنْ الْعُقُوقِ لَهُمَا: فِيهِ عُسْرٌ، وَرُتَبُ الْعُقُوقِ مُخْتَلِفَةٌ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَمْ أَقِفْ فِي عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا فِيمَا يَخْتَصَّانِ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ، عَلَى ضَابِطٍ أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَا يَحْرُمُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ: فَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّهِمَا، وَمَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ: فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُمَا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ طَاعَتُهُمَا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرَانِ بِهِ، وَلَا فِي كُلِّ مَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ حُرِّمَ عَلَى الْوَلَدِ السَّفَرُ إلَى الْجِهَادِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ تَوَقُّعِ قَتْلِهِ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلِشِدَّةِ تَفَجُّعِهِمَا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أُلْحِقَ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ يَخَافَانِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَقَدْ سَاوَى الْوَالِدَانِ الرَّقِيقَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَالْفُقَهَاءُ قَدْ ذَكَرُوا صُوَرًا جُزْئِيَّةً، وَتَكَلَّمُوا فِيهَا مَنْثُورَةً، لَا يَحْصُلُ مِنْهَا ضَابِطٌ كُلِّيٌّ فَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُسْلَكَ فِي ذَلِكَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْكَبَائِرِ، وَهُوَ أَنْ تُقَاسَ الْمَصَالِحُ فِي طَرَفِ الثُّبُوتِ بِالْمَصَالِحِ الَّتِي وَجَبَتْ لِأَجْلِهَا، وَالْمَفَاسِدُ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ بِالْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا.

[مَسْأَلَة اهْتِمَامُهُ بِأَمْرِ شَهَادَةِ الزُّورِ أَوْ قَوْلِ الزُّورِ]

1

السَّادِسَةُ: اهْتِمَامُهُ عليه السلام بِأَمْرِ شَهَادَةِ الزُّورِ، أَوْ قَوْلِ الزُّورِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ؛ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَرُ، فَمَفْسَدَتُهَا أَيْسَرُ وُقُوعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَهَا: هُوَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَلَا يَقَعُ فِيهِ مُسْلِمٌ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالطَّبْعُ صَارِفٌ عَنْهُ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ:" الزُّورِ " فَإِنَّ الْحَوَامِلَ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ، كَالْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا فَاحْتِيجَ إلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَهُوَ الْإِشْرَاكُ قَطْعًا. " وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: " الزُّورِ " عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى: الْإِطْلَاقِ: لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكِذْبَةَ الْوَاحِدَةَ وَمَا

ص: 275

378 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

يُقَارِبُهَا لَا تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَأَسْقَطَتْ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِظَمِ بَعْضِ الْكَذِبِ فَقَالَ:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] وَعِظَمُ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبُهُ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ كَبِيرَةٌ، وَالْغِيبَةُ عِنْدِي: تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقُولِ وَالْمُغْتَابِ بِهِ، فَالْغِيبَةُ بِالْقَذْفِ كَبِيرَةٌ، لِإِيجَابِهَا الْحَدَّ، وَلَا تُسَاوِيهَا الْغِيبَةُ بِقُبْحِ الْخِلْقَةِ مَثَلًا، أَوْ قُبْحِ بَعْضِ الْهَيْئَةِ فِي اللِّبَاسِ مَثَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[حَدِيثُ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ]

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ إلَّا بِالْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي رُتِّبَ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي.

1 -

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُطْلَقًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ فِي وَجْهِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: تَصَرُّفَاتٌ بِالتَّخْصِيصَاتِ لِهَذَا الْعُمُومِ، خَالَفَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. مِنْهَا: اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ ادَّعَى سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقِصَاصِ: لَمْ تَجِبْ بِهِ الْيَمِينُ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا فَتَجِب الْيَمِينُ. وَمِنْهَا: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، لَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ، قَالَ سَحْنُونٌ مِنْهُمْ: إلَّا أَنْ يَكُونَا طَارِئَيْنِ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ الْأُمَنَاءِ - مِمَّنْ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - لَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ يَمِينًا. وَمِنْهَا: دَعْوَى الْمَرْأَةِ طَلَاقًا عَلَى الزَّوْجِ. وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا يَسْتَدِلُّ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ.

ص: 276

‌كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ

379 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ - إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ: اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْعِظَامِ الَّتِي عُدَّتْ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فَأُدْخِلَتْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جُعِلَتْ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْوَرَعِ، وَتَرْكِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الدِّينِ

وَالشُّبُهَاتُ لَهَا مُثَارَاتٌ مِنْهَا: الِاشْتِبَاهُ فِي الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ التَّحْلِيلِ، أَوْ تَعَارُضُ الْأَمَارَاتِ وَالْحُجَجِ وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عليه السلام " لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ " إشَارَةٌ إلَى هَذَا الْمُثَارِ، مَعَ أَنَّهُ يُحْمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَإِنْ عَلِمَ

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

حُكْمَ أَصْلِهَا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُثَارِ الشُّبُهَاتِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام " مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ " أَصْلٌ فِي الْوَرَعِ وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِ شُيُوخِ شُيُوخِنَا بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَصَنَّفُوا فِيهَا تَصَانِيفَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ سَلَكَ طَرِيقًا فِي الْوَرَعِ فَخَالَفَهُ بَعْضُ أَهْلِ عَصْرِهِ وَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ مُبَاحًا - وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ - فَلَا وَرَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَعَ تَرْجِيحٌ لِجَانِبِ التَّرْكِ وَالتَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ التَّسَاوِي مُحَالٌ، وَجَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ تَصْنِيفًا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عِنْدِي مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَ طَرَفَاهُ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْمُبَاحِ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا الَّذِي رَدَّدَ فِيهِ الْقَوْلَ. وَقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَهُوَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ يَمْنَعُهُ إذَا حَمَلْنَا الْمُبَاحَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ مُنْطَلِقًا عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ، فَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى التَّسَاوِي، إذْ الدَّالُّ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِعَيْنِهِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ وَلَا يَتَنَاقَضُ حِينَئِذٍ الْحُكْمَانِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ: فَلَا يَخْلُو هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ نَظَرٍ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ هَذَا الْمُشْتَبَهِ مُوجِبًا لِضَرَرٍ مَا فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَيَعْسُرُ تَرْجِيحُ تَرْكِهِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَرْكَهُ مُحَصِّلٌ لِثَوَابٍ أَوْ زِيَادَةِ دَرَجَاتٍ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يُفْهَمُ مِنْ أَفْعَالِ الْوَرِعِينَ فَإِنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ تَحَرُّجًا وَتَخَوُّفًا، وَبِهِ يُشْعِرُ لَفْظُ الْحَدِيثِ.

وَقَوْلُهُ عليه السلام " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ عَدَمَ التَّحَرُّزِ مِمَّا يُشْتَبَهُ: أَثَّرَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةً فِي نَفْسِهِ، تُوقِعُهُ فِي الْحَرَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ: وَقَعَ فِي الْحَرَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَمُنِعَ مِنْ تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ لِذَلِكَ.

ص: 278

380 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ «أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، وَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا. فَقَبِلَهُ» .

381 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَتْ «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ» .

382 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ عليه السلام " كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ " وَيُوشِكُ " بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنَى: يَقْرُبُ " وَالْحِمَى " الْمَحْمِيُّ، أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَتَنْطَلِقُ الْمَحَارِمُ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ قَصْدًا، وَعَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ الْتِزَامًا، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَشْهَرُ، وَقَدْ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَمْرَ الْقَلْبِ لِصُدُورِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَنْهُ، وَعَمَّا يَقُومُ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعُلُومِ، وَرَتَّبَ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْمُضْغَةِ، وَالْمُرَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاحَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ أَوْ الِاعْتِقَادِ بِالْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ.

[حَدِيثُ أَنَسِ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَأَخَذْتُهَا]

يُقَالُ " لَغَبُوا " إذَا أَعْيَوْا " وَأَنْفَجْتُ الْأَرْنَبَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، فَنَفَجَ أَيْ: أَثَرْتُهُ فَثَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَثَرْنَاهُ، وَذَعَرْنَاهُ فَعَدَا. " وَمَرُّ الظَّهْرَانِ " مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْأَرْنَبِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهَا إذَا ذُبِحَتْ بِالْأَكْلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَقَبُولِهَا.

ص: 279

«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» .

383 -

وَلِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ قَالَ «أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ]

يَسْتَدِلُّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَنْ يَرَى جَوَازَ أَكْلِ الْخَيْلِ

وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، أَوْ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ - أَعْنِي بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ - بِأَنْ قَالَ: فِعْلُ الصَّحَابِيِّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ شَكٌّ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ " إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ " ثُمَّ إنْ سَلِمَ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ.

وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِجَابِرٍ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا " وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ " فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهَا التَّعَلُّقُ.

وَأَمَّا الثَّانِي " وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِحَدِيثِ التَّحْرِيمِ - فَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِلَفْظِ النَّهْيِ، لَا بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ كَلَامٌ يُنْقَضُ بِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَإِنَّمَا أَرَادَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ الْآيَةَ خَرَجَتْ

ص: 280

384 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ «أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ: وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ: نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، وَرُبَّمَا قَالَ: وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ بِذِكْرِ النِّعَمِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِامْتِنَانَ بِنِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَتَرَكَ الِامْتِنَانَ بِنِعْمَةِ الْأَكْلِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَنْعَامِ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ ثَابِتًا لَمَا تَرَكَ الِامْتِنَانَ بِهِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْأَكْلِ فِي جِنْسِهَا فَوْقَ نِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبَقَاءُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَا يَحْسُنُ تَرْكُ الِامْتِنَانِ بِأَعْلَى النِّعْمَتَيْنِ وَذِكْرُ الِامْتِنَانِ بِأَدْنَاهُمَا، فَدَلَّ تَرْكُ الِامْتِنَانِ بِالْأَكْلِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَتْ نِعْمَةُ الْأَكْلِ فِي نَظَائِرِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا حَسَنًا - إلَّا أَنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ حَيْثُ قُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يُطَالَبَ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى عَيْنِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّمَا يُشْعِرُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ: أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَتْرُوكًا عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: عَلَى جَوَازِ النَّحْرِ لِلْخَيْلِ.

وَقَوْلُهُ " وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى آخِرِهِ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، لِظَاهِرِ النَّهْيِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِالْكَرَاهَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ.

ص: 281

385 -

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه قَالَ «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» .

386 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ]

هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ أَدَلُّ مِنْ لَفْظِ النَّهْيِ، وَأَمْرُهُ عليه السلام بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ: مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ لِلُحُومِهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ عِلَّتَانِ أُخْرَيَانِ:

إحْدَاهُمَا: أَنَّهَا أُخِذَتْ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مِنْ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ وَالسَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ: أَنَّهُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ، فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. وَ " كَفَأْتُ الْقِدْرَ " قَلَبْتُهُ، فَفَرَّغْتُ مَا فِيهِ.

ص: 282

اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ» .

387 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ.»

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ]

قَالَ رضي الله عنه " الْمَحْنُوذُ " الْمَشْوِيُّ بِالرَّضِيفِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الضَّبِّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ " أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا "، وَلِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَكْلِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ - أَعْنِي الْفِعْلَ، وَالْقَوْلَ، وَالتَّقْرِيرَ مَعَ الْعِلْمِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعْلَامِ بِمَا يُشَكُّ فِي أَمْرِهِ، لِيَتَّضِحَ الْحَالُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَعْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَيْنَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ ضَبٌّ فَقُصِدَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ، لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ إبَاحَتِهِ، إنْ أَكَلَهُ أَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَيْسَ مُطْلَقُ النُّفْرَةِ وَعَدَمُ الِاسْتِطَابَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ، بَلْ أَمْرٌ مَخْصُوصٌ مِنْ ذَلِكَ، إنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، أَعْنِي الِاسْتِخْبَاثَ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ.

[حَدِيثُ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهَا ذُكِّيَتْ بِذَكَاةِ مِثْلِهَا، كَمَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ، مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يَقْتَضِي مَوْتَهَا، كَقَطْعِ

ص: 283

388 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: «عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. فَدَعَا بِمَائِدَةٍ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ، أَحْمَرُ، شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي فَقَالَ: هَلُمَّ فَتَلَكَّأَ فَقَالَ: هَلُمَّ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ.»

389 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

رُءُوسِهَا مَثَلًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَإِنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ وَلَا بَيَانَ لِكَيْفِيَّةِ أَكْلِهِمْ.

[حَدِيثُ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَدَعَا بِمَائِدَةٍ وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ]

" زَهْدَمُ " بِفَتْحِ الزَّايِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا وَ " مُضَرِّبٌ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَ " الْجَرْمِيُّ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الدَّجَاجِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ بُيِّنَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَلَّلَ تَأَخُّرَهُ بِأَنَّهُ رَآهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَيَكُونُ أَكْلُ الدَّجَاجِ الَّذِي يَأْكُلُ الْقَذَرَ مَكْرُوهًا، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَكْلِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ، وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا تَغَيَّرَ لَحْمُهَا بِأَكْلِ النَّجَاسَةِ لَمْ تُؤْكَلْ. " وَهَلُمَّ " كَلِمَةُ اسْتِدْعَاءٍ، وَالْأَكْثَرُ فِيهَا: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. " وَتَلَكَّأَ " أَيْ تَرَدَّدَ وَتَوَقَّفَ.

[حَدِيثُ إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا]

" يَلْعَقَهَا " الْأَوَّلُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. و " يُلْعِقَهَا "

ص: 284

‌بَابُ الصَّيْدِ

390 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَفِي أَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ. فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ - يَعْنِي مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ -: فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا. وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الثَّانِي: بِضَمِّهَا، مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقَدْ جَاءَتْ عِلَّةُ هَذَا مُبَيَّنَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّ مَسْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ زِيَادَةُ تَلْوِيثٍ لِمَا مَسَحَ بِهِ، مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالرِّيقِ وَلَكِنْ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِالتَّعْلِيلِ لَمْ نَعْدِلْ عَنْهُ.

[بَابُ الصَّيْدِ]

" أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ " بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ: مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي خُشَيْنٍ، بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ وَهُوَ وَائِلُ بْنُ نَمِرِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ تَغْلِبَ - بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إلْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَ " خُشَيْنٌ " تَصْغِيرُ أَخْشَنَ مُرَخَّمًا، قِيلَ: اسْمُهُ جُرْثُومُ بْنُ نَاشِبٍ، أَعْنِي: اسْمَ أَبِي ثَعْلَبَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغَسْلِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ وَذَكَرُوا

ص: 285

391 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْخِلَافَ فِيمَنْ يَتَدَيَّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ الْخَمْرِ، أَوْ يُكْثِرُونَ مُلَابَسَتَهَا، فَالنَّصَارَى: لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَتَدَيَّنُ بِمُلَابَسَتِهَا كَالرُّهْبَانِ فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِمْ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ. وَالْحَدِيثُ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى تَرْجِيحِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الْغَالِبِ رَاجِحٌ عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْأَصْلِ.

[مَسْأَلَة الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ وَالْكَلْبِ مَعًا]

1

الثَّانِيَةُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ وَالْكَلْبِ مَعًا. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّعْلِيمِ الْمُشْتَرَطِ، وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَجَعَلُوا الْمُعَلَّمَ: مَا يَنْزَجِرُ بِالِانْزِجَارِ، وَيَنْبَعِثُ بِالْإِشْلَاءِ. وَلَهُمْ نَظَرٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ حُكْمًا، وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ حَدًّا: يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ.

[مَسْأَلَة التَّسْمِيَةَ عَلَى الْإِرْسَالِ فِي الصَّيْد]

1

الثَّالِثَةُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَشْتَرِطُ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ وَقَّفَ الْإِذْنَ فِي الْأَكْلِ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْوَصْفِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ. وَفِيهِ هَهُنَا زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مَفْهُومًا مُجَرَّدًا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ: تَحْرِيمُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَمَا أَخْرَجَ الْإِذْنَ مِنْهَا إلَّا مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ مُسَمًّى عَلَيْهِ، فَغَيْرُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ: يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لِلْمَيْتَةِ.

[مَسْأَلَة الْمَصِيدِ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ]

الرَّابِعَةُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصِيدَ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فِي إدْرَاكِ الذَّكَاةِ، فَإِذَا قَتَلَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِظُفْرِهِ أَوْ نَابِهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، فَفِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ: جَوَازُ أَكْلِهِ، وَفِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ أَعْنِي أَخْذَ الْحُكْمِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ.

[مَسْأَلَة غَيْرِ الْمُعَلَّمِ إذَا صَادَ]

1

الْخَامِسَةُ: شَرَطَ عليه السلام فِي غَيْرِ الْمُعَلَّمِ إذَا صَادَ: أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاةُ الصَّيْدِ وَهَذَا الْإِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الذَّبْحُ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَذْبَحْ فَهُوَ مَيْتَةٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَمَّا يَذْبَحُ بِهِ: لَمْ يُعْذَرْ فِي ذَلِكَ.

الثَّانِي: الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ حُشْوَتَهُ، أَوْ أَصَابَ نَابُهُ مَقْتَلًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالذَّكَاةِ حِينَئِذٍ، هَذَا عَلَى مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ.

ص: 286

قَالَ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا. قُلْتُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ، فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ، فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ» . وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ نَحْوُهُ، وَفِيهِ:«إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ.» وَفِيهِ «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ.» وَفِيهِ أَيْضًا «إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.» وَفِيهِ «وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ.» وَفِي رِوَايَةٍ «الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُكَ؟» ..

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَفْهُومُ شَرْطٍ وَالْأَوَّلَ مَفْهُومُ وَصْفٍ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ: أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْوَصْفِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَكْلِ مَصِيدِ الْكَلْبِ إذَا قُتِلَ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ هَذَا الْحُكْمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِثِقَلِهِ، بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي اسْتَضْعَفْنَاهَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

1 -

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَارَكَ الْكَلْبَ كَلْبٌ آخَرُ: لَمْ يُؤْكَلْ وَقَدْ وَرَدَ مُعَلَّلًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» .

1 -

وَ " الْمِعْرَاضُ " بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ: عَصًا رَأْسُهَا مُحَدَّدٌ، فَإِنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّهْمِ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ وَقَدْ عُلِّلَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ وَقِيذٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّهْمِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَجَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُثْقَلَاتِ. وَ " الشَّعْبِيُّ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ اسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ مِنْ شَعْبِ هَمْدَانَ.

وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُؤْكَلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَّةِ فَإِنَّ أَكْلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ لِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْكَلُ لِحَدِيثٍ آخَرَ وَرَدَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَحُمِلَ هَذَا النَّهْيُ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَرُبَّمَا عُلِّلَ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوْلَى وَأَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ كَانَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَأَخَذَ لَهُ بِالرُّخْصَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ عَدَمَ الْأَكْلِ بِخَوْفِ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ لَا تُنَاسِبُ إلَّا التَّحْرِيمَ، أَعْنِي تَخَوُّفَ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عُلِّلَ بِخَوْفِ الْإِمْسَاكِ، لَا بِحَقِيقَةِ الْإِمْسَاكِ. فَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَيْتَةِ فَإِذَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ الْمُبِيحِ: رَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الصَّيْدَ مَاتَ بِالرَّمْيِ، أَوْ لِوُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ يَجُوزُ أَنْ يُحَالَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ - لَمْ يَحِلَّ، كَالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ مَثَلًا. بَلْ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا إذَا غَابَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، وَفِيهِ أَثَرُ سَهْمِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ سَبَبٍ آخَرَ، فَمَنْ حَرَّمَهُ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ تَجْوِيزِ سَبَبٍ آخَرَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ الْمَنْعِ إذَا وَجَدَهُ غَرِيقًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِ الصَّيْدِ. وَكَذَلِكَ إذَا تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. نَعَمْ، يُسَامَحُ فِي خَبْطِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ طَائِرًا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ.

ص: 288

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا - إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ» .

393 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلًا وَغَنَمًا وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ إلَّا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ - أَعْنِي: الصَّيْدَ، وَالْمَاشِيَةَ، وَالزَّرْعَ - وَذَلِكَ لِمَا فِي اقْتِنَائِهَا مِنْ مَفَاسِدِ التَّرْوِيعِ، وَالْعَقْرِ لِلْمَارَّةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِمُجَانَبَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَحِلِّهَا، وَمُجَانَبَةُ الْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ شَدِيدٌ، لِمَا فِي مُخَالَطَتِهِمْ مِنْ الْإِلْهَامِ إلَى الْخَيْرِ، وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِنَاءِ لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهَا غَرَضُ حِرَاسَةِ الدُّرُوبِ أَمْ لَا؟ وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ اتِّخَاذِهَا لِلصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى طَهَارَتِهَا فَإِنَّ مُلَابَسَتَهَا - مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ مَسِّ شَيْءٍ مِنْهَا - شَاقٌّ، وَالْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إذْنٌ فِي مُكَمِّلَاتٍ مَقْصُودَةٍ، كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لَوَازِمِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ " وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ؛ أَرَادَ ذِكْرَ سَبَبِ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْحُكْمِ، حَتَّى عُرِفَ مِنْهُ مَا جَهِلَ غَيْرُهُ، وَالْمُحْتَاجُ إلَى الشَّيْءِ أَكْثَرُ اهْتِمَامًا بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِهِ.

ص: 289

الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، إنَّا لَاقُو الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى. أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ: فَمُدَى الْحَبَشَةِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ]

خَدِيجٌ " وَالِدُ رَافِعٍ: بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ آخِرِ الْحُرُوفِ جِيمٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا تَوَحَّشَ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ: يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَحْشِ، كَمَا أَنَّ مَا تَأَنَّسَ مِنْ الْوَحْشِ: يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَأْنَسِ.

وَهَذَا الْقَسْمُ، وَمُقَابَلَةُ كُلِّ عَشْرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ: قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ بِالْقِيمَةِ وَلَيْسَ مِنْ طَرِيقِ التَّعْدِيلِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا جَاءَ فِي الْبَدَنَةِ " أَنَّهَا عَنْ سَبْعَةٍ " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَ " نَدَّ " بِمَعْنَى شَرَدَ، وَ " الْأَوَابِدُ " جَمْعُ آبِدَةٍ، وَقَدْ تَأَبَّدَتْ: أَيْ نَفَرَتْ وَتَوَحَّشَتْ مِنْ الْإِنْسِ يُقَالُ: أَبَدَتْ - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُخَفَّفَةِ - تَأْبِدُ - بِكَسْرِهَا وَضَمِّهَا - أَيْضًا، أُبُودًا وَجَاءَ فُلَانٌ بِآبِدَةٍ، أَيْ كَلِمَةٍ غَرِيبَةٍ، أَوْ خَصْلَةٍ لِلنُّفُوسِ نَفْرَةٌ عَنْهَا وَالْكَلِمَةُ لَازِمَةٌ، إلَّا أَنْ تُجْعَلَ فَاعِلَةً، بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ مِنْ الْبَهَائِمِ مَا فِيهِ نِفَارٌ كَنِفَارِ الْوَحْشِ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ حَدِيدًا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُحَدَّدًا.

1 -

وَقَوْلُهُ " وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ " دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى

ص: 290

‌بَابُ الْأَضَاحِيّ

394 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مَنْعِ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَّصِلَيْنِ وَقَدْ ذُكِرَتْ الْعِلَّةَ فِيهِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ عليه السلام " أَمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ " عَلَّلَ مَنْعَ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ بِأَنَّهُ عَظْمٌ وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ. .

[بَابُ الْأَضَاحِيّ]

" الْأَمْلَحُ " الْأَغْبَرُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ.

لَا خِلَافَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُقَدِّمُونَ فِيهَا الْغَنَمَ عَلَى الْإِبِلِ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا فَإِنَّ الْإِبِلَ فِيهَا مُقَدَّمَةٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُقَدِّمُ الْإِبِلَ فِيهِمَا. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْمَالِكِيَّةُ بِاخْتِيَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَضَاحِيّ لِلْغَنَمِ، وَبِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي فِدَاءِ الذَّبِيحِ. وَ " الْأَمْلَحُ " الْأَبْيَضُ وَالْمُلْحَةُ الْبَيَاضُ. وَقَدْ اخْتَارَ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّوْنَ لِلْأُضْحِيَّةِ.

وَفِيهِ تَعْدَادُ الْأُضْحِيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْقَرْنُ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ فِيهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوَلِّي الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُضَحِّي بِنَفْسِهِ، إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ.

ص: 291

‌كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

395 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ عُمَرَ قَالَ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ الرِّبَا» .

396 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ رَسُولَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ " الْخَمْرِ " لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا اُعْتُصِرَ مِنْ الْعِنَبِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ، خِلَافًا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ.

وَقَوْلُهُ " وَهِيَ مِنْ كَذَا وَكَذَا " جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ " خَامَرَ الْعَقْلَ " مَجَازُ تَشْبِيهٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْنَى بِالْمَحْسُوسِ. وَ " الْجَدُّ " يُرِيدُ بِهِ مِيرَاثَهُ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ، وَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ. وَ " الْكَلَالَةُ " مَنْ لَا أَبَ لَهُ وَلَا وَلَدَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

ص: 292

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْبِتْعِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» .

397 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «بَلَغَ عُمَرَ: أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَحَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ]

قَالَ رضي الله عنه: الْبِتْعُ: نَبِيذُ الْعَسَلِ. " الْبِتْعُ " بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِهَا أَيْضًا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ. نَعَمْ أَهْلُ الْحِجَازِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرَابِ الْجِنْسُ، لَا الْعَيْنُ، وَالْكُوفِيُّونَ يَحْمِلُونَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " أَسْكَرَ " أَنَّهُ مُسْكِرٌ بِالْقُوَّةِ، أَيْ فِيهِ صَلَاحِيَّةُ ذَلِكَ.

[حَدِيثُ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَحَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا]

حَمَلُوهَا " أَذَابُوهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ مَا حُرِّمَتْ عَيْنُهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الْقِيَاسَ فِي الْأُمُورِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَاسَ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْخَمْرِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا عَلَى بَيْعِ الشُّحُومِ عِنْدَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ قِيَاسٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُ أَمْرِهِ بِأَنْ قَالَ عُمَرُ فِيمَنْ خَالَفَهُ " قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا " وَفُلَانٌ الَّذِي كُنِّيَ عَنْهُ: هُوَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ.

ص: 293

‌كِتَابُ اللِّبَاسِ

398 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» .

399 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

الْحَدِيثُ: يَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ الْحَرِيرِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: عَلَى الْخَالِصِ مِنْهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نَهْيُ تَحْرِيمٍ. وَأَمَّا الْمُمْتَزِجُ بِغَيْرِهِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْغَلَبَةَ فِي الْوَزْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الظُّهُورَ فِي الرُّؤْيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَتَّابِيِّ مِنْ هَذَا. وَمَنْ يَقُولُ بِالتَّحْرِيمِ: لَعَلَّهُ يَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ وَيَقُولُ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَمَّى الْحَرِيرِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ حَلَّ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ.

ص: 294

[حَدِيثُ الْبَرَاءِ مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ]

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ «مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ شَعَرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ» .

401 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ «أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرْنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ. وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ - أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ - بِالذَّهَبِ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى لُبْسِ الْأَحْمَرِ.

وَالْحُلَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: ثَوْبَانِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْفِيرِ الشَّعَرِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْخِلْقِيَّةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي هَيْئَتِهَا وَمَا كَانَ ضَرُورِيًّا مِنْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَصْلِهِ اسْتِحْبَابٌ، بَلْ بِوَصْفِهِ.

ص: 295

وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ]

" عِيَادَةُ الْمَرِيضِ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: مُسْتَحَبَّةٌ بِالْإِطْلَاقِ وَقَدْ تَجِبُ، حَيْثُ يَضْطَرُّ الْمَرِيضُ إلَى مَنْ يَتَعَاهَدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَدْ ضَاعَ، وَأَوْجَبَهَا الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَيْدِ، لِظَاهِرِ الْأَمْرِ.

1 -

وَ " اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: اتِّبَاعُهَا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَإِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ: فَذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالِاتِّبَاعِ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْغَالِبِ: أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَيُدْفَنَ فِي مَحِلِّ مَوْتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاتِّبَاعِ: الرَّوَاحُ إلَى مَحَلِّ الدَّفْنِ لِمُوَارَاتِهِ.

وَالْمُوَارَاةُ أَيْضًا: مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَا تَسْقُطُ إلَّا بِمَنْ تَتَأَدَّى بِهِ.

1 -

وَ " تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ " عِنْدَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ: مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، بِخِلَافِ " رَدِّ السَّلَامِ " فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْكِفَايَاتِ.

وَقَوْلُهُ " إبْرَارُ الْقَسَمِ، أَوْ الْمُقْسِمِ " فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ مَضْمُومَ الْمِيمِ مَكْسُورَ السِّينِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ وَإِبْرَارُهُ: هُوَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ وَعَدَمُ التَّحْنِيثِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ - كَمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ آكَدُ مِمَّا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْلِيفِ كَقَوْلِهِ: بِاَللَّهِ افْعَلْ كَذَا.

؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَالِفِ وَفِيهِ تَغْرِيمٌ لِلْمَالِ وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ.

1 -

وَ " نَصْرُ الْمَظْلُومِ " مِنْ الْفُرُوضِ اللَّازِمَةِ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِظُلْمِهِ، وَقَدَرَ عَلَى نَصْرِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِ.

1 -

وَأَمَّا " إجَابَةُ الدَّاعِي " فَهِيَ عَامَّةٌ وَالِاسْتِحْبَابُ شَامِلٌ لِلْعُمُومِ، مَا لَمْ يَقُمْ مَانِعٌ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ: هَلْ تَجِبُ أَمْ لَا؟ وَحَصَلَ أَيْضًا فِي نَظَرِ بَعْضِهِمْ تَوَسُّعٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُرَخَّصَةِ فِي تَرْكِ إجَابَةِ الدَّاعِي.

وَجُعِلَ بَعْضُهَا مُخَصَّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، بِقَوْلِهِ " لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْفَضْلِ

ص: 296

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

التَّسَرُّعُ إلَى إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ "، أَوْ كَمَا قَالَ، فَجُعِلَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّبَذُّلِ بِالْإِجَابَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْفَضْلِ مُخَصَّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَ " إفْشَاءُ السَّلَامِ " إظْهَارُهُ وَالْإِعْلَانُ بِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْمَوَدَّةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» .

1 -

وَلْيُتَنَبَّهْ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا لَفْظُ الْأَمْرِ، وَإِيجَابُ بَعْضِهَا: كُنَّا قَدْ اسْتَعْمَلْنَا اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا إذَا جَعَلْنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَحَيَّلَ فِي هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، بِأَنْ يُقَالَ: نَخْتَارُ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ مُطْلَقُ الطَّلَبِ فَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ - الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ، أَوْ النَّدْبُ - فَتَكُونُ اللَّفْظَةُ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ.

1 -

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ.

وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الرِّجَالِ وَدَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ.

وَهُوَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَالْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ لَمْ يَقْصُرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الشُّرْبِ وَعَدُّوهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ، لِعُمُومِ الْمَعْنَى فِيهِ.

" وَالْمَيَاثِرُ " جَمْعُ مِيثَرَةٍ - بِكَسْرِ الْمِيم - وَأَصْلُ اللَّفْظَةِ: مِنْ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوِثَارِ فَالْأَصْلُ: مِوْثَرَةٌ: قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَهَذَا اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، مُفَسَّرٌ فِي غَيْرِهَا.

وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مَيَاثِرُ الْأُرْجُوَانِ " وَ " الْقَسِّيُّ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ - ثِيَابُ حَرِيرٍ تُنْسَبُ إلَى الْقَسِّ وَقِيلَ: إنَّهَا بَلْدَةٌ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ.

1 -

وَ " الْإِسْتَبْرَقُ " مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ.

وَذَكَرَ الدِّيبَاجَ بَعْدَهُ: إمَّا مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ، لِيُسْتَفَادَ بِذِكْرِ الْخَاصِّ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ، وَمِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ: زِيَادَةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ، أَوْ يَكُونُ ذِكْرُ " الدِّيبَاجِ " مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ

ص: 297

402 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ» ، وَفِي لَفْظٍ " جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى ".

ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِالْعَامِّ عَنْ الْخَاصِّ وَيُرَادُ بِهِ: مَا رَقَّ مِنْ الدِّيبَاجِ لِيُقَابِلَ بِمَا غَلُظَ وَهُوَ " الْإِسْتَبْرَقُ " وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " الْإِسْتَبْرَقَ " لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ انْتَقَلَتْ إلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ الِانْتِقَالُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّغْيِيرِ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ عِنْدَ التَّعْرِيبِ.

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ لِبَاسِ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَأَنَّ لُبْسَهُ كَانَ أَوَّلًا، وَتَجَنُّبَهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ " اللُّبْسِ " عَلَى التَّخَتُّمِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَإِنَّ النَّاسَ نَبَذُوا خَوَاتِيمَهُمْ، لَمَّا رَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم نَبَذَ خَاتَمَهُ، وَهَذَا عِنْدِي لَا يَقْوَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي تُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا التَّأَسِّي عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ، لَوْلَا التَّأَسِّي لِقِيَامِ الْمَانِعِ مِنْهُ فَهَذَا يُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فِي مَحَلِّهِ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْنَعُ فِعْلُهُ، لَوْلَا التَّأَسِّي، كَمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ: أَنْ يَكُونَ لُبْسَهُ حَرَامًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ الْأُمَّةِ وَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يَطْرَحَهُ مَنْ أُبِيحَ لَهُ لُبْسُهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى التَّأَسِّي فِيمَا الْأَصْلُ مَنْعُهُ لَوْلَا التَّأَسِّي: فَلَمْ يَفْعَلْ جَيِّدًا لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ الْفَرْقِ الْوَاقِعِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخَتُّمِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا فِعْلٌ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْهُ: جَوَازُ اللُّبْسِ، بِخُصُوصِ كَوْنِهِ ذَهَبًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخُ الْوَصْفِ، وَهُوَ التَّخَتُّمُ فِي الْيُمْنَى بِخَاتَمٍ غَيْرِ الذَّهَبِ.

ص: 298

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُصْبُعَيْهِ: السَّبَّابَةَ، وَالْوُسْطَى» .

404 -

، وَلِمُسْلِمٍ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ]

هَذَا الْحَدِيثُ: يَدُلُّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ مَنْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ فِي هَذَا، وَاعْتَبَرَ غَلَبَةَ الْوَزْنِ، أَوْ الظُّهُورَ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الِاعْتِذَارِ عَنْهُ: إمَّا بِتَأْوِيلٍ، أَوْ بِتَقْدِيمِ مُعَارِضٍ.

ص: 299

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ - انْتَظَرَ، حَتَّى إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ: اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْجِهَادِ]

[حَدِيثُ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِتَالِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَدْ، وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ أَصْرَحُ مِنْ هَذَا، أَوْ أَثَرٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ وَأَصْعَبِهَا عَلَى النُّفُوسِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَتْ الْأُمُورُ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ النَّفْسِ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ لَهَا: خَشِيَ أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ كَمَا يَنْبَغِي فَكُرِهَ تَمَنِّي لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ - إنْ وَقَعَ - مِنْ احْتِمَالِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا وَعَدَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ، وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُطْلَقًا لِضُرٍّ نَزَلَ، وَفِي حَدِيثٍ «لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ» ، وَفِي الْجِهَادِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام «، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَجَازِ الْحَسَنِ فَإِنَّ ظِلَّ الشَّيْءِ لَمَّا كَانَ مُلَازِمًا لَهُ، جُعِلَ ثَوَابُ الْجَنَّةِ

ص: 300

406 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ: خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْغَدْوَةُ: خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاسْتِحْقَاقُهَا عَنْ الْجِهَادِ، وَإِعْمَالُ السُّيُوفِ: لَازِمًا لِذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُ الظِّلُّ.

وَهَذَا الدُّعَاءُ: لَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ، تُطْلَبُ بِهَا الْإِجَابَةُ:

أَحَدُهَا: طَلَبُ النَّصْرِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ عليه السلام " مُنْزِلَ الْكِتَابِ " كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا أَنْزَلْته، فَانْصُرْهُ، وَأَعْلِهِ. وَأَشَارَ إلَى الْقُدْرَةِ بِقَوْلِهِ " وَمُجْرِيَ السَّحَابِ "، وَأَشَارَ إلَى أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا: بِقَوْلِهِ "، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ " إلَى التَّفَرُّدِ بِالْفِعْلِ، وَتَجْرِيدِ التَّوَكُّلِ، وَاطِّرَاحِ الْأَسْبَابِ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ، وَحْدَهُ هُوَ الْفَاعِلُ.

وَالثَّانِي: التَّوَسُّلُ بِالنِّعْمَةِ السَّابِقَةِ إلَى النِّعْمَةِ اللَّاحِقَةِ وَقَدْ ضَمَّنَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى أَشْعَارَهُمْ، بَعْدَمَا أَشَارَ إلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عليه السلام فِي قَوْلِهِ {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي قَوْلِهِ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وَقَالَ الشَّاعِرُ:

كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا مَضَى

كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ

وَقَالَ الْآخَرُ:

لَا وَاَلَّذِي قَدْ مَنَّ

بِالْإِسْلَامِ يَثْلُجُ فِي فُؤَادِي

مَا كَانَ يَخْتِمُ بِالْإِسَاءَةِ

وَهْوَ بِالْإِحْسَانِ بَادِي

[حَدِيثُ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا]

" الرِّبَاطُ " مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ فِي الثُّغُورِ الْمُتَاخِمَةِ لِبِلَادِهِ، وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام " خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا " وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ الْمُغَيَّبِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ، تَحْقِيقًا لَهُ، وَتَثْبِيتًا فِي النُّفُوسِ فَإِنَّ مِلْكَ الدُّنْيَا، وَنَعِيمَهَا، وَلَذَّاتِهَا مَحْسُوسَةٌ، مُسْتَعْظَمَةٌ فِي طِبَاعِ النُّفُوسِ فَحُقِّقَ عِنْدَهَا أَنَّ ثَوَابَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ فِي الرِّبَاطِ - وَهُوَ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ - خَيْرٌ مِنْ

ص: 301

407 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «انْتَدَبَ اللَّهُ -، وَلِمُسْلِمٍ: تَضَمُّنَ اللَّهُ - لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ: أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» . 408 -، وَلِمُسْلِمٍ «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ: أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي عَهِدْتُمُوهَا مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوَازَنَ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِالدُّنْيَا كُلِّهَا، فَحَمَلَ الْحَدِيثَ أَوْ مَا هُوَ مَعْنَاهُ: عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي رُتِّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا كُلِّهَا لَوْ أُنْفِقَتْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا أَنْ تَحْصُلَ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ ثَوَابَيْنِ أُخْرَوِيَّيْنِ، لِاسْتِحْقَارِهِ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأُخْرَى "، وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي: أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ. " وَالْغَدْوَةُ " بِفَتْحِ الْغَيْنِ: السَّيْرُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ وَ " الرَّوْحَةُ " مِنْ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ وَاللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا تَكُونُ فِعْلًا وَاحِدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَرْغِيبٍ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ.

‌[حَدِيثُ: " تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ

"]

" الضَّمَانُ، وَالْكَفَالَةُ " هَهُنَا: عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْمَوْعُودِ مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى فَإِنَّ الضَّمَانَ، وَالْكَفَالَةَ: مُؤَكِّدَانِ لِمَا يُضْمَنُ، وَيُتَكَفَّلُ بِهِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِهِمَا.

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَقَوْلُهُ " لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانٌ بِي " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الثَّوَابُ إلَّا لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَخَلَصَتْ مِنْ شَوَائِبِ إرَادَةِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُقْتَضِيَيْنِ لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ " فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ " قِيلَ: إنَّ فَاعِلًا هَهُنَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَمَا قِيلَ فِي " مَاءٍ دَافِقٍ " وَ " عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " أَيْ مَدْفُوقٍ، وَمَرْضِيَّةٍ، عَلَى احْتِمَالِ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ " ضَامِنًا " بِمَعْنَى ذَا ضَمَانٍ، كَلَابِنٍ، وَتَامِرٍ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ لَيْسَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْعَرَبُ تُضِيفُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَقَوْلُهُ " أَرْجِعُهُ " مَفْتُوحُ الْهَمْزَةِ مَكْسُورُ الْجِيمِ مِنْ رَجَعَهُ، ثُلَاثِيًّا مُتَعَدِّيًا، وَلَازِمُهُ، وَمُتَعَدِّيه، وَاحِدٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] قِيلَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، تَغْزُو، فَتَغْنَمَ، وَتَسْلَمَ، إلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو، فَتُخْفِقَ أَوْ تُصَابَ إلَّا تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ»

، وَالْإِخْفَاقُ: أَنْ تَغْزُوَ فَلَا تَغْنَمَ شَيْئًا ذَكَرَ الْقَاضِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَعِنْدِي: أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَتِهِ مِنْهُ إلَى مُعَارَضَتِهِ، وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يُقَالَ بِتَعَارُضِهِمَا. نَعَمْ، كِلَاهُمَا مُشْكِلٌ. أَمَّا ذَلِكَ الْحَدِيثُ: فَلِتَصْرِيحِهِ بِنُقْصَانِ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا هَذَا: فَلِأَنَّ " أَوْ " تَقْتَضِي أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ، لَا مَجْمُوعَهُمَا فَيَقْتَضِي: إمَّا حُصُولُ الْأَجْرِ أَوْ الْغَنِيمَةَ، وَقَدْ قَالُوا: لَا يَصِحُّ أَنْ تُنْقِصَ الْغَنِيمَةُ مِنْ أَجْرِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانُوا أَفْضَلَ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَفْضَلَهُمْ غَنِيمَةً وَيُؤَكِّدُ هَذَا: تَتَابُعُ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَخْذِ الْغَنِيمَةِ، وَعَدَمِ التَّوَقُّفِ عَنْهَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا - بِسَبَبِ هَذَا الْإِشْكَالِ - فِي الْجَوَابُ

فَمِنْهُمْ مِنْ جَنَحَ إلَى الطَّعْنِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا

ص: 303

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الَّذِي تَعَجَّلَ مِنْ أَجْرِهِ بِالْغَنِيمَةِ: فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ - أَعْنِي الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ - شَرَطَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي نُقْصَانِ الْأَجْرِ: يُحْمَلُ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَعَ الْجِهَادِ: طَلَبَ الْمَغْنَمِ فَهَذَا شِرْكٌ بِمَا يَجُوزُ لَهُ التَّشْرِيكُ فِيهِ، وَانْقَسَمَتْ نِيَّتُهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَنَقَصَ أَجْرُهُ، وَالْأَوَّلُ: أَخْلَصُ، فَكَمُلَ أَجْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَأَوْجَهُ مِنْ هَذَا عِنْدِي فِي اسْتِعْمَالِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى وَجْهَيْهِمَا أَيْضًا: أَنْ نَقْصَ أَجْرِ الْغَانِمِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا، وَحِسَابُ ذَلِكَ بِتَمَتُّعِهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَذَهَابِ شَظَفِ عَيْشِهِ فِي غَزْوِهِ، وَبَعْدَهُ، إذَا قُوبِلَ بِمَنْ أَخْفَقَ، وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا، وَبَقِيَ عَلَى شَظَفِ عَيْشِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى غَزْوِهِ فِي حَالِهِ، وُجِدَ أَجْرُ هَذَا أَبَدًا فِي ذَلِكَ وَافِيًا مُطَّرِدًا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «فَمِنَّا مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدُبُهَا» ، وَأَقُولُ: أَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: فَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بُعْدِهِ فَأَمَّا الْإِشْكَالُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: فَظَاهِرُهُ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْأُجُورَ قَدْ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَشَقَّاتِ، لَا سِيَّمَا مَا كَانَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ مَشَقَّتِهِ، أَوْ لِمَشَقَّتِهِ دَخْلٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ بِأَخْذِ الْغَنَائِمِ فَلَعَلَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّمَنَ كَانَ الْإِسْلَامُ فِيهِ غَرِيبًا - أَعْنِي ابْتِدَاءَ زَمَنِ النُّبُوَّةِ -، وَكَانَ أَخْذُ الْغَنَائِمِ عَوْنًا عَلَى عُلُوِّ الدِّينِ، وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ عُظْمَى قَدْ يُغْتَفَرُ لَهَا بَعْضُ النَّقْصِ فِي الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النُّقْصَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقَابُلُ بَيْنَ كَمَالِ أَجْرِ الْغَازِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَغْنَمْ، وَأَجْرِهِ إذَا غَنِمَ.

فَيَقْتَضِي هَذَا: أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ عِنْدَ عَدَمِ الْغَنِيمَةِ: أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ عِنْدَ وُجُودِهَا، لَا مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا، فَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ. لَكِنْ لَا بُدَّ - مِنْ هَذَا - مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَارِضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَعَلَّهُ مَعَ اعْتِبَارِهِ لَا يَكُونُ نَاقِصًا، وَيُسْتَثْنَى حَالُهُمْ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ

ص: 304

409 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى: اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الثَّانِي، أَوْ حَالُ مَنْ يُقَارِبُهُمْ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ: فَإِشْكَالُهُ مِنْ كَلِمَةِ " أَوْ " أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعَرُ بِأَنَّ الْحَاصِلَ: إمَّا أَجْرٌ، وَإِمَّا غَنِيمَةٌ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا حَصَّلْنَا الْغَنِيمَةَ: يُكْتَفَى بِهَا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ: بِأَجْرٍ، وَغَنِيمَةٍ وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ - فَفِيهِ إشْكَالٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الْأَمْرَيْنِ: كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الضَّمَانِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ أَمْرَيْنِ لِهَذَا الْمُجَاهِدِ إذَا رَجَعَ مَعَ رُجُوعِهِ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، بِأَنْ يَتْلَفَ مَا حَصَّلَ فِي الرُّجُوعِ مِنْ الْغَنِيمَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ فِي لَفْظَةِ " الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ " أَوْ يُقَالَ: الْمَعِيَّةُ فِي مُطْلَقِ الْحُصُولِ، لَا فِي الْحُصُولِ فِي الرُّجُوعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى أَهْلِهِ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، وَحْدَهُ، أَوْ غَنِيمَةٍ، وَأَجْرٍ فَحَذَفَ " الْأَجْرَ " مِنْ الثَّانِي، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ إنَّمَا تَشْكُلُ إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُطْلَقِ الْأَجْرِ، وَبَيْنَ الْغَنِيمَةِ مَعَ الْأَجْرِ وَأَمَّا مَعَ الْأَجْرِ الْمُفِيدِ بِانْفِرَادِهِ عَنْ الْغَنِيمَةِ فَلَا.

[حَدِيثُ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى]

" الْكَلْمُ " الْجُرْحُ، وَمَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ سَيَلَانِ الْجُرْحِ فِيهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: الشَّهَادَةُ عَلَى ظَالِمِهِ بِالْقَتْلِ.

الثَّانِي: إظْهَارُ شَرَفِهِ لِأَهْلِ الْمَشْهَدِ وَالْمَوْقِفِ بِمَا فِيهِ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الشَّاهِدَةِ بِالطِّيبِ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءَ مُتَكَلَّفَةً، غَيْرَ صَابِرَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَاعَى فِي الْمَاءِ: تَغَيُّرُ لَوْنِهِ، دُونَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى هَذَا الْخَارِجَ مِنْ جُرْحِ الشَّهِيدِ " دَمًا "، وَإِنْ كَانَ رِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَلَمْ يَكُنْ

ص: 305

410 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ: خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ 411 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ: خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

412 -

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَيْنٍ -، وَذَكَرَ قِصَّةً - فَقَالَ رَسُولُ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِسْكًا فَغَلَّبَ الِاسْمَ لِلَوْنِهِ عَلَى رَائِحَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ. وَمِنْهَا: مَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي الْمَاءِ وَالسَّمْنِ قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ حُجَّتَهُ فِيهِ الرُّخْصَةُ فِي الرَّائِحَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ التَّغْلِيظُ بِعَكْسِ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الدَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِطِيبِ رَائِحَتِهِ مِنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ حُكْمِ الْقَذَارَةِ إلَى التَّطْيِيبِ بِتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمِسْكِ، وَالطِّيبِ لِلشَّهِيدِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْتَقِلُ إلَى الْعَكْسِ بِخُبْثِ الرَّائِحَةِ وَتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ. وَمِنْهَا: مَا قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُضَافِ، الْمُتَغَيِّرَةِ أَوْصَافُهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا انْطَلَقَ عَلَى هَذَا اسْمُ الدَّمِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ إلَى الطِّيبِ، قَالَ: وَحُجَّتُهُ بِذَلِكَ ضَعِيفَةٌ. وَأَقُولُ: الْكُلُّ ضَعِيفٌ.

[حَدِيث غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ]

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَضَى.

ص: 306

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ - قَالَهَا ثَلَاثًا» .

413 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفَرِهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ فَقَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ فَقَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ]

الشَّافِعِيُّ: يَرَى اسْتِحْقَاقَ الْقَاتِلِ لِلسَّلَبِ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِأَوْصَافٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَالِكٌ، وَغَيْرُهُ: يَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِصَرْفِ الْإِمَامِ إلَيْهِ نَظَرًا، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَاعِدَةٍ، وَهُوَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْثَالِ هَذَا: إذَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ التَّشْرِيعِ، وَالْحُكْمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ: هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْرِيعِ أَوْ عَلَى الثَّانِي؟ ، وَالْأَغْلَبُ: حَمْلُهُ عَلَى التَّشْرِيعِ، إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «مِنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي التَّشْرِيعَ الْعَامَّ، وَإِعْطَاءَ الْقَاتِلِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ السَّلَبَ تَنْفِيلًا - فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الثَّانِي: فَظَاهِرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَغْلَبِ - وَهُوَ التَّشْرِيعُ الْعَامُّ - فَقَدْ جَاءَتْ أُمُورٌ فِي أَحَادِيثَ تُرَجِّحُ الْخُرُوجَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام بَعْدَمَا أَمَرَ أَنْ يُعْطَى السَّلَبُ قَاتِلًا، فَقَابَلَ هَذَا الْقَاتِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِكَلَامٍ - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ " لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ " فَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِأَصْلِ التَّشْرِيعِ: لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ لِخَالِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فَلَمَّا كَلَّمَ خَالِدًا بِمَا يُؤْذِيهِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِمَنْعِهِ، نَظَرًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ.

ص: 307

414 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بَعِيرًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَتَى النَّبِيَّ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ]

فِيهِ تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ، وَجَوَازِ قَتْلِهِ، وَمَنْ يُشْبِهُهُ مِمَّنْ لَا أَمَانَ لَهُ، وَأَمَّا كَلَامُهُمَا هَهُنَا عَلَى الْجَاسُوسِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُسْلِمِ: فَلَا تَعَلُّقَ لِلْحَدِيثِ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ السَّلَبِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَاهُ غَيْرَ وَاجِبٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ " فَنَفَّلَنِيهِ "، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ مَا، وَفِيهِ دَلِيلٍ - إذَا قُلْنَا بِأَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ، نَعَمْ، إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسَمَّى سَلَبًا، وَالْفُقَهَاءُ ذَكَرُوا صُوَرًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ، وَتَرَدَّدُوا فِي بَعْضِهَا. فَإِنْ كَانَ اسْمُ " السَّلَبِ " مُنْطَلِقًا عَلَى كُلِّ مَا مَعَهُ، فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ.

[حَدِيثُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا]

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ السَّرَايَا فِي الْجِهَادِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مِنْهَا عَنْ جَيْشِ الْإِمَامِ يَنْفَرِدُ بِمَا يَغْنَمُهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ السُّهْمَانَ كَانَتْ لَهُمْ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمْ شَارَكَهُمْ فِيهَا وَإِنَّمَا قَالُوا بِمُشَارَكَةِ الْجَيْشِ لَهُمْ إذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُ، يَلْحَقُهُمْ عَوْنُهُ، وَغَوْثُهُ إنْ احْتَاجُوا، وَقَوْلُهُ "، وَنَفَّلَنَا " النَّفَلُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الْعَطِيَّةُ غَيْرُ اللَّازِمَةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ " الْأَنْفَالَ " الْغَنَائِمُ، وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا يَجْعَلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ، لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ، وَتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ عِوَضٍ عَنْهَا، وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي مَحَلِّهِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْخُمُسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمُسِ، وَاَلَّذِي يَقْرُبُ مِنْ لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ

ص: 308

415 -

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا جَمَعَ اللَّهُ عز وجل الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ: يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» .

416 -

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الِاثْنَيْ عَشَرَ إلَى سُهْمَانِهِمْ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَرَّرَ لَهُمْ اسْتِحْقَاقُهُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ الْمُوَزَّعَةُ عَلَيْهِمْ فَيَبْقَى النَّفَلُ مِنْ الْخُمُسِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ احْتِمَالًا قَرِيبًا، وَإِنْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّفَلُ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ بِالْوَاضِحِ الْكَثِيرِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ تَبَيَّنَ كَوْنُ هَذَا النَّفَلِ مِنْ الْخُمُسِ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ.

[حَدِيثُ إذَا جَمَعَ اللَّهُ عز وجل الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ]

فِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرَةِ، وَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ كُلُّ اغْتِيَالٍ مَمْنُوعٍ شَرْعًا: إمَّا لِتَقَدُّمِ أَمَانٍ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، أَوْ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الدَّعْوَةِ حَيْثُ تَجِبُ، أَوْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهَذَا الْغَدْرِ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ وَضْعَهُ فِي مَعْنَى الْحَرْبِ، وَقَدْ عُوقِبَ الْغَادِرُ بِالْفَضِيحَةِ الْعُظْمَى، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ بِمَا يُنَاسَبُ ضِدَّهُ فِي الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ الْغَادِرَ أَخْفَى جِهَةَ غَدْرِهِ وَمَكْرِهِ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ شُهْرَتُهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَفِي اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ هَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ النَّاسِ. وَالتَّعْرِيفُ بِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى آبَائِهِمْ، خِلَافُ مَا حُكِيَ: أَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ فِي الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّهَاتِهِمْ.

ص: 309

417 -

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا» .

418 -

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ: مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ مَقْتُولَةً]

هَذَا حُكْمٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ، وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ لِغَلَبَةِ عَدَمِ الْقِتَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَعَلَّ سِرَّ هَذَا الْحُكْمِ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إتْلَافِ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيه دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، وَمَنْ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يَتَأَهَّلُ لِلْقِتَالِ فِي الْعَادَةِ: لَيْسَ فِي إحْدَاثِ الضَّرَرِ كَالْمُقَاتِلِينَ فَرُجِعَ إلَى الْأَصْلِ فِيهِمْ، وَهُوَ الْمَنْعُ. هَذَا مَعَ مَا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ مِنْ الْمَيْلِ، وَعَدَمِ التَّشَبُّثِ الشَّدِيدِ بِمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا، فَرُفِعَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ، لِعَدَمِ مَفْسَدَةِ الْمُقَاتَلَةِ فِي الْحَالِ الْحَاضِرِ، وَرَجَاءَ هِدَايَتِهِمْ عِنْدَ بَقَائِهِمْ.

[حَدِيثُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ شَكَوْا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ]

أَجَازُوا لِلْمُحَارِبِ لُبْسَ الدِّيبَاجِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ السِّلَاحِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُصْلِحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ تَعَيَّنَ لِذَلِكَ فِي دَفْعِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّاوِي " رُخْصَةً " لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ، مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْحَظْرِ.

ص: 310

الْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ]

قَوْلُهُ " كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادُ بِذَلِكَ: أَنَّهَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً لَا حَقَّ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ إخْرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ تَبَرُّعًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْهَا لِغَيْرِهِ: مِنْ تَعْيِينِ الْمَصْرِفِ، وَإِخْرَاجِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِهِ مِنْ بَابِ أَخْذِ النَّصِيبِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَصْرِفِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ، وَرَدَتْ مَعَ الِاشْتِرَاكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ. فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنَهُ إفَاءَةً عَلَى رَسُولِهِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَصْرِفِ.

، وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْأَهْلِ قُوتَ سَنَةٍ، وَفِي لَفْظِهِ: مَا يُوَجِّهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ» فَيُحْمَلُ هَذَا الِادِّخَارُ لِنَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الِادِّخَارِ لِأَهْلِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ شَكٌّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُشَارِكًا لِأَهْلِهِ فِيمَا يَدَّخِرُهُ مِنْ الْقُوتِ، وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ الْمَقْصُودُونَ بِالِادِّخَارِ الَّذِي اقْتَضَاهُ حَالُهُمْ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُونُوا لَمْ يَدَّخِرْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى غَيْرِهَا، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى لِسَانِ الطَّرِيقَةِ قَدْ جَعَلُوا - أَوْ بَعْضُهُمْ - مَا زَادَ عَلَى

ص: 311

419 -

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «أَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ: مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ: خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ: مِيلٌ» .

420 -

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السَّنَةِ خَارِجًا عَنْ طَرِيقَةِ التَّوَكُّلِ.

[حَدِيثُ أَجْرَى النَّبِيُّ مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ]

هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْمُسَابِقَةِ بِالْخَيْلِ، وَبَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يُسَابَقُ إلَيْهَا، وَفِيهِ إطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ، وَالْمُسَوِّغُ لَهُ وَأَمَّا الْمُسَابِقَةُ عَلَى غَيْرِ الْخَيْلِ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي اُشْتُرِطَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ: فَلَيْسَتْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَمْرِ الْعِوَضِ، وَأَحْكَامِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ. وَ " الْإِضْمَارُ " ضِدُّ التَّسْمِينِ، وَهُوَ تَدْرِيجٌ لَهَا فِي أَقْوَاتِهَا إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهَا الضَّمْرُ، وَ " الْحَفْيَاءُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ، ثُمَّ يَاءٍ آخِرِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَأَلْفٍ مَمْدُودَةٍ و " ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ " مَكَانَانِ مَعْلُومَانِ و " زُرَيْقٌ " بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ قَبْلَ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ.

[حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يَوْم أُحُدٍ]

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي إذَا بَلَغَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَحْتَلِمْ: حُكِمَ بِبُلُوغِهِ فَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ

ص: 312

421 -

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشْرَ: وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ فِي النَّفَلِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ إجَازَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عُمَرَ فِي الْقِتَالِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سُنَّةً، وَعَدَمُ إجَازَتِهِ لَهُ فِيمَا دُونَهَا، وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ حَدًّا فَكَانَ يَجْعَلُ مَنْ دُونَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ: فِي الذُّرِّيَّةِ. وَالْمُخَالِفُونَ لِهَذَا الْحَدِيثِ اعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ حُكْمُهَا مَنُوطٌ بِإِطَاقَتِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ إجَازَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ لِأَنَّهُ رَآهُ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ، وَلَمْ يَكُنْ مُطِيقًا لَهُ قَبْلَهَا، لَا لِأَنَّهُ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى الْبُلُوغِ وَعَدَمِهِ.

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَسَمَ فِي النَّفَلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا]

" النَّفَلُ " بِتَحْرِيكِ النُّونِ، وَالْفَاءِ مَعًا: يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: الْغَنِيمَةُ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ، أَوْ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ، خَارِجًا عَنْ السُّهْمَانِ الْمَقْسُومَةِ، إمَّا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مِنْ الْخُمُسِ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي سَرِيَّةِ نَجْدٍ «، وَإِنَّ سُهْمَانَهُمْ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ - أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا -، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا» وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُتَعَرِّضٌ لِلتَّأْوِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنْ يُحْمَلَ النَّفَلُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَكُونُ الْمُعْطَى زِيَادَةً عَلَى السَّهْمَيْنِ خَارِجًا عَنْهَا:

وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ " اللَّامَ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ لَا اللَّامَ الَّتِي لَلْمِلْكِ، أَوْ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ: أَعْطَى الرَّجُلَ سَهْمَيْنِ لِأَجْلِ فَرَسِهِ، أَيْ لِأَجْلِ كَوْنِهِ ذَا فَرَسٍ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا مُطْلَقًا، وَقَدْ أُجِيب عَنْ هَذَا بِبَيَانِ الْمُرَادِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَرِيحَةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ

ص: 313

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» فَقَوْلُهُ " أَسْهَمَ " اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ السَّهْمَيْنِ، وَقَوْلُهُ " ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ " صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا "، وَقِيلَ: إنَّهُ وَهِمَ فِيهِ، أَيْ هَذَا الرَّاوِي، وَهَذَا الْحَدِيثُ - أَعْنِي رِوَايَةَ أَبِي مُعَاوِيَةَ -، وَمَا فِي مَعْنَاهَا: لَهُ عَاضِدٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَمُعَارِضٌ لَهُ لَا يُسَاوِيه فِي الْإِسْنَادِ. أَمَّا الْعَاضِدُ: فَرِوَايَةُ الْمَسْعُودِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا، وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ» هَذِهِ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُد، وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ أَبِي خَلَفِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد: بِمَعْنَاهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ " ثَلَاثَةَ نَفَرٍ " زَادَ "، وَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ " وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا الْمُعَارِضُ فَمِنْهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ - أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذَكَرَهُ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقْدِمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ فِي الْحِفْظِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمُ: فَإِنَّهُ سَمِعَ نَافِعًا يَقُولُ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا " فَقَالَ " لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا " قُلْتُ: وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَانِ: هُمَا ابْنَا عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَقْدِمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ مَا يُعَضِّدُهُ، وَيُوَافِقُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ - قَالَ «شَهِدْتُ الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ قَالَ: أُوحِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ،

ص: 314

422 -

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشْرَ: وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ فِي السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إنَّهُ لَفَتْحٌ فَقُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشْرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى لِلرَّاجِلِ سَهْمًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُجَمِّعٍ، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَسْمِ خَيْبَرَ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ: إنَّهُ شَيْخٌ لَا يَعْرِفُ، قَالَ: فَأَخَذْنَا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمْ نَرَ لَهُ خَبَرًا مِثْلَهُ يُعَارِضُهُ، وَلَا يَجُوزُ خَبَرٌ إلَّا بِخَبَرٍ مِثْلِهِ.

[حَدِيثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ فِي السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً]

هَذَا هُوَ التَّنْفِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى النَّفَلِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ، أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ خَارِجًا عَنْ السَّهْمَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مُبَيِّنًا لِكَوْنِهِ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مِنْ الْخُمُسِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا، وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ " كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ الْخُمُسِ "، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ مَعَهَا، فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا فَنَفَّلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ إنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَسَّمَ بَيْنَنَا غَنِيمَتَنَا،

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ، وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاَلَّذِي أَعْطَانَا، وَلَا عَابَ عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا بِنَفَلِهِ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنْفِيلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَرَوَى زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ:«شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنْ التَّنْفِيلَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ ظَاهِرًا مَعَ احْتِمَالِهِ لِغَيْرِهِ، وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ حَبِيبٍ هَذَا:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا قَفَلَ» ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: يُنَفِّلُ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، أَيْ يُنَفِّلُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا يَأْتُونَ بِهِ رِدْءَ الْغَنِيمَةِ إلَى مَوْضِعٍ فِي الْبَدْأَةِ، أَوْ فِي الرَّجْعَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ " بَابَ فِيمَنْ قَالَ: الْخُمُسُ قَبْلَ النَّفَلِ "، وَأَبْدَى بَعْضُهُمْ فِيهِ احْتِمَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " بَعْدَ الْخُمُسِ " أَيْ بَعْدَ أَنْ يُفْرِدَ الْخُمُسَ، فَعَلَى هَذَا: يَبْقَى مُحْتَمِلًا لَأَنْ يُنَفِّلَ ذَلِكَ مِنْ الْخُمُسِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ الْخُمُسِ احْتِمَالًا، وَحَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ صَرِيحٌ، أَوْ كَالصَّرِيحِ.

وَلِلْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ بِمَسَائِلِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمَا يَضُرُّ مِنْ الْمَقَاصِدِ الدَّاخِلَةِ فِيهَا، وَمَا لَا يَضُرُّ، وَهُوَ مَوْضِعٌ دَقِيقُ الْمَأْخَذِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ: أَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّرْغِيبِ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ، وَالْمُخَاطَرَةِ وَالْمُجَاهِدَةِ، وَفِي ذَلِكَ مُدَاخَلَةٌ لِقَصْدِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُمْ قَطْعًا، لِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَحْضِ التَّعَبُّدِ لَا يَقْدَحُ مِنْ الْإِخْلَاصِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي ضَبْطِ قَانُونِهَا، وَتَمْيِيزِ مَا يَضُرُّ مُدَاخَلَتُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ، وَيَقْتَضِي الشَّرِكَةُ فِيهِ الْمُنَافَاةَ لِلْإِخْلَاصِ، وَمَا لَا تَقْتَضِيه وَيَكُونُ تَبَعًا لَا لَهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ غَيْرُ مَا مَسْأَلَةٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَنَظَرِ الْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ أَصْلًا، وَتَقْدِيرًا عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، عَلَى مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ

ص: 316

423 -

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» .

424 -

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرَّجُلِ: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَاتَلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــ

حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الرُّبُعِ، وَالثُّلُثِ فَإِنَّ " الرَّجْعَةَ " لَمَّا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى الرَّاجِعِينَ، وَأَشَدَّ لِخَوْفِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ نَذِرَ بِهِمْ لِقُرْبِهِمْ، فَهُوَ عَلَى يَقَظَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ: اقْتَضَى زِيَادَةَ التَّنْفِيلِ. وَ " الْبَدْأَةُ " لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى: اقْتَضَى نَقْصَهُ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ مُتَقَيِّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ التَّشَهِّي حَيْثُ يُقَالُ: إنَّ النَّظَرَ لِلْإِمَامِ: إنَّمَا يَعْنِي هَذَا، أَعْنِي أَنْ يَفْعَلَ مَا تَقْتَضِيه الْمَصْلَحَةُ، لَا أَنْ يَفْعَلَ عَلَى حَسَبِ التَّشَهِّي.

[حَدِيثُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا]

حَمْلُ السِّلَاحِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُضَادُّ وَضْعَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْقِتَالِ بِهِ، وَأَنْ يَكُونُ حَمْلُهُ لِيُرَادَ بِهِ الْقِتَالُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةُ قَوْلِهِ عليه السلام " عَلَيْنَا "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَهُوَ الْحَمْلُ لِلضَّرْبِ بِهِ، أَيْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ، وَالْقَصْدِ بِالسَّيْفِ لِلضَّرْبِ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَغْلِيظِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " قَدْ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ: الْخُرُوجَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَمَلَ " عَلَيْنَا " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ قَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " كَذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِهِ كَقَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَقِيلَ فِيهِ: لَيْسَ مِثْلَنَا، أَوْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا، أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ - اضْطَرَرْنَا إلَى التَّأْوِيلِ.

ص: 317

لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[حَدِيثُ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْجِهَادِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْقِتَالَ لِلشَّجَاعَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَالرِّيَاءِ: خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا " الرِّيَاءُ " فَهُوَ ضِدُّ الْإِخْلَاصِ بِذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونَ بِعَيْنِهِ لِأَجْلِ النَّاسِ، وَأَمَّا " الْقِتَالُ لِلشَّجَاعَةِ " فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ دَاخِلًا فِي قَصْدِ الْمُقَاتِلِ، أَيْ قَاتَلَ لِأَجْلِ إظْهَارِ الشَّجَاعَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي مُنَافَاتِهِ لِلْإِخْلَاصِ.

وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِقِتَالِهِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ لَهُ فِي الْقَصْدِ بِالْقِتَالِ كَمَا يُقَالُ: أَعْطَى لِكَرْمِهِ، وَمَنَعَ لِبُخْلِهِ، وَآذَى لِسُوءِ خُلُقِهِ وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالسُّؤَالِ، وَلَا الذَّمِّ فَإِنَّ الشُّجَاعَ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَقْصِدُ بِهِ إظْهَارَ الشَّجَاعَةِ، وَلَا دَخَلَ قَصْدُ إظْهَارِ الشَّجَاعَةِ فِي التَّعْلِيلِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا " قَاتَلَ لِلشَّجَاعَةِ " أَنَّهُ يُقَاتِلُ لِكَوْنِهِ شُجَاعًا فَقَطْ، وَهَذَا غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ: حَالٌ يُقْصَدُ بِهَا إظْهَارُ الشَّجَاعَةِ، وَحَالٌ يُقْصَدُ بِهَا إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَالٌ يُقَاتِلُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إعْلَاءَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا إظْهَارَ الشَّجَاعَةِ عَنْهُ، وَهَذَا يُمْكِنُ فَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي تَدْهَمُهُ الْحَرْبُ، وَكَانَتْ طَبِيعَتُهُ الْمُسَارَعَةَ إلَى الْقِتَالِ: يَبْدَأُ بِالْقِتَالِ لِطَبِيعَتِهِ، وَقَدْ لَا يَسْتَحْضِرُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، أَعْنِي أَنَّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوضِحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ لَا يُنَافِيه وُجُودُ قَصْدٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ: قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ، وَقَاتَلَ لِلرِّيَاءِ؛ لِأَنَّهُ شُجَاعٌ، فَإِنَّ الْجُبْنَ مُنَافٍ لِلْقِتَالِ، مَعَ كُلِّ قَصْدٍ يُفْرَضُ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ يُنَافِيه الْقَصْدُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِيهِ الْقِتَالَ لِلشَّجَاعَةِ بِقَيْدِ التَّجَرُّدِ عَنْ غَيْرِهَا، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ: يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذَا لَمْ

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

يُقَاتِلْ لِذَلِكَ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ فَائِدَتُهُ بَيَانَ أَنَّ الْقِتَالَ لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ مَانِعٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ: تَكُونُ فَائِدَتُهُ: أَنَّ الْقِتَالَ لِأَجْلِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْطٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الِاشْتِرَاطُ، لَكِنْ إذَا قُلْنَا بِذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُضَيِّقَ فِيهِ، بِحَيْثُ تُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهُ لِسَاعَةِ شُرُوعِهِ فِي الْقِتَالِ، بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ أَوْسَعَ مِنْ هَذَا. وَيُكْتَفَى بِالْقَصْدِ الْعَامِّ لِتَوَجُّهِهِ إلَى الْقِتَالِ، وَقَصْدِهِ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْهَدُ لِهَذَا: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي أَنَّهُ «يُكْتَبُ لِلْمُجَاهِدِ اسْتِنَانُ فَرَسِهِ، وَشُرْبُهَا فِي النَّهْرِ» مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِذَلِكَ، لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ إلَى الْجِهَادِ وَاقِعًا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، إلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْقَصْدِ بِأَوَّلِ الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ صَحِيحًا فِي الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْفَزَعِ حَالَةُ دَهَشٍ.

وَقَدْ تَأْتِي عَلَى غَفْلَةٍ فَالْتِزَامُ حُضُورِ الْخَوَاطِرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ. ثُمَّ إنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مُؤْمِنٌ، قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَالْمُجَاهِدُ لِطَلَبِ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ: مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَشْهَدُ لَهُ: فِعْلُ الصَّحَابِيِّ - وَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «قُومُوا إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ» - فَأَلْقَى الثَّمَرَاتِ الَّتِي كُنَّ فِي يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُ قَاتَلَ لِثَوَابِ الْجَنَّةِ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا طَافِحَةٌ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ أَعْمَالٌ صَحِيحَةٌ، غَيْرُ مَعْلُولَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعُدْ فِيهَا لِلْعَامِلِينَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْعَمَلِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُرَغِّبَهُمْ لِلْعَمَلِ لِلثَّوَابِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُولًا مَدْخُولًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ غَيْرَ هَذَا الْمَقَامِ أَعْلَى مِنْهُ، فَهَذَا قَدْ يُتَسَامَحُ فِيهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِي الْعَمَلِ فَلَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْمُقَاتِلَ لِثَوَابِ اللَّهِ، وَلِلْجَنَّةِ: مُقَاتِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ - أَعْنِي الْقِتَالَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى - مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ مَا يُلَازِمُهُ، كَالْقِتَالِ لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَإِمَّا

ص: 319

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ مُنَافِيَةٌ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا وَقَعَ عَنْ الْقِتَالِ لِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ، وَطَلَبِ بَيَانِ أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَصْدِ السُّؤَالِ، بَعْدَ بَيَانِ مُنَافَاةِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: هُوَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقِتَالَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَا عَلَى أَنَّ " سَبِيلَ اللَّهِ " لِلْحَصْرِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ، كَالْقِتَالِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

، وَأَمَّا الْقِتَالُ حَمِيَّةٌ: فَالْحَمِيَّةُ مِنْ فِعْلِ الْقُلُوبِ فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْفَاعِلِ: إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي مُرَادِ الْحَدِيثِ وَدَلَالَةِ السِّيَاقِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَادِحًا فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، إمَّا لِانْصِرَافِهِ إلَى هَذَا الْفَرْضِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ الْقِتَالِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِمُشَارَكَتِهِ الْمُشَارَكَةَ الْقَادِحَةَ فِي الْإِخْلَاصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمِيَّةِ: الْحَمِيَّةُ لِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ ضَعْفُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكَلَامَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِقَرَائِنِهِ وَسِيَاقِهِ وَدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْخَارِجِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْتُ: فَإِذَا حَمَلْتُ قَوْلَهُ " قَاتَلَ لِلشَّجَاعَةِ " أَيْ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ " يُقَاتِلُ رِيَاءً "؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّيَاءِ: إظْهَارُ قَصْدِهِ لِلرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُسَارَعَةِ لِلْقُرُبَاتِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُقَاتِلُ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ: مُقَاتِلٌ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَحْمَدَةِ، وَالثَّنَاءِ مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ بِالشَّجَاعَةِ، وَالْمَقْصِدَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهَا كَانَتْ تُقَاتِلُ لِلَّحْمِيَّةِ وَإِظْهَارِ الشَّجَاعَة، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا قَصْدٌ فِي الْمُرَاءَاةِ بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؟ فَافْتَرَقَ الْقَصْدَانِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْقِتَالُ لِلَّحْمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِلْقِتَالِ شَجَاعَةً وَالْقِتَالِ لِلرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ: يُقَاتِلُ لِطَلَبِ الْمَحْمَدَةِ بِخُلُقِ الشَّجَاعَةِ وَصِفَتِهَا وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِالْمُقَاتِلِ وَسَجِيَّةٌ لَهُ، وَالْقِتَالُ لِلَّحْمِيَّةِ: قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُقَاتِلُ الْجَبَانُ حَمِيَّةً لِقَوْمِهِ، أَوْ لِحَرِيمِهِ " مُكْرَهٌ أَخَاكَ لَا بَطَلٌ "، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 320

‌كِتَابُ الْعِتْقِ

425 -

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ: قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[كِتَابُ الْعِتْقِ]

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: صِيغَةُ " مَنْ " لِلْعُمُومِ فَيَقْتَضِي دُخُولَ أَصْنَافِ الْمُعْتِقِينَ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْهُمْ الْمَرِيضُ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ جَمِيعُ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِي ثُلُثِهِ: كَتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي كُلِّهِ، وَنَقَلَ أَحْمَدُ: أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ فِي حَالِ الْمَرِيضِ، وَذَكَرَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ - أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَنْ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ فِي الْمَرَضِ: أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إلَّا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إنْ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ: لَمْ يُقَوَّمْ فِي الثُّلُثِ عَلَى حَالٍ، وَعَتَقَ مِنْهُ حَظُّهُ وَحْدَهُ، وَالْعُمُومُ كَمَا ذَكَرْنَا يَقْتَضِي التَّقْوِيمَ، وَتَخْصِيصَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الثُّلُثُ: مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى اخْتِصَاصِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ بِالتَّبَرُّعَاتِ فِي الثُّلُثِ.

الثَّانِي: الْعُمُومُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَصَرُّفٌ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكَانِ، وَالْعَبْدُ كُفَّارًا: لَمْ يُلْزَمُوا بِالتَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَالْعَبْدُ كَافِرًا: فَالتَّقْوِيمُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ كَافِرًا فَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كُمِّلَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَإِنْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْوِيمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْإِثْبَاتُ، وَالنَّفْيُ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، فَلَا يَلْزَمُ، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا فَرِوَايَتَانِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا وَجْهَانِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ نَصِيبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُوسِرٌ: هَلْ يَسْرِي إلَى بَاقِيهِ؟ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ:

أَحَدُهَا: إذَا كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا، وَسَبَبُهُ: مَا دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلْكُفَّارِ فِي خُصُوصِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ. وَثَانِيهَا: إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ هُوَ الْكَافِرُ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنْ لَا تَقْوِيمَ، أَوْ لَا تَقْوِيمَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيَرَى أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالتَّقْوِيمِ هُوَ الْكَافِرُ، وَلَا إلْزَامَ لَهُ بِأَحْكَامِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَرَى أَنَّ التَّقْوِيمَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِتْقِ بِالْمُسْلِمِ، وَثَالِثُهَا: إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ، وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا عَلَى قَوْلٍ، وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْلِمِ بِالْعِتْقِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ: إنْ أُخِذَتْ مِنْ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ لَا مُسْتَنَدَ فِيهَا إلَى نَصٍّ مُعَيَّنٍ، فَتَحْتَاجُ إلَى الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا، وَإِثْبَاتِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِدَلِيلٍ وَإِنْ اسْتَنَدَتْ إلَى نَصٍّ مُعَيَّنٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِي دَلَالَتِهِ مَعَ دَلَالَةِ هَذَا الْعُمُومِ، وَوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ التَّعَارُضِ.

1 -

الثَّالِثُ: إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مَرْهُونٌ، فَفِي السِّرَايَةِ إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَظَاهِرُ الْعُمُومِ: يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَرْهُونِ، وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ، لَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: إثْبَاتُ السِّرَايَةِ إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمُعْتَقِ

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، لَا مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ، فَالْمُخَالِفُ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ: يَدَّعِي قِيَامَ الْمَانِعِ مِنْ السِّرَايَةِ، وَهُوَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَيُقَوِّيه بِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لِصُوَرِ قِيَامِ الْمَانِعِ غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ: يُلْغِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ قَوِيَ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْقِيمَةِ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَذَلِكَ أَوْلَى، وَإِذَا أُلْغِي الْمَانِعُ عَمِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَمَلَهُ.

1 -

الرَّابِعُ: كَاتَبَا عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ: فِيهِ مِنْ الْبَحْثِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْعُمُومِ، وَالتَّخْصِيصِ بِحَالَةِ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَالْمَانِعُ هَهُنَا: صِيَانَةُ الْكِتَابَةِ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَهَهُنَا زِيَادَةُ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْعَبْدِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُتَنَاوِلًا لِلْمُكَاتَبِ، وَلَا يَكْتَفِي فِي هَذَا بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَاوُلُ لَفْظِ " الْعَبْدِ لَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُتَنَاوِلًا لَلْمُكَاتَبِ وَلَا يَكْتَفِي فِي هَذَا بِثُبُوتِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ يُؤْخَذُ مِنْ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ، وَقَدْ لَا يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ وَتَكُونُ أَحْكَامُ الرِّقِّ ثَابِتَةً، وَهَذَا الْمَقَامُ إنَّمَا هُوَ فِي إدْرَاجِ هَذَا الشَّخْصِ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ، وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ أَقْرَبُ.

الْخَامِسُ: إذَا أَعَتَقَ نَصِيبَهُ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ مُدَبَّرٌ: فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ، وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ هَهُنَا أَقْوَى مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ وَالْمَانِعُ هَهُنَا: إبْطَالُ حَقِّ الشَّرِيكِ مِنْ قُرْبَةٍ مَهَّدَ سَبِيلَهَا.

1 -

السَّادِسُ: أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ جَارِيَةٍ، ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْهَا فَالْمَانِعُ مِنْ إعْمَالِ الْعُمُومِ هَهُنَا: أَقْوَى مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ تَتَضَمَّنَ نَقْلَ الْمِلْكِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَقْبَلُ نَقْلَ الْمِلْكِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَهَذَا أَصَحُّ وَجْهَيْ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ يَجْرِي عَلَى الْعُمُومِ يُلْغِي هَذَا الْمَانِعَ، بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَسِرَايَتَهُ كَالْإِتْلَافِ، وَإِتْلَافُ أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ، وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ سَبِيلُهُ سَبِيلُ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يَجْعَلُهُ إتْلَافًا.

1 -

السَّابِعُ: الْعُمُومُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عِتْقٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَوْ غَيْرِ مَأْذُونٍ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَقَالُوا: لَا ضَمَانَ فِي

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إعْتَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ: أَعْتِقْ نَصِيبَكَ.

الثَّامِنُ: قَوْلُهُ عليه السلام " أَعْتَقَ " يَقْتَضِي صُدُورَ الْعِتْقِ مِنْهُ، وَاخْتِيَارَهُ لَهُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ حَيْثُ كَانَ مُخْتَارًا، وَيَنْتَفِي حَيْثُ لَا اخْتِيَارَ، إمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ، وَإِمَّا لِأَنَّ السِّرَايَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَتَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، وَإِمَّا لِإِبْدَاءِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ أَنَّ التَّقْوِيمَ سَبِيلُهُ سَبِيلُ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يُجْعَلُ إتْلَافًا، وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةٌ لَا إشْكَالَ فِي وَقْعِ الِاخْتِيَارِ فِيهَا، وَمَرْتَبَةٌ لَا إشْكَالَ فِي عَدَمِ الِاخْتِيَارِ فِيهَا، وَمَرْتَبَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا. أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَإِصْدَارُ الصِّيغَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعِتْقِ بِنَفْسِهَا، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهَا فِي مَدْلُولِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: فَمِثَالُهَا: مَا إذَا وَرِثَ بَعْضَ قَرِيبِهِ، فَعَتَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَلَا سِرَايَةَ، وَلَا تَقْوِيمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ مُصَنَّفِي مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فِي الْعِتْقِ وَسَبَبِهِ مَعًا، وَعَنْ أَحْمَدَ: رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ نَصِيبُ الشَّرِيكِ، إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَمَنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَعْجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفْسُهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَى شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ وَالْعِتْقَ يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ السَّيِّدِ فَهُوَ كَالْإِرْثِ.

وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْوُسْطَى: فَهِيَ مَا إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْعِتْقِ بِاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا أَيْضًا تَخْتَلِفُ رُتَبُهُ: فَمِنْهُ مَا يَقْوَى فِيهِ تَنْزِيلُ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ مُبَاشَرَةِ الْمُسَبِّبِ، كَقَوْلِهِ لِبَعْضِ قَرِيبِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ، وَصِيَّةٍ، وَقَدْ نَزَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشِرِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْهِبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ: تَمْثِيلُهُ بِعَبْدِهِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى الْعِتْقَ بِالْمُثْلَةِ، وَهُوَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمِنْهُ مَا يَضْعُفُ عَنْ هَذَا، وَهُوَ تَعْجِيزُ السَّيِّدِ الْمُكَاتَبَ، بَعْدَ أَنْ اشْتَرَى شِقْصًا مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَانْتَقَلَ إلَيْهِ الْمِلْكُ بِالتَّعْجِيزِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَارَهُ كَانَ كَاخْتِيَارِهِ لِسَبَبِ الْعِتْقِ بِالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَوَجْهُ ضَعْفِ هَذَا عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّمَلُّكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّعْجِيزَ، وَقَدْ حَصَلَ الْمِلْكُ فِيهِ ضِمْنًا، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى.

[الِاخْتِيَارَ فِي الْعِتْقِ]

1

التَّاسِعُ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الِاخْتِيَارَ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ نَزَّلُوا مَنْزِلَتَهُ: الِاخْتِيَارَ فِي

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

سَبَبِ الْعِتْقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ اخْتِيَارُ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَفَرْقٌ بَيْنَ اخْتِيَارِهِ مَا يُوجِبُ الْعِتْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ مَا يُوجِبُهُ ظَاهِرًا، فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: قَدْ أَعْتَقْتُ نَصِيبَك - وَهُمَا مُعْسِرَانِ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ - ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِ النَّصِيبِ الْمُشْتَرَى، مُؤَاخَذَةً لِلْمُشْتَرِي بِإِقْرَارِهِ، وَهَلْ يَسْرِي إلَى نَصِيبِهِ؟ مُقْتَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ: أَنْ لَا يَسْرِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ مَا يُوجِبُ الْعِتْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِ ظَاهِرًا، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: يُعْتَقُ جَمِيعُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

[الْعِتْقُ إلَى أَجَلٍ]

1

الْعَاشِرُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِتْقِ عِتْقُ التَّنْجِيزِ، وَأَجْرَى الْفُقَهَاءُ مَجْرَاهُ: التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ، مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ إلَى أَجَلٍ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ فَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ شَاءَ الْمُتَمَسِّكُ قَوَّمَ السَّاعَةَ، فَكَانَ جَمِيعُهُ حُرًّا إلَى سَنَةٍ مَثَلًا، وَإِنْ شَاءَ تَمَاسَكَ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ السَّنَةِ، إلَّا مِنْ شَرِيكِهِ، وَإِذَا تَمَّتْ السَّنَةُ: قُوِّمَ عَلَى مُبْتَدِئِ الْعِتْقِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ.

الْحَادِيَ عَشْرَ: " الشِّرْكُ " فِي الْأَصْلِ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يَقْبَلُ الْعِتْقَ، وَأُطْلِقَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ، تَقْدِيرُهُ " جُزْءٌ مُشْتَرَكٌ " أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ جُمْلَةُ الْعَيْنِ، أَوْ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ مِنْهَا إذَا أُفْرِدَ بِالتَّعْيِينِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ مَثَلًا، وَأَمَّا النَّصِيبُ الْمُشَاعُ: فَلَا اشْتِرَاكَ فِيهِ

الثَّانِيَ عَشَرَ: يَقْتَضِي الْحَدِيثُ: أَنْ لَا يُفَرَّقَ فِي الْجُزْءِ الْمُعْتَقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ الْوَاقِعِ مِنْ سِيَاقِ الشَّرْطِ.

[أَعْتَقَ عُضْوًا مُعَيَّنًا كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ]

الثَّالِثَ عَشَرَ: إذَا أَعْتَقَ عُضْوًا مُعَيَّنًا - كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ - اقْتَضَى الْحَدِيثُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ. وَخِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّلَاقِ جَارٍ هَهُنَا. وَتَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِهَذِهِ الصُّورَةِ: أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْجُزْءِ الْمُشَاعِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي أُفْرِدَ بِالْعِتْقِ مُشْتَرَكٌ حَقِيقَةً.

1 -

الرَّابِعَ عَشَرَ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ جُزْءًا مِنْ الْمُشْتَرَكِ فَيَتَصَدَّى النَّظَرُ فِيمَا إذَا أُعْتِقَ الْجَنِينُ: هَلْ يَسْرِي إلَى الْأُمِّ؟ .

1 -

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْخَامِسُ عَشَرَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " لَهُ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ مِنْهُ مُصَادِفًا لِنَصِيبِهِ كَقَوْلِهِ: أَعَتَقْتُ نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبَ شَرِيكِي: لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ. فَلَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَهُ " نِصْفُك حُرٌّ " أَوْ أَعْتَقْتُ نِصْفَك، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النِّصْفِ شَائِعًا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ عَتَقَ: إمَّا كُلُّ نَصِيبِهِ، أَوْ بَعْضِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحَدِيثِ.

السَّادِسَ عَشَرَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ، وَالْأَمَةُ مِثْلُهُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا اللَّفْظِ: قِيَاسٌ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ مُنْصِفٌ. غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي دُخُولَ الْأَمَةِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الرِّوَايَةِ فَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " فِي مَمْلُوكٍ "، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ: فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَفِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ، وَابْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ " فِي مَمْلُوكٍ " كَمَا فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ " فِي عَبْدٍ "، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عُمُومٌ. وَجَاءَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهُ، يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ، وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ يُخْبِرُ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ " بِذَكَرِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ " قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى، وَفِي آخِرِهِ " رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ".

[الْيَسَارُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِ الْعِتْقِ]

1

السَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "، وَكَانَ لَهُ مَالٌ " إنْ كَانَ بِالْفَاءِ " فَكَانَ لَهُ مَالٌ " اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْيَسَارُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ بِالْوَاوِ " وَكَانَ " اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

الثَّامِنَ عَشْرَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " لَهُ مَالٌ " يُخْرِجُ عَنْهُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إذَا أَوْصَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتٍ فَأُعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا سِرَايَةَ، وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ، وَيَبْقَى الْمَيِّتُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا يُقَوَّمُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَقْتَ نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَمْلِكُ كُلَّ الْعَبْدِ فَأَوْصَى بِعِتْقِ جُزْءٍ مِنْهُ فَأَعْتَقَ مِنْهُ: لَمْ يَسْرِ، وَكَذَا لَوْ

ص: 326

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَقَالَ: إذَا مِتُّ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ، وَكُلُّ هَذَا جَارٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ قَالَ: إذَا مِتُّ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ: أَنَّهُ لَا يَسْرِي وَقِيلَ: إنَّهُ يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِهِ، وَجَعَلَهُ مُوسِرًا بَعْدَ الْمَوْتِ.

[عَبْدٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ]

1

التَّاسِعَ عَشَرَ: أَطْلَقَ " الثَّمَنَ " فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْمُرَادُ الْقِيمَةُ فَإِنَّ " الثَّمَنَ " مَا اُشْتُرِيَتْ بِهِ الْعَيْنُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ وَقَدْ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ " مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ "، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَيُّمَا عَبْدٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ - أَوْ قَالَ - قِيمَةٍ، وَلَا، وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى يُقَامُ، وَمَالُهُ قِيمَةُ الْعَدْلِ» وَفِي هَذَا مَا يُبَيِّنُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةُ.

الْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ " يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ فِي مَالٍ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ فَإِذَا كَانَ الْمَالُ لَا يَبْلُغُ كَمَالَ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ قِيمَةَ بَعْضِ النَّصِيبِ، فَفِي السِّرَايَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى السِّرَايَةَ بِمَفْهُومِ هَذَا اللَّفْظِ، وَيُؤَيِّدُهُ بِأَنَّ فِي السِّرَايَةِ تَبْعِيضًا لِمِلْكِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: السِّرَايَةُ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مُوسِرٌ بِهِ، تَحْصِيلًا لِلْحُرِّيَّةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَالْمَفْهُومُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَعِيفٌ.

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إذَا مَلَكَ مَا يَبْلُغُ كَمَالَ الْقِيمَةِ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُسَاوِي ذَلِكَ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي السِّرَايَةِ، وَالتَّقْوِيمِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي مَنْعِ الدَّيْنِ الزَّكَاةَ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا: اشْتِرَاكُهُمَا فِي كَوْنِهِمَا حَقًّا لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ فِيهِمَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ لَا يَرَى الدَّيْنَ مَانِعًا هَهُنَا، أَخْذًا بِالظَّاهِرِ، وَمَنْ يَرَى الدَّيْنَ مَانِعًا: يُخَصِّصُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالْمَانِعِ الَّذِي يُقَيِّمُهُ فِيهَا خَصْمُهُ. وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِمْ: فِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَالِهِ: فَهُوَ مُعْسِرٌ.

وَالثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: يَقْتَضِي الْخَبَرُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ لِلْمُعْتَقِ مَا يَفِي بِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ: فَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهُ هَذَا الظَّاهِرُ، وَالشَّافِعِيَّةُ أَخْرَجُوا قُوتَ يَوْمِهِ، وَقُوتَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَدَسْتَ ثَوْبٍ، وَسُكْنَى يَوْمٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: بِاعْتِبَارِ قُوتِ الْأَيَّامِ، وَكِسْوَةِ ظَهْرِهِ، كَمَا فِي الدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَيُبَاعُ مَنْزِلُهُ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ وَشِوَارُ بَيْتِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ مِنْهُمْ: إنَّمَا يُتْرَكُ لَهُ مَا يُوَارِيه لِصَلَاتِهِ.

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[وَقْتِ حُصُولِ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ السِّرَايَةِ إلَى الْبَاقِي]

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ حُصُولِ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ السِّرَايَةِ إلَى الْبَاقِي وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ - أَنَّهُ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.

الثَّانِي: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ إلَّا إذَا أَدَّى نَصِيبَ الشَّرِيكِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَتَوَقَّفَ: فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ بَانَ حُصُولُ الْعِتْقِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ، وَإِلَّا بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ. وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الرُّوَاةِ فَفِي بَعْضِهَا قُوَّةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَفِي بَعْضِهَا ظُهُورٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي بَعْضِهَا احْتِمَالٌ مُتَقَارِبٌ، وَأَلْفَاظُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي تَرْتِيبَ التَّقْوِيمِ عَلَى عِتْقِ النَّصِيبِ، وَتَعَقُّبِ الْإِعْطَاءِ وَعِتْقِ الْبَاقِي لِلتَّقْوِيمِ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ، وَعِتْقِ الْبَاقِي لِلتَّقْوِيمِ. فَالتَّقْوِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَرْتِيبٍ فِي الْوُجُودِ، أَوْ إلَى تَرَتُّبٍ فِي الرُّتْبَةِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عِتْقَ النَّصِيبِ الْبَاقِي - عَلَى قَوْلِ السِّرَايَةِ - بِنَفْسِ إعْتَاقِ الْأَوَّلِ إمَّا مَعَ إعْتَاقِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَقِيبُهُ فَالتَّقْوِيمُ: إنْ أُرِيدَ بِهِ: الْأَمْرُ الَّذِي يُقَوِّمُ بِهِ الْحَاكِمُ وَالْمُقَوِّمَ: فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْوُجُودِ عَنْ عِتْقِ النَّصِيبِ وَالسِّرَايَةِ مَعًا فَلَا يَكُونُ عِتْقُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُرَتَّبًا عَلَى التَّقْوِيمِ فِي الْوُجُودِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ: يَقْتَضِيه، وَإِنْ أُرِيد بِالتَّقْوِيمِ: وُجُوبُ التَّقْوِيمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَجَازِ فَالتَّقْوِيمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ: مَعَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَعِتْقِ الْبَاقِي، فَلَا يَكُونُ عِتْقُ الْبَاقِي مُتَأَخِّرًا عَنْ التَّقْوِيمِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّانِي تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ الْبَاقِي رَاجِعًا إلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ، أَيْ يَقَعُ أَوَّلًا التَّقْوِيمُ، ثُمَّ الْإِعْطَاءُ وَعِتْقُ الْبَاقِي، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى هَذَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ "، وَعَتَقَ " مَعْطُوفًا عَلَى " قُوِّمَ " لَا عَلَى " أَعْطَى " فَلَا يَلْزَمُ تَأَخُّرُ عِتْقِ الْبَاقِي عَلَى الْإِعْطَاءِ، وَلَا كَوْنُهُ مَعَهُ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ فِي أَرْجَحِ الِاحْتِمَالَيْنِ، أَعْنِي عَطْفَهُ عَلَى " أَعْطَى " أَوْ عَطْفَهُ عَلَى " قُوِّمَ ".

ص: 328

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَأَقْوَى مِنْهُ: رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ إذْ فِيهَا «فَكَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ، أَوْ قَالَ: قِيمَةٍ لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ ثُمَّ يُقَوَّمُ لِصَاحِبِهِ حِصَّتُهُ ثُمَّ يُعْتَقُ» فَجَاءَ بِلَفْظَةِ " ثُمَّ " الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوِيمِ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ لِلشَّافِعِيِّ: فَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ» ، وَأَمَّا مَا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَمَا جَاءَ فِيهَا «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ، إنْ كَانَ لِلَّذِي عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَيَدْفَعُ إلَى شُرَكَائِهِ أَنْصِبَاءَهُمْ، وَيُخْلَى سَبِيلُهُ» فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ: مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ " فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ " فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي: تَعْقِيبَ عِتْقِ كُلِّهِ لِإِعْتَاقِ النَّصِيبِ، وَفِي آخِرِهِ: مَا يَشْهَدُ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ " يُقَوَّمُ قِيمَةَ عَدْلٍ فَيَدْفَعُ " فَأَتْبَعَ إعْتَاقَ النَّصِيبِ لِلتَّقْوِيمِ، وَدَفْعُ الْقِيمَةِ لِلشُّرَكَاءِ عَقِيبَ التَّقْوِيمِ، وَذَكَرَ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوَاوِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى هَذِهِ الطُّرُقِ، وَمَخَارِجِهَا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي مَخْرَجٍ وَاحِدٍ: أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ فَالْأَكْثَرِ، أَوْ بِالْأَحْفَظِ فَالْأَحْفَظِ ثُمَّ نَظَرْنَا إلَى أَقْرَبِهَا دَلَالَةً عَلَى الْمَقْصُودِ فَعُمِلَ بِهَا. وَأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ: لَفْظَةُ " ثُمَّ "، وَأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: رِوَايَةُ حَمَّادٍ، وَقَوْلُهُ «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ» لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ مَآلَهُ إلَى الْعِتْقِ، أَوْ أَنَّ الْعِتْقَ قَدْ وَجَبَ لَهُ وَتَحَقَّقَ، وَأَمَّا قَضِيَّةُ وُجُوبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعْجِيلِ السِّرَايَةِ، أَوْ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْأَدَاءِ: فَمُحْتَمَلٌ فَإِذَا آلَ الْحَالُ إلَى هَذَا، فَالْوَاجِبُ النَّظَرُ فِي أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَأَظْهَرِهِمَا دَلَالَةً، ثُمَّ عَلَى تَرَاخِي الْعِتْقِ عَنْ التَّقْوِيمِ وَالْإِعْطَاءِ، أَوْ دَلَالَةِ لَفْظَةِ " عَتِيقٍ " عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ هَذَا بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الطُّرُقِ، أَوْ اتِّفَاقِهَا.

[تَأَخَّرَتْ السِّرَايَةُ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَتَوَقَّفَتْ عَلَى التَّقْوِيمِ]

1

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ يَرَى السِّرَايَةَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ.

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ تَحْصُلْ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، لِمَا تَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ جَزَاءً لِلْإِعْتَاقِ، لَكِنْ تَعَيَّنَتْ فَالسِّرَايَةُ حَاصِلَةٌ بِالْإِعْتَاقِ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ إذَا تَأَخَّرَتْ السِّرَايَةُ عَنْ الْإِعْتَاقِ، وَتَوَقَّفَتْ عَلَى التَّقْوِيمِ فَإِذَا أَعْتَقَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَصِيبَهُ: نَفَذَ، وَإِذَا نَفَذَ فَلَا تَقْوِيمَ فَلَوْ تَأَخَّرَتْ السِّرَايَةُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ التَّقْوِيمُ، لَكِنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ لِلْحَدِيثِ.

[التَّجَزِّيَ فِي الْإِعْتَاقِ]

1

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ تَجَزِّي الْعِتْقِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى التَّجَزِّيَ فِي الْإِعْتَاقِ، وَصَاحِبَاهُ لَا يَرَيَانِهِ، وَانْبَنَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلسَّاكِتِ أَنْ يُعْتِقَ إبْقَاءً لِلْمِلْكِ، وَيَضْمَنُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِهِ بِالْإِفْسَادِ، وَاسْتَسْعَى الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَهَذَا فِي حَالِ يَسَارِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ إعْسَارِهِ: سَقَطَ التَّضْمِينُ، وَبَقِيَ الْأَمْرَانِ الْآخَرَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ الْإِعْتَاقُ: عَتَقَ كُلُّهُ، وَلَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهُ، وَلَهُمَا أَنْ يَسْتَدِلَّا بِالْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَيُّنِ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَمَعَ تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ لَا تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ.

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُعْتِقِ لِلنَّصِيبِ: إمَّا صَرِيحًا، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَيَدْفَعُ لِشُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ "، وَإِمَّا دَلَالَةً سِيَاقِيَّةً لَا يُشَكُّ فِيهَا، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا يَرُدُّ مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّ بَاقِيَ الْعَبْدِ يُعْتَقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، مُقْتَضَاهُ: التَّقْوِيمُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُ مَنْ أَعْتَقَ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يُعْتِقْ عَلَى نَصِيبِهِ، يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ غُلَامٌ، شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، وَأَبْلَى فِيهَا فَأَرَادُوا عِتْقَهُ وَكُنْتُ صَغِيرًا فَذَكَرَ ذَلِكَ الْأَسْوَدُ لِعُمَرَ فَقَالَ: أَعْتِقُوا أَنْتُمْ وَيَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى نَصِيبِهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مِثْلِ مَا رَغِبْتُمْ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ " كَانَ لِي، وَلِإِخْوَتِي غُلَامٌ أَبْلَى يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَرَدْتُ عِتْقَهُ لِمَا صَنَعَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: لَا تُفْسِدْ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا. فَإِنْ رَغِبُوا فِيمَا رَغِبْتُ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ رَأَى التَّضْمِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إفْسَادًا لِنَصِيبِهِمْ، وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي إثْبَاتِ قَوْلٍ بِعَدَمِ التَّضْمِينِ عِنْدَ الْيَسَارِ بِهَذَا

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نَظَرٌ مَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى التَّقْوِيمِ عِنْدَ الْيَسَارِ الْمَذْكُورِ فِيهِ.

[إعْمَالِ الظُّنُونِ فِي بَابِ الْقِيَمِ]

1

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: " قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ " يَدُلُّ عَلَى إعْمَالِ الظُّنُونِ فِي بَابِ الْقِيَمِ هُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ النَّصِّ عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ الْقِيَمِ فِي طُولِ مُدَّةِ الزَّمَانِ.

1 -

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْقِيمَةِ، لَا بِالْمِثْلِ صُورَةً.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: اشْتِرَاطُ قِيمَةِ الْعَدْلِ: يَقْتَضِي اعْتِبَارَ مَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْقِيمَةُ عُرْفًا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا النَّاسُ.

1 -

الثَّلَاثُونَ: فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ بَعْدَ إعْطَاءِ شُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ، قَالَ يُونُسُ - هُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنْ رَبِيعَةَ: سَأَلْته عَنْ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ: عِتْقُهُ مَرْدُودٌ. فَقَدْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ عِتْقَ الْمُشَاعِ.

[الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: ظَاهِرُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِإِعْطَاءِ شُرَكَائِهِ حِصَصَهُمْ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى الْعِتْقِ التَّقْوِيمَ بِالْفَاءِ ثُمَّ عَلَى التَّقْوِيمِ بِالْفَاءِ: الْإِعْطَاءَ وَالْعِتْقَ. وَعَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُ يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ: لَا يَتَوَقَّفُ الْعِتْقُ عَلَى التَّقْوِيمِ وَالْإِعْطَاءِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ.

وَالثَّانِي: يُعْتِقُ بِإِعْطَاءِ الْقِيمَةِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ ثَبَتَتْ السِّرَايَةُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ لَا يُنَافِيه لَفْظُ الْحَدِيثِ] .

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْلُهُ " وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " فُهِمَ مِنْهُ عِتْقُ مَا عَتَقَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ يَقْتَضِي عِتْقَ الْجَمِيعِ، أَعْنِي عِتْقَ الْمُوسِرِ فَيَكُونُ عِتْقُ الْمُعْسِرِ لَا يَقْتَضِيه، نَعَمْ يَبْقَى هَهُنَا: أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْبَاقِي مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الرِّقِّ، أَوْ يَسْتَسْعِي

ص: 331

426 -

الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الْعَبْدَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ: مَنَعَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ عَلَى بَقَاءِ الرِّقِّ فِي الْبَاقِي، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِتْقِ هَذَا النَّصِيبِ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الْبَاقِي مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[حَدِيثُ مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكٍ]

" فِيهِ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَصْحِيحِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَحَسْبُكَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ ذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ: تَعَلَّلُوا فِي تَضْعِيفِهِ بِتَعْلِيلَاتٍ لَا تَصْبِرُ عَلَى النَّقْدِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْوَفَاءُ بِمِثْلِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا بِأَحَادِيثَ يَرِدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِثْلُ تِلْكَ التَّعْلِيلَاتِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ هَهُنَا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى تَصْحِيحِ الشَّيْخَيْنِ، وَنَتْرُكُ الْبَسْطَ فِيهِ إلَى مَوْضِعِ الْبَسْطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " مِنْ مَمْلُوكٍ " يَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مَعًا، وَهُوَ أَدُلُّ مِنْ لَفْظِ " مِنْ عَبْدٍ " عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ: ادَّعَى أَنَّ لَفْظَ " الْعَبْدِ " يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ نُقِلَ " عَبْدٌ وَعَبَدَةٌ "، وَهَذَا إلَى خِلَافِ مُرَادِهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى مُرَادِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَعَسَّفُ مُتَعَسِّفٌ وَلَا يَرَى أَنَّ لَفْظَ " الْمَمْلُوكِ " يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ " قَدْ يُشْعَرُ بِأَنَّهُ لَا يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الْعِتْقِ سِرَايَةً: لِتَخْلُصَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ. وَاللَّفْظُ يُشْعِرُ بِاسْتِقْبَالِ خَلَاصِهِ، إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ، كَمَا يُقَالُ: فَعَلَيْهِ عِوَضُ خَلَاصِهِ، أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ " هَذَا يُرَادُ بِهِ: الْكُلُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ، أَعْنِي الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ قَدْ تَخَلَّصَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ،

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وَاَلَّذِي يُخَلِّصُهُ كُلَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ: هُوَ تَتِمَّةُ عِتْقِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " فِي مَالِهِ " يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا حُكِيَ عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَوَّلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ، إذَا كَانَ الْأَوَّلُ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَنَفَذَ، لَمْ يَحْصُلْ الْوَفَاءُ، يَكُونُ خَلَاصُهُ مِنْ مَالِهِ. لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ لَفْظُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ عَدَمِ صِحَّةِ عِتْقِهِ: أَنَّهُ يَسْرِي بِنَفْسِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى السِّرَايَةِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ: تَرَتُّبُ الْعِتْقِ عَلَى إعْطَاءِ الْقِيمَةِ، فَأَيُّ الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أَظْهَرَ عُمِلَ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ كُلُّهُ مِنْ مَالِهِ " يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ عِنْدَ يَسَارِ الْمُعْتِقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ " ظَاهِرُهُ: النَّفْيُ الْعَامُّ لِلْمَالِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَالٌ يُؤَدِّي إلَى خَلَاصِهِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ عليه السلام " اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ " أَيْ أُلْزِمَ السَّعْيَ فِيمَا يَفُكُّ بِهِ بَقِيَّةَ رَقَبَتِهِ مِنْ الرِّقِّ، وَشَرَطَ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ: الْحَوَالَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِي مِثْلِ هَذَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الَّذِينَ قَالُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ فِي حَالَةِ عُسْرِ الْمُعْتِقِ: هَذَا مُسْتَنَدُهُمْ. وَيُعَارِضُهُ مُخَالِفُوهُمْ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ، وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ مُنْحَصِرٌ فِي تَقْدِيمِ إحْدَى الدَّلَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، أَعْنِي دَلَالَةَ قَوْلِهِ " عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " عَلَى رِقِّ الْبَاقِي، وَدَلَالَةَ " اُسْتُسْعِيَ " عَلَى لُزُومِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالظَّاهِرُ: تَرْجِيحُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأُولَى.

ص: 333

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ " دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ -، وَفِي لَفْظٍ:«بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ» .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ]

[حَدِيث بَلَغَ النَّبِيَّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ]

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ مُطْلَقًا: فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ يُنَاقِضُهُ الْجَوَازُ الْجُزْئِيُّ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى بَيْعِ الْمُدَبَّرِ بِصَرِيحِهِ فَهُوَ يُنَاقِضُ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ كُلِّ مُدَبَّرٍ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ: فَإِذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى جَوَازَ بَيْعِ كُلِّ مُدَبَّرٍ يَقُولُ: أَنَا أَقُولُ بِهِ فِي صُورَةِ كَذَا، وَالْوَاقِعَةُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَقُولُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ فِيهَا فَلَا تَقُومُ عَلِيَّ الْحُجَّةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ بَيْعِهِ مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

صُورَةُ مَا فِي آخِرِ الْأَصْلِ شَاهَدْتُ فِي الْأَصْلِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ: مَا مِثَالُهُ: وَجَدْتُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ: مَا مِثَالُهُ: قَرَأْتُ جَمِيعَ هَذَا السِّفْرِ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ كِتَابِ " الْعُمْدَةِ " لِسَيِّدِنَا الشَّيْخِ الْفَقِيهِ، الْإِمَامِ الْأَوْحَدِ، الْمُحَدِّثِ، الْحَافِظِ الْحَافِلِ، الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ الْمُحَقِّقِ، تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ الْعَالِمِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُطِيعٍ الْقُشَيْرِيِّ وَصَلَ اللَّهُ مُدَّتَهُ، وَأَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَرَكَتَهُ -: عَلَيْهِ، فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ، مُصَحِّحًا لِأَلْفَاظِهِ، وَمُتَفَهِّمًا لِبَعْضِ مَعَانِيهِ، فِي مَجَالِسَ، أَوَّلُهَا: مُسْتَهَلُّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَآخِرُهَا: الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. كَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ، الْفَقِيرُ إلَيْهِ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيُّ وَفَقَّهَ اللَّهُ. صَحِيحٌ ذَلِكَ كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ. نَقَلَهُ - كَمَا شَاهَدَهُ - الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى: أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ الْهَكَّارِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَطَفَ بِهِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَ [مِنْ] خَطِّهِ: نَقَلَهُ شَاهِدُهُ - أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ إلَى مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ: عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفُتُوحِ فَرَجُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّفَدِيُّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. آمِينَ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَأَخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.

ص: 335