الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم
جامعة الملك سعود
كلية التربية - الدراسات العليا
قسم الدراسات الإسلامية
ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز" من الآية (138) من سورة آل عمران إلى آخر السورة (جمعًا ودراسة)
رسالة مقدمة لاستكمال متطلبات الحصول على درجة ماجستير في الآداب، تخصص التفسير والحديث، قسم الدراسات الإسلامية
إعداد
عبد الله بن سليمان بن إبراهيم النملة
المشرف
أ. د. عيسى بن ناصر بن علي الدريبي
أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الملك سعود
العام الجامعي: 1442 - 1443 هـ
ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز" من الآية (138) من سورة آل عمران إلى آخر السورة (جمعًا ودراسة)
The Preferences of Al-Sameen Al-Halabi in his book "The Concise Saying in the Provisions of the Holy Qur'an" from verse 138 of Surat Al-Imran until the end of surah (A Compilation and Study)
إعداد
عبد الله بن سليمان بن إبراهيم النملة
نُوقِشت هذه الرسالة بتاريخ
المشرف
أ. د. عيسى بن ناصر بن علي الدريبي
أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الملك سعود
أعضاء اللجنة
ملخص الرسالة
هذا الرسالة ضمن مشروع بحثي في جمع ودراسة مسائل التفسير وعلوم القرآن التي رجَّح القولَ فيها السمينُ الحلبي من كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، وموطن البحث في هذه الرسالة في سورة آل عمران، من الآية (138) إلى آخر السورة، حيث الآيات التي تحدَّثت عن غزوة أُحد وما يتعلق بها، ويهدف البحث في الرسالة إلى جمع تلك المسائل التي رجَّح فيها السمين الحلبي ودراستها ومناقشة الأدلة فيها، وإبراز منهج السمين الحلبي في ترجيحها، ومقارنة ترجيحه بترجيح غيره من العلماء، ومهَّدت الرسالة بالتعريف بالسمين الحلبي وبكتابه، ثم بحثت في منهجه في هذا الكتاب بذكر ألفاظ الترجيح عنده، والطريقةِ التي يرجِّح بها، والقواعدِ التي يستند عليها في الترجيح، ثم توسعت في دراسة خمسين مسألةٍ ترجيحية، تنوَّعت تلك المسائل تنوُّعًا ظاهرًا حتى احتاجت في دراستها إلى النظر في علومٍ شتَّى ترتبط بعلوم القرآن: في القراءات والتفسير وأسباب النزول والبلاغة والنحو والصرف والسيرة والفقه والعقيدة، وكان غالبها في إعراب الآيات نظرًا لاختصاص السمين الحلبي بذلك، واستفاد السمين الحلبي في أغلب المسائل من تفسير البحر المحيط، ثم زاد عليه بالترتيب والتجويد، وعلَّق عليه بالاستدراك أو التأييد، وشملت الدراسة الإشارة إلى ما تميَّز به السمين الحلبي في مناقشة الأقوال وعرض المسائل، وإبراز ترجيحاته وذكر الوجوه التي تدل عليها، والبحث في الأقوال التي ذكرها في المسألة ومَن قال بها، وما فيها من القوة والضعف، ثم الخلوص بذكر ما ترجَّح للباحث وما يميِّز القول الذي رجَّحه.
المقدمة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله؛ هو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم؛ مَنْ عَمِل به أُجِر، ومَن ابتغى الهدى مِنْ دونه ضل.
وإن من شرف أمتنا أن حفظت كتاب ربها، واعتنت بتعلُّمه وتعليمه، واستشراحه وتفهيمه، في جهودٍ عظيمة تعاقب عليها أهل العلم جيلًا بعد جيل، ولم يزل الآخِر منهم ينهل من معين سابقه، ويستفيد من تقريره وتحقيقه.
وإن من تلك الجهود المباركة في خدمة كتاب الله ما قام به العالم المفسِّر والناقد المحرِّر أبو العباس، أحمد بن يوسف بن محمد، المعروف بالسمين الحلبي (ت 756 هـ)، حيث ألَّف كتابًا عظيمًا في أحكام القرآن، سماه بالقول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، وهو كتاب جديرٌ بالعناية والاستفادة مما قرَّره فيه وحقَّقه، فقد كان معتنيًا بجهود علماء التفسير مِنْ قبله، دارسًا لها، شارحًا لما يُشكِل من كلامهم، ولقد كان له في هذا الكتاب جمعٌ فريد، وتحريرٌ وتحقيق، ومنهجٌ مُحْكَمٌ في عرض الأقوال ومناقشتها، لذا كان المشروع البحثي في جمع اختياراته وترجيحاته ودراستها، وصار حظي من هذا المشروع المبارك، أستكمل به جهد من قبلي، وأقرب الغاية لمن بعدي، وكان موطن بحثي من هذا الكتاب الكبير في سورة آل عمران، من الآية (138) إلى آخر السورة، وأسأل الله الكريم أن ينفع بما فيه من التوجيه والإرشاد، وأن يفيد به ملتمس الحق والصواب.
مشكلة البحث:
تميَّز السمين الحلبي في مناقشته للمسائل العلمية بحُسن عرض الأقوال وترتيبها والجمع بينها، وحُسن بيانها وشرح غامضها، وذِكر أدلتها وإيراد الردود والإشكالات عليها، وقد ظهر ذلك جليًّا في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز" في مسائل متنوعةٍ متفرقة تبرز الحاجة إلى جمعها ودراستها.
ونظرًا لأهمية حل الخلاف في تفسير كلام الله، ومعرفة أرجح الأقوال في ذلك، فقد جاء
البحث في جمع ترجيحاته المتعلقة بتفسير كلام الله، ودراستها والنظر في أدلتها، والمناقشة في ذلك، مع الوقوف على منهجه الذي اتبعه في الترجيح، ومعرفة أهم ما تميَّز به في مناقشة الأقوال في التفسير.
أهمية البحث وأسباب اختيار الموضوع:
1) هذا الكتاب لم يتم تحقيقه إلا من وقت قريب، ولم تسبق دراسته بالكامل واستخلاص ما فيه، وله مكانته العلمية التي تجعله مؤهلًا لذلك، فهو كتابٌ كبيرٌ في بابه، وقد تتابعت الرسائل العلمية في تحقيقه
(1)
، مما يبين أهميته، فالسبق إلى دراسته أمر مهم.
2) ما تميَّز به المؤلف في هذا الكتاب من حُسن عرض الأقوال ومناقشتها، والأدبِ في ردها والاعتذار لأصحابها، وهذا يُكسِب القارئ له والباحث فيه معرفةَ الطريقة الحسنة في التعامل مع الأقوال المختلفة والمتعارضة، من حيث عرضها والتأليف بين المتشابه منها، ومن حيث نقدها ومناقشتها، ومعرفةَ الأدب في التعامل مع المخالف دون تنقص أو هضم.
3) حيادية المؤلف في موازنة الأقوال وترجيحها، حتى إنه ينتصر للقول الذي ضعَّفه شيخه أبو حيان ولا ينحاز لرأي شيخه إن خالف الصواب، بل يَزِن الأقوال بإنصاف ثم يرجح ما هو أظهر، وهذا هو الترجيح الذي يُستفاد منه وتجدر العناية به، فهو من أهم ما تميَّز به الكتاب.
4) أهمية الوقوف على الخلاف المتعلق بتفسير كلام الله، ومعرفة الصحيح في ذلك.
(1)
وسيأتي ذكر الرسائل التي حققته في (الدراسات السابقة).
أهداف البحث:
- جمع ترجيحات السمين الحلبي في كتابه القول الوجيز ودراستها.
- بيان الأدلة التي استدل بها السمين الحلبي في ترجيحه.
- بيان منهج السمين الحلبي في ترجيحه.
- مقارنة ترجيحه بترجيح غيره من العلماء.
حدود البحث:
البحث إنما يتصل بترجيحات السمين الحلبي المتعلقة بالتفسير، وما يرتبط به من علوم القرآن، وذلك من كتاب "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز" من الآية (138) من سورة آل عمران إلى نهاية السورة، من خلال الرسائل المحققة في الجامعة الإسلامية، وقد وقفت -في محل بحثي "من الآية (138) من سورة آل عمران إلى نهاية السورة"- على خمسين ترجيحًا من الترجيحات المتعلقة بالتفسير وما يرتبط به من علوم القرآن.
الدراسات السابقة:
- اختيارات السمين الحلبي في كتابه الدر المصون؛ دراسةً وتقويمًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية اللغة العربية، قسم النحو والصرف وفقه اللغة، أعدَّها: د. محمد عبد الصمد بن محمد خبير الدين، (1419 هـ).
- اختيارات السمين الحلبي النحوية في كتابه الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (من الجزء الأول إلى الجزء الحادي عشر)؛ دراسةٌ وصفيةٌ تحليليةٌ، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في النحو والصرف في جامعة أم درمان الإسلامية، كلية التربية، قسم اللغة العربية، أعدَّتها: إيمان عبد العظيم يوسف سبيل، (1437 هـ).
وهذه الدراسة والتي قبلها هما في الاختيارات النحوية، ويمكن الاستفادة منهما في استنباط بعض المعالم من منهج السمين الحلبي في الترجيح.
- تضعيفات السمين الحلبي في كتابه الدر المصون؛ دراسةٌ نحويةٌ صرفيَّةٌ، رسالةٌ لنيل درجة
الماجستير في جامعة جنوب الوادي، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، أعدَّتها: مها ممدوح خضري إسماعيل، (2016 م).
ويمكن الاستفادة منها في استنباط بعض المعالم من منهجه في التضعيف، ومنه يتبين ضده وهو تقوية الأقوال وترجيحها.
- القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، وقد حُقق في عدة رسائل كما يأتي:
1) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من أول الكتاب إلى الآية (105) من سورة البقرة؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الرحيم بن محمد القاوش، (1431 هـ).
2) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (106) من سورة البقرة إلى الآية (162) من السورة نفسها، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الله بن عيد الصاعدي الحربي، (1430 هـ).
3) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (163) من سورة البقرة إلى الآية (179) من السورة نفسها؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبيد بن منصور الشمراني، (1432 هـ).
4) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (180) من سورة البقرة إلى الآية (187) من السورة نفسها، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عمر بن مبيريك الحسيني، (1431 هـ).
5) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية 188 من سورة البقرة إلى الآية 203 من السورة نفسها؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الرحمن بن سلمان
السعيد، (1433 هـ).
6) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (204) من سورة البقرة إلى الآية (227) من السورة نفسها، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الخالق بن حسن الزميلي، (1433 هـ).
7) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (59) من سورة آل عمران إلى الآية (105) من السورة نفسها؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: يسري بن حمدان المحمدي، (1435 هـ).
8) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (106) من سورة آل عمران إلى الآية (156) من السورة نفسها؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: يعقوب مصطفى سي، (1435 هـ).
9) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (157) من سورة آل عمران إلى نهاية السورة، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: وائل بن محمد بن علي جابر، (1435 هـ).
10) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة النساء إلى الآية (31) من السورة نفسها؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: حامد بن عدنان الأنصاري، (1437 هـ).
11) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (32) من سورة النساء إلى الآية (79) من السورة نفسها، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: بداح بن عبد الله السبيعي، (1437 هـ).
12) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (80) من سورة النساء إلى الآية (41) من سورة المائدة؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن
الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الهادي بن علي القرني، (1436 هـ).
13) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (141) من سورة الأنعام إلى الآية (86) من سورة الأعراف، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد الله بن صالح العمر، (1436 هـ).
14) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (42) من سورة يوسف إلى الآية (38) من سورة الرعد؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: ماجد بن عبد الرحمن الصمعان، (1436 هـ).
15) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (5) من سورة إبراهيم إلى الآية (67) من سورة النحل، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: صالح بن ثنيان الثنيان، (1436 هـ).
16) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة طه إلى الآية (14) من السورة نفسها، دراسةً وتحقيقًا، بحثٌ مُحَكَّمٌ في مجلة تبيان للدراسات القرآنية، عدد 17، أعدَّه: د. أمين بن عائش المزيني، (1435 هـ).
17) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (41) من سورة النور إلى الآية (22) من سورة الشعراء؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: ماجد بن ماشع الحربي، (1436 هـ).
18) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من الآية (23) من سورة الشعراء إلى نهاية سورة النمل؛ دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: سليمان بن عبد الله المشيقح، (1436 هـ).
19) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة القصص إلى نهاية
سورة الروم، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: إبراهيم بن عبد الرحيم بن حافظ حسين، (1438 هـ).
20) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة لقمان إلى نهاية سورة الأحزاب، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: دخيل ربه بن سلطان العجيفي السلمي، (1437 هـ).
21) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة سبأ إلى نهاية سورة يس، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: عبد العزيز بن عبد الرحمن الحجي، (1436 هـ).
22) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز للسمين الحلبي، من بداية سورة الصافات إلى الآية (45) سورة الزمر، دراسةً وتحقيقًا، رسالةٌ لنيل درجة الدكتوراه في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن، أعدَّها: سعد بن عبد العزيز العنزي، (1436 هـ).
• ويمكن الاستفادة من هذه البحوث فيما ذكرت من تقديم للكتاب من تعريف بالمؤلف وبالكتاب، وذكر لمنهج المؤلف في الكتاب، ثم في الكتاب نفسه في الوقوف على محل بحثي منه في جمع الترجيحات، ومعرفة منهجه في الترجيح، ثم يمكن إيجاد ما يشهد لذلك في بقية الكتاب.
- منهج السمين الحلبي في التفسير في كتابه "الدر المصون"، رسالةٌ لنيل درجة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، قسم القرآن الكريم وعلومه، أعدها: أ. د. عيسى بن ناصر الدريبي، (1417 هـ)، وقد طبع الكتاب ضمن سلسلة الرسائل الجامعية التابعة لعمادة البحث العلمي في الجامعة، ط 1 (1428 هـ).
ويمكن الاستفادة من هذه الرسالة فيما أفادته من تعريفٍ بالمؤلف وبيانٍ لما تميَّز به في ترجيحاته ومناقشاته.
• وهذه الدراسات غالبها في الجانب النظري، وأما ما يختص منها في الجانب التطبيقي فإنه لا
يعتني بكتاب "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، وبالخصوص في جمع الترجيحات ودراستها ومناقشة أدلتها، وبهذا يظهر تميُّز هذا البحث عن غيره من البحوث والدراسات في هذا المجال، وانفراده في موضوعه عن مواضيع تلك البحوث والدراسات، فهو يضيف إضافةً علميةً جديدةً في الدراسات المتعلقة بتفسير القرآن الكريم.
- وقد جاء هذا البحث ضمن مشروع بحثي لعدة رسائل في الماجستير في جامعة الملك سعود في كلية التربية، في قسم الدراسات الإسلامية وقسم الدراسات القرآنية، ثم انتقل المشروع إلى جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، ووقفت فيه على رسالة واحدة في الماجستير، وفيما يأتي ترتيب هذه الرسائل والإفادة بما تمت مناقشته منها:
1) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من أول الفاتحة إلى نهاية الآية (227) من سورة البقرة (جمعًا ودراسة)، للطالبة: أمينة بنت شايع الدوسري، وسُجلت في عام (1439 هـ).
2) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من الآية (59) إلى الآية (137) من سورة آل عمران (جمعًا ودراسة)، للطالبة: أروى بنت محمد الجويري، وسُجلت في عام (1439 هـ).
3) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من الآية (138) من سورة آل عمران إلى آخر السورة (جمعًا ودراسة)، للطالب: عبد الله بن سليمان النملة، وسُجلت في عام (1439 هـ)، ونُوقشت في عام (1442 هـ).
4) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من أول سورة النساء إلى الآية (50) من السورة نفسها (جمعًا ودراسة)، للطالب: عبد الأحد سمانوف، وسُجلت في عام (1440 هـ)، ونُوقشت في عام (1441 هـ).
5) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من الآية (52) من سورة النساء إلى الآية (24) من سورة المائدة (جمعًا ودراسة)، للطالبة: فاطمة بنت أحمد سلامي، وسُجلت في عام (1440 هـ).
6) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من الآية (25)
إلى الآية (41) من سورة المائدة ومن الآية (141) من سورة الأنعام إلى الآية (86) من سورة الأعراف ومن الآية (42) من سورة يوسف إلى نهايتها (جمعًا ودراسة)، للطالبة: مريم بنت حمد الدوسري، وسُجلت في عام (1441 هـ).
7) ترجيحات السمين الحلبي في التفسير في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من أول سورة الرعد إلى نهاية سورة الحجر (جمعًا ودراسة)، للطالبة: رشا بنت رجاء الحربي، ونُوقشت في عام (1442 هـ).
وهذه الرسائل السابقة كلها في جامعة الملك سعود، ثم هذه الرسالة في جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل:
8) ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز"، من أول سورة النمل إلى آخر سورة لقمان (جمعًا ودراسة)، للطالبة: مي بنت عبد العزيز القصير.
منهج البحث:
البحث يتبع المنهج الاستقرائي التحليلي.
إجراءات البحث:
- جمعُ ترجيحات السمين الحلبي، ورجعت فيه إلى "ضوابط جمع الاختيارات في الرسائل العلمية بقسم الدراسات القرآنية"، وهذا ملخص أبرز النقاط فيها التي صحَّ وقوعها في بحثي:
1) جمع الترجيحات الصريحة: وذلك عند تصريح المؤلف بالترجيح، سواء مع الاستدلال له والتعليل والمناقشة أو عدم ذلك، وأيضًا عند الجمع بين الأقوال في المسألة، ونفي وقوع التعارض بينها.
2) جمع الترجيحات غير الصريحة: وذلك إذا عُرف من منهج المؤلف بالاستقراء.
3) أن تكون الترجيحات في التفسير وما له علاقة ببيان المعنى، كالذين نزل فيهم الخطاب، وعَودِ الضمير، وكذلك الإعراب والفقه والبلاغة ذات الارتباط بالمعنى
- دراسةُ ترجيحات السمين الحلبي، وذلك على النحو الآتي:
1) ذِكرُ عنوان المسألة.
2) ذِكرُ الآية التي رجَّح فيها السمين الحلبي، وإذا تكررت الآية في أكثر من مسألة أكتفي بذكرها مرةً واحدة.
3) ذِكرُ أصل الخلاف في المسألة وما يمهِّد لفهم المسألة وتصوُّرِها.
4) ذِكرُ نص السمين الحلبي من بداية تعرُّضه للمسألة التي رجَّح فيها مرورًا بالأقوالِ التي عدَّدها ونَقَلَ الخلاف فيها إلى نهاية المسألة والفراغ منها، وإن كان النص يحتاج إلى الاختصار اختصرت، وأرتب النصوص حسب ترتيبها في الكتاب، وأعزو الاقتباسات التي ينقلها عن العلماء في النص، وإن كان في النص ما يحتاج إلى إيضاحٍ أوضحته في الحاشية، وإن كان يحتاج إلى تفصيلٍ طويلٍ فتفصيله في فقرة دراسة المسألة.
5) تبيينُ القول الذي رجَّحه السمين الحلبي، وبيان الأوجه التي تدل على ترجيحه.
6) دراسة المسألة، وذلك على النحو الآتي:
• ذِكرُ مذاهب أهل العلم في المسألة، ومَن وافق السمين الحلبي في قوله ومَن خالفه أو تعقَّبه، وإذا كان في المسألة غموضٌ وتحتاج إلى معرفة تدرُّجها بين المتقدمين ومَن بعدهم أوضحت ذلك وذكرت أول مَنْ ذكر الخلاف فيها، وإذا كان في المسألة أقوالٌ أخرى معتبرةٌ لم يذكرها السمين الحلبي ذكرتها.
• ذِكرُ أدلة كل قولٍ في المسألة في فقرة مستقلة، وأُبيِّن وجهَ الدلالة، وإذا كانت بعض الأقوال تجتمع في دليلٍ واحد جمعتها في فقرة واحدة، وأكتفي هنا بالأدلة الواضحة دون الإشارات والأوجه اليسيرة التي تعضد القول إلا ألَّا يوجد غيرها أو كانت لصيقةً تابعةً في الذِّكر للأدلة الواضحة، وأحرص هنا على تقوية الأدلة بحسب ما يذكره أصحاب القول من غير نقدها وموازنتها بغيرها، وإن لم أقف في القول على دليلٍ اجتهدتُ في البحث عن دليلٍ يقويه أو وجهٍ يعضده.
• الموازنةُ بين الأدلة وذِكرُ أوجه القوة والضعف لكل دليل، وذِكرُ الاعتراضات على كل قول والإجابة عنها إن أمكن، وذِكرُ قواعد الترجيح التي تؤيد كل قول، وذِكرُ الأوجه اليسيرة التي يمكن أن تعضد بعض الأقوال.
• أختمُ بذِكر ما توصلت إليه في المسألة وما ترجَّح لدي من الأقوال، وأُبيِّنُ ما يميز هذا القول الراجح عن غيره، وأذكرُ ما وقفت عليه من الفوائد والتنبيهات في المسألة.
- نِسبةُ الأقوال والأدلة إلى مصادرها الأصلية وأوَّلِ مَنْ قال بها إن أمكن، وإن كان المتأخر أوفى في البيان من المتقدِّم اكتفيت بالعزو إليه، وإن كان بعضهم يكمِّل بضعًا جمعت بينهم.
- الاكتفاءُ في العزو إلى الاسم المختصر للمصدر ولمؤلفه، وقد أكتفي بأحدهما عند الحاجة إلى الاختصار ومعرفةِ الآخر من السياق.
- ضبطُ ما يُشكِل من النصوص بالشكل، وأكتفي بالسياق فيما يتضح لفظه ونطقه منه.
- وضعُ أسماء المصادر كما هي في العزو في فهرس المصادر والمراجع، وبيَّنت هناك الاسمَ الكامل للمصدر.
- عزو الآيات القرآنية في النص بين معقوفتين، وإن كانت الآية هي أصل المسألة فأكتفي بعزوها أولًا، ولا أذكر العزو عند تكرارها في المسألة، وإن كان لفظ الآية من المتشابه المتكرر بعينه في أكثر من سورة عزوت إلى جميعها.
- عزو الأحاديث إلى الصحيحين أو أحدهما، فإن لم يكن الحديث فيهما أو أحدهما فأعزوه إلى بقية الكتب الستة، فإن لم يكن فيهن فأعزوه إلى أشهر كتب الحديث.
- أُترجِم للأعلام غير المشهورين إذا تزَعَّم أحدهم قولًا في المسألة.
التمهيد
وهو يشمل ما يأتي:
أولًا: ترجمةٌ موجزةٌ للسمين الحلبي.
ثانيًا: التعريفُ بكتاب القول الوجيز.
أولًا: ترجمةٌ موجزةٌ للسمين الحلبي
(1)
:
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الشافعي الحلبي
(2)
، وهو معروفٌ شُهْرَةً بالنحوي، ومعروفٌ أيضًا بالسمين.
نشأ في حلب، ونزل في القاهرة، وقرأ على بعض شيوخه في الإسكندرية، وسمع من بعضهم في الحرم النبوي وفي مدينة الخليل
(3)
.
تبحَّر في النحو ومَهَرَ فيه، وكان فقيهًا بارعًا في التفسير والقراءات.
قرأ النحو على أبي حيان ولازمه كثيرًا، وقرأ القراءات على التقي ابن الصائغ وأحمد بن محمد بن إبراهيم العشاب، وسمع الحديث من يونس الدبابيسي.
تولَّى عدة وظائف في القاهرة، منها الإقراء في جامع ابن طولون، والتدريس في جامع الشافعي، والقضاء، ونظارة الأوقاف.
ألَّف في علوم القرآن في التفسير والغريب وأحكام القرآن وإعرابه والقراءات، وألَّف في النحو والأدب، وفيما يأتي تفصيل أبرز مؤلفاته:
1) كتاب التفسير الكبير، في عشرين مجلدًا، ذكر ابن حجر أنه رآه بخط يده
(4)
، وقد سمى المؤلف الكتاب وأحال إليه في مواضع كثيرة في الدر المصون وأشار إليه في مقدمة كتاب القول الوجيز
(5)
، فيُحتمل أن هذا الكتاب في التفسير قد ألَّفه قبل الدر المصون والقول الوجيز، وهناك احتمالٌ أن يكون ألَّفه معهما في وقت واحد، لأنه ذكر فيهما أنه في طور إعداده، فيكون بدأ بالتفسير الكبير، ثم استمر عليه بإصلاحه وتكميله
(6)
.
(1)
ينظر في طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 288)، وغاية النهاية لابن الجزري (1/ 152)، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي (6/ 217)، والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (4/ 224)، والدرر الكامنة لابن حجر (1/ 402)، ونيل الأمل في ذيل الدول لزين الدين الملطي (1/ 284).
(2)
صرح المؤلف باسمه كاملًا في آخر كتابه الدر المصون (11/ 165)، وقد جاء اسمه مع لقبه وكنيته كالمذكور هنا عن تلاميذه في التقديم لكتابه العقد النضيد، تحقيق: أيمن رشدي سويد (2/ 3).
(3)
ينظر في عمدة الحفاظ للسمين الحلبي (4/ 328)(3/ 421)، حيث ذكر أنه سمع بعض الأبيات في مدينة الخليل، ولقي فيها جماعة من أهل العلم، وينظر تحقيق محمود محمد السيد الدغيم لمخطوطة عمدة الحفاظ (ص: 6).
(4)
ينظر في الدرر الكامنة لابن حجر (1/ 402).
(5)
ينظر في الدر المصون (4/ 327، 426، 450)، ومقدمة القول الوجيز بتحقيق عبد الرحيم القاوش (ص: 101).
(6)
ينظر تحقيق الدر المصون، د. أحمد الخراط (1/ 17)، وتحقيق القول الوجيز، د. وائل جابر، (ص: 46).
2) كتاب البحر الزاخر في التفسير، سماه المؤلف وأحال إليه في عمدة الحفاظ
(1)
، وهذا الكتاب ليس له ذكرٌ عند المتقدمين ممن ترجم للسمين الحلبي، ويحتمل أنه عين كتاب التفسير الكبير.
3) كتابٌ الفضل العميم في تفسير القرآن العظيم، سماه المؤلف وأحال إليه في العقد النضيد
(2)
، وأكثر الذين ترجموا للسمين الحلبي من المتقدمين والمعاصرين لم يذكروا هذا الكتاب من ضمن كتبه، ويحتمل أنه عين كتاب التفسير الكبير، كما أشار إليه أحد المحققين
(3)
.
4) كتاب القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، وسيأتي الكلام عنه.
5) كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، وهو في إعراب القرآن وما يتصل به، ألَّفه في حياة شيخه أبي حيان، وناقشه فيه مناقشات كثيرة استحسنها أهل العلم
(4)
.
6) كتاب العقد النضيد في شرح القصيد، وهو شرحٌ على الشاطبية لم يُسبق إلى مثله كما ذكر ابن الجزري
(5)
، وقد ألَّفه بعدما صنَّف الدر المصون
(6)
.
7) كتاب عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، وهو في شرح غريب القرآن، وهو من آخر ما كتب السمين الحلبي، لأنه أحال فيه إلى أكثر كتبه الأخرى
(7)
.
8) كتاب الشرح الكبير للتسهيل، وهو شرح موسَّع على كتاب تسهيل الفوائد لابن مالك، سماه المؤلف وأحال إليه في الدر المصون وفي العقد النضيد
(8)
.
(1)
ينظر في عمدة الحفاظ (2/ 389)، (3/ 46)، (4/ 111).
(2)
ينظر في العقد النضيد في شرح القصيد للسمين الحلبي، تحقيق: عائض بن سعيد القرني (ص: 359).
(3)
ينظر فيما ذكره الدكتور عائض بن سعيد القرني في تحقيق العقد النضيد (ص: 33).
(4)
والكتاب مطبوع بتحقيق الدكتور أحمد محمد الخراط، وجاء في عمدة الحفاظ أنه أحال إلى كتابي (القول الوجيز) و (الدر النظيم)، ولعله (الدر المصون) لأني لما رجعت إلى القول الوجيز وجدته أحال بقية التفصيل إلى (الدر المصون)، وينظر في عمدة الحفاظ (3/ 53)، والقول الوجيز في الجزء الذي حققه عبد الخالق الزميلي (ص: 362).
(5)
ينظر في غاية النهاية لابن الجزري (1/ 152)، وقد حُقق في عدة رسائل في جامعة أم القرى والجامعة الإسلامية.
(6)
ينظر في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (1/ 648).
(7)
ينظر تحقيق محمود محمد السيد الدغيم لمخطوطة عمدة الحفاظ (ص: 5)، والكتاب طُبع بتحقيق د. محمد التونجي، وطُبع أيضًا بتحقيق: محمد باسل عيون السود.
(8)
ينظر في الدر المصون (4/ 18، 21)، والعقد النضيد، تحقيق: أيمن رشدي سويد (2/ 263).
9) كتاب إيضاح السبيل إلى شرح التسهيل، وهو الشرح المختصر على كتاب تسهيل الفوائد لابن مالك
(1)
.
10) كتابٌ في شرح قصيدة النابغة
(2)
.
11) كتابٌ في شرح قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه
(3)
.
والسمين الحلبي تابعٌ في الاعتقاد لمذهب الأشاعرة كما صرَّح بذلك
(4)
، وله أقوالٌ يوافق فيها أهل السنة والجماعة من حيث الأصل، كما في مسألة زيادة الأيمان ونقصانه
(5)
.
وأما في الفقه فإنه شافعي المذهب، وينسب نفسه إلى الشافعية
(6)
.
قال عنه الإسنوي في طبقات الشافعية: "كان خيِّرًا ديِّنًا"
(7)
.
وقال ابن الجزري: "إمامٌ كبير"
(8)
.
توفي رحمه الله في سنة ست وخمسين وسبعمائة من الهجرة.
(1)
ينظر في طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 288) وقد حقق الدكتور حمود المعبدي بعضه في ملحق مجلة الجامعة الإسلامية (عدد 183)، وحققه كذلك الدكتور نواف الحكمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2)
ينظر في عمدة الحفاظ (3/ 117).
(3)
ينظر في عمدة الحفاظ (4/ 237).
(4)
قال: "هذا ما نقله أصحابنا الأشاعرة"، القول الوجيز بتحقيق عبد الرحيم محمد القاوش (ص: 277).
(5)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 258 - 261).
(6)
كما صرح هو في التعريف بنفسه عند ذكر اسمه فيما سبق، ينظر في الدر المصون (11/ 165).
(7)
طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 288).
(8)
غاية النهاية لابن الجزري (1/ 152).
ثانيا: التعريف بكتاب القول الوجيز:
جاء تحقيق هذا الكتاب في إحدى وعشرين رسالة علمية في الجامعة الإسلامية؛ ست منها في الماجستير، والبقية في الدكتوراه، يضاف إليها بحث محَكَّم في تحقيق جزء منه في مجلة تبيان للدراسات القرآنية
(1)
، هذا غير الأجزاء المفقودة والتي لم تُحقَّق بعد، وقد اعتمد البحث هنا في هذه الرسالة على هذا التحقيق.
وبالرجوع إلى ما ذكره السمين الحلبي في مقدمة كتاب القول الوجيز
(2)
؛ يمكن أن نستنبط مما قاله أهم النقاط في التعريف بالكتاب، وهي النقاط الآتية:
1) اسم الكتاب كاملًا: قال رحمه الله: (وسميتُه: القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز).
2) نسبة الكتاب إلى السمين الحلبي: حيث أشار رحمه الله في المقدمة إلى بعض كتبه الأخرى، كالدر المصون وكتابه في التفسير، وسيأتي نصُّه في ذلك في الفقرات الآتية.
3) سبب تأليف الكتاب: حيث ذكر رحمه الله أبرز الكتب في أحكام القرآن، ثم قال:(والذي حملني على هذا التصنيف مع ما رأيته من الكتب المذكورة آنفًا أني لم أرَ أحدًا من أصحاب الشافعي سلك هذا المسلك إلا إلكيا الطبري، إلا أنه كما نبهتك عليه لم يستوفِ مسائله، وأغفل كثيرًا من الأحكام المهمة، تعرَّض لها غيره، ورأيت غيرَه من المالكية والحنفية قد أوسع عبارته، وردَّ عليه بعضَ دلائله).
4) الأصل الذي بُني عليه الكتاب: قال رحمه الله: (ووضعتُ هذا الكتاب ناقلًا فيه مذاهب العلماء الأُوَل
…
وناقلًا مذهب الشافعي في المسألة؛ صحيحةٍ وغير صحيحة، مُحررًا لذلك من الأمهات، وأذكرُ أيضًا الناسخ والمنسوخ
…
وكذلك أذكر العام والخاص والمطلق والمقيَّد، والمُجمَل والمُبين، والظاهر والمؤول
…
وأذكر حدود هذه الأشياء في مقدِّمةٍ تعرِّفه. كل هذا التصنيف ليكفي الناظر فيه، ولا يحوجه إلى غيره، وأذكر أيضًا حدَّ الحُكْم عند أهل السنة وأقسامه، ومادة لفظ (القرآن)، فإن الكتاب مُترجمٌ بذلك. وأما ما يتعلَّق بلُغاته واشتقاقه وتصريفه وإعرابه ومعانيه وبيانه وبديعه مما تعلَّق بعلم نظم القرآن فإني لم أتعرَّض لشيءٍ من ذلك في هذا الكتاب استغناءً بكتابٍ وضعته في هذه
(1)
ينظر ما سبق من تفصيل هذه الرسائل في الدراسات السابقة (ص: 9 - 12) من هذا البحث.
(2)
ينظر في مقدمة المؤلف للكتاب في الجزء الذي حققه عبد الرحيم محمد القاوش (ص: 94 - 101).
العلوم، سميته بالدر المصون في علوم الكتاب المكنون، وأما ما يتعلَّق بتفسيره مِنْ ذِكْر قصصٍ وأخبارٍ فاستغنيت عن ذِكْره هنا بكتابٍ شرعت فيه مستوفيًا لفوائدَ جليلةٍ أرجو من الله الكريم إتمامه، وأذكر في هذا الكتاب في أول كل سورة كونها مكية أو مدنية، وعدد آياتها، وما ورد في فضلها من حديثٍ صحيحٍ أو ما يقاربه).
5) ترتيب تأليف كتاب القول الوجيز بين كتب السمين الحلبي الأخرى: مما ذكره السمين الحلبي أخيرًا يتبيَّن أنه ألَّف هذا الكتاب أثناء شروعه في تأليف كتابه الكبير في التفسير، والظاهر مما ذكره أيضًا أنه ألَّفه بعد الفراغ من كتاب الدر المصون، ويُحتمل أنه ألَّف هذه الكتب جميعًا في وقت واحد، كما تقدَّم عند التعريف بكتابه في التفسير
(1)
.
وقد سار السمين الحلبي في بداية كتابه على الأصل الذي ذكره في المقدِّمة، وبدأ بسورة الفاتحة وجعل الحديث عنها في ستة فصول، ثم سورة البقرة، واقتصر فيها على آيات الأحكام، يجعل أحكام الآية في عدة مسائل، يتكلم عن كل مسألةٍ على حدة، لكن عند سورة آل عمران تغيَّر منهج المؤلف في الأجزاء التي حُققت في الجامعة الإسلامية، وصار المنهج فيها هو منهج التفسير للآيات كلها، حسب ما أفاده أحد المحققين
(2)
، ويمكن تلخيص منهج التفسير هذا في النقاط الآتية
(3)
:
1) يبدأ السمين الحلبي تفسيرَ الآية ببيان وجه مناسبتها لما قبلها.
2) يذكر المعنى الإجمالي للآية أو أهمَّ المسائل في تفسيرها.
3) يذكر أسبابَ النزول للآية والأحداثَ المرتبطة بالآية من السيرة النبوية.
4) يذكر التفسير بالمأثور.
5) يذكر القراءات المتواترة والشاذة في الآية وتوجيهها.
6) يتناول المباحث النحوية بكثيرٍ من الإسهاب كما فعل في الدر المصون، بل إن كثيرًا من تلك المباحث يشبه ما في الدر المصون ويزيد عليه.
7) يشرح الغريب ويذكر أبرز المسائل الصرفية والبلاغية في الآية.
(1)
ينظر تحقيق الدر المصون، د. أحمد الخراط (1/ 17)، وتحقيق القول الوجيز، د. وائل جابر، (ص: 46).
(2)
ينظر في تحقيق يعقوب مصطفى سي للقول الوجيز (آل عمران: 106 - 156)، (ص: 67 - 68).
(3)
ينظر في تحقيق يعقوب مصطفى سي للقول الوجيز (آل عمران: 106 - 156)، (ص: 69 - 74)، وتحقيق وائل بن محمد بن علي جابر للقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ) (ص: 80 - 89).
8) يذكر المسائل في الاعتقاد ويرد على المخالفين لمذهبه الأشعري.
9) يذكر أبرز المسائل الفقهية ومذهب الشافعية فيها.
وهنا يَرِد التساؤل عن سبب التغيُّر في الكتاب عند سورة آل عمران عمَّا سبق في سورة الفاتحة والبقرة، فيُحتمل أن المؤلف غيَّر منهجه في الكتاب وجعله شاملًا للتفسير والأحكام، لكن يُشكِل على هذا الاحتمال ما ذكره في المقدمة
(1)
من وجهين:
• الأول: أنه لم يستحسن المؤلفات التي خلطت علم أحكام القرآن بالعلوم الأخرى من علوم القرآن، فذكر أن علم أحكام القرآن هو آكد علوم القرآن ثم قال:(وقد وضع الناس في ذلك تصانيف، وألَّفوا فيه تآليف، إلا أنها مختلطة بغيره من علومه، كذكر القصص والأخبار، والإعراب والتصريف واللغات، وعلم المعاني والبيان، فيعسُر على الناظر تطلُّبها وإخراجها من مظانها).
• الثاني: أنه ذكر في المقدمة أنه لم يتعرَّض لشيءٍ من المباحث في لغة القرآن استغناءً بالدر المصون، وأنه استغنى بكتابه الذي في التفسير عن ذكر تفسير الآيات وما فيها من القصص والأخبار، ويُحتمَل أنه ذكر هذا بعد الفراغ من الكتاب، كما هو الظاهر من قوله:(فإني لم أتعرَّض لشيءٍ من ذلك في هذا الكتاب)، ويُحتمل أنه وعدٌ منه أثناء تأليفه للكتاب.
وقد أوصى أحد محققي الكتاب بالنظر في أسباب التحوُّل الكبير من المنهج الذي سار عليه السمين الحلبي في أول الكتاب إلى هذا المنهج في التفسير، وهل هذا تحوُّل طبيعي أم أنه لأجل أسبابٍ أخرى
(2)
.
وقد ظهر لي أثناء بحثي في سورة آل عمران أن مادة الكتاب فيها تغيَّرت عن مادة الكتاب في سورة الفاتحة والبقرة، فيُحتمَل أن يكون السمين الحلبي قد قصد تضمين كتاب القول الوجيز مادةً أخرى من كتابٍ آخر له، لأجل أن يتمم بها الكتاب ويكَمِّله، ويُحتمَل أن تكون النسخة الوحيدة التي اعتُمد عليها في التحقيق عند سورة آل عمران قد حصل فيها الخلط بكتابٍ آخر للسمين الحلبي، ككتابه في التفسير.
(1)
ينظر في مقدمة المؤلف للكتاب في الجزء الذي حققه عبد الرحيم محمد القاوش (ص: 94 - 101).
(2)
ينظر في النتائج والتوصيات في تحقيق عبد الله بن صالح العمر لكتاب القول الوجيز (ص: 617 - 618).
والذي يدل على تغيُّر مادة الكتاب ثلاثةُ أمور:
1) أنه يحيل في تفصيل المسائل إلى أول الكتاب، يشير فيه في الغالب إلى موضعٍ يحدده من سورة البقرة، يذكر أنه قد تقدَّم الكلام عن المسألة هناك، ثم ترجع إلى ذلك الموضع فلا تجده يتطرَّق أبدًا إلى المسألة التي أحال إليها، ويبعد أن يجري مثل هذا الذهول على السمين الحلبي، إلا أن الأمر قد تكرر في مواضع كثيرةٍ من الكتاب، وقفت منها على أربعة عشر موضعًا، يذكر فيها المحققون أنهم لم يقفوا على ما أحال إليه
(1)
.
2) أنه في سورة النساء قد أشار إلى بعض أحكام قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ثم قال:"وقد طوَّل الرازي كلامه في هذه الآية واستنبط منها أحكامًا أخرى استغنينا عن ذكرها بكتابنا الموضوع في الأحكام"
(2)
، ولا يُعرف للسمين الحلبي كتابٌ في الأحكام غير كتاب القول الوجيز، فكيف يحيل في كتابه القول الوجيز إلى كتابٍ له في الأحكام؟
3) أنه عند قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] أشار إلى الحكمة من إنزال القرآن منجمًا ثم قال: "وكان جبريل كل سنة يعارضه القرآن ويدارسه إياه في شهر رمضان، وفي السنة التي توفي فيها عليه السلام عارضه فيه مرتين، وفَهِم صلى الله عليه وسلم من ذلك قُرْب أجله، وأخبر به أصحابه، وقد بيَّنت ذلك في أول هذا الكتاب في باب يخصُّه، ولله الحمد"
(3)
، وقد أوضح السمين الحلبي في مقدمة القول الوجيز أن المقدمة تشتمل على ثمانية فصول، وذكرها كلها ولم يذكر فيها أيَّ شيءٍ يتعلق بنزول القرآن أو معارضته
(4)
.
(1)
ينظر مثلًا في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 93، 108، 138، 153، 155، 161، 162، 164، 344)، والقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 202، 228، 354، 384، 421)، هذا في آل عمران ويوجد في السُّوَر الأخرى ما يطول تتبعه.
(2)
القول الوجيز، (سورة النساء: 80 - سورة المائدة: 41)، تحقيق: عبد الهادي بن علي القرني (ص: 94).
(3)
القول الوجيز، (سورة النور: 21 - سورة الشعراء: 22)، تحقيق: ماجد بن ماشع الحربي (ص: 228).
(4)
ينظر في مقدمة المؤلف للكتاب في الجزء الذي حققه عبد الرحيم محمد القاوش (ص: 102 - 120).
وقد ذكر المحققون للكتاب في سورة آل عمران المصادرَ التي يرجع إليها السمين الحلبي، وأبرزها ثلاثة مصادر، هي البحر المحيط في التفسير لشيخه أبي حيان، والمحرر الوجيز لابن عيطة، والكشاف للزمخشري
(1)
.
ويذكر أقوال شيخه أبي حيان في أكثر المسائل ويتعقبها بالشرح والبيان، وبالتأييد أو الاستدراك، وينقل ردود أبي حيان على الزمخشري، ثم يوافقه في رده أو يخالفه، ويمكن أن يقال بأنه من أفضل المصادر التي تعقبت تفسير البحر المحيط لأبي حيان بالكامل، لأنه يكاد يترك ما قرَّره شيخه في جميع الأبواب إلا ويذكره ثم يتعقبه بعد ذلك.
وقد تميَّز الكتاب بعدة أمور:
1) المنهج الشامل الذي انتهجه المؤلف، من التطرُّق إلى المسائل اللغوية والإعرابية والبلاغية في تفسير الآية، فشمل الكثير من علوم القرآن
(2)
.
2) التنوُّع في عرض المسائل، كالمخاطبين بالآية وأسباب النزول والمعنيين بالآية، والكلام عن عموم ألفاظ الآية وخصوصها، حتى إنه يتعرَّض لمسائل في التجويد وطريقة النطق بالآية، ومسائل في رسم المصحف.
3) أن هذا الكتاب من أوسع الكتب التي حُققت للسمين الحلبي، وفيه من التفصيل ما لم يذكره في بابه من الكتب الأخرى، في الدر المصون ولا العقد النضيد، فذكر مسائلَ في الإعراب واللغة لم يذكرها في الدر المصون
(3)
، ومسائلَ أخرى ذكر ترجيحها هنا ولم يرجِّح فيها شيئًا في الدر المصون
(4)
، ومسألةً اختلف فيها ترجيحه هنا عما في الدر المصون
(5)
.
4) الدقة والترتيب في عرض المسائل في تفسير الآية، فيبدأ في الغالب بالكلام عن مناسبة الآيات لما قبلها، ثم التعليق على ما ذُكر في سبب نزولها، ثم يبين معاني
(1)
ينظر في تحقيق يعقوب مصطفى سي للقول الوجيز (آل عمران: 106 - 156)، (ص: 57).
(2)
ينظر في تحقيق يعقوب مصطفى سي للقول الوجيز (آل عمران: 106 - 156)، (ص: 77).
(3)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 375).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 389، 442)، والقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 279، 440).
(5)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 457)، والدر المصون (3/ 451).
كلماتها إفرادًا وتركيبًا، ويذكر التفصيل في وجوه إعرابها، مع الكلام عما يُشكل في صرفها، والإشارة إلى الخلاف في نطق ألفاظها عند القراء، وبيان كيفية ذلك ووجهه في اللغة.
وأما عن أثر هذا الكتاب على من أتى بعد السمين الحلبي، فلم أقف فيما بحثت فيه من المسائل أن أحدًا من العلماء قد نقل ما قاله هنا أو تعقَّبه، ولم يذكر المحققون ذلك، وإنما يتعقَّب أهل العلم ما ذكره في الدر المصون نظرًا لشهرته، والله الموفق.
الفصل الأول منهج السمين الحلبي في الترجيح
وفيه خمسة مباحث:
• المبحث الأول: التعريف بالترجيح، وبيان ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه.
• المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح عند السمين الحلبي.
• المبحث الثالث: طريقة السمين الحلبي في الترجيح.
• المبحث الرابع: قواعد الترجيح عند السمين الحلبي.
• المبحث الخامس: ما تميَّز به السمين الحلبي في الترجيح والتضعيف ومناقشة الأقوال.
المبحث الأول: التعريف بالترجيح، وبيان ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه.
وفيه ثلاثة مطالب:
• المطلب الأول: معنى الترجيح في اللغة.
• المطلب الثاني: معنى الترجيح في الاصطلاح.
• المطلب الثالث: بيان ما يدخل في الترجيح وما لا يدخل فيه.
المطلب الأول: معنى الترجيح في اللغة:
الترجيح في اللغة مصدر (رجَّح)، وأصل المادة يدل على الرزانة والزيادة، كما ذكر ابن فارس، وقال:"رجح الشيء وهو راجح، إذا رزن"
(1)
؛ أي: ثقُل، فالرزانة يُراد بها الثِقَل
(2)
، وكذلك معنى الزيادة الذي في الترجيح يمكن أن يُقيَّد بالثِّقَل، يقال: رحى مرجحنَّة، ويُراد بها السحابة المستديرة الثقيلة
(3)
، وذلك بسبب زيادة الماء فيها فتثقُل، ويقال: جِفانٌ رُجُح؛ أي: مملوءة من الثريد واللحم
(4)
، فتثقل بسبب ذلك.
والترجيح يستعمل في الموازين غالبًا فالثِّقَل فيه مُعتبَرٌ؛ تقول: رجحتُ بيدي شيئًا؛ أي: وزنته ونظرت ما ثِقلُه
(5)
، والراجح هو الوازن الذي يزن الأشياء
(6)
.
وقد يُطلَق الرجحان في وصف ميلان الشيء واهتزازه بسبب ثقله، يقال: أرجحتُ الميزان؛ أي: أثقلته حتى مال
(7)
، ومن ذلك الأرجوحة، لأنها تتمايل بسبب ما تثقل به، وارتجاحُ الإبل، وهو اهتزازها إذا مشت، لأنها تترجح وتترجح أحمالها؛ أي: تتمايل
(8)
، ولعله لأجل هذا قيل في الترجُّح أنه التذبذبُ بين شيئين
(9)
.
وقد يُطلَق الثِّقَل مجازًا في الرجحان فيقال: قومٌ رُجَّح؛ أي: حلماء، وذلك لأن الحِلم يُوصف بالثقل، كما يُوصف ضده بالخفة والعَجَل
(10)
.
من هذا يُستنبط أن الأمر الراجح يتضمن معنى الزيادة، وليست الزيادة مبنية على مجرد الكثرة، بل الزيادة التي يثقل بها الشيء ويتميز عن غيره عند الموازنة، والذي يبين هذه الزيادة هو الترجيح، وذلك بالموازنة بين الأشياء والنظر في ثقل كل واحد منها ومقارنته بغيره، فتتمايل
(1)
ينظر في مقاييس اللغة لابن فارس (مادة: رجح): (2/ 489).
(2)
ينظر في مقاييس اللغة لابن فارس (مادة: رزن): (2/ 390).
(3)
ينظر في أساس البلاغة للزمخشري (مادة: رجح): (1/ 338).
(4)
ينظر في تهذيب اللغة للأزهري (مادة: رجح): (4/ 87)، (مادة: رجحن): (5/ 202).
(5)
ينظر في العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (مادة: رجح): (3/ 78).
(6)
ينظر في تهذيب اللغة للأزهري (مادة: رجح): (4/ 86).
(7)
ينظر في العين للخليل بن أحمد (مادة: رجح): (3/ 78).
(8)
ينظر (مادة: رجح) في غريب الحديث لإبراهيم الحربي (1/ 245)، ومقاييس اللغة لابن فارس (2/ 489).
(9)
ينظر في العين للخليل بن أحمد (مادة: رجح): (3/ 78).
(10)
ينظر في لسان العرب لابن منظور (مادة: رجح): (2/ 445).
الأشياء عند تلك الموازنة، فأيها رزن واستقر فهو الراجح.
وبهذا يُعرف معنى الترجيح في اللغة أنه إظهار زيادة الموزون وفضله على غيره
(1)
.
(1)
ينظر في كتاب تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي (ص: 339)، والتقرير والتحبير لابن أمير حاج (3/ 16)، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص: 95)، ففيها ذكر المعنى اللغوي قبل الاصطلاحي.
المطلب الثاني: معنى الترجيح في الاصطلاح:
تعددت العبارات في تعريف الترجيح، فبعضها يعتمد على فعل المُرجِّح الناظر في الأدلة، وبعضها يُظهِر معنى الرجحان الذي هو وصفٌ قائمٌ بالدليل أو مضافٌ إليه، فيكون الظن المستفاد منه أقوى من غيره
(1)
.
فمن الأول قولهم: "الترجيح هو تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل"
(2)
، وقولهم:"هو بيان القوة لأحد المتعارضين على الآخر"
(3)
.
ومن الثاني قولهم: "الترجيح هو اقتران الأمارة بما تقوى به على مُعارِضها"
(4)
، وقولهم:"هو ما أيّد به العلة والخبر إذا قابله ما يعارضه"
(5)
.
وهذه العبارات غالبها مأخوذ من الأصوليين في تعاملهم مع الأقوال الفقهية التي يظهر منها التعارض، ولم يكن للمفسرين تعريفٌ محددٌ للترجيح، مع أنهم عملوا به في الأقوال التفسيرية، وخصَّص بعض المعاصرين الترجيحَ عند المفسرين بأنه "تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية على غيره لدليلٍ أو تضعيف ما سواه من الأقوال"
(6)
.
ويظهر من العبارات كلها أن القولَ الراجح هو ما حظي بالقوة والتأييد، ويبقى الأمر في الترجيح هل هو تقويةٌ له على الحقيقة أو بيانٌ لتلك القوة، فالذي يظهر أن المُرجِّح لا يُكسِب القولَ قوةً، لأن قوةَ القول موجودةٌ فيه أصالةً، وإنما يُظهِر فضلَ قوته على غيره من الأقوال، وتبيينُ الحقيقة في التعريف أولى من التجوُّز في العبارة.
ثم بالنظر في التعريف الأخير المختص بعلم التفسير، نجد أنه يرِد عليه أمرٌ لا يدخل في الترجيح، وهي مسألة الرد على التفاسير المخالفة، فإن الذي يذكر التفسير الصحيح للآية ويُظهِر قوَّته ثم يتعرَّض للتفاسير المبتدعة ويبيِّن ضعفها لا يسمى فِعلُه ترجيحًا، بل تقريرًا، فالترجيح إنما يقع بين الأقوال المتقاربة في القوة، المتوافقة فيما بينها على أصلٍ من الأصول
(1)
ينظر في تحقيق مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (4/ 616) حاشية رقم (6) بتحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد.
(2)
مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (4/ 616).
(3)
الكليات لأبي البقاء الكفوي (ص: 315).
(4)
منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب (ص: 222).
(5)
الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (ص: 79).
(6)
منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 72).
المعتبرة، وأما الأقوال المتنافرة المتباينة فلا موازنة بينها حتى يقال بالترجيح، وإنما المقام مقامُ إثباتٍ وتقريرٍ للقول الصحيح، وردٍّ للأقوال الباطلة، وهذه المسألة تظهر جليَّةً في الأمور العقديَّة التي قد تقرَّر فيها القول المعتمد عند المفسِّر من قبل، فإذا تعرَّض للأقوال المخالفة له فهو لا يطلب الترجيح، فينبغي إضافة قيد التقارب بين الأقوال في تعريف الترجيح
(1)
.
وأمرٌ آخر في التعريف أنه أفاد أن الترجيح يقع بأحد أمرين، إما تقوية القول الراجح على غيره أو تضعيف ما سوى القول الراجح من الأقوال، لكن لم يذكر الأصل الجامع لهذين الأمرين، وبالرجوع إلى معنى الترجيح في اللغة يتبيَّن أن الأصل الذي يجمع بينهما هو الفضل، لأن الترجيح مبنيٌ على الزيادة والفضل، فالذي يذكر قولًا في التفسير ثم يضعِّف ما سواه من الأقوال قد أنبأ عن فضل ذلك القول.
ويتبين أيضًا من معنى الترجيح في اللغة أن الترجيح يُعرَّف بحسب فعل المُرجِّح لا بحسب معنى الرجحان، لأن الترجيح مصدر للفعل (رجَّح).
وعليه فقد ظهر لي أنه يمكن تعريف الترجيح عند المفسرين بأنه بيان فضل قولٍ في التفسير على ما يقابله بذكر ما يقوِّيه أو يضعِّف ما عداه.
فالمراد بالمقابلة: الأقوال الجارية على الأصول المعتبرة في التفسير عند المُرجِّح، ثم يبقى بيان أوجه القوة والضعف للأقوال في التفسير خاضعًا لأصول التفسير وقواعد الترجيح عند المفسرين في العموم، وقواعد الترجيح عند كل مفسر بحسبه
(2)
.
(1)
وقد ذكرت بعض التعريفات الأصولية للترجيح لفظ المماثلة والمقابلة، وجاءت الإشارة إلى المعنى المذكور عند الكلام عن التعارض الذي يقبل الترجيح؛ ينظر في البحر المحيط للزركشي (8/ 145 – 148)، وينظر فيما علل به الدكتور محمد بن عبد الله بن جابر القحطاني في اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير (1/ 101)، ففيه إشارة إلى طرفٍ من المعنى المذكور، حيث لم يُدخِل الرد على التفاسير الباطلة في الدراسة.
(2)
وسيأتي إن شاء الله بيان قواعد الترجيح عند السمين الحلبي في مبحث مستقل.
المطلب الثالث: بيان ما يدخل في الترجيح وما لا يدخل فيه:
ومِن شرح التعريف السابق الذي توصَّلتُ إليه (بيان فضل قولٍ في التفسير على ما يقابله بذكر ما يقوِّيه أو يضعِّف ما عداه) يمكن تبيين ما يدخل في الترجيح وما هو خارجٌ عنه، وذلك بتحليل الكلمات على النحو الآتي:
1) معنى "بيان فضل قولٍ في التفسير"
يدخل فيه مطلق التفضيل، سواء مع تضعيف الأقوال الأخرى أو تصويبها، وعلى هذا فالترجيح يدخل فيه الاختيار الذي عُرِّف بأنه الميل إلى أحد الأقوال في تفسير الآية مع تصحيح بقية الأقوال. فبين الترجيح والاختيار عمومٌ وخصوصٌ، فكل اختيارٍ ترجيحٌ لا العكس، لأن الترجيح يشمل الاختيار وغيره
(1)
.
ويدخل في هذا أيضًا مطلق الأقوال المتعلقة بالتفسير، سواء كانت تفسيرًا مباشرًا للآية، أو كانت في إعراب القرآن أو بلاغته أو نحو ذلك من علوم القرآن، إذا ظهر لها أثر في معنى الآية وتفسيرها، وسواء كان تفسيرًا تفصيليًا لآيةٍ واحدةٍ أو إجماليًا لعدة آيات.
2) معنى "على ما يقابله"
أي: على جميع الأقوال التي تقاربه وتوافقه في الآية، ففيه بيان أن مجرَّد تفضيل القول من غير موازنته ببقية الأقوال لا يسمى ترجيحًا، فلو كان في الآية أربعة أقوال، ثم جرت الموازنة بين القول الثاني والقول الثالث، وفضَّل المفسِّر القولَ الثاني على الثالث، فإن هذا التفضيل لا يُعَدُّ ترجيحًا في تفسير الآية، لأنه لم يتبيَّن فضل القول الثالث على الأول والرابع.
والمراد بالمقابلة التقارب في القوة كما سبق بيانه، ومنه يُعلَم أن العبرة في الترجيح هو تقابل الأقوال في القوة، سواء كانت متشابهةً في المعنى أو مختلفة، فالأقوال المتشابهة في المعنى -وإن أمكن الجمع بينها- إذا اختار المفسر منها قولًا وفضلَّه على البقية، فإن هذا يسمى ترجيحًا.
3) معنى "بذكر ما يقوِّيه أو يضعِّف ما عداه"
هذا فيه بيان ما يكون به الترجيح، فإما أن يكون بذكر ما يقوي القولَ في التفسير أو
(1)
ينظر في منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 78).
بذكر ما يضعِّف باقي الأقوال التي ذكرها المفسر، ولا يشترط في ذلك الاستدلال، بل لو عرض المفسر الأقوال ثم خصَّ أحدها بلفظ من ألفاظ الترجيح لكان ذلك ترجيحًا بلا شك.
المبحث الثاني: ألفاظ الترجيح عند السمين الحلبي
وفيه مطلبان:
• المطلب الأول: ألفاظ التقوية عند السمين الحلبي
• المطلب الثاني: ألفاظ التضعيف عند السمين الحلبي
المطلب الأول: ألفاظ التقوية عند السمين الحلبي:
ألفاظ التقوية هي الألفاظ التي يستخدمها المفسر في بيان قوةِ أحدِ الأقوال في التفسير، ويمكن أن تدل بمفردها على الترجيح، كأن تكون بصيغة التفضيل (كقولهم: وهذا أقوى الأقوال) أو صيغة القصر (كقولهم: وهذا هو القول الصحيح)، فتكون من المرادفات للفظ الترجيح، ويمكن أن يدل اللفظ على مجرَّد التقوية، ثم قد يدل السياق على تفضيل هذا القول على غيره، فيكون هو القول الراجح، وقد لا يدل، كأن يذكر ما يقوِّي الأقوال الأخرى في المسألة، أو يكون في بقية كلامه ما يشير إلى تساوي الأقوال في القوة والاعتبار بها جميعًا، أو تكون المسألة من عدة أقوال، وتكون الموازنة فيها بين قولين فقط.
وهذه الألفاظ منها ما هو دارجٌ عند كثيرٍ من المفسرين، ومنها ما يختص به مفسرٌ معيَّنٌ أو مدرسةٌ معيَّنةٌ في التفسير، وبالاستقراء ظهرت لي مجموعةٌ من الألفاظ التي يستخدمها السمين الحلبي في تقوية الأقوال، بعضها من ألفاظ التقوية العامة بين المفسرين، وبعضها خاصٌّ غير شائعٍ بين المفسرين.
والمقصود هنا هو اللفظ الذي يُوصف به نفس القول ليدلَّ على قوَّته، وأما الكلامُ عن معنى هذا اللفظ ودلالاته، والكلامُ عن القرائن التي تدل على الترجيح (كأن يقول: وهذا أوفق مع السياق، أو وهذا قول أكثر النحويين والمفسرين)، فهذا يكون ذِكْرُه عند طُرق الترجيح وقواعده.
والألفاظ التي يستخدمها السمين الحلبي في التقوية هي كما يأتي:
1) وصف القول بأنه (الظاهر) أو (الأظهر):
وهما من أكثر الألفاظ التي يُعبِّر بها عن الترجيح، وسيتضح هذا في كثير من المسائل في الفصل الآتي، ومن الأمثلة في ذلك ما ختم به أحد المسائل بقوله:"وبالجملة، فالقول الأول هو الظاهر"
(1)
، وقوله أيضًا: "وقوله {لَمَغْفِرَةٌ} [آل عمران: 157] فيها وجهان أظهرهما أنها مبتدأ
…
والثاني أنها خبر مبتدأ مضمر
…
وهذا غير ظاهر فالأول الوجيه"
(2)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 177).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 106).
2) وصف القول بأنه (حسن) أو (الأحسن):
وهذا كثير، ومن الأمثلة في ذلك قوله بعدما نقل كلام شيخه أبي حيان:"وهو بحث حسن"
(1)
، وقوله بعدما نقل الوجه البلاغي عن الزمخشري:"وهو حسنٌ جدًّا"
(2)
، وقوله:"فالأحسن حينئذ أن تكون هذه الجملة استئنافية"
(3)
، وقوله في إجابة أحد الإشكالات:"فيُجاب بما قدمناه من المغايرة، وهو أحسن مِنْ قولِ مَنْ قال إنه جُمع بينهما تأكيدًا"
(4)
.
3) وصف القول بأنه (أولى) أو (الأَولى):
ومثاله قوله في الموازنة بين تقديرين في الآية: "والتقدير الأول أولى"
(5)
، وقوله في ترجيح أحد الأقوال:"والأَولى حملُ ذلك على التمثيل"
(6)
، وكذلك قوله:"والأَولى حملُ اللفظ على عمومه"
(7)
.
4) وصف القول بأنه (الوجيه) أو (الأوجه):
وفيه المثال السابق في قوله: (فالأول الوجيه)، وأيضًا قوله رحمه الله:"وفي انتصاب {ثَوَابا} [آل عمران: 195] ثمانية أوجه، أوجهها أنه منصوب على المصدر"
(8)
.
5) وصف القول بأنه (الصحيح):
قال في تفريع أحد المسائل: "ولكن حذف أحد مفعولَي (ظنَّ) اختصارًا فيه خلاف، والصحيح جوازه"
(9)
.
6) وصف القول بأنه (أقرب إلى الصواب):
ومثاله موازنتُه بين قولين لشيخه أبي حيان، فاستحسن القول الثاني منهما وقال: "وهو
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 127).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 232).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 437).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 113).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 233).
(6)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 283).
(7)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 444).
(8)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 440).
(9)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349).
أقرب من قوله الأول إلى الصواب"
(1)
.
7) وصف القول بأنه (المشهور):
قال رحمه الله في لفظة (كأين): "واختلف الناس فيها؛ هل هي مركبة أم بسيطة، والمشهور أنها مركبة"
(2)
، وقال في قوله تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]: "واختلف الناس في هذه الآية أيضًا بالنسبة إلى العموم في الأحوال والأمكنة، والمشهور أن ذلك مخصوصٌ عند القاضي حاجته"
(3)
.
8) وصف القول بأنه (أيسر):
قال رحمه الله في الموازنة بين تقديرين في الآية: "وهذا أيسر، لعدم الاحتياج إلى التأويل"
(4)
.
9) بيان أن القول مُعتبَرٌ عنده بقوله: (وعندي):
وذلك مثل قوله: "وعندي أنه يجوز أن تكون اللام مزيدة"
(5)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 218).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 374).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 381 - 382).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 393).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 461)، وقد وقفت في الدر المصون على أوصافٍ أُخر، مثل: أجوَد: (8/ 366)، وأقوى:(2/ 459)، وأوضح:(7/ 539)، وأقرب:(10/ 123)، وأنه المختار:(2/ 120)، وخير الأقوال:(9/ 495)، وأنه التحقيق:(5/ 287).
المطلب الثاني: ألفاظ التضعيف عند السمين الحلبي:
بضِدِّ ما سبق من ألفاظ التقوية تتبيَّنُ ألفاظ التضعيف عند السمين الحلبي، فربما وصف القول الضعيف بأنه (غير ظاهر) أو (غير وجيه) ونحو ذلك، وربما وصفه بأوصافٍ أخرى تدل على التضعيف، وهذه الألفاظ لا بد معها من الاستقراء التام للمسألة وسياقها، حتى يُعرَف القول الفرد الذي لم يضعِّفه، فيكون هو القول الراجح.
والألفاظ التي يستخدمها السمين الحلبي في التضعيف هي كما يأتي:
1) وصف القول بأنه (فيه نظر):
وهو أكثر ألفاظ التضعيف فيما وقفت عليه، مِنْ ذلك قوله في الاستدراك على قول شيخه أبي حيان:"وفيه نظر، لأنه لا يليق أن يُخاطب المؤمنون بذلك إلا أن يكون تغليظًا"
(1)
، وكذلك استدراكه عليه حين ضعَّف قول الزمخشري، فقال:"وفيما ضعَّف به نظر"
(2)
، وكذلك قوله بعد أن ذكر أحدَ الأوجه في الإعراب:"إلا أن فيه نظرًا"
(3)
.
2) وصف القول بأنه (ضعيف):
ومن ذلك قوله: "و (مَنْ) موصولة، كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]، ويَضعُف أن يكون نكرةً موصوفة"
(4)
. وتكرَّر مثل هذا المثال في موضع آخر
(5)
.
3) وصف القول بأنه (بعيد):
قال رحمه الله في تضعيف أحد الأوجه الفرعية في الإعراب: "وهذا بعيدٌ جدًّا"
(6)
.
4) وصف القول بأنه (متروك):
قال رحمه الله في الاستدراك على القول الظاهر في المسألة: "غير أن هذا الظاهر متروك"
(7)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 355).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 262).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 428).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 459).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 147).
(6)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 364).
(7)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 369).
5) وصف القول بأنه (لا حاجة إليه):
ومن ذلك قوله بعد أن ذكر تفصيل أحد الأوجه: "ولا حاجة إلى ذلك"
(1)
، وقال كذلك في تفصيل وجه آخر:"ولا حاجة تدعو إلى مثل ذلك"
(2)
.
6) وصف القول بأنه (لا وجه له):
ومن ذلك وجه الإعراب الذي ذكره في قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، فذكر القول الثاني أن (كل) بدلٌ من اسم (إن)؛ قال: "نقله مكي عن أبي الحسن
…
ولا وجه له"
(3)
، وكذلك قوله في أحد الأقوال التي استحسنها شيخه أبو حيان:"ولا وجه لأحسنيته"
(4)
.
7) وصف القول بأنه (لا يجوز):
ومن ذلك قوله: "و (مَنْ) موصولة
…
ولا يجوز أن يكون شرطًا"
(5)
، وقوله عن أحد الأقوال:"وهذا ينبغي ألا يجوز"
(6)
.
8) وصف القول بأنه (ليس بظاهر):
قال رحمه الله في الاستدراك على قول شيخه أبي حيان: "وليس بظاهر، لأن هذه المادة لا تتعدَّى باللام"
(7)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 409).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 413).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 446).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 182).
(5)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 152).
(6)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335).
(7)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 454).
المبحث الثالث: طريقة السمين الحلبي في الترجيح
وفيه مطلبان:
• المطلب الأول: طريقته في تبيين القول الراجح
• المطلب الثاني: طريقته في الموازنة بين الأقوال وترجيح بعضها على بعض
المطلب الأول: طريقة السمين الحلبي في تبيين القول الراجح:
مما سبق في تعريف الترجيح في اللغة والاصطلاح يتبيَّن أن عملية الترجيح تمر بشيئين:
• الأول: الموازنة بين الأقوال، والنظر في أوجه القوة والضعف فيها.
• الثاني: تبيين القول الراجح منها، وإظهار فضله على بقية الأقوال.
والثاني منهما هو الذي لا بد من ظهوره والوقوف عليه لمعرفة القول الراجح، وأما الموازنة بين الأقوال فقد يُظهرها المُرجِّح وقد لا يُظهرها، فيكتفي بإجراء الموازنة بين الأقوال في ذهنه، ثم يبين القول الذي ترجَّح عنده.
فعند دراسة طريقة أحد المصنفين في الترجيح يجدر التنبه للأمرين، ونظرًا إلى أن الأمر الثاني هو الذي يظهر دائمًا في الترجيح، وهو أسهل في البيان من الأمر الأول، فقد اخترت البدء به هنا، وجعلته المطلب الأول.
يسلك السمين الحلبي طرقًا متعددة يمكن من خلالها معرفة القول الراجح عنده، وهذه الطرق منها ما هو ظاهرٌ جَلِي، يتضمَّن ألفاظ الترجيح، مثل تصريحه بالقول الراجح في بداية المسألة (كأن يقول: في المسألة ثلاثة أقوال، أظهرها كذا وكذا)، أو أثناء تعداد الأقوال في المسألة (كأن يقول: والقول الثاني -وهو الظاهر- كذا وكذا)، أو أن يذكر ذلك في آخر المسألة (كأن يقول: والقول الأول هو الصحيح)، فهذه الأمثلة ظاهرة لا تحتاج إلى تفصيل، وقد تقدَّم ذكر شواهدها في ألفاظ الترجيح، لكن الشأن في الطرق التي يسلكها ولا يُصرِّح فيها بألفاظ الترجيح، ويُعلَم من عادته أنها قرائن تدل على تقويته للقول، وتقديمه على غيره، وهي في النقاط الآتية:
أولًا: أن يعتمد على أحد الأقوال في التفسير ثم يذكر الخلاف بعده:
ربما اعتمد السمين الحلبي على معنى القول الراجح في ذكر مناسبة الآية لما قبلها أو في تفسير الآية أو في إعرابها، وهذا إشارةٌ منه إلى ترجيحه لهذا القول، فمن فسَّرَ الآية بقولٍ فهو مختارٌ له
(1)
، وهذه قاعدة نافعة في معرفة الترجيح إذا لم يكن ظاهرًا من ألفاظ الترجيح؛ أن يُنظَر في كلام المصنف قبل ذكر الخلاف أو بعده، فإن كان معتمدًا على أحد الأقوال التي ذكرها في
(1)
ينظر في منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 78).
الخلاف، فهذا إشارةٌ منه إلى ترجيحه لذلك القول، ومن أمثلة هذا عند قوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} [آل عمران: 176]؛ قال رحمه الله في بداية تفسيره لهذه الآية: "وجه مناسبتها لما تقدَّمها أن يُقال: لمَّا نهى المؤمنين عن خوف الكفار وأمرهم بخوفه خاصة عقَّب ذلك بنهيه لرسوله عليه السلام بأن لا يحزنه أمرهم ولا يهتم بشأنهم، فإن ما يكيدون به راجعٌ عليهم لا يتعداهم.
ومعناه: لا تتوقع خيرًا ولا ضررًا منهم، ولذلك علَّل بقوله:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا}
…
وقيل: معناه: لا تهتم بعدم إيمان من لم يؤمن من قومك، فإن ذلك ليس إليك
…
غير أن هذا التفسير لا يلائمه قوله بعد ذلك: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} كل الملاءمة"
(1)
.
فيظهر هنا اعتماده على القول الراجح عند ذكر مناسبة الآية لما قبلها، واعتماده عليه في تفسير الآية بعد ذلك.
ثانيًا: أن يقدِّم أحد الأقوال عند ذكر الخلاف في المسألة ويبدأ بذكره أولًا:
هذه الطريقة اصطلاحيةٌ في الترجيح، فإذا اصطلح المفسِّر على تقديم القول الراجح -سواء ذكر هذا الاصطلاح أو عُرف بالاستقراء- فإن هذا يعتبر في الاعتداد بترجيح القول الذي يُقدِّمه أولًا، سواء نصَّ على ترجيحه أو لا
(2)
، والذي يظهر بالاستقراء أن السمين الحلبي يراعي تقديم القول الأول في عرض الأقوال، ويعتبر التقديم إشارة إلى الترجيح، والذي يدل على مراعاته لهذا الاصطلاح أنه يعمل به مع غيره، فقد ذكر مسألةً وذكر القولين فيها ثم قال: "والزمخشري حكى القولين إلا أنه بدأ بالثاني فقال
…
"
(3)
، والذي يظهر في الكشاف أن الزمخشري يرجِّح هذا القول الذي بدأ به، لأنه ذكر وجهه وأجاب عن الإشكال عليه
(4)
، وفي
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 282 - 283).
(2)
ينظر في منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 93).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 254).
(4)
ينظر في الكشاف (1/ 441).
مسألةٍ أخرى حكى القولَ الأول وقال: "وبهذا بدأ الزمخشري"
(1)
، ولم يظهر في الكشاف ترجيحٌ في هذه المسألة
(2)
، لكن تقديم القول إشارة إلى ذلك، كما نبَّه إليه السمين الحلبي في عبارته.
والذي يظهر أن يُراعى هذا الأمر مع السمين الحلبي كذلك، فإذا لم يظهر منه ترجيح لأحد الأقوال في المسألة، فإن تقديمه للقول قرينةٌ على الترجيح، لكن لا يُعتمد عليها وحدها، لأنه في بعض الأحيان يُرجِّح القول الثاني أو الأخير، فلا بد لها من قرينةٍ أخرى تعضدها، ومثال ذلك في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]؛ قال رحمه الله: "واختلف الناس في هذه الآية أيضًا بالنسبة إلى العموم في الأحوال والأمكنة، والمشهور أن ذلك مخصوص عند القاضي حاجته، لا سيما في الكنف المُعدَّة لذلك، ومذهبُ الشافعي أن ذِكْرَ الله في ذلك المكان وفي هذه الحالة حرام
…
وممن أخذ بظاهر الآية وعمومها: عبد الله بن عمرو وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين؛ يجوز أن يُذْكَر الله حتى في هذه الحالة وهذا المكان"
(3)
، فتراه هنا قدَّم القول بالتخصيص، ووصفه بأنه المشهور وذكر مذهب إمامه الشافعي الموافق لهذا القول، ثم ذكر القول الآخر ولم يذكر ما يقويه، فدل على ترجيحه للقول الأول.
ثالثًا: وصف صاحب القول بما يدل على قوة قوله أو ضعفه:
لأن الإشادة بصاحب القول في سياق إيراد قوله تدل على استحسان قوله والميل إليه، ومن ذلك أنه اكتفى في أحد المسائل بنقل قولين في معنى الآية: قول الزمخشري، وقول الشيخ أبي حيان في الاستدراك عليه، ثم ختم المسألة بقوله:"وهذا الذي قاله الشيخ وإن كان رجح اللفظ نقيضه، إلا أن السياق والقرائن يدل على المعنى الذي ذكره المفسرون"
(4)
، فتراه هنا يشيد بقول الزمخشري، ويجعل قوله هو قول المفسرين.
وفي مقابل ذلك فإن استغراب القول من قائله أثناء إيراد قوله يدل على تضعيف ذلك
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 424)
(2)
ينظر في الكشاف (1/ 427).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 381 - 383)
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 457).
القول، ومن ذلك قوله:"وأغرَبَ أبو البقاء فجعل الواو في {وَلِيَعْلَمَ} [آل عمران: 140] مزيدة"
(1)
.
رابعًا: الاستدلال لأحد الأقوال وتوجيهه دون غيره:
إن حشد الأدلة لقولٍ واحد في المسألة وإهمال الاستدلال لبقية الأقوال دليلٌ على ترجيح ذلك القول والاعتماد عليه، ومن عادة السمين الحلبي أن يبحث عن الأوجه والأدلة لجميع الأقوال في المسألة ويذكرها، حتى الأقوال التي يضعِّفها
(2)
، فإذا اقتصر على قولٍ واحدٍ في الاستدلال والتوجيه دلَّ على أن المعتمد عنده هو هذا القول الذي يستدل له ويوجهه، مثاله ما ذكره عند قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 178]؛ قال رحمه الله: "وقد اختلف المفسرون في {الَّذِينَ كَفَرُواْ} هنا؛ هل المراد بهم كل كافرٍ أم طائفةٌ مخصوصة؟ فذهب بعضهم إلى العموم، وهو ظاهر الآية؛ قال ابن عطية: «معنى هذه الآية: الردُّ على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين مُمَوَّلين أصِحَّةً دليلٌ على رضى الله بحالنا، واستقامةِ طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاءٌ واستدراجٌ ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برَّةٍ ولا فاجرة إلا والموت خيرٌ لها، أما البَرَّة فلِتُسرِع إلى رحمة الله، وقرأ {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]، وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثمًا، وقرأ هذه الآية
(3)
»
(4)
انتهى.
وذهب ابن عباس وآخرون إلى أنها خاصةٌ باليهود والنصارى والمنافقين؛ قال: نزلت في هؤلاء، وجعلها مقاتل في مشركي مكة، وقال عطاء: هي في قريظة والنضير.
وقال الزجاج: هؤلاء قوم أعلَم الله نبيه أنهم لا يؤمنون، وليست في كل كافر"
(5)
.
فيظهر هنا أنه أطال النقلَ في بيان معنى القول الأول وتوجيهه، ثم تعرَّض للأقوال الأخرى، ولم يذكر وجهها ولم يستدل لها، فدل على ترجيحه للقول الأول.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335)
(2)
وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله فيما تميَّز به السمين الحلبي في الترجيح والتضعيف ومناقشة الأقوال.
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 428)، والطبري في تفسيره (6/ 262)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 509).
(4)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 546).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 293 - 294).
خامسًا: الاكتفاء بنقل أقوال غيره في تقوية الأقوال وتضعيفها من غير التعقيب عليها:
قد يكتفي السمين الحلبي بالنقل عن غيره في مناقشة الأقوال في المسألة والتعقيب عليها من غير أن يناقش الأقوالَ بنفسه، ويظهر ذلك جليًّا في نقله لردود شيخه أبي حيان على الزمخشري، فإذا نقل حكم غيره على قولٍ في المسألة ولم يُعقِّب عليه فإن ذلك يدل على تبَنيه لذلك الحكم، فإن المعروف عنه أنه لا ينقل القولَ الذي يُنكِره إلا ويُعقِّب عليه، كما سيأتي بيانه فيما تميَّز به في الترجيح والتضعيف ومناقشة الأقوال.
ومثال هذه الطريقة قوله رحمه الله: "وفي {فَأَثَابَكُمْ} [آل عمران: 153]
(1)
وجهان:
أحدهما: أنه عطف على: {صَرَفَكُمْ} [آل عمران: 152]، وبهذا قال الزمخشري كما قدمنا تقريره عنه، وناقشه فيه الشيخ فقال:«وفيه بُعد لِطول الفصل بين المتعاطفين»
(2)
.
والثاني: أنه عطف على: {تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ} [آل عمران: 153]، فيكون في موضع خفضٍ بإضافةٍ إليه
(3)
، وجعل الشيخ هذا هو الظاهر"
(4)
. فلم يحكم السمين الحلبي هنا على أحد القولين بشيء، وإنما اكتفى بالنقل عن شيخه أبي حيان في تضعيف القول الأول وترجيح القول الثاني، وحين نرجع إلى الدر المصون يظهر لنا أنه يُرجِّح ما رجَّحه شيخه، فإنه قد حكم بنفسه على قول الزمخشري وضعَّفه، فدل على ترجيحه للقول الآخر
(5)
.
سادسًا: تضعيف الأقوال في المسألة سوى قول واحد:
تقدَّم بيان هذه الطريقة وأنها أصلٌ مُعتبَرٌ في الترجيح، كما جاءت الإشارة إليها في التعريف الاصطلاحي للترجيح، ومن أمثلتها ما جاء عند قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلا} [آل عمران: 145]، فقد قال رحمه الله: "وفي {كَانَ}
(1)
في نسخة الكتاب: "وفي {ما فاتكم} وجهان" ولعله خطأ في النسخ لتشابه الرسم، أو انتقال ذهن، لأن قوله {ما فاتكم} لم يأت بعد، ولا يستقيم القول إلا بإثبات {فأثابكم} ، وهو المذكور في الدر المصون (3/ 441).
(2)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 388).
(3)
أي: بإضافة (إذ) إليه.
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 429).
(5)
الدر المصون (3/ 441).
وجهان: أظهرهما أنها غير مزيدة"، ثم استطرد في تفصيل المسألة ومناقشة الأقوال فيها والرد عليها، ثم ختم بخلاصة ما خرج به في بيان المسألة فقال: "فقد تحصَّل في {كَانَ} ثلاثة أوجه: النقصان والتمام -إذا اعتبرنا ما ذكره الشيخ- والزيادة"
(1)
، وهذا يدل على ترجيحه للنقصان، فإنه استبعد أنها مزيدة في أول المسألة، ثم استبعد ما ذكره شيخه أبو حيان من أنها تامة أثناء المناقشة، وفي عبارته هنا ما يوحي بذلك، فلم يبقَ إلا وجه النقصان، فهو الراجح عنده.
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 365 – 366).
المطلب الثاني: طريقة السمين الحلبي في الموازنة بين الأقوال وترجيح بعضها على بعض:
يسلك السمين الحلبي طرقًا متعددة في الموازنة بين الأقوال وترجيح بعضها على بعض، بناءً على منهجه في تقوية الأقوال وتضعيفها، وقد ظهرت لي من خلال الاستقراء عدة معايير يَزِن بها الأقوال، ويُرجِّح بها بعض الأقوال على بعض، وهذه المعايير منها ما هو متصلٌ بالآية التي ذُكر فيها الخلاف، كظاهر الآية وسياقها ونظمها والمقصود منها والمخاطبين فيها، ومنها ما هو خارجٌ عنها كالآيات الأخرى التي في معناها والأحاديث النبوية وأسباب النزول والمسائل العقدية وقواعد اللغة العربية وشُهْرَة القول وكثرة من قال به.
ولا شك أن هذه المعايير بعضها أقوى من بعض، فإذا تعارضت هذه المعايير في نظرِه فإنه يُقدِّم ما هو أقوى عنده، كالمسائل العقدية في مذهبه مثلًا، فهو يُقدِّمها على ظاهر الآية، وكذلك سياق الآية، فإنه يُقدِّمه على شُهْرَة القول وكثرة من قال به.
أما أكثر المعايير التي يستخدمها في الموازنة، ويبادر إليها في المناقشة، فهي المعايير المتصلة بالآية، لأنها أول ما يظهر عند تأمل الآية، فكثيرًا ما يُرجِّح بالظاهر من الآية، وكثيرًا ما ينزع من سياق الآية ما يبرهن به على رجحان قوله.
وفيما يأتي التفصيل لجميع المعايير التي ظهرت لي بحسب كثرة استخدام السمين الحلبي لها فيما وقفت عليه في البحث:
أولًا: الترجيح بالظاهر من الآية:
أكثر ترجيحات السمين الحلبي التي وقفت عليها هي من هذا النوع، والترجيحُ بالظاهر أمرٌ شائعٌ بين المفسرين، لكن يحتاج إلى معرفة معنى الظاهر، وذِكْرِ ضابطِ الترجيح به، لأن الترجيح به قد يختلف من مفسِّرٍ إلى آخر، فالظاهر من معنى الآية عند مفسِّرٍ قد لا يكون متفِقًا مع الظاهر من معناها عند مفسِّرٍ آخر
(1)
، ومن شواهد هذا أن أبا حيان رجَّح أحد الأقوال بالظاهر، ثم تعقَّبه السمين الحلبي، ورجَّح القولَ الذي خلافه بأنه الظاهر
(2)
.
(1)
ينظر في اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير للدكتور محمد بن عبد الله القحطاني (1/ 110، 676).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335 – 336).
ومعنى الظاهر عند السمين الحلبي أنه المتبادر إلى الفهم
(1)
، بحيث لا يحتاج إلى تقديرٍ أو تأويلٍ
(2)
، ومثاله عند قوله تعالى:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 143]، حيث قال:"والظاهر أن الرؤية هنا رؤيةُ البصر، ويؤيد ذلك قوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}، وعلى هذا فلا حاجة إلى حذف. وقيل: هي بمعنى العلم، فيتعدَّى إلى اثنين، فيحتاج إلى تقدير الثاني"
(3)
.
فدل على أنه يقدِّم القول الذي ليس فيه حذفٌ وتقديرٌ ويجعله هو الظاهر، وهذا من حيث العموم، وإلا فإنه قد يترك ما سلم من الحذف ويلجأ إلى التأويل وتقدير محذوف، ثم يجعل ذلك التأويل هو الظاهر
(4)
.
وإن كانت أقوال المسألة كلها فيها حذفٌ وتقديرٌ، فإنه يختار ما كان الحذف فيه أقل، ويجعله أظهر من غيره، ومثاله عند قوله تعالى:{وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]، حيث قال: "وقوله {لَمَغْفِرَةٌ} فيها وجهان: أظهرهما أنها مبتدأ
…
والثاني: أنها خبر مبتدأ مُضمَر
…
وهذا غير ظاهر، فالأول الوجيه، ولا بد في الأول من حذفٍ، وفي الثاني من حذفين"
(5)
.
والظاهر من الآية عنده ليس محصورًا في قولٍ واحد، بل قد يكون في الآية عدة أقوالٍ متقاربةٍ يحكم بأنها الظاهرةُ من الآية، كما في الأقوال التي ذكرها عند قوله تعالى:{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]، قال فيها: "وهذه أقوالٌ متقاربة، وقال الشيخ: «وكلها تخالف الظاهر،
…
»
(6)
انتهى، وهو حسن إلا قوله أن الأقوال المتقدمة خلافُ
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 437 - 438)، حيث ختم المسألة بالإشارة إلى القول الأول وقال:"وهو المتبادر إلى الفهم كما قدمناه"، والذي قدَّمه في وصف القول الأول أنه الظاهر من الآية.
(2)
ينظر في منهج السمين الحلبي في التفسير في كتابه الدر المصون للدكتور عيسى بن ناصر الدريبي (ص: 557).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335 – 336).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 106)
(6)
البحر المحيط لأبي حيان (1/ 403).
الظاهر، بل هي ظاهر الآية، وإن كان بعضها أقرب من بعض"
(1)
، فتراه هنا خالف شيخه أبا حيان في قَصْرِ ظاهرِ الآية على قولٍ واحد، ولم يخالف القول الذي استظهره في الآية، بل حسَّنه، وأثبت أن جميع الأقوال هي ظاهر الآية أيضًا، لكن بعضها أقرب من بعض.
كما أنه قد يترك الذي يظهر عنده في الآية إذا عارضه ما هو أقوى منه، كما في قوله:"ظاهر الآية في قوله {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ} [آل عمران: 145] أنه يُقتصَر به عليه، ولا يُعطى من الدنيا شيئًا، غير أن هذا الظاهر متروك، لأن من أولئك من أتاه الله في الدنيا مالًا كثيرًا"
(2)
.
ومن هذا نستنبط أن قوله "والظاهر" لا يدل بمفرده على الترجيح إلا إذا كان متعلقًا بالقول نفسه على سبيل الحصر أو بصيغة التفضيل، كما تقدَّم في ألفاظ الترجيح (كأن يقول: وهذا هو القول الظاهر، أو وهذا أظهر الأقوال)، أما إذا جعل الظاهر متعلقًا بالآية أو بالخطاب أو بالسياق (كأن يقول: وظاهر الآية كذا وكذا) فإن هذا لا يقتضي الجزم بالترجيح، وإنما يدل على مجرَّد التقوية، وقد يأتي قولٌ آخر أقوى منه فيرجِّحُه عليه، كما في المثال السابق.
ثانيًا: الترجيح بسياق الآية:
قال العز بن عبد السلام: "السياق مُرشِدٌ إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات"
(3)
، فالسياق له أهميته في ترجيح الأقوال المحتملة، ولذلك أخذ به السمين الحلبي في ترجيح الأقوال المُختلَف فيها، ومثاله في قوله تعالى:{وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، في قراءة المبني للمفعول:{قُتِل}
(4)
قال رحمه الله: "واختلف المفسرون في معنى هذه الآية: هل معناها أن الأنبياء قُتلوا، أم أنهم لم يقتلوا، بل قُتل الربيون الذين كانوا معهم؟
والمعنى الأول أليق بالسياق وبحال المخاطبين"
(5)
.
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 471 – 473).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 369).
(3)
الإمام في بيان أدلة الأحكام (ص: 159).
(4)
وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، ينظر في النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 242).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 373 - 374).
ويختم بعض المسائل بالترجيح بالسياق كقوله: "إلا أن السياق والقرائن يدل على المعنى الذي ذكره المفسرون"
(1)
.
ويَستدِلُّ للمعنى الذي يرجِّحه بسياق الآية، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، قال رحمه الله: "واختلف الناس في هذا التولي؛ هل يوصف بكونه معصيةً أم لا؟
فالظاهر أنه معصية عفا الله عنها لأصحابها
…
ويدل على ذلك كونه سماه استزلالًا من الشيطان، وبقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، والعفو إنما يكون -أو يوشك أن يكون- عن ذنب"
(2)
.
ومن الترجيح بالسياق رعاية المناسبات بين الآيات، ومثاله أنه ذكر المناسبة لقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وأن هذه الآية تكملة للسياق في الحديث عن اليهود ومخازيهم، ثم قال:"واختلف الناس في المراد بهذه الآية، والظاهر أنهم اليهود الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه تنطبق المناسبة المذكورة"
(3)
.
ثالثًا: الترجيح بالنظر إلى انتظام الألفاظ في الآية:
يراعي السمين الحلبي انتظام الألفاظ والجُمل في الآية، ويحرص أن تكون المعاني متناسبة مع نظم القرآن الجليل الشريف، فتراه يستبعد المعاني التي تُخِلُّ بتسلسل الآية ولا تجعل للَّفظ بلاغةً في المكان الذي هو فيه، ويظهر هذا حين يكون النظم محتاجًا إلى تقدير المعنى، فإنه في هذه الحالة لا ينظر إلى المعنى المقدَّر فقط، بل ينظر كذلك إلى مواقع الألفاظ وتسلسل الجُمَل وترابطها، ومن ذلك قوله في أحد التقديرات التي فيها الربط بين الألفاظ البعيدة عن
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 457).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 458).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 351).
بعضها: "وهذا وإن كان جائزًا في المعنى إلا أن فيه بُعدًا لطول الفصل بين العامل والمعمول"
(1)
، فلما كان المعنى المقدَّر ضعيفًا في الربط بين الألفاظ مُخِلًّا بتسلسل الجُمل استبعده، وأشدُّ من ذلك إذا كان المعنى المقدر لا يجعل لألفاظ القرآن الكريم أهميةً ولا مكانةً، فتراه يقول:"وهذا كما رأيت ضعيف جدًّا، لأنه يؤدي إلى الاستغناء عن غالب كلمات الآية الكريمة، وليس ذلك مرادًا، والله أعلم"
(2)
.
رابعًا: الترجيح بالنظر إلى مقصود الآية:
رعاية مقصود الآية من الأمور التي ينبغي التفطن لها أثناء موازنة الأقوال والمقارنة بينها، فقد يذكر بعضهم قولًا في الآية يكون معناه صحيحًا في نفسه رائقًا في لفظه، لكن عند التمحيص تجده بعيدًا عن مقصود الآية وما سيقت إليه، ومن أمثلة رعاية السمين الحلبي لمقصود الآية ما رجَّحه بقوله:"والأولى حملُ ذلك على التمثيل، لأن المقصود العموم"
(3)
.
خامسًا: الترجيح بالنظر إلى المخاطبين في الآية:
بعد النظر في المقصود من الآية يجدر النظر إلى من قُصدت به الآية أصالةً، وهم المخاطبون بها، ثم عند موازنة الأقوال يُنظر في مناسبة القول للمخاطبين بالآية، لذلك يستبعد السمين الحلبي الأقوال التي لا تناسب المخاطبين بالآية، ويقرِّب الأقوال التي تناسبهم ويعتمدها، وقد تقدَّم مثال هذا في قول السمين الحلبي:(والمعنى الأول أليق بالسياق وبحال المخاطبين)، فرجَّح ما هو أليق بحال المخاطبين، وكذلك يضعِّف الأقوال التي لا تتناسب مع حال المخاطبين، كما قال عن أحد الأقوال:"وفيه نظر، لأنه لا يليق أن يُخاطب المؤمنون بذلك إلا أن يكون تغليظًا"
(4)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 430).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 310).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 283 - 284).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 355).
سادسًا: الترجيح بالنظر إلى آية أخرى مشابهة:
والأصل في هذا قول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]، فالقرآن يشبه بعضه بعضًا ويُصَدِّق بعضه بعضًا، فإذا اختلفت الأقوال في آية نُظِر إلى الآية المشابهة لها، فإنها ترشد إلى القول الصحيح، ومن أمثلة ذلك عند السمين الحلبي ما ذكره في قوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176]، فرجَّح أن المراد بها العموم في كل من يسارع في الكفر من غير تحديد طائفةٍ معيَّنة، وشبَّهها بالآية الأخرى في عمومها:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41]
(1)
.
سابعًا: الترجيح بالسنة النبوية:
لأن السنة تفسِّر القرآن وتبيِّنه وتوَضِّحه، فالأحاديث خيرُ دليلٍ يُستدَل به، وأقوى مُرجِّحٍ يُؤخَذ به، ومن أمثلة ذلك عند السمين الحلبي ما ذكره عند قوله تعالى:{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، حيث قال رحمه الله: "وظاهر القرآن أنه يجيء به بعينه، ويدل له ما في الحديث:(جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)
(2)
، وروي:(ألا لا أعْرِفن أحدكم يوم القيامة يأتي ببعيرٍ له رغاءٌ، وببقرةٍ لها خوارٌ، وبشاةٍ لها ثغاء، فينادي: يا محمد، يا محمد؛ لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلَّغتُك)
(3)
، وروى البخاري ومسلم:(لا ألفِيَن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاءٌ، فيقول: يا رسول الله؛ أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك)
(4)
، وفي بعض الأحاديث:(وبفرسٍ له حَمْحَمَة)
(5)
، وقد غلَّ غلامٌ اسمه مِدعَم يومَ خيبر شَملَةً من المغنم، فقال عليه السلام: (والذي نفسي بيده؛ إنها لتشتعل
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 283 - 284).
(2)
رواه البخاري (8/ 130/ 6636) ومسلم (3/ 1463/ 1832) في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي
(3)
رواه البخاري (9/ 28/ 6979) في صحيحه بنحوه من حديث أبي حميد الساعدي.
(4)
رواه البخاري (4/ 74/ 3073) ومسلم (3/ 1463/ 1832) في صحيحيهما من حديث أبي هريرة.
(5)
في الحديث السابق، ومعنى الحَمْحَمَة: صوت الفرس دون الصهيل؛ ينظر في النهاية لابن الأثير (1/ 436).
عليه نارًا)
(1)
"، فلم يكتفِ بحديثٍ واحد، وإنما ذكر عدة أحاديث برواياتها، ثم تعرَّض للأقوال الأخرى وسَرَدها بإيجازٍ من غير أن يقوي شيئًا منها
(2)
، فالسنة إذا تبيَّنت لزِم التمسُّك بها.
ثامنًا: الترجيح بأسباب النزول وما يحتف بها:
يَستدِل السمين الحلبي بسبب نزول الآية على القول الذي يرجِّحه، فإن أسباب النزول أصلٌ من أصول التفسير، ومن أمثلة ذلك قوله رحمه الله:"وما قدَّمناه هو الظاهر، ويدل عليه ما ذكرنا من سبب النزول"
(3)
.
وإذا ثبت سبب النزول فإنه ينظر إلى واقعه وما يحتفُّ به من الأحداث فيرجِّح من خلال ذلك، ومثاله عند قوله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، قال: "واختلف الناس أيضًا فيمن خُوطِب بهذا الكلام، والظاهر أنهم المؤمنون الخُلَّص، وعليه ينطبق ما قدَّمناه من أقوال المفسرين.
وذهب الماتريدي إلى أن الخطاب للمنافقين، وكان الإمام فخر الدين تبعه في ذلك
…
وفيه نظر لأن المنافقين يوم أُحد انخزلوا مع كبيرهم رأس النفاق عبد الله بن أُبي، ولم يصبهم انهزام ولا قتل"
(4)
، فلما كانت الآيات نازلة في غزوة أُحد نَظَر في واقع تلك الغزوة وما حدث فيها فاستدل به على القول الذي يرجحه.
تاسعًا: الترجيح بالنظر إلى المسائل الاعتقادية:
تقدَّم الكلام عن موطن الترجيح، وأن ردَّ الأقوال لا يُقصد به الترجيح دائمًا، بل في بعض مسائل الاعتقاد يكون ذلك لأجل تقرير المذهب الاعتقادي بحيث لا يُتصوَّر الترجيح والموازنة بين الأقوال، لأن القول المعتمد قد تقرَّر من قبل، فلا يُنظر إلى ما خالفه إلا على سبيل الرد والإفحام، ولتوضيح هذا الأمر هنا فإن المراد بتلك المسائل الاعتقادية الأصولُ المتفق عليها
(1)
رواه البخاري (5/ 138/ 4234) ومسلم (1/ 108/ 115) في صحيحيهما من حديث أبي هريرة.
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 144 - 147).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 248 - 249).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (176 - 177).
في المذهب بحيث يُضلَّل فيها المخالف، أما المسائل الفرعية المختلف فيها في المذهب نفسه، أو التي قال بها أحدُ أئمةِ المذهب فليست من ذلك، فالترجيح فيها واردٌ، لأن الأقوال حينئذٍ تكون متكافئةً في القوة بالنظر إلى الخلاف في المسألة أو بالنظر إلى مكانة مَنْ قال بها، ومثال ذلك الترجيحِ هنا ما ذكره السمين الحلبي عند قوله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140]، حيث قال: "وجُوِّز في (عَلِم) أن تكون متعديةً لواحد، فقال الشيخ:«و (عَلِم) ظاهرهُ التعَدي إلى واحد، فتكون بمعنى (عَرَف)»
(1)
انتهى. وهذا ينبغي ألَّا يجوز، لأنه العرفان لا يجوز إسناده إلى الله تعالى
…
والظاهر أنها المتعدية لاثنين؛ حُذف ثانيهما للعلم به"
(2)
.
فهنا يظهر أن الخلاف بين التلميذ وشيخه أبي حيان، وأبو حيان أحدُ أئمةِ المذهب الأشعري الذي عليه المصنف، فصار الترجيح هنا بالنظر إلى المسائل الاعتقادية.
عاشرًا: الترجيح بقواعد الإعراب:
يهتم السمين الحلبي بالقواعد النحوية التي تضبط الإعراب، والأصولِ التي جرى عليها العربُ في طريقة كلامهم، ويستخدم تلك القواعد والأصول في تقويم الأقوال الواردة في إعراب الآية، فيُورِد الإشكالات على الأقوال المخالفة ويردُّها: "إن أعربوا {نُّعَاسا} [آل عمران: 154] بدلًا أو عطف بيان أشكل قولهم من وجهين:
أحدهما: أن النحاة نصوا على
…
والثاني: أن المعروف في لغة العرب
…
وإن أعربوا {نُّعَاسا} مفعولًا لأجله لزم الفصل بين الصفة والموصوف
…
فالأحسن حينئذ أن تكون هذه الجملة استئنافية"
(3)
، ويظهر هنا أنه يستبعد الأقوال التي فيها إشكال، ثم يأخذ بالقول الذي لا إشكال فيه، ومثاله أيضًا قوله:"وهذا الوجه أحسن للتخلص من تكلفة الإشكال في الوجه قبله"
(4)
.
(1)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 354).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335 – 336).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 435 – 437)
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 371).
الحادي عشر: الترجيح بالنظر إلى شهرة القول وكثرة من قال به:
وإنما جعلته أخيرًا، لأنه لم يكن المعتمد عنده في كل الأحوال، بل كانت الحجج والبراهين هي المُقدَّمة عنده، والذي يظهر أنه يلجأ إلى الترجيح بالكثرة حين لا تكون الحجج والبراهين ظاهرة، ومثاله قوله في كلمة (كأيِّن)؛ قال: "واختلف الناس فيها؛ هل هي مركبة أم بسيطة، والمشهور أنها مركبة من كاف التشبيه ومن (أيّ)
…
" فذكر القول المشهور كأنه يقتصر عليه، ثم أطنب في تفصيله وذِكْرِ الأقوال فيه، ولم يعُد إلى القول الآخر إلا بعد عدة صفحات ليبيِّن ضعفه وعيبه فقال: "واختار بعضهم كونها بسيطة، ولا شك أنه أروَح، إلا أن فيه فواتًا لتشحيذ الذهن وتمرينه الذي قصده العلماء رحمهم الله"
(1)
.
وفي مسألةٍ أخرى أشار إلى قوة القول الذي يرجحه عند إيراده بأنه قول أكثر النحويين والمفسرين
(2)
.
وربما خالف القولَ المشهور ورجَّح غيره إذا ظهرت له قرينةٌ أقوى، وذلك عند قوله:{إِن يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، قال رحمه الله: "واختلف الناس في مُتعلَّق النصر والخذلان؛ ما هو؟
فأكثر المفسرين على أن ذلك النصر بالحجج القاهرة، وبالعاقبة في الآخرة
…
وذهب آخرون إلى أن ذلك فيما يتعلق بلقاء العدو، وعند المكافحة في ملاحم القتال ونِزال الأبطال، وهو الظاهر من السياق والسباق"
(3)
.
فيظهر هنا أنه يُقدِّم ما دل عليه السياق على شهرة القول وكثرة مَنْ قال به.
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 374 – 380).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 124 - 127).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 131).
المبحث الرابع: قواعد الترجيح عند السمين الحلبي
قواعد الترجيح عند المفسرين هي ضوابط وأمورٌ أغلبية يُتوصَّل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في التفسير، فالغاية من هذه القواعد هي معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله
(1)
.
وحين نذكر قواعد الترجيح عند أحدٍ من المفسرين فإننا نعرف بها أصح الأقوال عنده وأولاها بالقبول، فالذي يَحسُن عند إلزام أحد المفسرين بقاعدةٍ من قواعد الترجيح أمران:
• الأول: أن تكون القاعدة منضبطةً لا تختلف الأنظار في تطبيقها، وذلك لأجل أن ينضبط العمل بها، ويصحَّ الرجوعُ إليها، أما إذا كانت القاعدة مطلقةً مرسلةً لا يمكن ضبطها وفق منهج المفسر، فإنه قد يُغلَط عليه من خلالها.
• الثاني: أن تكون القاعدة هي الغالب في تصرُّفه عند محل ورودها، وإلا لم تكن قاعدةً عنده، لأن القاعدة حكمها أغلبي، فإذا لم يغلب عليه استعمالها عند محل ورودها فليست قاعدةً عنده.
وبناءً عليه، فقد ظهرت لي بعض قواعد الترجيح التي التزم بها السمين الحلبي، وهي القواعد الآتية:
القاعدة الأولى: إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى
(2)
.
صرَّح السمين الحلبي بهذه القاعدة عند قوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 170 - 171]، قال في الآية الثانية: "اختلف الناس في هذه الجملة هل هي تأكيديَّة أم تأسيسيَّة؟ فذهب الزمخشري وابن عطية إلى الأول
…
وقيل إنها للتأسيس
…
ويؤيد هذا الوجه: أنه إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى"
(3)
.
(1)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 39 - 40).
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 473 - 478).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 239 - 240)، وكذلك ذكرها في الدر المصون (6/ 437)، وفي موضعٍ آخر (4/ 692) طبَّقها في الإعراب بين الحال المؤسسة والمؤكدة.
وهو بهذا لا ينفي التأكيدَ مطلقًا ويتكلَّفُ التأويلات لأجل إثبات التأسيس ونفي التأكيد، بل إذا كان الموطن لا يحتمل إلا التأكيد أثبتَه ونفى الأقوالَ البعيدة في ادِّعاء التأسيس، ففي قوله تعالى:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 143] أثبتَ أن جملة {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حالٌ مؤكِّدة، ثم قال:"وقال أبو بكر الأنباري: يقال إن معنى {رَأَيْتُمُوهُ}: قابلتموه، {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذَكَر النظرَ بعد الرؤية؛ حين اختلف معناهما، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى رؤية العين. فعلى ما ذكره تكون الجملة في موضع الحال، لكنها حال مبيِّنَة لا مؤكِّدة، وهو حسنٌ لو لم نَقُل إن اللغة لا تساعد على كون الرؤية تكون بمعنى المقابلة والمواجهة"
(1)
، فهو يحسِّن أن تكون الحال للتأسيس والتبيين، وهو الأصل كما ذكر، لكنه لم يقبل ذلك هنا لما فيه من التكلُّف.
القاعدة الثانية: "حمل ألفاظ الوحي على التباين أرجح من حملها على الترادف"
(2)
.
هذه القاعدة تشبه سابقتها، فمن أثبت الترادف فإنه يشير إلى التأكيد غالبًا، والفرق بينهما أن السابقة جرى العملُ فيها بين الجُمل التي تكون في سياقٍ واحد، وإن لم يكن بينها تشابه في الألفاظ، وهذه القاعدة بين الألفاظ التي بينها تشابه، وإن كانت في سياقات متباعدة، والذي دل على هذا التفريق هو ما ذكره السمين الحلبي تبعًا لشيخه أبي حيان في استعمال هذه القاعدة بين آيتين متشابهتين في سياقين مختلفين: الأولى قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، والثانية في سورة الإسراء:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] حيث ذَكَر معنًى لطيفًا في الفرق بينهما ثم قال: "وإفادةُ معنًى جديدٍ أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنًى واحدٍ للتأكيد"
(3)
، ففي هذا المثال لا يُتصوَّر أن الأمر يدور بين التأسيس والتأكيد، لكن يمكن أن يقال بالترادف وأن الآيتين بمعنًى واحد يستفاد منه
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349 - 351).
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 481 – 494).
(3)
ينظر في الدر المصون (5/ 219)، وفي البحر المحيط لأبي حيان (4/ 687).
التأكيد، وهو ما نفاه السمين الحلبي وأثبت معنًى زائدًا يدل على التباين بين دلالة الألفاظ في الآيتين.
ومن أمثلة هذه القاعدة أيضًا ما ذكره عند قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فإنه فرَّق بين الفظاظة والغلظة ثم قال:"ومن هذا يخرج جوابٌ عن سؤال، وهو: ما الحكمة في الجمع بين الفظاظة والغِلظة وهما بمعنى؟ فيُجاب بما قدَّمناه من المغايرة، وهو أحسن مِنْ قولِ مَنْ قال إنه جُمع بينهما تأكيدًا"
(1)
.
وكما سبق، فإنه لا ينفي التأكيد مطلقًا ولا ينفي الترادف مطلقًا، بل إذا كان الموطن مما يظهر به جمال التأكيد وبلاغته فإنه يثبته ويقول بالترادف أو التقارب، كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193]، حيث ذَكَر مَنْ فرَّق بين الدعوتين، ثم عقَّب بأن فيه نظرًا، وأن السياق يدل على أن ذلك من باب التأكيد والإلحاح في الدعاء، وقال في إثبات ذلك:"ألا ترى أن الغفران والتكفير متقاربان أو مترادفان، وكذلك الذنوب والسيئات"
(2)
.
ومن هذه القاعدة وسابقتها يتبيَّن أن السمين الحلبي رحمه الله غالبًا ما يستبعد التأكيد في المواضع التي لا يظهر فيها جمال التأكيد وبلاغته.
القاعدة الثالثة: إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى.
صرَّح السمين الحلبي بهذه القاعدة في الدر المصون عند قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] فقال: "في {هُنَالِكَ} وجهان؛ الظاهرُ بقاؤه على أصله من دلالته على ظرف المكان
…
وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة
…
وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى"
(3)
.
ومحل هذه القاعدة إذا استقام المعنى ولم تكن حاجةٌ إلى صرف الشيء عن بابه وموضوعه
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 113).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 410 - 412).
(3)
الدر المصون (6/ 192 – 193)، وينظر كذلك:(2/ 455 - 456)، (2/ 287 - 288)، (7/ 284).
الأصلي، كما نبَّه عليه في أكثر من موضع
(1)
، فكل شيء يمكن أن يستقيم معناه عند إبقائه على بابه الأصلي فهو أولى عنده، ولذلك تراه يعرِّض كثيرًا بمعنى هذه القاعدة هنا في القول الوجيز عند سرده للأقوال في المسألة، كما جاء في قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190]؛ قال: "و {خَلْقِ} يجوز أن يكون مصدرًا على حاله
…
ويجوز أن يراد به المفعول
…
أي: إن في مخلوقهما"
(2)
، وفي قوله تعالى:{وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]، قال:"و {خَيْرٌ} على هذا خبرُ المبتدأ، وهي باقيةٌ على بابها من التفضيل"
(3)
.
وقال في مسألة أخرى: "ففي (لا) وجهان: أحدهما: أنها على بابها من كونها نافيةً غير مزيدة
…
الوجه الثاني من وجهي (لا): أنها مزيدة "
(4)
، وقال في مسألة أخرى:"والاستفهام على هذا على بابه من الاستخبار، وقيل إنه بمعنى النفي"
(5)
.
وقد وافق ترجيحه هذه القاعدة في أكثر من مسألة وإن لم يذكرها بلفظها
(6)
.
القاعدة الرابعة: التضمين في الأفعال أحسن منه في الحروف.
هذه القاعدة ذكرها السمين الحلبي في الدر المصون عند قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} [الأعراف: 63]، فقال: "وقوله {عَلَى رَجُلٍ} يجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: على لسان رجل.
وقيل (على) بمعنى (مع)؛ أي: مع رجل. فلا حذف.
وقيل: لا حاجة إلى حذفٍ ولا إلى تضمين حرف، لأن المعنى: أُنزل إليكم ذِكْرٌ على
(1)
ينظر في الدر المصون (3/ 204)، (4/ 402)، (6/ 226).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 375).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 105).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 429 – 430).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 443 - 444).
(6)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335 – 336)، (ص: 349 - 351)، (ص: 456 - 457)، وسيأتي بيان ذلك.
رجلٍ، وهذا أولى، لأن التضمين في الأفعال أحسن منه في الحروف، لقوَّتها وضعف الحروف"
(1)
، فمَنشأُ هذه القاعدة هو قوة الأفعال وضعف الحروف.
وعبَّر رحمه الله عن هذه القاعدة في أكثر من موضع بأن التجوُّز في الأفعال أولى من التجوُّز في الحروف، وذكر أن هذا هو مذهب البصريين
(2)
.
وهو بهذا لا يمنع التضمين في الحرف، بل أثبت ذلك وجوَّزه في بعض المواضع، خصوصًا إذا دلَّت قراءةٌ أخرى على ذلك
(3)
، لكن إذا كانت الجملة لا بد فيها من التجوُّز والتضمين، ودار الأمر بين تضمين الفعل وتضمين الحرف، فإنه يُرجِّح تضمين الفعل.
ولم يذكر السمين الحلبي هذه القاعدة هنا في القول الوجيز، لكنه عمل بمقتضاها، ففي أحد المسائل وافق ترجيحه هذه القاعدة مخالفًا بذلك جمهور المفسرين
(4)
.
القاعدة الخامسة: "توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها"
(5)
.
عمل السمين الحلبي بهذه القاعدة وأشار إلى معناها في أكثر من موضعٍ في الدر المصون، ففي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] قال: "قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} في هذه الضمائر أقوال، أحدها: أنها كلها عائدة على (كل) أي: كلٌّ قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها. وهذا أولى لتوافق الضمائر"
(6)
.
وفي قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] قال: "الضمائر الثلاثة؛ أعني التي في قوله
(1)
الدر المصون (5/ 357).
(2)
ينظر في الدر المصون (2/ 29)، (2/ 287 - 288)، (10/ 445).
(3)
ينظر في الدر المصون (9/ 269)، (5/ 376).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 412)، وسيأتي بيانه.
(5)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 613 – 620).
(6)
الدر المصون (8/ 418 – 419).
{مِنْ حِسَابِهِم} و {عَلَيْهِم} و {فَتَطْرُدَهُمْ} الظاهرُ عودها على نوع واحد وهم الذين يدعون ربهم"
(1)
.
ولم يذكر السمين الحلبي هذه القاعدة هنا في القول الوجيز، لكنه عمل بمقتضاها، ففي أحد المسائل وافق ترجيحه هذه القاعدة
(2)
.
(1)
الدر المصون (4/ 644 – 645)، وينظر كذلك:(7/ 286، 584، 640)، (9/ 239)، (10/ 617).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 176 - 177)، وسيأتي بيانه.
المبحث الخامس: ما تميز به السمين الحلبي في الترجيح والتضعيف ومناقشة الأقوال
للسمين الحلبي طريقةٌ حسنةٌ متميزةٌ في مناقشة الأقوال والموازنة بينها، وبيانِ وجوهِ القوة والضعف فيها، مما جعل لدراسة ترجيحاته فضلًا يميِّزها عن دراسة ترجيحات غيره من المفسرين، وهذه الطريقة تتلخص في النقاط الآتية:
1) إجلاله لأقوال السلف في التفسير، حتى إنه يترك الظاهر عنده في فهم الآية لأجل قولهم
(1)
.
2) حرصه على موافقة أهل العلم في ترجيحاته، مِنْ غير أن يشذ بقولٍ يخالف أقوالهم، ولذلك يحتفي بهم في ترجيحه، ويذكر مَنْ قال مِنْ أهل العلم بالقول الذي اختاره
(2)
.
3) توضيحه أن بعض الفوائد المستنبطة مِنْ القول المرجوح لا تخالف ترجيح القول الراجح
(3)
.
4) أنه يوضح ما قد يُشكِل في فهم القول الذي يرجِّحه
(4)
.
5) أنه يرد على من استدل بالقول الراجح على معنًى باطل
(5)
.
6) إنصافه مع الأقوال المرجوحة عنده، وهذا يظهر في أمور:
• أنه يحكي الاعتراض كاملًا على القول الذي يرجحه، كأنه هو المعترض، ثم يجيب عنه
(6)
.
• بيانه للأوجه التي قد يتقوى بها القول المرجوح، وربما استرسل في ذلك
(7)
.
• أنه يذكر القول الراجح، ثم يشير إلى الخلاف في جواز القول المرجوح، ويبيِّن أن الصحيح جوازه
(8)
.
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 397 - 398).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349 - 351)، والقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 176 - 177).
(3)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 351).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 395 - 396).
(5)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 399 - 402).
(6)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 388 - 390)، (ص: 429 - 430).
(7)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ) تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 177، 278، 441).
(8)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349).
• أنه ينقل عن أهل العلم في تفسير القول المرجوح ليبيِّن معناه لمن لم يتبيَّن له
(1)
.
• أنه يثني على القول المرجوح إن كان مأخذه حسنًا مع تبيينه للقول الراجح
(2)
.
• أنه يبين أحكام القول المرجوح إن كان جائزًا، ويذكر الخلاف في ذلك
(3)
.
7) أنه لا ينقل القول الذي ينكره إلا ويُعقِّب ببيان ضعفه، بل ربما استدرك على شيخه أبي حيان أنه ذكر القول الذي يظهر ضعفه من غير أن يُعقِّب عليه
(4)
.
8) إيراد الإشكالات على الأقوال، ثم الإجابة عنها أو تضعيف القول بسببها
(5)
.
9) تحرير محل النزاع في المسألة
(6)
.
(1)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 442).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 351)، والقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 239).
(3)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 381 - 383).
(4)
ينظر في منهج السمين الحلبي في التفسير للدكتور عيسى بن ناصر الدريبي (ص: 133 - 134).
(5)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 443 - 444)، والقول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 171 - 172).
(6)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 373 - 374).
الفصل الثاني
دراسة ترجيحات السمين الحلبي في كتابه القول الوجيز من الآية (138) من سورة آل عمران إلى نهاية السورة
وفيه سبعة مباحث:
• المبحث الأول: ترجيحات السمين الحلبي من آية (138) إلى آية (148).
• المبحث الثاني: ترجيحات السمين الحلبي من آية (149) إلى آية (155).
• المبحث الثالث: ترجيحات السمين الحلبي من آية (156) إلى آية (163).
• المبحث الرابع: ترجيحات السمين الحلبي من آية (164) إلى آية (175).
• المبحث الخامس: ترجيحات السمين الحلبي من آية (176) إلى آية (189).
• المبحث السادس: ترجيحات السمين الحلبي من آية (190) إلى آية (195).
• المبحث السابع: ترجيحات السمين الحلبي من آية (196) إلى آخر السورة.
المبحث الأول: ترجيحات السمين الحلبي من آية (138) إلى آية (148)
وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى: تعدي الفعل في قول الله تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}
قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]
•
أصل الخلاف في المسألة:
فعلُ (عَلِم) في اللغة له حالان: إما أن يتعدَّى إلى مفعولين فيكون من باب (ظنَّ وأخواتها)، كقولك: علمتُ الرجلَ صادقًا، وإما أن يتعدَّى إلى مفعولٍ واحد، كقولك: علمتُ الطريق.
والخلاف هنا في الفعل المذكور في قوله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} ؛ هل هو متعدٍ إلى مفعولٍ واحدٍ أم إلى مفعولين؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وجُوز في (علم) أن تكون متعدية لواحد، فقال الشيخ:«و (عَلِم) ظاهرهُ التعدي إلى واحد، فتكون بمعنى (عَرَف)»
(1)
انتهى.
وهذا ينبغي ألا يجوز، لأنه العرفان؛ لا يجوز إسناده إلى الله تعالى لما بيَّناه غير مرة، فلا يقال: عرف الله، والمانع إنما هو لأمرٍ معنوي لا لفظي، فلا فرق بين أن يُنطق بلفظ المعرفة أو بلفظ العلم الذي بمعناها، وسيأتي إن شاء الله مثل هذا البحث في قوله تعالى:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
والظاهر أنها المتعدية لاثنين؛ حُذف ثانيهما للعلم به، والتقدير: وليعلم الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم، يعني أن الحكمة في هذه المداولة أن يصبر الذين آمنوا مميزين عمَّن يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان"
(2)
.
(1)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 354).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 335 - 336).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
رجَّح السمين الحلبي هنا أن (عَلِم) في قوله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} أنها متعدية إلى مفعولين اثنين، وهذا الترجيح يظهر من وجوه:
الأول: التعبير بالظاهر، فقال:(والظاهر أنها المتعدية لاثنين)، والظاهر عنده مقدَّم على غيره.
الثاني: ردُّ القول الآخر، حيث قال:(وهذا ينبغي ألا يجوز).
الثالث: أنه أحال في تفصيل المسألة إلى البحث المذكور في قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ، وهذه الآية ضمن الأجزاء المفقودة في تحقيق كتاب القول الوجيز في الجامعة الإسلامية، ورجعت إلى الدر المصون فوجدته يقرر أن الواجب أن تكون (عَلِم) متعديةً إلى مفعولين
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
قليلٌ من أهل العلم من أشار تعدي الفعل في قوله تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، وهؤلاء القليل ذكروا أن تعدي الفعل إلى مفعول واحد قولٌ محتمل، ولم يمنعوه كما منعه السمين الحلبي، ولم أقف على من رجَّح تعدي العلم إلى مفعولين لأجل العلة التي ذكرها السمين الحلبي؛ لا في هذه الآية ولا في نحوها من الآيات التي يكون فيها فعل (عَلِم) متعلقًا بالله جل وعلا
(2)
.
ويظهر أن القول الذي ذكره السمين الحلبي لا يختص بهذه الآية فقط، بل يأخذ به في كل آية ذُكر فيها فعل العلم مسندًا إلى الله عز وجل، ولذلك أحال تفصيل المسألة إلى قوله تعالى:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ، وقال في الدر المصون عن قوله {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}:"يجب أن يقال إنها المتعدية إلى اثنين، وأن ثانيهما محذوف"
(3)
.
(1)
ينظر في الدر المصون (5/ 630).
(2)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 12 - 13) وتفسير الراغب (3/ 878)، وتفسير الرازي (9/ 373).
(3)
الدر المصون (5/ 630).
وقد أطلق كثيرٌ من أهل العلم عند قوله تعالى {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} أن المراد بالعلم في الآية المعرفة، وأنه متعدٍ إلى مفعولٍ واحد فقط، ولم يخصصوا كما خصص السمين الحلبي بأن قوله {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} متعدٍ إلى اثنين، وأن قوله {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} متعدٍ إلى واحد
(1)
.
وقد ردَّ عليه صديق حسن خان في تخصيصه هذا فقال بعد أن نقل كلامه: "وهذا لا يَرِد، لأنه ليس في الآية إطلاق اسم العارف عليه، وإنما فيها إطلاق اسم العلم وإن كان بمعنى العرفان"
(2)
.
وقال الآلوسي عند هذه الآية: "وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر
…
وجُوِّز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف؛ أي: لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم، بل الله تعالى يعلمهم كذلك، وهو تكلف"
(3)
.
وفي قوله تعالى {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] قال: "وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يُتوقَف فيه، وإن وَهِم فيه مَنْ وهم، لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة، وقد فَسَّر العلم هنا بالمعرفة ابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو الشيخ
(4)
.
نعم؛ لا يمتنع حمله على معناه المتبادر، كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم، لكنه مُحوِجٍ إلى التقدير، وعدم التقدير أولى من التقدير"
(5)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
وضَّح أبو حيان دليل القول بتعدي فعل (عَلِم) إلى مفعول واحد فقط في الآية بأن هذا هو
(1)
ينظر في الكتاب لسيبويه (1/ 40)، ومعاني القرآن للأخفش (1/ 109)، والمقتضب للمبرد (3/ 189)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 148)، والتفسير البسيط للواحدي (2/ 633)، وتفسير الراغب (1/ 219)، والمفردات له كذلك (ص: 580)، وتفسير القرطبي (1/ 439).
(2)
فتح البيان في مقاصد القرآن (5/ 203 - 204).
(3)
روح المعاني (5/ 222).
(4)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/ 273)، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1870) عن الضحاك عن ابن عباس في قوله:{لا تعلمهم نحن نعلمهم} ، يقول:«نعرفهم» .
(5)
روح المعاني (6/ 11).
الظاهر من الآية، حيث قال:"و (يعلم) هنا ظاهره التعدي إلى واحد، فيكون كـ (عرف) "
(1)
.
فالآية فيها مفعول واحد فقط وهو: {الَّذِينَ آمَنُواْ} ، فالظاهر أنها لا تتعدى إلى مفعولين.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل السمين الحلبي على قوله بأنه هو الذي ينبغي في حق الله تعالى، فالعلة في ترجيحه لهذا القول بأن هناك ما يمنع من تجويز القول الآخر، كما قال:(وهذا ينبغي ألا يجوز، لأنه العرفان؛ لا يجوز إسناده إلى الله تعالى).
وذكر أن قوله هو الظاهر، ولعل هذا من وجه المقابلة للقول الذي قبله، فإن الظاهر عنده كما تقدَّم هو الذي لا يحتاج إلى تقدير، والقول بأن فعل (عَلِم) يتعدى إلى مفعولين يحتاج إلى تقدير المفعول الثاني.
وأما تفصيل العلة التي لأجلها منع السمين الحلبي القول الأول فقد أشار إليها في الدر المصون بقوله: "لِما تقدَّم لك من الفرق بين العلم والمعرفة، منها: أن المعرفة تستدعي سبق جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النِّسَب، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز أن يطلق ذلك (أعني الوصفية بالمعرفة) على الله تعالى"
(2)
.
وجاء تفصيل الفرق بين العلم والمعرفة في عمدة الحفاظ، إذ نقل السمين الحلبي عن الراغب الأصفهاني قولَه:"يقال: الله يعلم كذا، ولا يقال: يعرف كذا، لمَّا كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر"
(3)
، ثم زاد السمين الحلبي في تفصيل المسألة وعاب على من ذكر هذا المعنى ولم يعمل به في الإعراب فقال: "وقد فرَّق قوم بين العلم والعرفان بغير ذلك، فقال بعضهم: المعرفة إدراكُ الشيء دون ما هو عليه، ومن ثم تعدت لواحد، والعلم معرفته وما هو عليه، ومن ثم تعدى لاثنين، فمن ثم يُقال:(عَلِم الله) دون (عرف).
وقال آخرون: المعرفة تستدعي جهلًا بالشيء المعروف، بخلاف العلم فإنه لا يستدعي ذلك، ولذلك (علم الله) دون (عرف الله)، وقد وقع في عبارة بعض العلماء (عرف الله)، ومنهم
(1)
البحر المحيط (3/ 354).
(2)
الدر المصون (5/ 630).
(3)
المفردات (ص: 561).
الزمخشري في كشافه، ثم إنهم يقولون:(عَلِم) يتعدى لمفعول واحد إذا كانت بمعنى (عرف)، ويجعلون من ذلك:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ، وحينئذٍ فكيف يصح ذلك؛ إذ المحذور أمرٌ معنوي لا لفظي فإنه متى أريد بالعلم العرفان كانا بمعنى واحد امتناعًا وجوازًا، فيجب أن يقال:{اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} متعدٍ لاثنين، حذف ثانيهما، وأما {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} فمتعد لواحد"
(1)
.
فيتلخص من هذا أن العلة بأن هذا القول هو المتعيِّن، لأنه يحصل به تنزيه الله تعالى، وأما القول الآخر فإنه يتضمن وصف الله تعالى بالمعرفة، وهذا لا يجوز، لأن المعرفة قاصرة لا تليق بالله تعالى، وصفاتُ الله كاملة، وأيضًا فإنه يلزم منها سبق الجهل بالشيء الذي يُتعرَّف عليه، بخلاف العلم فإنه لا يلزم منه سبق الجهل.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما ما ذكره أبو حيان من أن القول بتعدي الفعل إلى مفعول واحد هو الظاهر فهذا ظاهرٌ في الآية، لأن المفعول الثاني لم يُذكر وإثباته يحتاج إلى تقدير، لكن يُنظر فيما اعترض به السمين الحلبي على هذا القول من أنه لا يليق بالله جل وعلا، وينظر أيضًا فيما أشار إليه من أن الأصل في فعل (عَلِم) أنه يتعدى إلى مفعولين.
ويظهر أن الأمر الذي جعل السمين الحلبي يلتزم ترجيح قوله ويمنع من القول الآخر هو ما ذكره أهل اللغة من أن العلم يكون بمعنى المعرفة إذا تعدَّى إلى مفعول واحد، فجعل معنى العلم في هذه الحالة مطابقًا تمامًا لمعنى المعرفة، ولا يظهر أن هذا هو مقصود أهل اللغة، بل الذي يظهر أنهم أرادوا التشبيه والتقريب، فإن الأصل في فعل (عَلِم) أنه يتعدى إلى مفعولين، فلما تعدى إلى مفعول واحد صار مشابهًا لفعل (عرف) وأخذ شيئًا من معناه، فلذلك ذكروا أنه بمعنى (عرف) لأجل أن يتبين الإعراب فيه ويُعلَم أنه على خلاف الأصل، فيتعدى إلى مفعول واحد كما يتعدى فعل (عرف) إلى مفعول واحد.
وبعيد أن يكون مرادهم أن معنى العلم في تلك الحال يكون مرادفًا لمعنى المعرفة، "فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادرٌ وإما معدوم، وقَلَّ أن يُعبَّر عن لفظٍ
(1)
عمدة الحفاظ (مادة: عرف): (3/ 60).
واحدٍ بلفظٍ واحدٍ يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه"
(1)
، فيبعد أن يكون معنى (عَلِم) التي تتعدى إلى مفعول واحد مطابقًا لمعنى (عرف) في اللغة، وأبعد منه أن يكون ذلك في القرآن.
ولأجل هذا ردَّ صديق حسن خان على السمين الحلبي، وبيَّن أنه ليس في الآية إطلاق اسم العارف على الله تعالى، وإنما فيها إطلاق اسم العلم وإن كان بمعنى العرفان، كما تقدَّم.
وأيضًا فقد ذكر السيوطي وغيره هذا المعنى عندما تطرَّق إلى ما يُذكر عند الإعراب من أن العلم قد يكون بمعنى المعرفة، فذكر أن الله تعالى لا يوصف بالمعرفة لشيوعها فيما يكون مسبوقًا بالجهل، ثم قال:"وليس العلم الذي بمعنى المعرفة كذلك، إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين"
(2)
.
بقي أن يُشار إلى القدر المشترك بين العلم والمعرفة اللذان يُكتفى فيهما بمفعولٍ واحد، وهل هذا القدر المشترك يتضمن معنًى لا يليق بالله عز وجل. فيقال: إن الأصل في فعل (عَلِم) أنه يتعدى إلى مفعولين، وهو في هذه الحالة باقٍ على معناه الأصلي، فالمعنى الذي أخرجه عن هذا الأصل وجعله مشابهًا لفعل (عرف) في التعدي إلى مفعول واحد هو القدر المشترك بينهما، وهو ما أشار إليه الواحدي في تفسير الآية التي نحن فيها، فقال: "والعلمُ إذا لم يتعلق بالذات اقتضى معلومين، كما تقول:(علمت زيدًا عاقلًا وجوادا)، فلا تقول:(علمت زيدًا) فقط، إلا أن تريد به عرفتُه، وعَلِمتُ مَنْ هو.
والمفعول الثاني ههنا محذوف، والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم
…
ويحتمل أن يكون العلم ههنا بمعنى معرفة الذات، والتأويل: وليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم؛ أي: ليعرفهم بأعيانهم"
(3)
، فالذي يظهر أن المعنى المشترك بين العلم والمعرفة اللذان يكتفى فيهما بمفعول واحد هو إرادة الأعيان والذوات، وهو المعنى الفارق بين (عَلِم) التي تتعدى إلى مفعول واحد و (عَلِم) التي تتعدى إلى مفعولين، كما أشار إلى ذلك أبو حيان عند قوله تعالى:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} [الرعد: 8]، فقال: "و {يَعْلَمُ}
(1)
ينظر في كتاب مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (ص: 17).
(2)
ينظر في تفسير البيضاوي (1/ 111) وحاشية السيوطي عليه (2/ 337)، وينظر أيضًا في السراج المنير للشربيني (1/ 100)، وفي روح البيان لإسماعيل حقي (1/ 249).
(3)
التفسير البسيط (6/ 12 - 13).
هنا متعديةٌ إلى واحد، لأنه لا يراد هنا النسبة، إنما المراد تعلُّق العلم بالمفردات"
(1)
؛ أي: الأعيان والذوات، فالأصل في (عَلِم) أن يُراد بها إفادة النسبة بين شيئين، فلذلك تتعدى إلى مفعولين، وتفيد نسبة أحدهما إلى الآخر واتصافه به، فقولك (علمتُ زيدًا قائمًا) يفيد اتصاف زيد بالقيام، فإذا لم يكن المراد إفادة النسبة بين شيئين وكان المراد معرفة ذات الشيء وعينه فإن (عَلِم) تتعدى إلى مفعول واحد
(2)
.
ويظهر من كلام السمين الحلبي أن هذا المعنى المشترك بين العلم والمعرفة اللذان يكتفى فيهما بمفعول واحد (وهو إرادة الأعيان والذوات) لا يليق بالله عز وجل، فإنه أشار إليه في سياق الاعتراض على القول الآخر كما سبق ذكره
(3)
، وقد أشار إلى هذا المعنى من قبله السهيلي، وعلل ذلك بأن علم الله عز وجل واحد لا يتغير بتغير المعلومات، فيتعلق بالأشياء كلها تعلُّقا واحدًا، ولا يتغير فيتعلق بعينٍ معينة، ويتعلق بعينٍ أخرى، بل يعلم الأشياء كلها بعلم واحد
(4)
، وقد ردَّ عليه ابن القيم في هذا وذكر أن أهل التحقيق على خلاف هذا القول، وأن المعلومات متغايرة، وأن لكل معلومٍ علم يخصُّه
(5)
.
فالذي يظهر أن الاعتراض الذي ذكره السمين الحلبي لا يَرِد في هذه المسألة، وإنما يَرِد إذا وُصف الله بأنه عارف (بلفظ المعرفة وليس بلفظ العلم)، فهنا يقال: لا يجوز أن يوصف الله بالمعرفة
(6)
؛ هذا من حيث الوصف، أما الإخبار عن الله بأنه يعرف فهذا أوسع؛ إذ يدخل في باب الإخبار عن الله ما لا يدخل في باب الأسماء والصفات
(7)
، ولذلك روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في بعض الذي أصيبوا في الغزو ولم يُعرفوا:«لكن الله يعرفهم»
(8)
.
ويمكن أن يتقوَّى القول الذي ذكره السمين الحلبي باعتبار الأصل في فعل (عَلِم) أنه يتعدى إلى اثنين، كما أشار إليه في قوله:(أنها على بابها فتتعدى لاثنين)، وهذا مبني على القاعدة
(1)
البحر المحيط (6/ 356).
(2)
ينظر في منثور الفوائد لأبي البركات الأنباري (ص: 44)، وتوضيح المقاصد والمسالك للمرادي (1/ 564).
(3)
ينظر في الدر المصون (5/ 630).
(4)
ينظر في نتائج الفكر في النحو (ص: 261).
(5)
ينظر في بدائع الفوائد (2/ 62).
(6)
ينظر في شرح ألفية ابن مالك للشيخ العثيمين (2/ 159).
(7)
ينظر في بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 161).
(8)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 208/ 19356)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 79/ 17929).
الترجيحية عنده: (إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى).
وهذا واردٌ إذا كان المراد بالعلم النسبة، أما إذا كان المراد بالعلم الأعيان والذوات فيتعين الاكتفاء بمفعول واحد، وأيضًا فإنه إذا كان في الآية مفعول واحد يستقيم به المعنى فالأولى أن يُكتفى به، لأن إثبات المفعول الثاني يحتاج إلى تقدير، وعدمُ التقدير أولى، كما ذكر الآلوسي.
فالذي يظهر والله أعلم أن هذا هو ضابط الترجيح في هذه الآية وفي غيرها؛ أن العلم إذا أُريد به الأعيان والذوات فإنه يتعدى إلى مفعول واحد، وإذا أُريد به النسبة تعدَّى إلى مفعولين.
5) النتيجة:
الذي يظهر في قوله تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} أن فعل (يعلم) يتعدى إلى مفعول واحد، لأن المراد معرفة أعيان الذين آمنوا، فهذا العلم الذي يُراد من الابتلاء الذي أشير إليه فيه الآية من قوله {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، ولا يراد من الابتلاء العلمُ بنسبة شيءٍ إلى الذين آمنوا، بل المراد معرفة أعيانهم وإكرامهم على صبرهم وثباتهم.
وأيضًا، فإن المذكور في الآية هو مفعول واحد، فلا حاجة إلى تقدير المفعول الثاني، وبعيدٌ أن يكون في الآية مفعولان وأن يكون التقدير:(وليعلم الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم)، لما فيه من التكلف في تقدير المفعول الثاني من غير مُوجِب، لأن معرفة الشيء بعينه تقتضي تمييزه عما سواه.
كما أنه قد جاء التصريح بعد ذلك في أن المراد هو معرفة الأعيان، وذلك في قوله:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ 166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} [آل عمران: 166 - 167]، فذكر المؤمنين بأعيانهم، وذكر المنافقين بأعيانهم.
فالفعل في الآية يتعدى إلى مفعول واحد، والله أعلم.
المسألة الثانية: إعراب الفعل في قول الله تعالى: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف هنا في الفعل في قوله {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} هل هو منصوب أو مجزوم؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقرأ العامة: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} بفتح الميم
(1)
، وفيها تخريجان: أظهرهما أنه منصوب، ثم في نصبه مذهبان:
الأول (وهو مذهب البصريين): أنه منصوب بإضمار (أن) بعد الواو التي بمعنى (مع)، كهي في قولك: لا تأكلِ السمك وتشربَ اللبن؛ أي: لا تجمع بينهما.
والثاني (وهو مذهب الكوفيين): أنه منصوب بنفس الواو التي يسمُّونها (واو الصرف)، ويفيد ذلك أن الفعل كان من حقه أن يُعرَب بإعراب ما قبله، فلما جاءت الواو صرفته عن ذلك إلى النصب.
والتخريج الثاني أنه مجزوم عطفًا على الفعل قبله، وإنما فُتح لأحد وجهين:
إما لإتباع الميم إلى اللام في حركتها، كما قيل ذلك في أحد تخريجي:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ، كما قررناه
(2)
.
وإما لأنها حركة التقاء الساكنين، وذلك أنه لما احتيج إلى تحريكه كان تحريكه بأخف الحركات أولى"
(3)
.
(1)
هي قراءة السبعة، وقد رويت قراءة شاذة بكسر الميم وأخرى بضمها، ينظر في تحفة الأقران للرعيني (ص: 164).
(2)
وذكر في ذلك التخريج: "أن الفتحة فتحةُ إتباع؛ أتبع الميم اللام قبلها كقراءة (الحمدُ لُله) بضم لام الجر، مع كونها من كلمتين، فهذا أولى، وكقولهم: (منحدُرٌ) بضم الدال، و (مِنتِن) بكسر الميم، و (مِغِيرة) إلا أن هذا فيه إتباع الأول للثاني". القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 344).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 346).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الفعل منصوب، فقد صرَّح بلفظ الترجيح في قوله:(أظهرهما أنه منصوب)
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
اتفق كثير من أهل العلم أن الفعل في الآية منصوب، وإن كانوا اختلفوا في سبب نصبه على المذهبين اللذين ذكرهما السمين الحلبي، فمنهم من اختار أنه منصوب بـ (أن) مضمرة بعد الواو
(2)
، ومن أهل العلم من اختار أنه منصوب على الصرف
(3)
.
ومعلومٌ عن السمين الحلبي أنه يرجح المذهب البصري في هذا، وهو النصب بـ (أن) مضمرة
(4)
، لكنه لم يعين أحد المذهبين هنا لأن التقرير في ذلك يكون في كتب النحو كما أشار إلى ذلك في الدر المصون
(5)
، وهذه طريقته في بعض المواضع، أنه إذا كان الحكم الإعرابي مُتفقًا عليه وكان الخلاف في توجيهه فإنه يذكر الحكم المتفق عليه، ثم يشير إلى المذاهب في توجيهه ولا يذكر أدلتها ولا يرجح بينها
(6)
.
وأما القول بأن الفعل مجزوم فقد حكاه بعض المفسرين على أنه محتمل من غير ترجيح له
(7)
.
(1)
وكذلك رجَّح في الدر المصون (3/ 411) بأن "أشهرهما أن الفعل منصوب" وأنه "هو الوجه".
(2)
ينظر في إعراب القرآن للنحاس (1/ 182)، ومشكل إعراب القرآن لمكي (1/ 175)، والكشاف للزمخشري (1/ 421)، وتفسير البيضاوي (2/ 40)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 61).
(3)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 235)، وتفسير الطبري (7/ 247)، وإيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر الأنباري (1/ 139)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 31)، وتفسير الثعلبي (8/ 321)، وتفسير الراغب (3/ 886).
(4)
ينظر في العقد النضيد في شرح القصيد للسمين الحلبي، تحقيق: عائض بن سعيد القرني (ص: 158 - 159).
(5)
الدر المصون (3/ 411)، وينظر في تفصيل المذهبين في الإنصاف لأبي البركات الأنباري (2/ 452 - 453)، والفصول المفيدة في الواو المزيدة للعلائي (ص: 217 - 218).
(6)
ينظر في الدر المصون (1/ 286)، وهي شبيهة بالمسألة التي نحن فيها، فأطلق القول فيها كذلك ثم قال:"وهكذا كلُّ ما يأتي مثلَ هذا"، وينظر أيضًا:(2/ 125)، (7/ 181، 406).
(7)
ينظر في التبيان لأبي البقاء (1/ 295)، وتفسير النسفي (1/ 296)، وتفسير أبي السعود (2/ 91).
ولم أقف على من اختار هذا القول إلا ما ذكره جامع العلوم الباقولي
(1)
في عدة مواضع من كتبه
(2)
، فإنه لم يستحسن النصب واستحسن الجزم، واعترض على القول بالنصب بأن الجزم هو اختيار القُرَّاء في مثل هذا، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، فثبتت القراءة بجزم {وَنَمْنَعْكُم} ، ولم تكن بالفتح إلا في قراءة شاذة
(3)
، واستشهد لقوله بأن الفعل مجزوم بقراءة الجزم بكسر الميم:(ويعلمِ الصابرين)؛ قال في توجيه قراءة فتح الميم: "والأئمة عدلوا عن الكسر إلى الفتح، لأنها أخف مع انفتاح ما قبله"، وقال:"فهذه فتحةٌ بمنزلة الكسرة"، واستشهد في إتباع الميم بما قبلها في الفتح بما روي من قراءة ابن عامر:(ثم يجعَلَه حطامًا)
(4)
؛ قال: "بفتح اللام تبعًا للعين".
وقد ضعَّف قوله أبو البركات الأنباري
(5)
، واعترض محيي الدين درويش على من قال بهذا القول، وذكر أنه لا يجوز حمل القرآن على الوجوه المرجوحة
(6)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
وهي بالنظر إلى أمرين:
الأول من حيث اللفظ، فالظاهر في لفظ (يعلم) أنه مفتوح الآخر، فينصرف أولَ ما ينصرف إلى النصب، ولهذا ذكر السمين الحلبي أن القول بالنصب أظهر.
الثاني من حيث المعنى، فإن الخطاب في الآية للمؤمنين الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء العتاب في الآية على أن الطمع في الجنة إنما ينبغي إذا اجتمع مع الجهاد
(1)
هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الضرير الأصفهاني (ت: 543 هـ)، إمامٌ في النحو والإعراب، له كتاب الاستدراك على أبي علي الفارسي، وكتاب في شرح اللُمع لابن جني، وكتاب كشف المشكلات في إعراب القرآن، وكتاب جواهر القرآن، ينظر في معجم الأدباء لياقوت الحموي (4/ 1736)، وهدية العارفين للباباني (1/ 697).
(2)
ينظر في جواهر القرآن (2/ 666 - 669)، (3/ 1555 - 1556، 1584)، وكشف المشكلات (1/ 257 - 258). والأقوال المذكورة عنه هنا مرتبة بحسب ترتيب هذه المواضع.
(3)
وهي قراءة ابن أبي عبلة، وينظر في مختصر ابن خالويه (ص: 36).
(4)
وهي قراءة أبي بشر، ينظر في الكامل للهُذلي (ص: 630).
(5)
ينظر في البيان في غريب إعراب القرآن (1/ 223).
(6)
ينظر في إعراب القرآن وبيانه (2/ 61)، وقد حكى القول بعبارة السمين الحلبي في الدر المصون (3/ 411) معترضًا على من قال به، وهذا الاعتراض لا يَرِد على السمين الحلبي لأنه رجَّح القول الآخر (هنا وفي الدر المصون).
الصبر، فالمراد التنبيه على الأمرين معًا، وهذا المعنى لا يكون إلا إذا أُريد النصب
(1)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
أنه قد رويت القراءة بكسر الميم (ويعلمِ الصابرين) عطفًا على قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ}
(2)
، فهذه القراءة تؤيد القول بالجزم هنا
(3)
.
ويشهد للقول بالجزم أيضًا القياس على ما ذكره جامع العلوم الباقولي بأنه ثبت الجزم في موضع آخر مثل هذه الآية، وهو قوله تعالى:{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141]، فاتفق القراء السبعة على جزم {وَنَمْنَعْكُم} ، ويقاس عليه هذه الآية في إثبات الجزم فيها
(4)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما حمل الفعل في الآية على النصب فهو الظاهر من اللفظ، لأنه مفتوح الآخر، ويبقى الأمر في توجيه النصب بحسب المذهبين المذكورين، لكن يجاب عن الاعتراض الذي ذكره الباقولي من أن النصب ليس هو اختيار القراء في مثل ذلك.
فالذي يظهر أن الاختيار ليس له مدخلٌ هنا، فالقراء لا يختارون في القراءات إلا بما ثبت لديهم بالأسانيد، ويجعلون الاختيار حينئذٍ مبنيًا على الأثبت والأضبط لا على موافقة وجه معين من وجوه الإعراب؛ قال أبو عمرو الداني:"وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل"
(5)
، فثبت بهذا أن المقدَّم عندهم هو رعاية الإسناد لا القياس على الحكم الإعرابي في آية أخرى.
ثم لو كانت القراءات في {ويعلم} بكسر الميم وفتحها كلها ثابتة عندهم وكان اختيار الجزم متفقًا عليه بينهم لمَا عدلوا عن الكسر إلى الفتح كما ذكر الباقولي، لأن الكسر أدلُّ على الجزم من الفتح، فإنه يلزم كل من أراد الجزم وفتح الميم أن يبين التوجيه في فتح الميم لئلا يُظن أن
(1)
ينظر في إبراز المعاني لأبي شامة (ص: 675)، وحاشية الصبان على شرح الأشموني (3/ 449).
(2)
وهي قراءة الحسن وغيره، ينظر في مختصر ابن خالويه (ص: 29)، والكامل للهذلي (ص: 518 - 519).
(3)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 91).
(4)
ينظر في كشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (1/ 257 - 258).
(5)
جامع البيان في القراءات السبع (2/ 860).
الفعل منصوب، ولو كان التوجيه الذي ذكره الباقولي في سبب عدول القراء عن الكسر معهودًا بينهم لكان مستفيضًا عندهم ولثبت له عدة شواهد، لكنه لم يذكر له شاهدًا إلا في قراءة شاذة رويت عن ابن عامر، وسيأتي الكلام عنها.
ومن هذا يتبين أن القول بالجزم في قوله {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وإن قلنا بصحة أدلته من الاستشهاد بقراءة الجزم والاستشهاد بطريقة القراء إلا أنه يَرِد عليه إشكالان:
الأول: أن التوجيهات المذكورة في فتح الميم (إما لأجل خفة الفتح، أو لأجل الإتباع) ضعيفةٌ في مقابل قوة القول بالنصب وشهرته بين أهل العلم، ففيه المذهبان المشهوران.
والثاني: أن التوجيهات المذكورة في فتح الميم لا تناسب المحل هنا، لأن الميم هنا في آخر الكلمة، وآخر الكلمة هنا هو علامة الإعراب، ففتح الميم يدل على النصب، ولو كانت التوجيهات سائغة في محل آخر لم تكن سائغة هنا لأن هذا يتعارض مع الإفصاح عن الكلام وبيان المعنى المراد، فاستعمال خفة الفتح أو الإتباع لا يناسب أن يكون في آخر الكلمة الذي هو محل الإعراب وبيان المعنى المراد.
وأيضًا، فإن الإعراب هو تغيير أواخر الكلِم، فلا يسوغ أن يلحقه تغييرٌ آخر بعده، لأنه إذا كان المراد الجزم هنا فإن الأصل في الميم أن تكون ساكنة، ثم إنها تحرَّكت بالكسر لأجل التقاء الساكنين بناء على الأصل في ذلك، ثم تحرَّكت بالفتح لأجل خفته أو لأجل الإتباع، فحصل منه توالي التغيير على محل الإعراب
(1)
.
وأما تغيير الحركة بالفتح لأجل التقاء الساكنين فهو خلاف الأصل، ولعله لأجل هذا اعترض محيي الدين درويش على من قال بالجزم وغلَّظ القولَ في ذلك
(2)
.
وأما ما استشهد به الباقولي من القراءة الشاذة التي رويت عن ابن عامر (ثم يجعَلَه حطامًا)، فمع أنها شاذة، فإن أهل العلم قد ضعفوها
(3)
، بل إن السمين الحلبي حملها على النصب كما هو ظاهر اللفظ، وذكر أن سبب ضعفها أنه لم يتقدم في الآية ناصب
(4)
، وقد ردَّ أبو البركات
(1)
ينظر في الكشف لمكي بن أبي طالب (1/ 242) فإنه ذكر الفرق بين حركة الإعراب وحركة البناء بأن حركة الإعراب تدل على معنى بخلاف حركة البناء غالبًا، وأن حركة الإعراب هي تغيير فلا يجوز أن يلحقها تغيير آخر.
(2)
ينظر في إعراب القرآن وبيانه (2/ 61).
(3)
ينظر في الكامل للهُذلي (ص: 630)، والبيان في غريب إعراب القرآن لأبي البركات الأنباري (2/ 323).
(4)
الدر المصون (9/ 421).
الأنباري على الباقولي في توجيهه لها بأن اللام فُتحت تبعًا للعين ثم قال: "وليس في توجيهها قولٌ مرضيٌّ جارٍ على القياس"
(1)
، وذكر في موضع آخر أن الإتباع إنما جاء في ألفاظ يسيرةٍ لا يُعتد بها ولا يُقاس عليها
(2)
.
وبمثل ما سبق يقال في الرد على من يستشهد بقراءة فتح الميم في نفس الآية من قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ، فقد قرئت بفتح الميم:(ولمَّا يعلمَ الله)
(3)
، وقد ذُكر فيها توجيهٌ آخر غير ما سبق، وهو أن أصل الكلمة (يعلمَن) على إرادة التأكيد بنون التوكيد الخفيفة، فحُذفت النون وبقيت حركة الفتح كما لو كان الفعل مؤكدًا بها
(4)
، وهذا مبني على جواز تأكيد المجزوم بـ (لم) وهو قليل جدًّا
(5)
.
وقد استبعد أهل العلم هذا الوجه وذكروا أنه لم يُذكر في قوله تعالى {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} بسبب بُعده ولإمكان الحمل على الوجه الصحيح الشائع
(6)
، فمثل هذه التوجيهات إنما يُلجأ إليها إذا ثبتت القراءة ولم توافق الحكم الإعرابي الظاهر منها، أما إذا وافقت القراءة وجهًا من الأوجه المعتبرة عند أهل العلم، فلا داعي أن تُصرف عنه إلى غيره.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن الفعل في قوله تعالى {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} منصوب، لأن هذا هو الظاهر اللفظ، ولأن القول بالجزم يحتاج إلى توجيهات متكلَّفة بخلاف القول بالنصب الذي هو ظاهر شائع لا يحتاج إلى توجيه.
وقد استشهد بعض العلم بهذه الآية في سياق الكلام عن النصب في مواطن أخرى فدلَّ
(1)
ينظر في البيان في غريب إعراب القرآن (2/ 323)، وقد ذكر أبو البقاء في توجيهها قولين على أنها منصوبة، وتبعه السمين الحلبي في بيانهما، ومع ذلك فقد رد عليهم مَنْ بعدهم؛ ينظر في التبيان (2/ 1110)، ثم الدر المصون (9/ 421)، ثم فتح القدير للشوكاني (4/ 526)، وروح المعاني للآلوسي (12/ 245 - 246).
(2)
ينظر في البيان في غريب إعراب القرآن (1/ 37).
(3)
وهي قراءة يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي؛ ينظر في شواذ القراءات للكرماني (ص: 120).
(4)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 420)، وتفسير البيضاوي (2/ 40)، والقول الوجيز للسمين الحلبي، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 344 - 345).
(5)
ينظر الدر المصون للسمين الحلبي (11/ 44).
(6)
ينظر في حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي (3/ 68)، وحاشية الشهاب عليه كذلك (3/ 66).
على ثبوتها في النصب عندهم
(1)
.
(1)
ينظر في الكتاب لسيبويه (3/ 44)، وإعراب القرآن للنحاس (4/ 58)، والحجة لابن خالويه (ص: 319)، والبديع لابن الأثير (1/ 603)، وشرح الكافية لابن مالك (3/ 1549)، والإيمان لابن تيمية (ص: 141)، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (4/ 529)، وشرح شذور الذهب لابن هشام (ص: 380).
المسألة الثالثة: تعدي الفعل في قول الله تعالى {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}
قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 143]
•
أصل الخلاف في المسألة:
هي شبيهة بالمسألة الأولى التي سبقت، فإن فعل (رأى) في اللغة له حالان: إما أن يتعدَّى إلى مفعولين فيكون من باب (ظنَّ وأخواتها) فتكون الرؤية علميَّة، كقولك: رأيت الصدقَ سبيلَ النجاة، وإما أن يتعدَّى إلى مفعولٍ واحد، كقولك: رأيت الهلال، فتكون الرؤية بصريَّة.
والخلاف هنا في الرؤية في قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} ؛ هل تتعدَّى إلى واحد أم اثنين؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والظاهر أن الرؤية هنا رؤيةُ البصر، ويؤيد ذلك قوله:{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ، وعلى هذا فلا حاجة إلى حذف.
وقيل: هي بمعنى العلم، فيتعدى إلى اثنين، فيحتاج إلى تقدير الثاني؛ أي: فقد رأيتموه حاضرًا، ونحو ذلك، ولكن حذف أحد مفعولي (ظنَّ) اختصارًا فيه خلاف، والصحيح جوازه، وأنشدوا لعنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المُحَب المُكرَم
أي: فلا تظني غيره واقعًا"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي هنا أن فعل الرؤية يتعدى إلى مفعول واحد، وهذا الترجيح يظهر من ثلاثة وجوه:
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349).
الأول: التعبير بالظاهر، حيث قال:(والظاهر أن الرؤية هنا رؤيةُ البصر).
الثاني: أنه ذكر ما يؤيد هذا القول ولم يذكر ما يؤيد القول الآخر.
الثالث: استدراكه على القول الآخر بأن فيه خلافًا، وذَكَر جوازه هنا ليبين الصحيح في هذا الخلاف، وهذا لا ينفي استدراكه على القول، لأنه في الدر المصون استدرك بقوله: "إلا أن حذف أحد المفعولين في باب (ظنَّ) ليس بالسهل، حتى إن بعضهم يخصُّه بالضرورة، كقول عنترة
…
"
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذكر كثير من أهل العلم أن الرؤية في الآية هي الرؤية البصرية، وذلك منهم إما بذكر المشاهدة والمعاينة للموت وأسبابه من القتال ونحوه
(2)
، أو بالإشارة إلى ذلك عند الإعراب
(3)
، وكل ذلك يُحمل على أن الفعل في الآية يتعدى إلى مفعول واحد، لأن الرؤية التي تتعدى إلى مفعولين ليست إلا الرؤية العلمية.
وأما القول بأن الرؤية في الآية هي الرؤية العلمية فقد نفى الجاحظ أن يكون المراد في الآية رؤية العين، وصرَّح الطحاوي بأن الرؤية في الآية هي الرؤية العلمية
(4)
، وذكر الماوردي القولين جميعًا
(5)
.
(1)
الدر المصون (3/ 413).
(2)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 236)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 473) والتفسير البسيط للواحدي (6/ 35)، والكشاف للزمخشري (1/ 421)، وتفسير البيضاوي (2/ 40)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 137)، وتفسير ابن كثير (2/ 127)، وتفسير السعدي (ص: 150)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 235).
(3)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 361 - 362)، وفتح البيان لصديق حسن خان (2/ 344)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 62) واكتفى بمفعولٍ واحد، وحدائق الروح والريحان للهرري (5/ 179).
(4)
ينظر في كتاب الحيوان للجاحظ (7/ 120) وشرح مشكل الآثار للطحاوي (1/ 260)، (14/ 287).
(5)
ينظر في تفسير الماوردي (1/ 427)، ووقفت على إشكال في تفسير السمعاني (1/ 362 - 363) وفيه نسبة قول الأخفش بأن الرؤية التفكُّر، وسيأتي قول الأخفش بأن الرؤية بصرية، وينظر في تفسير البغوي (1/ 515).
2) أدلة القول الأول في المسألة:
وهي أربعة أدلة:
الأول: أن هذا القول هو الظاهر، لأنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف، بخلاف القول الآخر فإنه يحتاج إلى تقدير المفعول الثاني، لأنه غير مذكور في الآية.
الثاني: السياق كما ذكر السمين الحلبي، فإن آخر الآية يؤكد أن فعل الرؤية بمعنى الإبصار فيتعدى إلى مفعول واحد، وبيان ذلك فيما ذكره الأخفش عند هذه الآية، فإنه قال:"قال تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}، توكيدًا كما تقول: (قد رأيته واللهِ بعيني) و (رأيته عِيانًا) "
(1)
.
الثالث: سبب النزول، فقد "نزلت هذه الآية في قومٍ غابوا عن مشهد بدرٍ فقالوا:(لئن أرانا الله قتالًا ليَريَن ما نصنع، ولنقاتلن)، فأراهم الله القتال عِيانا، وهم ينظرون إليه بأعينهم"
(2)
.
الرابع: أن الأصل في الرؤية أن تكون بصرية
(3)
، وبقاء الشيء على أصله أولى.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل من قال بأن الرؤية في الآية هي الرؤية العلمية بأن الضمير في قوله {رَأَيْتُمُوهُ} يعود للموت، والموت لا يُعاين، فيتعين أن تكون الرؤية علمية
(4)
.
ويمكن أن يستدل لهذا القول بأنه إذا قلنا بأن الرؤية بصرية، فإن قوله تعالى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} يكون تأكيدًا، والأولى أن يكون للتأسيس
(5)
.
(1)
معاني القرآن (1/ 233 - 234)، وسيأتي إشادة السمين الحلبي بقول الأخفش هذا في المسألة الآتية.
(2)
النقض على المريسي لأبي سعيد الدارمي (1/ 200 - 203)، وروى القصة في ذلك، وأصلها عند البخاري (4/ 19/ 2805) ومسلم (3/ 1512/ 1903) وليس فيها ذكر نزول الآية، ويمكن أن يشهد لها ما رواه الطبري في تفسيره (7/ 250) عن السدي أن بعض الصحابة لم يشهدوا بدرًا فقالوا: اللهم إنا نسألك أن ترينا يومًا كيوم بدرٍ، فرأوا أُحدًا، فقال لهم:{ولقد كنتم تمنون الموت} الآية، وروي نحوه كما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 776).
(3)
ينظر في الدر المصون للسمين الحلبي (5/ 5).
(4)
ينظر في شرح مشكل الآثار للطحاوي (1/ 260)، (14/ 287)، وبيانه في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار للمَلَطي (1/ 47).
(5)
ستأتي الإشارة إلى من ذكر هذه القاعدة عند هذه الآية عند الموازنة بين الأدلة إن شاء الله.
4) الموازنة بين الأدلة:
كما ذكر السمين الحلبي فإن الظاهر هو التعدي إلى مفعول واحد، إذ ليس في الآية مفعول ثانٍ فيحتاج إلى تقدير، وعدمُ التقدير أولى، وكما سبق في المسألة الأولى فإن الأدلة تعضد القول بالتعدي إلى مفعولٍ واحد، وأما القول بتعدي الفعل إلى مفعولين فلم يُذكر له دليل ظاهر إلا المنع بأن تكون الرؤية البصرية، فيبقى الجواب عن الإشكال المذكور، وهو أن الموت لا يُعاين، فكيف تكون الرؤية بصرية؟
وقد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال بأن المراد هو رؤية أسباب الموت من القتال وآلته كالسيف ونحوه كما سبق الإشارة إليه؛ قال القرافي: "وإنما رأوا القتال، وهو الذي كانوا يتمنونه، فجعله موتًا لوجود مظنته"
(1)
.
وتعقَّب الشيخ العثيمين هذا الجواب، وذكر أن رؤية الموت ممكنة، وذلك بأن يرى الموت فيمن استشهد من إخوانه في المعركة، فيكون المعنى: فقد رأيتم الموت فيما بينكم
(2)
، وهذا هو الموافق لما ذكره الزمخشري والبيضاوي من المفسرين
(3)
، وقد أشار إليه السمين الحلبي فقال عند قوله تعالى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}:"والمعنى: وأنتم تنظرون وقوعه في إخوانكم الذين استشهدوا أو شارفهم القتل"
(4)
.
وأما الاستشهاد بقاعدة (التأسيس أولى من التأكيد) في قوله {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} فقد أشار إليها الشيخ العثيمين في سياق الكلام عن نوع الرؤية البصرية، ولم يتطرق إلى كون الرؤية في الآية هي الرؤية العلمية، بل ذكر أن الرؤية البصرية يمكن أن تكون نوعان؛ نظر عامٌ للإبصار ووقوع مجرد الرؤية، ونظر خاص للتحقيق والتدقيق، فقوله {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} هو من النظر العام، وقوله {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} هو من النظر الخاص، وتكون الجملة حينئذ للتأسيس
(5)
،
(1)
الذخيرة (7/ 138).
(2)
ينظر في تفسير آل عمران للعثيمين (2/ 235).
(3)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 421)، وتفسير البيضاوي (2/ 40).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349)
(5)
ينظر في تفسير آل عمران للعثيمين (2/ 234 - 235، 237).
وقد ذكر هذا المعنى من قبله محمد عبده، لكن من غير إشارة إلى القاعدة، وجعله من قبيل التأكيد للرؤية في الأصل
(1)
، والله أعلم.
وعلى كل حال، فإن هذه القاعدة لا توازي أدلة القول بأن الرؤية للعيان، وسيأتي الكلام عن هذه القاعدة في المسألة الآتية.
5) النتيجة:
الظاهر أن الرؤية هي الرؤية البصرية، وهو المناسب لسبب النزول، وهذا أبلغ في السياق من أن يكون قوله {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} معناه: فقد علمتموه، فإن السياق في عتابهم على أمرٍ قد تمنوه ثم إنه ثبت لهم وتحقق، وإثباته بطريق المعاينة أبلغ من إثباته بطريق العلم به ولو كان يقينًا، فليس الخبر كالمعاينة، وعين اليقين أبلغ من علم اليقين.
(1)
نقله رشيد رضا في تفسير المنار (4/ 131).
المسألة الرابعة: إعراب قوله تعالى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
اختُلف في الجملة من قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ، هل هي حاليَّة أو مستأنفة، فإن كانت حالية فما نوعها؛ هل هي حال مؤكِّدة أو مبيِّنة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والجملة من قوله {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حال، وهي حالٌ مؤكِّدة رافعة للمجاز في قوله {رَأَيْتُمُوهُ} ، أو للاشتراك، لأن الرؤية كما قدمناه إما بصرية أو علمية.
والمعنى: وأنتم تنظرون وقوعه في إخوانكم الذين استشهدوا أو شارفهم القتل، فيكون متعلَّق الرؤية ومتعلَّق النظر واحدًا، وهو الظاهر، وبه قال الأخفش، وعنه أيضًا وعن الزجاج أن المعنى: وأنتم بصراء ليس بأعينكم علة مانعة من ذلك.
وقيل: المعنى: تنظرون نظر تأمُّلٍ بعد رؤيتكم ذلك.
وقيل: تنظرون إلى ما فُعل بمحمد صلى الله عليه وسلم، مِنْ شجِّ وجهه وكسر رباعيته، وإلى ما حلَّ بأصحابه.
وقيل: تنظرون في أسباب نجاتكم وفراركم، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هل قُتل أم لا.
وقيل: تنظرون فيما صدر منكم؛ هل حصل به وفاء أم مخالفة.
وقيل: تنظرون ما تمنيتم؛ أي: الموت.
وعلى هذا فالجملة مستأنفة سيقت للإخبار بذلك، وليست حالية، فكأنه قيل: وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم، فصيغتها خبر، ومعناها عتب توبيخ.
وقال أبو بكر الأنباري: يقال إن معنى {رَأَيْتُمُوهُ} قابلتموه {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى رؤية العين، فعلى ما ذكره تكون الجملة في موضع الحال، لكنها حال
مبيِّنَة لا مؤكِّدة، وهو حسن لو لم نَقُل إن اللغة لا تساعد على كون الرؤية تكون بمعنى المقابلة والمواجهة.
وقد تحصل في هذه الجملة ثلاثة أوجه: حال مؤكِّدة، حال مبيِّنَة، مستأنفة"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجح أن تكون الجملة حالًا مؤكِّدة، ويظهر ذلك من أربعة وجوه:
الأول: أن هذا هو الذي بدأ به في تفسير الآية كأنه هو المعتمد عنده، ثم ذكر الأقوال بعده.
الثاني: أن هذا هو الذي يتناسب مع ترجيحه السابق بأن الرؤية بصرية، وقد تقدَّم بيان ذلك فيما ذكره الأخفش، وقد أشار السمين الحلبي إلى قوله هنا.
الثالث: التعبير بالظاهر في قوله: (وهو الظاهر).
الرابع: أنه استبعد قول أبي بكر الأنباري بأنها حال مبيِّنَة، ولم يذكر ما يقوي القول بأنها مستأنفة.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أطلق كثير من أهل العلم أن الجملة من قوله {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} هي حال
(2)
.
وأما القول بأنها مستأنفة فقد أشار إلى مضمونه بعض أهل العلم على أنه محتمل من غير ترجيح، فقد ذكر الماتريدي احتمال أن يكون معنى قوله {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} تعلمون أنكم كنتم تمنون الموت
(3)
، وقد أشار الراغب الأصفهاني إلى احتمال أن يكون النظر كناية عن التحيُّر
(4)
، وذكر ابن عطية احتمال أن يكون المعنى أنهم ينظرون في فعلهم؛ هل حصل به وفاء
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 349 - 351).
(2)
ينظر في الكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 138)، وتفسير أبي السعود (2/ 92)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 441)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 62)، والمجتبى للدكتور أحمد الخراط (1/ 144).
(3)
ينظر في تفسير الماتريدي (2/ 498).
(4)
ينظر في تفسير الراغب الأصفهاني (3/ 889).
أم مخالفة، أو يكون المعنى أنهم ينظرون أسباب نجاتهم وفرارهم، وأشار إلى القول بأنهم ينظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم واستبعده
(1)
.
وأما في نوع الحال؛ هل هي حال مبيِّنة أو مؤكِّدة، فإن كثيرًا من أهل العلم جعلوا الجملة من قبيل التأكيد
(2)
، وأما القول بأن الحال للتبيين فهو فيما ذكره أبو بكر الأنباري، ولم يتيسر لي الوقوف عليه، ولم أرَ من أهل العلم من وافقه في قوله.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
استدل السمين الحلبي في قوله بأن الجملة حالٌ مؤكدة بأن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن، فيكون معنى النظر هو الإبصار، ويكون متعلقًا بالأمر المحدَّث عنه في السياق وهو الموت لا بشيء آخر.
ومما يشهد بحسن هذا القول أنه به يكون متعلَّق الرؤية ومتعلَّق النظر واحدًا، فتتوحد المتعلقات وتتفق دلالتها على شيء واحد، وهذا أحسن من تفريقها.
3) أدلة القول الثاني والثالث في المسألة:
القول بأن الجملة حالٌ مبيِّنة أو أنها مستأنفة يشهد له من حيث الإجمال قاعدة (التأسيس أولى من التأكيد)، فيحمل الكلام في الجملة على التأسيس؛ إما على ما ذكره أبو بكر الأنباري من جعل الرؤية بمعنى الملاقاة، وإما بأن يكون للنظر معنًى آخر غير الإبصار، أو بتخصيص متعلَّق النظر بشيء آخر غير الموت.
ولم أقف على ما يشهد لأحد الأقوال المذكورة بالتحديد.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما القول بأن الجملة مستأنفة فإنه يحتاج إلى صرف متعلَّق النظر إلى أمرٍ غير الذي ذُكر في السياق وهو الموت أو أسبابه، ولم أقف على دليل يُوجب ذلك، أو أنه يحتاج إلى صرف معنى النظر عما وُضع له في الأصل وهو الإبصار، فيكون النظر بمعنى التأمل أو نحوه، وإبقاء الشيء على موضوعه الأصلي أولى.
وأما ما ذكره أبو بكر الأنباري من أن الرؤية تكون بمعنى الملاقاة فلا يظهر في اللغة أن
(1)
ينظر في المحرر الوجيز (1/ 516).
(2)
ينظر في معاني القرآن للأخفش (1/ 233 - 234)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 473)، البحر المحيط لأبي حيان (3/ 362)، وتفسير الثعالبي (2/ 116)، ونظم الدرر للبقاعي (5/ 82).
تكون الرؤية بهذا المعنى، ولعل الذي حمله على ذلك أن معنى الملاقاة قد ذُكر قبل ذلك في الآية في قوله:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} ، فحمل معنى الرؤية عليه، لكن الذي ذكره المفسرون في الآية هو أنه جاء فيها إيثار معنى الرؤية في قوله {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} على معنى الملاقاة لبيان شدة المعاينة
(1)
، فمعنى الرؤية مقصودٌ في الآية فلا يُحمل على غيره.
بقي الإجابة عن قاعدة (التأسيس أولى من التأكيد)، فإما أن يجاب عنها بما ذكره الشيخ العثيمين في المسألة السابقة، أو يقال بأن السياق يدل على التأكيد لأنه كما تقدَّم في إثبات أمرٍ تمنوه، فأكَّد الله ثبوته وعاتبهم في ذلك، فلعل التأكيد أبلغ في السياق، وهو أقرب للظاهر.
5) النتيجة:
الذي يظهر والله أعلم أن الجملة في قوله تعالى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} هي للحال، وهي حالٌ مؤكِّدة، لأن التأكيد هو الظاهر من السياق، وهو المتبادر إلى الذهن، والله أعلم.
(1)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 92).
المسألة الخامسة: تعلُّق القتل في قول الله تعالى: {وكأين من نبي قُتل}
قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] في قراءة المبني للمفعول: {قُتل}
(1)
.
•
أصل الخلاف في المسألة:
أصل الخلاف في كون النبي يُقتل في الحرب أو لا، ففي قراءة {وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير} ثبت الخلاف؛ هل الذي قُتل هو النبي، فتقرأ:{وكأين من نبي قُتل} وتقف، ثم تبتدئ:{معه ربيون كثير} ، أو أن الذي قُتل هم الربيون، فتكون القراءة بالوصل:{وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير}
(2)
.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف المفسرون في معنى هذه الآية؛ هل معناها أن الأنبياء قُتلوا، أم أنهم لم يقتلوا، بل قُتل الربيون الذين كانوا معهم؟
والمعنى الأول أليق بالسياق وبحال المخاطبين.
فذهب جماعة منهم الطبري إلى الأول، ورجحوه بأن القصة في أُحد حين تخاذل الناس عند سماعهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فضُرب لهم المثل بكثيرٍ من الأنبياء قُتلوا ولم يقدح ذلك في أتباعهم بالنسبة إلى أنهم لم يتغيروا عن دينهم وثبتوا على ما كانوا عليه.
وأيضًا فقد قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى {وما كان لنبي أن يُغَل}
(3)
: النبي يُقتل فكيف لا يُخان
(4)
.
(1)
وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، ينظر في النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 242).
(2)
ينظر في معاني القرآن للنحاس (1/ 488) وإيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر الأنباري (2/ 585 – 586).
(3)
بضم الياء وفتح الغين؛ أي: يُخان في الغنائم، وهي قراءة جميع القراء سوى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، ينظر في النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 243).
(4)
رواه الطبري في تفسيره بنحوه (6/ 195)، وهذا استنكار منه رضي الله عنه للقراءة السابقة (بضم الياء وفتح الغين) كما في رواية الطبراني في المعجم الصغير (2/ 73)، وليس بدليل لهذه المسألة لأن الخلاف عن قتل نبي في الحرب.
ورُجِّح أيضًا بقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144]
(1)
.
وذهب إلى المعنى الثاني الحسن البصري وابن جبير وآخرون؛ قال الحسن وابن جبير: لم يُقتل نبيٌّ في حربٍ قط.
وإنما قالا (في حرب) لأن كثيرًا من الأنبياء قُتل في غير حرب، حتى إن بعضهم نُشر بالمناشير، صلوات الله عليهم.
ويكون معنى الآية حينئذ تسليةً للمؤمنين وتصبيرهم على موت مَنْ قُتل منهم في أُحد؛ أي إن مَنْ قبلكم قُتل كبراؤهم ورؤساؤهم وعلماؤهم فما غيَّرهم ذلك عن دينهم ولم يضعفهم"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول بأن القتل يتعلق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك من وجهين:
الأول: عبارة الترجيح: وذلك في قوله: (والمعنى الأول أليق بالسياق وبحال المخاطبين).
الثاني: أنه ذكر أدلة هذا القول وما يعضده من الآية الأخرى وقول ابن عباس، وأما القول الآخر فاكتفى فيه بذكر القول وتوجيهه، ولم يبحث في أدلته وما يعضده
(3)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذهب جماعةٌ من المفسرين إلى أن القتل في الآية متعلق بالأنبياء، سواء عند الكلام عند نائب الفاعل لقوله {قُتِل} أو عند الكلام عن المُصاب في الآية عند قوله {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أن الذي أصابهم هو مقتل نبيهم، وسواء كان القتل في الآية
(1)
ينظر في معاني القرآن للأخفش (1/ 235)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 53)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 520)، أو أن الذين يستدلون بهذه الآية إنما يستدلون على القراءة {وكأين من نبي قُتل} بعد ذكرهم لمعناها، وأنها ليست {قاتل} ، لأن الآية قبلها في الموت والقتل وليست في المقاتلة؛ ينظر في المكتفى لأبي عمرو الداني (ص: 46).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 373 - 374).
(3)
وكذلك فعل في الدر المصون (3/ 428 – 429) فذكر أن القول الأول تؤيده الآية، وتعقب القول الثاني.
ينصرف إلى الأنبياء وحدهم أو أنه ينصرف إلى الأنبياء والربيين معهم
(1)
، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وقتادة والربيع بن أنس والسدي والضحاك
(2)
.
وقد نفى الحسن وسعيد بن جبير أن يكون أحدٌ من الأنبياء قُتل في حرب
(3)
، ورجَّح عددٌ من المفسرين أن القتل في الآية متعلق بالربيين
(4)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي الدليل على أن القتل في الآية يتعلق بالأنبياء أنه السياق وحال المخاطبين، وبيان ذلك فيما ذكره عن المفسرين من أن القصة وسياق الآيات نزل في أُحد حين تخاذل الناس عند سماعهم بمقتل النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سبب نزول الآيات
(5)
، فضُرب لهم المثل بكثيرٍ من الأنبياء قُتلوا ولم يقدح ذلك في أتباعهم، فإذا كان سياق الآيات نزل بعدما أُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت حال المخاطبين إذ ذاك فيها بعض الضعف والتخاذل، فأولى أن يتعلق القتل في هذه الآية بالأنبياء لا بأحدٍ من أتباعهم، وأولى أن يكون صبر الأتباع فيها هو صبرًا على مقتل الأنبياء وليس صبرًا على مقتل من هم دونهم.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
وهي دليلان:
الأول: الواقع المحتفِّ بنزول الآية، فإن في قوله {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ما يناسب أن القتل
(1)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 237)، وللأخفش (1/ 235)، وللزجاج (1/ 476)، وللنحاس (1/ 489)، وتفسير الطبري (6/ 110) والثعلبي (3/ 181) والبغوي (1/ 520) والهداية لمكي (2/ 1146)، والمكتفى لأبي عمرو الداني (ص: 45)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 520)، والروض الأنف للسهيلي (6/ 47)، واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبد الهادي (ص: 69 – 70)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 141).
(2)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 115 - 118) وابن المنذر في تفسيره (1/ 421) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 781)، وذكر مكي بن أبي طالب في الهداية (2/ 1145) قولَ عكرمة.
(3)
روى سعيد بن منصور في كتاب التفسير من سننه (3/ 1096) عن سعيد بن جبير، وعنه ابن المنذر في تفسيره (1/ 417)، وأما قول الحسن فقد ذكره يحيى بن سلام في تفسيره (2/ 848) عند قوله تعالى:{وإن جندنا لهم الغالبون} ، وذكره الماوردي في تفسيره (1/ 428) عند الآية التي نحن فيها.
(4)
ينظر في المحتسب لابن جني (1/ 173) وتفسير البيضاوي (2/ 41)، ومحاسن التأويل للقاسمي (2/ 424)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 210 – 214).
(5)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 98 - 105)، وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص: 125).
وقع على الربيين وليس الأنبياء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقتل في الغزوة التي نزلت فيها هذه الآيات، وإنما قُتل فيها جمعٌ كثير من أصحابه
(1)
.
الثاني: ما روي في قراءة التشديد (قُتِّل)
(2)
، فهي تؤيد أن القتل وقع على الربيين وليس على النبي لما في تشديد التاء من الدلالة على التكثير، وهو ينافي إسناده إلى الواحد {نَّبِيٍّ} ، فإن كثرة القتل لا تكون على ذات واحدة
(3)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر من حيث قوة الأدلة أن أقواها ما يتعلق بسبب النزول وسياق الآيات، فإن سبب النزول وسياق الآيات من الأدلة المقدَّمة في الترجيح عند التعارض
(4)
، وهذان الدليلان يعضدان القول الأول في أن القتل في الآية يتعلق بالأنبياء، أما القول بأن القتل في الآية يتعلق بالربيين فقط، وأن هذا أنسب مع نزول الآيات، لأنه قد قُتل من الصحابة في غزوة أحد جمعٌ كثير، ولم يقتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم= فهذا غير ظاهر، فإن الروايات في سبب النزول ذكرت ما أُشيع من مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر مقتل عدد كثير من الصحابة رضوان الله عليهم
(5)
.
لكن القول بأن من الأنبياء من قُتل في حرب وإثبات ذلك في الآية عليه اعتراضات أربعة:
الاعتراض الأول: أن الاستدلال بسبب النزول لو كان يتعيَّن منه ذكر قتلِ نبيٍّ لكانت قراءة الجمهور {وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} جاريةً على خلاف المتعين؛ إذ ليس فيها إشارة إلى القتل، وإنما هي في المقاتلة
(6)
.
ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله تعالى في آخر الآية {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
(1)
مستفاد مما ذكره القرطبي في تفسيره (4/ 229)، والظاهر من عبارته ترجيح أن القتل وقع على النبي وعلى من معه.
(2)
وهي قراءة قتادة، ينظر في مختصر ابن خالويه (ص: 29)، وشواذ القراءات للكرماني (ص: 122).
(3)
ينظر في المحتسب لابن جني (1/ 173)، والكشاف للزمخشري (1/ 424)، فقد استدل بهذا المعنى ولم يظهر من بقية كلامه ترجيحه لما استدل له، وينظر فيما ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 520).
(4)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 60 - 62).
(5)
ينظر فيما رواه الطبري في تفسيره (6/ 98 - 105)، وابن المنذر في تفسيره (1/ 402 - 403)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 778).
(6)
ينظر في أضواء البيان للشنقيطي (1/ 214).
اللَّهِ} فيه إشارة إلى مقتل نبيهم بذكر المصيبة التي نزلت فيهم، وقراءةُ {قُتل} تبيِّن أن المصيبة هي مقتل نبيهم، وليس الاستدلال بسبب النزول على أنه يتعين منه أن يذكر قتل نبيٍّ في هذه الآية بالتحديد، لكن الاستدلال بسبب النزول هو في تعيين المقتول الذي لم يُذكر في قراءة {وكأين من نبي قُتل معه ربيون} ، ثم إنه قد جاءت الإشارة إلى قتل النبي في آية أخرى في سياق الآيات التي نزلت وهي قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
(1)
.
وأما الاستدلال بقراءة (قُتِّل) وما فيها من التكثير الذي يدل على أن الفعل واقعٌ على الربيين، فقد ضعَّف السمين الحلبي الاستدلال بهذه القراءة من وجهين
(2)
:
الأول: أن قوله تعالى قبل ذلك {وَكَأَيِّن} هو بمنزلة (كم) في الدلالة على التكثير، فلفظ {نَّبِيٍّ} وإن كان مفردًا فهو في معنى الجمع
(3)
.
والثاني: أن التشديد للمبالغة، نحو: ذبَّحت الكبش.
الاعتراض الثاني: ما ذكره الحسن وابن جبير بأنه لم يُسمع عن نبيٍّ أنه قُتل في حرب، وما ذكره أهل العلم بأن الآية تقتضي التكثير، كما دل عليه قوله:{وَكَأَيِّن} ، فلو كان قتل الأنبياء كثيرًا لاشتهر وأمكن سماعه، وأيضًا فلو كان معنى الآية أن الأنبياء قتلوا فإن قوله {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} يقتضي أن كل واحد من هؤلاء الأنبياء جاهد معه عدد كبير، وهذا لا يُعرَف
(4)
.
ويمكن الجواب عن هذا كله بأن عدم السماع والشهرة لا يدل على نفي الأمر، بل قد أخبر الله نبيه أن من الأنبياء من لم يصله نبأهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ
(1)
وقد ذكر الواحدي في أسباب النزول (ص: 125) هذه الآية من ضمن الآيات التي نزلت في السبب المذكور.
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 383 - 384).
(3)
ورُدَّ بأن {نبي} مفردٌ لفظًا ومعنًى بدليل عود الضمير المفرد في {معه} ؛ ينظر في المحتسب لابن جني (1/ 173)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 520)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (3/ 69)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 296)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/ 212)، وهذا الرد غير مُلزِم؛ ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 371).
(4)
أشار إليه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 59)، وقد تقدم بيان القول الذي يرجحه في مجموع اختياراته.
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]
(1)
، وأما القول بأنه لا يُعلم عن نبيٍّ أنه قاتل معه عدد كبير، فهذا يُردُّ عليه بنص الآية في قراءة (قاتَل)؛ قال تعالى:{وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ، فإن الآية تدل على أنه قد قاتل مع الأنبياء جموع كثيرة.
الاعتراض الثالث: أن سياق الآية في الاحتجاج على الصحابة ومعاتبتهم بها على ما كان منهم يوم أُحد بعدما أُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، والآية لا تكون حجة على الصحابة إذا كان المراد بها أن الأنبياء قُتلوا وبقي من بعدهم ربيون كثيرٌ لم يقتلوا، فيقول الصحابة: إنهم لم يَهِنوا لما أصابهم لأنهم كثير، وكثرتهم تقتضي قوتهم، أما نحن فقليلٌ عددنا
(2)
.
ويمكن الجواب عنه بأن الاحتجاج بالآية في معاتبة الصحابة رضي الله عنهم هو من وجه ذكر المَثَل بأن الذين ثبتوا بعد مقتل الأنبياء السابقين كثير وجعل هذا في مقابل القِلَّة التي ثبتت بعدما أُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد بالتكثير مقابلةُ عدد الجنود بين الصحابة ومن قبلهم.
الاعتراض الرابع: ما ثبت من غَلَبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى قال:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، والمقتول ليس بغالب كما قال تعالى:{وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء: 74]، فجعلهم قسمين؛ مقتولٌ وغالب، ولا يجتمع القسمان في ذاتٍ واحدة بأن تكون مقتولة وغالبة في نفس الوقت، وعليه فإن النبي لا يُقتل في حرب لأنه لا يُغلب
(3)
.
ويمكن الجواب عنه بأن قوله تعالى {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيما} لا يقتضي أن يكون معنى القتل ومعنى الغلبة كالضدين بحيث لا يمكن اجتماعهما في ذاتٍ واحدة، بل هو في ذكر المآل للأحوال التي يكون عليها الأجر في القتال، فالذي يقاتل في سبيل الله مأجور سواء الذي قُتل واستشهد والذي انتصر وغَلَب، وهذا التقسيم متعلق بالآيات التي قبله في الرد على المنافقين لمَّا فرَّقوا بين الأمرين ورغبوا أن
(1)
أشار إليه رشيد رضا في تفسير المنار (4/ 141).
(2)
أشار إليه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 59).
(3)
ينظر في أضواء البيان للشنقيطي (1/ 210 - 211).
يكون قتالهم في حال الغلبة فقط؛ قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا 72 وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا 73 فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيما} [النساء: 72 - 74].
ثم إن الأمرين (القتل والغلبة) يمكن اجتماعهما في ذاتٍ واحدة؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، وقال:{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، فقد وعد الله المؤمنين المجاهدين في سبيله هنا بالغلبة، وهذا لا ينافي أنهم يُقتلون، كما يفيده قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، فأنت ترى أن الله قد قضى للمؤمنين بالغلبة وأنه جعل احتمال القتل عليهم واردًا، فالمقتول يمكن أن يكون غالبًا؛ قال السدي عند قوله تعالى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51]: "قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم"
(1)
.
ولو حملنا الوعد بالغلبة في الآية هنا على هزم الأعداء في ذات المعركة، فقد تكون تلك الغلبة بعد مقتل الأنبياء، كما يشير إليه قوله تعالى {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواْ} .
5) النتيجة:
الذي يظهر والله أعلم أن القتل في الآية متعلق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو المتوافق مع سبب النزول، والأقرب بالنظر إلى سياق الآية، وهو مقتضى معاتبة الصحابة رضي الله عنهم على ما كان في غزوة أُحد.
ولا ينقص من قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكون بعضهم قُتل في حرب؛ أما
(1)
تفسير الطبري (20/ 345).
من حيث القتل فقد ثبت مقتل بعضهم في غير الحرب ولم ينقص ذلك من قدرهم أبدًا
(1)
، وأما كونهم يُؤمرون بالقتال فيُقتلون، فإن الله أمر المؤمنين بذلك وذكر أن مما يتبع هذا الأمر أن يُقتل منهم مَنْ يُقتل؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ، بل إن الأنبياء بذلك ينالون شرف الشهادة في سبيل الله، فلا يكون الاستشهاد في الغزوات خاصًا بأتباع الأنبياء فقط.
ثم إن كان المقتول هم الربيون وحدهم فما فائدة ذكر الأنبياء وتكثيرهم، فيقال: وكم ممن قبلكم قُتل منهم كثير فما وهنوا
…
، أو وكثيرٌ من أتباع الأنبياء قتلوا فما وهنوا لما أصابهم
…
وأيضًا، فمَن الذين رُغِّب بالاقتداء بهم في الآية؟
إن كان المقتدى بهم في الآية هم الأنبياء في صبرهم على مقتل أتباعهم، فهذا أمرٌ حاصل لا مزية فيه؛ فإن القائد يصبر ولا بد على فقد بعض أتباعه، ولكن الشأن في صبر الأتباع على فقد قائدهم وثباتهم حينئذ.
وإن كان المشار إليه بالاقتداء هم الأتباع فأولى أن يكون صبرهم على مقتل نبيهم، لا على مقتل بعضهم مع وجود قائدهم.
وجعل القتل في الآية متعلقًا بالربيين يحتاج إلى تقدير، فيكون المراد: فما وهن الباقون ممن لم يقتلوا لما أصابهم، وعدمُ التقدير أولى، والله أعلم.
(1)
وذُكر احتمالٌ في معنى الآية أن الأنبياء قتلوا لكن في غير حرب؛ ينظر في الحجة لأبي علي (3/ 83)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (14/ 374) وسياق الآية ونزولها في غزوة أُحد يشير إلى أنه قتلٌ {في سبيل الله} .
المسألة السادسة: الأصل الاشتقاقي لكلمة الاستكانة
قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]
•
أصل الخلاف في المسألة:
المسألة هنا صرفية، وهي في الأصل الذي ترجع إليه كلمة الاستكانة في قوله تعالى:{وَمَا اسْتَكَانُواْ} ؛ هل أصلها (استكوَن) من (الكون)، أو (استكيَن) من (الكين) بالياء، أو (استكن) من (السكون).
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "و (استكان) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه (استفعل) من (الكون)، وأصلها: استكوَن، ففُعل به ما فُعل بـ (استقام) من الإعلال.
والثاني: أنه من باب (الرجل بِكِيْنَةِ سوء)؛ أي: بحالة سوء، وأكانه يكينه؛ إذا ضعَّفه؛ قاله الأزهري والفارسي؛ قيل: فعلى قولنا تكون الألف عن ياء.
والثالث، وبه قال الفراء:(افتعل) من (السكون). وهو المناسب للمعنى، فأُشبعَت الفتحة كقوله:
أعوذ بالله من العقراب ***
قالوا: وقد ثبت هذا الحرف الزائد في جميع تصاريف الكلمة؛ قالوا: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان استكانة.
قيل: والإشباع لا يقع بلا ضرورة، قلت: قد قرأ هشام (أفئيدة)، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 - 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 388 - 390).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجح القول الثالث وهو أن الاستكانة ترجع إلى مادة (سكن)، وذلك من وجهين:
الأول: أنه ذكر ما يقوي هذا القول بأنه (هو المناسب للمعنى)، ولم يذكر ما يقوي القولَين الآخرين.
الثاني: أنه حكى الاعتراض على هذا القول ثم ردَّ على الاعتراض، وهذا يدل على أنه يميل إلى هذا القول ويدافع عنه
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذكر المفسرون أصل كلمة (استكان) عند قوله تعالى هنا: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواْ} ، وعند قوله تعالى:{فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} [المؤمنون: 76]، وأما علماء اللغة فتعرضوا لذلك في المعاجم وفي كتب التصريف.
وكثيرٌ من المفسرين أرجعوا أصل الكلمة إلى السكون
(2)
، ولعل ذلك لأجل رعاية المعنى، وكثير من علماء اللغة منع من ذلك وجعل وزن الكلمة (استفعل) وليس (افتعل)، وذلك مراعاةً لأصول الاشتقاق وقواعد علم الصرف، ثم منهم من رجَّح أن أصل الكلمة (استكون) من (الكون)
(3)
، ومنهم من رجَّح أن أصلها (استكين) من (الكين)
(4)
، وليس الخلاف بينهم قويًّا في الترجيح بين هذين القولين، وإنما خلافهم مع من قال: إن أصل
(1)
وفي الدر المصون (3/ 432) فصَّل الاعتراض وفصَّل في الرد عليه.
(2)
ينظر ما يأتي في تفسير الثعلبي وما بعده، وتفسير ابن فورك لسورة المؤمنون (ص: 89)، وتفسير السمعاني (3/ 485) والبغوي (3/ 371)، والسراج المنير للشربيني (2/ 587)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (18/ 101).
(3)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 152)، وكشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (2/ 932)، والبيان لأبي البركات (2/ 187)، والتبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 300)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 373)، وروضة المحبين لابن القيم (ص: 41)، وحاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري (ص: 712).
(4)
اقتصر ابن عباد على ذكر الاستكانة في مادة (كين) في المحيط في اللغة (6/ 334)، وهو ظاهر ما ذهب إليه ابن جني في الخصائص (3/ 327)، والسهيلي في الروض الأنف (1/ 129)، وقد اختاره الزبيدي في تاج العروس (36/ 78)، والصافي في الجدول (4/ 329)، والدكتور محمد حسن في المعجم الاشتقاقي (4/ 2356).
الكلمة يرجع إلى السكون، مع أن ابن الحاجب ذكر أنه قول الأكثر من أهل العلم
(1)
.
وقد ذكر السمين الحلبي أن إرجاع الكلمة إلى السكون هو قول الفراء ولم أقف عليه في معاني القرآن له، لكن قد حكاه عنه بعض أهل العلم من بعده
(2)
.
وكذلك ما ذكره عن الأزهري وأبي علي الفارسي أنهما يجعلان أصل الكلمة من (الكِينة) ففيه تنبيه:
أما الأزهري فقد ذكر عند الكلام عن مادة (سكن) أن أصل الكلمة من السكون، ثم في موضع آخر أشار إلى الخلاف ورجَّح أن أصل الكلمة هو من (استكيَن)، ولعل هذا هو الراجح عنده لأنه أشار فيه إلى الخلاف
(3)
.
وأما الفارسي فقد ذكر في موضعٍ أن أصل الكلمة من (الكون)، وفي موضع آخر جعلها على وزن (استفعل) ولم يفصِّل
(4)
، لكن ذكر عنه أهل العلم من بعده أنه جعله من (الكين)، ونسبوا هذا القول إليه وكأنه أول من قال به
(5)
، والله أعلم.
2) أدلة القول الأول والثاني في المسألة:
يرجع القول الأول والثاني إلى صيغة واحدة وهي (استفعل)، فإن كانت الاستكانة ترجع إلى الكون فإنها تكون من (استكون)، وإن كانت ترجع إلى الكين فهي من (استكيَن)، وقد استدل أهل العلم للقول بأن الاستكانة ترجع إلى هذه الصيغة بأن هذا هو الظاهر من تصريف اللفظ، وهو الأصح في الاشتقاق، لأنه في هذه الحالة يكون المدُّ في (استكان) جارٍ على القياس، مثل المد في (استقام) وأصله الواو في (قَوَم)
(6)
.
(1)
ينظر في الشافية (ص: 89)، ورجَّح هناك أن أصل الكلمة من (استفعل)، وتبعه كثير من أهل اللغة في شرح هذا الكتاب، ينظر في شرح ركن الدين الإستراباذي (2/ 744)، ومجموعة الشافية (2/ 256).
(2)
ينظر في كشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (2/ 932).
(3)
ينظر في تهذيب اللغة (10/ 41، 204)، وذكر أبو عبيد في الغريبين (مادة: سكن): (3/ 912) أن الأزهري جعل أصل الكلمة من (السكون)، وتبعه السمين الحلبي على ذلك في عمدة الحفاظ (مادة: سكن): (2/ 209).
(4)
ينظر في الحجة لأبي علي الفارسي (6/ 447)، حيث أشار إلى أن أصل الكلمة من (الكون)، ثم ذُكرت هذه العبارة بعد ذلك:"ولعله رجع عن هذا الوجه"، فالله أعلم، وينظر في المسائل الحلبيات له (ص: 115).
(5)
ينظر في الخصائص لابن جني (3/ 327)، وفي المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (مادة: كين): (7/ 112).
(6)
ينظر في رسالة الملائكة لأبي العلاء المعري (ص: 213 - 215)، والمحرر الوجيز لابن عطية (4/ 152)، والبيان لأبي البركات الأنباري (2/ 187)، والشافية لابن الحاجب (ص: 62).
3) أدلة القول الثالث في المسألة:
استدل من قال بأن (استكان) ترجع إلى مادة (سكن) أن هذا هو الأنسب من حيث المعنى كما ذكر السمين الحلبي، وأنه أقرب في الدلالة على معنى الاستكانة وهي الخضوع، وذلك لأن الخاضع يسكن لعدوه ليفعل به ما يريد، ومن الكلمات التي تُذكر في هذا الباب وترجع إلى نفس المادة كلمة المسكين، فإنها ترجع إلى السكون وتحمل معنى الخضوع، فتكون الاستكانة مثلها في الرجوع إلى مادة (سكن)
(1)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
بالنظر إلى تصريف اللفظ واشتقاقه فإن القياس أن يكون وزن الكلمة (استفعل)، لأنه لا يرد على هذه الوزن إشكال، بخلاف الوزن الآخر (افتعل) من (سكن)، فإنه يرد عليه عدة إشكالات:
الأول: أن القياس فيه أن تكون الكلمة (استكن) وليس (استكان) بزيادة حرف المد، فإن قيل إن ذلك لأجل الإشباع فإن الإشباع لا يقع على هذا النحو من غير ضرورة
(2)
.
الثاني: أن زيادة الحرف المد وقعت في جميع تصاريف الكلمة: (استكان يستكين فهو مستكين ومستكان استكانة)
(3)
.
الثالث: أن وزن (افتعل) لا يكون مصدره (افتعاله) كما في (استكانة)، وأما وزن (استفعل) فإنه يمكن أن يكون مصدره (استفعاله) مثل (استقامة)
(4)
.
وقد أجاب السمين الحلبي هنا عن الإشكال الأول بأنه قد جاءت القراءة بالإشباع في كلمة (أفئدة) عن هشام: {فاجعل أفئيدة من الناس}
(5)
، فالإشباع واقع في القراءات السبع كما ذكر في الدر المصون
(6)
، وأجاب هنالك أيضًا عن الإشكال الثاني بأنه قد يثبت
(1)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 323)، وتفسير القرطبي (4/ 230)، والبحر المديد لابن عجيبة (1/ 417)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 141).
(2)
ينظر في البيان لأبي البركات الأنباري (2/ 187).
(3)
ينظر في المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسي (ص: 115).
(4)
ينظر في الشافية لابن الحاجب (ص: 89)، والبحر المحيط لأبي حيان (7/ 577)، ومجموعة الشافية (2/ 256).
(5)
ينظر تفصيله في جامع البيان لأبي عمرو الداني (3/ 1259)، والنشر لابن الجزري (2/ 299 – 300).
(6)
ينظر في الدر المصون (3/ 432)، وفيه رد على من ضعف هذه القراءة:(7/ 112 – 113).
الحرف الزائد في تصاريف الكلمة كما ثبتت الميم الزائدة في تصاريف كلمة (تمندل) و (تمدرع)، والجوابان كلاهما لا يجعلان هذا التصريف هو الأصل إذا أمكن الحمل على غيره، وإن كانت القراءة تدل على أن الإشباع يقع في غير الضرورة، فإنها لا تجعل الإشباع هو الأصل، وكذلك يقال في ثبوت الزيادة في تصاريف (تمندل) و (تمدرع). هذا وقد بقي الإشكال الثالث لم أجد له جوابًا.
فإذا استقام تصريف الكلمة على وزن (استفعل) فقد بقي إثبات المناسبة في المعنى في (الكون) أو (الكين)، بحيث يناسب معناهما معنى الاستكانة وهي الذل الخضوع.
فأما (الكون) فقد ذكروا في معنى الاستكانة بناء عليه أنها الانتقال من كون إلى كون، كما تقول في استحال أنه انتقل من حال إلى حال
(1)
، وذكر بعضهم معنى الاستكانة في الآية أنهم ما ضعفوا ولا كانوا قريبًا من ذلك
(2)
، وقال بعضهم في معنى استكانوا أنهم طلبوا من أنفسهم أن يكونوا لمن يخضعون له
(3)
، وذكروا أن ذلك من قول العرب: كنت لك، إذا خضعت
(4)
، ولا تظهر مناسبتها لمعنى الذل والخضوع فالانتقال من كون إلى كون لا يلزم منه ذلك، بل قد يكون الانتقال إلى ما هو أفضل، وقولهم (لم يضعفوا ولا كانوا قريبًا من ذلك) لم يزد على معنى (كان) شيئًا، ولم يدل على معنى الذل والخضوع وإنما دل على ذلك السياق، وكذلك قولهم:(كنت لك)، فإن الكون هنا لم يفد معنى الخضوع، وإنما الذي أفاد ذلك هو تعَدِّيه باللام.
واستشهد بعضهم بالحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر يتعوذ من الحَور بعد الكون (بالنون)
(5)
، ومعناه أن يرجع عن الاستقامة بعد ما كان عليها، فالكون هو الحالة التي فيها إنابةٌ وذلٌّ وخضوع
(6)
، ولا يظهر من الحديث معنى الذل والخضوع، بل هو أن يكون المرء على حالة حسنة فيتعوذ بالله من العدول عنها، وهو راجع إلى معنى
(1)
ينظر في الكشاف للزمخشري (3/ 197).
(2)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 521).
(3)
ينظر في تفسير البيضاوي (2/ 42).
(4)
ينظر في حاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري (ص: 712).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 979/ 1343) عن عبد الله بن سرجس، والمشهور نطقها بالنون؛ كما في تاريخ ابن معين برواية الدوري (3/ 565)، والتمهيد لابن عبد البر (24/ 353)، وشرح النووي لمسلم (9/ 111).
(6)
ينظر في روضة المحبين لابن القيم (ص: 41).
(كان) مأخوذ من قولهم: كان الرجل كذا وكذا ثم يتحول عن ذلك
(1)
.
وذكر بعضهم في هذه المسألة أن الكون هو الذل، ولم يبين وجهه، ولا يظهر هذا المعنى فيما يذكره أهل اللغة في مادة (كون)
(2)
.
وأما (الكَين) فإنه في الأصل يدل على باطن الشيء، فيطلق على باطن العين
(3)
، ويطلق على باطن فرج المرأة
(4)
، وهو المعهود من هذا اللفظ، ونقل بعضهم قولًا بأنه يمكن حمل الاستكانة عليه بالنظر إلى ذُلِّ ذلك الموضع ومهانته
(5)
، وهذا بعيد، ولو قيل بأن الكين قد يحتمل الذل على هذا الوجه فإنه ذُلٌّ دنيءٌ في أصله ومذموم، لا يليق أن يحمل عليه الذل المحمود في قوله تعالى:{فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} .
وما ذكره السمين الحلبي من باب (الرجل بِكِيْنَةِ سوء) بكسر الكاف؛ أي: بحالة سوء، فإن هذا في الأصل يرجع إلى مادة (كون)، لكن قُلبت الواو ياءً لأجل كسرة الكاف
(6)
، وهو الموافق لمعنى (الكون) فإن الكِينة هي الحالة، وقد يُعبَّر عن الكون بأنه الحالة الماضية، وكذلك قولهم: أكانه يكينه؛ إذا ضعَّفه، فالذي يظهر أنه يرجع إلى ذلك، والتعبير عن معناه بالضعف والخضوع لغة غير مشهورة، "ولو كانت هذه اللغة مشهورة لكانت أحسن الوجوه"
(7)
.
وبالنظر في معنى السكون يظهر أن مادته أقرب المواد إلى معنى الاستكانة، فإن الخاضع الذليل يغلب عليه السكون وترك الحركة، وقد روي عن ابن عباس في الآية:{وَمَا اسْتَكَانُواْ} أنه قال: "تخشَّعوا"
(8)
، والسكون ملازمٌ للخشوع، بل قد يُعبَّر عن الخشوع بأنه
(1)
وهذا الذي فهمه رواة الحديث، كما ذكره عنهم الخطابي في غريب الحديث (2/ 194).
(2)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 300) وتبعه السمين الحلبي في الدر المصون (3/ 432)، ولم يتبين لي وجهه، والسمين الحلبي قد عبَّر عن (الكون) بـ (كان) في عمدة الحفاظ (3/ 440).
(3)
ينظر في المعجم الاشتقاقي المؤصل (مادة: كين): (4/ 2356).
(4)
ينظر (مادة: كين) في العين للخليل (5/ 412)، وجمهرة اللغة لابن دريد (2/ 985)، ومقاييس اللغة لابن فارس (5/ 151).
(5)
ينظر في الخصائص لابن جني (3/ 327).
(6)
ينظر في الحجة لأبي علي الفارسي (6/ 67)، ومقاييس اللغة لابن فارس (مادة: كين): (5/ 151).
(7)
ذكره الخضر اليزدي في شرح الشافية (1/ 53).
(8)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 119)، وابن المنذر في تفسيره (1/ 422)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 782).
السكون، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} [طه: 108]، قال:"سكنت"
(1)
، وقال الواحدي:"أصل الخشوع في اللغة: السكون"
(2)
.
وفي قصة الثلاثة الذين خُلفوا، قال فيها كعب بن مالك:"فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنت أشب القوم وأجلدهم"
(3)
، فجعل الاستكانة مع القعود، وجعل في مقابلها الصبوَة والجلَد، وفي رواية أخرى:"فأما صاحباي فاستكنا" من غير حرف المد
(4)
، فإن كانت ترجع إلى الاستكانة ففيها دليل على أن أصلها من السكون وأن المد فيها لأجل الإشباع.
5) النتيجة:
إن كان حمل الاستكانة على أن أصلها من السكون يخالف القياس، فإن حملها على (الكون) أو (الكين) فيه تكلُّف ظاهر في ربط المعنى، وقد تتابع أهل العلم في هذه المسألة على أن قوة المعنى ترجِّح القول بأن أصل الكلمة السكون، ولكن الخروج عن القياس يضعفه، وأن القياس يرجِّح القولين الآخرين، ولكن التكلُّف في المعنى يضعفهما، والذي يظهر أن رعاية المعنى أولى وإن خالف القياس اللفظي، وقد قال السمين الحلبي:"إذا دار الأمر بين مرجحٍ لفظي ومرجح معنوي، فاعتبار المعنوي أولى"
(5)
، فلهذا يترجح أن أصل الاستكانة من السكون، وهو الموافق لقول جمهور المفسرين، والله أعلم.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (16/ 168).
(2)
التفسير البسيط (2/ 455).
(3)
رواها البخاري في صحيحه (6/ 5/ 4418)، ومسلم في صحيحه (4/ 2124/ 2769).
(4)
رواها أحمد في مسنده (25/ 71)، ويمكن أن تكون بتخفيف النون أو تشديدها، وينظر تفصيلها في كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 128)، وفي حاشية تحقيق مسند أحمد (25/ 80) وذُكر فيها أن التخفيف أشهر، والله أعلم.
(5)
ينظر في الدر المصون (5/ 444)، وهذه الجملة من نفائسه، ولم أقف على من قال بها غيره وإن كان معناها متقررًا.
المبحث الثاني: ترجيحات السمين الحلبي من آية (149) إلى آية (155)
وفيه تسع مسائل:
المسألة الأولى: المخاطبون في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]
•
أصل الخلاف في المسألة:
المسألة تتعلق بالمؤمنين المخاطبين في الآية؛ وهل هي تكملة في مخاطبة المؤمنين في غزوة أُحد، أو عامةٌ معترضة في أثناء الكلام عن غزوة أحد لتحذير المؤمنين جميعًا، ويتفرع عن هذه المسألة تحديد الكفار المذكورين في الآية.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والظاهر أن الخطاب عام لكل مؤمن، وأن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} عامٌّ في كل كافر، ولم يزل الكفرة حراصًا على فتنة المؤمنين وردِّهم إلى دين الشرك، وادِّين ذلك، حتى كانوا يعذبونهم بأنواع العذاب، والقرآن مشحون بذلك، قال تعالى:{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} الآية [النساء: 89]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] إلى غير ذلك من الآي الكريمة.
وقيل: الخطاب لأهل أُحدٍ خاصة، فالمراد بالكافرين قومٌ بأعيانهم، وهذا أوفق للسياق بالنسبة إلى قصة أُحدٍ وما اتفق فيها، فعن علي وابن عباس رضي الله عنهما: هم المنافقون؛ قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أُحد: لو كان محمد نبيًّا لما أصابه ما أصابه مما رأيتم، فارجعوا إلى دينكم الأول ومصافاة إخوانكم.
وعن ابن جريج والحسن: هم اليهود والنصارى؛ قال الحسن: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنهم كانوا يغوونهم ويُوقعون لهم الشُّبه ويقولون لهم: لو كان نبيًّا حقًّا لما غُلب، ولما أصابه وأصحابه ما رأيتم، وإنما هو رجلٌ حاله كحال غيره من الناس؛ يومٌ له ويومٌ عليه، فارجعوا إلى دينكم وإخوانكم واتركوا الرجل وما هو عليه. وعنه أيضًا: هو كعب بن
الأشرف وأصحابه.
وعن السدي: هو أبو سفيان ورهطه من عبَدة الأوثان؛ إن تستأمنوهم وتستكينوا إليهم يردوكم إلى دينهم
(1)
انتهى"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الخطاب في الآية عامٌّ لكل مؤمن، ويظهر هذا الترجيح من ثلاثة وجوه:
الأول: التعبير بالظاهر، وذلك في قوله:(والظاهر أن الخطاب عام لكل مؤمن، وأن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} عامٌّ في كل كافر)، والقولُ الظاهر عنده مقدَّمٌ على غيره.
الثاني: أنه ذكر تعليل هذا العموم بأن الكافرين كلهم حريصون على ردِّ المؤمنين عن دينهم، وذكر أن القرآن مشحونٌ بهذا المعنى.
الثالث: أنه أعاد التنويه بالقول الأول في آخر المسألة بالنقل عن الزمخشري في ذلك، مع أنه حكى القول الأول من قبل، وكأنه لم يتقبل ما في القول الثاني من التخصيص.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
الجاري في عبارات المفسرين في هذه الآية أنهم يشيرون إلى الروايات في قصة غزوة أُحد ثم يتكلمون بعد ذلك عن دلالة عموم الآية
(3)
، وإن كان بعضهم يرجِّح في مناسبة الآية أنها
(1)
الكشاف للزمخشري (1/ 425).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 397 - 398).
(3)
ينظر مثلًا في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 522)، واللباب لابن عادل (5/ 592)، وتفسير أبي السعود (2/ 97 – 98)، والبحر المديد لابن عجيبة (1/ 418)، وأيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري (1/ 390).
من تمام الآيات قبلها
(1)
.
وأما ما اختاره المفسرون في المراد بالذين كفروا في الآية فقد ذُكر قول عليٍّ رضي الله عنه أنهم المنافقون، وذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"نزلت في قول ابن أُبي للمسلمين لما رجعوا من أُحد: لو كان نبيًا ما أصابه الذي أصابه"
(2)
.
واختار هذا أكثر المفسرين
(3)
.
وقد ذُكر عن ابن عباس أيضًا أنهم اليهود وعن الحسن كذلك
(4)
، وروي عن ابن جريج أنه قال بعد أن ذكر الآية:"فلا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم"
(5)
، وعلى ذلك اختار الطبري أنهم اليهود والنصارى
(6)
.
ورُوي عن السدي أنه جعلها في أبي سفيان
(7)
، وإلى هذا مال ابن عاشور أن المراد بالذين كفروا هم المشركون
(8)
.
وما اختاره المفسرون من هذه الأقوال يدل على أنهم يجعلون الخطاب في الآية ابتداءً للمؤمنين في غزوة أُحد.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل للقول الأول بأن هذا هو ظاهر اللفظ كما ذكر السمين الحلبي، فالظاهر أن المخاطب بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هم جميع المؤمنين، وليس في لفظ الآية ما يدل على أن المخاطبين ابتداءً هم أهل أُحد رضوان الله عليهم.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
(1)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 383).
(2)
ينظر قول علي في تفسير الثعلبي (9/ 326) وقول ابن عباس في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 333).
(3)
ينظر في تفسير مقاتل (1/ 306)، وتفسير السمرقندي (1/ 255)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 522)، وتفسير الثعالبي (1/ 121)، وفتح الرحمن للعُليمي (2/ 40)، وتفسير أبي السعود (2/ 97 – 98)، وروح البيان لإسماعيل حقي (2/ 108)، ونداءات الرحمن لأهل الإيمان لأبي بكر الجزائري (ص: 44).
(4)
ينظر قول ابن عباس في التفسير البسيط للواحدي (6/ 59) وقول الحسن في تفسير ابن أبي زمنين (1/ 324).
(5)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 125)، وابن المنذر في تفسيره (1/ 426)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 785).
(6)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 124).
(7)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 125)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 784).
(8)
ينظر في التحرير والتنوير (4/ 121 – 122).
ذكر السمين الحلبي دليلين على القول بأن المخاطبين بالآية هم أهل أُحد:
الأول: السياق، فإن الآيات قبلها والآيات بعدها في غزوة أُحد، فأولى أن تكون هذه الآية من ضمن ذلك، وأن يكون المخاطبون فيها ابتداءً هم الصحابة الذين شهدوا الغزوة.
الثاني: أن الروايات قد أشارت إلى مقولات الكافرين بعد غزوة أُحد من المشركين والمنافقين واليهود والنصارى، فإذا كان المراد بالكافرين ابتداءً فئةٌ معيَّنة من هؤلاء، فإن الخطاب ابتداءً سيتوجه إلى أهل أُحدٍ بلا شك.
4) الموازنة بين الأدلة:
هذه المسألة تنبني على تحديد المراد بالكافرين في الآية؛ قال الطيبي: "اعلم أن التعريف في قوله {الَّذِينَ كَفَرُواْ} إذا حُمل على العهد فالمخاطبون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم المراد بالذين كفروا إما المنافقون
…
أو أهل الكتاب
…
أو المشركون
…
، وإذا حُمل على الجنس فالمخاطبون جماعة المسلمين في جميع الأزمنة، كما أن الكفار عام في اليهود والمنافقين والمشركين"
(1)
، وعليه فإنه إذا ثبت تحديد الذين كفروا في الآية فإنه يبطل الاستدلال بظاهر لفظها أن الخطاب فيها ابتداءً لجميع المؤمنين.
كما أن السياق يشير إلى أن الآية في غزوة أحد، بدليل الآيات التي قبلها فإنها نزلت بعدما أُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا بعضهم إلى الاستسلام للمشركين
(2)
، وكذلك الآية التي بعدها كما روى ابن عباس في قوله {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] أنها في أبي سفيان
(3)
، فتكون هذه الآية في المؤمنين الذين في غزوة أُحدٍ كذلك.
ومقتضى مجموع الروايات في الآية أن المراد بالذين كفروا هم المشركون والمنافقون واليهود والنصارى، وأقربهم فيما يظهر المشركون، لأن الآية في سياق غزوة أُحد فهي تشير إلى الكفار المحاربين، والكفار المحاربون إذ ذاك هم المشركون، والآيات السابقة هي في الكفار المحاربين وأن الربيين لم يستكينوا لهم ولم يطيعوهم بعد مقتل أنبيائهم، وطلبوا من الله أن ينصرهم عليهم،
(1)
حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 297).
(2)
ينظر في أسباب النزول للواحدي (ص: 125) ومجموع الروايات في تفسير الطبري (6/ 98 - 105).
(3)
ينظر في تفسير ابن أبي حاتم (3/ 785).
والآيات اللاحقة أصرح في تحديد المشركين {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا} ، فالأنسب أن يكون المراد بالذين كفروا في الآيتين واحد.
كما أن قوله تعالى {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] يشير إلى ذلك؛ أي: فأطيعوا الله مولاكم ولا تطيعوا الذين كفروا فهو خير الناصرين، فسينصركم عليهم في ميادين القتال، ثم أشار إلى ذلك النصر وأنه النصر بالرعب.
وهذا لا يدل على إهمال ما ذكره المفسرون من أن الآية في المنافقين بسبب مقولتهم في الدعوة إلى الكفر، فإن المنافقين استغلوا الموقف في غزوة أُحد ودعوا إلى طاعة الكافرين المشركين وموالاتهم، فجاءت هذه الآية في الرد على المنافقين بالنهي عن طاعة الكافرين المشركين وموالاتهم.
وأما اليهود والنصارى فليس لهم ذكر في سياق هذه الآيات، وقد سبق التصريح بالنهي عن طاعتهم في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، ويحمل ما ذكره ابن جريح على أنه تعليقٌ على الآية واستشهاد بعمومها في النهي عن طاعة الكافرين، وهذا هو الظاهر من صنيع ابن أبي حاتم في تفسيره، فإنه اقتصر في قوله تعالى {إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُواْ} على رواية السدي في أنهم المشركون، ولم يذكر في ذلك وجهًا آخر، ثم جعل رواية ابن جريج تابعة للروايات في التعليق على قوله تعالى:{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
(1)
.
5) النتيجة:
الذين يظهر أن الخطاب في الآية يتوجه ابتداءً إلى المؤمنين في غزوة أُحد، وهو مقتضى أقوال المفسرين في تحديد الذين كفروا في الآية، واختلافهم في تحديد الذين كفروا لا يقضي بردِّ أقوالهم، بل يدل على اتفاقهم في أن الآية في شأن غزوة أُحد وما ورد فيها، ويكون اختلافهم بسبب تعدد الروايات في غزوة أُحد وما قيل فيها، والله أعلم.
(1)
ينظر في تفسير ابن أبي حاتم (3/ 784 – 785)، وينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 121 – 122).
المسألة الثانية: العطف في قول الله تعالى {فَأَثَابَكُمْ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف هنا في العطف في قوله تعالى {فَأَثَابَكُمْ} ، على ماذا عُطف الفعل؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وفي {فَأَثَابَكُمْ}
(1)
وجهان:
أحدهما: أنه عطف على {صَرَفَكُمْ} ، وبهذا قال الزمخشري كما قدمنا تقريره عنه، وناقشه فيه الشيخ فقال:«وفيه بُعد لِطول الفصل بين المتعاطفين»
(2)
.
والثاني: أنه عطف على {تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ} ، فيكون في موضع خفضٍ بإضافةٍ إليه
(3)
، وجعل الشيخ هذا هو الظاهر.
فإن قيل: هذا ماض وما عُطف هو عليه مضارع!
فالجواب أن المضارع ماضِ المعنى لأنه في خبر (إذ)، و (إذ) للمُضي، فـ {تُصْعِدُونَ}
(1)
في نسخة كتاب القول الوجيز: "وفي {ما فاتكم} وجهان" ولعله خطأ في النسخ لتشابه الرسم، أو انتقال ذهن، لأن قوله {ما فاتكم} لم يأت بعد، ولا يستقيم القول إلا بإثبات {فأثابكم} ، وهو المذكور في الدر المصون (3/ 441).
(2)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 388).
(3)
أي: بإضافة (إذ) إليه.
و {تَلْوُنَ} وإن كانا مضارعين فمعناهما ماض؛ إذ التقدير: إذ صعدتم وما لويتم على أحدٍ فأثابكم ضر، فهو مثل قوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أي: وإذ قلت"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجح القول الثاني، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه تعقب القول الأول وحكى الرد عليه
(2)
.
الثاني: أنه حكى ترجيح شيخه أبي حيان للقول الثاني بأنه هو الظاهر، والظاهر عنده مقدَّمٌ على غيره.
الثالث: أنه دافع عن القول الثاني بطرح الإشكال ثم الرد عليه.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
في هذه المسألة وافق السمين الحلبي شيخه أبا حيان
(3)
خلافًا لكثيرٍ من المفسرين والمعربين، ولم يوافقهما من أهل العلم إلا القليل
(4)
، فأكثر أهل العلم على أن قوله {فَأَثَابَكُمْ} معطوف على قوله {صَرَفَكُمْ}
(5)
، وإمامهم في هذا الزمخشري، ولعل أبا حيان هو أول من خالفه في هذه المسألة.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 428 – 429).
(2)
وفي الدر المصون (3/ 441) ذكر الرد بنفسه من غير يحكيه عن شيخه، فقال:"وفيه بعد لطول الفصل".
(3)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 388).
(4)
ينظر في حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (3/ 71)، والجدول في إعراب القرآن للصافي (4/ 340).
(5)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 427)، والكتاب الفريد للهمذاني (2/ 151)، وتفسير البيضاوي (2/ 43)، وتفسير النسفي (1/ 302)، وتفسير أبي السعود (2/ 100)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 447)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 304)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 131)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين (2/ 76).
استدل أصحاب هذا القول بما في الفاء في قوله {فَأَثَابَكُمْ} من معنى السببية، وأن الصرف في قوله {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} سببٌ لهذه الإثابة بالغم
(1)
، فإن الدولة كانت للمسلمين في أول غزوة أُحد، ثم صرف الله المسلمين عن المشركين وتسلَّط المشركون عليهم، فتفرَّع عن ذلك أن أثابهم الله بالغم، فكان الصرف سببَ إثابتهم بالغم.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
نقل السمين الحلبي عن شيخه أبي حيان دليل هذا القول وأنه هو الظاهر المتبادر للذهن، فإن الأصل أن يكون العطف على أقرب مذكورٍ في السياق، وأقرب المذكورات التي يصح عليها احتمال العطف هي قوله تعالى:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ} .
4) الموازنة بين الأدلة:
الأصل أن يكون العطف على أقرب مذكور، ولا ينبغي العطف على مذكورٍ بعيد مع إمكان العطف على القريب، ولعل الذي منع من ذلك هو الإشكال الذي ذكره السمين الحلبي، وقد ذكر جوابه.
ويظهر أن الإشكال يرجع إلى اشتراط اتحاد الزمن عند عطف الفعل على الفعل، وهذا الشرط لا يلزم منه اتحاد نوعي الفعل بحيث يكونا إما ماضيين أو مضارعين، بل يصح عطف الماضي على المضارع إذا كان زمانهما واحدًا، كقوله تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]، فالفعلان (يَقدُم) و (أوردهم) مختلفان في نوع الفعل لكنهما متحدان في الزمن، فهما جميعًا في المستقبل
(2)
، وفيما ذكره السمين الحلبي في المسألة التي نحن فيها يتضح أنه لا مانع من عطف الفعلين لاتحادهما في زمن المضي.
ثم إن الاستدلال للقول الأول بما في الفاء من معنى السببية يمكن أن يكون كذلك للقول الثاني، فإن الإصعاد والهروب من المعركة تفرَّع أيضًا عن الصرف، فتفرَّع عنه الإثابة بالغم، فكان إصعادهم وهروبهم سببًا في مجازاتهم بالغم، ولو أنهم ثبتوا استجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الثبات {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} لما جازاهم الله بالغم.
(1)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 361).
(2)
ينظر في أوضح المسالك لابن هشام (3/ 354).
وعطفُ إثابةِ الله على إصعادهم أنسب مع معنى الثواب والمجازاة، فإن الإثابة أنسب أن تعطف على فعلهم لا على فعل الله عز وجل، فالتقدير بأنهم (هربوا فجازاهم الله غمًّا) أنسب من أن يقال: صرفهم الله عن عدوهم فجازاهم غمًّا.
وقد ذكر بعض أصحاب القول الأول أن طول الفصل لا يضر؛ إذ الفاصل ليس بأجنبي
(1)
، وذكر أبو حيان بين الآيتين كلامًا حسنًا يمكن الرد به على هذا، فذكر أن ما قبل قوله تعالى {إِذْ تُصْعِدُونَ} "جُمُلٌ مستقلة يحسن السكوت عليها، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها، إنما تتعلق به من حيث إن السياق كله في قصة واحدة"
(2)
.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن قوله تعالى {فَأَثَابَكُمْ} معطوف على قوله {تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ} ، وهذا هو الذي يوافق القاعدة في العطف أن يكون على أقرب مذكور، والله أعلم.
(1)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 361).
(2)
ينظر البحر المحيط (3/ 385).
المسألة الثالثة: وجه التعليل في قوله {لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف حول لام التعليل في قوله: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ} ؛ هل هي تعليلٌ لإثابة الغم في قوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} ، أو هي تعليل لعفو الله في قوله:{وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} .
ويتفرَّع عن القول الأول تحديد الوجه في (لا) في قوله {لِّكَيْلَا} ؛ هل هي (لا) النافية، أو أنها مزيدة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وفي {لِّكَيْلَا} وجهان:
أحدهما: أنه متعلَّق {فَأَثَابَكُمْ} ، وعلى هذا ففي (لا) وجهان:
o (أحدهما): أنها على بابها من كونها نافية غير مزيدة، فاستُشكل على هذا أنه لا يثيبهم الغم لينفي عنهم الحزن؛ إذ لا يترتب على غمِّهم انتفاء حزنهم، بل معناه العكس؛ أي: غمَّهم ليحزنوا عقوبةً لهم على ما حدث منهم من مزايلة المركز والاشتغال بالنهب والأخذ في الهزيمة.
وأجبتُ عن ذلك بما ذكره الزمخشري من أن المعنى: «ليتمرنوا على تجرُّع الغموم» إلى آخره
(1)
، فجعل العلَّة ثبوتية، وهي التمرُّن على تجرُّع الغموم والصبر على احتمال الشدائد، ورتَّب على ذلك انتفاء الحزن، وجعل ظرف الحزن هو مستقبَلٌ لا تعلُّق له بقصة أُحد، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة.
وقال ابن عطية: «المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثرُ قلقِ المُعاقَب
(1)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 427).
وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه»
(1)
انتهى.
o (الوجه الثاني من وجهي (لا)): أنها مزيدة، لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن، فهي هنا كهي في قوله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]؛ قاله أبو البقاء، وقد تقدَّم جواب هذا.
والثاني من وجهي تعلق اللام: أنها متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} ؛ أعلمهم الله تعالى بذلك ليسليهم عما فاتهم وعما أصابهم من الغم، وهذا وإن كان جائزًا في المعنى إلا أن فيه بُعدًا لطول الفصل بين العامل والمعمول"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن لام التعليل متعلقة بالإثابة، لأنه استبعد القول الآخر بطول الفصل
(3)
، ثم إنه يرجِّح أن (لا) نافية، وذلك يظهر من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه قال في أول الأمر عنها (أنها على بابها من كونها نافية غير مزيدة)، وهو بهذا ينوِّه بالقاعدة التي يرجِّح بها، وهي قاعدة:"إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى".
الثاني: أنه طرح الإشكال عليها وجعل الجواب عنه شأنًا من شؤونه بقوله: (وأجبتُ عنه)، فكأن القول قوله وهو يدافع عنه.
الثالث: أنه ذكر علة القول الآخر بكون (لا) مزيدة، وذلك في قوله:(لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن)، ولم يذكر له علة غير هذه، ثم ذكر أنه قد أجاب عن هذه العلة بقوله:(وقد تقدَّم جواب هذا)، فهو ينفي علة هذا القول، فهو ساقط عنده.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
اتفق أكثر المفسرين على أن قوله تعالى {لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا
(1)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 527).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 429 – 430).
(3)
وكذلك استبعده في الدر المصون (3/ 443).
أَصَابَكُمْ} هو تعليل لقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} ، فبعضهم يجري في تفسير الآية على أن الحكمة من الإثابة بالغم هي نفي الحزن عنهم
(1)
، وعلى هذا جرت الروايات عن مجاهد
(2)
، وقتادة
(3)
، والسدي والربيع بن أنس
(4)
، وبعضهم يصرِّح بأن لام التعليل متعلقة بقوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}
(5)
.
وقد نقل بعضهم القول بأن (لا) زائدة، ومنهم أبو البقاء العكبري
(6)
كما ذكر ذلك السمين الحلبي، لكن لم يرجح هذا القول منهم إلا القليل
(7)
، ويظهر أن أول من قال بأنها زائدة هو المفضل بن سلمة
(8)
، كما حُكي عنه
(9)
.
أما إرجاع لام التعليل إلى قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} ، فقد ذكر الواحدي أنه قد قال به بعض النحويين
(10)
، واستحسنه القرطبي
(11)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن الاستدلال للقول بأن لام التعليل متعلقة بقوله {فَأَثَابَكُمْ} بدليلين:
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 157)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 184)، والكشاف للزمخشري (1/ 427)، وزاد المعاد لابن القيم (3/ 203)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 305)، وتفسير السعدي (ص: 152).
(2)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 156).
(3)
رواها عبد الرزاق في تفسيره (1/ 419)، وعنه الطبري في تفسيره (6/ 151) وابن المنذر في تفسيره (2/ 452).
(4)
روى عنهما الطبري في تفسيره (6/ 152).
(5)
ينظر في المحرر الوجيز ابن عطية (1/ 527)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 388)، والبحر المديد لابن عجيبة (1/ 421)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (3/ 132)، والمجتبى للدكتور أحمد الخراط (1/ 147).
(6)
ينظر في التبيان في إعراب القرآن (1/ 302).
(7)
كما في إعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 74)، وإعراب القرآن لأحمد الدعاس وآخرين (1/ 166).
(8)
أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي، اللغوي المعروف وهو كوفي المذهب، لقي ابن الأعرابي وغيره، وصنَّف التصانيف المشهورة، منها (البارع) في علم اللغة، و (الفاخر) في الأمثال، وقد طُبع، و (ضياء القلوب) في معاني القرآن، توفي بعد (290)؛ ينظر في الفهرست لابن النديم (ص: 99)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 205).
(9)
حكاه عنه الثعلبي في تفسيره (9/ 339)، وذكره الواحدي أيضًا في التفسير البسيط (6/ 87).
(10)
كما في التفسير البسيط للواحدي (6/ 85)، ورجَّح فيه القول الآخر، ثم في الوجيز (ص: 238) اقتصر على قولهم.
(11)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 241).
الأول: أن هذا هو المتوافق مع الروايات في قصة غزوة أُحد، وهي تحكي الواقع
(1)
، وقد نقل بعض أهل العلم أن الآية نزلت بعد الغم الذي كانوا فيه
(2)
.
الثاني: أن هذا هو الظاهر المتبادر للذهن أن يتعلق التعليل بالقريب المذكور المجاور للعبارة، وهو قوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}
(3)
.
ويُستدل للوجه الذي رجَّحه السمين الحلبي بأن (لا) في قوله {لِّكَيْلَا} نافية بأن قد جاء تأكيد النفي وتكراره مما يدل على أنه مقصود، فإنه سبحانه قال:{لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} ، فالنفي في قوله {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} تأكيدٌ للنفي الذي قبله
(4)
.
وأما جعل (لا) مزيدة، فيمكن أن يُستدل له بأنه أظهر من ناحية أنه سالمٌ من التقدير والتأويل؛ إذ القول بأن (لا) نافية يحتاج إلى تقديرٍ أو تأويلٍ للحزن أو الغم ليتبين المعنى المراد
(5)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل من قال بأن لام التعليل متعلقة بقوله {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} بأن هذا هو المناسب لانتفاء الحزن، فعفو الله عز وجل يذهب كل حزن
(6)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
تقدَّم في المسألة السابقة الفصلُ بين الآية التي نحن فيها والآية التي قبلها، وأن الآية السابقة قد حوت جُملًا مستقلة يحسن السكوت عليها، فهذا هو المناسب للمعنى، فلا يسوغ أن يُستدل على أن قوله تعالى {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ} يرجع إلى قوله {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} بأن هذا هو المناسب للمعنى، لأنه وإن صار المعنى مناسبًا في هذه الآية فإنه يُخِل بتناسب المعنى في
(1)
وستأتي الإشارة إلى هذه الروايات.
(2)
نقله ابن حجر في العُجاب في بيان الأسباب (2/ 770) عن مقاتل بن سليمان بلفظ: "فأنزل الله تعالى: {لكيلا تحزنوا
…
} "، وهي في تفسير مقاتل (1/ 307) بلفظ: "فذلك قوله سبحانه: {لكيلا تحزنوا
…
} "، والله أعلم.
(3)
ينظر البحر المحيط لأبي حيان (3/ 388).
(4)
ينظر في حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (3/ 71).
(5)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 362).
(6)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 86).
الآية السابقة، فلا تكتمل في معانيها ومقاصدها إلا بتعلقها بالآية التي بعدها، وهذا لا يناسب إذا كان يمكن حملها على التمام بمفردها والاستقلال عن غيرها.
كما أنه لا يناسب في نظم الكلام وتسلسله أن يكون مُتعلَّق لام التعليل بعيدًا، بحيث يفصل بين المعلول وعلته عدة جُمل، وهذا ما أشار إلى السمين الحلبي بطول الفصل بين العامل والمعمول.
وبهذا يتبين ضعف دليل هذا القول، وقوة الدليل في القول الآخر، فهو المتوافق مع الروايات التي تحكي ما جرى في غزوة أُحد، وهو الظاهر المتبادر للذهن بجعل لام التعليل متعلقة بالمذكور المجاور لها، وهو قوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} .
إذا تبيَّن بأن هذا هو الظاهر فإنه يمكن أن يقال بأن ظهوره سيكون أكمل إذا جعلنا (لا) زائدة، فإننا بذلك لا نحتاج إلى تكلُّفٍ في التأويل، أو تجوُّزٍ في التعبير، ويمكن الإجابة عن هذا من أربعة وجوه:
الأول: أن جعل (لا) زائدة لا يناسب من حيث المعنى، فإنه ولو كان المعنى فيه بسيطًا لا تكلُّف فيه إلا أنه لا يليق الحمل عليه، لأنه بذلك يكون الله سبحانه أراد بعباده الحزن، ولو قيل بأنه عقوبة فإن هذا لا يستقيم؛ كيف وقد قال سبحانه في سياق الآيات التي نزلت في هذه السورة:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 139 إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 139 - 140]، فهو تبارك وتعالى يواسيهم فيما أصابهم في هذه الغزوة، ويسليهم لكيلا يحزنوا، فكيف يقال إنه سبحانه هو الذي أراد الحزن بهم وهو الذي نهاهم عنه
(1)
؟!
والسياق يدل على أن الله أراد بهم خيرًا من بعد ذلك الغم ولم يُرِد بهم عقوبة، كما قال تعالى في الآية بعدها:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ} [آل عمران: 154]، فجعل لهم ما يؤَمِّنهم ويطمئنهم من بعد ذلك الغم، ولو أراد بهم عقوبةً لم يكن لهم ذلك.
الثاني: أن من قواعد الترجيح أن "إعمال الكلام أولى من إهماله"، وأنه "إذا دار الأمر بين
(1)
أشار لأصل هذا المعنى الشيخ العثيمين في تفسيره لسورة آل عمران (2/ 322، 325)، وهي إفادةٌ لم يُسبَق إليها.
الزيادة والتأصيل فحمله على التأصيل أولى"
(1)
، فلا تحمل (لا) في قوله {لِّكَيْلَا} على الزيادة، وأيضًا فإنه يلزم من حملها على الزيادة حمل (لا) في قوله {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} على الزيادة كذلك.
الثالث: أن من قواعد الترجيح أيضًا: "إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى"، وبقاء (لا) على ما وضعت له من كونها نافية أمرٌ ممكن، فهو أولى.
الرابع: أنه يمكن حمل الآية على المعنى اللائق من غير تكلُّف، ومن ذلك أن يقال إن هذه الغموم التي أصابتهم من أجل أن ينسي بعضها بعضًا فلا يحزنوا على ما أصابهم ولا ما فاتهم، وليس بغريبٍ أن ينسى المغموم أمرًا كان يحرص عليه، فلا يحزن بعد ذلك على فواته، أو ينشغل بغمه عن أمرٍ أصابه، فلا تحزنه المصيبة، وليس بغريبٍ أيضًا أن يُراد بالمرء ما يسوءُه ليتحقق له أمرٌ ينفعه، فربما كان الدواء بالداء، وربما صحَّت الأجسام بالعلل
(2)
.
5) النتيجة:
الراجح أن التعليل في قوله تعالى {لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} هو تعليل لإثابة الغم في قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} ، وأن (لا) في قوله {لِّكَيْلَا} هي على بابها في أنها نافية، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم كما ذكر أبو حيان
(3)
. والله أعلم
(1)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين الحربي (2/ 495 – 499).
(2)
ينظر في زاد المعاد لابن القيم (3/ 204)، ونظم الدرر للبقاعي (5/ 96)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 305)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 322).
(3)
ينظر في البحر المحيط (3/ 388).
المسألة الرابعة: مكان نزول الأمنة
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف حول الروايات في الآية، فإن الروايات ظهر منها الاختلاف في تحديد المكان الذي نزلت في الأمنة المذكورة في الآية بما يُفهم منه التعارض، فكيف يُجاب عن هذا الأشكال؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلفوا في المكان الذي نزلت فيه الأمنة، فثبت في البخاري أن أبا طلحة قال:«غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه»
(1)
، وفي رواية أخرى:«ورفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدًا من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته»
(2)
، فهذا يدل على أنه كان ذلك في حين المحاربة بأُحد.
(3)
.
وقال الجمهور
(4)
: إن ذلك حين أرتحل أبو سفيان ومن معه من المشركين من موطن
(1)
رواه البخاري في صحيحه (6/ 38/ 4562).
(2)
رواها الترمذي في الجامع (5/ 229/ 3007) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 168)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 457)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 795).
(4)
حكاه أبو حيان وسيأتي، ولم أهتدِ إلى تعيين الجمهور، ولعلهم علماء السيرة، وعباراتهم ليست صريحة في هذا القول.
الحرب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عمه علي بن أبي طالب:(اذهب فانظر القوم، فإن جنَّبوا الخيلَ وركبوا الأبل فهم ناهضون إلى مكة، وإن ركبوا الخيل فهم عائدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا)، ووطَّنهم عليه السلام على القتال وشجعهم على لقاء العدو، فذهب عليٌّ رضي الله عنه فوجد القوم قد امتطوا الابل وجنَّبوا الخيل، فرجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فسُرَّ المسلمون وأمِنوا، فأصابهم النعاس وذهب عنهم القلق، وأما المنافقون فلم يُصدِّقوا لِما داخَلهم من الرعب ولما اشتملت عليه قلوبهم من الكفر، فلم يأخذهم نعاس
(1)
.
وأيَّد بعضهم قول الجمهور بقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [آل عمران: 153]، وهذا إنما بعد أن هُزموا وتفرقوا ورحل المشركون عن موطن الحرب.
وإذا ثبت القولان فكيف يُجمع بينهما؟
فأجاب بعضهم أن المصاف الذي أخبر به أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسر، وأشرفَ عليهم أبو سفيان من على الجبل في الخيل المتكاثرة، فرماهم الرماة ومَن كان انحاز إلى الجبل بالحجارة، وأغنى عمر بن الخطاب غَناءً مشهورًا، فأنزلوهم عن مكانهم ذلك، ولم يبرحوا مكانهم ذلك حتى جاءهم خبر قريشٍ أنهم قد ارتحلوا فغشيهم من النعاس ما غشيهم، لحصول الأمن لهم، وأما المنافقون فبقوا خائفين على ما كانوا عليه، وهذا شأن الجبان"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يختار السمين الحلبي أن الأمَنَة نزلت على المؤمنين لما كانوا على الجبل في نهاية المعركة، وأن ذلك لم يكن على ساحة المعركة في الأسفل، لأنه حكى الروايات عن أبي طلحة والزبير رضي الله عنهما وبيَّن أن ظاهرها يتعارض قول الجمهور، ثم حكى القول في الإجابة عن هذا الإشكال واقتصر عليه، فدل على أن هذا القول الذي يختاره وينفي به وقوع التعارض.
وهذا الاختيار في الحقيقة هو تفصيلٌ لقول الجمهور، فاختار السمين الحلبي القول الثاني الذي عليه الجمهور، ثم وجَّه القول الأول وجعله تابعًا لقول الجمهور.
(1)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 160) بمعناه من قول السدي.
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 432 – 433).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
هذه المسألة نقلها السمين الحلبي عن شيخه أبي حيان، فإنه هو الذي أشار إلى وجود التعارض وهو الذي أجاب عنه
(1)
، وقد ذكر أن القول بأن الأمَنَة نزلت في نهاية المعركة بعد افتراق الجيشين هو قول الجمهور، ولم أقف على من نفى هذا القول أو ذكر أن الأمَنَة نزلت قبل انكسار الجيش واختلال صفه.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن النعاس وقع منهم أثناء الحرب
(2)
، لكن العبارة ليست صريحة في نفي قول الجمهور، فإن غالب من يذكر أن النعاس كان في حال الحرب إنما يذكر ذلك ليبين أنه آية من آيات الله في أن النعاس يغشاهم في مثل هذه الحال، وأحسن العبارات في ذلك ما ذكره أبو نعيم في دلائل النبوة من أن النعاس غشيهم مع قُرب العدو منهم
(3)
.
وكما حُمِلت رواية أبي طلحة رضي الله عنه من أن المصاف الذي ذكره كان في نهاية المعركة لما كانوا في الجبل، فإنه يمكن حمل من قال من أهل العلم أن النعاس غشيهم في حال الحرب أن ذلك في نهاية الحرب، وأن العدو قريبٌ منهم لم يرتحل إلى مكة بعد، والله أعلم.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل للقول الأول بأن الأمَنَة نزلت في ساحة المعركة أثناء الاصطفاف وتقابل الجيشين بما ثبت في رواية أبي طلحة رضي الله عنه: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد»
(4)
، فالظاهر من قول أبي طلحة «ونحن في مصافنا» أن النعاس كان أثناء الاصطفاف في ساحة المعركة قبل أن ينكسر جيش المسلمين ويختلَّ صفهم
(5)
، وقد ثبت في آخر الرواية الأخرى لأبي طلحة الاستشهادُ بالآية: «فذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
(1)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 389 - 390).
(2)
ينظر في البداية والنهاية لابن كثير (4/ 32)، والسيرة الحلبية لنور الدين الحلبي (2/ 212)، والرحيق المختوم للمباركفوري (ص: 249).
(3)
ينظر في دلائل النبوة لأبي نعيم (ص: 487).
(4)
رواها البخاري بهذا اللفظ في صحيحه (6/ 38/ 4562).
(5)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 390).
نُّعَاسا}»
(1)
، فهذا يدل على أن النعاس المذكور في الآية هو الذي كان في المصاف قبل أن ينكسر الجيش.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن الاستدلال للقول الثاني بأن الأمَنَة نزلت في نهاية المعركة بعد افتراق الجيشين بدليلين:
الأول: الرواية التي ذكرها السمين الحلبي أنها قول الجمهور، وهي رواية السدي، وقد ابتدأ بها بعض المفسرين وجعلوا الروايات الأخرى بعدها
(2)
.
الثاني: سياق الآية، ففيه ثلاث إشارات:
أولها: أن الآية أفادت أن الأمَنَة نزلت عليهم من بعد الغم، والغم إنما أصابهم في أواخر أحداث المعركة، فإن الله ذكر أحداث المعركة ثم ذكر الغم بعد ذلك، كما قال تعالى:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}
(3)
.
وثانيها: أن في قوله {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة} ما يفيد المهلة والتأخير، لما في (ثم) من الدلالة على التراخي، ففيه إشارة إلى أن الأمَنَة نزلت بعد الغم بفترة، وذلك مؤذِنٌ بأنها في نهاية المعركة
(4)
.
وثالثها: أن الله حكى حال الطائفة التي لم تنزل الأمَنَة عليها، وذكر من أحوالهم:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، ففيه إشارة إلى أن قولهم هذا كان بعد نهاية المعركة، وكان قولهم هذا في حال نزول الأمنة على أهل الإيمان، ويشهد لهذا رواية الزبير رضي الله عنه:«وإني لأسمع قول مُعتِّب بن قُشير والنعاس يغشاني: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا)»
(5)
.
(1)
رواها الترمذي في الجامع (5/ 229/ 3007) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
هي أول ما رواه الطبري في تفسير الآية (6/ 160)، وتبعه في تقديم ذكرها مكي ابن أبي طالب في الهداية (2/ 1156)، وابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 527)، والآلوسي في روح المعاني (2/ 306).
(3)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 390).
(4)
ينظر في تفسير ابن عرفة (1/ 430).
(5)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 168)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 457)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 795).
4) الموازنة بين الأدلة:
ظاهر رواية أبي طلحة رضي الله عنه تدل على أن النعاس غشيهم قبل الحرب، لأن المصافَّة وترتيب الصفوف إنما تكون قبل الحرب إذا كانوا في مقابل العدو
(1)
، وهذا هو المتبادر للذهن من هذه العبارة، لكن سياق الآية يشير إلى أن النعاس غشيهم بعد انكسار الجيش واختلال صفه، ولا يمكن أن يقال إن ذلك النعاس في الصف إنما هو خاص بأبي طلحة وحده لأنه قد ذكر في الرواية الأخرى أنه رفع رأسه فرأى القوم قد غشيهم النعاس كذلك
(2)
، ويبعُد أن يكون النعاس قد غشيهم مرتين؛ مرة في المصاف، والمرة الأخرى في نهاية المعركة، فلو كان شيء مثل هذا لكان له ذكرٌ في الروايات وفي كتب المغازي، وعلى هذا فيلزم ترجيح أحد القولين وتوجيه القول الآخر.
أما من حيث الرواية فإن رواية أبي طلحة أصح وأشهر بخلاف رواية السدي الذي لم يشهد المعركة، لكن سياق الآية يمنع أن يكون النعاس في أول المعركة، بل ذلك بعد انكسار الجيش واختلال صفه، وهذا ظاهر في أول الآيات من قوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] إلى قوله {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} [آل عمران: 154]، فالعطف بـ (ثم) يمنع أن يكون ذلك في أول المعركة.
بعد هذا يتجه الاحتمال إلى أن يكون النعاس قد غشيهم وهم في المعركة قبل نهايتها بدليل ما جاء في رواية أبي طلحة من أن السيف كان يسقط من يده، فهذا يدل على أن النعاس كان في حال القتال، لكن هذا يبعده ما جاء في رواية أبي طلحة نفسها من أن النعاس غشيهم وهم في المصاف، وما جاء في الرواية الثانية عنه من أن النعاس غشي كثيرًا منهم في وقت واحد، وقوله تعالى {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} يدل على تفرقهم.
وبالتأمل في الظرف الذي يمكنهم فيه الاجتماع مرةً أخرى وتسوية الصفوف، فإن الأقرب أن يكون ذلك في نهاية المعركة حيث امتنعوا من عدوهم، وهو الظرف المناسب لانجلاء الغم عنهم، ثم من بعد الغم تنزل الأمَنَة عليهم ويغشاهم النعاس.
5) النتيجة:
(1)
ينظر (مادة: صفف) في مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 275)، والنهاية لابن الأثير (3/ 38).
(2)
وهي رواية الترمذي التي سبق ذكرها.
الذي يظهر أن الأمَنَة نزلت على أهل الإيمان في نهاية المعركة لما نزحوا إلى الجبل، وقد جاء في السيرة أنهم في آخر المعركة نزحوا إلى الجبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليًا لينظر في أمر المشركين، لكن من غير ذكر النعاس بعد ذلك
(1)
، وقد روي في بعض الآثار في أن النعاس كان يغشاهم والمشركون تحتهم، ذُكر أن أبا اليَسَر
(2)
(3)
.
وروي عن الزهري أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد في أصل الجبل، حتى أُرسل عليهم النعاس أمنة منه، وإنهم ليغُطُّون حتى إن حجفَهم لتنتطح في أيديهم والعدو تحتهم
(4)
.
وعلى هذا تُحمل الروايات عن أبي طلحة والزبير رضي الله عنها وغيرهم؛ أن النعاس غشيهم في آخر المعركة، كما فعل الجصاص رحمه الله حيث قال في هذه الآية: «قال طلحة وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس: كان ذلك يوم أُحد بعد هزيمة مَنْ انهزم من المسلمين، وتوَعَّدَهم المشركون بالرجوع
(5)
، فكان مَنْ ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال، فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين»
(6)
. والله أعلم.
(1)
ينظر في سيرة ابن هشام (2/ 86، 94).
(2)
هو كعب بن عمرو الأنصاري السُّلَمي، شهِدَ العقبة، وانتزع الراية يوم بدر، وشهِد أُحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة، توفي بالمدينة سنة خمس وخمسين وقيل إنه آخر من مات من البدريين؛ أخرج له مسلمٌ في صحيحه؛ ينظر في الطبقات لابن سعد (3/ 581)، والسيَر للذهبي (2/ 537).
(3)
ذكره الواقدي في المغازي (1/ 296).
(4)
رواه أبو نعيم في الدلائل (ص: 487).
(5)
لعله يقصد مواعدة أبي سفيان التي من بعدها أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا لينظر في آثارهم، أو يقصد أن المشركين توعدوهم بأن يرجعوا إليهم ويستأصلونهم في مكانهم، والله أعلم.
(6)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 328).
المسألة الخامسة: التوجيه في قراءة {أمنة نعاسًا تغشى طائفة منكم} [آل عمران: 154] بالتاء
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف هو في قراءة {تغشى} بتاء التأنيث
(1)
، وذلك في قوله تعالى:{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنَةً نعاسًا تغشى طائفة منكم} ؛ كيف يكون إعراب الجملة الفعلية {تغشى} في هذه القراءة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقرأ الأخوان {تغشى} بالتأنيث، والباقون بالياء من تحت، وقد خرَّجوا قراءة التأنيث على أنها صفةٌ لـ {أمَنَة} مراعاةً لها، ولا بد من تفصيل، وهو إن أعربوا {نعاسًا} (بدلًا أو عطف بيانٍ) أشكل قولهم من وجهين:
o أحدهما: أن النحاة نصوا على أنه إذا اجتمع الصفة و (البدل أو عطف البيان) قُدِّمت الصفة وأُخِّر غيرها، وهنا قد قدَّموا (البدل أو عطف البيان) عليها.
o والثاني: أن المعروف في لغة العرب أنْ تُحدِّث عن البدل لا عن المبدل منه؛ نحو: هندٌ حُسنُها فاتن، ولا تقول (فاتنة) إلا على ضعف، فجعلهم {نعاسًا} بدلًا من {أمَنَة} يضعف بهذا.
• فإن قيل: قد جاء ذلك كقوله:
وكأنه لَهِقُ السراةِ كأنه ما حاجبية معَيَّنٌ بسواد
فقال (معيَّن) مراعاة للهاء، وهي المبدل منه، ولو راعى البدل لقال: معيَّنان؛ أي: الحاجبان، ومثله قول الآخر:
إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب
فراعى السيوف في قوله: تركت، ولو راعى البدل لقال: تركا؛ أي:
(1)
وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف؛ ينظر التيسير لأبي عمرو الداني (ص: 316) والنشر لابن الجزري (2/ 242).
الغُدوُّ والرواح.
• فالجواب أنهما نادران، وبتقدير عدم الندور يُخرَّج الأول على أنه أخبر عن الحاجبين بـ (معيَّن)، لأنهما جريا مجرى الشي الواحد؛ نحو قوله:
بها العينان تنهلُّ
وعن الثاني بأن غُدوُّها ورواحُها ظرفان؛ أي: في غُدوُّها.
وإن أعربوا {نعاسًا} مفعولًا لأجله لزم الفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول له.
وكذا إن أعربوه مفعولًا به و {أمَنَة} حال لزم الفصل أيضًا، وفي جوازه نظر.
فالأحسن حينئذ أن تكون هذه الجملة استئنافية جوابًا لسؤال مقدَّر؛ كأن قائلًا قال: ما حكم هذه الأمنة؟ فأُجيب بقوله: تغشى طائفة"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الجملة في قوله تعالى {تغشى طائفة منكم} هي جملة استئنافية وليست صفةً لما قبلها، ويظهر ذلك من وجهين
(2)
:
الأول: صيغة التفضيل لهذا القول، وذلك في قوله (فالأحسن).
الثاني: أنه ذكر الإشكالات على القول الآخر وفصَّل في ذلك حتى استوفى جميع الوجوه، فهو يمنع من القول الآخر مطلقًا بسبب هذه الإشكالات.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
قليلٌ من أهل العلم من تعرَّض لهذه المسألة بالتفصيل، وإنما ذكر أهل العلم أن التاء في {تغشى} ترجع إلى الأمَنَة
(3)
، ولم يذكروا وجهها في الإعراب؛ هل هي تابعةٌ لما قبلها أم لا.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 435 – 437).
(2)
وهذان الوجهان مذكوران في الدر المصون أيضًا (3/ 445 – 446).
(3)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 240)، وتفسير الطبري (6/ 160)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 479)، والحجة لأبي علي الفارسي (3/ 89)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 226).
ومن أهل العلم من صرَّح بأن الجملة صفة ولم يتعرَّض للإشكالات المذكورة
(1)
.
والذي ذكر هذه المسألة في الأصل وأظهر الإشكالات فيها هو أبو حيان
(2)
، ثم تبعه السمين الحلبي في تقريره وأعاد صياغة المسألة وزاد عليه ورجَّح جوابه عن الإشكالات، وتبعهم على ذلك الآلوسي وغيره
(3)
، واقتصر أبو السعود على القول بأن الجملة صفة لـ {أمَنَة} وذكر الإشكالات على هذا القول، ولم يذكر قولًا غيره
(4)
.
ومن أهل العلم من جعل التاء في {تغشى} ترجع إلى معنى النعاس، وهو السِنَة
(5)
، وهذا خلاف الظاهر.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
القول بأن الجملة الفعلية {تغشى} صفة يمكن أن يستدل له بأن هذا هو الظاهر المتبادر للذهن من تسلسل الكلام، لأن تاء التأنيث في {تغشى} راجعة إلى الأمَنَة، وإذا كانت ترجع إليها فالأولى أن تكون مرتبطةً بها في الإعراب، فتكون صفةً تابعة لها.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
لم يظهر دليل يختص به القول بأن الجملة {تغشى} مستأنفة إلا أنه هو المخرج من الإشكالات على القول الآخر، فالذي جعل السمين الحلبي يختار هذا القول هو عدم جواز القول الآخر عنده.
4) الموازنة بين الأدلة:
هذه المسألة تنبني على النظر في الإشكالات المذكور وإمكانية الإجابة عنها، فإذا استقام إعراب الجملة على أنها صفة مع الإجابة عن الإشكالات فإنه يؤخذ بذلك لأن هذا هو الظاهر، وإلا فإن الأحسن أن تكون الجملة مستأنفة كما ذكر السمين الحلبي.
ولنبدأ بأظهر هذه الإشكالات، وهو أننا إذا أعربنا {نعاسًا} مفعولًا لأجله فإنه يلزم من
(1)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 303) والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 153)، وحاشية الطيبي على الكشاف (4/ 305).
(2)
ينظر في البحر المحيط (3/ 390 – 400).
(3)
ينظر في إتحاف فضلاء البشر للبَنَّا الدمياطي (ص: 230)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 307).
(4)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 101).
(5)
ينظر في تفسير ابن عرفة (1/ 430).
ذلك الفصل بين الصفة والموصوف، فإن المفعول لأجله فضلَة يمكن الاستغناء عنها، والارتباط بين الصفة والموصوف وثيق، فلا يفصل بينهما بهذه الفضلة كما أشار إلى ذلك أبو حيان
(1)
.
ثم ننظر في الإشكال الآخر وهو مما زاده السمين الحلبي على شيخه أبي حيان، وهو أننا إذا أعربنا {نعاسًا} مفعولًا به للفعل {أنزل} فإنه يلزم من ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بهذا المفعول، وهذا الإشكال غير ظاهر، فقد ذكر أبو حيان في موضعٍ آخر جواز أن يُفصَل بين الصفة والموصوف بالمفعول به
(2)
، وقال السمين الحلبي هنا (وفي جوازه نظر)، لكن لو قلنا بجوازه هنا فإن في إعراب {نعاسًا} بأنه المفعول لا يستقيم، إذ الظاهر أن المفعول هو {أمَنَة} ، فإذا جعلنا النعاس هو المفعول به فإننا نحتاج إلى تكلف في التقدير لبيان سبب نصب الأمنة، وقد ذُكر في ذلك أوجه فيها تكلف وبعضها لا يمكن وصفه بالجملة الفعلية {تغشى}
(3)
.
بقي الاحتمال الظاهر في المسألة وهو أن تكون {أمَنَة} مفعولًا به، ويكون {نعاسًا} بدلًا منها، وهذا أظهر من أن يكون عطف بيان
(4)
، وفي ذلك إشكالان:
الإشكال الأول: أن الصفة ينبغي أن تُقدَّم على البدل عند اجتماعهما.
وهذا الإشكال في الحقيقة يرجع إلى الإشكال السابق في الفصل بين الصفة والموصوف، فالعلة التي لأجلها قدَّم النحاة الصفة على البدل هي نفس العلة التي لأجلها منعوا الفصل بين الصفة والموصوف، وهي التلازم الشديد بين الصفة والموصوف حتى تكون الصفة كجزء من الموصوف
(5)
، لكن الإشكال في البدل أكبر، فإنه يفصل الصفة عن الموصوف فصلًا تامًا، ولعله لأجل هذا خُصص بالذكر في هذا الإشكال؛ قال أبو حيان:"القاعدة أنه إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح، فصار من جملة أخرى على المذهب"
(6)
.
وبيان ذلك أن العامل في البدل يتكرر من خلال التقدير، فإذا قلت: جاءني أخوك زيدٌ،
(1)
ينظر في البحر المحيط (3/ 390).
(2)
ينظر في البحر المحيط (8/ 27)، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم لمحمد بن عبد الخالق عضيمة (10/ 433).
(3)
تُنظر هذه الوجوه في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 390)، وفي حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 364).
(4)
والعلة كما في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 390) أن عطف البيان عند جمهور البصريين لا يكون إلا في المعارف.
(5)
ينظر هذا التعليل فيما ذكره ابن مالك في شرح التسهيل (3/ 342).
(6)
البحر المحيط (3/ 64).
فهو على تقدير: جاءني أخوك، جاءني زيدٌ، وبهذا يكون المبدل منه في جملة، ويكون البدل في جملةٍ أخرى، ففي المسألة التي نحن فيها المبدلُ منه هو الموصوف، وهو في جملة مستقلة، ثم يكون بعده البدل مع الصفة في جملة أخرى، وبهذا يظهر الفصل التام بين الصفة والموصوف بحيث لا يستقيم إلحاق الصفة بالموصوف، لأن التقدير يكون كالآتي:(أنزل أمَنَة)، (أنزل نعاسًا) تغشى، وهذا لا يستقيم.
هذا على مذهب من يقول إن العامل في البدل يتكرر
(1)
، وأما المذهب الآخر فليس فيه إلا عاملٌ واحد وليس فيه تقدير جملتين، لكن لا يزال الفصل بين الصفة والموصوف، وبهذا يظهر أنه لا حلَّ لهذا الإشكال.
الإشكال الثاني: أن المعروف في لغة العرب أنْ تُحدِّث عن البدل لا عن المبدل منه، وعلة ذلك كما ذكر السمين الحلبي "أن الاعتماد إنما هو على البدل دون المبدل منه، فإنه في حكم المُطَّرح"
(2)
.
هذا إشكال معنوي مبني على مفهوم البدل بأنه هو المراد بالحديث وهو المقصود في جعل الخبر عنه، ولذلك أُبدل مما قبله وصار بديلًا عنه، فصار الذي قبله كالمُطَّرح من حيث المعنى، فلا يدور الحديث عنه
(3)
.
وهذا الإشكال يتجه هنا ابتداءً إلى الأمر الأصلي الذي يراد التحدُّث عنه في الآية وهو الإنزال، فيقال إن المقصود بالإنزال هو النعاس لأنه جاء بديلًا عن الأمَنَة، فصار الحديث عن الإنزال يدور حول النعاس، وصارت الأمَنَة في حكم المُطَّرح فلا يدور الحديث عنها، ثم يبقى الأمر بعد هذا الحديث في الكلام عن الغشيان؛ هل يمكن أن نجعله تابعًا لهذا الحديث ونلحقه به على أن نربطه بالأمَنَة ولا نربطه بالنعاس؟
فالجواب أن ذلك غير ممكن لأن الحديث صار عن النعاس وليس عن الأمَنَة، فإذا أردت التحدُّث عن الأمَنَة فاجعل ذلك في حديث آخر وجملةٍ أخرى مستأنفة غير هذه الجملة التي فيها البدل.
وقد ذكر السمين الحلبي حجة من يخالف مفهوم البدل هذا وذكر الجواب عن حجتهم بما
(1)
ينظر تفصيل هذا المذهب في البسيط في شرح جمل الزجاجي لابن أبي الربيع الأشبيلي (ص: 387).
(2)
الدر المصون (2/ 34).
(3)
ينظر في المقاصد الشافية للشاطبي (5/ 190).
يغني ويكفي
(1)
، والله الموفق.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن تكون الجملة الفعلية {تغشى} جملة مستأنفة، ولا يمكن جعلها صفة لأنه قد حيل بينها وبين الموصوف، ولأن هذا هو الأسهل في فهم الآية من غير مخالفةٍ للقواعد المعتبرة في اللغة أو تكلُّف في التقدير.
(1)
وقد فصَّل الشاطبي هذا الأمر والإشكالات عليه وانتهى بتصحيحه؛ ينظر المصدر السابق (ص: 213) وما بعدها.
المسألة السادسة: وجه الاستفهام في قوله {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
الأصل في (هل) أنها حرف استفهام فتأتي لأجل الاستخبار عن الشيء، وقد يكون الاستفهام فيها لأجل النفي فيكون معناها مثل معنى (ما) النافية
(1)
، كما في قوله تعالى:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، هو مثل معنى قوله تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54، والعنكبوت: 18]، والخلاف هنا في الاستفهام بـ (هل) في الآية؛ هل يُراد به الاستخبار، أو يُراد به النفي؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "ثم أخبر عنهم أنهم يقولون لرسوله؛ أي: يسألونه: هل لنا معاشر المسلمين من الأمر -أي: من أمر الله- نصيبٌ قط؟ يعنون النصر والظهور على العدو
…
والاستفهام على هذا على بابه من الاستخبار.
وقيل إنه بمعنى النفي، ويدل له ما ذكر في سبب النزول عن ابن جريج وقتادة أنه قيل لعبد الله بن أُبي ابن سلول: قُتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شيء
(2)
؛ أي: ليس لنا أمرٌ يُطاع؛ لو سمع مِنْ رأينا لم يخرج من المدينة ولم نقاتل فلم يُقتل منَّا أحد.
وقيل: معناه: لسنا على الأمر الحق، ولو كنا عليه لما غلبنا عدونا، قاله ابن فورك والمهدوي، واستُبعد هذا للرد عليهم بقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، فإنه ظاهر في معنى ما تقدم من أن المعني به سوء الرأي في الخروج، وأنه لو قعد كما أشاروا عليه لم يُقتل من قُتل.
ويُشكل على كون الاستفهام نفيًا أن من نفى عن نفسه شيئًا لا يُرد عليه بإثباته لغيره،
(1)
ينظر في حروف المعاني والصفات للزجاجي (ص: 2)، والجنى الداني للمرادي (ص: 341 – 344).
(2)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 167) عن ابن جريج، وأما ما ذُكر من رواية قتادة فليس فيما وقفت عليه ذكرُ قصة عبد الله بن أُبي، وإنما فيه الإشارة إلى أن قوله {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء} هو قول المنافقين؛ روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 165)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 794).
لأنه مقرٌّ بذلك، ونظير ذلك أن تقول: ليس لي أمرٌ ولا نهي، فيقال لك: إن الأمر والنهي للسلطان؛ لا يَحسُن هذا، إنما كان يَحسُن أنْ لو قلت: إن لي الأمر والنهي.
فإن قدَّرت جملةً أخرى إثباتية مع هذه الجملة المنفية صحَّ ذلك؛ أي التقدير: ليس لنا من الأمر شيء، بل لمَن أَكرَهنا على الخروج وحملنا عليه، فحينئذٍ يَحسُن جوابه بذلك، وبهذا التقدير أيضًا يُخرَّج الجواب عن ابن فورك والمهدوي"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الاستفهام لأجل الاستخبار وأنه لا يُراد به النفي، وهذا الترجيح يظهر من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه اعتمد على هذا القول في تفسير الآية قبل ذكر الخلاف في المسألة، وذلك في قوله:(يسألونه)، فأفاد أن الاستفهام للاستخبار.
الثاني: أنه أشار بقوله (والاستفهام على هذا على بابه من الاستخبار) الى قاعدة الترجيح عنده، وهي أنه "إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى"
(2)
.
الثالث: أنه تعقَّب القول الآخر وذكر الإشكال عليه، ولم يتعقَّب القول الأول فدل على ترجيحه له.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أول من صرَّح بأن الاستفهام في الآية للاستخبار هو الزمخشري، فذكر هذا المعنى وبنى عليه، وأشار إلى القول الآخر ولم يفصِّل فيه
(3)
، ثم رجَّح أبو حيان أن الاستفهام للاستخبار وذكر الأشكال على القول الآخر
(4)
، وتبعه في ذلك السمين الحلبي، ولم أقف على من وافقهم
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 443 - 444).
(2)
ولذلك ذكر في الدر المصون (3/ 449) أن الأظهر أن الاستفهام على حقيقته، وهذا تابع لقاعدة الترجيح هذه.
(3)
ينظر في الكشاف (1/ 428 – 429).
(4)
ينظر في البحر المحيط (3/ 393).
على ذلك
(1)
، بل أكثر أهل العلم ذكروا بأن المراد النفي، وأن (هل) بمعنى (ما) النافية
(2)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل للقول الأول بأن الأصل في الاستفهام أن يكون للاستخبار والاسترشاد، فيبقى الاستفهام على أصله ولا يخرج عنه إلا بدليل ظاهر.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
وهي دليلان:
الأول: أشار إليه السمين الحلبي بالرواية التي ذكرها من قول عبد الله بن أُبي ابن سلول أنه قال على وجه التسخط: "وهل لنا من الأمر شيء"
(3)
، وبيَّن السمين الحلبي أن معنى كلامه:(ليس لنا أمرٌ يُطاع)، وسياق القصة يقتضي هذا المعنى، وقد جاء بيان هذا المعنى في رواية أخرى أنه قال:"إنَّا واللهِ ما نُؤامر"
(4)
، وهذا ظاهرٌ في أنه ينفي أن يكون لهم من الأمر من شيء.
الثاني: سياق الآية، وذلك في قوله تعالى:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، فهم في هذا ينفون أن يكون لهم من الأمر شيء، فدل على أن الاستفهام للنفي، وأيضًا قوله تعالى في الآيات اللاحقة {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 168] يشهد بأن المراد (ليس لنا أمرٌ يُطاع)
(5)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
النقاش في هذه المسألة مبني على تحديد المراد بـ (الأمر) في الآية، وذلك في قوله:{هَل لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ، وقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، وقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
(1)
ذكر الشيخ العثيمين في تفسير آل عمران (2/ 329 – 330، 337) أن الاستفهام للإنكار وليس للنفي، وقال إنهم أنكروا على الرسول خروجه إلى أُحد، وقالوا: هل نحن روجعنا؟! وهذا الإنكار في الحقيقة يؤول إلى النفي، وقد ذكر ابن هشام في مغني اللبيب (ص: 460) وجه الإنكار الذي تختص به (هل) أنه بمعنى النفي.
(2)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 93)، وتفسير البغوي (1/ 525)، وتفسير القرطبي (4/ 242)، وتفسير ابن جزي (1/ 168)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 449)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 135).
(3)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 167) عن ابن جريج.
(4)
رواها ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 795) عن الحسن البصري.
(5)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 395)، وتفسير القرطبي (4/ 242).
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، وظاهرٌ أن (الأمر) في هذه المواضع الثلاثة هو في معنى واحد، ولا يستقيم أن يكون معنى الأمر فيها مختلف من موضع إلى آخر، لأن هذه المواضع يتبع بعضها بعضًا، وهي في سياق واحد
(1)
.
وقد ذكر الزمخشري أنه إذا كان المراد بالاستفهام الاستخبار فإن معنى الأمر النصرُ والغلبة، وإذا كان الاستفهام للنفي فإن معنى الأمر التدبير
(2)
، فيكون المعنى على الأول:(هل لنا من الغلبة شيء)، (قل إن الغلبة كلها لله ولأوليائه أو إن الغلبة والنصرة بيد الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126])، (يقولون لو كان لنا من الغلبة شيء كما تزعمون لما قُتلنا هاهنا)، ويشهد لهذا الأخير قول الربيع بن أنس:"لو كُنَّا على شيءٍ من الأمر ما قتلنا هاهنا"
(3)
، ويكون قصدهم بذلك الطعن في الدين، لكن لو كان هذا مقصدهم لكان مرادهم بالاستفهام النفي وليس الاستخبار، وهذا المعنى قريبٌ من المعنى الذي ذكره ابن فورك والمهدوي، وقد جعلا المراد بالاستفهام النفي، وذلك في قولهم:(لسنا على الأمر الحق، ولو كُنَّا عليه لما غلبنا عدونا)
(4)
، فلو كان المراد بالأمر الغلبة أو النصر أو الدين الحق لكان الأقرب أن الاستفهام للنفي.
وأما إذا كان المراد بالأمر التدبير فيكون المعنى على النحو الآتي: (ليس لنا من التدبير شيء)، (قل إن التدبير كله لله وبيده القضاء والتقدير)، (يقولون لو كان لنا من التدبير شيء ما قتلنا هاهنا)، ويكون قولهم هذا على وجه الاعتراض على القدر، وهذا يتناسب أكثر مع الجواب عليهم بعد ذلك:{قُل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، فإن فيه البيان بأن قدر الله نافذٌ في كل الأحوال، ويشهد لهذا المعنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، قال:"يعني القدر خيره وشره من الله تعالى"
(5)
.
(1)
وذكر الطيبي في حاشيته على الكشاف (4/ 308) مقتضى هذا أن المعرَّف إذا أُعيد في الجواب لم يكن غير الأول.
(2)
ينظر في الكشاف (1/ 428 – 429).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 795).
(4)
ذكر معنى قولهما ابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 528) وهو الذي رد عليهما.
(5)
ذكره الثعلبي في تفسيره (9/ 345)، والبغوي بمعناه في تفسيره (1/ 525).
ونصر هذا المعنى ابن القيم وبالغ في إثباته
(1)
.
وقد ذكر بعض أهل العلم قرينةً على أن المراد بالاستفهام النفي وذلك في صيغة القول: {هَل لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ، فزيادة (مِنْ) قبل النكرة (شيء) هي من خصائص النفي
(2)
، وهذا ليس بلازم فقد تُزاد (مِنْ) قبل النكرة وبعد الاستفهام بـ (هل) ولا يكون المراد النفي، وذلك نحو قوله:{هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [التوبة: 127]، وقوله:{هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]
(3)
.
وقد ذكر السمين الحلبي الإشكال على كون الاستفهام للنفي، وذكر الجواب عنه بتقدير جملة أخرى ثبوتية، ويمكن أن يجاب عنه أيضًا بأن قولهم هذا كان بعد المعركة على وجه التسخط والجزع على أقدار الله، وقد كان ينفع مناقشتهم في الجواب لو كان قولهم قبل المعركة، لكن بعد المعركة لا يكون قولهم إلا على وجه التسخط والجزع فلا يجدي النقاش معهم، بل يُذكرون بأن التقدير والتدبير إنما هو بيد الله في الأصل، وهذا كمن ينازع السلطان بعد أن استقر له الحكم إذا قضى عليه قضاءً، فيقول: ليس لي أمرٌ ولا نهي، فيقال له: إن الأمر والنهي قد آل إلى السلطان.
ويمكن أن يقال إن السياق يشكل على أن يكون الاستفهام على حقيقته من الاستخبار والاسترشاد، لأن السياق يقتضي ذمَّ مقولتهم، والذي يسأل للاستخبار والاسترشاد لا يذم قوله على الإطلاق.
5) النتيجة:
الظاهر أن المراد بالاستفهام النفي، فيكون مصروفًا عن حقيقته في كونه للاستخبار، لأن السياق يقتضي ذلك، وذلك ظاهر جدًا إذا قلنا إن المراد بالأمر في الآية التدبير، وهو الأقرب.
كما أن الروايات في قصة أُحد تشهد لمعنى النفي بخلاف القول الآخر فليس له شاهد في الواقع، والله أعلم.
(1)
ينظر في زاد المعاد (3/ 212).
(2)
ينظر في نظم الدرر للبقاعي (5/ 98) والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 135).
(3)
ينظر في مغني اللبيب لابن هشام (ص: 425) فقد ذكر زيادة (مِنْ) بعد (هل) ولم يشترط أن يكون المراد النفي.
المسألة السابعة: معنى {مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا}
•
أصل الخلاف في المسألة:
قوله تعالى {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} يفيد ظاهره أن القتل وقع عليهم، فإذا كانوا قد قتلوا فكيف بقيت لهم حياة حتى يقولوا مثل هذا القول؟! فلا بد من تأويل يناسب قولهم.
ومثل هذه المسألة ما جاء في قراءة: {فإن قتلوكم فاقتلوهم}
(1)
، فما المراد بالقتل في الآيتين؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "ومعنى {مَّا قُتِلْنَا} : ما قُتل بعضنا أو إخواننا، لأن المقتول لا يتأتَّى منه ذلك.
ويجوز أن يكون معناه: ما شارفنا القتل، كقوله:(من قَتَل قتيلًا فله سَلَبه).
وقال الشيخ: «وهذا من إطلاق اسم الكُل على البعض مجازًا»
(2)
انتهى.
والأول أظهر"
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المراد (ما قُتل بعضنا)، لأن هذا هو القول الأول وقد صرَّح بصيغة التفضيل له في قوله:(والأول أظهر).
(1)
وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف؛ ينظر التيسير لأبي عمرو الداني (ص: 293) والنشر لابن الجزري (2/ 227).
(2)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 395).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 448).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أكثر أهل العلم على أن المراد بقوله {مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} : ما قُتل بعضنا
(1)
، وإلى هذا مال أبو حيان ووجَّه ذلك بالعبارة التي نقلها السمين الحلبي عنه بأن هذا من إطلاق اسم الكُل على البعض مجازًا
(2)
.
ومن المفسرين من أشار إلى احتمال أن يكون المراد بقوله {مَّا قُتِلْنَا} : ما غُلبنا
(3)
، ولم أقف على من قال بأن المراد في الآية: ما شارفنا القتل، ويظهر أن هذه طريقة السمين الحلبي في هذه الآية وأمثالها أنه يُورد الاحتمالين المذكورين، ولم أره رجَّح بينهما إلا في هذا الموضع
(4)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول الأول بأن المقتول بعضهم هو أن القتل يمتنع أن يقع عليهم جميعًا، فيُسند القتل إلى من وقع عليه منهم، وهو بعضهم، وبهذا يبقى القتل على حقيقته، ويكون التجوُّز في المفعول لا في الفعل
(5)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول الثاني بأنهم شارفوا القتل وكادوا يُقتلون هو أن القتل يمتنع أن يقع عليهم جميعًا، والقائلون لهذه العبارة {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} إنما يشكون حالهم لا حال غيرهم، ويتكلمون عن مصيبتهم لا عن مصيبة غيرهم، فيُتجوَّز في الفعل بأنهم كادوا يُقتلون ويكون الفعل مسندًا إليهم لا إلى غيرهم، لأنهم لم يرضوا أن يكونوا في المعركة أصلًا، فلا يرضون أن يشاركوا الذين خرجوا في مصيبتهم
(6)
.
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 167)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 449)، وفتح البيان لصديق حسن خان (2/ 359)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 135)، والقول المفيد للعثيمين (2/ 363).
(2)
ينظر في البحر المحيط (3/ 395).
(3)
ينظر في تفسير البيضاوي (2/ 44)، والسراج المنير للشربيني (1/ 257)، وتفسير أبي السعود (2/ 102)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 309).
(4)
ينظر في العقد النضيد تحقيق ناصر القثامي (ص: 527)، والدر المصون (2/ 307)، وعمدة الحفاظ (3/ 272).
(5)
مستفاد مما ذكره السمين الحلبي في العقد النضيد (سورة البقرة) بتحقيق ناصر القثامي (ص: 527).
(6)
مستفاد من حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 370).
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر أن التجوُّز في المفعول أسهل من التجوُّز في الفعل، لأننا إذا تجوَّزنا في المفعول فإننا نبقي الفعل على حقيقته، وهم إنما ذكروا القتل يريدون به حقيقته لكن أسندوه إلى أنفسهم وإلى غيرهم لأجل تهويل الأمر، وهذا أبلغ في التَّشَكي من أن يكون المراد شارفنا القتل، لأن الذي شارف القتل وكاد يموت ثم نجا بعد ذلك لا يعُد هذه نقمة، بل يعتبرها نعمة، ويكونون حينئذٍ ضمُّوا أنفسهم إلى المقتولين وشاركوهم في مصيبتهم، كما يضم الضعيف نفسه إلى غيره ليقوي موقفه.
ثم إن مصيبة القتل والموت هي المصيبة الأكبر، لأنها لا تنجبر، وأما غيرها فقد ينجبر.
5) النتيجة:
الراجح أن المراد بالآية: ما قتل بعضنا، لأنه حينئذٍ سيبقى لفظ القتل على حقيقته ويكون المجاز عقليًّا، وأما إذا تجوَّزنا في لفظ القتل فإن المجاز سيكون مجازًا لغويًّا، والمجاز العقلي أولى من المجاز اللغوي
(1)
.
(1)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 370).
المسألة الثامنة: معنى {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]
•
أصل الخلاف في المسألة:
(الألف والسين والتاء تدلُّ على الطلب)؛ هذا هو المشهور المعتاد، لكنه ليس بلازمٍ في كل الأحوال، والمسألة هنا تبحث في قوله تعالى:{اسْتَزَلَّهُمُ} ؛ هل فيه معنى الطلب أم لا؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "و {اسْتَزَلَّهُمُ} طلب منهم الزلَّة؛ قال الزمخشري: «طلب منهم الزلل ودعاهم إليه، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من ذنوبهم، ومعناه: أن الذين انهزموا يوم أُحد كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبًا، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا»
(1)
(2)
.
وهذا الذي قاله الشيخ وإن كان رجح اللفظ نقيضه إلا أن السياق والقرائن يدل على المعنى الذي ذكره المفسرون"
(3)
.
(1)
الكشاف للزمخشري (1/ 430).
(2)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 398).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 456 - 457).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن قوله تعالى {اسْتَزَلَّهُمُ} يدل على الطلب، وهذا ظاهر من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه فسَّر اللفظ ابتداءً بهذا المعنى، ثم ذكر الخلاف بين الزمخشري وأبي حيان في ذلك، فدل على أن هذا القول هو المعتمد عنده.
الثاني: أنه تعقَّب قول شيخه أبي حيان ولم يتركه، بل ذكر أن السياق والقرائن تدل على القول الآخر.
الثالث: أنه أشاد بهذا القول الآخر وبيَّن مكانته بأنه هو الذي ذكره المفسرون، وجعل قول شيخه أبي حيان منفردًا في مقابل أقوال المفسرين.
وقد اختلف قول السمين الحلبي في هذه المسألة، فتراه هنا يرجِّح معنى الطلب، وكذلك في عمدة الحفاظ، فإنه فسَّر قوله {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أنه بمعنى:"استجرهم وطلب زللهم"
(1)
، واقتصر على هذا التفسير، فدل على أنه الراجح عنده، لكنه لم يجرِ على ذلك في الدر المصون فقد قال:"والسين في {اسْتَزَلَّهُمُ} للطلب، والظاهر أن (استفعل) هنا بمعنى (أفعل)، لأن القصة تدل عليه، فالمعنى حملهم على الزلة، ويكون كـ (استبلَّ) و (أبلَّ) "
(2)
، ففي أول كلامه يقرر معنى الطلب، ثم خالف ذلك مباشرة بأن الظاهر هو القول الآخر وأن القصة تدل عليه، وهذا لا يتوافق مع ترجيحه هنا ولا يتلاءم مع ما ذكره هنا من أن السياق والقرائن تدل على المعنى الذي ذكره المفسرون، وهو معنى الطلب.
فإما أن يكون قوله (والظاهر) في الدر المصون لا يقتضي الترجيح، فإنه قد يذكر الظاهر ولا يرجِّحه كما سبق بيانه، لكن هذا لا يتناسب مع بقية كلامه، وإما أن يكون قد غيَّر رأيه في المسألة.
(1)
ينظر في عمدة الحفاظ (مادة: زلل): (2/ 147).
(2)
ينظر في الدر المصون (3/ 451).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
رجَّح كثيرٌ من أهل العلم أن الفعل في الآية يدل على الطلب
(1)
، ومن أهل العلم من رجَّح أن {اسْتَزَلَّهُمُ} بمعنى (أزلَّهم)، وهم قليل
(2)
، فجمهور المفسرين على القول الأول كما أشارت إليه عبارة السمين الحلبي هنا.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل للقول بأن {اسْتَزَلَّهُمُ} تدل على الطلب أن هذا هو الظاهر المتبادر للذهن، لأن الأصل في صيغة (استفعل) أن تكون دالة على الطلب، وما خرج عن هذا فهو خلاف الأصل
(3)
.
وقد ذكر السمين الحلبي هنا أن السياق والقرائن تدل على هذا القول، ولم يتبين لي وجه ذلك، لكن قد ذكر ابن عطية أن معنى الطلب في {اسْتَزَلَّهُمُ} هو مقتضى وسوسة الشيطان وتخويفه
(4)
؛ أي إن فعل الشيطان لا يعدو أن يكون طلبًا واستدعاء، ثم استجابوا لطلبه ودعوته فزلوا.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
دليل القول بأن {اسْتَزَلَّهُمُ} بمعنى (أزلَّهم) هو أن المقصود من الآية العتاب واللوم على أمرٍ وقعوا فيه، فلا بد أن يُحمل الفعل في قوله {اسْتَزَلَّهُمُ} على ما يدل على وقوعه، فيكون بمعنى (أزلَّهم)
(5)
.
(1)
ينظر في غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 101)، وتفسير الطبري (6/ 171)، ومعاني القرآن للنحاس (1/ 500)، والكشاف للزمخشري (1/ 430)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 530)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 311)، وفتح البيان لصديق حسن خان (2/ 360)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 81).
(2)
ينظر في الحجة لأبي علي الفارسي (2/ 18)، (3/ 325)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 101)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 398)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 140)، وتفسير الجلالين (ص: 88).
(3)
ينظر في شرح كتاب سيبويه للسيرافي (4/ 449).
(4)
ينظر في المحرر الوجيز (1/ 530).
(5)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 398)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 140).
وما ذكره السمين الحلبي في الدر المصون من أن القصة تدل على هذا القول يمكن أن يرجع إلى هذا المعنى بأن الآية تحكي حالًا قد وقعت فيُحمل الفعل فيها على ما يدل على وقوعه، والله أعلم.
4) الموازنة بين الأدلة:
قد سبق التنبيه إلى قاعدة الترجيح: "إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى"، فالأولى أن تبقى صيغة (استفعل) على ما وُضعت له في الأصل وهو معنى الطلب، لكن يُنظر في الاعتراض الذي ذكره أبو حيان على معنى الطلب، فإنه قد يُخرج الصيغة عن أصلها، وأيضًا فإنه وإن كان الأصل في صيغة (استفعل) أنها للطلب إلا أن وجود (استفعل) بمعنى (أفعل) كثيرٌ في القرآن
(1)
، فلا يَبعُد أن تكون هذه الآية منه.
وأما ما ذكره ابن عطية من أن معنى الطلب هو مقتضى وسوسة الشيطان وتخويفه فهذا لا ينافي الحمل على معنى (أزلهم)، لأن الذين قالوا بهذا المعنى لا يقصدون أن ذلك كله من عمل الشيطان، بمعنى أن الشيطان تسلَّط عليهم وأنفذ فعله فيهم، بل ذكروا أن معنى {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}: أزلَّهم بوسوسته
(2)
، فهو كالمكيدة منه، لكن معنى الطلب أدلُّ على وسوسة الشيطان وتخويفه.
وأما ما ذكره أبو حيان أنه لا يلزم من طلب الزلل إفادةُ وقوعه، فذلك لأن الآية فيها عتابٌ لهم على أمرٍ وقعوا فيه، كما أن فيها بيان السبب الذي أدى إلى تولِّيهم وهو استزلال الشيطان إياهم، فإذا قلنا إن المراد بالآية أنهم تولَّوا لأن الشيطان وسوس لهم وسعى في تخويفهم كأنه يطلب الزلة منهم لم يكن التعليل تامًّا، لأنهم قد يخالفون الشيطان فلا يقعون في الزلل، وأيضًا فإنه لا يصح عتابهم على مجرد أن الشيطان كان يوسوس لهم ويسعى في تخويفهم، فهذا أمرٌ لا يملكونه، فلا يكتمل التعليل ولا يصح العتاب إلا أن يُقدَّر في الكلام أنهم وقعوا في الزلة التي كان الشيطان يطلبها، وعدمُ التقدير أولى من التقدير.
وأيضًا، فإن قوله تعالى {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} يدل على وقوع الزلل منهم ويبيِّن سببه؛ أنه زللٌ واقع بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب، وهو أحسن من أن يقال إن الشيطان وسوس لهم
(1)
ينظر في دراسات لأسلوب القرآن لمحمد عبد الخالق عضيمة (4/ 656).
(2)
ينظر في تفسير الجلالين (ص: 88).
وسعى في طلب زلتهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب، لأن الشيطان يسعى في طلب إغواء بني آدم في كل حين.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن قوله تعالى {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} معناه: أزلَّهم الشيطان، وهو عين ما فعله الشيطان مع الأبوين، كما في قوله:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} ، فلا يبعُد أن يكون فعله هنا مثل ذلك الفعل، بأن يكون وسوس لهؤلاء الذين تولوا كما وسوس للأبوين، وأظهر النصح في ذلك كما فعل مع الأبوين حتى زلوا.
وهذا هو المناسب لمعنى الزلَّة فإنها تكون من غير قصد
(1)
، فلا يُتصوَّر طلبها من أحدٍ إلا أن يكون معنى الطلب مقدَّرًا
(2)
، وبهذا يظهر أن معنى الطلب يحتاج إلى تقدير في إثباته، كما أنه يحتاج إلى تقدير في بيان الاستجابة له وإثبات أنهم زلوا ليستقيم التعليل والعتاب في الآية، وهذا مما يضعف معنى الطلب ويرجِّح المعنى الآخر وهو أن {اسْتَزَلَّهُمُ} بمعنى (أزلَّهم)، وتكون السين والتاء للتأكيد والمبالغة، كما ذكر ابن عاشور
(3)
، والله أعلم.
(1)
ينظر في المفردات للراغب الأصفهاني (ص: 381).
(2)
فيكون كقولك: استخرجت الفائدة، فالطلب هنا مقدَّرٌ وليس بحقيقي؛ ينظر في شرح الشافية للرضي (1/ 110).
(3)
ينظر في التحرير والتنوير (4/ 140)، (25/ 233).
المسألة التاسعة: حُكم التولي المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
المسألة في إجلال الصحابة رضوان الله عليهم، والخلاف فيها حول الملابسات التي جرت في غزوة أُحد وتنزيل أحكام الجهاد عليها، وذلك في قوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} ؛ هل كان هذا التولي معصية في حق الصحابة رضوان الله عليهم، أم أنه كان مأذونًا فيه بالنظر إلى حالهم وما نزل بهم؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في هذا التولي؛ هل يوصف بكونه معصيةً أم لا؟
فالظاهر أنه معصية عفا الله عنها لأصحابها، وهي وإن كانت هيِّنةً لذاتها فقد عظمت بالنسبة إلى مَنْ فرُّوا عنه، وكان عليهم أن يَقُوه بأنفسهم، وهو واجبٌ حتم؛ يجب وقاية الأنبياء بالأنفُس بلا خلاف، ولا سيما سيد الأنبياء، ويدل على ذلك كونه سماه استزلالًا من الشيطان، وبقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، والعفو إنما يكون -أو يوشك أن يكون- عن ذنب، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه في قوله عليه السلام (الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخره عفو الله)
(1)
: «يوشك أن يكون العفو عن المقصرين»
(2)
.
ثم ختم التأنيس بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ؛ أي: بسبب تلك الذنوب التي اقترفوها، ولو لم يُعقِّب على ذلك بهذا لتفطَّرت أكبادهم رضي الله عنهم.
وذهب آخرون إلى أنه ليس معصية، وذكروا لسبب ذلك أشياء:
(1)
رواه الترمذي في الجامع (1/ 321/ 172) بنحوه من حديث عبد الله بن عمر، وفي إسناده يعقوب بن الوليد المدني؛ متروك، وروي الحديث من طرق أخرى ضعيفة؛ ينظر في التلخيص الحبير لابن حجر (2/ 499 - 502).
(2)
قال الشافعي في الرسالة (1/ 286) عند هذا الحديث: "العفو لا يحتمل إلا معنيين: عفوٌ عن تقصير، أو توسعة، والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها"، ولم أقف على اللفظ المذكور هنا عنه، لكن قوله هذا يفيده.
منها: أن الفرار كان مباحًا، لأن الكفار كانوا يزيدون على الضعف؛ إذ كان المؤمنون سبع مئة، والكفار ثلاثة آلاف.
ومنها: أنهم لما سمعوا بقتله عليه السلام ووقع في ظنهم ذلك تحصنوا بالمدينة ليقطعوا أطماع الكفرة منهم.
ومنها: أنهم لم يسمعوا دعاءه عليه الصلاة والسلام: (إليَّ عباد الله؛ أنا رسول الله)
(1)
، ولو سمعوا ذلك لم يُشكَّ أنهم كانوا يرجعون إليه لا محالة.
ومنها: أنهم لم يظنوا أنه عليه السلام انحاز إلى الجبل، وجعل ظهره للمدينة، بل جوزوا أن يكون ذهب إلى المدينة.
ولقد عفا الله بكرمه عنهم حيث لم يؤاخذهم، وأعقب ذلك بإنزال الأمنة عليهم.
(2)
انتهى.
يعني أن هذا العفو إنما كان عن ذنب كما قدمناه، وبه قال ابن جريج"
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن التولي المذكور في الآية معصيةٌ عفا الله عنها، وهذا يظهر من ثلاثة وجوه:
الأول: الترجيح بالظاهر في أول المسألة، وذلك في قوله:(فالظاهر أنه معصيةٌ عفا الله عنها لأصحابها).
الثاني: أنه استدل لهذا القول وفصَّل فيه، وذكر استدلال أصحاب القول الآخر بصيغة توحي بالتبعيد حيث قال:(وذكروا لسبب ذلك أشياء).
الثالث: أنه ختم المسألة بالرجوع إلى القول الذي استظهره أولًا، وأشار إلى جلالته بذكر من قال به من أهل العلم، وأنه مقتضى قول ابن جريج وابن عطية، ولم يفعل ذلك مع القول الآخر، فلم يذكر من قال به من أهل العلم.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 174) عن السدي.
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 530).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 106 – 156)، تحقيق: يعقوب مصطفى سي (ص: 458 - 460).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذكر أكثر أهل العلم ما يفيد أن التولي المذكور في الآية معصيةٌ عفا الله عنها؛ قال ابن جريج: "عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم"
(1)
، وهذا يدل على أنه يرى أن التولي معصية تستحق العقوبة، ومِن قبله ذكر سعيد بن جبير والحسن البصري أن الله عفا عنهم إذ لم يستأصلهم
(2)
.
وهذا القول هو مقتضى كلام ابن عطية كما بيَّنه السمين الحلبي هنا، وهو مقتضى كلام ابن تيمية كذلك
(3)
، وقد صرَّح به عدد من أهل العلم
(4)
.
وأول من ذكر الخلاف في هذه المسألة فيما وقفت عليه هو القرطبي، وهو الذي أشار إلى الأعذار المذكورة على أنه قد قيل بها
(5)
، ولم أقف على من قال بها، ولم أقف على من صرَّح أن التولي ليس بمعصية إلا ما ذكره محمود شكري الآلوسي
(6)
أن التولي كان قبل النهي عنه
(7)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل لمن قال بأن التولي المذكور في الآية معصيةٌ عفا الله عنها بدليلين؛ دليلٌ يتجه إلى حكم العمل نفسه وأنه محرَّمٌ في الأصل، ودليلٌ يتجه إلى العامل وأنه قد وقع في ذنب، وذلك على النحو الآتي:
الدليل الأول: حكم التولي المذكور في الآية، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن الأصل في التولي يوم الزحف أنه محرَّم، فلا يجوز إلا بعذرٍ يبيح ذلك، وهذا ما يشير إليه النقل عن ابن عطية، وقد أفاد هذا الحكمَ قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(1)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 174)، وذكر الطبري معنى قول ابن جريح في تفسيره للآية.
(2)
رواهما ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 797 – 798)، وظاهر كلامهما أن المتولين الرماةُ الذين نزلوا، وسيأتي بيانه.
(3)
ينظر في الصارم المسلول (ص: 465).
(4)
ينظر في الإشارات الإلهية للطوفي (ص: 147 – 148)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 398 - 399)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 140)(9/ 288)، وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 343 – 344).
(5)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 244).
(6)
هو أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله الآلوسي، مؤرخٌ عالم بالأدب والدين، من الدعاة إلى الإصلاح، له كتاب صب العذاب على من سب الأصحاب، وبلوغ الأرب في أحوال العرب؛ ينظر في الأعلام للزركلي (7/ 172).
(7)
ينظر في السيوف المشرقة (ص: 579).
إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15].
الوجه الثاني: ما ذكره السمين الحلبي من أنه يجب وقاية الأنبياء بالأنفُس بلا خلاف، ويدل على هذا الحكم قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَّفْسِهِ} [التوبة: 120].
الدليل الثاني: أن السياق قد أفاد أن الذين تولوا قد وقعوا في ذنب، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أن سياق الآية فيه عتاب لهم على توليهم، ولو لم يكن التولي معصية لما لحقتهم اللائمة
(1)
.
الثاني: ما ذكره السمين الحلبي من أن الله سماه استزلالًا من الشيطان، والشيطان إنما يريد أن يُزلَّ الإنسان عن الطاعة ويوقعه في المعصية، كما أفاد ذلك قولُه تعالى:{وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النور: 21]
(2)
، كما أن لفظ الزلل يشير إلى فعل الخطيئة ومجانبة الصواب
(3)
.
الثالث: قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، فإن ذكره في هذا السياق هنا يشير إلى أنهم وقعوا في ذنب فاحتاجوا إلى العفو
(4)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل من قال بأن التولي المذكور في الآية لم يكن معصية بأدلةٍ تتجه إلى حكم العمل، وأنه لا ينطبق على المتولين المذكورين في الآية، ومن ثَمَّ فإن العمل يكون مباحًا لا معصية فيه، وجاءت الأقوال في هذا على ضربين:
الأول: مَنْ ينفي الحكم عن المذكورين في الآية من حيث الأصل، وأن الفرار عن الزحف يوم أُحد كان قبل النهي عنه
(5)
.
(1)
ينظر في الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية للطوفي (ص: 147 – 148).
(2)
ينظر في تفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 343).
(3)
ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 139 - 140)، وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 341).
(4)
ينظر في الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية للطوفي (ص: 147 – 148)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (9/ 288)، وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 343 – 344).
(5)
ينظر في السيوف المشرقة لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي (ص: 579).
الثاني: مَنْ يثبت تحريم الفعل، لكن يذكر أن الذين تولوا في ذلك اليوم لهم عذرٌ يبيح لهم الفرار، وهي الاعذار التي ذكرها السمين الحلبي، وهذا تفصيلها:
الأول: أن الكفار كانوا يزيدون على الضعف فيباح الفرار حينئذ، كما دل عليه قوله تعالى:{الْئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ} الآية [الأنفال: 66]، فأباح الله لهم أن يفروا عن الذين يزيدون على الضعف، وهذه الآية تُقيِّد الآية التي تفيد التحريم.
الثاني: أنهم تحصنوا بالمدينة ليقطعوا أطماع الكفرة منهم، وهذا يمكن أن يعتبر من (التحيُّز إلى فئة) الذي قد جاء الأذن به بعد الآية التي تدل على التحريم، وذلك في قوله:{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16]، وكذلك يُقال في الذين فروا إلى الجبل أنهم متحيِّزون إلى فئةٍ اجتمع في التحيز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن ثبت معه
(1)
.
الثالث: أنهم بسبب اختلال الأمر وانكسار الجيش لم يعرفوا ما حلَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوا نداءه لهم، فبعضهم ظنَّ أنه قُتل بعدما أشيع مقتله، وبعضهم ظن أنه رجع للمدينة، وهذا العذر يبيح لهم التخلف عنه، لأنهم لا يستطيعون معرفة أمره صلى الله عليه وسلم مع اختلال الأمر وإقبال العدو عليهم.
4) الموازنة بين الأدلة:
في البداية ننظر في القول بأن التولي في غزوة أُحد كان قبل النهي عنه، وهذا القول ليس بظاهر، لأن الآية التي تدل على النهي عن الفرار وهي قوله {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} نزلت في غزوة بدر، فثبت أن تحريم الفرار جاء قبل غزوة أُحد
(2)
.
فإذا ثبت التحريم فإنه يُنظر في الأعذار التي تبيح فعل المتولين في الآية، ولأجل مناقشة فعلهم وبيان أمرهم ينبغي تعيينهم، وقد اختلف في تعيين المتولين في الآية
(3)
؛ قال ابن حجر في
(1)
ينظر في المحرر الوجيز (تقدَّم)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 398) وتفسير السعدي (ص: 317).
(2)
ويظهر أن الآية عامة وليست خاصة بأهل بدر؛ ينظر في تفسير الطبري (11/ 76 - 81)، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب (ص: 296 – 297)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 386 - 387).
(3)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 172 – 174).
بيان شأن المسلمين في غزوة أُحد: "الواقع أنهم صاروا ثلاث فرق: فرقةٌ استمروا في الهزيمة إلى قُرْبِ المدينة، فما رجعوا حتى انفضَّ القتال، وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، وفرقةٌ صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل فصار غاية الواحد منهم أن يَذُبَّ عن نفسه أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل، وهم أكثر الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع إليه القسم الثاني شيئًا فشيئًا لما عرفوا أنه حي"
(1)
.
وبهذا يتبيَّن أن أكثر الصحابة رجعوا وأنه يمكن أن يصدُق عليهم أنهم تحيزوا إلى فئة، لأنهم في نهاية الأمر رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، وأنهم لا يلامون في هذه الحالة في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أُشيع مقتله، فلما تبين لهم أنه صلى الله عليه وسلم حيٌّ رجعوا إليه واجتمعوا معه.
وأما الذين لم يرجعوا فيمكن أن يكون لهم عذرٌ يبيح فعلهم، وهو التخفيف المذكور في قوله:{الْئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} الآية، وأن الكفار حينئذٍ كانوا أكثر من الضعف، وهذا أمرٌ واقع معلوم لكن العذر فيه هنا محتمل، لأن هذا التخفيف قيل أنه قد جاء بعد مدة طويلة من النهي وذلك بعد أن كثُر المسلمون
(2)
، وقد قيل أنه نزل بعد غزوة بدر على التعيين
(3)
، والله أعلم.
ويمكن أن يكون لهم أعذارٌ أخرى تُقال من قِبل الظن، ولا يُظن بهم إلا الخير، لكن الشأن في تلك الأعذار؛ هل هي تُبيح فعلهم أو أنها تخفف من حجم الذنب؟
بالرجوع إلى أصل المسألة (هل التولي في الآية معصية؟) يمكن أن يجاب عن ذلك بأن المعصية هي أمرٌ من الأمور المتعلقة بحق الله عز وجل، وقد دل كلامه سبحانه في سياق هذه الآية على أنهم أذنبوا، وذلك لأن السياق فيه لومٌ ومعاتبة كما أشار إليه قوله:{بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} ، وأن الزلة تشير إلى الخطأ واستزلال الشيطان يدل على المعصية، وأن ذكر العفو
(1)
فتح الباري (7/ 362).
(2)
روي ذلك عن ابن عباس كما في تفسير الطبري (11/ 266)، والمعجم الكبير للطبراني (11/ 253)، وقد ذكر الواحدي أنه قول المفسرين كما في التفسير البسيط (10/ 244).
(3)
روي ذلك عن سعيد بن جبير كما في تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1729).
عنهم بعد هذا كله يدل على أنهم وقعوا في ذنب.
5) النتيجة:
الراجح أن المراد بالذين تولوا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أنهم نفرٌ قليل من الصحابة رضوان الله عليهم؛ تولوا عن ميدان المعركة ولم يرجعوا إليه، وأن الفعل الذي فعلوه معصيةٌ عفا الله عنها، وهو ذنبٌ لا ينقص من قدرهم، ولا يخفض من مكانتهم، لأن الله قد عفا عنه، ولهذا لمَّا ذكر أحد الصحابة هذا الذنب لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه قد فرَّ يوم أُحد، أجاب رضي الله عنه بقوله:"كيف يعيرني بذنبٍ وقد عفا الله عنه"
(1)
.
هذا، وقد دلت الآية على جلالة قدر هؤلاء الذين عفا الله عنهم، وذلك من تسعة وجوه:
الأول: أن الله ذكر فعلهم بعينه دون أن يحمِّله أوصافًا سيئة خارجةً عنه، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} ، فذكر أنهم تولوا ولم يذكر أنهم فشِلوا أو تخاذلوا، وفي تقرير ذنبهم بهذه الحقيقة إشارةٌ إلى أنهم لم يتلبسوا بهذه الأوصاف السيئة.
الثاني: قوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} ، ففعلهم لا يعدو أن يكون زلة، والزلة إنما تكون عن غير قصد
(2)
، فهم لم يقصدوا التولي وخذلان إخوانهم المؤمنين، بل وقع ذلك منهم زللًا مخالفًا لما كانوا عليه من نصرة الدين والجهاد في سبيل الله.
الثالث: قوله: {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} ، فالشيطان هو الذي أزلَّهم وأوقعهم في الخطأ، فليست الزلة ناتجة عن كثرة تقصيرٍ أو سوء تقدير، بل هي محصورة في أنها من وسوسة الشيطان وإزلاله، ومَن يسلم من ذلك؟! بل هذا عين ما وقع للأبوين، والمذكور في الآية هنا يشبه ما ذُكر في شأنهما، فقد ذكر الله أن الشيطان أزلَّهما وذكر توبته وعفوه عنهما، وهؤلاء كذلك، ومَن شابه أباه فما ظلم.
الرابع: أن الله صرَّح بعفوه عنهم، ولم يجعله خفيًّا، بخلاف غيرهم من المذنبين التائبين ممن بعدهم، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم؛ إذ لا علم لهم بعفو الله عنهم
(3)
، ولهذا لمَّا ذُكر عند ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أُحد قال: "أشهد أن الله عفا
(1)
رواه أحمد في مسنده (1/ 525/ 490).
(2)
ينظر في المفردات للراغب الأصفهاني (ص: 381).
(3)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 245).
عنه وغفر له"
(1)
.
الخامس: أن الله قد أكدَّ عفوه عنهم بـ (اللام) و (قد)، وذلك في قوله:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، ثم وصف نفسه بالمغفرة في قوله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} ليؤكد أن العفو من شؤونه سبحانه، ووصف نفسه بالحِلم في قوله {حَلِيمٌ} ليبين أنه سبحانه لا يعاجل بالعقوبة، وكل هذا من تطمين الله لهم وإبعاد الخوف عن قلوبهم رضي الله عنهم
(2)
.
السادس: أن الله ذكر عفوه عنهم في نفس السياق الذي عاتبهم فيه على ذنبهم، وهذا من ألطف المعاتبة، كما في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].
السابع: أن الله أنزل هذه الآية في عفوه عنهم مباشرة بعد وقوع الذنب منهم
(3)
، ولم يؤخر العفو كما فعل بغيرهم، وذلك في قوله:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106].
الثامن: أن الله ذكر عفوه عنهم من غير أن يذكر توبتهم، وهذا يدل على تفضله سبحانه عليهم وتمام رضاه عنهم، وقد استشهد ابن تيمية بهذه الآية مقتصرًا عليها في بيان العفو المطلق الذي يكون بترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه
(4)
.
التاسع: أن الله جعل هذا العفو قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، فلم يكن خبرًا يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وينتهي أمره، بل هو قرآنٌ يقرأه المؤمنون من بعدهم فيترَضَّون عنهم ويشهدون بفضلهم ومكانتهم عند ربهم.
(1)
رواه البخاري في صحيحه (5/ 15/ 3698).
(2)
ينظر في زهرة التفاسير لأبي زهرة (3/ 1466 – 1467)، وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 345).
(3)
روي عن عمر رضي الله عنه أن الآية نزلت في أواخر المعركة كما عند الطبري في تفسيره (6/ 172)، وينظر الاستيعاب في بيان الأسباب لسليم بن عيد الهلالي ومحمد بن موسى آل نصر (1/ 317).
(4)
ينظر في الصارم المسلول (ص: 465).
المبحث الثالث: ترجيحات السمين الحلبي من آية (156) إلى آية (163)
وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: إعراب قول الله تعالى {لَمَغْفِرَةٌ}
قال تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف في ربط الجملة {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} بما قبلها، فإن اللام في قوله {لَمَغْفِرَةٌ} شروع في ابتداء جملة جديدة، فكيف تُربط هذه الجملة بما قبلها؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقوله {لَمَغْفِرَةٌ} فيها وجهان؛ أظهرهما أنها مبتدأ، وسوَّغ الابتداء بها الاعتمادُ على لام الابتداء، والعطف عليها، ووصفها بالجار والمجرور بعدها، والوصف المقدَّر؛ إذ التقدير: لمغفرةٌ يسيرة.
و {خَيْرٌ} على هذا خبرُ المبتدأ، وهي باقية على بابها من التفضيل، كما قدَّمناه عن ابن عباس
(1)
.
والثاني: أنها خبرُ مبتدإٍ مُضمَر، وذلك بأن يُراد بالمغفرة والرحمة القتلُ أو الموت في سبيل الله، لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله، فيكون التقدير: فلَذلك الموتُ أو القتل في سبيل الله مغفرةٌ ورحمةُ خير.
وعلى هذا فـ {خَيْرٌ} صفةٌ لما قبله لا خبر، وإلى هذا نحا ابن عطية، فإنه قال: «وتحتمل الآيةُ أن يكون قوله {لَمَغْفِرَةٌ} إشارةً إلى الموت أو القتل في سبيل الله، فسمَّى ذلك
(1)
نقل عن ابن عباس في قوله {خيرٌ مما يجمعون} أنه قال: "خيرٌ من طِلاع الأرض ذهبة حمراء"؛ ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 102)، والأثر مذكورٌ في الكشاف للزمخشري (1/ 431)، ولم أقف على من خرَّجه.
مغفرةً ورحمة؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقدير: لَذلك مغفرةٌ ورحمة، ويرتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدَّر، وقوله {خَيْرٌ} صفةٌ لا خبر ابتداء»
(1)
انتهى.
وهذا غير ظاهر فالأول الوجيه، ولا بد في الأول من حذف، وفي الثاني من حذفين؛ إذ التقدير (لمغفرةٌ من الله لكم ورحمةٌ من الله لكم) ليصحَّ المعنى بذلك"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن قوله {لَمَغْفِرَةٌ} مبتدأ، ويظهر هذا من ثلاثة وجوه:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(أظهرهما أنها مبتدأ)، وقوله:(فالأول الوجيه).
الثاني: الاستدلال لهذا القول دون القول الآخر، حيث ذكر أمورًا متعددة تسوِّغ الابتداء بالنكرة، فدل على أن يدافع عن هذا القول، ولم يذكر ما يقوي القول الآخر.
الثالث: تَعَقُّب القول الآخر بأنه غير ظاهر، وأنه يلزم منه تقدير محذوفين
(3)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
يظهر أن أول من تكلَّم في هذه المسألة هو الأخفش، حيث اختار في تقدير الآية معنى القول الثاني، وذكر التعليل الخاص بالقول الثاني، ولم يصرح بالحكم الإعرابي؛ قال رحمه الله:"إن قيل كيف يكون {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} جواب ذلك الأول؟ فكأنه حين قال: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّم}، فذكر لهم مغفرةً ورحمة، اذ كان ذلك في السبيل، فقال: {لَمَغْفِرَةٌ}؛ يقول: لَتلك المغفرة خيرٌ مما تجمعون"
(4)
.
ثم نقل الطبري قولَه بصيغة توحي بالتضعيف له، حيث قال: "وقد زعم بعض أهل العربية
(1)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 533).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 105 - 106).
(3)
وقد ذكر في الدر المصون (3/ 457) هذه الأوجه، ولم يفصِّل في الوجه الثالث.
(4)
معاني القرآن للأخفش (1/ 238).
من أهل البصرة أنه إن قيل: كيف يكون
…
" فذكر قوله
(1)
.
ثم جاء ابن عطية فحرَّر القول الثاني ووضَّحه، وبيَّن حكمه الإعرابي، وقد ابتدأ في الآية بذكر القول الأول، ثم ذكر القول الثاني وبيَّن أنه قولٌ محتمل
(2)
، وقد تعقَّبه أبو حيان وذكر أن كلامه في القول الثاني خلاف الظاهر
(3)
، وتبعه السمين الحلبي على ذلك وزاد عليه.
ولم أقف على من تعرَّض للقول الثاني بعد هذا، بل بقية أهل العلم يقتصرون في الإعراب على القول الأول
(4)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي الدليل على أن المغفرة مبتدأ بأن هذا هو الظاهر، وذلك من وجهين:
الأول: من حيث ظهور اللفظ، فإن لفظ المغفرة هو المذكور الظاهر أولًا في الجملة فيكون هو المبتدأ، وهذا أظهر من أن يكون المبتدأ مضمرًا كما في القول الآخر.
الثاني: من حيث السلامة من الحذف، فإن الحذف في هذا القول أقل من الحذف في القول الآخر على ما بيَّنه السمين الحلبي، فإذا كان لا بد من حذف، فإنه يُكتفى بما لا بد منه ولا يزاد عليه بحذفٍ آخر.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
لم أقف على دليل خاصٍّ لهذا القول، لكن يمكن أن يستدل له بمناسبة المعنى من وجهين:
الأول: أن جعل المبتدأ هو اسم الإشارة المضمر (ذلك) فيه إشارة إلى مضمون الجملة السابقة؛ أي: ذلك (القتل في سبيل الله أو الموت) مغفرةٌ من الله، وهذا أنسب في تسلسل الكلام، بأن يكون الربط بالجملة السابقة في بداية الجملة اللاحقة
(5)
.
الثاني: ما ذكره ابن عطية من أن هذا القول يتضمن تسمية الموت والقتل في سبيل الله
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 182)، وقد ذكر الدكتور حسين بن علي الحربي في (منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية) أن هذه الصيغة من صيغ التضعيف عنده، وذكر تفصيلها:(1/ 85، 90 - 92).
(2)
ينظر في المحرر الوجيز (1/ 532 - 533).
(3)
ينظر في البحر المحيط (3/ 405).
(4)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 305)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 157)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 317)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 86)، والتفسير المنير للزحيلي (4/ 134).
(5)
وهذا مستفاد مما ذكره الأخفش في هذه الآية، وسيأتي النقل عنه.
مغفرةً ورحمة، فيكون التقدير: لَذلك مغفرةٌ ورحمة، وفي جعل المغفرة والرحمة هي الخبر على هذا التقدير تطمين للمؤمنين الميتين والمقتولين في سبيل الله، وتأكيدٌ بحصول المغفرة والرحمة لهم.
4) الموازنة بين الأدلة:
ذكر السمين الحلبي أن القول الأول لا بد فيه من حذف، وأن القول الثاني لا بد فيه من حذفين، وهذا مبني على معرفة الحذفين ولزومهما للقول الثاني، وفيما يأتي بيانهما:
أما الحذف الأول في القول الثاني فهو المبتدأ المضمر، وهذا هو الحذف الذي زاد به القول الثاني على القول الأول.
وأما الحذف الثاني، وهو الحذف المشترك بين القولين، فهو المتعلق بالمغفرة والرحمة، وهو ما عُبِّر عنه بقوله (لكم)
(1)
؛ فيكون التقدير: (لمغفرةٌ من الله لكم ورحمةٌ من الله لكم).
وبالنظر في سبب هذا الحذف، فالذي يظهر أن وصفٌ للتخصيص المغفرة والرحمة في هذه الجملة الجديدة، لأنهما جاءا بصيغة التنكير، فلا بد من وصف يبين متعلقهما، فيربطهما بالجملة السابقة أولًا لأجل أن ينسجم الكلام، ثم بعد ذلك يُعرَف به محل المفاضلة والخيرية، من أن المغفرة والرحمة لكم أيها الذين (قُتلتم في سبيل الله أو متم) هي خيرٌ مما يجمع أهل الدنيا.
والذي يظهر أن وصف التخصيص هذا ليس لازمًا، لأن السياق يغني عنه، فإن قوله تعالى {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّم} اجتمع فيه قَسَم وشرط، فاللام دلت على وجود القسم، والشرطُ دل عليه حرف الشرط (إن)، والقاعدة أنه إذا اجتمع القسم والشرط ذُكر جواب الأول وأغنى عن الثاني، فقوله {لَمَغْفِرَةٌ} جواب القسم، وقد أغنى عن جواب (إن)، والتقدير في الأصل:(إن قتلتم في سبيل الله غفر الله لكم)، ثم أغنى عن هذا التقدير جواب القسم
(2)
، وبهذا يتبين أن وجود الشرط في الآية يغني عن تخصيص المغفرة والرحمة؛ إذ هما في الأصل مرتبطان بمعنى الشرط، وهما في الظاهر جوابٌ عن القسم، فارتباطهما واختصاصهما بالجملة قبلهما من وجهين، وهذا يغني عن تقدير محذوفٍ يخصصهما.
كما أن المبتدأ المضمر في القول الثاني، وهو اسم الإشارة (ذلك)؛ يغني عن التخصيص،
(1)
ذكر هذا الحذف أبو حيان في البحر المحيط (3/ 405)، وتبعه السمين الحلبي هنا وفي الدر المصون (3/ 457)، ووافقهم على ذلك الآلوسي في روح المعاني (2/ 317)، فذكر قولهم ولم يتعقَّبه بشيء.
(2)
ينظر في البحر المديد لابن عجيبة (1/ 425).
وبهذا يظهر أن الحذف إنما هو في القول الثاني فقط، وهو حذف واحد، ولا حاجة إلى تقدير محذوفٍ آخر في الآية.
وهذا الحذف في القول الثاني (وهو المبتدأ المضمر) هو مما يضعفه، ويجعل القول الأول الخالي من الحذف أولى منه؛ إذ "القول بالاستقلال مُقدَّمٌ على القول بالإضمار"
(1)
، كما أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن يكون المبتدأ هو اللفظ المذكور أولًا بعد اللام التي تدل على الابتداء، وهو إن كان نكرةً إلا أن له عدة مسوغات ذكرها السمين الحلبي هنا.
بقي أن يُجاب عن مناسبة المعنى في القول الثاني، ففيه وجهان:
الأول: هو ما يفيده المبتدأ المضمر من جعل الكلام متسلسلا مرتبطًا بالجملة السابقة في بداية الجملة اللاحقة، فهذا الربط وإن كان حسنًا من حيث المعنى إلا أنه ربطٌ غير ظاهر، ويمكن أن يغني عنه ما هو ظاهر في الآية، وهي اللام في قوله {لَمَغْفِرَةٌ} ، فإن هذه اللام هي المُتلَقية للقَسَم كما ذكره ابن عطية
(2)
، فإذا كانت هذه اللام قد ربطت بين القسم وجوابه، فلا حاجة إلى تقدير محذوف يربط بينهما.
الثاني: ما يفيده القول الثاني من تأكيد حصول المغفرة والرحمة للمقتولين والميتين في سبيل الله، لأنهما هما المخبر عنهما، فهذا وإن كان حسنًا من حيث المعنى إلا أن السياق يدل على أن الأمر المراد بالإخبار عنه في الآية غير هذا، فإن الآية في سياق الرد على مقولة المنافقين في الآية السابقة، حيث قال الله فيها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156]، فجاءت الآية بعدها في الرد عليهم، وأولى أن يكون الخبر فيها يُراد به التفضيل لحال المقتولين والميتين في سبيل الله، فيكون الخبر هو الخيرية المذكورة في الآية، بأن المغفرة والرحمة خيرٌ للمؤمنين مما يجمعه أولئك المنافقون القاعدون، فهذا أنسب في الرد.
5) النتيجة:
الراجح في قوله تعالى {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أن المبتدأ فيه هو
(1)
ينظر في قواعد الترجيح للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 421).
(2)
ينظر في المحرر الوجيز (1/ 532).
المغفرة، وأن الخبر هو قوله {خَيْرٌ} ، وهذا أحسن من جعل المبتدأ مضمرًا، فلا حاجة إلى إضماره إذا كان يسوغ الابتداء بقوله:{لَمَغْفِرَةٌ} .
وأما تقدير محذوف لأجل أن يربط الجملة من قوله {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بالجملة السابقة، وهي قوله {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّم} ، فالذي يظهر أنه لا حاجة إليه، فإن الجملة اللاحقة هي جواب القَسَم والشرط المذكورين في الجملة السابقة، واحتياج القَسَم والشرط إلى جواب يغني عن تقدير محذوف يربط بين الجملتين، والله أعلم.
المسألة الثانية: الفرق بين الغلظة والفظاظة
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
•
أصل الخلاف في المسألة:
هذه مسألة بلاغية في الفرق بين الغلظة والفظاظة، ومناسبة تقديم الفظاظة أولًا.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وعن الغِلظة تنشأ الفظاظة، فلِمَ قُدِّمت عليها؟
فقيل: قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما هو خافٍ في القلب، لأن الفظاظة كما تقدم: الجفوةُ في المعاشرة قولًا وفعلًا، والغِلظة: قساوة القلب.
ومن هذا يخرج جوابٌ عن سؤال، وهو: ما الحكمة في الجمع بين الفظاظة والغِلظة وهما بمعنى؟
فيجاب بما قدمناه من المغايرة، وهو أحسن من قول من قال إنه جُمع بينهما تأكيدًا"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي وجود فرقٍ بين الغلظة والفظاظة، وأن الجمع بينهما ليس من قبيل الجمع بين المترادفين لأجل التأكيد، وهذا يظهر من وجهين:
الأول: أنه قدَّم الفرق بينهما وأثبت أن الفظاظة تنشأ عن الغلظة.
الثاني: لفظ الترجيح (أحسن) الدال على تفضيل القول الأول على الثاني
(2)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 113).
(2)
وقد ذكر السمين الحلبي هذين الوجهين في الدر المصون كذلك (3/ 463).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
صرَّح الماوردي في تفسيره أن الجمع بين الفظاظة والغلظة لأجل التأكيد، وأنهما بمعنى واحد
(1)
، وتبعه على هذا بعض أهل العلم
(2)
.
وقد أشار ابن الجوزي إلى معنى التوكيد الذي ذكره الماوردي، ثم ذكر قول ابن عباس في التفريق بين الفظاظة والغلظة تنويهًا بأنهما ليسا في معنى واحد، وأن الجمع بينهما ليس من قبيل التوكيد؛ قال رحمه الله:"فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر الفظاظة والغِلَظ -وإن كانا بمعنى واحد- توكيدًا. وقال ابن عباس: (الفظ) في القول، و (الغليظ القلب) في الفعل"
(3)
.
وقد ذُكر قول ابن عباس هذا عن الكلبي
(4)
، وجرى عليه بعض المفسرين
(5)
.
وقد صرَّح آخرون بوجود فرقٍ بين اللفظين، وذكروا ذلك
(6)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل على الفرق بين الفظاظة والغلظة أن الأصل في اللغة هو التباين وليس الترادف، وأن التباين بين الألفاظ أكثر في اللغة وأشهر
(7)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للترادف بين الفظاظة والغلظة، أنه إذا قيل (رجلٌ فظ) عُلِم أنه غليظ القلب، وهو الواقع في الآية، فإن الفظاظة ذُكرت أولًا، فيكون الجمع بينها وبين الغلظة لأجل التأكيد.
ويمكن أن يُستدل من الآية أيضًا أن الفظاظة والغلظة ذُكرا في مقابل شيءٍ واحد، وهو
(1)
ينظر في تفسير الماوردي (1/ 433).
(2)
فنقل العز بن عبد السلام في تفسيره (1/ 290) معنى قوله، ووافقه صديق حسن خان في فتح البيان (2/ 363).
(3)
ينظر في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 339 – 340).
(4)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 355)، وتفسير البغوي (1/ 526).
(5)
حيث جرى عليه الواحدي في التفسير الوجيز (ص: 240)، واختار أوَّله ابن كثير في تفسيره (2/ 148).
(6)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 407)، والكوثر الجاري للكوراني (6/ 449)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 408).
(7)
ينظر في روضة المحبين لابن القيم (ص: 54).
اللين، حيث قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فهذا يشير إلى أنهما في معنى واحد، لأن المقابل لهما في الآية شيءٌ واحد.
4) الموازنة بين الأدلة:
قد تقدَّم أن من قواعد الترجيح أن "حمل ألفاظ الوحي على التباين أرجح من حملها على الترادف"
(1)
، وهذه القاعدة نافعة هنا، وبها يظهر مزيد تفصيل في الآية؛ إذ بالتفريق بين الفظاظة والغلظة يتبين لنا سببان لانفضاض الناس عن الداعي إلى الحق:
الأول: سبب ظاهر، وهي الفظاظة، وهي تظهر في القول، وتظهر في الفعل أيضًا، وليست الفظاظة أمرًا باطنًا؛ إذ لا يُوصف القلب بأنه فظ، ولكنها من الأمور الظاهرة التي يُستدل عليها بالأعمال الصادرة من المرء.
الثاني: سبب باطن، وهي غلظ القلب، ويُستدل عليه بعدم ظهور الأعمال التي تدل على رقة القلب وشفقته ورحمته، وهي وصف للباطن، ولا يناسب وصف الظاهر بالغلظة إلا أن يُراد بذلك حقيقته، بأنه جسم صلب قاس، وهذا غير مرادٍ هنا.
وبهذا يتبين الفرق بين الفظاظة والغلظة، وأن الفظاظة تدل على صدور الأقوال والأعمال الجافة، وأن الغلظة تدل على امتناع صدور الأقوال والأعمال الرقيقة الحانية، وهذا المعنى الأخير لا يظهر لو قلنا إن الفظاظة والغلظة بمعنى واحد، ففي قوله تعالى {غَلِيظَ الْقَلْبِ} مزيد بيان، وليس مجرد تأكيد لما قبله، فالفظاظة وإن كانت تدل على غلظة القلب لكنها لا تفي بالمعنى الكامل لغِلظ القلب.
وقد أشار الرازي إلى هذا الفرق فقال: "الفظُّ الذي يكونُ سيءَ الخلق، وغليظُ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء، فقد لا يكون الإنسان سيءَ الخلق ولا يؤذي أحدًا، ولكنه لا يَرِق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه"
(2)
.
5) النتيجة:
الراجح وجود فرقٍ بين الفظاظة والغلظة، وأنهما ليسا بمعنى واحد، وليس الجمع بينهما لمجرد
(1)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 481 – 494).
(2)
تفسير الرازي (9/ 407).
التأكيد، بل في ذكر الغلظة بعد الفظاظة مزيد بيان يدل على قسوة القلب وأن صاحبه لا يتصف بالرحمة والشفقة.
وذكر الفرق بين الفظاظة والغلظة هو المناسب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم، بأن ينفى عنه أكثر من معنى سيء وليس معنى واحدًا فقط، والله أعلم.
المسألة الثالثة: وجه (ما) في قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
هل يليق بكلام الله أن يكون فيه لفظ زائد؟ هذه المسألة من آثار هذه القضية.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في (ما) من قوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ} على أوجه:
أحدها، وهو قول أكثر النحويين والمفسرين: أنها زائدةٌ للتأكيد، كما قدمناه في عبارة الزمخشري وغيره.
والثاني: أنها نكرةٌ تامة لا موصوفة ولا موصولة، وعزاه مكي لابن كيسان، وجعل {رَحْمَةٍ} بدلًا منها، ونقله أبو البقاء عن الأخفش، فتكَوَّنَ إبهامٌ ثم تفسيرٌ بالبدل، والأصل: فبشيءٍ رحمةٍ.
والثالث: أنها نكرة موصوفة بـ (رحمة)، كقولهم: مررت بما مُعجبٍ لك؛ أي: بشيءٍ معجب.
والرابع وهو أغربها: أنها استفهامية، وإليه ذهب الإمام فخر الدين؛ قال:«ذهب المحققون إلى أن دخول اللفظ المهمل في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون (ما) استفهامًا للتعجب، تقديره: فبأي رحمةٍ من الله لنت لهم، وذلك لأن جنايتهم لمَّا كانت عظيمة، ثم إنه ما أظهر البتة تغليظًا في القول ولا خشونةً في الكلام؛ عَلِموا أن هذا لا يتأتَّى إلا بتأييدٍ ربَّاني قبل ذلك»
(1)
.
وأنحى عليه الشيخ فقال: «وما قاله المحققون صحيح، لكن زيادة (ما) للتوكيد في أماكِنه لا ينكره من له أدنى تعلق بالعربية، فضلًا عمَّن يتعاطى علم التفسير في كلام الله، وليس (ما) في هذا المكان مما يتوهمه أحدٌ مهملًا، فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن تكون استفهامًا
(1)
تفسير الرازي (9/ 406).
للتعجب.
ثم إن تقديره ذلك (فبأي رحمةٍ) دليلٌ على أنه جعل (ما) مضافةً للرحمة، وما ذهب إليه خطأ من وجهين:
أحدهما: أنه لا تُضاف (ما) الاستفهامية ولا أسماء الاستفهام غير (أي) بلا خلاف، و (كم) على مذهب أبي إسحاق.
والثاني: أنه إذا لم تصح الإضافة كان إعرابه بدلًا، وإذا كان بدلًا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل.
وهذا الرجل لَحَظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام اللفظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسوُّر عليه قولُ الزجاج في (ما) هذه أنها صلةٌ في معنى التوكيد بإجماع النحويين»
(1)
انتهى، وهو بحث حسن.
فإن قيل له أن ينفصل عن الإضافة والبدل بأن يقول: أجعلُ (رحمة) صفةً لـ (ما) الاستفهامية لا مضافًا إليها ولا بدلًا حتى يلزمني ما ذكرت، فالجواب أن أسماء الاستفهام لا تُوصف، فبطَلَ هذا أيضًا"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الأول بأن (ما) زائدة للتأكيد، ويظهر هذا من وجهين:
الأول: أنه قدَّم هذا القول سابقًا قبل ذكر الخلاف، وقد أشار إلى ذلك بقوله (كما قدمناه في عبارة الزمخشري وغيره)، فدل على اختياره لهذا القول الذي قدَّمه
(3)
.
الثاني: أنه ذكر بحث شيخه أبي حيان وفيه الإشادة بهذا القول والانتصار له، ثم قال:(وهو بحث حسن)، فدل على تحسينه له.
(1)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 168).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 124 - 127).
(3)
وينظر ما قدَّمه في المصدر السابق (ص: 111).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جعل (ما) في هذه الآية مزيدة جرى عليه جُل المفسرين
(1)
، وإن اختلفوا في تسميتها، "وكثيرٌ من القدماء يسمون الزائد (صِلَة) "
(2)
.
وهذا القول هو المأثور عن قتادة رحمه الله، حيث قال في تفسير الآية:"فبرحمةٍ من الله لنت لهم"
(3)
.
وكذلك ذَكَر كثيرٌ من أهل اللغة أن (ما) في هذه الآية مزيدة، واستشهدوا بها عند الكلام عن الزيادة
(4)
، وذكروا زيادتها عند إعراب الآية
(5)
، ولعله لأجل ذلك قال الزجاج:" (ما) بإجماع النحويين هاهنا صِلَة"، وتعقَّب الآلوسي حكاية الإجماع بأن فيه نظرًا، لأن الأخفش وغيره قد قالوا بخلاف هذا القول
(6)
.
والذي يظهر أن الأخفش يرى أن (ما) في الآية زائدة، فقد صرَّح بذلك في كتابه، ونقل عنه أهل العلم ذلك
(7)
.
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 185) والسمعاني (1/ 372) والبغوي (1/ 526)، والكشاف للزمخشري (1/ 431)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 533)، وتفسير البيضاوي (2/ 45) وابن جزي (1/ 169) وابن كثير (2/ 148) والآلوسي (2/ 318)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 451)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 144).
(2)
البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 305).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 185 - 186) واستشهد به في زيادة (ما)، ورواه ابن أبي حاتم (3/ 800)، وروى ابن المنذر في تفسيره (2/ 465) عنه أنه قال:"من رحمة الله لنت لهم".
(4)
ينظر في الجمل في النحو للخليل (ص: 325)، والكتاب لسيبويه (3/ 76)، والكامل للمبرد (1/ 269)، والأصول لابن السراج (1/ 43)، ومنازل الحروف للرماني (ص: 37)، وسر صناعة الإعراب لابن جني (1/ 272)، والصحاح للجوهري (6/ 2555)، والحجة لأبي علي (6/ 217)، وأمالي ابن الحاجب (2/ 881)، والجامع الكبير لابن الأثير (ص: 28) وشرح الكافية لابن مالك (2/ 816)، وهمع الهوامع للسيوطي (1/ 355).
(5)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 244)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 186)، وغريب القرآن لابن قتيبة (ص: 101)، وكشف المشكلات لجامع العلوم (1/ 271)، والبيان لأبي البركات (1/ 229)، والتبيان لأبي البقاء (1/ 305)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 158)، وإعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 87).
(6)
ينظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 482) والتبيان لأبي البقاء (1/ 305) وروح المعاني للآلوسي (2/ 318).
(7)
ينظر في معاني القرآن للأخفش (1/ 142، 238)، والقطع والائتناف للنحاس (ص: 152)، ومشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (1/ 314).
وأما القول بأن (ما) نكرة فقد روي عن ابن كيسان
(1)
، فذُكِر عنه أنه قال:"أنا أختار أن أجعل لـ (ما) موضعًا في كل ما أقدر عليه، نحو قول الله جل وعز: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}، وكذا {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155، والمائدة: 13]، وكذا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص: 28]؛ (ما) في موضع خفضٍ في هذا كله، وما بعدها تابعٌ لها"
(2)
، ولم أقف على من رجَّح هذا القول.
وأما القول بأن (ما) استفهامية فقد قال به بعضهم كما نقله الثعلبي
(3)
، واختاره بيان الحق النيسابوري
(4)
، ومن بعده الرازي
(5)
، ولم أقف على من اختاره بعد ذلك.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
الدليل على أن (ما) في الآية زائدة شيئان:
الأول: أن دخولها في الآية لابد أن يكون لمعنى، ولم يظهر في الآية معنًى سوى التأكيد، فتكون زائدةً للتأكيد، لأن من أغراض الزيادة التأكيد
(6)
.
الثاني: أن زيادة (ما) في الآية هي زيادةٌ حسنة من أساليب البلاغة العربية الأولى، فإن لها هنا تأثيرًا في حُسن النظم، وتمكينًا للكلام في النفس، وبُعدًا به عن الألفاظ المبتذلة
(7)
.
3) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
دليلان:
الأول: أنه لا يجوز أن يقال بوجود شيء زائدٍ في القرآن، لأن الزيادة تدل على أن اللفظ مهملٌ ضائع كما أشار إليه الرازي في كلامه، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله، ولهذا ذكر مكي بن أبي طالب عن ابن كيسان أنه كان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدًا في القرآن، فيبحث
(1)
هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان، إمام في اللغة، أخذ عن ثعلب والمبرد، وكان ميله إلى المذهب البصري أكثر من المذهب الكوفي، (ت: 299 هـ)؛ ينظر في طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر الزبيدي (ص: 153).
(2)
ينظر في إعراب القرآن للنحاس (3/ 169)، وينظر في مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (1/ 178).
(3)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 353)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 118)، وليس فيهما تعيين القائل بذلك.
(4)
ينظر في كتابيه: باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن (1/ 332)، وإيجاز البيان عن معاني القرآن (1/ 215).
(5)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 406 - 407).
(6)
ينظر في الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري (ص: 433).
(7)
ينظر في سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي (ص: 156).
له عن وجهٍ يخرجه من الزيادة
(1)
.
الثاني: أن الأقوال الأخرى في جعل (ما) نكرة أو جعلها استفهامية يحصل بها التفخيم للرحمة المذكورة في الآية والتعظيم من شأنها، فإنها إما أن تكون مفسِّرة ومبيِّنة للإبهام الذي في النكرة، فيكون للبيانِ بعد الإبهام موقعٌ في الكلام، وإما أن تكون هي المُستفهَم عنها تعظيمًا لها وتعجيبًا من شأنها على ما ذكره الرازي في كلامه.
4) الموازنة بين الأدلة:
كأن السمين الحلبي استشعر قول المانعين من الزيادة فقال بعد أن فرغ من المسألة: "والقائلون بكونها زائدة لا يعنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه لا فائدة له فيدخل تحت حكم المُهمَل، بل يقولون: زِيدَ للتوكيد، وإذا كان للتأكيد كان له أُسوَةٌ بالألفاظ التي جيء بها للتوكيد، نحو (كُلٍّ، وأجمعين) "
(2)
.
وهذا البيان يُجلِّي الحقيقة لمَن تأمله، فإن الزيادة تسميةٌ اصطلاحية، فيُرجع في بيانها إلى أهل العلم الذين اصطلحوا عليها، فيُنظَر فيما يعنون بها، فإنهم لا يعنون أن الزائد هو كالمُهمَل الضائع حتى يقال بالتحريم، ولا أنه لفظٌ دخيل يجوز سقوطه فيُنزَه القرآن هذا الحكم، بل جعلوا للزيادة فائدة وهي التأكيد، ولا يُشكل على هذه الفائدة أن الكلام يتم بدونها، وأنه يمكن أن يُفهم من غير الحاجة إلى اللفظ الزائد، فإن ألفاظ التأكيد نحو (كُلِّ، وأجمعين) كذلك ولم تكن مهملةً ولا دخيلة في الكلام.
فإذا ثبتت صحة الزيادة، فإنه قد تقدَّم أن من قواعد الترجيح أن "إعمال الكلام أولى من إهماله"، وأنه "إذا دار الأمر بين الزيادة والتأصيل فحمله على التأصيل أولى"
(3)
، لكن محلُ هذه القاعدة فيما إذا كان اللفظ محتملًا للزيادة وعدمها، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل إلا الزيادة فإنه لا ترجيح بهذه القاعدة
(4)
، ولا يُتكلَّف في ذكر معنًى آخر لأجل نفي الزيادة، ولأجل هذا ذكر أبو حيان هنا أن الزيادة في أماكنها المعتبرة لا ينكرها أهل العلم.
وبالنظر في الأقوال التي تجعل (ما) نكرة أو استفهامية يظهر التكلف في إثبات ذلك، وبُعده
(1)
ينظر في مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (2/ 543).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 127).
(3)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين الحربي (2/ 495 – 499).
(4)
ينظر في المصدر السابق (2/ 495)، فقد نبَّه الدكتور على محل هذه القاعدة.
عما يتبادر إلى الذهن من الآية، وهي وإن ظهر حسنها في تفخيم الرحمة والتعظيم من شأنها إلا أن النقص يظهر في الإخلال بوجه (ما) في الآية، فما الداعي لتنكيرها أو الاستفهام بها؟
والآية في مقام الامتنان بالرحمة، والمناسب لهذا المقام هو البيان والتأكيد، مع رعاية أن الجملة في ذلك قصيرة لا تحتمل ما يُحتاج إليه في تنكير (ما) أو الاستفهام بها من البسط والتفصيل.
هذا من حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإن الخطأ ظاهرٌ في جعل (ما) استفهامية كما بيَّن ذلك أبو حيان في كلامه الذي سبق، وتبعه السمين الحلبي وزاد في تفصيل الرد على هذا القول، وقد أجاب ابن هشام عن هذا القول بأزيد مما ذكراه هنا، وذكر هو والقرطبي من قبله أن (ما) في الآية لو كانت استفهامية لكان لفظها بغير أَلِف (فبمَ)، لأن (ما) الاستفهامية يجب حذف الألف منها إذا كانت مجرورة، وذلك لأجل التفريق بينها وبين الخبر، ولم تثبت الألف في ذلك إلا شذوذًا لا يُحمل القرآن عليه
(1)
.
بقي أن يشار إلى البلاغة في جعل (ما) زائدة في الآية، وما وجه التأكيد في ذلك، لئلا يُتوهم أنها ساقطة لا جدوى منها، وإذا كان يُعاب التكلف في جعلها نكرة أو استفهامية، فينبغي ذكر وجهٍ ظاهر في دلالتها على التأكيد، وحسنها في الكلام، وإلا لم يتعين الحمل عليها.
ذكر الزمخشري وغيره وجه البلاغة فيها
(2)
، وذلك أن تقديم الجار والمجرور على الفعل في الآية يفيد الحصر، لكن لا يتعين من تقديم الجار والمجرور إفادة الحصر دائمًا، بل قد يكون للاهتمام من غير إرادة الحصر
(3)
، فجاءت (ما) زائدةً بين الجار والمجرور لتؤكد الحصر وتنبه على أن لينه عليه الصلاة والسلام للصحابة بعد أن كان منهم ما كان في غزوة أُحد، أن ذلك ما كان إلا برحمة من الله، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فبرحمته سبحانه ألان رسوله لهم، وبرحمته سبحانه عفا عنهم وغفر لهم.
(1)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 248)، ومغني اللبيب لابن هشام (ص: 393 - 395)، وينظر في موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب لخالد الأزهري (ص: 170 - 172).
(2)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 431)، وتفسير البيضاوي (2/ 45)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 381)، وموسوعة الأعمال الكاملة لمحمد الخضر حسين (1/ 389).
(3)
ينظر في معاني النحو للدكتور فاضل السامرائي (3/ 105 - 107).
5) النتيجة:
الظاهر أن (ما) في الآية زائدة للتأكيد؛ إذ هو أحسن الوجوه التي تُحمل عليها الآية من غير تكلف، وليست زيادة (ما) في الآية تدل على تنقُّص كلام الله جل وعلا، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أنه ليس في القرآن لفظٌ زائدٌ إلا لمعنًى زائد، وإن كان ذلك من قبيل التأكيد، "وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} ، وقوله:{عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]، وقوله:{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3، والنمل: 62، والحاقة: 42]، فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى"
(1)
.
وقد كانت زيادة اللفظ في المواضع التي تليق به سائغةً عند العرب الأوائل، وأسلوبٌ حسن يقوي البيان عندهم؛ قال الخطابي لمَّا أشار إلى زيادة الحروف في كلام العرب: "فهذا وما أشبهه من زيادات حروفٍ في مواضع من الكلام، وحذف حروفٍ في أماكن أُخر منها؛ إنما جاءت على نهج لغتهم الأولى قبل أن يدخلها التغيير، ثم صار المتأخرون إلى ترك استعمالها في كلامهم.
فافهم هذا الباب، فإنك إذا أحكمت معرفته استفدت علمًا كثيرًا، وسقطت عنك مؤونة عظيمة، وزال عنك ريب القلب، وتخلَّصت من شَغْب الخصم، ولا قوة إلا بالله"
(2)
.
(1)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/ 537).
(2)
ينظر في بيان إعجاز القرآن للخطابي (ص: 58).
المسألة الرابعة: مُتعلَّق النصر والخذلان في قول الله تعالى: {إِن يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]
•
أصل الخلاف في المسألة:
إذا كان النصر في الآية يشمل النصر على الأعداء في ساحات القتال، فكيف غُلبوا في بعض المعارك؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في متعلَّق النصر والخذلان؛ ما هو؟
فأكثر المفسرين على أن ذلك النصر بالحجج القاهرة، وبالعاقبة في الآخرة؛ والمعنى: إن حصلت لكم النُّصرة فلا تَعُدُّوا ما يَعرِض لكم من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة، وإنْ خَذَلَكم في ذلك فلا تَعُدُّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نُصرة، فالنُّصرة والخذلان يُعتبران بالمآل.
وذهب آخرون إلى أن ذلك فيما يتعلق بلقاء العدو، وعند المكافحة في ملاحم القتال ونزال الأبطال، وهو الظاهر من السياق والسباق"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
رجَّح السمين الحلبي القول الثاني، وهو أن النصر والخذلان في الآية متعلقان بقتال الأعداء، وذلك يظهر في عبارة الترجيح بعد ذكر الخلاف في قوله:(وهو الظاهر من السياق والسباق).
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 131).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
الذي يظهر أن جُل المفسرين في هذه الآية يحملون متعلَّق النصر والخذلان فيها على القتال في المعارك، ذلك لأن كثيرًا منهم مثَّلوا لقوله {إِن يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} بالنصر الذي كان في غزوة بدر، ولقوله {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} بما كان في غزوة أُحد
(1)
، وبعضهم أشار إلى أمور أخرى تتعلق بالقتال كالعَدد والعُدد والامتناع من الأعداء
(2)
.
ولم أقف على من نفى أن يكون النصر والخذلان في هذه الآية متعلقان بالقتال في المعارك، أو تعرَّض للتفصيل المذكور في القول الأول، كالكلام عن الحجج في الدنيا أو ربط النصر في العاقبة في الآخرة.
وأصل هذه المسألة منقولة عن الراغب الأصفهاني في تفسيره، فهو الذي ذكر أقوال المفسرين فيها
(3)
، ثم تبعه أبو حيان واستظهر القول الثاني
(4)
، ثم تبعه السمين الحلبي هنا.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يظهر أن أصحاب هذا القول يستدلون بالواقع، فيقولون: إن ظاهر الآية أنها وعدٌ، لأنها جملة شرطية مبنية على نصر الله لعباده، فإذا نصرهم الله فإنه لا يكون لهم غالب، فلا يمكن أن يُغلبوا بعد نصر الله لهم، وهذا يخالف ما يَعرِض للمؤمنين من العوارض الدنيوية، من غلبة الأعداء عليهم في بعض المعارك، فلزم أن يكون مُتعلَّق النصر في أمرٍ مطَّرد لا يمكن أن يتخلف، وهو ظهور حجج هذا الدين التي لا يمكن أن تُدفع، وظهور العاقبة الحسنة للمؤمنين في الآخرة، وهذا لا يمكن أن يتغير.
(1)
ينظر في تفسير البغوي (1/ 527)، والكشاف للزمخشري (1/ 432)، وتفسير الرازي (9/ 411)، والنسفي (1/ 306)، والجلالين (ص: 89)، والسراج المنير للشربيني (1/ 260)، وتفسير أبي السعود (2/ 105)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 320)، ومحاسن التأويل للقاسمي (2/ 449)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 152).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 192) والقرطبي (4/ 254) والسعدي (ص: 154).
(3)
ينظر في تفسير الراغب الأصفهاني (3/ 955)، والذي يظهر من كلامه أنه يشير إلى قول المفسرين في النُّصرة في القرآن عمومًا، وليس في هذه الآية على وجه التحديد، وإنما ذكرها على سبيل التمثيل، وإلا فلم يظهر من أقوالهم في هذه الآية أنهم جعلوا النصرة فيها مرتبطة بالحجة القاهرة والعاقبة في الآخرة، والله أعلم.
(4)
ينظر في البحر المحيط (3/ 411).
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل القول الثاني بأنه السياق والسباق، فإن سياق الآيات هنا في شأن غزوة أُحد، وكذلك السباق، فالآية السابقة في لينة عليه الصلاة والسلام للصحابة بعد أن كان منهم ما كان في غزوة أُحد، واللِحاقُ أيضًا متعلقٌ بشأن الغلول من غنائم المعارك، وذلك في قوله:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]
(1)
، فالأولى أن يكون مُتعلَّق النصر في الآية هو في القتال في المعارك.
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر أن الخلاف المذكور في هذه المسألة لا يَرِد على هذه الآية، فليست الآية سيقت على سبيل الوعد للمؤمنين، وهذا يظهر من عدة وجوه:
الأول: أن سياق الآية لا يدل على الوعد، بل الأنسب أن تكون تسلية على ما أصاب المسلمين في غزوة أُحد، فإذا علموا أن النصر والخذلان بيد الله وحده رضوا وسلَّموا أمرهم إلى ربهم
(2)
، ولأجل هذا سيقت الآية في أواخر الآيات التي تحدَّثت عن غزوة أُحد.
الثاني: أن فعل الشرط المذكور في الآية هو فعل الله عز وجل: {إِن يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} ، ولو كانت الآية وعدًا للعباد لناسب أن يذكر فعلهم، كما في قوله:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فالآية في إثبات أفعال الله وتقريرها وأنه لا ينازعه منازعٌ إن نصر المؤمنين أو خذلهم.
الثالث: أن الآية لو كانت وعدًا بالنصر لما ذُكر الخذلان في قوله: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
وبهذا يتبين في معنى الآية أن المنصور مَنْ نصره الله، وأن المخذول من خذله الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا تبيَّن هذا فإن الخلاف المذكور لا يَرِد في هذه الآية، وإنما يَرِد في آياتٍ أخرى حمل فيها المفسرون معنى النصرة على أنها النصرة بالحجج القاهرة وبالعاقبة في الآخرة، ومَن لجأ إلى هذين
(1)
وينظر في سبب نزول الآية وأنها متعلقة بالمعارك في أسباب النزول للواحدي (ص: 126 - 127).
(2)
ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 152).
المعنين هنا لأجل أنهما ثابتان لا يتغيران، وجعلهما هما متعلَّق النُّصرة في الآية، فماذا سيقول في متعلَّق الخذلان؟
5) النتيجة:
الظاهر أن النصر والخذلان في هذه الآية متعلقان بالقتال في المعارك، وهذا المعنى وإن كان أخصُّ من المعنى الآخر إلا أن السياق هو الذي اقتضى هذا التخصيص، وليس في هذه الآية ما يُوجب صرفها عن هذا المعنى الذي اقتضاه السياق، ولذلك تتابع المفسرون على هذا المعنى ولم يتطرقوا إلى غيره.
فالآية يمكن حملها على وجه صحيح لا إشكال فيه، وهو أن الله وحده هو الكافي في نُصرة عباده المؤمنين، لأجل أن يتوكلوا عليه وحده في رجاء النصر، كما قال تعالى:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرا} [الفرقان: 31]
(1)
، وأن ما يحصل لهم من الهزيمة في بعض المعارك، أن ذلك إنما هو بتقدير الله، فليرضوا وليسلموا لأمره، فالنصر والخذلان إنما هو بيد الله وحده؛ قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:"وهذا كما تقدَّم من قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] "
(2)
.
(1)
استشهد الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (6/ 51) عند هذه الآية بالآية التي نحن فيها مقتصرًا عليها.
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 150).
المسألة الخامسة: معنى قول الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]
•
أصل الخلاف في المسألة:
جاء رجلٌ إلى أبي هريرة فقال: أرأيت قول الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها؛ أرأيت من يغل مئة بعير، مئتي بعير؛ كيف يصنع
(1)
؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: " {وَمَن يَغْلُلْ} أي: ومَن يَخُن في شيءٍ من المَغْنَم {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} ، وظاهر القرآن أنه يجيء به بعينه، ويدل له ما في الحديث:(جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)
(2)
، وروي:(ألا لا أعرفن أحدكم يوم القيامة يأتي ببعير له رغاء، وببقرة لها خوار، وبشاة لها ثغاء، فينادي: يا محمد، يا محمد؛ لا أملك لك من الله شيئا، قد بلَّغتُك)
(3)
، وروى البخاري ومسلم:(لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا رسول الله؛ أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك)
(4)
، وفي بعض الأحاديث:(وبفرسٍ له حَمْحَمَة)
(5)
، وقد غلَّ غلامٌ اسمه مِدعَم يوم خيبر شَملَةً من المغنم، فقال عليه السلام:(والذي نفسي بيده؛ إنها لتشتعل عليه نارًا)
(6)
. وإنما يأتي به حاملًا له ليُفتضَح به على رؤوس الأشهاد.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 805).
(2)
رواه البخاري (8/ 130/ 6636) ومسلم (3/ 1463/ 1832) في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي
(3)
رواه البخاري (9/ 28/ 6979) في صحيحه بنحوه من حديث أبي حميد الساعدي.
(4)
رواه البخاري (4/ 74/ 3073) ومسلم (3/ 1463/ 1832) في صحيحيهما من حديث أبي هريرة.
(5)
في الحديث السابق، ومعنى الحَمْحَمَة: صوت الفرس دون الصهيل؛ ينظر في النهاية لابن الأثير (1/ 436).
(6)
رواه البخاري (5/ 138/ 4234) ومسلم (1/ 108/ 115) في صحيحيهما من حديث أبي هريرة.
وقيل: معناهُ أن يأتي بإثمه، وحُذف المضاف للعلم به.
وقيل: يؤخذ من حسناته عِوَضَه وإلا عُوقب.
وعن الكلبي: أنه يُمثَّل له ذلك الذي غله، فيُلقى في قعر جهنم ويقال لمن غله: انزل فأت به، فينزل فيأتي به، ثم يتدحرج ذلك الشيء إلى قعر جهنم، فيُكلَّف الإتيان به ثانيًا، وهكذا أبدًا.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} معمولٌ لـ {يَأْتِ} ، و (ما) موصولة اسمية؛ أي: الذي غلَّه، ويضعف جعلها نكرة موصوفة أو مصدرية، لأن القصد الإتيان بذلك الشيء لا نفس الغلول"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يُرجِّح السمين الحلبي أن معنى قوله {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أنه يأتي بنفس الشيء الذي غله، وهذا يظهر من ثلاثة وجوه:
الأول: أن ذكر أن هذا هو ظاهر القرآن، والظاهر مُقدَّمٌ عنده.
الثاني: أنه استدل لهذا القول بأكثر من حديث، وذكر علَّته في قوله:(وإنما يأتي به حاملًا له ليُفتضَح به على رؤوس الأشهاد)، ولم يستدل للأقوال الأخرى، ولم يذكر علتها.
الثالث: أنه صرح في آخر الكلام أنه يأتي بالشيء الذي غله في قوله: (لأن القصد أن الإتيان بذلك الشيء لا نفس الغلول).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جرى أكثر المفسرين على أن المراد في الآية أن الغال يأتي يوم القيامة بعين الشيء الذي غله
(2)
، وعلى هذا جرى شُراح الحديث فذكروا أن الأحاديث في هذا الباب (والتي ذكر السمين
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 144 - 147).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 201)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 536)، وتفسير الرازي (9/ 414) والقرطبي (4/ 256) وابن جزي (1/ 170)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 412)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 452)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 322)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 155)، وتفسير السعدي (ص: 155).
الحلبي طرفًا منها) هي مفسِّرةٌ للآية وموضحةٌ لمعناها
(1)
.
وهذا القول هو مقتضى قول عبد الله بن مسعود
(2)
وأبي هريرة
(3)
وعوف بن مالك
(4)
رضي الله عنهم في تفسيرهم للآية، وهو مقتضى أقوال الصحابة الذين رووا أحاديث الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
، وبه قال سعيد بن جبير من التابعين في تفسيره للآية
(6)
.
أما القول بأن المراد بالآية هو أن الغال يأتي بإثم الذي غله فهو مضمون أقوال الذين خالفوا القول الأول، فقد ذكروا أن الإتيان في الآية ليس على حقيقته، وإنما هو من باب التشبيه والتصوير لحالة الغال، فيحفظ الله عليه ذلك الذنب الذي أخفاه، ثم يعزره يوم القيامة ويفضحه، فتشتد عليه الفضيحة، ويثقل عليه ذلك الذنب حتى يكون بمنزلة الذي أتى بذلك الذنب حقيقة
(7)
.
وأما القول الثالث بأنه يُؤخذ من الحسنات الغال فلم أقف على من قال به، وقد ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ورجَّح القول الأول
(8)
.
وأما القول الرابع عن الكلبي
(9)
أنه يُمثَّل له الشيء الذي غله فلم أقف على من وافقه على هذا في تفسير الآية.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي الأدلة على أن الذي غل يأتي بنفس الشيء الذي غله يوم القيامة،
(1)
ينظر في شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 233)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (6/ 233)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (18/ 332)، وفيض القدير للمناوي (1/ 123).
(2)
رواه مسلم (4/ 1912/ 2462) مختصرًا، وروى الآثار بطولها ابن أبي داود في المصاحف (ص: 75 - 77).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 805).
(4)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 59) مختصرًا بسند مقبولٍ كما أشار إليه الألباني في السلسة الصحيحة (7/ 921)، وروى الأثر بطوله أبو إسحاق الفزاري في السِّيَر (ص: 266).
(5)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 139 - 141).
(6)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 805).
(7)
ينظر بعض أصحاب هذا القول في تفسير الرازي (9/ 414) وروح المعاني للآلوسي (2/ 322)، وينظر في كتاب أنموذجٌ جليل لزين الدين الرازي (ص: 53)، وفتح الرحمن لزكريا الأنصاري (ص: 99)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 177 - 179)، وزهرة التفاسير لأبي زهرة (3/ 1484 - 1485)، والتفسير المنير للزحيلي (4/ 147).
(8)
ينظر في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 343).
(9)
ذكره عنه الثعلبي في تفسيره (9/ 382)، والبغوي في تفسيره (1/ 529).
وهذه الأدلة ترجع إلى أصلين:
الأول: أن هذا هو ظاهر الجملة، بحيث لا يحتاج فيها إلى تقدير محذوف، ففي هذا القول إبقاء للكلام على ظاهره.
الثاني: أن الأحاديث الصحيحة قد دلَّت على هذا القول، وهي خير ما يفسَّر به معنى الإتيان في الآية.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل من قال بأن المعنى أنه يأتي بإثم الغلول بما جاء في القرآن من تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية، ومثَّلوا لذلك بقوله تعالى:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]، وقوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، وقوله:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، قالوا: فتُحمَل الآية هنا على ذلك، ويكون المذكور فيها على سبيل التمثيل والتشبيه كهذه الآيات
(1)
.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
لم أقف على دليل القول بأنه يؤخذ من حسناته عِوَضَه وإلا عُوقب، لكن يمكن أن يكون آخر الآية يشير إلى هذا المعنى، وهو قوله تعالى:{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، بأنه يكون الاقتصاص منه أولًا بأخذ حسناته عوضًا عن المال الذي غلَّه، ثم يوفَّى جزاءه كاملًا على ما بقي من حسناته وسيئاته.
5) أدلة القول الرابع في المسألة:
يُستدل لهذا القول بما روي عن بُريدة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحجر ليزن سبع خلفات، فيُلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفًا، ويؤتى بالغلول فيُلقى معه، ثم يُكلَّف صاحبه أن يأتي به، وهو قول الله عز وجل: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
(1)
ينظر في تفسير السمرقندي (1/ 261)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 178)، وزهرة التفاسير لأبي زهرة (3/ 1484)، والتفسير المنير للزحيلي (4/ 147).
يَوْمَ الْقِيَامَةِ})
(1)
، وبما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال:(ما من أحد يغل غلولًا إلا كُلِّف أن يأتي به من أسفل درك جهنم)
(2)
.
6) الموازنة بين الأدلة:
من قواعد الترجيح في التفسير أنه "إذا ثبت الحديث، وكان في معنى أحد الأقوال، فهو مُرجِّحٌ له على ما خالفه"
(3)
، وهذه القاعدة تؤيد القول الأول، فإن الأحاديث جاءت بمعناه، وهي أحاديث كثيرة ذكرها ابن كثيرٍ في تفسيره
(4)
، ويكفي منها ما ذكره السمين الحلبي هنا.
ومما يقوي جانب الأحاديث هنا أن الآية خبرٌ عن غيب، و"لا يصح حمل الآية على تفسيراتٍ وتفصيلات لأمور مُغيَّبة لا دليل عليها من القرآن أو السنة"
(5)
، فالأحاديث المذكورة أشبه بأن تكون نصًّا في المسألة هنا، و"إذا ثبت الحديث وكان نصًّا في تفسير الآية فلا يُصار إلى غيره"
(6)
.
لكن القول الرابع قد يزاحم القول الأول في هذا الأمر، لأنه قد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في آخره ذكر الآية صراحةً، بخلاف القول الأول، فإن الأحاديث فيه لم تربطه بالآية ربطًا صريحًا، وأيضًا فقد روي في القول الرابع الأثرُ عن عبد الله بن عمرو، وهو خبرٌ عن غيب، فله حُكم الرفع، والجواب عن هذا من جهتين:
الأولى: جهة الرواية، فالأحاديث التي تؤيد القول الأول أصحُّ وأشهر وأكثر، وبعضها في الصحيحين كما ذكر السمين الحلبي، والحديث الذي ذُكرت فيه الآية فيه ضعف
(7)
.
الثانية: جهة الدراية، وهو أن الحديث المذكور وكذلك الأثر عن عبد الله بن عمرو إن صحَّا فإنهما لا يعارضان القول الأول، بل يمكن أن يكونا تابعين له، فيكون الغال يأتي بعين الشيء
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 804) والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 176)، ومداره على محمد بن أبان كما ذكر الطبراني في المعجم الأوسط (5/ 330)، وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد للهيثمي (10/ 389).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 805).
(3)
ينظر في قواعد الترجيح للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 206 - 209).
(4)
ينظر في تفسير ابن كثير (2/ 151 - 157).
(5)
ينظر في قواعد الترجيح للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 225 - 235).
(6)
ينظر في قواعد الترجيح للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 191 - 200).
(7)
تقدَّم تخريجه والكلام عليه في فقرة (أدلة القول الرابع في المسألة).
الذي غله يوم القيامة، ثم يُعذِّب بعد ذلك بالعذاب المذكور في الحديث والأثر، فالمقصود بالقول الأول إثباتُ أن الغال يأتي بعين الشيء الذي غله يوم القيامة، والحديث والأثر لا ينفيان هذا الأمر.
ومما يُشكل على القول الأول ما ذكره بعضهم من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]، فهذه الآية تدل على أنهم يأتون منفردين لا شيء معهم، وأنهم يتركون ما كانوا متمكنين منه في الدنيا من الأموال، وعليه فلا يحملون الغلول معهم، بل يأتون منفردين عنه، ويكون المراد بالآية أنهم يأتون بإثمه
(1)
.
والظاهر أن المراد بقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} أنهم يأتون للبعث حفاة عراة غُرلا، ولذلك قال بعدها:{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وفي هذه الهيئة تبكيت لمن ينكر البعث، كما قال تعالى:{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدا} [الكهف: 48]، ولا ينافي هذا أن الغال يأتي بما غله إلزامًا له كذلك، لأنه قد أخفاه في الدنيا فظهرت فضيحته في الآخرة.
ثم المراد بقوله {وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} هو أن ما كانوا مخوَّلين فيه في الدنيا ينتفي عنهم في الآخرة فلا يتمكنون منه، فلا يكون لهم ملك ولا قوة يستنصرون بها في ذلك اليوم، كما قال تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ 9 فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9 - 10]، ولا ينافي هذا أن الغال يأتي بما غله، لأن ما غله ليس مُلكًا له في الأصل، وليس له فيه قوة، بل هو إذلالٌ له وفضيحة.
ويبعد أن يكون المراد بالآية هنا أن الغال يأتي بإثم ما غله، لأن الآية قد دل ظاهرها على أن الغال يأتي بالشيء الذي غله حقيقةً، وفي ابتغاء غير هذا المعنى حملٌ للكلام على غير ظاهره، وعدولٌ عن الحقيقة إلى المجاز، والقاعدة أنه "إذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل"، وقد دل على الحقيقة هنا ألفاظ الحديث من ذكر رغاء البعير وخوار البقرة وثغاء الشاة وحمحمة الفرس، وإنما يُلجأ إلى المعاني الأخرى عند تعذر الحمل على الحقيقة، أما إذا
(1)
ينظر في كتاب أنموذجٌ جليل لزين الدين الرازي (ص: 53)، وفتح الرحمن لزكريا الأنصاري (ص: 99).
ثبتت الحقيقة بخبر الصادق المصدوق فلا عدول عنها
(1)
.
ثم إن الآيات التي ذكروا فيها أنها من قبيل تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية هي آيات يظهر منها ومن سياقاتها أنها في أمورٍ معنوية، كقوله:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ، فالأوزار هي الآثام، وهي أمرٌ معنوي، لكن قوله تعالى {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} ليس فيه ذكر أمرٍ معنوي إلا بمخالفة الظاهر، فلا يُحمل على أنه من قبيل تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية لأنه ليس ثمة أمور معنوية هنا.
وأما القول الثالث أنه يؤخذ من حسناته عِوَضَه وإلا عُوقب فالذي يظهر أنه ليس تفسيرًا للآية، وإنما غايته إن صحَّ أن يكون من أحكامها؛ أي إن الغال يكون حكمه يوم القيامة كذلك، فهذا القول ليس فيه ذكر الشيء الذي يأتي به الغال حتى يكون تفسيرًا لقوله {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} إلا أن يقال إنه يأتي بعِوَض الشيء الذي غله وهي الحسنات يومئذ، وهذا بعيد يخالف الظاهر.
7) النتيجة:
الراجح أن المراد بقوله {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أنه يأتي بعين الشيء الذي غله، والأحاديث تدل على هذا المعنى، وليس في الآية ذكر شيء يأتي به الغال غير الشيء الذي غله، فتحمل الآية على هذا المعنى تسليمًا للغيب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يُحال في تفاصيل هذا الأمر وكيفيته مما لم يُذكر في الأحاديث إلى علم الله جلَّ وعلا، فهو الذي توعَّد هذا الغال، وهو أعلم بما ينجز به هذا الوعيد.
ثم في الآخرة أحوال وأهوال لا تقاس بحال الدنيا، ولهذا سأل رجلٌ أبا هريرة عن الذي يغل مئتي بعير؛ كيف يأتي بها يوم القيامة؟ فقال رضي الله عنه:"أرأيت من كان ضرسه مثل أُحد، وفخذه مثل ورِقان، وساقه مثل بيضاء، ومجلسه ما بين المدينة إلى الربذة؛ ألا يحمل هذا؟! "
(2)
.
وحمل الآية على أن الغال يأتي بعين الذي غله أبلغ من الحمل على أنه يأتي بإثم الذي
(1)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 256 - 258) حيث ذكر القاعدة واستدل لها، وينظر في تفسير الرازي (9/ 414)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 322)، وقواعد الترجيح للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 387 - 395).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 805).
غله، فمعلومٌ أن كل عاصٍ سيأتي بإثم معصيته يوم القيامة إن لم يتداركه الله برحمته، فهذه قضية عامة، فما فائدة تخصيص الغال بالوعيد في قوله:{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؟!
والذي يظهر من الآية أنها تخص الغال بأمرٍ يخصه، لأنه تخصيص قبل العموم المذكور في قوله:{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، فلما ذكر الله القضية العامة ذكر عمومها في كل نفس، فدل على أن الذي قبلها هو أمرٌ خاص بالغال وحده، وهو أنه يأتي بعين الشيء الذي غله، والله أعلم.
المبحث الرابع: ترجيحات السمين الحلبي من آية (164) إلى آية (175)
وفيه تسع مسائل:
المسألة الأولى: معنى المماثلة في قول الله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا}
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]
•
أصل الخلاف في المسألة:
المِثلُ هو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، فيمكن أن يطلق على شيئين متفقين في الكمية والمقدار وإن اختلفا في الجنس، ويمكن أن يطلق على شيئين متفقين في الجنس وإن اختلفا في الكمية
(1)
، ولأجل عموم دلالة المِثل جاء في قوله تعالى {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} أكثر من قول، فما المراد بالمِثلين هنا، وما وجه المماثلة؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في معنى قوله: {مِّثْلَيْهَا} :
فعن ابن عباس وقتادة والربيع والضحاك أنها في العدد، وذلك أنهم يوم بدر قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فقد اصابوا يوم بدرٍ مِثلَي ما أُصيبوا به يوم أُحد.
وذهب الزجاج إلى هذه المثليَّة في القتل خاصة من غير اعتبار الأسر، وقال:«إنهم قتلوا يوم بدرٍ سبعين، ويوم أُحدٍ اثنين وعشرين، فهو قتلٌ بقتل، ولا يدخل الأسرى في الآية، لأنهم فُدُوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين»
(2)
انتهى. يعني أن حقيقة المماثلة اتحاد الصفة التي وقعت المماثلة فيها، ولا مِثليَّة بين القتل والأَسر، فلا مدخل للأَسر في ذلك.
وفيما قاله نظر من حيثيَّة أخرى، وهي أن حقيقة مِثلَي الشيء أن يكون ذلك الشيء نصفًا للمجموع، كما يقال: السبعون مِثلَا الخمسةِ والثلاثين، وهو قد قال إنهم قتلوا يوم أُحدٍ
(1)
ينظر في المفردات للراغب الأصفهاني (ص: 759)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 161).
(2)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 488)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 538)، وسيأتي تفصيل القول.
اثنين وعشرين، ويوم بدرٍ سبعين، والسبعون ليست بمِثلَين للاثنين والعشرين، فلو قيل إنهم قتلوا يوم أُحدٍ خمسةً وثلاثين صحَّ قوله الذي ذكرناه. فإن قيل: يجوز أن يراد بقوله {مِّثْلَيْهَا} أي: مِثلَين زائدين على ذلك الشيء، وذلك الشيء اثنان وعشرون، ومِثلاه أربعةٌ وأربعون؛ ينضم إلى اثنين وعشرين فيصير قريبًا من السبعين. قيل: هذا وإن كان قد يُراد إلا أنه ليس على حقيقته، لأن السبعين زائدةٌ على ما ذَكرتَ بأربعة أفراد.
وذهب آخرون إلى أن المثلية بالنسبة للانهزام، وذلك أن المسلمين هزموا المشركين يوم بدرٍ مرة، ويوم أُحدٍ أولَ الحرب مرةً أخرى، فظنوا أن الظَّفَر لهم، فتركوا المركز واشتغلوا بالنهب
(1)
، فهزمهم المشركون لولا رحمة الله، فقد أصاب المسلمون مِثلَي ما أصاب منهم المشركون من الهزيمة.
والظاهر الأول، وهو الذي عليه المفسرون، وبه تظهر المنَّة وتمام النعمة، حيث أُصيب من المسلمين سبعون، وأصيب من الكفار مئة وأربعون، وفي ذلك تسلية لهم عما أصابهم"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المماثلة في قوله {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} هي المماثلة في العدد، وهو أنهم اصابوا يوم بدرٍ مِثلَي ما أُصيبوا به يوم أُحد، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والظاهر الأول)، والظاهر عنده هو المقدَّم.
الثاني: أنه خصَّ هذا القول ببيان مزيَّته، ولم يفعل ذلك مع غيره، وذلك في قوله:(وبه تظهر المنَّة وتمام النعمة)، فدل على أنه يفضله على غيره من الأقوال.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جُلُّ أهل العلم في هذه المسألة على القول الأول، وهو أن المِثلَين كانا في غزوة بدر، وذلك
(1)
"النهب: الغنيمة"؛ ينظر (مادة: نهب) في العين للخليل بن أحمد (4/ 59)، وتهذيب اللغة للأزهري (6/ 173).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 171 - 172).
بقتل سبعين من المشركين، وأسر سبعين
(1)
، وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(2)
.
وقال به قتادة
(3)
وعكرمة والضحاك والسدي والربيع بن أنس
(4)
.
وقد اقتصر الطبري في تفسيره على هذا القول وقال بعد ذلك: "ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} بعد إجماعِ جميعِهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل"
(5)
، وقال ابن حجر:"اتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بالآية أهلُ أُحد، وأن المراد بـ {أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} يومَ بدر"
(6)
.
وذكر ابن هشام في السيرة الاستدلال بهذه الآية في بيان عدد الذين قُتلوا وأُسِروا من المشركين في غزوة بدر
(7)
.
وأما قول الزجاج المذكور هنا، فإنه منقولٌ عن ابن عطية، ولم يذكر ابن عطية كلام الزجاج نصًّا، بل ذكر معنى كلامه على النحو المذكور هنا
(8)
.
قال الزجاج في قوله تعالى {أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} : "أصبتم في يوم أُحد مثلها، وأصبتم يوم بدر مثلها، فأصبتم مِثلَي ما أصابكم"
(9)
. هذا هو نصُّ كلام الزجاج في هذه الآية، ولم يحمل أهل العلم كلامه على المعنى الذي ذكره ابن عطية، بل ذكروا أن معنى كلامه في الآية هو أن المشركين أصابوا المسلمين في يومٍ واحد، وهم أصابوا منهم في يومين، فجعل المِثلَين في اليومين؛
(1)
ينظر في الهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1166)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 151)، وتفسير السمعاني (1/ 376) والبغوي (1/ 532) والزمخشري (1/ 436) والبيضاوي (2/ 47) وابن جزي (1/ 171) وابن كثير (2/ 158) وأبو السعود (2/ 108)، والسراج المنير للشربيني (1/ 262)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 454)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 327)، وتفسير السعدي (ص: 156)، والعذب النمير للشنقيطي (5/ 84).
(2)
رواه عن ابن عباس الطبري في تفسيره (6/ 218) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 810)، وذكر قول جابر.
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 422)، والطبري في تفسيره (6/ 215) وابن المنذر في تفسيره (2/ 479).
(4)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 216 - 217)، وذكره ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 810).
(5)
تفسير الطبري (6/ 215).
(6)
فتح الباري لابن حجر (7/ 307).
(7)
ينظر في سيرة ابن هشام (1/ 714).
(8)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 538).
(9)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 488).
يوم بدرٍ ويوم أُحد
(1)
، وهذا المعنى أولى بأن يُحمل عليه قول الزجاج، أما المعنى المذكور هنا فإنه يمتنع حمل المِثلَين عليه كما فصَّل ذلك السمين الحلبي.
وعلى هذا المعنى الذي ذكره أهل العلم يكون قول الزجاج مشابهًا للقول الثالث إن لم يكن هو، وهو أن المثلية بالنسبة إلى الانهزام، فيجتمع قول الزجاج والقول الثالث في قولٍ واحد وهو أن المسلمين أُصيبوا في يوم أُحد (بمطلق القتل أو بالهزيمة في نهاية المعركة)، وأنهم أصابوا المشركين في يوم بدرٍ ويوم أُحد (بمطلق القتل أو بالهزيمة في أول المعركة)، وعلى هذا، فالمسألة فيها قولان فقط، كما جرى أهل العلم على ذلك، لكن أبا حيان رجع إلى ما ذكره ابن عطية فجعله قولًا ثالثًا ولم يتعقبه
(2)
، ثم تبعه السمين الحلبي في ذلك وذكر التفصيل في الرد على هذا القول.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
أشار السمين الحلبي إلى الدليل على أن المماثلة في قوله {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} هي المماثلة في العدد أن هذا القول هو الذي تظهر به المنَّة وتمام النعمة، وذلك أن نعمة الله على المؤمنين في غزوة بدر أعظم وأظهر، فامتنَّ الله عليهم بتلك النعمة، وعلى هذا فيكون المِثلان في الآية أنهم في غزوة بدر قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين
(3)
.
وقد دل على أن الآية سيقت للامتنان الاستفهام في قوله {أَوَلَمَّا} حيث إنه تضمَّن توبيخهم على التعجُّب من المصيبة التي أصابتهم مع نسيانهم النعمة السابقة من الله لهم، كما دل على الامتنان أيضًا قوله تعالى في الآية السابقة:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا} الآية [آل عمران: 164].
3) أدلة القول الثاني والثالث في المسألة:
يُستدل للقول الثاني والثالث أن سياق الآيات لا زال في غزوة أُحد، وأن قوله تعالى {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} فيه تخفيفٌ لهم عمَّا أصابهم، فالأَولى أن يُذكر في هذا التخفيف ما أحرزوه في غزوة أُحد، فإن هذا مما يهوِّن عليهم المصيبة التي أصابتهم فيها.
(1)
ذكر هذا المعنى عن الزجاج الواحدي في التفسير البسيط (6/ 152)، وابن الجوزي في زاد المسير (1/ 344)، والرازي في تفسيره (9/ 420)، ولم يرجحوا قوله.
(2)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 419).
(3)
وينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 419).
وكان قد أصاب المشركين في أول غزوة أُحد قتلٌ وهزيمة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152]
(1)
، فامتن الله عليهم بهذه النعمة التي ذكرها في السياق.
4) الموازنة بين الأدلة:
من الدرر التي أوصى بها السمين الحلبي عند قوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] أنه "لابد من تدبر المَثَل والمُمَثَّل له ومطابقة ما بينهما"
(2)
، وهذا الأمر يجدر العمل به هنا لأن المسألة تتعلق بالمماثلة.
أما القول الأول فإن المُمَثَّل له هو إصابة سبعين من المسلمين في غزوة أُحد، والمِثلان فيه هما إصابة سبعين من المشركين قتيلًا، وسبعين أسيرا، وذلك في غزوة بدر، والمطابقة بينهما من جهتين:
الأولى: من جهة المقدار والعدد، فالسبعون مثلها سبعون، والمِثلان لها مئة وأربعون.
والثانية: من جهة الإصابة وإن اختلف نوعها، فالمشركون أصابوا من المسلمين بالقتل، والمسلمون أصابوا منهم إصابتين؛ بالقتل والأسر.
وأما القول الآخر في المسألة فإن المُمَثَّل له هو مقتل أو هزيمة المسلمين في يومٍ واحد هو يوم أُحد، والمِثلان فيه هما مقتل أو هزيمة المشركين في يومين؛ يوم بدر، وأول اليوم من أُحد، والمطابقة بينهما من جهتين:
الأولى: من جهة الظرف الزماني، فاليوم الذي للمشركين يقابله يومان للمسلمين.
الثانية: من جهة نوعٍ الإصابة نفسها وإن اختلف مقدارها، فالمشركون قتلوا المسلمين مرة، والمسلمون قتلوهم مرتين، والمشركون هزموا المسلمين مرة، والمسلمون هزموهم مرتين.
وفيما يأتي المناقشة والنظر في تفاصيل المماثلة بين القولين:
أولًا: المُمَثَّل له في الآية، وهي المصيبة التي ذكرها الله في قوله:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} ، وهذا يتناسب أكثر مع القول الأول الذي فيه تعيين المصيبة بأنها مقتل سبعين من
(1)
مستفاد مما ذكره الشنقيطي في أضواء البيان (1/ 207 - 209).
(2)
عمدة الحفاظ (4/ 68).
المسلمين، وهو المذكور في سبب نزول الآية
(1)
، وأما القول الثاني فالمصيبة فيه إما أن تكون مطلق القتل من غير تعيين، وهذا لا يناسب، فإنها لا تكون مصيبة إلا بالتعيين، وإما أن تكون الهزيمة، وهذا يتناسب أكثر مع تعجُّبهم وقولهم {أَنَّى هَذَا} ، لكن مقتل السبعين أبلغ في المصيبة نفسها.
ثانيًا: المِثلان في الآية، فجعلُ المِثلَين كلاهما في غزوة بدرٍ وتفصيلهما كما في القول الأول أبلغُ في تعيين النعمة وتحديد موضع المِنَّة، وهو أبلغ في التخفيف عن المسلمين عمَّا أصابهم في غزوة أُحد، فإنه كلما كانت النعمة أعظم كان التخفيف أكبر، ولا يُشكل عليه أن السياق في غزوة أُحد، لأن الفعل قد جاء بصيغة المضي:{أَصَبْتُم} ، وأما القول الثاني فإن المِثل الأول فيه في غزوة بدرٍ ليس فيه تفصيل، فهو إما قتلٌ وإما هزيمة، والمِثل الثاني الذي في غزوة أُحد هو أمرٌ كان في أولها ثم لم تكتمل الفرحة به، وهذا مما يضعف المثلين.
ثالثًا: المطابقة بين المثل والمُمَثَّل له، وهي ظاهرةٌ في القول الأول، فمقتل سبعين من المسلمين مثله مقتل سبعين من المشركين، ومثله أيضًا أسرُ سبعين آخرين، ولا يُشكل على هذا ما حكاه ابن عطية من أن الأسرى فُدُوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قَتَلِ سبعين من المؤمنين، لأن المماثلة هنا من جهة الإصابة والنيل من الخصم، والأسر يُعتبَرُ رزيةً من رزايا الحرب، وفيه إذلالٌ وإضعافٌ للخصم، لأن الأسير يكون تحت حكم مَنْ أسره؛ إن شاء حبسه أو قتله أو أخذ مقابله المال الذي يريده، وإن شاء أطلقه من غير مقابل، فيكون له الفضل والمِنَّة عليه بين الناس، فالأسر في كل الأحوال نقصٌ في جانب الخصم، فإن لم يكن نقصًا حقيقيًا بالقتل فهو نقصٌ معنوي
(2)
، ولعله لأجل هذا والله أعلم قال الله:{قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} ، ففيه التنبيه على نوعين متشابهين؛ قتلٌ وأسر، ولو كان المراد نوعًا واحدًا تكون به المقابلة لما احتيج إلى ذكر المماثلة، فيمكن أن يقال: قد أصبتم ضعفها.
وأما المطابقة في القول الثاني فليست ظاهرة من حيث التثنية في قوله: {مِّثْلَيْهَا} ، فإن
(1)
ينظر في أسباب النزول للواحدي (ص: 127 - 128)، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (2/ 780 - 783)، والصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (ص: 53 - 54).
(2)
ينظر في تفسير القرطبي (4/ 264)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 327)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 161)، وتفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 412)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 393).
التثنية ظاهرة وتامة في القول الأول، في أن السبعين يقابلها مئة وأربعون، بخلاف القول الثاني في أن اليوم الذي للمشركين يقابله يومان للمسلمين، لأنه لو كان اليوم يقابله يومان لكانت ثلاثة أيام، والمذكور هنا يومان فقط، فيوم أُحد مشترك بين كونه للمسلمين وكونه للمشركين، فلا تظهر المقابلة به، ولا تكون تامة، لأنه على هذا لم يتم لهؤلاء ولا لهؤلاء.
وقد بيَّن السمين الحلبي أن التمثيل بالقتل على القول الثاني لا تظهر المطابقة به من حيث العدد، لأن القتل الذي أحرزه المسلمون في غزوة أُحد هو قتلٌ قليل لا يبلغ بأن يكون مِثلًا للقتل الذي أصابهم، فلا يحسن جعله أحد المِثلَين، ولا يحسن التمثيل بمجرد القتل الذي فيه من غير اعتبار العدد، فإنه لو اعتُبر مثل هذا القتل اليسير في التمثيل لقال أحدٌ من المشركين مستدركًا على التمثيل به: ونحن قتلنا منكم أيضًا في غزوة بدرٍ قتلًا يسيرًا كذلك
(1)
.
وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ، فهو أمرٌ انتهى إلى غاية، كما قال تعالى بعد ذلك:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} إلى آخر الآيات وفيها بيان ما أصاب المسلمين بعد ذلك، وأيضًا فإن الحِسَّ الذي أحرزه المسلمون في غزوة أُحد هو شيءٌ مخصوص، لأن الحِسَّ هو القتل والاستئصال، وهذا واقعٌ على من قُتل من المشركين في تلك الغزوة فقط، وهم أقل ممن قُتل من المسلمين، كما تقدَّم
(2)
.
5) النتيجة:
الراجح أن المماثلة في الآية هي من حيث العدد، حيث أُصيب من المسلمين سبعون، وأصيب من الكفار مئة وأربعون ما بين قتيل وأسير، لأن هذا هو المناسب من حيث التمثيل به، وهو أبلغ في الامتنان به على المؤمنين، وقد امتن الله على المؤمنين بمثل ذلك في موضعٍ آخر فقال سبحانه:{فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا} [الأحزاب: 26].
(1)
مستفاد مما ذكره الواحدي في التفسير البسيط (6/ 152).
(2)
ينظر في أضواء البيان للشنقيطي (1/ 208 - 209).
المسألة الثانية: المخاطبون في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}
•
أصل الخلاف في المسألة:
قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} ، ذكر الله هذه المقولة على سبيل الذم لها، فهل يمكن أن تكون من أقوال المؤمنين؟ وأيضًا فإن الله أجاب عنها بقوله:{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} ، وهذا الخطاب يظهر منه التوبيخ والتقريع، فهل يناسب أن يُخاطب به المؤمنون؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس أيضًا فيمن خُوطب بهذا الكلام، والظاهر أنهم المؤمنون الخُلَّص، وعليه ينطبق ما قدمناه من أقوال المفسرين.
وذهب الماتريدي إلى أن الخطاب للمنافقين، وكان الإمام فخر الدين تبعه في ذلك، ولخَّص العبارة فقال:«لمَّا حكى الله عن المنافقين طعنَهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة؛ حكى عنهم شبهةً أخرى في هذه الآية، وهي قولهم: لو كان رسولًا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أُحد، وهو المراد من قولهم: (أنى هذا)، فأجاب عنه بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} أي: هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم»
(1)
انتهى ما ذَكراه.
وفيه نظر لأن المنافقين يوم أُحد انخزلوا مع كبيرهم رأسِ النفاق عبد الله بن أُبي، ولم يصبهم انهزامٌ ولا قتل، اللهم إلا أن يقال هو مجازٌ؛ أي إن إصابة إخوانهم وعشيرتهم بالقتل مصيبة لهم، أو يكون على حذف مضافٍ؛ أي: ولما أصاب إخوانكم، وبالجملة، فالقول الأول هو الظاهر"
(2)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 176 - 177).
(2)
تفسير الرازي (9/ 420).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الأول، أن المخاطبين في الآية هم المؤمنون الخُلَّص، وهذا يظهر من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وقد ذكره في أول المسألة ثم أكَّده في آخرها، وهو قوله:(والظاهر أنهم المؤمنون الخُلَّص)، وقوله:(وبالجملة، فالقول الأول هو الظاهر).
الثاني: أنه تعقب القول الثاني بأن فيه نظرًا، ولم يخلص إلى احتمال يرجحه.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
هذه المسألة فرعٌ عن المسألة السابقة وتفصيلاتها، فإن المسألة السابقة هي فيما أُصيب به المؤمنون، فيكون مقتضى أقوال المفسرين فيها أن الخطاب في الآية هو للمؤمنين، كما قال السمين الحلبي هنا:(وعليه ينطبق ما قدمناه من أقوال المفسرين)، فجُلُّ المفسرين هم على القول الأول؛ أن الخطاب في الآية للمؤمنين، كما قال ابن حجر:"اتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بالآية أهلُ أُحد"
(1)
.
وهذا القول هو مقتضى قول جمعٍ من أهل العلم غير الذين تقدَّم ذكرهم في المسألة السابقة
(2)
، وهو مقتضى قول الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد
(3)
.
ولم أقف على من ذكر احتمال أن يكون الخطاب في الآية للمنافقين إلا على قول الماتريدي والرازي
(4)
، والمسألة في أصلها منقولة عن أبي حيان، وقد ردَّ على قولهما
(5)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (7/ 307).
(2)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 398)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (14/ 424)، وبدائع الفوائد لابن القيم (2/ 242)، والسِّيَر للذهبي (8/ 81)، ومجموع فتاوى ابن باز (5/ 317)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 416).
(3)
رواهما الطبري في تفسيره (6/ 217)، (7/ 243).
(4)
ينظر في تفسير الماتريدي (2/ 523)، وتفسير الرازي (9/ 420).
(5)
ينظر في البحر المحيط (3/ 421).
2) أدلة القول الأول في المسألة:
دليلان:
الأول: أن هذا هو الظاهر السالم من الحذف والتجوُّز كما أشار إليه السمين الحلبي، فإن أول الآية هي في المؤمنين، لأنهم هم الذين أصابتهم المصيبة، فيبقى الخطاب لهم كما هو الظاهر
(1)
.
الثاني: سبب النزول، فإن الآية نازلة في المؤمنين، فيكون الخطاب فيها للمؤمنين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني عمر بن الخطاب قال: لمَّا كان يوم أُحد من العام المقبل عُوقِبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقُتل منهم سبعون وفرَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وهُشِمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} قال: بأخذكم الفداء"
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يستدل للقول الثاني بأن المقولة المذمومة، وهي قولهم:{أَنَّى هَذَا} ، هي من المقولات التي كانت بعد غزوة أُحد، فتُلحق بما قاله المنافقون بعد الغزوة، كقولهم:{هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، ونحو هذا من المقولات التي فيها التسخط على أقدار الله، ويقصدون بها الطعن في الدين، وعليه فيكون الخطاب في الآية للمنافقين، ويكون في الآية الردُّ عليهم وتوبيخهم
(3)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
يظهر من الخطاب أنه يتوجَّه للمؤمنين، لأن السياق في أول الآية يتوجَّه إليهم، فهم الذين أصابتهم المصيبة في غزوة أُحد، والمنافقون لم يكونوا معهم، بل انخزلوا من الجيش ولم يرجعوا، كما
(1)
وينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 421).
(2)
أسباب النزول للواحدي (ص: 127 - 128)، وينظر في العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (2/ 780 - 783)، والصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (ص: 53 - 54).
(3)
مستفاد مما ذكره الماتريدي في تفسيره (2/ 523).
دل عليه قوله تعالى في الآيات الآتية: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]
(1)
.
كما أن قوله تعالى {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} فيه تخفيف للمصيبة المذكورة، وامتنان بالنعمة السابقة، وهذا التخفيف والامتنان أولى أن يُخاطَب به المؤمنون.
فإذا تقرر أن الخطاب في أول الآية للمؤمنين، فإن الظاهر أن يكون الخطاب في آخرها لهم، ولم تظهر قرينة لفظية توجب صرف الخطاب عنهم، بل الظاهر في اللفظ أن المُتحدَّث عنهم في الآية هم فئةٌ واحدة، وليسوا فئتين؛ مؤمنين ومنافقين، وهذا ما يظهر من الضمائر المتصلة في قوله:{أَصَابَتْكُم} ، وقوله:{أَصَبْتُم} ، وقوله:{قُلْتُمْ} ، وقوله:{أَنفُسِكُمْ} ، والقاعدة تقول أن "إعادة الضمير إلى المُحدَّث عنه أولى من إعادته إلى غيره"
(2)
، وأيضًا فإن "توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها"
(3)
، فجعلُ مرجع الضمائر هنا في المؤمنين خاصة، أولى من تفريقها بين المؤمنين والمنافقين.
ولا يمكن جعل الخطاب في الآية للمنافقين إلا بالتجوُّز بالإصابة، كما ذكر السمين الحلبي، بإن ما أصاب المؤمنين هو مصيبةٌ لهم، أو بتقدير محذوف، بمعنى: ولما أصاب إخوانكم، وكل هذا يخالف الظاهر، وإبقاء الكلام على ظاهره أولى، كما أن هذا لا يناسب من حيث المعنى، فإذا تأملت قوله تعالى في المنافقين {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] تبيَّن لك أنهم لا يشاركون المؤمنين حزنًا على مصيبتهم، ولا يشاركونهم فرحًا بما أصابوه، فليس لهم شأنٌ يُذكر في قوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} .
وأما مناسبة قوله تعالى {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} لأن يكون مقولةً من مقولات المنافقين بعد الغزوة، فهذا لا يؤيده ما ثبت في الواقع، فإن الروايات في سبب نزول الآية تدل على أن هذه المقولة من قول المؤمنين، وأن الردَّ في قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} هو ردٌّ عليهم، ولا
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 222 - 223) وما ذكره من الروايات في ذلك.
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 603 - 605).
(3)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 613 - 620).
يُشكل على هذا أن فيه توبيخًا لهم رضي الله عنهم، لأن هذه الآية في بيان سبب المصيبة، وتنزيه الله تعالى أن يكون قدَّر عليهم هذه المصيبة من غير سببٍ منهم، وهي مثل قوله تعالى:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، كما ذكر ابن زيد رحمه الله
(1)
.
5) النتيجة:
الراجح أن الخطاب في الآية للمؤمنين، كما دل عليه سبب النزول، وهو الظاهر من اللفظ، وعلى هذا جرى المفسرون في تفسيرهم للآية.
وفي جعل الخطاب للمؤمنين فائدة عظيمة يُتعظ بها؛ قال الشيخ ابن باز رحمه الله لما ذكر هذه الآية: "إذا كان الرسول وأصحابه تصيبهم عقوبات الذنوب، ويُبتلون كما يُبتلى غيرهم، فكيف بغيرهم"
(2)
؟!
(1)
رواه الطبري في تفسيره (7/ 243).
(2)
مجموع فتاوى ابن باز (5/ 317).
المسألة الثالثة: أصلُ (لمَّا) في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} .
•
أصل الخلاف في المسألة:
(لمَّا) التي تختص بالفعل الماضي فيها خلاف بين أهل اللغة؛ هل تكون ظرفًا أو حرفًا
(1)
؟ وعلى هذا جرى الخلاف في (لمَّا) التي في الآية.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وفي (لمَّا) وجهان مشهوران:
الأول وهو قول أبي علي: أنها ظرفٌ بمعنى (حين)، وبه جزم الزمخشري هنا فقال:«و (لمَّا) نُصِب بـ {قُلْتُمْ}. و {أَصَابَتْكُم} في محل الجر بإضافة (لمَّا) إليه؛ تقديره: أقلتُم حين أصابتكم. و {أَنَّى هَذَا} نُصِب لأنه مَقُول. والهمزة للتقرير»
(2)
وتقدَّم الكلام مع الفارسي في ذلك والرد عليه.
والثاني وهو قول سيبويه والجمهور: أنها حرف وجوبٍ لوجوب؛ لا محل لما بعدها من الإعراب، وجوابها عند سيبويه هو {قُلْتُمْ} "
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الثاني، وهو أن (لمَّا) حرف وجوب لوجوب، ويظهر هذا الترجيح من تضعيفه للقول الأول في المسألة، فإنه ذكر أن المسألة فيها قولان، فذكر القول الأول ثم بيَّن أنه قد ردَّ على من قال به فيما تقدَّم، وذلك في قوله (وتقدَّم الكلام مع الفارسي في ذلك والرد عليه)، فدل على ترجيحه للقول الثاني.
ولم أقف على ردِّه المتقدِّم على القول الأول في كتاب القول الوجيز
(4)
، لكنه ذكر الرد على
(1)
ينظر في الجنى الداني للمرادي (ص: 594)، ومغني اللبيب لابن هشام (ص: 369).
(2)
الكشاف للزمخشري (1/ 436).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 178 - 179).
(4)
ولعله في سورة البقرة، ولم أجده هناك، وقد ذكر هذه المسألة في سورة النساء وبيَّن أنه قد تقدم الكلام عليها في أول البقرة؛ ينظر في القول الوجيز، (النساء: 32 - 79)، تحقيق: بداح بن عبد الله السبيعي (ص: 399 - 400).
هذا القول في الدر المصون؛ قال رحمه الله: "و (لمَّا) حرف وجوب لوجوب؛ هذا مذهب سيبويه، وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء أنها ظرف بمعنى (حين)، وأن العامل فيها جوابها، وقد رُدَّ عليه بأنها أجيبت بـ (ما) النافية و (إذا) الفجائية، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، و (ما) النافية و (إذا) الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفا"
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
كثيرٌ من المفسرين حين تعرَّضوا لـ (لمَّا) التي في الآية جعلوها بمعنى (حين)
(2)
، وهم في هذا موافقون لقول بعض أهل اللغة الذين قالوا بأنها ظرف
(3)
، لكن الجمهور من أهل اللغة كما ذكر السمين الحلبي يثبتون أن (لمَّا) حرف
(4)
، وذلك أثناء تفصيلهم للأوجه في (لمَّا) وما تدخل عليه، فيذكرون أن التي تدخل على الفعل الماضي هي حرف، ويعبِّرون عنها بأنها ما وقع لوقوع غيره، أو حرف وجودٍ لوجود، أو حرف وجوبٍ لوجوب.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل على أن (لمَّا) ظرفٌ بمعنى (حين) أن معنى الظرفية والمزامنة فيها ظاهر، فقوله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} ظاهرٌ فيه أن مقولتهم
(1)
الدر المصون (1/ 159 - 160)، وينظر أيضًا في الدر المصون (4/ 40 - 41)، (6/ 174)، (8/ 137)، وفي عمدة الحفاظ (4/ 43) حيث ذكر فيه قول الفارسي بصيغة توحي بالتضعيف (زعم).
(2)
ينظر في الهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1166)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 151)، والكشاف للزمخشري (1/ 436)، وتفسير البيضاوي (2/ 47)، وأبي السعود (2/ 108)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 327).
(3)
ينظر في الأصول في النحو لابن السراج (2/ 157)، والإيضاح لأبي علي الفارسي (ص: 319)، والمحتسب لابن جني (2/ 312)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 107)، والتبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 33).
(4)
ينظر في الكتاب لسيبويه (4/ 234)، ومعاني القرآن للزجاج (3/ 64)، ونتائج الفكر للسهيلي (ص: 97)، ورصف المباني للمقالي (ص: 284)، وارتشاف الضرب لأبي حيان (4/ 1896)، والجنى الداني للمرادي (ص: 594)، وبدائع الفوائد لابن القيم (1/ 44)، وشرح قطر الندى لابن هشام (ص: 52)، والمساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل (3/ 198) والمقاصد الشافية للشاطبي (6/ 101)، ودليل الطالبين لمرعي الكرمي (ص: 84).
تزامنت مع المصيبة التي أصابتهم، فحين اصابتهم المصيبة قالوا: أنى هذا.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل من قال بأن (لمَّا) حرف وجوبٍ لوجوبٍ بأن فيها معنى التعليل والتسبيب، فقوله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} ظاهرٌ فيه أن مقولتهم كانت بسبب ما أصابهم، فإذا كان فيها معنى التعليل والتسبيب والربط بين الفعلين (أصابتكم، قلتم)، فإنها تكون كغيرها من الحروف التي فيها هذا المعنى، مثل (إنْ) الشرطية في ربطها بين فعل الشرط وجواب الشرط، ومثل (لو) الامتناعية، فإنها تقابل (لمَّا) في وظيفتها، فهي حرف امتناعٍ لامتناع، و (لمَّا) حرف وجوبٍ لوجوب
(1)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يُشكل في هذه المسألة أن (لمَّا) متجاذبة بين دليل الظرفية وهو المزامنة، ودليل الحرفية وهو التعليل والسببية، وإن كان هذان الأمران قد لا يظهران كل الظهور في بعض المواضع، فمن ذلك ما ذُكر عند قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} [الكهف: 59]، فقد قيل إن الظلم متقدِّم على الإهلاك، وليس مزامنًا له
(2)
، ويُجاب عن هذا وأمثاله بأن المراد ثبوت الفعل واستمراره، فحين ثبتوا على الظلم واستمروا عليه أهلكهم الله، وإلا لما أهلكهم
(3)
، ومن ذلك أيضًا ما ذُكر عند قوله تعالى:{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67]، فقد قيل إن الإنجاء ليس بسببٍ وعلَّة للإعراض
(4)
، ويجاب عنه بأنهم لمَّا كانوا في البحر كانوا في شدَّة، فدعَوا الله مخلصين له الدين، ولم يمنعهم من الإشراك إلا وجود الشدة، فلما نجَّاهم إلى البر انتفى عنهم المانع وتهيَّأت لهم دواعي الإعراض، فأعرضوا عن الله وأشركوا به، فصار الإنجاء سببًا لإعراضهم.
وإذا ثبت دليل الظرفية ودليل الحرفية فأيهما يترجَّح؟
يمكن أن يترجَّح دليل الحرفية لوجود ما يعضده من أن كلمة (لمَّا) مبنية، "وكل مبنيٍّ لازمٍ
(1)
ينظر في الجنى الداني للمرادي (ص: 595).
(2)
ينظر في شرح الكافية لابن مالك (3/ 1643 - 1644).
(3)
ينظر في مغني اللبيب لابن هشام (ص: 369).
(4)
ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (8 ب/ 62).
للبناء فالحُكم عليه بالحرفية إلا إن دلَّت دلائل مقوِّيةٌ له في حيز الأسماء"
(1)
.
ومما يضعف كون (لمَّا) ظرفًا ما ذكره السمين الحلبي من أنها قُطعت عن عاملها بـ (ما) النافية و (إذا) الفجائية، وما بعدهما لا يعمل فيما قبلهما
(2)
.
ثم إنه لا يناسب جعل (لمَّا) ظرفًا وقد ثبت فيها معنى العلة والسببية، لأن الظرف لا دلالة فيه على السببية
(3)
، وأما إذا جعلناها حرفًا فإنه لا يشكل عليها ثبوت معنى الظرفية والمزامنة؛ قال المقالي:" (لمَّا) وإن كانت بمعنى (حين)؛ لا يخرجها هذا المعنى إلى الاسمية، فإن من الحروف ما يتقدَّر بالأسماء وهو لازمٌ للحرفية"
(4)
.
5) النتيجة:
الراجح أن (لمَّا) حرف، لأن الشواهد على حرفيته متعددة، ولا يظهر أن هنالك ما يمنع من كونه حرفًا، ولا يناسب أن يكون اسمًا، لأنه ترِد عليه إشكالات، وليس فيه علامة من علامات الاسم المعروفة
(5)
.
(1)
رصف المباني للمقالي (ص: 284).
(2)
وينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 713)، وشرح قطر الندى لابن هشام (ص: 52).
(3)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (7/ 195).
(4)
رصف المباني للمقالي (ص: 284).
(5)
ينظر في الجنى الداني للمرادي (ص: 594 - 595).
المسألة الرابعة: المراد بقول الله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]
•
أصل الخلاف في المسألة:
هذه المسألة من آثار الخوض في الغيبيات التي لا تدرك حقيقتها، وذلك من جهتين:
الأولى: الخوض في ذات الله وصفاته، فإن بعض الطوائف خاضوا في ذلك من غير علمٍ ونفوا أن يكون لله جسم، تنزيهًا له عن مشابهة المخلوقين، ونتج عن ذلك أن نفوا عن الله كثيرًا من الصفات الثابتة له سبحانه، فنفوا أن يكون في جهة من الجهات أو يكون فوق شيء أو يكون بقربه شيء، لأن ذلك يستلزم التجسيم، ومن ذلك أنهم نفوا أن يكون قُرب الشهداء من الله حقيقيًّا، وذلك في قوله:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
(1)
.
الثانية: الخوض في حياة البرزخ، وذلك أن بعضهم لم يقنع بأن الشهداء لهم حياة حقيقية في البرزخ، ولم يتصور كيفية هذه الحياة فنفاها بالكلية، وجعل الحياة في الآية مجازية، والقُرب فيها من الله مجاز.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيه دلالةٌ على رفع المنزلة وتقريب المكانة، وأما العنديَّة الحقيقية فمستحيلةٌ في حق الباري عز وجل.
وقال ابن عطية: «فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن (عند) تقتضي تمام القرب، ولذلك لم تصغَّر؛ قاله سيبويه»
(2)
انتهى.
والتقدير الأول أبلغ من ادعاء حذف المضاف"
(3)
.
(1)
وينظر ما ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 79 - 82) عن بعض الدوافع التي أدَّت إلى نفي التجسيم.
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 540).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 226)
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن قوله تعالى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} مجاز في رفع المنزلة وتقريب المكانة، ولم يحمله على الحقيقة أو يقدِّر فيه المحذوف، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه قدَّم هذا القول واعتمده في تفسير الآية ثم ذكر القولين الآخرين، وما يقدِّمه ويعتمده أولًا هو الراجح عنده.
الثاني: أنه رد على القول الثاني بأن القرب حقيقي بأن ذلك مستحيل، ولم يستحسن القول الثالث بأن في الآية حذفًا، وذلك في قوله:(والتقدير الأول أبلغ من ادعاء حذف المضاف)، فذكر لفظ الترجيح (أبلغ) في الموازنة بين القول الأول والثالث، ونفى القول الثاني، فدل على ترجيحه للقول الأول
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن حياة الشهداء حقيقية
(2)
، والمخالف لذلك قليل لا يُعتد بقوله
(3)
.
وإذا كانت الحياة حقيقية عند الجمهور فتُحمل أقوالهم في القُرب أنه حقيقي إلا من نبَّه على خلاف ذلك، ونفى أن يكون القرب حقيقيًّا.
واتفق جمهور العلماء أيضًا على أن أرواح الشهداء في الجنة
(4)
، وهذا إشارة إلى قُربهم من الله تعالى، فإن الجنة عنده سبحانه
(5)
.
وقد نبَّه بعض المفسرين على أن القُرب مجازي
(6)
، ومن المفسرين مَنْ ادعى وجود الحذف في
(1)
وقال السمين الحلبي في الدر المصون (3/ 483): «والمراد بالعندية المجاز عن قربهم بالتكرمة» ثم ذكر قول ابن عطية وقال: «ولا حاجة إليه، لأن الأول أليق» .
(2)
ينظر في الهداية لمكي بن أبي طالب (1/ 517)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 457).
(3)
ينظر في روح المعاني للآلوسي (1/ 418)، وفتح البيان لصديق حسن خان (1/ 318).
(4)
ينظر في أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور لابن رجب (ص: 97)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 47).
(5)
ينظر في الروح لابن القيم (ص: 105 - 106).
(6)
ينظر في أحكام القرآن للجصاص (2/ 333)، والكشاف للزمخشري (1/ 439)، وتفسير الرازي (9/ 425) والبيضاوي (2/ 48)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 429)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 334).
الآية
(1)
، وأهل السنة على خلاف قولهم، فإن الآية عندهم تُحمل على ظاهرها من أن القرب حقيقي، وقد صرَّح بذلك عددٌ من أهل العلم
(2)
، ويكفي في هذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، فإنه يغني عن التصريح، وقد عدَّ أهل العلم حديثَ ابن مسعود مثالًا على تفسير السنة المبينة للكتاب
(4)
.
2) أدلة القول الأول والثالث في المسألة:
ليس للقول الذي ذكره السمين الحلبي والقول الذي ذكره ابن عطية دليل خاص، وإنما هو المنع من أن يكون قوله تعالى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقتضي القُرب الحقيقي، لأن معنى (عند) في اللغة يقتضي تمام القُرب كما نقله ابن عطية عن سيبويه
(5)
؛ قالوا: والقرب الحقيقي من الله ممتنع لأنه يستلزم التحيُّز في جهة من الجهات، وذلك من خصائص الأجسام؛ قالوا: والله تعالى منزَّه عن التجسيم.
ولذلك لا يقبلون بظاهر اللفظ، فإما أن يجعلوه مجازًا أو يقدِّروا معه محذوفًا يصرفه عن معناه؛ قال السمين الحلبي في موضعٍ آخر من قوله تعالى {عِنْدَ رَبِّهِمْ}:"العندية مجاز لتعاليه عن الجهة"
(6)
.
وهذان المذهبان (التجوُّز وتقدير المحذوف) مستويان في المأخذ والدليل، وإنما افترقا في طريقة التأويل، لكن يمكن أن يستدل لقول السمين الحلبي بأن (عند) هو اسمٌ للحضور والقُرب الحسي والمعنوي
(7)
، فإذا كان يستخدم للقرب المعنوي نحو قوله تعالى {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47] فلا حاجة إلى تقدير محذوف، ولعله لأجل هذا ذكر السمين الحلبي أن القول بالتجوُّز أبلغ من ادعاء الحذف.
(1)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 540)، وتفسير القرطبي (4/ 274).
(2)
ينظر في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص: 394 - 395)، وزاد المعاد لابن القيم (3/ 215)، وتفسير السعدي (ص: 156) ومعارج القبول لحافظ حكمي (1/ 159) وفتاوى نور على الدرب لابن باز (13/ 468).
(3)
سيأتي ذكر الحديث في فقرة أدلة القول الثاني.
(4)
ينظر في الموافقات للشاطبي (4/ 406 - 408)، وشرح مقدمة تفسير ابن جزي لمساعد الطيار (ص: 177).
(5)
ينظر في الكتاب لسيبويه (3/ 480)، وفي بعض الكتب التي نقلت عن ابن عطية خلطٌ بين قوله وقول سيبويه.
(6)
الدر المصون (1/ 405)، وينظر تفصيل قولهم في التسعينية لابن تيمية (3/ 780 - 781).
(7)
ينظر في مغني اللبيب (ص: 206).
ويمكن أن يستدل لقوة القول الذي ذكره ابن عطية بأن السياق أفاد أن الحياة حقيقية، وعليه فلا يتصور أن يكون (عند) يفيد القرب المعنوي، بل يكون في القُرب الحقيقي، فيُضاف إليه محذوف يصرفه عن معناه.
وأما من نفى أن تكون حياة الشهداء حقيقة، فإنه ينفي أن يكون القُرب حقيقيًّا تبعًا لذلك، ويحمل معنى الحياة في الآية على معنى الحياة في قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]؛ قالوا: فالمراد بحياة الشهداء حياة الطاعة والهدى
(1)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يدل على أن قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يفيد القرب الحقيقي من الله سبحانه دليلان:
الأول: أن هذا هو ظاهر اللفظ السالم من الحذف والتجوُّز، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، فلا يُصرف عنه إلا بقرينة.
الثاني: ما ثبت في السنة، فقد جاء في سبب نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمَّا أُصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ تَرِد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلَّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومَقِيلِهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنَّا أنا أحياء في الجنة نُرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى آخر الآيات
(2)
.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسَّر الآية بهذا المعنى، فقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال
(3)
: (أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك
(1)
ينظر في تفسير الماوردي (1/ 209).
(2)
رواه أبو داود في سننه (3/ 15/ 2520)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (7/ 279).
(3)
يعني النبي عليه الصلاة والسلام؛ ينظر في شرح النووي لمسلم (13/ 31)، وتهذيب السنن لابن القيم (2/ 215).
القناديل)
(1)
.
وإذا كانت أرواحهم تأوي إلى القناديل المعلقة بالعرش فإن ذلك يدل على قربهم من رب العرش الكريم
(2)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما مَنْ نفى أن تكون الحياة حقيقية فإن السياق يخالف قوله، وذلك من وجهين:
الأول: في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} ، فذكر القتل ثم ذكر بعده الموت والحياة، فيكون معناهما على الحقيقة، لا حياة الهدى والطاعة وموت الضلالة والغواية.
ومن قال بأن الحياة ليست حقيقية فقد خالف النهي الوارد في الآية في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا} ، وخالف قوله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُ} [البقرة: 154].
الثاني: في قوله: {يُرْزَقُونَ} ، فذكر أمرًا من خصائص الحياة الحقيقية؛ قال السمين الحلبي:"وإنما قال {يُرْزَقُونَ} بعد قوله {أَحْيَاءٌ} تنبيها على أنها حياة حقيقية مقترنة بالرزق؛ لم يكتف بالنهي عن طلب حسبانهم أمواتًا حتى أكَّد ذلك بما هو من شأن الحياة، وهو الرزق"
(3)
.
ومن هذين الوجهين يتبين أن الحياة والرزق في الآية على الحقيقة، فأولى أن يكون ما بينهما وهو قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} دالًا على القُرب الحقيقي.
وأيضًا، فإن السياق في مدح الشهداء وتشريفهم، فالأولى في المدح والتشريف أن يكون القُرب حقيقيًّا وليس مجازيًا، فإن الله شرَّف المتقين بذلك في قوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54 فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 54 - 55].
ولا ينبغي أن يُعتقد أن قُرب الشهداء من الله يقتضي نقصًا في ذات الله وصفاته، بل ذلك
(1)
رواه مسلم في صحيحه (3/ 1502/ 1887).
(2)
ينظر في تفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 436).
(3)
عمدة الحفاظ (2/ 88).
متضمنٌ لجوده وكرمه ولطفه بعباده الذين بذلوا الحياة لأجله، فجعل لهم حياة خاصة عنده بالقُرب منه سبحانه.
ومَن نفى هذا القرب وزعم أن ذلك من تنزيه الله عن التجسيم فإنه ينفي تبعًا لذلك عددًا من صفات الكمال له ويغلط فيها، كعُلُوه سبحانه على خلقه، وتجليه لهم، وما ذاك إلا تنقصٌ لله جل جلاله؛ قال ابن تيمية رحمه الله رادًا على من نفى صفات الكمال بحجة التجسيم: "لفظ الجسم فيه إجمال:
قد يُراد به المُرَكَّب الذي كانت أجزاؤه مفرقةً فجُمعت، أو ما يقبل التفريق والانفصال، أو المُرَكَّب من مادةٍ وصورة، أو المُرَكَّب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك كله: عن أن يكون كان متفرقًا فاجتمع، أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضًا وانفصاله عنه، أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه.
وقد يراد بالجسم ما يُشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.
فإن أراد بقوله (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنًى ثابتٌ بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تُقِم دليلًا على نفيه.
وأما اللفظ فبدعةٌ نفيًا وإثباتًا، فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفيًا ولا إثباتًا.
وكذلك لفظ (الجوهر) و (المتحيِّز) ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المُحدَث فيها نفيًا وإثباتًا"
(1)
.
وبهذا يتبين أن مَنْ نفى قُرب الشهداء من الله سبحانه زاعمًا تنزيهه عن التجسيم فإنه لم ينزهه، وإنما تعلَّق بشُبهة عريضة خالف بها ما ثبت في السنة من قُرب الشهداء من ربهم سبحانه، وخالف تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور الغيبية التي يكون بيانه لها هو أكمل البيان.
وعليه فلا يصح العدول عن ظاهر اللفظ من أن الشهداء عن ربهم حقيقةً إلى أن يكون قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} مجازًا في التكريم ورفع المنزلة لمخالفة ذلك لسياق الآية وما ثبت في السنة،
(1)
منهاج السنة النبوية (2/ 134 - 135).
وكذلك لا تصح دعوى وجود محذوف في الآية تقديره: عند كرامة ربهم، لأن الأصل في كلام الله أنه تام.
وما ذكروه من معنى التكريم ورفع المنزلة وحصول الكرامة كله ثابت إذا كان القُرب حقيقيًّا، بل إن القُرب الحقيقي يثبت هذا المعنى بأكمل مما ذكروه ويزيد عليه كمالًا من الأُنس بالقُرب من الله والاغتباط بذلك.
5) النتيجة:
الصحيح أن قوله تعالى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} يدل على القرب الحقيقي من الله، وأن الذين قتلوا في سبيل الله هم أحياء عنده سبحانه حياة برزخية لا يدرك الناس في الدنيا حقيقتها، كما قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}
(1)
، فالحقُّ فيها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول بأن قُرب الشهداء من الله حقيقي هو القول الذي يحصل به خصوصية الشهداء وتميز حياتهم عن حياة من دونهم من المؤمنين في البرزخ، فإن المؤمن يُنَعَّم في قبره، فله في البرزخ نعيم كما أن للشهيد نعيم، لكن الشهيد له قُربٌ خاص من الله عز وجل كما دلت عليه هذه الآية، والله أعلم.
(1)
ينظر في أضواء البيان للشنقيطي (1/ 217).
المسألة الخامسة: نوع الجملة في قول الله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} .
قال تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 170 - 171]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف هنا في قوله تعالى {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} بعد قوله {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} ؛ هل الاستبشار في الآية الثانية هو تأكيد للاستبشار في الآية التي قبله أو أن بينهما اختلافًا؟
وينبني على هذا تحديد الإعراب في الجملة الثانية؛ هل هي متعلقةٌ بما قبلها أو هي للاستئناف؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "اختلف الناس في هذه الجملة هل هي تأكيديَّة أم تأسيسيَّة؟
فذهب الزمخشري وابن عطية إلى الأول، ولنورِد كلامهما:
(1)
انتهى، وهو كلام حسنٌ لولا قوله «يجب في عدل الله»
…
وقال ابن عطية: «أكَّد استبشارهم بقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ} ، ثم بيَّن بقوله {وَفَضْلٍ}
(1)
الكشاف للزمخشري (1/ 440).
إدخالهم الجنة الذي هو فضلٌ منه لا بفضل أحد،
…
»
(1)
انتهى. يعني أن دخول الجنة محض فضل الله تعالى لا بعملٍ البتة،
…
وذهب غيرهما إلى أنها بدلٌ من الجملة الأولى قبلها؛ قال: فلذلك لم يُدخل عليه واو العطف، وهذا القول يحتجُّ إلى أنها تأكيدٌ للأولى أيضًا، لأنها أفادت إفادتها.
وقيل إنها للتأسيس، وإليه ذهب الشيخ وجعله الظاهر فقال:«والظاهر أن قوله {يَسْتَبْشِرُونَ} ليس تأكيدًا للأول، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم لا بالذين لم يلحقوا بهم، فقد اختلف متعلَّق الفعلين، فلا تأكيد، لأن هذا المُستبشَر به هو لهم، وهو نعمة الله عليهم وفضله»
(2)
انتهى.
ويؤيد هذا الوجه: أنه إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى"
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الثاني، أن الجملة من قوله تعالى {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} أنها للتأسيس وليست للتأكيد، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه نوَّه بالقاعدة الترجيحية (إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى)، وهي من قواعد الترجيح عنده كما تقدم.
الثاني: أنه حكى عن شيخه أنه جعل هذا القول هو الظاهر ولم يتعقبه، وذلك في قوله:(وإليه ذهب الشيخ وجعله الظاهر). والقول الظاهر عنده مقدَّمٌ على غيره.
ولا يشكل على هذا الترجيح أنه حسَّن قول الزمخشري، فإنما أراد به التحسين من حيث العموم، ولم يفضله على القول الآخر، أو أنه أراد أن يتلطف في التعقيب على قول الزمخشري فقال:(وهو كلام حسنٌ لولا قوله «يجب في عدل الله»).
(1)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 541).
(2)
المحيط لأبي حيان (3/ 434).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 239 - 240).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
رجَّح الزمخشري وابن عطية القول الأول كما ذكر السمين الحلبي، ووافقهم على ذلك بعض أهل العلم مقتصرين على هذا القول
(1)
، وجُلُّ مَنْ ذكر القولين من أهل العلم قدَّم القول الأول اهتمامًا به واعتمادًا عليه، ثم أشار إلى القول الثاني
(2)
.
ولم يرجِّح القول الثاني من أهل العلم إلا قليل
(3)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يُستدل للقول بأن الجملة {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} تأكيدٌ للجملة قبلها {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أن لفظ الاستبشار في الجملتين متطابق، وأن الثاني منهما لم تدخل عليه واو العطف، فيشبه أن يكون الثاني تأكيدًا للأول
(4)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يُستدل للقول بأن الجملة {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} هي تأسيس وليست تأكيدًا لاستبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم أن السياق من قوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا} [آل عمران: 169] هو في الامتنان على الشهداء، فالأولى أن تكون النعمة والفضل المذكوران في الآية هنا ترجع لهم، فتكون الجملة للتأسيس في بيان عظمة نعمة الله وفضله عليهم.
(1)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 440)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 541)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 169)، وتفسير ابن جزي (1/ 171)، والتفسير المنير للزحيلي (4/ 165).
(2)
ينظر في تفسير البيضاوي (2/ 48)، وأبي السعود (2/ 113)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 458)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 335)، وفتح البيان لصديق حسن خان (1/ 377 - 378).
(3)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 430 - 431)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 433 - 434)، وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 439).
(4)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 434)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 407).
4) الموازنة بين الأدلة:
أشار أبو حيان إلى القول الفصل في هذه المسألة وهو مُتعلَّق فِعلَي الاستبشار، فإن اختلف متعلَّق الاستبشار لم يكن الثاني تأكيدًا للأول، وبيان ذلك فيما يأتي:
الاستبشار الأول في قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، ومعناه: أن الشهداء يستبشرون أن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، فالاستبشار هنا متعلِّقٌ بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم.
والاستبشار الثاني في قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} ، ومعناه: أن الشهداء يستبشرون بثلاثة أمور: بالنعمة والفضل وعدم ضياع أجر المؤمنين.
والخلاف في المسألة في هذا الاستبشار الثاني؛ هل هو استبشار بأمرٍ يخصُّ الشهداء أنفسهم، أو بأمرٍ يخصُّ إخوانهم كالاستبشار الذي قبله؟
الظاهر من الاستبشار في الآية الثانية أنه عامٌ لا يختص به الشهداء وحدهم، لأنه تضمَّن نفي ضياع أجر المؤمنين، وهذه بشارة عامةٌ في المؤمنين كلهم، ومن هذا الوجه يمكن أن يكون الاستبشار الثاني متعلقًا بالاستبشار الذي قبله، لأن الاستبشار الأول متعلِّقٌ بإخوانهم:{أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وهذا الاستبشار الثاني تعلَّق بإخوانهم أيضًا: أن أجرهم ثابت لا يضيع؛ قال الطيبي: "ومن جُعلت أعماله مشكورةً غير مضيَّعةٍ فلا يخاف العاقبة"
(1)
.
وعلى هذا؛ لم يختلف متعلَّق فِعلَي الاستبشار في الآيتين، فيمكن أن يكون الثاني تأكيدًا للذي قبله، خصوصًا مع اتحاد لفظهما وانتفاء العطف عن ثانيهما.
وإن كان السياق يشير إلى أن النعمة والفضل في الآية أولى أن تكون لهم وأنهم يستبشرون بها لأنفسهم إلا أن آخر الآية قد دل على أنهم يستبشرون لإخوانهم بعدم ضياع أجرهم، فلا يبعُد أن يكون استبشارهم بالنعمة والفضل لإخوانهم أيضًا.
والسياق نفسه قد أشار إلى أنهم حازوا النعمة والفضل؛ أما النعمة ففي قوله {بَلْ أَحْيَاءٌ
(1)
حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 345).
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، فما أعظمها من نعمةٍ في جوار ربهم يجري عليهم فيها رزقه ويتجدد عليهم، وأما الفضل فقد جاء مصرَّحًا به في قوله:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وعلى هذا يمكن أن يقال إن القاعدة الترجيحية التي ذكرها السمين الحلبي (إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس، فالتأسيس أولى) لا مدخل لها هنا في الآية، لأن الآية تتضمن تأكيدًا لما سبق، سواء على القول الأول أو الثاني، فإما أن يكون التأكيد فيها لاستبشار الشهداء لإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم، أو يكون التأكيد فيها لثبوت النعمة والفضل للشهداء، فهم يستبشرون بما آتاهم الله من النعمة والفضل.
وقد قيل في الجواب عن هذا إن قوله تعالى {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} تضمَّن فرحهم، والاستبشارُ أعظم من الفرح، وأيضًا فإن فرحهم هو بفضلٍ يحصل لهم في الحال، واستبشارهم هو بفضلٍ يحصل لهم لاحقًا
(1)
، لكن الظاهر أن هذا لا يُخرِج الآية عن التأكيد لثبوت النعمة والفضل لهم.
5) النتيجة:
الذي يظهر والله أعلم أن قوله تعالى {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} قد تضمَّن التأكيد للاستبشار الذي في الآية قبله، وأن الجملة ليست للاستئناف، وأن الاستبشار الذي في الآية ليس متعلقًا بالشهداء وحدهم، لأنها فيها الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، وهذا عامٌّ في المؤمنين كلهم.
ولا يظهر أن يكون المراد بالمؤمنين في الآية الشهداءُ وحدهم، بل الظاهر أنها عامةٌ في كل مؤمن، ويؤيد ذلك قراءة الاستئناف:{وإِن الله لا يضيع أجر المؤمنين}
(2)
؛ قال ابن زيد: "هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء، وقَلَّما ذكر الله فضلًا ذكر به الأنبياء وثوابًا أعطاهم إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم"
(3)
.
(1)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 430 - 431) وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 439).
(2)
وهي قراءة الكسائي؛ ينظر في التيسير لأبي عمرو الداني (ص: 318)، والنشر لابن الجزري (2/ 244).
(3)
ينظر في تفسير ابن أبي حاتم (3/ 815).
المسألة السادسة: معنى الاستجابة لله وللرسول في قول الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]
•
أصل الخلاف في المسألة:
قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} [النساء: 69] يدلُّ إطلاقه على أن الطاعة المذكورة فيه طاعتان، كما في قوله تعالى:{يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]، لكن يمكن اعتبارهما طاعة واحدة على مقتضى قوله تعالى:{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، والخلاف في الآية هنا من هذا الجنس، فقوله تعالى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ؛ هل هو أمرٌ واحد واستجابةٌ واحدة، أو هما أمران واستجابتان؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "ولما كانت إجابة الرسول واجبةً وجوبَها بالنسبة إلى الله تعالى قال: {وَالرَّسُولِ} ، كقوله:{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، والمراد: ما امتثلوا في الخروج إثْرَ العدو في تلك الحال الشاقة بعدما عاينوا تلك الأهوال، وذهاب من ذهب من الآباء والأبناء والإخوان والأصدقاء، وهذه كلها حالات يشقُّ معها الخروج، ومع ذلك أبدوا طاعةَ الله وطاعة رسوله، فخرجوا سِراعًا، وإلى ذلك أشار بقوله:{مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} .
وقيل إن الاستجابتين هنا مختلفتان، فبالنسبة إلى الله تعالى بتوحيده وعبادته، وبالنسبة إلى رسوله بتصديقه وقبول ما جاء به، ونَصرِه والنصيحة له.
وما قدمناه هو الظاهر، ويدل عليه ما ذكرنا من سبب النزول"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 248 - 249).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الأول بأن الاستجابة لله ولرسوله في الآية هي استجابة واحدة، وهي الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج لتتبع العدو بعدما أصابهم القرح في غزوة أُحد، وهذا الترجيح يظهر من ثلاثة وجوه:
الأول: أن هذا القول هو الذي قدَّمه أولًا، ثم تعرَّض للخلاف بعد ذلك، فدل على أنه هو المعتمد عنده في تفسير الآية.
الثاني: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(وما قدمناه هو الظاهر).
الثالث: أنه استدل لهذا القول ولم يستدل للقول الآخر، فذكر أنه هو المتوافق مع ما قدَّمه من سبب النزول
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جميع من وقفت عليه من المفسرين جعلوا الاستجابة في الآية واحدة، وهي الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أُحد
(2)
، وهو قول عائشة رضي الله عنها كما سيأتي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن عكرمة والحسن وقتادة والسدي وابن جريج
(3)
.
وكلهم اتفقوا على أن الآية في قصة غزوة أُحد، وأن الاستجابة في الآية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفوا في تحديد الغزوة التي استُجيب لها؛ قال البقاعي:"هذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا إنها إشارة إلى غزوة (حمراء الأسد) أو غزوة (بدر الموعد)، فإن الوعد كان يوم أُحد، والله الهادي"
(4)
.
ولم أقف على من ذكر القول الثاني إلا ما قد يُفهم من كلام الراغب الأصفهاني في تفسيره،
(1)
وينظر ما قدَّمه من أسباب النزول في المصدر السابق (ص: 246 - 248).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 239) والسمعاني (1/ 379) والبغوي (1/ 539)، والكشاف للزمخشري (1/ 440)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 542)، وتفسير الرازي (9/ 431) والقرطبي (4/ 277) والبيضاوي (2/ 48) وابن كثير (2/ 165)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 336)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 167).
(3)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 241 - 243) إلا أثر عكرمة والحسن فرواهما ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 816).
(4)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 124).
وقد نقل أبو حيان بعض كلامه ولم ينسبه إليه، وجعله قولًا آخر في المسألة وردَّ عليه
(1)
، ثم تبعه السمين الحلبي.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل هذا القول أنه سبب النزول، فالآية نازلة في شأن غزوة أُحد استجابةً لأمرٍ واحد هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} أنها قالت لعروة بن الزبير: يا ابن أختي، كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابَ يوم أُحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال:(من يذهب في إثرهم) فانتدب منهم سبعون رجلا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول الثاني بأن الاستجابة لله تعالى هي المقصودة أولًا، والاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم تبعٌ لها، فلا بد من ذكر الاستجابة الأولى (وهي الاستجابة لله) من غير الاقتصار على الاستجابة الثانية (وهي الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم
(3)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
قد دل سبب النزول على أن الاستجابة في الآية كانت لأمرٍ واحد هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل وحيٌ من الله يأمرهم بالخروج إلى المشركين، وإنما أمرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
ومعلومٌ أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم جاء في الآية بعد أمر الله، وأن الاستجابة لله مقصودةٌ في الآية، لكن الثابت في سبب نزول الآية والأمر الذي وقعت الاستجابة له هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الاستجابة لأمر النبي هي استجابةٌ لأمر الله.
(1)
ينظر في تفسير الراغب (3/ 988)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 435)، وفي نسخة تفسير الراغب سقط من أول كلامه على الآية، ويمكن أن يُفهم من بقية كلامه أنه يقول بالقول الثاني كما نقل عنه أبو حيان.
(2)
رواه البخاري في صحيحه (5/ 102/ 4077) بهذا اللفظ، ورواه مسلم (4/ 1880/ 2418) مختصرًا، وينظر في أسباب النزول للواحدي (ص: 130)، والصحيح المسند من أسباب النزول لمقبل الوادعي (ص: 56).
(3)
مستفاد مما ذكره الراغب الأصفهاني في تفسيره (3/ 988).
(4)
ينظر في تفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 448).
ولعل من ذكر القول الثاني يشير إلى كيفية الاستجابة للأمر الذي في الآية، فإنها كانت بتوحيد الله وإخلاص العمل له، ونُصرة رسوله والنصيحة له، وأما الأمر الذي استجيب له فظاهرٌ أنه الأمر بالخروج لقتال المشركين بعد غزوة أُحد كما دل عليه سبب النزول.
ولا يقال هنا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن اللفظ هنا ليس بعام، بل هو خاص في الذين أصابهم القرح، فهي استجابة لأمرٍ مخصوص بيَّنه سبب النزول.
5) النتيجة:
الراجح القول الأول، وهو أن الاستجابة في الآية كانت لأمرٍ واحد هو الأمر بالخروج لقتال المشركين بعد غزوة أُحد، وهذا الأمر كان من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يقال في هذا أن فيه إهمالًا لأمر الله المذكور في الآية، بل إن من أعظم فوائد هذه الآية أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو من أمر الله
(1)
، وهي مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فالداعي هنا واحد، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت الاستجابة له استجابةً لأمر الله جل وعلا.
(1)
ينظر في تفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 448).
المسألة السابعة: مسألة زيادة الإيمان ونقصانه
قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
•
أصل الخلاف في المسألة:
هذه المسألة تتعلق بالإيمان في معناه ومفهومه وما يشمله من القول والعمل والاعتقاد، وقد تعددت أقوال الطوائف فيه بناء على هذه الأمور، وينبني على هذه المسألة تأويل الآيات الصريحة في زيادة الإيمان، فمن الطوائف من يؤولها على غير ما أراد الله أو يخصصها بمعنًى من المعاني من غير مخصص يوجب ذلك.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: " {فَزَادَهُمْ إِيمَانا} أي: ذلك القول زادهم إيمانًا إلى إيمانهم، ولذلك خرجوا سِراعًا صادقين مطيعين.
وظاهر الآية ونظائرها أن الإيمان يزيد وينقص، وقد اختلف أهل العلم في ذلك:
فذهب جماعةٌ إلى أن الزيادة والنقص فيه باعتبار الطاعات والمعاصي؛ أي إنه يزيد باعتبار الطاعات لأنها من ثمراته، وينقص بالمعصية، ونُسب هذا للشافعي، وهو مذهب مالك رحمهما الله تعالى.
وذهبت طائفة إلى أن ذلك باعتبار الأدلة الحاصلة عند الشخص، فإذا قوي الدليل في نفس المؤمن وتظافر وتحقق زاد إيمانه، وإذا ضعُفت الأدلة أو قَلَّت نقص، ولذلك نقول إن إيمان أبي بكر بلا شك ليس كإيمان أحدنا في القوة؛ هو أقوى بطِباق.
وذهب آخرون إلى أن ذلك بالنسبة إلى أعمال القلوب كالنيَّة والإخلاص والخوف والنصيحة. وهذا هو قريبٌ من القول الأول؛ إذ هُوَ هُوَ، غايةُ ما فيه أن ذلك القائل جعل الطاعات أعمال البدن، وهذا جعلها أعمال القلب، وكلها يصدق عليها (طاعات).
وذهب آخرون إلى أن ذلك من طريق نزول الفرائض والأخبار في زمن الرسول عليه
السلام.
وقال الإمام في الإرشاد: «زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائمًا، لأنه عَرَضٌ لا يَثبُت زمانين، فهو للصالحِ متعاقبٌ متوالٍ، وللفاسقِ والغافل غير متوال، فهذا معنى الزيادة والنقص»
(1)
.
وذهب آخرون إلى أنه لا يزيد ولا ينقص، وذلك أنه تصديقٌ قلبي، فإن كان صحيحًا فهو إيمان، وإلا فليس بإيمان، وما ذكر هؤلاء كلها أمورٌ عَرَضيَّة ليست داخلة في مسمى الإيمان الذي هو التصديق القائم بالقلب. وذهب إليه الباقلاني، ويُعزى للشافعي أيضًا، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ورجح هذا جماعة من المتكلمين، وتأولوا ما ورد به النص على معنى زيادة الأعمال أو نحوها.
وذهبت المعتزلة إلى أنه يزيد ولا ينقص
(2)
؛ قالوا: لأن النص الوارد إنما جاء بالزيادة دون النقص، ويروى هذا عن عبد الله بن المبارك، فارس العلماء العباد
(3)
"
(4)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الإيمان يزيد وينقص، ويظهر هذا من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(وظاهر الآية ونظائرها أن الإيمان يزيد وينقص)، والظاهرُ عنده مقدَّم على غيره من الأقوال.
الثاني: أنه صرَّح بهذا القول في تفسير الآية، بأن القول الذي قالوه زادهم إيمانًا إلى إيمانهم، ثم استظهر أن الإيمان يزيد وينقص، ثم ذكر الخلاف في المسألة، فدل على ترجيحه للقول الذي صرَّح به واستظهره قبل الخلاف، خصوصًا وأن المسألة في الاعتقاد، فما يقدمه قبل ذكر الخلاف فيها هو المعتمد عنده.
(1)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 543)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 437)، وهو نقلٌ بالمعنى من كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ص: 399 - 400).
(2)
سيأتي تفصيل قولهم وأنهم قد ينفون الأمرين جميعًا.
(3)
سيأتي ذكر ما حكاه عنه أهل العلم، وكذلك ما حكاه أهل العلم عن الإمام الشافعي عليهم رحمة الله.
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 258 - 261).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود
(1)
وغيرهما من الصحابة أقوالٌ يدل ظاهرها على القول بزيادة الإيمان، ومنها يُعلَم أنهم يقولون بنقصانه، وجاء عن صحابة آخرين ذكر الأمرين جميعًا كأبي الدرداء وأبي هريرة وعمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنهم أجمعين
(2)
.
وجاء عن سعيد بن جبير ومجاهد في قوله تعالى لإبراهيم الخليل: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؛ أي: لأزداد إيمانًا إلى إيماني
(3)
، وثبت القول بزيادة الإيمان ونقصانه عن عددٍ من التابعين
(4)
.
وذكر عدد من المفسرين زيادة الإيمان ونقصانه عند الآيات التي تدل على ذلك
(5)
، وقد جاء التبويب بهذا الأصل في كتب السنة
(6)
، وكتب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
(7)
، وعلى هذا مذهب الفقهاء مالك والشافعي وأحمد بن حنبل
(8)
.
وما ذكره السمين الحلبي هنا من أنه يُعزى الشافعي بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو خلاف ما عُرف عنه، كيف وقد نُقل عنه أنه حكى الإجماع على أن الإيمان يزيد وينقص
(9)
؟!
(1)
روى ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 164) أثر عمر، وروى الطبراني في المعجم الكبير (9/ 105) أثر عبد الله.
(2)
رواها البيهقي في شعب الإيمان (1/ 153 - 154).
(3)
ينظر في التفسير من سنن سعيد بن منصور (3/ 971)، وتفسير الطبري (4/ 632) وابن أبي حاتم (2/ 510).
(4)
ينظر تفصيل أقوال الصحابة والتابعين وتخريجها والحكم على أسانيدها في رسالة زيادة الإيمان ونقصانه للشيخ عبد الرزاق البدر (ص: 110 - 120).
(5)
ينظر في تفسير الطبري (12/ 88) والثعلبي (9/ 446) والسمعاني (2/ 248) والبغوي (4/ 114) والبيضاوي (2/ 49) وابن جزي (1/ 172) وابن كثير (6/ 392) وأبي السعود (2/ 114)، والآلوسي (5/ 156).
(6)
ينظر في صحيح البخاري (1/ 17)، وشرح النووي لمسلم (2/ 68)، وسنن أبي داود (4/ 219) والترمذي (5/ 9) والنسائي (8/ 112)، أما سنن ابن ماجه فقد جعل الروايات في الزيادة والنقصان ببابٍ في الإيمان (1/ 21).
(7)
ينظر في كتاب الإيمان لأبي عبيد (ص: 24)، والسنة لابن أبي عاصم (2/ 461)، والسنة للخلال (3/ 569)، والشريعة للآجري (2/ 580)، والإبانة لابن بطة (8/ 828)، وشرح أصول الاعتقاد لللالكائي (5/ 960).
(8)
رواها ابن عبد البر في الانتقاء (ص: 34)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 161)، والخلال في السنة (3/ 581).
(9)
نقل حكاية الإجماع عنه ابن كثير في تفسيره (4/ 12).
وقد رويت حكاية إجماع أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص عن آخرين من أهل العلم، وقد ذكر الإجماع ابن عبد البر، وابن تيمية رحمهم الله
(1)
.
أما الأشاعرة الذين ينتمي إليهم السمين الحلبي فقد تعددت أقوالهم في هذه المسألة وفق المذاهب الثلاثة التي ذكرها السمين الحلبي
(2)
.
وأشهر من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله
(3)
.
وقد قال بهذا القول طوائف من أهل البدع كالجهمية والمرجئة والخوارج والمعتزلة، وإن كان بعض هؤلاء ينكر نقصان الإيمان أعظم من إنكاره زيادته، لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم، أما الزيادة فقد يثبتونها لأجل الآيات الصريحة فيها ثم يسلكون فيها مسلك التأويل
(4)
.
وبالجملة، فكلُّ من خالف الحق في معنى الإيمان وما يشمله لم يكن قوله تامًّا في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، حتى وإن قال بالزيادة أو النقصان، كما تقدم بيانه في أصل الخلاف في المسألة.
وما يروى عن عبد الله بن المبارك أنه يقول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص هو خلاف ما ثبت عنه، فقد روي عنه التصريح بزيادة الإيمان ونقصانه
(5)
، وهو خلاف ما عرفه أهل العلم عنه، فقد ذكر الإمام أحمد ومن بعده ابن تيمية أنه يقول بالزيادة والنقصان جميعًا، وردوا على من فهم عنه خلاف ذلك
(6)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص ظاهر الآية كما ذكر السمين الحلبي، فقد جاء فيها التصريح بأن ما حصل للصحابة زادهم إيمانًا، وأثمر في قوة توكلهم على ربهم إذ قالوا:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، وقوة التوكل مبنية على زيادة الإيمان بالله.
(1)
رواها ابن هانئ في مسائل الإمام أحمد (2/ 162)، وابن بطة في الإبانة (2/ 826)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (5/ 1035)، وينظر في التمهيد لابن عبد البر (9/ 238)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 672).
(2)
ينظر في شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 148)، وفي عمدة القاري للعيني (1/ 107).
(3)
ينظر في الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة للملَّا حسين (ص: 101).
(4)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 403 - 404).
(5)
رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 670) والنجاد في كتاب الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص: 54).
(6)
روى ذلك ابن هانئ في مسائل الإمام أحمد (2/ 127)، وينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 506).
وكذلك نظائر هذه الآية كما ذكر السمين الحلبي تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، فالإيمان الذي زِيد هنا هو إيمان أُضيف إلى الإيمان الذي معهم، فالزيادة والإضافة هنا ظاهرة.
وهذه الآيات تدل بصريحها على زيادة الإيمان، وأما نقصان الإيمان فهو مستفاد من مفهومها، إذ أن كل شيء يقبل الزيادة فإنه إذا ذهبت عنه تلك الزيادة عاد إلى النقصان، وكما جاز ذهاب أصل الإيمان بالردة أعاذنا الله منها، فجائز ذهاب تلك الزيادة التي أُضيفت إلى الإيمان، فينقص الإيمان.
ومن الأحاديث الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا)
(1)
، فحُسن الخُلق مما يتزايد به الإيمان ويتكامل، ويُفهم منه أن سوء الخُلق مما ينقص به الإيمان، وهذا هو معنى قول أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
والأدلة على هذا القول كثيرة من الكتاب والسنة، ويكفي ما جاء التصريح به مما تقدم بيانه في هذا المقام؛ إذ استيعاب الأدلة يحتاج إلى بسط وتفصيل
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
أشار السمين الحلبي إلى دليل من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو دليل عقلي، وذلك أنهم اعتبروا أن الإيمان هو التصديق القلبي، فإذا صحَّ التصديق ثبت الإيمان، وإن اختل التصديق ونقص لم يكن إيمانًا، بل كان شكًّا وكفرًا.
والإيمان بهذا الاعتبار شيء واحد لا يقبل التجزؤ، فإن ثبت ثبت بكليِّته، وإن ذهب بعضه ذهب كله، وعلى هذا فإنه لا يقبل الزيادة، لأنه التصديق الذي لا يثبت إلا بكليته، فلا يمكن الزيادة عليه وقد ثبت جميعًا، وهو لا يقبل النقصان، لأنه لو ذهب بعضه ذهب كله، فلم يكن تصديقًا ولا إيمانًا
(3)
.
(1)
رواه أبو داود في سننه (4/ 220/ 4682)، والترمذي في الجامع (3/ 458/ 1162) وقال: حسن صحيح.
(2)
ينظر في رسالة زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه للشيخ عبد الرزاق البدر (ص: 35 - 105).
(3)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 48).
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل من قال إن الإيمان يزيد ولا ينقص بأنهم اعتبروا أن النص الوارد إنما جاء بالزيادة دون النقص، ولهذا أثبتوا الزيادة دون النقص، وهذا في الحقيقة دليل على إثبات الزيادة، وليس دليلًا على نفي النقص، ويمكن أن يقال إن دليلهم في نفي النقص هو نفس دليل أصحاب القول السابق من أن الإيمان هو التصديق القلبي الذي إذا نقص لم يكن إيمانًا، لكنهم أثبتوا الزيادة وحدها لأجل صراحة النص فيها
(1)
.
وقد استدل بعضهم على النقص بما رواه معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يزيد ولا ينقص)
(2)
.
5) الموازنة بين الأدلة:
لا شك بأن الأدلة ظاهرة في إثبات أن الإيمان يزيد وينقص، ولزيادة الإيمان أوجه متعددة ذكر بعضها السمين الحلبي، وليست محصورة في وجه معين، وهي ترجع إلى أصلين
(3)
:
الأصل الأول: أن الإيمان يزيد وينقص من جهة أمر الرب سبحانه وتعالى، وقد ذكر السمين الحلبي بعض أفراد هذا الأصل من أن بعضهم ذهب إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه هي (من طريق نزول الفرائض والأخبار في زمن الرسول عليه السلام، ولا يختص هذا الأصل بما كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، بل يكون فيمن بعده، فالذي يجب على العالم والمفتي والقاضي غير الذي يجب على من دونهم، فدين هؤلاء وإيمانهم غير دين أولئك، فالإيمان يتفاضل بين العباد زيادة ونقصًا من هذه الجهة.
الأصل الثاني: أن الإيمان يزيد وينقص من جهة فعل العبد، فيؤمر العباد جميعًا بأمرٍ، ثم يتفاضلون في القيام به علمًا وعملًا واعتقادًا، وذكر السمين الحلبي بعض أفراد هذا الأصل من أن بعضهم ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص (باعتبار الأدلة الحاصلة عند الشخص، فإذا قوي الدليل في نفس المؤمن وتظافر وتحقق زاد إيمانه، وإذا ضعُفت الأدلة أو قَلَّت نقص)، وذكر أيضًا أن بعضهم ذهب إلى (أن الزيادة والنقص في الإيمان باعتبار الطاعات والمعاصي)، وذكر أن أعمال القلوب داخلة في اسم (الطاعة).
(1)
ينظر في عمدة القاري للعيني (1/ 107).
(2)
رواه أبو داود في سننه (3/ 126/ 2912)، وينظر في فيض الباري للكشميري (1/ 213).
(3)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 51 - 55).
ومن أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان لم يكن قوله تامًا في المسألة، فإنه بذلك ينفي وجوهًا من أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، وكذلك مَنْ حصر زيادة الإيمان ونقصانه في وجه معين، ومنع الأوجه الأخرى، وينتج من ذلك الغلط في تفسير الآيات والأحاديث التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، فإنه يخصص الزيادة والنقصان بذلك الوجه، وقد لا يكون منطبقًا على الآية والحديث، وقد نبَّه على ذلك ابن عطية في تفسير الآية التي نحن فيها، فذكر أن قوله تعالى {فَزَادَهُمْ إِيمَانا} لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة
(1)
، فلا ينبغي تخصيص الزيادة بهذا الوجه.
وأما ما نقله السمين الحلبي عن الجويني في الإرشاد من أن زيادة الإيمان هي ثبوته وتواليه في نفس الرجل الصالح، ونقصانه هو عدم تواليه عند الرجل الفاسق، فهذا تأويل للزيادة والنقصان، وصرفٌ لها عن ظاهرها، وقد علل ذلك بأن الإيمان عَرَضٌ لا يَثبُت زمانين؛ فإذا كان في زمنٍ فإنه لا يبقى إلى الزمن الذي يليه إلا بتعاقبه وتواليه، فالإيمان لا يبقى في نفس المؤمن على مرِّ الزمن إلا بأن يتجدد في نفسه، فهذا التجدد والثبوت على الإيمان هو الزيادة، فإذا لم يتجدد ويتوالى في نفسه فذلك النقصان، والجواب عنه من وجهين:
الأول: من جهة الزيادة، فإنه على هذا القول تكون الزيادة غير حقيقة؛ إذ ليس فيها إضافة، وإنما هي باعتبار ثبوت الإيمان وحضوره في الأزمان، وقد تقدم بيان أن الزيادة حقيقة وفيها إضافة، كما قال تعالى:{لِيَزْدَادُواْ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} .
الثاني: من جهة النقص، فإنه على هذا القول يكون النقص غير ظاهر، فإن الإيمان إذا لم يثبت زمانين، ولم يتجدد، فإنه يزول ولا ينقص، فكيف يعبَّر عنه بالنقصان؟!
وأما مَنْ نفى أن الإيمان يزيد وينقص بسبب أنه التصديق القلبي الذي لا يقبل زيادةً ولا نقصًا، فالجواب عنه من وجهين:
الأول: "أن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يَعرِض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق"
(2)
، فحصر الإيمان بأنه مجرد التصديق غلط.
(1)
ينظر في المحرر الوجيز (1/ 543).
(2)
الصارم المسلول لابن تيمية (ص: 519).
الثاني: "أن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه، فما المانع من تفاوته قوةً وضعفًا، كما في التصديق بطلوع الشمس، والتصديق بحدوث العالم، وقِلَّةً وكثرةً، كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي"
(1)
، فالتصديق يقبل الزيادة والنقصان، وما ذكروه من أن التصديق إن اختل ونقص كان شكًّا وكفرًا فإنه مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع أنها لا شك معها
(2)
.
ومما يشهد لتفاضل الناس بالتصديق وأنه يزيد وينقص ما ذكره السمين الحلبي من أن إيمان أبي بكر بلا شك ليس كإيمان أحدنا في القوة، بل هو أقوى بطِباق، وهذا مبني على أن تصديقه رضي الله عنه أعظم من تصديق غيره، وإلا لما حاز لقب (الصِّدِّيق)، ويشهد لذلك أيضًا ما يجده الإنسان في نفسه من أنه يكون أعظم تصديقًا في بعض الأحوال من بعضها بحسب ما ظهر له من البراهين، وأن تصديقه يتزايد بتزايد البراهين وظهورها، وينقص ويضعف إن لم تتبين له تلك البراهين أو كان غافلًا عنها
(3)
.
وليس الإيمان شيئًا واحدًا لا يتجزأ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شُعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)
(4)
، فلو كان الإيمان شيئًا واحدًا لتساوى المؤمنون في هذه الشُّعَب
(5)
، "ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك كان قابلًا للزيادة والنقص"
(6)
.
وهذا الحديث أيضًا يدل على أنه لا يلزم من نقص الإيمان أن يزيد الكفر المخرج من الملة، فإن المؤمن قليل الحياء ناقصٌ إيمانه ولا يخرجه ذلك من الملة، وهذ يدفع الإشكال بأنه إذا نقص الإيمان زاد الكفر، والعكس، وأنه لا يجتمع في القلب إيمانٌ وكفر
(7)
.
ثم إنه قد يجتمع في القلب إيمانٌ وخصلةٌ من النفاق، وإيمانٌ وشُعبةٌ من الكفر، كما قال
(1)
روح المعاني للآلوسي (5/ 156).
(2)
ينظر في لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 431).
(3)
ينظر في شرح النووي لمسلم (1/ 148)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 480) والفتح لابن حجر (1/ 46).
(4)
رواه البخاري في صحيحه (1/ 11/ 9) ومسلم في صحيحه (1/ 63/ 35) من حديث أبي هريرة.
(5)
ينظر ما ذكره ابن حبان في صحيحه (1/ 388) عند تعليقه على حديث شُعب الإيمان.
(6)
تفسير الخازن (2/ 291)، وفتح البيان لصديق حسن خان (5/ 131).
(7)
ينظر في الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة للملَّا حسين (ص: 101).
صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:(اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)
(2)
؛ "أي: هاتان الخصلتان هما كفرٌ قائم بالناس، فنفسُ الخصلتين كفرٌ حيث كانتا من أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شُعبةٌ من شُعَب الكفر يصير كافرًا الكفرَ المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شُعبةٌ من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان"
(3)
.
وأما من قال بأن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد أثبت الحجة على نفسه، فإن الزيادة تستلزم النقص كما تقدم بيانه.
والاستدلال بحديث (الإسلام يزيد ولا ينقص) استدلالٌ في غير محله، والرد عليه من وجهين:
الأول: من جهة الرواية، فإن فيه ضعفًا في الإسناد بسبب الانقطاع بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وأبي الأسود، فإن بينهما رجلًا مجهولًا لم يُسمَّ
(4)
.
الثاني: من جهة الدراية: فإن الخبر إن صحَّ فليس تأويله في نفي أن الإيمان ينقص، فإنه خلاف ما ثبت صحيحًا من الأدلة الأخرى التي تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وإنما معناه أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه
(5)
.
6) النتيجة:
الحقُّ الذي لا شك فيه أن الإيمان يزيد وينقص، كما دلت عليه الآية هنا وغيرها من الآيات والأحاديث.
وليست هذه المسألة من المسائل التي تقبل الموازنة والترجيح عند أهل السنة، بل المقام فيها مقام إحقاق الحق والرد على الأقوال المخالفة، لكنها عند السمين الحلبي من مسائل الترجيح،
(1)
رواه البخاري في صحيحه (1/ 16/ 34) ومسلم في صحيحه (1/ 78/ 58) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2)
رواه مسلم في صحيحه (1/ 82/ 67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 237).
(4)
ينظر تفصيله وحكاية الأقوال في ضعفه في سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (3/ 252/ 1123).
(5)
ينظر أقوال أهل العلم في معناه في كتاب زيادة الإيمان ونقصانه للشيخ عبد الرزاق البدر (ص: 310).
فإنه تابع في الاعتقاد لمذهب الأشاعرة، وأقوالهم مختلفة في هذه المسألة كما تقدم، وأما أهل السنة فقد انعقد الإجماع عندهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وهو الذي دل عليه العقل والنقل.
قال ابن بطة: "إن الله عز وجل لم يُفضِّل الناس بعضهم على بعض برشاقة الأجسام، ولا بصباحة الوجه، ولا بحسن الزي وكثرة الأموال، ولو كانوا بذلك متفاضلين لما كانوا به عنده ممدوحين، لأن ذلك ليس هو بهم، ولا من فعلهم، فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين، والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة"
(1)
.
(1)
الإبانة الكبرى (2/ 836).
المسألة الثامنة: سبب النزول في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف مبني على تعدد الروايات في سبب نزول الآيات في قصتين مستقلتين؛ قصة غزوة حمراء الأسد، وقصة غزوة بدر الموعد (بدر الصغرى)، مع وجود التشابه بين القصتين، ووجود الاشتباه في الروايات
(1)
، فبعض أهل العلم رجَّح إحدى القصتين وجعل الآيات كلها في قصة غزوة حمراء الأسد، وبعض أهل العلم جعل أول الآيات في قصة غزوة حمراء الأسد، وهو قوله:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172]، وجعل باقي الآيات في قصة غزوة بدر الموعد، وذلك من قوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} إلى آخر الآيات، فالخلاف في هذه الآيات؛ هل هي تابعة لقصة غزوة حمراء الأسد، أو هي في قصة غزوة بدر الموعد.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "تقدم الخلاف في المستجيبين، فقيل: هم الذين دُعوا إلى اتباع أبي سفيان ورهطه، ليروا منهم الجلد والقوة حتى بلغوا حمراء الأسد.
وقيل: هم الذين استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان من قابِل، لكن الظاهر أن المراد بـ {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ} مَنْ خرج إلى حمراء الأسد، لقوله:{مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} .
والظاهر في هؤلاء [
…
]
(2)
أنهم الذين خرجوا من العام القابِل مع رسول الله صلى عليه
(1)
ينظر تعدد الروايات وتشابهها واشتباهها في العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (2/ 790 - 797).
(2)
قال المعتني بالكتاب: ما بين المعقوفتين كلمة غير مقروءة، كأنها (المستجيبين).
وسلم لموعد أبي سفيان، لقوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآية"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
جمع السمين الحلبي بين ما ذكر في سبب نزول الآيات، فجعل قصة حمراء الأسد لقوله:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، وجعل قصة موعد أبي سفيان لقوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ، فهو يجعل لكل آية قصة، ولا يجعل الآيتين في قصة واحدة، فهذا ما رجَّحه في سبب نزول الآيات، ويظهر ذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(لكن الظاهر أن المراد بـ {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ} مَنْ خرج إلى حمراء الأسد)، وقوله: (والظاهر في هؤلاء [
…
]
(2)
أنهم الذين خرجوا من العام القابِل مع رسول الله صلى عليه وسلم لموعد أبي سفيان)، وهذا الاستظهار منه بعد ذكر الخلاف في المسألة والفراغ منه، فإنه قدَّم الخلاف ولم يظهر منه ترجيح
(3)
، ثم عاد إلى ذكره بإيجاز عند قوله تعالى:{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية، فهذا ختام قوله في المسألة.
الثاني: أنه استدل لهذا القول الذي رجَّحه ولم يستدل للقول الآخر.
الثالث: أنه حكى قول الزمخشري في قوله تعالى {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أن معناه: (فرجعوا من بدر)، ثم قال:"وهذا الذي ذكره مبني على ما قدَّمه من أن القصة كانت بعد أُحد بعام"، ثم حكى القصة وقال:"وهذا في غاية المناسبة والملاءمة"
(4)
، وهذا يؤيد أنه يرى أن قوله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وما بعده أنه في قصة موعد أبي سفيان.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 268 - 269).
(2)
قال المعتني بالكتاب: ما بين المعقوفتين كلمة غير مقروءة، كأنها (المستجيبين).
(3)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 246 - 248).
(4)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 268).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
كثيرٌ أهل العلم ممن تعرضوا للروايات في سبب نزول الآيات يذكرون أن الآيات في سياق واحد، وهو قصة غزوة حمراء الأسد
(1)
، وهو الذي اعتمدته بعض كتب أسباب النزول
(2)
، وجاء الاقتصار عليه في بعض كتب السيرة، حيث ذكروا الآيات في سياق غزوة حمراء الأسد، ولم يذكروها في غزوة بدر الموعد
(3)
، وبهذا جاءت الرواية عن ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم
(4)
، وهو مقتضى ما روي عن الحسن البصري وغيره
(5)
.
أما الآية الأولى وهي قوله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} فقد ثبتت الرواية بها عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت بعد غزوة أُحد
(6)
، وفي هذا إشارة إلى أنها في قصة غزوة حمراء الأسد، واضطربت الأقوال التي على خلاف ذلك
(7)
.
وأما الآية الثانية وهي قوله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وما بعدها فقد جاء فيها قولٌ آخر عن بعض أهل العلم أنها في غزوة بدر الموعد
(8)
، وجاءت الرواية في هذا عن مجاهد وابن جريج
(9)
وعكرمة
(10)
، وستأتي الإشارة إلى ما
(1)
ينظر في الرسالة للشافعي (1/ 59)، وتفسير الطبري (6/ 252) والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 543) وتفسير القرطبي (4/ 279) وابن كثير (2/ 169) والسعدي (ص: 157)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 451).
(2)
ينظر في أسباب النزول للواحدي (ص: 130 - 132)، والمحرر في أسباب النزول، د. خالد المزيني (1/ 342).
(3)
ينظر في سيرة ابن هشام (2/ 121)، وزاد المعاد لابن القيم (3/ 217).
(4)
سيأتي عزو الروايات إلى الطبري والواحدي، وروى النسائي في الكبرى (10/ 55) عن ابن عباس خلاف ذلك، والمحفوظ أنه عن عكرمة؛ ينظر في المعجم الكبير للطبراني (11/ 247)، وفتح الباري لابن حجر (8/ 228).
(5)
روي ذلك في تفسير ابن أبي حاتم (3/ 816، 818) عن الحسن وأبي مالك الغفاري، وتفسير الطبري (6/ 246) وابن المنذر (1/ 498) عن عبد الله بن أبي بكر الأنصاري، وتفسير ابن كثير (2/ 170) عن أبي رافع.
(6)
رواها البخاري في صحيحه (5/ 102/ 4077) وذكرتها في المسألة التي في معنى {الذين استجابوا لله والرسول} .
(7)
روي عن عكرمة قولٌ أن الآية في بدر الموعد على خلاف ما حُفظ عنه؛ روى القولين عنه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 816)، وكذلك ذُكر القولان عن الكلبي كما في تفسير السمرقندي (1/ 266) وابن أبي زمنين (1/ 336).
(8)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 247)، والكشاف للزمخشري (1/ 442)، وتفسير الرازي (9/ 432) والبيضاوي (2/ 49) والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 169).
(9)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 250) وابن المنذر في تفسيره (2/ 502 - 503)، وسيأتي ذكر قول مجاهد.
(10)
روي في تفسير عبد الرزاق (1/ 424) وسعيد بن منصور من سننه (3/ 1116) وابن أبي حاتم (3/ 818).
ذكره ابن عباس والسدي في معنى الفضل في قوله: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} ، ووجه دلالة ذلك على هذا القول، وجاء ذكر الآيات في سياق غزوة بد الموعد فيما رواه الزهري من المغازي
(1)
.
(2)
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يدل على ترجيح ما ذكره السمين الحلبي من أن الآيات هي في غزوتين دليلان:
الأول: الروايات في سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وما بعده؛ قال مجاهد: "هذا أبو سفيان؛ قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا فقال محمد صلى الله عليه وسلم: «عسى» فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا؛ فذلك قوله تبارك وتعالى: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} "
(3)
.
الثاني: السياق، وذلك في المراد بالفضل في قوله:{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} ، وروي عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أن الفضل في الآية هو الربح في التجارة
(4)
، والفضل يطلق في القرآن ويُراد به الرزق والربح، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]
(5)
، وهذا الفضل أظهر أن يكون في غزوة بدر الموعد، فإنها هي التي ذُكر فيها أنهم وافقوا السوق وابتاعوا
(6)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
(1)
رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 386).
(2)
تنبيه: استشهد الأصوليون بقوله {الذين قال لهم الناس} على أن اللفظ العام قد يُراد به الخصوص وأن المراد بالناس نُعيم بن مسعود، وقصته في غزوة بدر الموعد، لكنها مسألة لفظية بمعزلٍ عن الرواية، ولا يثبت القول فيها إلا لمن ذكر الرواية، فإن الطبري ذكر ذلك في تفسيره (3/ 532) ثم عند الرواية رجَّح القول الآخر، وذكر ابن حجر في موافقة الخبر (2/ 57) أنه لم يقف على إسناد بأن المراد نُعيم، وذكر الشافعي أن المسألة تنطبق على القول الآخر (تقدَّم).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 250) وابن المنذر في تفسيره (2/ 502)، وسيأتي عزو باقي الروايات عن غير مجاهد.
(4)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 254)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 819)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 318).
(5)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 442)، وينظر في الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري (ص: 385).
(6)
ينظر في تفسير المنار لرشيد رضا (4/ 199).
يستدل أيضًا على القول بأن الآيات كلها في غزوة حمراء الأسد بدليلين:
الأول: الروايات في سبب النزول لقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وما بعده
(1)
؛ قال قتادة: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابةٌ من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أُحد خلفهم، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم، فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائلٌ عليكم بالناس، فقالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فأنزل الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ".
الثاني: السياق، وذلك في قوله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ، ثم قوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ، فظاهرٌ أن الذين استجابوا هم أنفسهم الذين قال لهم الناس ما قالوا، وعليه فتكون الآيات نازلة في طائفةٍ واحدةٍ، وهي العصابة التي خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حمراء الأسد، فإنها التي ذُكر فيها القرح
(2)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما من حيث الروايات في سبب النزول فقد جاء التصريح بذكر النزول لكلا القولين، لكن الروايات التي تجعل الآيات كلها نازلة في غزوة حمراء الأسد أكثر وأشهر، فهي المقدَّمة على غيرها.
ولم يروَ في وقت نزول الآيات شيء صريح، لكن روى الطبري عن ابن عباس ما يُفهم منه أن الآيات نزلت في نفس السنة من غزوة أُحد، حيث ذكر أن (وقعة أُحد كانت في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وأنهم قدموا بعد وقعة أُحد)، ثم أشار إلى ما ذُكر في الآيات كلها وأخبر بالنزول
(3)
، وعلى ذلك قال مقاتل
(1)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 248 - 249) والواحدي في أسباب النزول (ص: 130 - 132).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 252).
(3)
رواها الطبري في تفسيره (6/ 242) بإسناد ضعيف، وفيها ذِكرُ الرجال الذين خرجوا مع الرسول، وهم الذين ذُكر أنهم خرجوا معه لحمراء الأسد، وذكر المكان (بدر الصغرى) والحدث المرتبط به، وهو نزول التجار فيها، ولم يذكر فيها موعد أبي سفيان، وذكر أنهم ذهبوا في طلبه حتى بلغوا الصفراء قريبًا من بدر الصغرى والله أعلم.
في تفسيره بعد أن ساق الآيات كلها: "نزلت هذه الآيات في ذي القعدة بذي الحليفة حين انصرفوا عن طلب أبي سفيان وأصحابه بعد قتال أُحد"
(1)
.
وهذا الذي ذكره مقاتل يؤيد أن الآيات كلها نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد، وذلك لأن غزوة أُحد كانت في منتصف شوال
(2)
، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم الغد إلى حمراء الأسد، فأقام فيها ثلاثة أيامٍ ثم عاد منها إلى المدينة
(3)
، فيُحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد ذلك بأيام في شهر ذي القعدة، وأما غزوة بدر الموعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليها في شعبان على الصحيح من السَّنَة التي تليها
(4)
، ومن القواعد في الترجيح أنه (إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجِّح لما وافقه من أوجه التفسير)
(5)
.
وأما الفضل في قوله تعالى: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} ، فالأنسب له أن يكون عامًّا من غير تخصيص، وذلك لأنه نكرة في سياق الامتنان، والنكرات في سياق الامتنان تعُم؛ ذكره السمين الحلبي
(6)
.
وأما ما ذكر من أن الفضل هو الربح في التجارة فقد اختلفت الروايات في تحديد وجه ذلك الربح وليست تتعين أن يكون الربح من غزوة بدر الموعد
(7)
، وباعتبار ما ذكره ابن عباس من أن التجار كانوا يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، فإن الأقرب أن كان الربح في سوق بدر أن يكون بعد غزوة حمراء الأسد، فإنها قبله بأيامٍ من شهر شوال، بخلاف غزوة بدر الموعد التي قبله بشهرين أو أكثر.
وسياق الآيات من أولها ظاهرٌ أنه في غزوة حمراء الأسد كما ذكر السمين الحلبي، وذلك لأجل ما فيها من الإشارة إلى الإصابة بالجراح في قوله:{مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} ،
(1)
تفسير مقاتل (1/ 317)، وكأنه اعتمد على رواية ابن عباس السابقة في تحديد وقت نزول الآيات.
(2)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 240) عن عكرمة، وينظر في سيرة ابن هشام (2/ 100 - 101).
(3)
جاء ذلك فيما رواه الطبري في تفسيره (6/ 241، 243) عن رجل من أصحاب رسول الله، وعن ابن جريج.
(4)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 252)،، وسيرة ابن هشام (2/ 209)، والبداية والنهاية لابن كثير (4/ 102).
(5)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 258 - 260).
(6)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 270).
(7)
تقدَّم عزو الروايات، أما رواية ابن عباس فليس فيها تعيين، ورواية سعيد بن جبير:(بفضلٍ أصابوه من سوق عكاظ)، وذكر مقاتل في تفسيره (1/ 316) أنهم (أصابوا سريَّةً في الصفراء، وذلك في ذي القعدة)، والله أعلم.
فهذه الآية في الغزوة التي تلي غزوة أُحد التي أصيب فيها المسلمون، وهي غزوة حمراء الأسد.
والاسم الموصول في قوله {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وقوله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} هما لطائفة واحدة هم الذين خرجوا إلى حمراء الأسد، ويبعد أن يكون الأول للذين خرجوا لحمراء الأسد، ويكون الثاني للذين خرجوا لغزوة بدر الموعد؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على أن الثاني غير الأول، وليس في الواقع ما يدل على أن الخارجين لحمراء الأسد هم أنفسهم الذين خرجوا إلى بدر الموعد، بل الواقع على خلاف ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في غزوة حمراء الأسد:(لا يخرج معنا أحدٌ إلا من حضر يومنا بالأمس)
(1)
، ولم يُذكر مثل هذا في غزوة بدر الموعد.
5) النتيجة:
يترجَّح أن الآيات كلها نزلت لغزوة حمراء الأسد، لأن الروايات لهذا القول أكثر وأشهر، ولئن السياق من أوله ثابت في غزوة حمراء الأسد، فأولى أن يلحق به ما بقي مع إمكان صحته عليه، ولا موجب لصرفه إلى قصة أخرى مشابهة مع إهمال القصة التي ثبت لها أول السياق.
وليست المسألة هنا مما يمكن أن يُجمع فيها بين الروايات ويُقال فيها بالأمرين، فإن ذلك ما يخل بالسياق، لأن السياق ظاهر في أنه في طائفة واحدة، وليس فيه العطف على طائفة أخرى، والله أعلم.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 240) عن عكرمة، وروى نحوه ابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 220) عن الزهري
المسألة التاسعة: إعراب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}
قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]
•
أصل الخلاف في المسألة:
في قوله تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} يأتي سؤال؛ هل الشيطان يُوقع الخوف في أوليائه؟
وإذا كان لا يوقع الخوف في أوليائه، فما وجه النصب في قوله {أَوْلِيَاءَهُ} ؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والتضعيف في {يُخَوِّفُ} للتعدية، لأنه قبل التضعيف مُتعَدٍ لواحدٍ، فلما ضُعِّف تعدَّى لاثنين، وهذا القول من باب (أعطى) في كونه يجوز حذف مفعوليه اقتصارًا واختصارًا، أو حذف أحدهما؛ الأول أو الثاني، والآية محتملة لكل ذلك:
فيجوز أن يكون المفعولان محذوفين، وإلى هذا ذهب بعض المُعرِبين، وعلى هذا فيكون {أَوْلِيَاءَهُ} على حذف حرف الخفض، والتقدير: يخوفكم الشرَّ بأوليائه، فتكون الباء للاستعانة ومجرورها كالآلة، في نحو: كتبت بالقلم. وهذا بعيد، ويكون الأولياء هم الكفار؛ أبو سفيان ورهطه، وقد يتقوى هذا بقراءة من قرأ (بأوليائه)، كما سيأتي إن شاء الله.
الثاني: أن المفعول الأول محذوف، و {أَوْلِيَاءَهُ} هو الثاني، وإليه ذهب الزمخشري، ولم يذكر غيره:«والتقدير: يخوفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه، ويدل عليه قراءة ابن مسعود وابن عباس: (يخوفكم أولياءه)، وقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ}»
(1)
انتهى. يعني أنه يدل على ذلك هذه القراءة للتصريح فيها بالمُقدَّر، ويدل عليه أيضًا قوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ} ؛ أي:
(1)
الكشاف للزمخشري (1/ 443).
فلا تخافوا أولياء الشيطان. وهذا وجه حسن.
الثالث: أن المحذوف هو المفعول الثاني، تقديره: يخوِّف أولياءه الشر، ويكون المراد بأوليائه: المنافقين ومن في قلبهم مرض ونفاق ممن لم يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي إنه لا يتعدَّى تخويف المنافقين ولا يصل إليكم تخويفه"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الثاني في مفعولي {يُخَوِّفُ} بأن المفعول الأول محذوف، وأن المفعول الثاني هو قوله:{أَوْلِيَاءَهُ} ، ويظهر هذا الترجيح من ثلاثة وجوه:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(وهذا وجه حسن)، فلم يستحسن من الأقوال الثلاثة إلا هذا القول.
الثاني: أنه نقل استدلال الزمخشري لهذا القول بقراءة ابن مسعود وابن عباس وبلفظ الآية، ولم يستدل للأقوال الأخرى، بل استبعد القول الأول بعد أن جوَّزه، ثم أثبت أنه قد يتقوى، فغاية ما فيه أنه يعود إلى التجويز بعد استبعاده له، فيكون جائزًا، والقول الثاني حسنٌ قد استدل له، فهو الراجح عنده.
الثالث: أنه ارتضى هذا القول ووجهه بعد ذكر المسألة، فإنه ذكر الخلاف في مرجع الضمير في قوله {فَلَا تَخَافُوهُمْ} ، فذكر قول الزمخشري الذي يتناسب مع القول الثاني في المسألة هنا، ثم ذكر قولًا يتناسب مع القول الثالث في المسألة، ثم قال:(غيرَ أنَّ الذي قاله الزمخشري أظهر، ولا بد من حذف مضاف في هذا الوجه وما شاكله؛ أي: يخوِّفكم شرَّ أوليائه، لأن الذوات من حيث هي لا يُخاف منها)
(2)
، فرجَّح القول الذي يتناسب مع القول الثاني ثم ذكر التوجيه لهذا القول والحل فيما قد يشكل عليه.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 278 - 279).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 279).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جمهور أهل العلم هم بين القول الأول والثاني على أن المراد بالأولياء في الآية هم أبو سفيان ورهطه
(1)
، ولم يرجِّح القول الثالث إلا القليل من أهل العلم
(2)
، وروي عن الحسن والسدي
(3)
، والذي يظهر أنهما لم يقصدا بيان المفعول في الآية، وإنما ذكرا المنافقين لبيان أنهم بخلاف المؤمنين الذين أمرهم الله بقوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ، وهذا ظاهرٌ في قول الحسن البصري، فإنه سُئل عن آخر الآية ولم يُسأل عن أولها.
وقد صرَّح كثيرٌ من المتقدمين من أهل اللغة بوجود حرف الجر المقدَّر في الآية، وأن التقدير: يخوِّفكم بأوليائه، أو يخوِّفكم من أوليائه
(4)
، وهو الظاهر مما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة، حيث ذكروا حرف الجر في تفسيرهم للآية
(5)
.
وأما القول الثاني فأكثر ما جاء ترجيحه عن المتأخرين
(6)
، وهو ظاهرُ ما روي عن إبراهيم النخعي
(7)
.
والمسألة في أصلها منقولة عن أبي حيان
(8)
، فأعاد السمين الحلبي ترتيب المسألة وبناها على أن جميع الأقوال تجعل تعدِّي الفعل إلى المفعول الثاني بسبب التشديد في الفعل (يخوِّف)، وليس الأمر كذلك مع أصحاب القول الأول، فإنهم جعلوا التعدِّي بسبب حرف الجر المقدَّر
(1)
ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 56) وابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 110) أن هذا هو قول الجمهور.
(2)
ينظر في حاشية الطيبي (4/ 352)، وحاشية القونوي (6/ 416)، وتفسير السعدي (ص: 157).
(3)
روى عنهما ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 820 - 821)، وروى الطبري في تفسيره (6/ 256) عن السدي وحده
(4)
ينظر في الجُمَل للخليل بن أحمد (ص: 120)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 248)، وغريب القرآن لابن قتيبة (ص: 116)، والكامل للمبرد (4/ 104)، وتفسير الطبري (6/ 255)، والحجة لأبي علي الفارسي (2/ 329)، وأمالي ابن الشجري (1/ 287)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 231)، وتفسير القرطبي (4/ 282).
(5)
روى ذلك الطبري في تفسيره (6/ 255)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 506 - 507).
(6)
ينظر في معاني القرآن لقطرب (ص: 617)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 187) فقد عزاه إلى ابن الأنباري، والكشاف للزمخشري (1/ 443)، وتفسير ابن جزي (1/ 172)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 172)، وأضواء البيان للشنقيطي (6/ 364)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 455).
(7)
رواه ابن المنذر في تفسيره (2/ 506).
(8)
ينظر في البحر المحيط (3/ 440).
كما يظهر من أقوالهم واستدلالهم، وإن كان بعضهم لا يخالف في مسألة تشديد الفعل، لكن اختار حرف الجر المقدَّر لمزيد البيان في التقدير
(1)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل للقول بأن التقدير في الآية (إنما ذلكم الشيطان يخوِّفكم بأوليائه) بثلاثة أدلة:
الأول: ما روي من القراءة في ذلك، كما أشار إليه السمين الحلبي، حيث روي عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أنه قرأ:(يخوفكم بأوليائه)
(2)
، فهذه القراءة توافق التقدير المذكور في هذا القول.
الثاني: أن هذا الأسلوب معروفٌ في اللغة بتعدية الفعل إلى المفعول بحرف الجر المقدَّر،
كما أن هذا التقدير الموفق لما جاء مُظهَرًا في الآيات الأخرى مع الفعل (يخوِّف) حيث ذُكر حرف الجر (الباء) مع هذا الفعل، كقوله تعالى:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر: 16]، وقوله:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36]، فهذا الحرف المُظهَر في الآيتين بمنزلة الحرف المقدَّر في قولهم: يخوِّفكم بأوليائه
(3)
.
الثالث: السياق، وهو دليل مشترك بين القول الأول والثاني، وسيأتي بيانه.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل السمين الحلبي أن التقدير في الآية (إنما ذلكم الشيطان يخوِّفكم أولياءه) بدليلين:
الأول: ما روي من القراءة في ذلك، حيث جاء في قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس:(يخوفكم أولياءه)
(4)
، فهذه القراءة توافق التقدير المذكور في هذا القول.
الثاني: السياق، وذلك في قوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ} ، فالضمير هنا يرجع إلى الأولياء الذين يخوِّف بهم الشيطان، وهم أبو سفيان ورهطه، وهذا الدليل مشترك بين القول الأول والثاني؛ إذ
(1)
هذا ما يظهر من قول الطبري في تفسيره (6/ 256 - 257) وقول أبي علي في الحجة (2/ 329 - 330).
(2)
رواها الثعلبي في تفسيره (9/ 473)، وذكر أبو حيان في البحر المحيط (3/ 440) أن إبراهيم النخعي قرأ بها أيضا، وهذا خلاف ما ذكره النحاس في معاني القرآن (1/ 512) وابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 544).
(3)
ينظر في الحجة لأبي علي الفارسي (2/ 329 - 331)، والمقاصد الشافية للشاطبي (3/ 144).
(4)
ذكرها الثعلبي في تفسيره (9/ 472) عن ابن مسعود، ورويت من طريق عطاء عن ابن عباس في التفسير من الجامع لابن وهب (3/ 47)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 820)، وفي المصاحف لابن أبي داود (ص: 191)، ورواها أيضًا عن عطاء وحده (ص: 220)، وذكر ابن جني في المحتسب (1/ 177) أنها قراءة ابن عباس وعطاء وعكرمة.
المراد بالأولياء في القولين واحد
(1)
.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
يستدل للقول بأن المراد في الآية أن الشيطان يخوِّف أولياءه المنافقين من شر الكافرين بدليلين:
الأول: أن هذا هو الظاهر من قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أن يكون المذكور في الآية هو المفعول الأول، ويكون المحذوف هو المفعول الثاني
(2)
، فهو المتبادر إلى الذهن عند الحذف مع الفعل (يخوِّف)، لأنك إذا قلت (خوَّفت زيدًا) فالمتبادر إلى الذهن أن (زيد) هو المفعول الأول، وأما المفعول الثاني فهو الذي يستغنى عن ذكره، لأنه معلومٌ أنك خوَّفته شيئا حقه أن يُخاف منه
(3)
.
الثاني: السياق، وذلك أن الله ذكر أن المؤمنين لم يخافوا مما قيل لهم، بل ازدادوا إيمانًا، كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، ولكن المنافقين هم الذين أوقع الشيطان الخوف في قلوبهم
(4)
، وذلك أن له سلطانًا عليهم، كما قال تعالى:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]، فذكر أن سلطانه على أوليائه الذين يتولونه
(5)
.
5) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر في سياق الآيات أنه لم يرِد ذكرٌ للمنافقين حتى يقال بأن الشيطان يخوِّف أولياءه المنافقين، وأيضًا فإنه قد تقدَّم في المسألة السابقة أن سياق الآيات هو في غزوة حمراء الأسد، وأن تخويف الشيطان حصل فيها، ولم يخرج المنافقون إلى غزوة حمراء الأسد، لأن
(1)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 490)، والحجة لأبي علي الفارسي (5/ 168)، والكشاف للزمخشري (1/ 443)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (14/ 203 - 204)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (3/ 215).
(2)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 416).
(3)
مستفاد مما ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 544)، ولم يرجح هذا القول.
(4)
ينظر في حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 352).
(5)
مستفاد مما ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 56)، ولم يرجح هذا القول.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيها: (لا يخرج معنا أحدٌ إلا من حضر يومنا بالأمس)؛ يعني من حضر غزوة أُحد، والمنافقون لم يحضروها، بل ذُكر أن رأس المنافقين عبد الله بن أُبي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج معه إلى حمراء الأسد فرفض النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
وهذا دليل من حيث الواقع أن المنافقين ليس لهم شأن في هذه الآيات
(2)
.
وإنما يأتي احتمال ذكر المنافقين مع قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ، بأن من كان مؤمنًا فإنه يخاف الله وحده، ومن كان منافقًا فإنه يخاف منهم.
وإن كان الظاهر من قوله {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أنه يُوقع الخوف في أولياءه، لكن هذا لا يتناسب مع الواقع الذي نزلت فيه الآيات، وكذلك إن قيل أن الأحسن مع فعل التخويف هو أن يُحذف المفعول الثاني لا الأول، فإن هذا غير مناسب أيضًا، لأنه معلومٌ أن الشيطان يخوِّف الناس كلهم ولا يقتصر تخويفه على أولياءه كما يفهم من أداة القصر في الآية، فإنه يخوِّف المؤمنين أيضًا، كما قال الله في خطابه للمؤمنين:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، فإذا كان تخويفه مطلقًا على كل الناس فإن الأنسب أن يذكر المفعول الثاني وهو الأمر الذي يخوِّف الشيطان به، ويحذف المفعول الأول لأنه غير مقصود
(3)
.
وأما الاستدلال بسياق الآيات على أن المؤمنين لم يخافوا وإنما ازدادوا إيمانًا فغير ظاهر لأنه لا يلزم من تخويف الشيطان للمؤمنين أنهم جبنوا وخافوا، وبمثل هذا يجاب عن قوله:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ، بأن الآية هنا لا تحكي تخويفًا وتسلطًا قد فاز به الشيطان، وإنما تذكر عادة الشيطان أنه يخوف المؤمنين من أوليائه، وأن المؤمنين الذين نزلت فيهم الآية لم يخافوا مما خوَّفهم به.
وأيضًا فإن الظاهر في قوله تعالى {فَلَا تَخَافُوهُمْ} أنه خطابٌ للمؤمنين وإرشادٌ لهم،
(1)
تقدمت رواية ذلك عن الطبري في تفسيره (6/ 240)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 220).
(2)
ذكر مقاتل في تفسيره (1/ 317) أن المنافقين أرادوا تخذيل المؤمنين عن الخروج؛ قال: (فأوقع الشيطان قولَ المنافقين في قلوب المؤمنين، فأنزل الله عز وجل: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} يعني: يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين، فلا تخافوهم وخافون في ترك أمري إن كنتم مؤمنين)، وظاهرٌ من قول مقاتل وتفسيره للآية أن المراد تخويف المؤمنين.
(3)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 56).
ويبعُد أن يكون إرشادًا للمنافقين، وأن الضمير فيه يرجع إلى الأولياء، فإن كان المراد بالأولياء المنافقين، فلا مناسبة تظهر مع الآيات، بأن الشيطان يخوِّف المنافقين من شر الكافرين، فلا تخافوا أيها المؤمنون من المنافقين، وإنما المناسب أن يرجع الضمير إلى المحدَّث عنه في الآيات وهم الكافرون، ويكون راجعًا إلى أقرب مذكور وهم الأولياء، فيكون الأولياء هم الكافرون
(1)
، وهذا هو الموافق لقاعدتين في الترجيح: أن إعادة الضمير إلى المحدَّث عنه أولى من إعادته لغيره، وأن إعادة الضمير إلى أقرب مذكور أولى من إعادته إلى بعيد
(2)
.
إذا تبيَّن هذا، فإن الاستدلال بقوله تعالى {فَلَا تَخَافُوهُمْ} هو الرابط المشترك بين القول الأول والثاني، وذلك لما بينهما من التشابه، فبينهما اتفاق في المعنى في أن الشيطان لا يُوقع الخوف في أوليائه، وإنما يخوِّف المؤمنين بهم، وبينهما اتفاق في أن المراد بالأولياء أبو سفيان ومن معه، وأن قوله {أَوْلِيَاءَهُ} هو المفعول الثاني للفعل {يُخَوِّفُ} ، وإنما افترقوا في سبب تعدي الفعل إلى المفعول الثاني، فأصحاب القول الأول جعلوه يتعدى إليه بسبب نزع الخافض، وأصحاب القول الثاني جعلوا الفعل يتعدى بنفسه إلى المفعول الثاني بسبب التشديد الذي في الفعل، وإن كان الأسهل في التقدير أن يتعدَّى الفعل بنفسه من غير الحاجة إلى حرف الجر، كما قال ابن الأنباري:"فهذا أشبه من ادعاء (باءٍ) ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة"
(3)
، وربما يقوِّي هذا ما جاء في القاعدة الترجيحية:(إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلته أولى)
(4)
.
وأما الاستشهاد بقراءة ابن مسعود وابن عباس: (يخوِّفكم أولياءه)، فإنه يوازي الاستشهاد بقراءة أُبي بن كعب:(يخوِّفكم بأوليائه)، وإذا اعتبرنا بتفسير ابن عباس للآية فإنه فسَّرها بقوله:"الشيطان يخوِّف المؤمنين بأوليائه"، بما يوافق القول الأول، وكذلك غيره من السلف ذكروا حرف الجر في تفسيرهم للآية كما تقدَّم، لكن الذي يظهر أنه يُتوسَّع في التفسير ما لا يُتوسَّع في التقدير، لأن التقدير هنا يراد منه بيان الوظيفة، وهي التعدِّي، فيُذكر أقل ما يتضح به التعدِّي، وأما التفسير فيراد منه بيان المعنى، فيُتوسَّع في التفصيل فيه.
(1)
ينظر في مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 57)، وتفسير ابن عرفة (1/ 445).
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 603، 621).
(3)
نقله ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 350)، وهو مختصر عند الواحدي في التفسير البسيط كما تقدَّم ذلك العزو.
(4)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 448).
وقد يشهد للتقدير المذكور في القول الأول ما جاء مُظهَرًا في القرآن مع الفعل (يخوِّف)، فإنه جاء معه حرف الجر، كما تقدَّم بيانه، والقاعدة الترجيحية تقول:(تقديرُ ما ظهر في القرآن أولى في بابه من كل تقدير)، وهذه القاعدة من أولى القواعد التي ينبغي مراعاتها في تقدير الآيات
(1)
.
6) النتيجة:
الراجح أن المراد بالأولياء في الآية هم أبو سفيان ورهطه، وعلى هذا المعنى جمهور المفسرين.
وأما تقدير الآية، فلعل الأقرب هو التقدير الذي فيه حرف الجر: إنما ذلكم الشيطان يخوِّفكم بأوليائه، لأنه الموافق لما جاء مُظهَرًا في الآيات الأخرى نحو هذه الآية، وبهذه الموافقة فإنه لا يُستشكل عليه بأن التقدير في القول الثاني أقل منه، لأن مستند هذا القول أقوى، فالتقدير الموافق لكلام الله خيرٌ مما سواه، والله أعلم.
(1)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 439).
المبحث الخامس: ترجيحات السمين الحلبي من آية (176) إلى آية (189)
وفيه ست مسائل
المسألة الأولى: الحكمة من النهي في قول الله تعالى {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}
قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176]
•
أصل الخلاف في المسألة:
قال الزمخشري: "إن قلت: فما معنى قوله: {وَلَا يَحْزُنكَ}، ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد؟ قلت: معناه: لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} "
(1)
.
وأجاب آخرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُفرِط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما في قوله:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]
(2)
.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله في بداية الآية: "وجه مناسبتها لما تقدَّمها أن يقال: لما نهى المؤمنين عن خوف الكفار وأمرهم بخوفه خاصة عقَّب ذلك بنهيه لرسوله عليه السلام بأن لا يحزنه أمرهم ولا يهتم بشأنهم، فإن ما يكيدون به راجعٌ عليهم لا يتعداهم.
ومعناه: لا تتوقع خيرًا ولا ضررًا منهم، ولذلك علل بقوله:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا}
…
وقيل: معناه: لا تهتم بعدم إيمان من لم يؤمن من قومك، فإن ذلك ليس إليك، فهي
(1)
الكشاف (1/ 443).
(2)
ذكره القرطبي في تفسيره (4/ 285) عن القشيري.
كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 6]، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .
غير أن هذا التفسير لا يلائمه قوله بعد ذلك {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} كل الملاءمة"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي القول الأول بأن المراد من الآية ألا يحزنه أمر الكافرين به وألا يخاف منهم إيقاع الضر بالإسلام وأهله، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه قدَّم هذا القول وأخذ به على أنه تفسير الآية والمنسجم مع مناسبتها لما قبلها، ثم ذكر القول الآخر بعد ذلك.
الثاني: أنه تعقب القول الآخر بأنه لا يتلاءم مع بقية الآية، ولم يتعقب القول الأول بشيء.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
تباينت أقوال المفسرين في المسألة بين القول الأول والثاني، وقليلٌ منهم من تعرَّض للقولين جميعًا ورجَّح أحدهما، وأول من ذكر المسألة الماتريدي في تفسيره، ولم يرجِّح أحد القولين
(2)
.
وجاء عن الزمخشري ما يفيد ترجيحه للقول الأول، وتبعه على ذلك عددٌ من المفسرين
(3)
.
وجاء عن آخرين من المفسرين ما يفيد أنهم يرجحون القول الثاني
(4)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 282 - 283).
(2)
ينظر في تفسير الماتريدي (2/ 536).
(3)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 443)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 350)، وتفسير البيضاوي (2/ 50) والخازن (1/ 323) وحاشية الطيبي على الكشاف (4/ 355)، والبحر المديد لابن عجيبة (1/ 439)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 344)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 173).
(4)
تقدَّم عزوه إلى القشيري، وينظر في تفسير ابن كثير (2/ 173)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 462)، ومحاسن التأويل للقاسمي (7/ 118)، وتفسير السعدي (ص: 157)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 461).
وذكر الآلوسي أن بعضهم حاول الجمع بين القولين، واستبعد ما ذكره
(1)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل القول بأن المراد تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن القلق بشأن الكافرين وخطرهم أن هذا هو المتلائم مع السياق، وذلك من وجهين:
الأول: مناسبة الآية لما قبلها، فإن جو السورة هو في نصرة الإسلام وعزته، وأن الله ناصر أوليائه على أهل الكفر، فأنسب أن تكون الآية من هذا الجانب، وأما المعنى الآخر فإنه مرتبط بالدعوة وما يتعلق بها.
الثاني: في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} ، فالجملة فيها تعليل النهي عن الحزن، وذلك بنفي حصول الضرر منهم، فدل على أن الحزن بسبب توقع الضرر، ولأن من يرغب في الكفر سريعًا غرضه مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن المراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه عن الإيمان مع حرصه صلى الله عليه وسلم على دعوتهم أن هذا ما دلت عليه الآيات الأخرى بأن حكمة النهي عن الحزن هي تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وردُّ الأمر إلى الله، وذلك في قوله تعالى في الآية الأخرى مثل هذه:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} ثم ذكر أعمالهم، ثم قال:{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]؛ أي إن المراد تسلية النبي وأن ذلك ليس إليه، وإنما أمره إلى الله، ومثله قوله تعالى:{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23].
وهذه التسلية جاءت كثيرًا في القرآن كما أشار السمين الحلبي إلى بعض الآيات في ذلك، كقوله:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، فأولى أن تُلحق الآية هنا بتلك الآيات.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما من حاول الجمع بين القولين، فإنه جعل قوله تعالى {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا}
(1)
ينظر في روح المعاني (2/ 345).
(2)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 443)، وحاشية الطيبي على الكشاف (4/ 355).
تعليلًا للقول الأول، وجعل قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْأخِرَةِ} تعليلًا للقول الثاني، وهذا غير ظاهر، فإن الجملتين متصلتين في التعليل لعلةٍ واحدة، ثم إن الجملة الثانية لا يناسب أن تكون تعليلًا للقول الثاني، فإنه إن كان حزن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل إعراض قومه، فالمناسب له -كما في الآيات الأخرى- ردُّ أمر الهداية إلى الله، بخلاف الإخبار بحرمانهم من حظ الآخرة، فإن هذا مما يزيد من ذلك الحزن.
وأما الاستشهاد بقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ، وقوله:{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} ، ونحو هذه الآيات التي ذُكر فيها حزن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل إعراض قومه، فإنه قد ذُكر في هذه الآيات ما يسلي النبي صلى الله عليه وسلم من ردِّ الأمر إلى الله، وأما هذه الآية فقد جاء فيها التعقيب بقوله تعالى:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} ، وهذا مما يُشكل على القول الثاني؛ إذ لا يظهر أنه يتلاءم مع معنى التسلية كما أشار إليه السمين الحلبي، بل الأقرب أنه من باب تطمين النبي صلى الله عليه وسلم مما يحذره، ولذلك جاء بصيغة المضارع إشارة للمستقبل، ولم يكن بصيغة المضي.
وأما القول الأول فإنه قد يُشكل عليه أن الحكمة المذكورة فيه هي تطمين النبي صلى الله عليه وسلم مما يخاف منه ويحذر، وكذلك التعليل الذي جاء في الآية:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} ؛ إن كان المراد منه التطمين من الخوف، فالأنسب أن يكون النهي في الآية عن الخوف لا عن الحزن، فالقول الأول وما ذُكر فيه هو ألصق بالخوف من الحزن، والنهي في الآية إنما جاء عن الحزن.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الحزن إما أن يكون من فوات أمرٍ محبوب أو حصول أمرٍ مكروه، والحزن الذي في الآية إنما هو بسبب حصول المكروه
(1)
، وذلك بتزايد الشر بمسارعة الذين يسارعون في الكفر، فجاء التطمين من الله تعالى بأن هذا المكروه الذي هو سبب الحزن لن يضر الله شيئا، وفي هذا تهوينٌ من خطره.
(1)
ذكره ابن عرفة في تفسيره (3/ 274).
وجاء تأكيد هذا التطمين في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} [آل عمران: 177]، فهذه الآية تأكيدٌ للآية التي قبلها، وذلك أن الذي اشترى الكفر راغبًا به مِثلُه مثل الذي يسارع في الكفر رغبةً به، وجاء التعقيب في الآيتين بأن من يفعل ذلك فلن يضر الله شيئا
(1)
.
وجاء أيضًا في آية أخرى نحو هذا الأسلوب من النهي عن الحزن ثم ذكر ما يطمِّن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65].
5) النتيجة:
الراجح أن الحكمة من النهي عن الحزن في الآية هي تطمين قلب النبي صلى الله عليه وسلم بتهوين خطر الذين يسارعون في الكفر، فهذا هو المتلائم مع قوله:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} ، وهو المتلائم مع سياق الآيات وسردها لأحداث غزوة أُحد وما فيها من الحديث عن نصر الله لأوليائه وتطمينهم بأنه لن يلحقهم ضرر وإن حصل من أهل الكفر ما حصل
(2)
.
وأما القول الآخر بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزن بشدة على كفر قومه، فجاءت هذه الآيات تسلية له، فلا يظهر أنه المراد هنا، وهذا المعنى أنسب أن يكون مع الآيات المكية التي حصل فيها ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف هذه الآيات التي في سياق غزوة أُحد، والله أعلم.
(1)
أوضح معنى التأكيد في الآيتين الطيبي في حاشيته على الكشاف (4/ 356).
(2)
ذكر هذا المعنى في سياق الآيات الطبري في تفسيره (6/ 259).
المسألة الثانية: الذين نزل فيهم قول الله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
هل ثبت أن الآية نزلت في أُناس معينين؟
وهل يمكن قياس هذه الآية بالآية المشابهة لها من سورة المائدة وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41]، فيقال إن الذين نزلت فيهم هذه الآية من سورة المائدة هم أنفسهم الذين نزلت فيهم هذه الآية هنا؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلفوا في سبب النزول:
فقيل: هم المنافقون الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام فيؤذون المؤمنين بإفشاء أسرارهم إلى أعدائهم والطعن عليهم.
وقيل: هم كفار قريش الذين واعدوه أنها معركة من قابل؛ أعلمه الله أن كيدهم مضمحل، وتدبيرهم فاسد.
وقيل: هم رؤساء اليهود.
والأولى حملُ ذلك على التمثيل، لأن المقصود العموم، كقوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}
…
وقيل: نزلت في قومٍ ارتدوا عن الإسلام"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 283 - 284).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الآية عامة في كل من يشملهم الوصف المذكور فيها من المسارعة في الكفر من المنافقين أو المشركين أو اليهود أو المرتدين، وأن الأقوال المذكورة في الآية إنها في أُناسٍ معينين إنما هي من باب التمثيل، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والأولى حملُ ذلك على التمثيل).
الثاني: أنه استشهد لهذا القول بالآية الأخرى ولم يستشهد لغيره من الأقوال.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أختار القفال أن المراد بالآية العموم في جميع أصناف الكفار
(1)
، ولم أقف على من حدد أن المراد بالآية فئة معينة من الكفار دون غيرهم، لكن ذكر بعضهم في ذلك أقوالًا، وأشار بعضهم إشارات في ذكر بعض أصناف الكافرين، ويمكن حملها على التمثيل كما ذكر السمين الحلبي.
فذكر بعض المفسرين أن المراد بالآية المنافقين
(2)
.
وروي هذا عن مجاهد والحسن البصري
(3)
.
وروي عنهما أيضًا وعن الضحاك أن المراد بالآية الكفار
(4)
، وإلى هذا أشار بعض المفسرين
(5)
.
وحكي عن ابن عباس أنهم قريظة والنضير
(6)
، وذكر الكلبي أنهم المنافقون ورؤساء اليهود
(7)
.
واختار القاضي أبو بكر الباقلاني أنهم قومٌ آمنوا ثم ارتدوا
(8)
.
(1)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 436) فيما نقله عن القفال رحمه الله.
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 257)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 544).
(3)
رواه عن مجاهد الطبري في تفسيره (6/ 258) وابن المنذر في تفسيره (2/ 507) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 822)، وذكر ابن أبي زمنين في تفسيره قول الحسن البصري (1/ 336).
(4)
رواه عنهما ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 821 - 822). وذكر الثعلبي في تفسيره (9/ 475) قول الضحاك.
(5)
ينظر في تفسير مقاتل (1/ 317) والراغب الأصفهاني (3/ 1000) وابن كثير (2/ 173).
(6)
ذكره عنه الواحدي في التفسير البسيط (6/ 193).
(7)
ينظر في تفسير السمرقندي (1/ 266).
(8)
نقل قوله الرازي في تفسيره (9/ 436).
وأما ما ذُكر في سبب النزول من الأقوال على اختلافها في تعيين مَنْ نزلت فيهم الآية، فلم أقف على رواية مسندة في سبب نزول هذه الآية سوى ما ذُكر من رواية الشعبي تفيد أن الآية نزلت في اليهود، والذي يظهر أن هذه الرواية، وبعض الأقوال الأخرى المذكورة هنا هي في الآية التي في سورة المائدة، وليست في هذه الآية، حيث ذُكرت رواية الشعبي هنالك
(1)
، وذُكر في الروايات أيضًا أن تلك الآية في اليهود من قريظة والنضير وأنها في المنافقين
(2)
.
ومن المفسرين مَنْ يحمل الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة كما سيأتي بيانه، فيشبه أن يكون بعض المفسرين نقل الأقوال التي هنالك هنا، أو أنه لأجل تشابه مطلع الآيتين حصل اللبس، والله أعلم.
2) أدلة القول الذي رجَّحه السمين الحلبي:
استدل السمين الحلبي على عموم الآية بأمرين:
الأول: المقصود من الآية، فذكر أن المقصود العموم، ووجه ذلك أن اللفظ عام وليس فيه ما يدل على التخصيص، والآية جاءت لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فالمناسب فيها العموم في كل الكافرين الذين يسارعون في الكفر، من المنافقين أو المشركين أو اليهود أو المرتدين، فجميع هؤلاء لن يضروا الله شيئا، وجميعهم لا حظ لهم في الآخرة، نسأل الله العافية.
لثاني: قياس الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة، ووجه ذلك أن الآية التي في سورة المائدة جاء فيها ذكر أكثر من صنف من أصناف الكافرين، وذلك في قوله:{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} ، وقوله:{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} ، وهذا إشارة على العموم، فكما أن حزنه صلى الله عليه وسلم كان حاصلًا من كل هؤلاء الكفار المذكورين، فكذلك حزنه في الآية هو على العموم
(3)
.
3) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
يُستدل على الأقوال الأخرى في المسألة بدليلين:
(1)
رواها الطبري في تفسيره (8/ 413 - 414) من طريقين، وعزاها السيوطي في الدر المنثور (3/ 75) إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ، ولم أقف على مَنْ ذكر رواية الشعبي في آية آل عمران سوى ابن أبي حاتم، وستأتي.
(2)
رواها الطبري في تفسيره (8/ 418، 420، 426)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1130).
(3)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 436) فيما نقله عن القفال رحمه الله.
الأول: حمل الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة أيضًا، وذلك في قول من يقول إن الآية هنا في المنافقين وفي اليهود، فيستشهدون بقوله تعالى في سورة المائدة {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} على إرادة المنافقين، ويستشهدون بقوله تعالى {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} على إرادة اليهود، فيقولون إن الآية هنا في المنافقين واليهود
(1)
.
الثاني: ما ذُكر في سبب نزول هذه الآية، وذلك في الأقوال الآتية
(2)
:
- ذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية روايةً عن الشعبي تقتضي أن الآية نزلت في اليهود؛ قال الشعبي: كان رجل من اليهود قتل رجلًا من أهل بيته، فقالوا لحلفائه من المسلمين: سلوا محمدًا، فإن كان يقضي بالدية اختصمنا إليه، وإن كان يأمر بالقتل لم نأته.
- وقال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود؛ كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزل: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} .
- ويقال: إن أهل الكتاب لمَّا لم يؤمنوا شقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل الكتاب، فلو كان قوله حقًّا لا تبعوه، فنزلت هذه الآية.
- ويقال: نزلت في مشركي قريش، لأنهم كانوا أقرباءه، والناس يقولون: لو كان قوله حقًّا لا تبعه أقرباؤه، فشق ذلك عليه فنزلت الآية.
- ويقال: إن هؤلاء قومٌ أسلموا ثم ارتدوا خوفًا من المشركين، فاغتمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} .
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر أنه لا يستقيم قياس الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة على القول بعموم الآية هنا، فإنه ثبت في تلك الآية سببٌ للنزول فليست مما يُستشهد به للعموم، ثم إن في لفظها ما يدل على التخصيص في اليهود والمنافقين كما تقدم.
(1)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 115)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 343).
(2)
الأقوال كلها في تفسير السمرقندي (1/ 266) سوى رواية الشعبي فرواها ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 822)، وسوى القول الأخير ففي إعراب القرآن للنحاس (1/ 189)، والهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1183).
ولا يستقيم أيضًا قياس الآية هنا على الآية التي في سورة المائدة على القول بأن الآية هنا في اليهود والمنافقين، فلا يظهر أن سبب النزول مما يصح القياس فيه، خصوصًا مع اختلاف السياق هنا عن السياق هناك، فالسياق هنا في غزوة أُحد كما تقدم بيانه في المسألة السابقة.
وإذا لم يثبت سببُ نزولٍ لهذه الآية وليس في لفظها ما يُلزم التخصيص فإن الأولى حملها على العموم، وتُحمل الأقوال الأخرى على أنها من باب التمثيل كما ذكر السمين الحلبي.
ومما يدل على أن الأقوال المذكورة هي من قبيل التمثيل أنه قد جاءت الروايات عن المفسرين من التابعين في سياق كلامهم في الآية بالقول بأكثر من قول، مما يدل على أنه مرةً ينبه على هذا الصنف من الكافرين، ومرةً ينبه على الصنف الآخر، وأن ذلك كله من باب التمثيل.
وقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني بعض الأوجه التي تشير إلى أن الآية نزلت في قومٌ آمنوا ثم ارتدوا، لكن تلك الأوجه ليست صريحة ويمكن الإجابة عنها، وهي ثلاثة أوجه
(1)
:
الوجه الأول: (أن المستمر على الكفر لا يُوصف بأنه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الإيمان).
ويمكن الجواب عنه بأن هذا القول مبنيٌ على أن المراد من قوله {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} : يقعون في الكفر، لأن المسارعة تتعدى بـ (إلى) فلما جاءت التعدية بـ (في) ضُمِّن الفعل معنى الدخول في الشيء والوقوع فيه، وهذا المعنى لا يتعين؛ إذ يمكن حمل معنى المسارعة في الآية على أن الكافر واقع في الكفر لكنه يسارع فيه بالازدياد منه والعجلة في مواقعته
(2)
، ومما يشهد لهذا المعنى قوله تعالى:{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ} الآية [المائدة: 62]، فليس المعنى أنهم لم يكونوا في الإثم، وكذلك قوله:{يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90، والمؤمنون: 61]، فليس المعنى أنهم ليسوا في أعمال الخير.
الوجه الثاني: (أن إرادته تعالى ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أُحبِط).
ويمكن الجواب عنه بأن المراد حرمانهم من الوصول إلى حظهم في الآخرة لا قطعهم عنه بعد
(1)
نقلها عنه الرازي في تفسيره (9/ 436).
(2)
ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 172 - 173).
استيجابهم له، وقد جاء مثل هذا المعنى في الحرمان في الحديث الصحيح:(لا يدخل النار أحدٌ إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن، ليكون عليه حسرة)
(1)
، وهذا الحديث أهل النار كلهم، وليس خاصًّا بالمرتدين.
الوجه الثالث: (أن الحزن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصود، فلما قَدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الانتفاعَ بإيمانهم ثم كفروا حزن صلى الله عليه وسلم عند ذلك لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك وعرَّفه أن وجود إيمانهم كعدمه، في أن أحواله لا تتغير).
ويمكن الجواب عنه بما تقدَّم في المسألة السابقة من أن الحزن إما أن يكون من فوات أمرٍ محبوب أو حصول أمرٍ مكروه، والحزن الذي في الآية إنما هو بسبب حصول المكروه، كما تقدَّم.
5) النتيجة:
الراجح أن الآية عامة ولم تنزل في فئة معينة من الكافرين فيما يظهر والله أعلم، لأنه لم يثبت سبب نزول خاص في الآية، وليس في الروايات ما يثبت أنها نزلت في فئة معينة دون غيرها، فالأولى حملها على العموم، خصوصًا وأن هذا هو المتلائم من لفظ الآية ومقصدها، فإنها في تطيمن النبي صلى الله عليه وسلم، والمناسب في التطمين أن يكون عامًّا، ولفظ الآية يساعد على ذلك؛ إذ ينطبق لفظها على عموم الكافرين.
(1)
رواه البخاري في صحيحه (8/ 117/ 6569) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
المسألة الثالثة: المراد بالذين كفروا في قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ}
قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في المسألة السابقة، وبعضه فرعٌ عنها، فكما قيل في الآية السابقة أنها نزلت في قريظة والنضير قيل في هذه الآية كذلك، وقيل بأقوالٍ أخرى غير ما تقدم.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقد اختلف المفسرون في {الَّذِينَ كَفَرُواْ} هنا؛ هل المراد بهم كل كافرٍ أم طائفة مخصوصة؟
فذهب بعضهم إلى العموم، وهو ظاهر الآية؛ قال ابن عطية: «معنى هذه الآية: الردُّ على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين مُمَوَّلين أصِحَّةً دليلٌ على رضى الله بحالنا واستقامةِ طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدراج ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برَّةٍ ولا فاجرة إلا والموت خيرٌ لها، أما البرة فلِتُسرع إلى رحمة الله، وقرأ:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]، وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثمًا، وقرأ هذه الآية
(1)
»
(2)
انتهى.
وذهب ابن عباس وآخرون إلى أنها خاصة باليهود والنصارى والمنافقين؛ قال: نزلت في هؤلاء.
(1)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 428)، والطبري في تفسيره (6/ 262)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 509).
(2)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 546).
وجعلها مقاتل في مشركي مكة.
وقال عطاء: هي في قريظة والنضير.
وقال الزجاج: هؤلاء قوم أَعلَمَ الله نبيه أنهم لا يؤمنون، وليست في كل كافر، وقد يكون الإملاء له مما يُدخله في الإيمان، فيكون أحسن له، وارتضاه مكي وقال: هذا هو الصحيح من المعاني"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن الآية عامة في جميع الكفار، وأنه لم يُرَد بها طائفة مخصوصة من الكافرين، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(وهو ظاهر الآية)، والظاهر عنده هو المقدَّمٌ.
الثاني: أنه أطال النقل في بيان هذا الوجه وذِكْرِ الاستشهاد له بقول ابن مسعود، واختصر في بقية الأقوال ولم يستشهد لها.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
لم يتعرَّض كثيرٌ من المفسرين لهذه المسألة، وغالب الذين تعرَّضوا لما قيل فيها لم يرجِّحوا أحد الأقوال، وأكثر المفسرين جعلوا الآية على ظاهرها، وذكروا الموصول في الآية {الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، ولم يخصصوه بشيء.
ومن المفسرين من أشار إلى أن هذه الآية في عموم الكافرين
(2)
، كما في القول الذي نقله السمين الحلبي عن ابن مسعود
(3)
، وروي نحوه عن أبي الدرداء
(4)
، وذُكر نحوه أيضًا عن آخرين
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 293 - 295).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (1/ 312)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 546)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 351) فذكر ذلك عن أبي سليمان الدمشقي، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 445).
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 428)، والطبري في تفسيره (6/ 262)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 509).
(4)
رواه سعيد بن منصور في التفسير من سننه (3/ 1128)، والطبري في تفسيره (6/ 327).
من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
(1)
، ولعل في هذا إشارة إلى أن لهذا القول أصلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أيضًا عن التابعين كالحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما أقوالٌ أخرى تؤيد أن الآية في عموم الكافرين
(2)
.
وروي عن السدي إشارةٌ إلى أن الآية في مشركي مكة، وصرَّح بذلك مقاتل في تفسيره
(3)
، ومال إليه بعض المفسرين
(4)
.
وأما الأقوال الأخرى فلم أقف على شيءٍ منها مسندًا، فذُكر عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين، وذُكر عن عطاء أنها نزلت في قريظة والنضير
(5)
.
ورجَّح الرازي أن الآية في شأن المنافقين القاعدين عن القتال
(6)
.
أما قول الزجاج فلا يظهر مما ذكره في معاني القرآن وإعرابه
(7)
أنه يخصُّ الآية بطائفةٍ معينةٍ من الكافرين، فإنه قال:"معنى {نُمْلِي لَهُمْ}: نؤخرهم، وهؤلاء قومٌ أعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون أبدًا، وأن بقاءهم يزيدهم كفرًا وإثمًا"، والذي يظهر من كلامه أنه أراد بيان معنى الإملاء، وأن مَنْ أملى الله له فإنه لا يؤمن، بل يزداد كفرًا وإثمًا، وهذا المعنى يمكن ينطبق على كل كافر من اليهود والمشركين وغيرهم من المخاطبين، وليس خاصًّا بأحدهم.
وحكى هذا المعنى أبو بكر الأنباري، فذكر أن جماعة من أهل العلم يقولون أن الله عز جل أنزل هذه الآية في قوم يعاندون الحق؛ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، ورجَّح هذه المعنى مكي
(1)
ينظر قولُ ابن عباس في تفسير القرطبي (4/ 288) وعزاه إلى رزين، وقولُ أبي برزة في الدر المنثور للسيوطي (2/ 392) وعزاه إلى عبد بن حميد، وذكر صديق حسن خان في فتح البيان (2/ 384) أنه روي نحوه عن أبي هريرة.
(2)
روى ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 823) قول الحسن وأبي الأحوص، وروى سعيد بن منصور في التفسير من سننه (3/ 1127) قول محمد بن كعب القرظي.
(3)
ينظر في المصدر السابق لرواية ابن أبي حاتم قولَ السدي، وينظر في تفسير مقاتل للآية (1/ 317) ولم يذكر هنالك أن الآية نزلت في مشركي مكة، لكن ذكر عنه ذلك الثعلبي في تفسيره، ثم تبعه البغوي وابن الجوزي كما سيأتي.
(4)
ينظر في تفسير المنار لرشيد رضا (4/ 204) والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 175).
(5)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 479) والبغوي (1/ 543)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 351).
(6)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 438 - 439).
(7)
(1/ 491)، والمنقول عن الزجاج في المسألة هو في الهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1186)، ولم ينسبه لأحد.
بن أبي طالب كما ذكر السمين الحلبي
(1)
.
والذي يظهر أن الذي ألجأهم إلى التفصيل هو الإشكال المذكور في بقية الآية من قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما} ، فكيف يكون المقصود زيادة إثمهم؟ فذكروا أن إملائه تعالى لهم لأجل أن يزدادوا في الإثم لم يكن إلا لأنهم قومٌ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون
(2)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
استدل السمين الحلبي على القول بأن الآية يراد بها العموم في كل كافر أن هذا هو الظاهر من الآية؛ إذ جاء ذكر {الَّذِينَ كَفَرُواْ} ولم يقيد بصفة معينة يستفاد منها إرادة طائفة مخصوصة، فالآية في الرد على كل كافر يحسب أن الله يمليه لأجل خيرٍ فيه.
3) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
يمكن أن يستدل للأقوال الأخرى في المسألة بأمرين:
الأول: ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أن الآية نزلت في أقوامٍ معينين
(3)
.
الثاني: السياق، وذلك من وجهين:
أولهما: ما سبق من الأدلة في المسألة السابقة في القول بأن الآية السابقة نزلت في المنافقين أو اليهود أو المشركين، فيُستدل بالسياق هنا على أن هذه الآية تتمة للآيات السابقة، وأن السياق لا زال في القوم أنفسهم.
ثانيهما: الاستشهاد بالمناسبة مع السياق، كالقول بأن مناسبة الآية في هذا السياق أنها جاءت في الرد على المنافقين المتخلفين عن غزوة أُحد؛ ألا يحسبوا أن قعودهم وبقاءهم سالمين خيرٌ لهم من القتال، أو أنها جاءت في الرد على مشركي مكة بألا يحسبوا أن بقاءهم بعد الذي أصابوه يوم أُحد خيرًا لهم، وإنما ليزدادوا عقوبة
(4)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
القول بأن الآية مخصوصة في قومٍ أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون لا يستقيم، فإنه يلزم منه أن
(1)
نقل الواحدي في التفسير البسيط (6/ 202) قول أبي بكر الأنباري، وتقدَّم العزو إلى مكي بن أبي طالب.
(2)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 444)، وتفسير الرازي (9/ 440).
(3)
تقدَّم العزو إلى من ذكر ذلك، وأنه لم يثبت مسندًا.
(4)
ينظر في تفسير السمرقندي (1/ 267)، وتفسير الرازي (9/ 438 - 439).
كل من خُوطب بهذه الآية فإنه لن يؤمن، وهذا يخالف ما يكون في الإملاء نفسه، فإن الله يحتج على الكافرين الذين أملاهم بأنه أمهلهم مدة يمكنهم التذكر فيها، فلو كان الذين أملاهم الله لا يؤمنون لم يستقم أن يحتج الله عليهم بذلك الإملاء؛ قال الله في شأن الكافرين كلهم:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ 36 وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37]، فصرَّح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدةً يتذكرون فيها، وجعل الإملاء حجةً عليهم كما جعل النذير حجة كذلك
(1)
.
ولا يلزم من أن الله أملاهم ليزدادوا إثما أن تكون عاقبة أمرهم أنهم لا يؤمنون، بل إن الإملاء هو عقوبة لهم، وازديادهم من الإثم عقوبة، فإن رجعوا إلى الله وآمنوا لم يكن للعقوبة محل، ولم يكن لهم إملاء يزدادون به إثما.
وأما الأقوال الأخرى في المسألة التي فيها تعيين أن الآية نزلت في طائفة معينة من الكافرين فليس لها شاهد من ألفاظ النزول، فليس في الروايات شيء مسند يؤيد أحد الأقوال إلا ما رواه السدي مما يؤيد أن الآية في مشركي مكة، لكن ليس فيما رواه السدي ذكر شيء من ألفاظ النزول، فيمكن حمل قوله على التمثيل كما حُملت الأقوال في المسألة السابقة على التمثيل.
وأما الاستشهاد لبعض الأقوال بما ذُكر في مناسبة الآيات مع السياق فليس مما يمنع القول بأن الآية نزلت في عموم الكافرين، فيكون للآية أكثر من مناسبة في الرد على المنافقين والمشركين وغيرهم.
ومما يشير إلى أن الآية في عموم الكافرين أن الآيات قبلها جاء فيها ذكر الكافرين بالعموم كما تقدَّم، فلو كانت هذه الآية أُريد بها طائفة معنية من الكافرين لجاء التصريح بذلك، وإلا فتحمل على ظاهرها في هذا السياق من أنها في عموم الكافرين، فكون هذه الآية في سياق عموم الكافرين يدل على عمومها.
(1)
ينظر في أضواء البيان للشنقيطي (2/ 16)، (8/ 445)، والعذب النمير له أيضًا (3/ 618).
5) النتيجة:
الظاهر أن الآية عامة في كل كافر، ولا يراد بها طائفة معينة من الكافرين دون غيرهم، وهذا ما دل عليه ظاهر اللفظ وسياق الآيات.
ويؤيد هذا أن إملاء الله وإمهاله لا يخص به طائفة من الكافرين دون أخرى، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الرعد: 32]، وقال تعالى:{وَكَأَيِّن مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 48]، كما أن الحسبان المذكور في الآية لا يختص به طائفة من الكافرين دون أخرى، بل يقع من عموم الكافرين، فجاءت الآية في الرد على كل كافرٍ يقع منه ذلك الحسبان.
المسألة الرابعة: وجه ما قيل في سبب نزول قول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} الآية
قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]
•
أصل الخلاف في المسألة:
"قيل لابن عرفة: {وَلَتَسْمَعُنَّ} مستقبل، وما ذكروه في سبب نزول الآية يقتضي أنه متقدم عليها"
(1)
؟!
الخلاف في المسألة من هذا الاستشكال، فهو يدور حول ما روي في سبب النزول؛ هل هو إشارة إلى ما مضى قبل نزول الآية، أو أنه لم يقع شيء قبل نزولها؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وجه مناسبتها لما تقدَّمها أنه تعالى لمَّا أخبر أن كل نفسٍ ذائقة الموت وأنه [
…
]
(2)
؛ عقَّب ذلك بتوطينهم على ما يصيبهم من البلايا والرزايا
…
واختلف الناس في المراد بهذه الآية وسبب نزولها:
فعن جماعة: أن سبب نزولها ما تقدَّم من قصة فنحاص مع أبي بكر رضي الله عنه
(3)
.
وقيل: سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليه جماعةٌ فيهم عبد الله بن أُبي، فقرأ عليهم القرآن كما نزل عليه عليه السلام، فقال له عبد الله بن أُبي: إن كان هذا حقًّا فلا تَغْشَنا به تؤذينا في مجالسنا، فرد عليه عبد الله بن رواحة: بل اغشنا به يا رسول الله في مجالسنا،
(1)
تفسير ابن عرفة (1/ 452)، وينظر في التقييد الكبير للبسيلي (ص: 604).
(2)
قال المعتني بالكتاب: ما بين المعقوفتين جملة غير واضحة بمقدار كلمتين.
(3)
رواه الطبري (6/ 278) وابن أبي حاتم (3/ 834) في تفسيرهما، عن ابن عباس وحسَّن إسنادها ابن حجر في الفتح (8/ 231)
ووقع بين المسلمين واليهود والمشركين سِباب كثير فنزلت
(1)
.
وقيل: إن عدو الله كعب بن الأشرف كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بهجائهم، ويحرض المشركين على المسلمين
(2)
.
والظاهر أن هذا لم يقع قبل هذا الإخبار، بل جيء به توطينًا لهم كما قدمناه.
وقيل: بل هذا إشارة إلى ما مضى"
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أنه لم تقع حادثة معينة قبل نزول الآية، وإنما المراد منها التوطين لما سيحدث بعدها، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والظاهر أن هذا لم يقع قبل هذا الإخبار)، والظاهر عنده مقدَّم على غيره.
الثاني: ما ذكره أولًا في مناسبة الآية، وأشار إلى اعتباره بقوله:(بل جيء به توطينًا لهم كما قدمناه)، فأضرب عن الأقوال الأخرى ورجع إلى الاعتبار بما قدَّمه في مناسبة الآية من أن الآية جاءت للتوطين لما سيحدث بعد نزولها.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
لم يصرح أهل العلم في بالقول الفصل في هذه المسألة، لكن روايتهم وذكرهم لسبب النزول يقتضي أنهم يرون أن الحادثة قد وقعت قبل نزول الآية، خصوصًا مَنْ ذكر (الفاء) في لفظ النزول:(فنزلت)
(4)
، فإن ذلك يقتضي أنه يرى أن الحادثة وقعة قبل نزول الآية
(1)
رواه البخاري في صحيحه (6/ 39/ 4566) عن أسامة بن زيد ولم يذكر أمر النزول، وإنما هي للاستشهاد بالآية.
(2)
رواه أبو داود (3/ 154/ 3000) عن كعب بن مالك، ولعله من باب التمثيل به، لتكرر ذلك من نفس الطريق في آية أخرى؛ ينظر تفسير عبد الرزاق (1/ 285) وابن أبي حاتم (1/ 204) والسنن الكبرى للبيهقي (9/ 308)
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 344 - 346).
(4)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 496)، ومعاني القرآن للنحاس (1/ 519)، وتفسير الثعلبي (9/ 521) والبغوي (1/ 550) والقرطبي (4/ 303)، والسراج المنير للشربيني (1/ 272).
ولم أقف على من نفى أن يكون سبب النزول وقع قبل نزول الآية غير ما ذكره السمين الحلبي هنا، ولا يشكل على هذا من أثبت أن الآية فيها إعلامٌ بالبلاء قبل وقوعه، فإن هذا مقتضى ما جاء فيها، لكن الإشكال في نفي أن يكون سبب النزول وقع قبل نزول الآية.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
استدل السمين الحلبي على أنه لم يقع شيء قبل نزول الآية بأمرين:
الأول: أن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن من الألفاظ المذكورة في الآية: {لَتُبْلَوُنَّ} ، {وَلَتَسْمَعُنَّ} ، وذلك بشاهد اجتماع (لام القَسَم) مع (نون التوكيد)، فاجتماعهما يدل على أمرٍ مستقبلٍ مؤكد، كما في قول إبراهيم عليه السلام:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]
(1)
، وعليه فهذه الألفاظ خالصة في المستقبل، وليس فيها إشارة لما مضى، فيُستبعد أن يكون قد وقع شيء قبل نزول الآية، وكان سببًا لنزولها.
الثاني: مناسبة الآية لما قبلها، وذلك فيما ذكره من أنه لما أخبر سبحانه من أن كل نفس ذائقة الموت، عقَّب ذلك بتوطينهم على ما يصيبهم من البلايا والرزايا، فكان ذلك الإخبار كالتوطئة للمذكور هنا، لأن من علِم أنه يموت هانت عليه كل مصيبة
(2)
، وعليه فتكون مناسبة الآية تؤيد أنها في الإخبار عن مستقبل لتتوطن أنفسهم عليه، لا في الإشارة إلى ما مضى.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
الدليل بأن الآية نزلت بعد سبب النزول وهو قصة أبي بكر مع فنحاص اليهودي أمران:
الأول: ما ثبت من رواية ابن عباس، وفيها التصريح بأن الآية نزلت بعد القصة
(3)
.
الثاني: أن سياق الآيات قد أشار إلى ما ذُكر في هذه القصة؛ إذ هي في الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، فالسياق كله نزل بعد القصة المذكورة كما ذكره ابن عباس وعكرمة
(4)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
لعل مما يقوي الاعتضاد بما ذكره السمين الحلبي أن بعض أهل العلم ذكر تضعيف سند
(1)
ينظر في اللامات للزجاجي (ص: 110).
(2)
ينظر فيما تقدم: القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 344).
(3)
روايته في تفسير الطبري (6/ 278) وابن أبي حاتم (3/ 834) وحسَّن إسنادها ابن حجر في الفتح (8/ 231)
(4)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 278، 291)، وتفسير ابن المنذر (2/ 515).
سبب النزول المذكور، فلا يكون حجة في السببية
(1)
، فلا تُربط الآية به، وعليه فلا يمكن إثبات أنه قد وقع شيء قبل نزول الآية.
لكن الذي يظهر أن الإسناد ثابت صحيح كما ذكره ابن حجر في فتح الباري
(2)
، والسياق يؤيد ما ذُكر في سبب النزول، وذلك أن فنحاص اليهودي، لقيه أبو بكر فكلَّمه وقال له: اتق الله وآمن وصدِّق، وأقرض الله قرضًا حسنًا، فقال فنحاص: يا أبا بكر؛ تزعم أن ربنا فقير، يستقرضنا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربةً شديدة، ثم تخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجحد اليهودي ما قاله، فأنزل الله فيما قال اليهودي ردًّا عليه، وتصديقًا لأبي بكر:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية [آل عمران: 181]، وأنزل في قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
فإذا ثبت سبب النزول فإن القاعدة الترجيحية تقول: (إذا صحَّ سبب النزول فهو مرجِّح لما وافقه من أوجه التفسير)
(3)
، وأما على القول الذي ذكره السمين الحلبي فإن سبب النزول سيكون مهملًا لاعتبار له.
والمعروف في أسباب النزول أن تكون وقعت قبل نزول الآية، لكن يشكل عليه لفظ الآية نفسها، كما تقدَّم:"قيل لابن عرفة: {وَلَتَسْمَعُنَّ} مستقبل وما ذكروه في سبب نزول الآية يقتضي أنه متقدم عليها، فقال: هو واقع فيها معنى، وتزايد في المستقبل"؛ أي إن هذا هو دأب اليهود والمشركين في أذية المسلمين بأقوالهم، فكما أن الآية صرَّحت بأن مستقبلهم كذلك، فلا شك أنه كان لهم سوابق في الماضي، فجاءت الآية مشيرة إلى ما مضى وتنبيها على المستقبل، وذلك بإثبات القضية الدائمة وأن هذا هو دأبهم ولن ينتهي، بل سيتزايد في المستقبل.
ولعله لأجل هذا المعنى ذُكرت القضية بالعموم على سبيل الدوام من أن المؤمنين سيُبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون من اليهود وغيرهم أذى كثيرا، فتكون الآية تسلية لما وقع وتوطينًا
(1)
ينظر في المحرر في أسباب نزول القرآن للدكتور خالد المزيني (1/ 345 - 346).
(2)
تقدَّم عزو الرواية عن ابن عباس في أدلة القول الثاني والإحالة إلى فتح الباري.
(3)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 241 - 248).
للأمر العام في المستقبل، وهذا ما اختاره بعض المفسرين في مناسبة الآية أنها ليست في التوطين لما يُستقبل فحسب، بل هي في التسلية لما مضى والتوطين لما يُستقبل
(1)
.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن الآية فيها إشارة إلى ما مضى ووقع مما ثبت في سبب النزول، وبهذا يظهر تناسب الآية مع السياق كله؛ أن فيها الإشارة إلى ما مضى والتنبيه على القضية العامة في المستقبل.
ولذلك تجد الارتباط بين الأذى المسموع المذكور في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ، وبين ما سيسمعه المسلمون في المستقبل في قوله:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرا} ، فما ذُكر في الآية الأولى هو أنموذج لما سيكون في الآية الثاني.
(1)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 123)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 439) وروح المعاني للآلوسي (2/ 358)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 221).
المسألة الخامسة: المعنيون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف يرجع إلى المراد من {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في الآية؛ هل هي عامة في كل من أوتي علم الكتاب، أو هي خاصة بأهل الكتابين؛ التوراة والإنجيل، أو هي خاصة باليهود؟ وما مُوجب التخصيص في ذلك؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله في بداية تفسير الآية: "وجه مناسبتها لما تقدَّم أن الله لمَّا أخبر أنهم يسمعون من أهل الكتاب أذًى كثيرا؛ عقَّب ذلك بما كان عليه هؤلاء الطائفة من نبذ عهود الله عليهم وراء ظهورهم، لا يلتزمون بها بعد أن أخذها عليهم وأكَّدها، فهذا نوعٌ آخر من مخازيهم يضاف لما كان يصدر منهم من أذى المؤمنين، فهم شرٌّ من الذين أشركوا بزيادة هذه المثلبة الفظيعة، وهي كتمان العلم، لا سيَّما عند شدة الحاجة إليه.
واختلف الناس في المراد بهذه الآية، والظاهر أنهم اليهود الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه تنطبق المناسبة المذكورة.
وقيل: هم اليهود والنصارى.
وقيل: كل مَنْ علم علمًا [
…
]
(1)
.
وعلماءُ هذه الأمة داخلون في هذه الآية، وهذا ظاهرٌ ولو فرضنا أنها نزلت في اليهود خاصة، لأن حكم غيرهم حكمهم"
(2)
.
(1)
قال المعتني بالكتاب: ما بين المعقوفتين كلمة غير واضحة، ويحتمل رسمها:(صحَّ).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 351).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المراد بالآية هم اليهود الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الترجيح من ثلاثة وجوه:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والظاهر أنهم اليهود)، والظاهر عنده مقدَّم على غيره.
الثاني: أنه استدل لهذا القول بأنه المطابق لما ذكره من مناسبة الآية، ولم يستدل للأقوال الأخرى.
الثالث: أنه وجَّه هذا القول في آخر المسألة وبيَّن أنه لا يشكل عليه ما هو معروف عند أهل العلم من دخول علماء هذه الأمة في الآية، فتوجيه القول ورفع الإشكال عنه يدل على تفضيله.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جمهور المفسرين على أن الآية في اليهود
(1)
، وهو مقتضى ما روي عن ابن عباس
(2)
، وسعيد بن جبير
(3)
، والسدي
(4)
.
وجاء عن بعض المفسرين إن الآية في اليهود والنصارى من أهل الكتاب
(5)
، وروي هذا عن الحسن البصري
(6)
، وهو مقتضى ما روي عن مجاهد
(7)
.
(1)
ينظر في تفسير مقاتل (1/ 321)، والهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1197)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 239)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 552)، وتفسير الرازي (9/ 456) والقرطبي (4/ 304)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 464)، والسراج المنير للشربيني (1/ 272)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 191).
(2)
رواه البخاري في صحيحه (6/ 40/ 4568)، وروى الطبري في تفسيره (6/ 294) أثرًا آخر أنهم أحبار اليهود.
(3)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 426)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 835).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 295).
(5)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 293) وأبي السعود (2/ 124)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 227 - 228)، وتفسير السعدي (ص: 160)، وتفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 524).
(6)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 836).
(7)
ينظر في تفسير مجاهد (ص: 263)، وروي في تفسير الطبري (6/ 300) وابن المنذر (2/ 528) ذِكرُ اليهود فقط
وقليل من أهل العلم من أعرض عن القولين السابقين وقال إن الآية عامة في كل من أوتي علمًا من الكتاب، فجعلوا الكتاب عامًّا في كل الكتب المنزلة من الله تعالى
(1)
، وعزا الطبري هذا القول إلى قتادة
(2)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
استدل السمين الحلبي على القول بأن المراد بالآية اليهود بدليلين:
الأول: الظاهر، ولعل وجه هذا أن الظاهر عنده هو المتبادر إلى الذهن كما تقدَّم بيانه في منهجه، والمتبادرُ إلى الذهن في الكتمان المذكور في الآية هم اليهود، فإنهم هم الذين عُرف عنهم أنهم كتموا ما في كتابهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: مناسبة الآية لما قبلها: وذلك في قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرا} [آل عمران: 186]، ثم جاءت هذه الآية بتخصيص اليهود بأنهم أبلغ في الشر، وذلك بكتمانهم العلم.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يستدل للقول بأن المراد بالآية اليهود والنصارى، أن هذا هو المعهود في ذكر أهل الكتاب في القرآن أنه يشمل اليهود والنصارى، فكذلك قوله {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هنا؛ لا يخص اليهود وحدهم، بل يدخل فيهم النصارى، كما جاء مثل هذا التركيب في قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} الآية [المائدة: 5].
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
استدل من قال بأن المراد في الآية كل من آتاه الله علم الكتاب أن هذا هو مقتضى إطلاق لفظ الكتاب في الآية، فالكتاب المذكور في الآية يُراد به جنس الكتب المنزلة من الله تعالى
(3)
.
5) الموازنة بين الأدلة:
لا يستقيم القول بأن الآية أُريد بها كل من آتاه الله علم الكتاب، فإن هذا يقتضي أن المؤمنين في زمن التنزيل معنيون فيها، والآية جاءت في سياق الذم بأنهم نبذوا الميثاق وراء
(1)
ينظر تفسير البيضاوي (2/ 53)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 468) وفتح البيان لصديق حسن خان (2/ 395).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 296) وعزاه أيضًا إلى ابن مسعود ولا يظهر؛ ينظر روح المعاني للآلوسي (2/ 361)
(3)
ينظر في فتح القدير للشوكاني (1/ 468)، وفتح البيان لصديق حسن خان (2/ 395).
ظهورهم ولم يرعوا حقَّ الكتاب، وحاشاهم أن يكونوا كذلك، وإنما الآية فيمن قبلهم من الذين أوتوا الكتاب.
ولا يعني هذا أن علماء هذه الأمة لا يشملهم حكم الآية إذا نبذوا الميثاق، بل يكون حكمهم كحكم من قبلهم إذا كانوا مثلهم، كما بيَّنه السمين الحلبي، فيكون لفظ الآية أُريد به من قبلنا، ثم تكون موعظة الآية لنا، كما كان عمر رضي الله عنه إذا تلا {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40، 47، 122] قال:"مضى القوم، وإنما يعني به أنتم"
(1)
، أي إننا نحن المعنيون بالموعظة، وليس مراده أننا نحن المرادون بلفظ (بني إسرائيل).
وأما القول بأن المراد بالذين أوتوا الكتاب عند الإطلاق هم اليهود والنصارى، فإنه لا يمنع من تخصيص اليهود بالآية، والموجب للتخصيص أمران:
الأول: أن هذا هو المعهود من اليهود من كتمان ما في الكتاب وأنهم يشترون بذلك ثمنًا قليلا مع جحدهم للميثاق الذي أُخذ عليهم، ويشهد لهذا الآية التي في سورة الأعراف، وهي في اليهود، فجاء فيها أنهم يشترون بالكتاب ثمنًا قليلا، وذلك في قوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ، وجاء فيها ذكر الميثاق الذي أُخذ عليهم، وذلك في قوله:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]، فهذا الميثاق الذي أُخذ على اليهود جاء بيانه في الآية التي نحن فيها، والتصريح بأنهم نبذوه وراء ظهورهم
(2)
، وجاء في آية أخرى بيان النبذ الذي كان منهم، وذلك في قوله:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]
(3)
، وهذه الآية في اليهود أيضًا، فالآية التي نحن فيها في اليهود، فإن كان المعهود في القرآن أن {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هم اليهود والنصارى، فإن
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 104)، وفي الدر المنثور (1/ 165، 273) عزوه إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.
(2)
ذكره الشنقيطي في أضواء البيان (2/ 42)، وبيَّن الطبري في تفسيره (10/ 535) أن الآية في اليهود.
(3)
ينظر في بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (6/ 317 - 318).
الخبر المذكور في الآية هنا هو المعهود عن اليهود، وهو ألصق بهم من النصارى.
الأمر الثاني: أن هذا هو المتناسب مع السياق في مناسبة الآية لما قبلها ومناسبة الآية لما بعدها، وذلك فيما ذكره ابن عباس رضي الله عنه
(1)
، فذكر أن هذه الآية في فنحاص وغيره من أحبار اليهود، وقد تقدَّم بيان قصة فنحاص وشأنه في الآية السابقة، وذكر رضي الله عنه الآية الآتية هي في اليهود:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]، فذكر أن فرحهم هو بما كتموه الذي أُشير إليه في الآية هنا
(2)
.
6) النتيجة:
الراجح أن المراد بالآية هنا اليهود، وهذا هو المتناسب مع ما ذُكر في سبب النزول في الآية السابقة أنها نزلت في شأن اليهود كما تقدَّم، وهو المتناسب مع ما ذكر في الآية الآتية كما أشار إليه ابن عباس، فيكون سياق الآيات كلها في ذم اليهود، والله أعلم.
(1)
تقدَّم عزو الأثرين عنه.
(2)
ينظر في فتح الباري لابن حجر (8/ 235).
المسألة السادسة: أصل (المفازة) ووجه تعلُّق الجار والمجرور بها في قول الله تعالى {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}
قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]
•
أصل الخلاف في المسألة:
لفظ (المفازة)؛ هل هو مصدر من الفوز، فيكون معنى الآية: فلا تحسبنَّهم بفوزٍ يفوزون به من العذاب، أو هو اسم مكان، فيكون المعنى: فلا تحسبنَّهم بمحلِ فوزٍ من العذاب.
وينبني على هذا بيان وجه تعلُّق قوله {مِّنَ الْعَذَابِ} بقوله {بِمَفَازَةٍ} وفق القواعد الضابطة في تعلق الجار والمجرور.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "و {مِّنَ الْعَذَابِ} فيه وجهان:
الأول: متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة لـ (مفازة)؛ أي: (مفازةٍ كائنةٍ من العذاب)؛ إذا قلنا إن (مفازة) اسم مكان بمعنى مكان الفوز، قال أبو البقاء:«لأن (مفازة) اسم مكان، والمكان لا يعمل»
(1)
، يعني: فلا يتعلق {مِّنَ الْعَذَابِ} بلفظ (مفازة)، بل بمحذوفٍ على أنه صفة كما قدَّمنا تقريره. غير أن في ذلك إشكالًا، لأنك إذا قدَّرت كونًا مطلقًا على القاعدة المعروفة في مثله فليست بـ (مفازةٍ كائنةٍ من العذاب)، والمفازة ليست من العذاب، وإذا قدَّرت كونًا خاصًا مناسبًا للمعنى؛ أي: بمفازة منجية أو مخلِّصة من العذاب، لزمه تقدير المحذوف في مثله كونًا مقيدًا، وقد منعوه.
والوجه الثاني: أنه متعلق بنفس (مفازة) إذا أُريد المصدر، لأنها بمعنى الفوز، لأن المفازة تتعدى بـ (من)؛ تقول: فزت منه؛ أي: نجوت وخلصت، وهذا الوجه أحسن للتخلص من تكلفة الإشكال في الوجه قبله"
(2)
.
(1)
التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري (1/ 320).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 370 - 371).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المفازة المذكورة في الآية مصدر من الفوز، وأن الجار والمجرور متعلق بها مباشرة من غير الحاجة إلى تقدير محذوف، ويظهر هذا الترجيح من ثلاثة وجوه:
الأول: لفظ الترجيح، وقد جاء على صيغة التفضيل، وذلك في قوله:(وهذا الوجه أحسن)
(1)
.
الثاني: أنه استقصى في ذكر الإشكال على القول الأول حتى انتهى ببيان أن أهل اللغة قد منعوا من التقدير المذكور فيه، فهو يمنع القول الأول، ويرجِّح القول الثاني.
الثالث: أنه قد ذكر بعد المسألة إشكالًا على القول الذي رجَّحه، ثم أجاب عنه، واستشهد لجوابه بقول العرب
(2)
، فهذا يدل على أنه يعتمد هذا القول ويدافع عنه.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أما أصل المفازة، فالذي يظهر مما ذكره المفسرون والمعربون أنهم جعلوها مصدرًا من الفوز، حيث ذكروا التقدير الموافق لذلك في الآية:(فلا تحسبنَّهم فائزين من العذاب)
(3)
.
ثم جاء أبو البقاء العكبري فكان أول من تعرَّض لهذه المسألة، وجعل الأصل فيها أن المفازة اسم مكان، وأن الجار والمجرور متعلق بمحذوفٍ صفةٍ لها، وذكر جواز القول الثاني
(4)
.
ولم يوافق كثير من المعربين الذين تعرضوا للمسألة من بعده على جعل المفازة اسم مكان، ومال أكثرهم إلى القول الثاني
(5)
.
وإن كان بعض المفسرين وأهل اللغة فسَّروا (المفازة) بما يقتضي أنها اسم مكان، لكنهم لم
(1)
وقد ذكر في الدر المصون (3/ 530 - 531) صيغة التفضيل أيضًا، فقال:(فهذا أولى).
(2)
ينظر في القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 370 - 371).
(3)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 451)، وكشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (1/ 279)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 234).
(4)
ينظر في التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري (1/ 320).
(5)
ينظر في الكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 187) وتفسير أبي السعود (2/ 126)، وحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (3/ 87)، وحاشية القونوي عليه كذلك (6/ 443)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 362).
يتعرضوا لتفصيل المسألة وبيان وجه تعلُّق الجار والمجرور بها
(1)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
لم أقف على دليل يدل على أن المفازة في الآية اسم مكان، ولعل ذلك من الحمل على المشهور في اللغة، فإنه قد عُرف أن لفظ (المفازة) استُخدِم في اسم المكان، وذلك في جعله علامةً على الصحراء المهلكة، وسموها بذلك تفاؤلًا بالفوز والنجاة منها
(2)
، وعلى ذلك، فيُستخدم لفظ (المفازة) في الآية على أنه اسم مكان، ويكون إشارة إلى أن المذكورين في الآية لا أمل لهم في النجاة من العذاب، ولا مهرب يقيهم منه.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل على أن المفازة في الآية مصدر من الفوز أنه قد جاء في القرآن ذكر المفازة مصدرًا، كما في قوله:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61]؛ أي: بفوزهم
(3)
، فتُحمل المفازة في الآية هنا على أنها مصدر كذلك، موافقةً لما جاء به القرآن في موضعٍ آخر.
4) الموازنة بين الأدلة:
قد ذكر السمين الحلبي إشكالًا على القول الذي رجَّحه في أن لفظ (المفازة) فيه تاء التأنيث، والمصدر الذي لحقته تاء التأنيث لا يعمل، ولا يمكن أن يُعلَّق به الجار والمجرور، وقد أجاب عن هذا الإشكال بأن الكلمة هنا قد بُنيت على تاء التأنيث، والعرب تجيز إعمال المصدر في هذه الحالة، بخلاف الكلمة التي تكون تاء التأنيث طارئة عليها، فإن الإشكال المذكور يَرِد عليها.
وأما الإشكال الذي ذكره السمين الحلبي في تعلُّق الجار والمجرور باسم المكان فهو متفرِّع عن قولهم بأن اسم المكان لا يعمل، فلا يجوز أن يتعلَّق به الجار والمجرور والظرف مباشرة، ومن أهل اللغة من أجاز ذلك باعتبار أن اسم المكان قد شابه الفعل بشيءٍ يسير، ففيه رائحة الفعل،
(1)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 468)، والسراج المنير للشربيني (1/ 273)، وتفسير السعدي (ص: 160)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 194)، وتفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 530).
(2)
وهذا قولٌ قديم مشهور؛ ينظر في العين للخليل (7/ 389) والحيوان للجاحظ (3/ 209) وجمهرة اللغة لابن دريد (2/ 822)، وتهذيب اللغة للأزهري (12/ 311)، وثَمَّ قولٌ آخر وجَّهه ابن يعيش في شرح المفصل (3/ 389).
(3)
ينظر في تفسير الطبري (20/ 240) وابن جزي (2/ 224) وأبي السعود (7/ 261)، وفي زاد المسير لابن الجوزي (4/ 24).
وهذا كاف في جواز أن يتعلَّق به الجار والمجرور والظرف
(1)
، فإن اعتبرنا بهذا الجواز فقد زال الإشكال واستوى القولان في إمكان تعلق الجار والمجرور وإلا فإن القول الذي ذكره السمين الحلبي يكون أحسن في التعلُّق لسلامته من الإشكال الذي ذكره، ولسلامته من تقدير المحذوف، لأن التعلُّق فيه مباشر بلا تقدير.
هذا من حيث تعلُّق الجار والمجرور، أما من حيث أصل لفظ المفازة، فإن الأقرب مراعاة ما جاء في القرآن الكريم، وهذا أولى من مراعاة ما اشتهر في اللسان العربي، لأن القاعدة الترجيحية تقول:(حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك)
(2)
، فتُحمل (المفازة) على الاستعمال الذي جاء به القرآن، وهو جعلها مصدرًا.
وهذا الاستعمال هو الذي جاء به قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} كما سبق، وهو الذي جاء به قوله تعالى:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ: 31] على الصحيح من أقوال المفسرين وأهل اللغة، فإنهم جعلوها مصدرًا ولم يجعلوها اسم مكان
(3)
.
5) النتيجة:
الراجح أن (المفازة) مصدر من الفوز، وأن الجار والمجرور بعدها متعلُّق بها مباشرة، وهو الموافق لما جاء في القرآن الكريم، وهو المناسب في الآية، فإن الآية في سياق الحديث عن اليهود كما تقدم، وهي هنا في ذكر خداعهم وغرورهم بأنهم يفرحون بما يأتونه من الشر، ويحبون أن يُحمدوا على ما لم يفعلوه من الخير، فجاءت الآية تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاءً بهم بألا يحسب أن هؤلاء في فوزٍ عظيمٍ من العذاب كما يتوهمون رفعتَهم وعلوَ شأنهم، بل إن جزاءهم هو عذاب أليم.
وهذا المعنى في الرد عليهم والتهكم بهم يفيده المصدر بما يدل عليه من تعظيم الفوز وتأكيده، وأما إذا قلنا بأن (المفازة) اسم المكان فإن ذلك يفيد أنهم ليس لهم مكان ينجيهم من
(1)
ينظر في حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك (2/ 443).
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (1/ 172 - 178).
(3)
ينظر في تفسير الطبري (24/ 38)، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (9/ 111)، والتفسير البسيط للواحدي (23/ 136)، وتوضيح المقاصد للمرادي (2/ 1043)، وفتح القدير للشوكاني (5/ 445).
العذاب، ثم لا يكون لقوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} موقعٌ بعد ذلك إلا التأكيد، بخلاف ما في المعنى السابق، والله أعلم.
المبحث السادس: ترجيحات السمين الحلبي من آية (190) إلى آية (195)
وفيه إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى: أصل لفظ (الخلق) في قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]
•
أصل الخلاف في المسألة:
المصدر بُني في الأصل ليدل على الحدث، لكن قد يستعمل بناء المصدر في بعض الأحيان ليدل على الأعيان والذوات، وذلك في استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول
(1)
، ومن أشهر الأمثلة في ذلك وأقدمها: استعمال لفظ (الخلق) بمعنى المخلوق
(2)
، ويأتي الخلاف في الآية هنا من هذا الباب؛ هل لفظ (الخلق) في الآية مصدرٌ يدل على الحدث وهو خلق الله للكائنات، أو هو اسم مفعول يدل على الذوات وهي المخلوقات.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "و {خَلْقِ} يجوز أن يكون مصدرًا على حاله؛ أي: في اتحادهما وإبداعهما، ويرجِّح هذا عطفُ صريح المصدر عليه، وهو {وَاخْتِلَافِ} .
ويجوز أن يراد به المفعول كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]؛ أي: إن في مخلوقهما"
(3)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجِّح أن المراد بالخلق في الآية المصدر على القول بأنه المخلوق، ويظهر هذا من وجهين:
(1)
ينظر في المسائل الحلبيات للفارسي (ص: 303 - 304) ومعاني النحو للدكتور فاضل السامرائي (3/ 167).
(2)
ينظر في الكتاب لسيبويه (2/ 120)، والكامل للمبرد (3/ 230)، والأصول في النحو لابن السراج (3/ 111).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 375).
الأول: أنه صرَّح بما يرجِّح هذا القول، وذلك في قوله:(ويرجِّح هذا عطفُ صريح المصدر عليه)، ولم يذكر ما يرجِّح القول الآخر، فدل على أنه يرجِّح القول الأول.
الثاني: أن القول الأول هو الموافق لقاعدةٍ من قواعد الترجيح عنده، وهي:(إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى)، وذلك بإبقاء المصدر في الآية على حاله كما عبَّر بذلك هنا، لا في استعماله بمعنى اسم المفعول.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
لم أقف على من تعرَّض لهذه المسألة في هذه الآية إلا قليل
(1)
، ومن أهل العلم من تعرَّض لها عند الآية المماثلة لها في مطلعها من سورة البقرة، وهي قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية إلى قوله: {لَأيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، والقول في مطلع الآيتين واحد.
فمن المفسرين والمعربين من رجَّح هنالك بأن لفظ (الخلق) مصدر باقٍ على حاله
(2)
، وقليلٌ من رجَّح أنه بمعنى المفعول
(3)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل للقول بأن الخلق في الآية مصدر بدليلين:
الأول: أن هذا هو ظاهر اللفظ من غير تجوُّز في معناه، فإن الأصل في لفظ (الخلق) والمعهود في مثل وزنه أن يكون مصدرًا يدل على الحدث.
الثاني: السياق، وذلك فيما ذكره السمين الحلبي، من عطف المصدر عليه في قوله:{وَاخْتِلَافِ} ، فالملائم مع ذكر المصدر الصريح بعده أن يكون ما قبله مصدرًا أيضًا،
(1)
ينظر في تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه للشيخ محمد علي طه الدرة (2/ 343)، و وينظر أيضًا في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 445)، وكأنه يرجِّح القول الثاني.
(2)
ينظر في الكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (1/ 422)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (2/ 77).
(3)
ينظر في اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (3/ 117).
فيجتمع المصدران في إفادة كونهما آياتٍ لأولي الألباب
(1)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن لفظ (الخلق) في الآية أُريد به المخلوق بدليلين أيضًا:
الأول: الاستدلال بالكثرة والشهرة في اللغة، فكثيرًا ما يأتي المصدر في اللغة بمعنى المفعول
(2)
، ومن أشهر الأمثلة في ذلك أن يأتي الخلق بمعنى المخلوق كما تقدم.
الثاني: الاستدلال بالمناسبة، فإن الله ذكر أن في هذا الخلق آيات، والآياتُ التي تُشاهد إنما هي في الأعيان والذوات التي هي المخلوقات، وليست في الحدث الذي هو الخلق
(3)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر أن الأولى إبقاء المصدر على حاله خصوصًا أنه لم يأت ما يوجب صرفه عن ذلك، وهذا هو المتوافق مع القاعدة الترجيحية التي ذكرها السمين الحلبي كما تقدم.
وأما القول بأن الآيات المشاهدة هي المخلوقات، فإنه لا يُوجب صرف المصدر عن أصله، لأنه قد جاء العطف بعده بالمصدر الصريح، وهو (الاختلاف)، وهذا المصدر حَدَثٌ لا يُشاهد، وإنما تُشاهد آثاره، وكذلك يقال في المصدر قبله وهو (الخلق).
وأما الاستدلال بكثرة وشهرة استعمال لفظ (الخلق) بمعنى المخلوق فإن هذا لم يُخرِج لفظ (الخلق) عن مصدريته، بل استعماله في اللغة بمعنى المصدر حقيقةٌ لم تُهجر، وإنما جعله بمعنى المفعول هو المجاز
(4)
، فإذا كانت الحقيقة باقية فالأولى البقاء عليها حتى يأتي ما يُوجب الصرف عنها.
والسياق يشير إلى أن (الخلق) مصدر كما ذكر السمين الحلبي، وأيضًا، فإن هذا هو المتناسب في إضافة {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى لفظ (الخلق)، فتكون الإضافة هنا أقوى، من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، بخلاف القول بأن الخلق بمعنى المخلوق فإن الإضافة في تلك الحالة لن تكون قوية؛ إذ السماوات والأرض مخلوقة أضيفت إلى مخلوق، ولو كان المراد المخلوقات من السماوات والأرض وحدها لجاء الحديث عنها مباشرة دون الحاجة إلى إضافتها
(1)
وينظر أيضًا في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 445).
(2)
ينظر في شرح المفصل لابن يعيش (1/ 63)، وشرح الشافية للرضي (2/ 347)، وحاشية الصبان (2/ 478).
(3)
ينظر في تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه للشيخ محمد علي طه الدرة (2/ 343).
(4)
ينظر في حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك (1/ 32).
إلى لفظ (الخلق) كما في قوله: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3].
والقول بأن لفظ (الخلق) مصدر أعم من حيث المعنى، ويشمل القول الآخر، بل إن القول الآخر فرعٌ عنه؛ قال ابن عاشور في الآية التي في سورة البقرة:"و (الخلق) هنا بمعنى المصدر، واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض، وللعبرة أيضًا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها، فكما أن كل مخلوق منها أو فيها هو آية وعبرة فكذلك مجموع خلقها"
(1)
، فالقول بأن (الخلق) مصدر يشمل المعنى الآخر وزيادة.
5) النتيجة:
الراجح أن لفظ (الخلق) في الآية مصدر باق على حالة، فإن ذلك أولى من التجوُّز به، وهذا القول أعمُّ في المعنى ويشمل القول الآخر، وذلك أولى من تخصيص المعنى بغير ما يُوجب التخصيص.
كما أن هذا القول أقرب في الدلالة على فعل الله وهو محل العبرة.
هذا، وقد أثار الرازي عند الآية التي في سورة البقرة مسألةً فلسفية، هل (الخلق هو المخلوق) أو هو غيره؟ وهي مسألة متشعبة تقلَّدها أكثر الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، وفرُّوا بذلك من أن يقال إن الخلق فعلٌ قائم بالله، فقالوا إن الخلق هو المخلوق، وهي إحدى المسالك التي يتفرَّع عنها نفي الصفات، وأهل السنة على خلاف ذلك
(2)
.
وقد كان من تشعُّب هذه المسألة أن أوردها بعض النحاة في كتبهم وصار النقاش في بعض تفاصيلها يستند إلى مسائل لفظية، وبعض الذين يقولون بأن لفظ (الخلق) في تلك الآية بمعنى المخلوق يستندون إلى هذه الفلسفة
(3)
، والله الهادي.
(1)
التحرير والتنوير (2/ 77)، ثم أشار في الصفحة بعدها إلى أن القول الآخر فرعٌ عن الأول.
(2)
ينظر تفصيل المسألة في مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/ 528) وما بعد ذلك.
(3)
ينظر في تفسير الرازي (4/ 152 - 153)، وأمالي ابن الحاجب (2/ 702 - 703)، وتفسير ابن عرفة (1/ 196 - 198).
المسألة الثانية: المراد بالذكر في قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف في الهيئات المذكورة في الآية: {قِيَاما وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ؛ هل جاءت مقصودةً لذاتها أو أنها جاءت على سبيل استغراق جميع الهيئات التي يمر بها الإنسان، وينتج عن هذا تحديد المراد بالذكر ليتناسب مع هذه الهيئات المذكورة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والظاهر أن المراد: الذكر باللسان، ويجوز بالقلب، وبمجموع الأمرين.
والظاهر أيضًا أن الذكر بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير، كقولك: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ونحو ذلك.
وذهب ابن عباس إلى أن المراد بالذكر الصلوات، وأن ذلك بحسب أحوال المكلفين، فالقادر الصحيح يصلي قائمًا، والعاجز عن القيام يصلي قاعدًا، والعاجز عن القعود يصلي مضطجعًا على جنبه، كما في الحديث:(صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك)
(1)
…
وقيل: عبَّر بذلك عن صلاة الليل خاصة؛ أي: ما صلاها قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، وقيل: في النفل مطلقًا من ليلٍ أو نهار، والمتنفل يخيَّر بين القيام والقعود؛ إذ إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم"
(2)
.
(1)
رواه البخاري في صحيحه (2/ 48/ 1117) من حديث عمران بن حصين.
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 377 - 379).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المراد بالذكر في الآية هو الذكر باللسان، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والظاهر أن المراد: الذكر باللسان)، والقول الظاهر عنده يقدِّمه ويفضِّله على غيره من الأقوال.
الثاني: أنه أعاد لفظ الترجيح في تفصيل هذا القول، وبيَّن وجهه وكيفيته، وذلك في قوله: (والظاهر أيضًا
…
)، وقوله: (كقولك
…
)، والبيانُ التام للقول مع ذكر الراجح في كيفيته يدل على أنه يختار هذا القول ويعمل به.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
إطلاق الذِّكر في كلام أهل العلم ينصرف إلى القول بأن المراد من الذِّكر في الآية ذِكْرُ اللسان، سواء كان برفع الصوت أو بدونه، وهذا هو قول الجمهور كما ذكره بعض المفسرين
(1)
، بل كتب التفسير تكاد تطبق على هذا القول
(2)
، وإن كان بعضهم يذكر حديث عمران بن حصين في الصلاة، لكنهم لم يخصصوا معنى الآية به، وذَكَر الآيةَ عددٌ من المحققين أثناء تعرضهم للكلام عن الذكر باللسان
(3)
.
وهو المروي عن ابن جريج
(4)
، وهو الظاهر مما روي عن مجاهد وقتادة
(5)
.
(1)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 549)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 469).
(2)
ينظر في تفاسير العلماء: الطبري (6/ 309) والزمخشري (1/ 453) وابن عطية (1/ 554) والرازي (9/ 460) والقرطبي (4/ 310) والبيضاوي (2/ 54) وابن كثير (2/ 184) والشوكاني (1/ 470) والآلوسي (2/ 368) والقاسمي (2/ 480) والسعدي (ص: 161)، والشنقيطي (6/ 107)، والعثيمين: سورة آل عمران (2/ 541).
(3)
ينظر في أحكام القرآن لابن العربي (1/ 399)، والأذكار للنووي (ص: 12)، والكلم الطيب لابن تيمية (ص: 14)، والصواعق المرسلة لابن القيم (4/ 1480)، وجامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 511).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 309)، وابن المنذر في تفسيره (2/ 534).
(5)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 309) عن قتادة وعزا ذلك القول إليه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 842) عن مجاهد وقتادة وجعل قولهما وجهًا آخر في تفسير الآية في مقابل قول ابن مسعود رضي الله عنه، وسيأتي.
وقد قال بعض المفسرين إن المراد هو الذكر بالقلب سواء قارنه الذكر باللسان أو لا
(1)
.
ومن المفسرين من حمل الذِّكرَ في الآية على أن المراد به الصلاة
(2)
، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وفيه ضعف
(3)
، والأشبه في الرواية أنها في الآية الأخرى المشابهة لهذه الآية، وهي قوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، فإن روايته قد ذُكرت هنالك
(4)
.
وعزا الثعلبي هذا القول إلى علي بن أبي طالب وابن عباس والنخعي وقتادة
(5)
، وحكى بعض أهل العلم هذا القول عن الحسن البصري، وعن الضحاك في تفسيره
(6)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
استدل السمين الحلبي على أن المراد بالذكر في الآية هو الذكر باللسان بأن هذا هو الظاهر المتبادر للذهن في مدح الذاكرين أن يكون المراد بالذكر هو الذكر باللسان، كما قال تعالى:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، وكما قال في ذم المنافقين:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلا} [النساء: 142]، فعلى هذا المعنى يدور المدح والذم.
3) أدلة القول الثاني في المسألة
استدل من قال بأن المراد في الآية ذكر القلب بالسياق، وذلك أن الآيات سيقت لبيان حال أولي الألباب الذين يجدون في خلق السماوات والأرض آيات تدل على توحيد الله وإخلاص الدين له، وهذا الاستدلال وهذا التوحيد أصله في القلب
(7)
.
(1)
ينظر معاني القرآن للزجاج (1/ 499)، وتفسير أبي السعود (2/ 129)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 245).
(2)
ينظر في أحكام القرآن للجصاص (3/ 247)، والوجيز للواحدي (ص: 248).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 841) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 212)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 329):"إسناده منقطع، وفيه جويبر، وهو متروك"، وفيه الانقطاع بين الضحاك وابن مسعود، ومدار الأثر على جويبر، وبنحو هذا ضعَّفه الطحاوي في أحكام القرآن (1/ 231)، وتبعه النحاس في معاني القرآن (1/ 524).
(4)
رواه الطحاوي في أحكام القرآن (تقدَّم، وهو من نبَّه لذلك)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1056) أيضًا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 666) إلى ابن أبي شيبة، ورأيته في مصنفه (2/ 231) أنه في آيتنا هذه، والله أعلم.
(5)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 549)، وتبعه البغوي في تفسيره (1/ 555)، وقد تقدَّم قول قتادة، ولم أقف على رواية ابن عباس إلا في الآية الأخرى عند ابن أبي حاتم من نفس الطريق عن ابن مسعود، وتقدَّم مدار تلك الطريق وما فيه.
(6)
حكى الجصاص في أحكام القرآن (تقدَّم) قول الحسن، وحكى السرخسي في المبسوط (1/ 212) قول الضحاك.
(7)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 499).
4) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
يستدل على أن المراد بالذكر في الآية الصلاة -فرضًا كانت أو نفلًا، في ليلٍ أو نهار- بالمناسبة، وذلك في الهيئات المذكورة من القيام والقعود والاضطجاع، فالتدرج المذكور فيها يوافق التدرج في حال المصلي، كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)
(1)
، إلا أن التدرُّج في صلاة الفرض إنما يكون في حال الاضطرار، وهو في النفل على سبيل التفضيل بين القيام وبين القعود.
5) الموازنة بين الأدلة:
الذكر الذي في القلب في كلام أهل العلم ينصرف إلى أحد أمور ثلاثة
(2)
:
الأول: ذكر الله بالقلب عند أوامره ونواهيه، فينتهى عما نهى عنه، ويمتثل ما أمر به، ويتوقف عما أشكل عليه، فهذا وإن كان يسمى ذكرًا كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]، إلا أنه ليس هو المراد بالذكر عند الإطلاق، وإنما المعهود بالذكر ذكرُ اللسان.
الثاني: التفكُّر في عظمة الله وجلاله وجبروته وملكوته وآياته، في أرضه وسماواته، فهذا أشبه بالتأمل والتفكر، فيكون عطف التفكُّر في الآية بعده فيه تكرار، ويكون الذكر والتفكر في الآية مترادفين، وهذا يخالف قاعدة الترجيح التي سبق ذكرها عن السمين الحلبي:(حمل ألفاظ الوحي على التباين أرجح من حملها على الترادف).
الثالث: استحضار الأذكار من التسبيح والتهليل ونحوه من أذكار اللسان إذا لم ينطق بها اللسان، وهذا ناقص، فمن المعلوم أن ذكر اللسان مع حضور القلب هو الأكمل، وليس المراد بذكر اللسان في المسألة هنا أن يكون تمتمةً لا روح لها.
وأما الاستدلال بالسياق على ذكر القلب، وأن الآية أقرب في الإشارة إلى عمل القلب، لأنه هو المناسب مع قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
(1)
رواه البخاري في صحيحه (2/ 48/ 1117)، وفي رواية الحاكم في المستدرك (2/ 328/ 3172) أن أحد الرواة من أتباع التابعين وهو إبراهيم بن طهمان ذكر الآية ثم روى الحديث.
(2)
ينظر في إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (8/ 189).
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وذلك لأن الاستدلال بخلق السماوات والأرض عمل قلبي، فهذا لا يمنع من القول بأن المراد ذكرُ اللسان، لأن ذلك الاستدلال أُشير إليه بلفظ التفكر في الآية، وبقي وصفهم الظاهر وهو الذكر باللسان، وهذا أبين في وصفهم؛ أن يكون الذكر بأمرٍ ظاهر عليهم، وهو الذكر باللسان، فتكون الآية قد بدأت في وصف أولي الألباب بالأمر العام الظاهر عليهم، وهو ذكرهم الله بألسنتهم في كل أحوالهم.
وأما القول بأن المراد بالذكر في الآية الصلاة فإنه لا يتناسب مع السياق
(1)
، فإن الآية سيقت في مدح أولي الألباب بذكرهم، والمناسب مع المدح أن يكون ذكرهم كثيرًا في كل الأحوال والهيئات، وأما إن قيل إن المراد بالذكر الصلاة، فإن ذكرهم سيكون في هيئة واحدة؛ إما قيامًا إن استطاعوا، أو قعودًا إن عجزوا عن القيام، أو على جنوبهم إن عجزوا عن القعود، وتلك رخصة من الله يقوم بها كل مسلم في صلاته، وليست حالًا يُمدح بها أهل الذكر، ويظهر البُعد أكثر في صلاة النافلة إذا كان المرء قادرًا على القيام وصلَّى قاعدًا، فإنه لا يمدح بذلك، ولذلك كان أجره على النصف من أجر القائم.
والقول بأن المراد بالذكر في الآية الذكرُ باللسان هو أعم من القول بأن المراد بالذكر الصلاة، فهو أحق بالمدح، ويدخل فيه الذكر في الصلاة، فالقول بالعموم أولى.
والمناسب في تفسير الهيئات المذكورة في الآية هو ما ذكره ابن جرير الطبري، بأنهم يذكرون الله قيامًا في حال الصلاة، وقعودًا في كل الأحوال التي يقعدون فيها؛ في الصلاة وغيرها، وعلى جنوبهم في حال سكونهم وارتياحهم
(2)
، وبهذا القول يحصل العموم في كل الأحوال؛ في الصلاة وفي خارج الصلاة، وبيان ذلك أن القيام حال شغل، فالمناسب أن يُربط بالشغل الذي جاء به الشرع، وهو الصلاة، والقعود في الغالب حال فراغ، فالمناسب له العموم في كل قعود، والاضطجاع لا يُحمد إلا في حال الاستجمام والارتياح، فيُربط بهذه الحال، والله أعلم.
6) النتيجة:
الراجح أن المراد بالذكر في الآية ذكرُ الله باللسان، فإنه هو الظاهر المعهود في المراد بالذكر، وهو المناسب مع المدح في الآية؛ لأنه الوصف الذي يظهر على المرء، بخلاف ذكر القلب،
(1)
ينظر في تفسير أبي السعود، وتبعه الآلوسي في روح المعاني (وقد تقدَّما)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 196).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 309).
ولأنه أعم من القول بأن الذكر هو الصلاة والذكر في الصلاة فرعٌ عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يفرض الله على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًّا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله؛ قال: اذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال"
(1)
.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (19/ 124).
المسألة الثالثة: الحكم المستنبط من قول الله تعالى: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
هذه مسألة فقهية متفرعة عن القول السابق بأن المراد بالذكر في الآية الصلاة، وهل يُعتدُّ بهذا القول أو لا، فما تكون حال الرجل إذا لم يستطع الصلاة قائمًا ولا قاعدًا؟ وسبب الخلاف تعدد الأحاديث في ذلك، وتعدد الروايات في الحديث الواحد.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله بعد الفراغ من المسألة السابقة في المراد بالذكر في الآية: "وإذا قلنا إنها الصلاة ففيها دليلٌ ظاهرٌ للشافعي رحمه الله، حيث قال في العاجز عن القعود أنه يضطجع على جنبه الأيمن، كالميت في لحده، فيُفضي بوجهه إلى القبلة ويُومئ برأسه.
وعند أبي حنيفة: يستلقي على قفاه، وهو محجوج بالآية.
ويدل للشافعي أيضًا حديثُ عمران بن حصين حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك؛ تُومئ إيماءً»
(1)
"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
سبق أن السمين الحلبي لم يرجِّح أن المراد بالذكر في الآية الصلاة، لكنه لا يبطل هذا القول، ولم يتكلم هنا في ترجيح أصل القول، وإنما تكلَّم في مسألة تتفرع عنه ورجَّح فيها، فهو يرجِّح أن الذي لا يستطيع الصلاة قائمًا ولا قاعدًا أنه يصلي على جنبه، ويظهر هذا الترجيح من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه استدل لهذا القول بالآية والحديث ولم يستدل للقول الآخر.
الثاني: أنه تعقَّب القول الآخر بأن الحجة عليه بالآية، فهو يبطل هذا القول ولا يعتدُّ به، ويرجِّح القول الأول في المسألة.
(1)
رواه البخاري في صحيحه (2/ 48/ 1117).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 380 - 381).
الثالث: أن شافعي المذهب ويرجِّح ما ذهب إليه الشافعي، ويظهر هذا الوجه في اعتماده لمذهب أصحابه الشافعية في هذه المسألة وكلامه في تفصيلها، حيث قال بعد الفراغ منها:"نعم؛ عندنا خلاف فيمن قال له الطبيب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك؛ هل يجوز في حقه هذا أم لا؟ "
(1)
، فهو يوافق مذهبه في الاضطجاع على الجنب، ويبين أن الاستلقاء على الظهر ليس قولًا في مذهبه إلا في حالة مخصوصة على خلافٍ في ذلك.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ذهب الشافعية وأكثر المفسرين إلى القول بأن العاجز عن القيام والقعود يصلي على جنب، واستشهدوا بالآية في ذلك
(2)
.
وهو قول الشافعي وأصح الأوجه في مذهب الشافعية
(3)
، وهو مذهب الحنابلة أيضًا
(4)
.
وذهب الحنفية إلى أن مَنْ عجز عن القعود فإنه يصلي مستلقيًا على ظهره
(5)
.
وهذا هو المروي عن أبي حنيفة
(6)
.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما ما يؤيد كلا القولين
(7)
، وذكر بعض أهل العلم أن مذهبه في ذلك أن مَنْ عجز عن الصلاة على جنبه فإنه يصلي مستلقيًا على ظهره
(8)
.
وقال مالك بالتخيير بين الأمرين
(9)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 381).
(2)
ينظر في التعليقة للقاضي حسين (2/ 852)، وشرح السنة للبغوي (4/ 112)، والكشاف للزمخشري (1/ 453)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 399)، وتفسير الرازي (9/ 460) والبيضاوي (2/ 54)، وكفاية النبيه لابن الرفعة (4/ 91)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 368).
(3)
ينظر في الأم للشافعي (1/ 100)، (7/ 301)، والمجموع شرح المهذب للنووي (4/ 316).
(4)
ينظر في المغني لابن قدامة (2/ 108)، ومنتهى الإرادات لابن النجار (1/ 322).
(5)
ينظر في أحكام القرآن للطحاوي (1/ 235)، والمبسوط للسرخسي (1/ 213)، وبدائع الصنائع للكاساني (1/ 106)، والهداية للمرغيناني (1/ 77) وشرْحها (البناية) للعيني (2/ 639)، والبحر الرائق لابن نجيم (2/ 123).
(6)
رواه الطحاوي في أحكام القرآن (1/ 236).
(7)
رواه عبد الرزاق في المصنف (2/ 474، 476)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 245).
(8)
ينظر في السنن الكبرى للبيهقي (2/ 437).
(9)
ينظر في المدونة للإمام مالك (1/ 171)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 554).
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل القول بأن الاضطجاع على الجنب يكون بعد العجز عن القيام والقعود، وهو أمران
(1)
:
الأول: ما أشارت إليه الآية، وذلك في قوله:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ، حيث ذكر الاضطجاع على الجنب بعد القيام والقعود، ولم يذكر الاستلقاء على الظهر.
والثاني: حديث عمران بن حصين، وهو صريحٌ في المسألة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:(صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك)
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل الحنفية للقول بأن الذي لا يستطيع القيام ولا القعود أنه يصلي مستلقيًا على قفاه بما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى قفاه)
(3)
، وبما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المريض: إن لم يستطع قاعدًا، فعلى القفا
(4)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
الذي يظهر أن الدليل على القول بالاضطجاع على الجنب أقوى، لأن الدليل عليه آيةٌ وحديثٌ صحيح ثابت، بخلاف دليل القول بالاستلقاء على الظهر، فإن الحديثين المذكورين فيه لم تثبت روايتهما في كتب السنة بنفس اللفظ الذي استدلوا به؛ أما حديث علي رضي الله عنه فإنما روي بلفظ آخر:(فإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا صلَّى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلَّى مستلقيًا ورجلاه مما يلي القبلة)
(5)
، فإن كان هذا اللفظ هو الثابت من حديث علي رضي الله عنه فإنه لا يكون حجة للقول بأن الاستلقاء
(1)
ذكرهما الماوردي في الحاوي الكبير (2/ 197)، وبيَّن وجه دلالة الآية الكشميري في فيض الباري (2/ 546).
(2)
رواه البخاري في صحيحه (2/ 48/ 1117).
(3)
ذكره الحنفية بهذا المعنى ولم يبينوا رواته ولا حاله؛ ينظر في البناية للعيني (2/ 639)، وذكره الماوردي فيما تقدم عنه.
(4)
ذكره الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 106)، ولم أقف عليه مسندًا بهذا اللفظ، وسيأتي بيان المسند منه.
(5)
رواه الدارقطني في سننه (2/ 377/ 1706) والبيهقي في الخلافيات (3/ 83/ 2126)، ومداره على حسن بن حسين العرني؛ ضعَّفه أهل العلم كما في نصب الراية للزيلعي (2/ 176)، والتلخيص الحبير لابن حجر (2/ 640).
على الظهر يكون بعد العجز عن القعود
(1)
.
وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه روي بلفظ: (المريض يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فمضطجعًا)
(2)
، وهو بهذا اللفظ يُحمل على أنه الاضطجاع على الجنب وليس على القفا، لأن ذلك هو المعهود في اللغة
(3)
، ولأنه جاء بيانه في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
وبهذا يتبين أن الحديثين يتبعان حديث عمران بن حصين، فهما حجة للقول بأن الاضطجاع على الجنب هو المقدَّم بعد العجز عن القعود
(4)
.
واعترض بعض أهل العلم على حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بأنه حالة مخصوصة، فإن عمران بن حصين ذكر في الحديث أنه كانت به بواسير فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فأرشده إلى أن يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب؛ قالوا: فأرشده النبي أن يصلي على جنبه لأنه لا يمكنه أن يستلقي على قفاه بسبب ما به من البواسير
(5)
، ويمكن الجواب عنه بأمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بجواب عام يشمل حالته وحالة غيره من المرضى، فذكر له القيام في أول الأمر، وليست علة البواسير على ما فيها من الأذى بمانعةٍ من القيام
(6)
.
الثاني: أنه قد ذكر أهل العلم أن النسائي روى الحديث عن عمران بن حصين، وزاد:(فإن لم تستطع فمستلقيًا؛ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286])
(7)
، فأرشده النبي
(1)
ذكره الزيلعي في نصب الراية (2/ 177).
(2)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين (3/ 538) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (3/ 83/ 2127)، وذكر أنه غير محفوظ بذلك الإسناد، وإنما المحفوظ هو الموقوف عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم عزوه.
(3)
قال الأزهري في تهذيب اللغة (1/ 217): "إذا قالوا: صلَّى مضطجعًا، فمعناه أن يضطجع على شقه الأيمن".
(4)
وبذلك استدل البيهقي في كتابه الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه (3/ 82 - 84).
(5)
ينظر في المبسوط للسرخسي (1/ 213)، وفتح القدير لابن الهمام (2/ 4).
(6)
ينظر في فتح الباري لابن حجر (2/ 588).
(7)
ذكر الزيادة ابن قدامة في المغني (2/ 106) والمجد ابن تيمية في المنتقى (ص: 284) والزيلعي في نصب الراية (2/ 175) وابن الملقن في البدر المنير (3/ 519) وابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 636) والعيني في البناية (2/ 636)، ولم أقف عليها في كتب النسائي، وعزاها النفراوي أيضًا في الفواكه الدواني (1/ 242) إلى ابن صخر.
صلى الله عليه وسلم إلى الاستلقاء على الظهر إن لم يستطع إن يصلي على جنبه، وهذه الزيادة إن ثبتت فهي نصٌّ على أن الاستلقاء على الظهر إنما يكون بعد العجز عن الاضطجاع على الجنب
(1)
.
ثم الشأن في الآية التي نحن فيها، فإنها أشارت إلى أفضلية الاضطجاع على الجنب على غيره من حالات الترفق وطلب الراحة، وحتى إن قلنا بأن الآية في الذِّكر، وأن المذكور فيها من القيام والقعود والاضطجاع على الجنب إنما يراد به عموم حالات الإنسان، فإن الآية أشارت إلى أن هذه الحالات الثلاث هي الأصول وغيرها مما يماثلها يكون تابعًا لها، وعليه فيكون الاستلقاء على الظهر تابعًا للاضطجاع على الجنب ولا يكون مقدَّمًا عليه عند إمكانه؛ قال الشهاب الخفاجي:"لمَّا حصر أمر الذاكر في الثلاثة دل على أن غيرها ليس من هيئته، والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غيره، فتأمَّل"
(2)
.
5) النتيجة:
الراجح أن من عجز عن القيام والقعود في الصلاة فإنه يضطجع على جنبه الأيمن، لأن الآية أشارت إلى أن الاضطجاع على الجنب أفضل من غيره، ولأن الأحاديث ثبتت في بيان ذلك.
وهذا أبلغ في استقبال القبلة، فإن المضطجع على جنبه يستقبل القبلة بكل بدنه، بخلاف المستلقي على ظهره، فإنه يستقبل السماء ببدنه
(3)
، ثم إنه يُكلَّف بالاستناد إلى وسادة أو نحوها لأجل أن يستطيع أن يستقبل القبلة بوجهه
(4)
، فالاضطجاع على الجنب أرفق به.
(1)
ينظر في التنبيه لابن أبي العز (2/ 717)، وفتح القدير لابن الهمام (2/ 5)، وفيض القدير للمناوي (4/ 198).
(2)
حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (3/ 88).
(3)
ينظر في المغني لابن قدامة (2/ 108).
(4)
ينظر في فتح القدير لابن الهمام (2/ 4).
المسألة الرابعة: المراد من عموم ذكر الله على كل أحوال الإنسان
•
أصل الخلاف في المسألة:
عاد السمين الحلبي إلى القول الذي رجَّحه بأن المراد بالذكر في الآية الذكر باللسان على كل أحوال الإنسان، وذكر مسألة متفرعة عن هذا القول تتعلق بمكانة الذكر، فهل يستفاد من عموم ذكر الله على كل أحوال الإنسان مشروعية الذكر في الخلاء وعند قضاء الحاجة استزادةً من الذكر لأجل فضله وعظيم أجره، أو أنه ينهى عن ذلك تنزيهًا للذكر وتشريفًا لمحلِّه.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في هذه الآية أيضًا بالنسبة إلى العموم في الأحوال والأمكنة، والمشهور أن ذلك مخصوص عند القاضي حاجته، لا سيما في الكنف المُعدَّة لذلك، ومذهب الشافعي أن ذكر الله في ذلك المكان وفي هذه الحالة حرام.
وإذا كان يحرم عليه الدخول بشيءٍ فيه ذكر الله تعالى أو ذكر رسوله فالنطق به أولى بالحُرمة،
…
وممن أخذ بظاهر الآية وعمومها عبد الله بن عمرو وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين؛ يجوز أن يذكر الله حتى في هذه الحالة وهذا المكان.
وكره ذلك ابن عباس والشعبي وعطاء. كراهةُ ذلك يجوز أن تكون كراهة تنزيه كما هو الظاهر، وأن تكون كراهة تحريم، وهو الأليق بحالهم"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجِّح القول بأن العموم في ذكر الله على كل الأحوال الوارد في الآية ليس على إطلاقه في كل موطن، بل هو مخصوص ومقيَّد، فلا يجوز ذكر الله في حالة قضاء الحاجة وفي مكان قضاء الحاجة، ويظهر هذا الترجيح من أربعة وجوه:
الأول: أنه قدَّم القول بالتخصيص، ووصفه بأنه المشهور كأنه يقتصر عليه في المسألة.
الثاني: أنه استدل له بالقياس، وجعله من باب أولى وأحرى وذلك في قوله: (فالنطق به
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 381 - 383).
أولى بالحُرمة)، ولم يستدل للقول الآخر.
الثالث: أنه ذكر أنه مذهب الشافعي، وهو شافعي المذهب.
الرابع: أنه تعقَّب القول الآخر ولم يتركه، بل ذكر من كرهه من الصحابة والتابعين، وجعل الأليق بحالهم أنهم يرون تحريمه، فأولى به هو أنه يرى ذلك أيضًا.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
صرَّح بعض أهل العلم بجواز ذكر الله في مكان الخلاء
(1)
.
وروي ذلك عن محمد بن سيرين، ورويت الكراهة عن ابن عباس من الصحابة وأبي وائل الأسدي وأبي ميسرة وعبد الله بن أبي الهذيل من التابعين، وهو الظاهر مما روي عن الحسن البصري، وروي عن إبراهيم النخعي والشعبي كراهية قراءة القرآن في تلك الحال، وروي عن عطاء بن أبي رباح أن الملائكة لا تشهد على الخلاء
(2)
.
وحمل أهل العلم الكراهة المذكورة عن بعض الصحابة والتابعين أنها للتنزيه وليس للتحريم
(3)
.
والقول بالكراهة هو المشهور في المذاهب الأربعة: الحنفية
(4)
والمالكية
(5)
والشافعية
(6)
والحنابلة
(7)
.
وكذلك حُملت الكراهة المذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنها كراهة التنزيه
(8)
.
(1)
ينظر في مستخرج أبي عوانة (2/ 367)، والعلل لابن أبي حاتم (1/ 585 - 587)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 554)، وتفسير القرطبي (4/ 310 - 311)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 468)
(2)
روى ذلك كله ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 108) إلا أثر الشعبي فرواه ابن الضريس في فضائل القرآن (ص: 42) وأثر عبد الله بن أبي الهذيل فرواه أبو نعيم في الحلية (4/ 359)، وأما ما ذُكر عن النخعي من تجويز ذلك فروايته هو والشعبي في المصنف إنما هي بتجويز الحمد لمن عطس في الخلاء، وهي حالٌ خاصة، لا يؤخذ منها إطلاق الجواز.
(3)
ينظر فيما ذكره النووي في شرح صحيح مسلم (4/ 65) وفي المجموع شرح المهذب (2/ 89).
(4)
ينظر في فتح القدير لابن الهمام (1/ 213)، والبحر الرائق لابن النجيم (1/ 257).
(5)
بسط الحطاب في مواهب الجليل (1/ 274) أقوالهم في ذلك، ثم ختم بأن المشهور المنع، وأنه محمول على الكراهة.
(6)
ينظر بحر المذهب للروياني (1/ 139)، وشرح صحيح مسلم (4/ 65) والمجموع شرح المهذب (2/ 89) للنووي.
(7)
ينظر في الكافي لابن قدامة (1/ 98)، وغذاء الألباب للسفاريني (2/ 490).
(8)
ينظر في صحيح ابن خزيمة (1/ 104)، وصحيح ابن حبان (3/ 83، 87)، وسيأتي ذكر الحديث.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل على النهي عن ذكر الله في أماكن الخلاء وفي حال قضاء الحاجة بأمرين:
الأول: ما ثبت في السنة من الدلالة على كراهية ذكر الله في حال قضاء الحاجة، فقد روى عبد الله بن عمر "أن رجلًا مرَّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلَّم، فلم يرد عليه"
(1)
، وجاء عن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسَلَّم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال (إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طُهر أو قال: على طهارة)
(2)
، فهذا يدل على كراهية ذكر الله في حال قضاء الحاجة، وإن كان ذلك الذكر واجبًا
(3)
.
الثاني: ما ذكره السمين الحلبي من قياس الأَولى، فإذا كان يُنهى عن دخول الخلاء بكتابٍ فيه ذكر الله تعالى، فإن النهي عن الإفصاح عما في الكتاب والنطق به من باب أولى.
وأيضًا، فإنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام الواجب في حال قضاء الحاجة تنزيهًا، فغيره من الذكر المستحب من باب أولى
(4)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يستدل للقول بجواز ذكر الله في مكان الخلاء وفي حال قضاء الحاجة بأن ظاهر الآية العموم في كل الأحوال، فيدخل فيها حال الخلاء، وكذلك جاء العموم في حديث عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"
(5)
، وجاء الأمر بذكر الله مطلقًا من غير استثناء كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا} [الأحزاب: 41]، وقوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]
(6)
.
(1)
رواه مسلم في صحيحه (1/ 281/ 370).
(2)
هو مروي في سنن أبي داود (1/ 5/ 17) -واللفظ له- والنسائي (1/ 37/ 38) وابن ماجه (1/ 126/ 350)، وصححه النووي في الأذكار (ص: 26) والألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 45).
(3)
ينظر في شرح السنة للبغوي (1/ 382)، ونيل الأوطار للشوكاني (1/ 99 - 100).
(4)
ينظر في المغني لابن قدامه (1/ 123).
(5)
رواه مسلم في صحيحه (1/ 282/ 373).
(6)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 554)، وتفسير القرطبي (4/ 310 - 311).
4) الموازنة بين الأدلة:
أما ما جاء من الإطلاق في ذكر الله في هذه الآية وغيرها فإن السنة هي التي تبين آيات القرآن وتوضحها، والذي ثبت في السنة إنما هو كراهية ذكر الله في الخلاء، وذلك بالامتناع من رد السلام في تلك الحال، لأن السلام يتضمن ذكر الله ودعاءه، ولو كان الذكر في تلك الحال غير مكروه لم يمتنع النبي صلى الله عليه وسلم من رد السلام.
وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام الأصلَ في تنزيه الذكر في قوله: (إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طُهر أو قال على طهارة)، ففي هذا بيان أن الذكر مكروه في الأحوال التي تخالف الطُهر والطهارة، وأشد تلك الأحوال حال التخلي وقضاء الحاجة.
وقد شهِد القياس لهذا المعنى فيما ذكره السمين الحلبي من المنع من دخول الخلاء بشيء في ذكر الله، وكذلك أيضًا ما جاء من المنع من إقامة الصلاة في مواضع النجاسة، والصلاة إنما هي ذكرٌ ودعاء.
وأما ما ثبت في السنة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، فقد ذكر ابن القيم ما مضمونه أن هذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه كان يذكر ربه في حال طهارته وجنابته، وأما في حال التخلي فلم يكن أحدٌ يشاهده حتى يحكي سنته في ذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم شرع لأمته من الأذكار قبل التخلي وبعده ما يدل على مزيد الاعتناء بالذكر، وأما عند نفس قضاء الحاجة فلا ريب أن لا يُكره بالقلب، لأنه لا بد لقلبه من ذكر، ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من هو أحب إليه، فلو كُلِّف القلب نسيانه لكان تكليفًا بالمحال، فأما الذكر باللسان على هذه الحالة فليس مما شُرع لنا ولا نَدبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في هذه الحال استشعار الحياء والمراقبة والنعمة عليه في هذه الحالة وهي من أجل الذكر، فذكر كل حالٍ بحسب ما يليق بها، واللائق بهذه الحال التقنُّع بثوب الحياء من الله تعالى وإجلاله
(1)
.
5) النتيجة:
الراجح أن إطلاق الذكر في الآية لا يفيد مشروعية الذكر في حال الخلاء، لأنها حالٌ مستثناة ثبتت كراهيتها في السنة، فيكون حكمها الكراهة لا التحريم، لكن تعظُم الحرمة إذا
(1)
ينظر في الوابل الصيب لابن القيم (ص: 67 - 68).
قصد بذلك امتهان الذكر وتحقيره، بل قد يؤدي ذلك إلى الكفر والعياذ بالله
(1)
.
وقد ثبت في النصوص الدلالة على شرف الذكر ومكانته، فقد جعل الله أشرف الهيئات لأجله، وهي الصلاة، فقال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، أي: لتذكرني فيها
(2)
، وجعل الله أشرف الأماكن لأجله، وهي المساجد، فقال:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وهذا كله يدل على تنزيه الذكر أن يكون في مكان النجاسة أو في حال قضاء الحاجة.
(1)
ينظر في فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى (4/ 70 - 71).
(2)
وقيل: أقم الصلاة عندما تذكرها؛ ينظر في تفسير الطبري (16/ 32 - 33)، وزاد المسير لابن الجوزي (3/ 154)
المسألة الخامسة: وجه النصب في قول الله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا}
•
أصل الخلاف في المسألة:
تعددت أوجه النصب في قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا} ، وكل وجه منها لا يخلو من إشكال، فلأجل ذلك رجَّح كل عالم ما ظهر له أنه أسهل هذه الأقوال واقربها، ولم يتفق أهل العلم على ترجيح أحد هذه الأوجه.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وفي انتصاب {بَاطِلا} خمسة أوجه، أظهرها أنه حالٌ من {هَذَا}؛ أي: ما خلقته في هذه الحال، بل في حال الحقِّ الثابتِ الظاهرِ الحكمةِ والصواب، وحينئذ يكون من الأحوال اللازمة الذِّكر التي لا يستغنى عنها، لئلا يلزم نفي الفعل من الأصل، وليس ذلك مُرادًا قطعًا، وهو كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، فـ {لَاعِبِينَ} حالٌ لازمة لئلا يلزم نفي الخلق رأسًا
…
كونه نعتًا لمصدر محذوف؛ أي: خلْقًا باطلا، وهذا هو الوجه الثاني من انتصاب {بَاطِلا}
…
الثالث: انتصابه على المفعول من أجله؛ أي: ما خلقته لأجل الباطل، فإن قيل: شرط المفعول له أن يكون مصدرًا وهذا وصف، فالجواب أن المصدر قد جاء على (فاعل) نحو: العاقبة والعافية.
الرابع: انتصابه على إسقاط الخافض وهو الباء؛ أي: ما خلقته بباطل، بل بحقٍّ وقُدره، ومثل هذا لا ينقاس.
الخامس: أنه مفعولٌ ثانٍ لـ (خلق)، لأنها بمعنى (جعل) المتعدية لاثنين، وهذا غلطٌ من قائله، لأن النحاة نصوا على أن (جعل) متى كانت بمعنى (خلق) تعدَّت لواحد
…
وكأن قائل هذا يريد التضمين؛ أي إن (خلق) ضُمِّنت معنى (جعل) التي بمعنى (صيَّر) فتعدَّت بتعديها؛
أي: ما صيَّرت هذا باطلًا بالخلق. غير أنه غير مساعد عليه في النقل، إذ لم ينص أحدٌ على ذلك، بل نصوا على ما ذكرته"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن قوله تعالى {بَاطِلا} حالٌ من اسم الإشارة {هَذَا} ، وهذا الترجيح ظاهرٌ من وجهين
(2)
:
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(أظهرها أنه حال)، وهذه الصيغة من أصرح الصيغ في الترجيح.
الثاني: أنه ذكر توجيه هذا القول وما يزيل الإشكال عنه، وذلك ببيان نوع الحال وأنها حال لازمة لا يستغنى عن ذكرها، وليست فَضلَةً من حيث المعنى.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
تباينت أقوال أهل العلم بين الوجوه المذكورة في المسألة، وأكثرهم جوَّز في المسألة أكثر من قول
(3)
، ومنهم من ذكر أن بعض هذه الأوجه متساوية في الرجحان
(4)
.
وغالب ترجيحات المفسرين مترددةٌ بين القول الأول
(5)
والثاني
(6)
.
وأكثر المعربين يرجِّح القول الثالث
(7)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 395 - 396).
(2)
وذكر السمين الحلبي أيضًا هذين الوجهين بنحوهما في الدر المصون (3/ 533).
(3)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 555) والرازي (9/ 462)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 188)، وتفسير أبي السعود (2/ 130)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 370).
(4)
ينظر في إعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش (2/ 131).
(5)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 470 - 471)، والسراج المنير للشربيني (1/ 275)، وتفسير الجلالين (ص: 94)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 198) وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 542).
(6)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 254)، والكشاف للزمخشري (1/ 454) وذَكره تقديرًا، وتفسير القرطبي (4/ 316) وفتح القدير للشوكاني (1/ 471).
(7)
ينظر في إعراب القرآن للنحاس (1/ 194)، ومشكل الإعراب لمكي (1/ 184)، والبيان للأنباري (1/ 235).
أما القول الرابع فقد اختاره البغوي في تفسيره
(1)
.
ولم أقف على من رجَّح الوجه الخامس في المسألة دون غيره.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل بأن وجه النصب في قوله تعالى {بَاطِلا} أنه حالٌ بأمرين:
الأول: أن هذا هو الظاهر السالم من الحذف والتقدير، وهو ما أشار إليه السمين الحلبي في قوله (أظهرها أنه حال)، فهو أبعد الأقوال عن الحذف والتقدير.
الثاني: أن هذا الوجه هو الموافق للآية في هذا المعنى، وهي الآية التي استشهد بها السمين الحلبي، وهي قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
مما يقوي أن قوله {بَاطِلا} صفة لمصدر محذوف أن هذا هو المتبادر للذهن في الباطل أن يكون وصفًا، ولعله لأجل هذا ذكر بعض المفسرين من أهل اللغة هذا القول ولم يذكر غيره
(3)
.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن قوله {بَاطِلا} مفعول من أجله بمناسبة المعنى، فنتيجة التفكُّر في خلق السماوات والأرض أن يعرفوا السبب العظيم الذي من أجله كان هذا الخلق، فناسب أن يكون الحديث عن هذه العلة بأن الله عز وجل لم يخلق السماوات والأرض من أجل الباطل.
5) أدلة القول الرابع في المسألة:
يمكن أن يستدل على أن قوله {بَاطِلا} منصوب بنزع الخافض بأن الأوجه المذكورة في النصب لا تسلم من الاعتراض، فالمناسب أن يكون أصل الكلمة بالخفض، وتكون منصوبة بنزع الخافض.
6) أدلة القول الخامس في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن قوله {بَاطِلا} هو المفعول الثاني للفعل (خلق) بما ذكره بعض
(1)
ينظر في تفسير البغوي (1/ 556)، وحكى السمعاني في تفسيره (1/ 388) هذا القول من غير ترجيح.
(2)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (2/ 1147)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (4/ 478).
(3)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 254).
أهل اللغة من أن الفعل (خلق) قد يأتي بمعنى الجعل والتصيير فيكون له مفعولان، وذلك في مثل قوله:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَة} [المؤمنون: 14]
(1)
، فيكون المعنى أن الله لم يجعل خلقه السماوات والأرض باطلا، وهذا أسهل من حيث الإعراب وإن كان فيه التجوز في المعنى.
7) الموازنة بين الأدلة:
ما يميز القول الأول الذي رجَّحه السمين الحلبي أنه هو الظاهر، وأما الأقوال الأخرى فإنها لا تخلو من حذفٍ وتقدير أو تجوُّز.
فعند القول بأن قوله {بَاطِلا} صفة يلزم تقدير مصدرٍ محذوف، وكذلك عند القول بأنه منصوبٌ بنزع الخافض يلزم تقدير حرف الجر المحذوف.
وعند القول بأنه مفعول ثان أو مفعول من أجله فإن ذلك لا يخلو من تسامح وتجوُّز لا تدعو الحاجة إليه؛ قال المنتجب الهمذاني في الكتاب الفريد: "يضعف أن يكون مفعولًا من أجله كما زعم الجمهور؛ أي: للباطل، لأن من شرط المفعول من أجله أن يكون مصدرًا، وليس هذا مصدرًا، وإنما هو اسم فاعل من (بطل الشيء) فهو باطل، وأما مصدره فـ (بُطْل وبُطلان وبُطُول)، وأما جعلهم اسم الفاعل هنا بمعنى المصدر، فعنه مندوحة بما ذكرت، لأن الشيء إذا أتى على أصله لا يخرج عن أصله لغير اضطرار، خصوصًا في الكتاب العزيز"
(2)
.
وكذلك يقال في التجوُّز في فعل الخلق بأنه بمعنى التصيير، فإن هذا لا يظهر بالتأمل لأنهم قصدوا معنى الخلق ولم يقصدوا معنى التصيير، فإن وجه الاستدلال بالآية هكذا:"ربنا أنت خلقت هذا، ومَن خلق هذا لم يخلقه باطلا، فأنت لم تخلق هذا باطلًا ولا عبثا"
(3)
.
وأما الاعتراض على القول الأول بأن الحال لا يكون إلا بعد تمام الكلام، وأن هذا لا يستقيم مع الآية هنا
(4)
، فقد أجاب عنه السمين الحلبي بأن الحال هنا ملازمة، وذكر له شاهدًا من القرآن على ذلك في قوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} ، فهي
(1)
ينظر في مشكل إعراب القرآن لمكي (2/ 497)، والمحرر الوجيز لابن عطية (2/ 41)، والتبيان لأبي البقاء العكبري (2/ 951)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (4/ 586)، والدر المصون للسمين الحلبي (8/ 322).
(2)
الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد (2/ 188).
(3)
الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية للطوفي (ص: 151).
(4)
ينظر في المسالك في شرح موطأ مالك لابن العربي (3/ 423).
من الأحوال التي لا يُستغنى عنها ولا يجوز حذفها، وهذا معروف في اللغة
(1)
.
8) النتيجة:
الراجح أن قوله {بَاطِلا} حال، وهو الموافق لما جاء في القرآن في هذا المعنى، فإن هذا الوجه هو أظهر الوجوه وأسلمها، وأما الوجوه الأخرى فلا تخلو من إشكالات.
أما الإشكال المذكور على هذا الوجه فالجواب عنه سهل بحمد الله من غير مخالفة لقواعد اللغة.
(1)
ينظر في شرح التسهيل لابن مالك (2/ 353)، وارتشاف الضرب لأبي حيان (3/ 1600)، والمساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل (2/ 6، 39).
المسألة السادسة: قول الله تعالى {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} هل يشمل المؤمن العاصي
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران: 192]
•
أصل الخلاف في المسألة:
هل المؤمن يمكن أن يخزى في الآخرة أو أن الخزي فيها إنما يكون على الكافرين؟
وبناء عليه جاء الخلاف في الآية؛ هل يراد بها الكافرين، أو هي تشمل كل من استحق دخول النار من كافرٍ أو مؤمن؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف أهل العلم فيمن دخل النار ثم خرج منها؛ هل يقال إنه مخزيٌ أم لا؟
فذهب جماعة منهم جابر بن عبد الله أنه مخزي، وهو ظاهر الآية، لأنه رتَّب وصفه بالخزي على مجرد الدخول، واختاره ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي؛ قالوا: وإن في دون ذلك لخزيا.
وذهب أنس وسعيد وقتادة ومقاتل وابن جريج إلى أنه لا يقال له مخزي؛ قالوا: الآية إشارةٌ إلى مَنْ يُخلدون في النار، أما مَنْ يخرج منها بشفاعةٍ وإيمانٍ فليس بمخزي"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجِّح أن من دخل النار من المؤمنين ثم خرج عنها أنه يقال عنه إنه مخزي، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه أثبت أن هذا القول هو ظاهر الآية، والظاهر عنده من الأقوال مقدَّمٌ على غيره.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 399 - 400).
الثاني: أنه بنى على هذا القول في تفسير الآيات بعد ذلك، فصرَّح به في موضعين آخرين من الكتاب، وذلك في قوله:"وسألوه وقاية العذاب في النار، لأن من دخلها أُخزي"
(1)
، ثم قال في تكملة الآيات، عند قوله تعالى:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 194]: "دَعَوا بأن لا يُخزَوا، وكأنهم أرادوا: ولا تدخلنا النار، لأنهم قد قالوا: {مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، فاستغنوا باللازم عن الملزوم"
(2)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
رجَّح القول الأول عددٌ من أهل العلم أن الآية في كل من دخل النار، فيقال عنه إنه مخزي بدخوله النار وإن خرج منها
(3)
.
وروي ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وعن والضحاك أن الله قد أخزاه حين أدخله النار
(4)
.
وجاء عن أنس رضي الله عنه، وعن الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج وغيرهم من التابعين ما يدل على أن الآية في شأن الكافرين
(5)
، وعليه فلا يُستدل بها على أمر المؤمنين، وتبعهم في ذلك عدد من المفسرين
(6)
.
وجعل الوعيدية من الخوارج والمعتزلة هذه الآية في كل من دخل النار من مؤمنٍ وكافر، وسلبوا عن المؤمن الذي استحق النار اسم الإيمان، وجعلوه كافرًا بسبب الخزي الذي لحقه،
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 414).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 418).
(3)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 313)، والتفسير البسيط (6/ 258) عن ابن الأنباري، والمحرر الوجيز (1/ 556)، وتفسير النسفي (1/ 322)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 247)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 550).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (تقدَّم) والحاكم في المستدرك (2/ 328/ 3173) عن جابر، وأصله في صحيح مسلم (1/ 179/ 191)، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 842) والنحاس في معاني القرآن (1/ 526) عن الضحاك.
(5)
رواه الطبري في تفسيره (6/ 312 - 313) عنهم إلا قتادة، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 842) عن أنس، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 427) عن سعيد، وابن المنذر في تفسيره (2/ 535) عن قتادة وابن جريج.
(6)
ينظر في الوجيز للواحدي (ص: 249)، وتفسير البغوي (1/ 556) والقرطبي (4/ 316) والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 472)، وتفسير الجلالين (ص: 95)، والسراج المنير للشربيني (1/ 275).
بحجة أن المؤمن لا يخزى في الآخرة
(1)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن من دخل النار من المؤمنين فإنه مخزي بدليلين:
الأول: ما ذكره السمين الحلبي من أن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن، وذلك من الإطلاق المذكور في الآية:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ، فالظاهر منه أنه يعم كل من دخلها من مؤمنٍ وكافر
(2)
.
الثاني: السياق، وذلك أنهم ذكروا هذا القول في سياق دعائهم بنجاة أنفسهم من النار وخزيها، فقالوا في دعائهم:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 191 رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 191 - 192]، فهذا إشارة إلى أن الخزي قد يلحقهم إنْ هم دخلوا في النار وإن كانوا سيخرجون منها بإيمانهم، ثم صرَّحوا بالدعاء وطلب السلامة من الخزي في قولهم:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فدل على أن الخزي قد ينال المؤمن في الآخرة
(3)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن الآية في شأن الكافرين، فيكون الخزي المذكور فيها لا يُراد به أهل الإيمان بدليلين:
الأول: أنه قد ثبت أن الخزي الذي في الآخرة لا يكون إلا على الكافرين، كما جاء حصر ذلك في قول أهل العلم في هذه الآية:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27]
(4)
، وقد جاء في آية أخرى أن الخزي لا ينال المؤمنين في الآخرة:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8].
(1)
ينظر في صحيح مسلم (1/ 179/ 191)، وتفسير الثعلبي (9/ 556) والكشاف للزمخشري (1/ 455).
(2)
وينظر في تفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 550).
(3)
ينظر في ظلال الجنة في تخريج السُّنة للألباني (2/ 414)، وهو تعليقات الشيخ في كتاب السُّنة لابن أبي عاصم.
(4)
ينظر في العواصم والقواصم لابن الوزير (9/ 290).
الثاني: أن في سياق الآية ما يشير إلى أنها في شأن الكافرين، لأنه جاء في آخرها:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ، والمراد بالظالمين: الكافرين، كما قال تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]
(1)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
الظاهر من الإطلاق المذكور في قوله {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أنه الخزي الذي يعم كل من دخلها من مؤمنٍ وكافر، لأن حكم الخزي معلَّق بالدخول، فيصح على كل من دخلها.
ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في السياق من أوله إلى آخره، فإنه لا يُتصور منه أنهم يعنون مجرد الدخول الذي يخص الكافرين، وأنهم لم يستعيذوا من الخزي الذي قد يلحق المؤمن إن دخل في النار.
والآية وإن كان في سياقها ذكرُ الكافرين الظالمين إلا أن تعوُّذهم بالله من النار قبل ذلك يشيرون به إلى ما يصيب المؤمنين، فيدخل المؤمنون في الخزي المذكور بعد ذلك، فتعوذوا بالله من الخزي كله، سواء الذي يلحق المؤمن أو الكافر، ثم أشاروا إلى حال الكافرين وأن لهم فوق الخزي ما هو أشد منه، وهو أنه لا نصير لهم.
ويمكن أن يقال إن الظالمين هنا هم الكافرون وعصاة المؤمنين الذين استحقوا النار، وأنه لا ناصر لهم من دون الله، فيبقى الكافرون في عذاب الله، وأما أهل الإيمان فإن الله ينصرهم وإن كانوا عصاة، فيخرجهم من النار برحمته، ويرفع عنهم الخزي.
وأما ما جاء من الإخبار بأن الخزي في الآخرة هو على الكافرين، فإن هذا لا ينفي أن بعض عصاة المؤمنين يلحقهم خزيٌ بسبب ذنوبهم، كما لحق الكافرين خزيٌ بسبب كفرهم.
وأما قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ، فهذا على وجه العموم، ولا يُشكل عليه أن بعض المؤمنين قد يلحقهم خزي، فإنه "لا يَصدُق إذا أُخزي مؤمنٌ واحدٌ أو بعض المؤمنين أن الله قد أخزى المؤمنين"
(2)
.
(1)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 472).
(2)
العواصم والقواصم لابن الوزير (9/ 309)، وينظر في تفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 550 - 551).
وقد أخبر الله أن الخزي قد يلحق المؤمن العاصي في الدنيا، كما في قوله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33]، فما المانع أن يلحقه شيء من الخزي في عقوبة الآخرة، كما لحقه في عقوبة الدنيا، ثم تكون عاقبة أمره إلى الجنة.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام وقاية الخزي في الآخرة، فقال:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87]، وكذلك أصحاب هذه الآية:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فدل على أن الخزي قد ينال المؤمن في الآخرة، لكن لا يخزي الله المؤمنين جميعًا في الآخرة.
ويمكن أن يقال أيضًا إن المراد بالخزي المذكور في قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ، وقوله:{إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أن ذلك الخزي العظيم والكبير، وهو خزي الكافرين الخالدين في النار، كما جاء بيانه في قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]، أما المؤمن الذي استحق النار فإنه وإن لحقه الخزي في دخولها إلا أنه لن يكون من أهل الخزي العظيم.
والخزي في دخول النار يكون في حال العقوبة فقط، لأن الخزي هو الفضيحة، وذلك إنما يكون في حال العقوبة بالنار، ثم إذا خرج المؤمن العاصي منها فإنه لا يكون في خزي، بل يكون في رحمة الله ودار كرامته، وكما لا يُعيَّر المؤمن بعد العقوبة الشرعية في الدنيا، فإنه لا يُعيَّر بعد العقاب في الآخرة
(1)
.
5) النتيجة:
الذي يظهر والله أعلم أن الخزي المذكور في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} يشمل كل من استحق دخول النار من كافرٍ أو مؤمن، فهذا الإطلاق هو
(1)
ينظر في العواصم والقواصم لابن الوزير (9/ 290).
ظاهر اللفظ، وهذا التعميم هو المناسب لسياق الدعاء والتضرع بين يدي الله تعالى.
والخزي الذي يناله بعض المؤمنين العصاة الذين استحقوا دخول النار إنما هو عقوبة لهم بسبب ذنوبهم، ولا يعني هذا أن الله قد أخزى جميع المؤمنين أو أنه سبحانه أوقع الخزي العظيم على أولئك العصاة الذين استحقوا دخول النار؛ قال ابن عطية:"أما إنه خزيٌ دون خزي، وليس خزيُ مَنْ يخرج منها بفضيحةٍ هادمةٍ لقَدْرِه، وإنما الخزي التام للكفار"
(1)
.
اللهم أجرنا من النار، وأدخلنا الجنة برحمتك يا رحيم يا غفار.
(1)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 556).
المسألة السابعة: المراد بالمنادي في قول الله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف يرجع إلى النظر في كيفية النداء المذكور في الآية، فإن قيل إن المنادي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أشكل عليه الذي لم يرَ الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسمع نداءه، وإن قيل إنه دعوة الرسول صلى عليه وسلم الخالدة والمتمثلة في القرآن أشكل عليه أن القرآن لا يكون منه النداء والمناداة إلا بالتجوُّز.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في هذا المنادي، والظاهر أنه يعم جميع الرسل؛ إذ المراد الجنس، بل يعم أتباعهم الآمرين بأمرهم.
وقال ابن جريج وابن زيد: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 45 وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 45 - 46]، ويقول تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وقال محمد بن كعب القرظي هو القرآن، محتجًا بأن الناس كلهم لم يدركوا الرسول، والقرآن بعده بين أيديهم، وعلى هذا القول يستند النداء إلى هذا المنادي مجازًا، وعلى القول الأول حقيقةً"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المنادي الذي ينادي للإيمان في الآية يَعُمُّ جميع الرسل، ويعم أتباعهم كذلك، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 405 - 406).
الأول: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والظاهر أنه يعم جميع الرسل)، والظاهر عنده مقدَّمٌ على غيره.
الثاني: أنه أشار إلى اعتبار هذا القول عنده قبل ذكر المسألة، فذكر أنهم لما نظروا وعرفوا أحقيَّة ما جاءت به الرسل بادروا لتصديقهم، فإيمانهم جاء عقب نداء الرسل
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أكثر المفسرين يميلون إلى أن المنادي المذكور في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، وروي هذا عن ابن جريج وابن زيد
(3)
، وعزاه بعض المفسرين إلى ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم
(4)
.
وقد عمَّم السمين الحلبي القول في هذه المسألة، فلم يجعل المنادي هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه فقط، بل جعل المنادي هو جميع الرسل وأتباعهم.
أما القول بأن المنادي هو القرآن فهو مروي عن محمد بن كعب القرظي، واختاره الطبري وحمل عليه قولَ قتادة في الآية
(5)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
القول بأن المنادي يعمُّ جميع الرسل يمكن أن يستدل له بدليلين:
الأول: أن هذا هو الظاهر السالم من التجوُّز كما أشار إليه السمين الحلبي، فيكون النداء
(1)
ينظر فيما سبق من القول الوجيز، وقدَّم السمين الحلبي هذا القول على غيره في عمدة الحفاظ (4/ 158).
(2)
ينظر في تفسير البغوي (1/ 557)، والكشاف للزمخشري (1/ 455)، وتفسير القرطبي (4/ 317) والبيضاوي (2/ 55)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 473)، وتفسير ابن كثير (2/ 18)، وتفسير أبي السعود (2/ 132)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 373)، وتفسير السعدي (ص: 161)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 199).
(3)
رواه عنهما الطبري في تفسيره (6/ 315)، ورواه ابن المنذر في تفسيره (2/ 537) وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 843) عن ابن جريج وحده.
(4)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 561) والتفسير البسيط للواحدي (6/ 259) وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 361).
(5)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 314 - 315) وابن المنذر (2/ 536) وابن أبي حاتم (3/ 842)، وذكر ابن رجب في مجموع رسائله (1/ 205) أن المراد بالمنادي القرآن عند أكثر السلف، ويعارضه ما سبق عنهم، والظاهر أنه هو وغيره يذكرون هذا القول في باب فضل القرآن للاعتضاد وليس للاعتماد، كما في الموافقات للشاطبي (4/ 186).
على حقيقته، ويكون المنادي من البشر الذين أُرسلوا في الدعوة إلى الإيمان بالله، وهم أنبياء الله
(1)
.
الثاني: أن سياق الآية يشير إلى أنه نداء الرسل، فإنهم قالوا بعد ذلك:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 194]، فدل على أن الذي ناداهم للإيمان وذكر لهم وعدَ الله في ذلك أنهم الرسل
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
القول بأن المنادي في الآية مخصوصٌ بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يستدل له كذلك بدليلين:
الأول: أن هذا هو ظاهر اللفظ، لأن اللفظ جاء بالإفراد، فيكون المنادي هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا القرآن، ودعانا إلى الإيمان، كما قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 45 وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} .
الثاني: أن سياق الآية يشير إلى ذلك، لأن سياق الآية في الصحابة رضي الله عنهم، كما يفيده ذكر الهجرة في قوله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ} [آل عمران: 195]، وجاء في سبب نزول هذه الآية أنها في المهاجرين من الرجال والنساء كما في حديث أم سلمة رضي عنها أنها قالت:"يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة"، فأنزل الله الآية
(3)
.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن المنادي في الآية هو القرآن بأن قول أولي الألباب هنا مثل قول
(1)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 473)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 455).
(2)
ينظر في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (ص: 89).
(3)
رواه الترمذي في الجامع (5/ 237/ 3023)، وصححه الحاكم في المستدرك (2/ 328/ 3174)، (2/ 451/ 3560)، ووافقه الذهبي، وينظر في تفسير الطبري (6/ 318)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 844)، وأسباب النزول للواحدي (ص: 139)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 247).
مؤمني الجن في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا 1 يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2]، فالآية هنا مثل الآية هناك، وكما أضاف الله الهداية إلى القرآن هناك، أضاف الله النداء إلى القرآن هنا
(1)
.
5) الموازنة بين الأدلة:
الأدلة بأن المنادي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى وأظهر، ولعل هذا أظهر من تعميم المنادي في جميع الأنبياء، فإن الآية في الصحابة أنفسهم كما دل عليه سبب النزول، فيكون المنادي هو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن من آمن به صلى عليه وسلم فقد آمن بجميع الرسل وصدَّق ما وعدت به جميع الرسل من النعيم في الآخرة، وعلى هذا يتوجه قوله تعالى في سياق الآية:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
لكن يشكل على القول بأن المنادي هو النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره محمد بن كعب القرظي من أن بعض الناس لم يسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون هو المنادي، وكيف يكونوا قد سمعوا نداءه؟ فالقرآن هو الدعوة الخالدة الباقية، فيصدق عليه أنه هو الوحيد المنادي للإيمان على اختلاف الأزمان، بخلاف البشر فإنهم لا يبقون في هذه الحياة الدنيا.
والجواب عنه أن الآية في الصحابة كما تقدَّم، وهم قد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقولهم وتضرعهم في الآية مطابق للواقع، ثم مِنْ بعدِهم يكون التأسي بهم في تضرعهم بالاقتداء بهم في إيمانهم واستجابتهم للمنادي إليه، فليست الآية فيما يظهر عامة في كل المؤمنين، وإنما عمومها في التأسِّي والاقتداء.
ثم إن من سمع القرآن فكأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤول القول إلى سماع ما نادى به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أساس دعوته هو القرآن، والقرآن إنما أتى عن طريقه
(2)
.
والقول أن المنادي هو القرآن فيه تجوُّز، والظاهر من لفظ الآية أن النداء على الحقيقة، وقد أشار إلى ذلك التكرار في قوله:{مُنَادِيا يُنَادِي}
(3)
.
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 314 - 315)، وتفسير الرازي (9/ 466).
(2)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 260)، وتفسير القرطبي (4/ 317).
(3)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 321)، وليس الخلاف هنا في سماع القرآن، وإنما هو في نداء القرآن أنه مجاز، ينظر ما سبق من القول الوجيز (ص: 408).
وأما الاستدلال بقول مؤمني الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا 1 يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} ، ففيه فرق عن المسألة هنا، فإن الهداية قد تحصل بالعلامات ونحوها من غير العاقل، كما في قوله تعالى:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وآيات القرآن تهدي إلى الرشد كالعلامات تهدي إلى الطريق، بخلاف النداء فإنه لا يكون إلا من العاقل.
6) النتيجة:
الراجح أن المنادي في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، لأن سياق الآيات نزل في الصحابة رضي الله عنهم، وهذا هو الظاهر الموافق للحقيقة.
وأما في امتثال الآية والعمل بها فإن المنادي يعمُّ كل من دعا إلى الإيمان، فمن استجاب لنداء الإيمان وبادر في ذلك، فتلك فضيلةٌ له من أعظم الفضائل التي يتوسل بها في دعائه وتضرعه بين يدي ربه عز وجل.
المسألة الثامنة: البلاغة في قول الله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}
•
أصل الخلاف في المسألة:
هذه مسألة بلاغية مبنية على معنى المغفرة والتكفير، ومعنى الذنوب والسيئات، فمن فرَّق بين هذه المعاني ذكر الفرق بين الجملتين في الآية، ومن جعل هذه المعاني متقاربة جعل الجملتين من باب التأكيد.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف المفسرون في قوله {ذُنُوبَنَا} و {سَيِّئَاتِنَا} ، فعن ابن عباس وجماعة أن الذنوب هي الكبائر، والسيئات هي الصغائر، وبه جزم الزمخشري، ويؤيده قوله تعالى:{إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
وقيل: الذنوب: ترك الطاعات المأمور بها، والسيئات: ارتكاب المعاصي المنهي عنها.
وقيل: الذنوب: الكبائر التي قبل الإسلام، والسيئات: الصغائر التي بعد الإسلام، وهذا كالذي قدمناه أولًا إلا أن هذا مقيَّدٌ بالزمان.
وقيل: سألوا غفران الذنوب، وهو محوها وعدم المؤاخذة بها، ثم سألوا ما يوقهم من الافتضاح بين خلقه. التكفير: التغطية، ومنه قيل للزارع: كافر، والليل: كافر، واللابس لسلاحٍ: تكفَّر؛ أي: ستر به، وذلك أنه لا يلزم من عدم العقاب على الذنب ألا يفتضح به، فسألوا ذلك ليأمنوا الافتضاح، وفيه نظر، لأن الغفران تغطيته أيضًا، ومنه المغفر، لأنه يستر الرأس، ولذلك ذهب جماعة إلى أنه من باب التأكيد والإلحاح في الدعاء، لا سيما إذا اختلف اللفظ من الجانبين؛ ألا ترى أن الغفران والتكفير متقاربان أو مترادفان، وكذلك الذنوب والسيئات"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 411 - 412).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجِّح أن قوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} أنه من باب التأكيد والإلحاح في الدعاء، على القول بأن بين الدعوتين فرقًا، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه قدَّم الأقوال في التفريق بين الذنوب والسيئات وبين المغفرة والتكفير ثم تعقبها بإثبات التقارب أو الترادف بين هذه المعاني، وإنما الذي اختلف هو اللفظ في الجملتين.
الثاني: أنه أشار إلى معنى التأكيد والإلحاح في الدعاء في مناسبة الآية فقال: "ثم زادوا في التضرع والخضوع بعد إجابتهم داعي ربهم، فأتوا بنداءٍ رابع سألوا فيه مغفرة الذنوب وتكفير السيئات والتوفي مع الأبرار، وما أحسن ما تلطفوا في هذه السؤالات، وقد ورد: «إن الله يحب الملحين في الدعاء» "
(1)
.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جمهور المفسرين على التفريق الجملتين؛ إما بالنظر إلى الفرق بين الغفران والتكفير
(2)
، أو بالنظر إلى الفرق بين الذنوب والسيئات، وهو قول أكثرهم
(3)
.
ولم أقف على قولٍ لابن عباس أو السلف أن الذنوب هي الكبائر والسيئات هي الصغائر.
وقد نُقل عن الضحاك أن الذنوب هي ما عملوه قبل الإسلام، وأن السيئات هي ما عملوه بعد الإسلام
(4)
.
ومن المفسرين من أثبت التقارب بين الجملتين، وأنهما للتأكيد
(5)
.
(1)
المصدر السابق: القول الوجيز (ص: 410)، وفي عمدة الحفاظ (2/ 48) جعل الذنوب تشمل الكبائر والصغائر.
(2)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 261)، والعواصم والقواصم لابن الوزير (9/ 101)، وفتح الرحمن لزكريا الأنصاري (1/ 104).
(3)
ينظر في تفسير السمعاني (1/ 389)، والكشاف للزمخشري (1/ 455)، وتفسير البيضاوي (2/ 55) والنسفي (1/ 322)، ومدارج السالكين لابن القيم (1/ 317 - 318)، وتفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 555).
(4)
ينظر في تفسير السمرقندي (1/ 274).
(5)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 556)، وتفسير القرطبي (4/ 317)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 471).
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل للتفريق بين الجملتين بأمرين:
أولًا: التفريق بين الذنوب والسيئات:
استدل من قال بأن الذنوب هي الكبائر والسيئات هي الصغائر بقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، فجعل الله السيئات هي الشيء الباقي بعد اجتناب الكبائر، فتكون السيئات هي الصغائر
(1)
.
واستدل بالسياق من قال بأن الذنوب هي الكبائر قبل الإسلام والسيئات هي الصغائر بعد الإسلام، لأنهم توسلوا إلى الله بإيمانهم، ثم فرَّعوا عليه طلب المغفرة فقالوا:{رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، فتكون الذنوب المرادة هي ما قبل الإيمان، والإيمان يجُبُّ ما قبله من الذنوب وإن كانت كبائر، ويكون تكفير السيئات متعلقًا بالصغائر التي بعد الإيمان، فإذا هداهم الله للإيمان وقاموا بالطاعات واجتنبوا الكبائر كفَّر الله عنهم السيئات الصغائر
(2)
.
ثانيًا: التفريق بين المغفرة والتكفير:
استدل من فرَّق بين المغفرة والتكفير أن التكفير في الغالب يكون بسبب الطاعات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)
(3)
، وهو مختصٌ بالصغائر دون الكبائر كما في هذا الحديث، وكما في الكفَّارة، فإنها ناشئة عن طاعة، وهي تختص بالصغائر في أصح القولين، وأما المغفرة فهي بفضل الله ورحمته، ولهذا كانت مع الذنوب الكبائر التي تحتاج إلى توبةٍ يقبلها الله بفضله ورحمته
(4)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
استدل جميع من قال إن الجملتين متقاربتين وأن الثانية تؤكد الأولى بما ذكره السمين الحلبي: أن المغفرة والتكفير في اللغة متقاربين، بل من المفسرين من اعتبر أن معناهما في اللغة شيءٌ
(1)
ينظر في البحر المحيط لأبي حيان (3/ 474)، ومدارج السالكين لابن القيم (1/ 318).
(2)
ينظر في نظم الدرر للبقاعي (5/ 159)، وروح البيان لإسماعيل حقي (2/ 148).
(3)
رواه مسلم في صحيحه (1/ 209/ 233) من حديث أبي هريرة.
(4)
ينظر في التفسير البسيط للواحدي (6/ 261)، ومدارج السالكين لابن القيم (1/ 318 - 319).
واحد
(1)
، وكذلك أيضًا الذنوب والسيئات، بينهما تقارب، وهذا التقارب أو الترادف بين هذه الألفاظ في اللغة يقوِّي جانب التأكيد.
ويمكن أن يستدل بأن الجملتين بمعنى واحد أنهما دعاء، وقد أجاب الله دعاءهم بقوله:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195]، فذكر تكفير السيئات فقط، ولم يذكر غفران الذنوب، فدل على أن تكفيره تعالى للسيئات استجابة قامت مقام الأمرين جميعا، وأنهما بمعنى واحد.
4) الموازنة بين الأدلة:
التقارب ظاهرٌ بين الألفاظ في المغفرة والتكفير وفي الذنوب والسيئات، ولهذا فإنه يدخل أحدها في الآخر، أو يقوم أحدها مقام الآخر، كما في استجابة الله للأمرين بقوله:{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ، ويدخل التكفير في جنس المغفرة، لأن المغفرة أعم، فهي بفضل الله ورحمته كما تقدَّم، وتدخل الذنوب في السيئات، لأن السيئة أعم، فإنها وُضعت في مقابل الحسنة
(2)
.
لكن هذا التقارب لا يعني أن هذه المعاني شيءٌ واحد، وأنه لا يُفرَّق بينها عند اقتران بعضها ببعض، بل المناسب التفريق بينها لأمرين:
الأول: أن هذا هو الموافق للقاعدة الترجيحية أن (التأسيس أولى من التأكيد)
(3)
، فيكون قوله تعالى {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} في التوبة من كبائر الذنوب، ويكون قوله تعالى {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} في طلب التجاوز عن الصغائر وقبول الأعمال الصالحة التي تكفرها.
الثاني: أن هذا هو المناسب للسياق، لأن السياق في دعاء الله ورجاء رحمته، فالمناسب هو التفريق وتكثير المعاني لأجل تتميم الرجاء بالعفو، واستيعاب جميع أنواع الخطايا
(4)
، وهذا المعنى
(1)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 467).
(2)
ينظر في مدارج السالكين لابن القيم (1/ 318) والعواصم والقواصم لابن الوزير (9/ 101).
(3)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 456).
(4)
ينظر في حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 387).
واردٌ في كثير من الأدعية النبوية التي تكون الجُمل فيها متقاربة في المعنى، لكن تختص كل جملةٍ منها بشيءٍ مبالغةً في التضرع والانطراح بين يدي الله، وهو أحسن من القول بأن هذا من باب التأكيد والإلحاح في الدعاء، فإنه لو أُريد مجرد التأكيد لأمكن أن يكون بتكرار اللفظ نفسه، كما في تكرار لفظ الاستغفار.
وهذا التفريق قد دل عليه استعمال الشرع لألفاظ المغفرة والتكفير والذنوب والسيئات:
أما الذنوب والسيئات فقد ثبت اختصاص لفظ السيئات بالصغائر، كما تقدَّم في قوله:{إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وإن كانت السيئات قد تستعمل فيما هو أعم من ذلك، لكن هذا التخصيص له اعتبار، وكذلك ثبت اعتبار وجود الكبائر في الذنوب، كما أشارت إليه الآيات في مؤاخذة الكافرين بذنوبهم، نحو قوله تعالى:{فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام: 6، والأنفال: 54]، وقوله:{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 11، الأنفال: 52، غافر: 21]، وذلك لا يكون بمجرد الصغائر.
وأما المغفرة والتكفير فقد جاء التكفير مختصًا بالصغائر، كما تقدَّم في الحديث، وكما في الكفَّارة، وجاءت المغفرة مع الكبائر التي تحتاج إلى توبة، ولأجل هذا اقترنت المغفرة بالتوبة في كثيرٍ من آيات القرآن، كقوله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وكقوله تعالى:{فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 39]، ونحوه من الآيات التي يُذكر فيها اسم الله (الغفور) بعد ذكر التوبة، وكقوله تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]، وقد أشار قوله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] إلى أن المغفرة يمكن أن تحصل بفضل الله ورحمته لا بسبب الطاعة كما في التكفير والكفَّارة.
وهذا الاستعمال يدل على التفريق بين هذه الألفاظ في الشرع، وإن كان بينها تقارب في اللغة.
وفوق ذلك فقد اختص لفظ الذنوب بالغفران من دون التكفير، كما في قوله {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقوله:{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71]، وقوله:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، واختص لفظ السيئات بالتكفير من دون الغفران، كما في قوله:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ} [الزمر: 35]، وقوله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة: 65]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، فهذا الاختصاص يدل على التفريق، فلو كان الجملتين بمعنى واحد لم يكن للاختصاص مزية، ولأمكن العكس.
5) النتيجة:
الراجح هو التفريق في المعنى بين قوله {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وقوله {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} ، لأن هذا هو الذي دل عليه الاستعمال في الشرع، ولأن الألفاظ هنا قد اقترنت في سياق الدعاء والرجاء، فالتفريق بينهما أتم في الرجاء، وأكثر في الدعاء، بخلاف ما إذا انفردت هذه الألفاظ فقد يقوم أحدها مقام الآخر.
والمعنى المناسب للتفريق بينها هنا أن تكون الذنوب هي الكبائر، والسيئات هي الصغائر، وهذا أنسب من تخصيص الذنوب بما كان قبل الإسلام، وتخصيص السيئات بما كان بعده، لأن المناسب في الدعاء هو العموم وتكثير المعاني، فحصل تكثير المعاني بذكر الكبائر والصغائر، وحصل العموم بترك تخصيص ذلك بما قبل الإسلام وما بعده، والله أعلم.
المسألة التاسعة: المراد بالدعاء في قول الله تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف في المعية في قوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} ؛ إذ أنه لا يمكن أن تحصل هذه المعية على حقيقتها، لا في الزمان ولا في المكان، بأن يتوفوا مع الأبرار في زمن واحد أو في مكان واحد، فلا بد من التجوُّز، بأن تكون الوفاة بمعنى الحشر، أو تكون (مع) بمعنى (في) أو (على).
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والظاهر أنهم أرادوا أن يكونوا مصاحبين لهم في المكان، وفي التفسير: معهم في الجنة.
وقيل: عبارةٌ عن الصُّحبة لهم في الحال والوصف؛ أي: اجعلنا أبرارًا؛ أي: توفَّنا معدودين في جملة الأبرار، وفيمن اتصف بذلك، كقوله:{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] "
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المراد بالدعاء {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} طلبُ مصاحبتهم في المكان، ويظهر هذا الترجيح في قوله:(والظاهر أنهم أرادوا أن يكونوا مصاحبين لهم في المكان)، والظاهر عنده مقدَّمٌ على غيره من الأقوال.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جمهور المفسرين على أن المراد بالآية الصحبة في الحال والوصف، فذكروا أن المراد من قوله
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 412).
{مَعَ الْأَبْرَارِ} ؛ أي: في جملة الأبرار
(1)
، والقليل القليل من المفسرين من وافق السمين الحلبي في أن الصحبة في المكان، فذكروا أن المراد من الآية: واحشرنا مع الأبرار
(2)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي دليل القول بأن المراد بالصحبة في الآية صحبةُ المكان بأن هذا هو الظاهر، ولعله يشير بهذا إلى سلامة هذا المعنى من الحذف والتقدير، بخلاف القول الآخر، فإنه يلزم منه التقدير.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
أشار السمين الحلبي إلى دليل القول الآخر بأن الصحبة في الآية صحبةُ الحال والوصف، وهو موافقة المعنى لما في الآية الأخرى من قوله:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، فهذا الدعاء بطلب التوفي على الإسلام واللحاق بالصالحين موافق للدعاء الذي في الآية بطلب التوفي مع الأبرار
(3)
.
4) الموازنة بين الأدلة:
لا يمكن حمل الجملة على ظاهرها بطلب التوفي مع الأبرار "وذلك أن التوفي مع الأبرار محال، لأن بعضًا منهم تقدَّم وبعضًا لم يوجد"
(4)
، فلا بد من التجوز إما بفعل التوفي فيكون بمعنى الحشر ونحوه؛ أي: واحشرنا مع الأبرار، وهذا على القول بأن الصحبة في المكان، وإما أن يكون التجوز في الحرف (مع) فيكون بمعنى (في)؛ أي: توفَّنا في جملة الأبرار، أو يكون بمعنى (على)؛ أي: توفنا على أعمال الأبرار
(5)
، وهذا على القول بأن الصحبة في الحال والوصف.
(1)
ينظر في تفسير الثعلبي (9/ 562)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 262)، والكشاف للزمخشري (1/ 455)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 556)، وتفسير الرازي (9/ 467) والقرطبي (4/ 317)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 474)، وبدائع الفوائد لابن القيم (2/ 208)، وتفسير ابن كثير (2/ 18) وأبي السعود (2/ 132) والسعدي (ص: 161)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 200)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 556).
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 316) والسمرقندي (1/ 274) وفتح الرحمن للعليمي (2/ 75).
(3)
ينظر في تفسير الراغب الأصفهاني (3/ 1050).
(4)
حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 388)، وينظر في روح المعاني للآلوسي (2/ 375)، وحاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 456)، وتفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 556).
(5)
ينظر في فتح البيان لصديق حسن خان (2/ 402).
وبهذا يتميز القول الأول بأنه أظهر من حيث سلامته من الحذف والتقدير، وإن كانت الأقوال كلها لم تسلم من التجوُّز.
ومما يرجِّح القول الأول ما ذكره السمين الحلبي من القاعدة الترجيحية بأن (التجوز في الأفعال أولى من التجوز في الحروف) وذلك لقوة الأفعال وضعف الحروف
(1)
.
وإن كان القول الآخر قد تميز عن القول الأول بوجوه ثلاث:
الأول: موافقة الآية الأخرى كما سبق، وبهذا يحصل رد معاني القرآن بعضها إلى بعض.
الثاني: أنه أعم ويتضمَّن القول الأول، فإن مَنْ صاحبهم في الحال والوصف سيصاحبهم في المكان حيث التكريم.
الثالث: أن الصحبة في المكان لا تقتضي من الكمال مثل ما تقتضيه الصحبة في الحال والوصف
(2)
.
ثم إن الاستدلال بالظاهر ليس قويًّا في هذه المسألة؛ إذ كل الأقوال لا تخلو من المجاز كما سبق، وإن كان المجاز في القول الأول أحسن لأنه مجازٌ بالفعل، لكن المعنى الذي ذكروه في مجاز الفعل يصعب الحمل عليه، فإنه يصعب حمل معنى التوفي على معنى الحشر للبُعد بين المعنيين.
5) النتيجة:
الراجح أن معنى الصحبة في قوله {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} أنها صحبة الحال والوصف، لأنه أكمل في المعنى، وأحسن في الدعاء، ولأنه الموافق للآية الأخرى نحوه.
ثم هو أعم ويتضمن القول الآخر فهو أحقُّ بالترجيح والاعتبار به، والله أعلم.
(1)
ينظر في الدر المصون (2/ 29)، (2/ 287 - 288)، (5/ 357)، (10/ 445).
(2)
ينظر في أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل لزين الدين الرازي (ص: 58).
المسألة العاشرة: وجه الموصول في قول الله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُواْ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
الخلاف يرجع إلى المذكورين في الآية؛ هل هم طائفة واحدة أو أنهم عدة طوائف، لأن لفظ الآية يحتمل الأمرين.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والظاهر من الآية أن هذا الموصول عبارةٌ عن قومٍ جمعوا بين هذه الصفات الخمس المفهومِ من الصِلات المتعاطفة؛ أي: فالذين جمعوا بين المهاجرة، وكونهم مُخرجين من ديارهم، ومُؤذَين في سبيل الله، وقاتلين، ومقتولين: لأكفرن عنهم.
ويجوز أن تكون الصلات موزعة على أصناف؛ لكل صنفٍ صفة، والتقدير: فالذين هاجروا، والذين أُخرجوا، والذين أُوذوا، والذين قاتلوا، والذين قتلوا= لأكفرن، فيكون أخبر عن الطوائف بقوله: لأكفرن.
وعلى الأول يكون قد أخبر عن طائفة واحدة جمعت تلك الصفات، وهو المتبادر إلى
الفهم كما قدمناه"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 437 - 438).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن المذكورين في قوله {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُواْ} أنهم طائفةٌ واحدةٌ جمعت الصفات المذكورة في الآية، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه قدَّم في بداية المسألة أن هذا هو القول الظاهر، والظاهر عنده هو المقدَّم
(1)
.
الثاني: أنه ختم المسألة بتأكيد ظهور القول الأول، وذلك في قوله: (وهو المتبادر إلى
الفهم كما قدمناه).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
كلام جمهور المفسرين والمعربين يفيد أن الآيات تتحدث عن طائفةٍ اتصفت بالصفات المذكورة في الآية كلها
(2)
.
ومن المفسرين من فرَّق بين بعض الأوصاف المذكورة أو أصحابها بما يقتضي اختصاص كل فريق بأحد هذه الأوصاف
(3)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن الآيات في طائفةٍ واحدةٍ بدليلين:
الأول: ما ذكره السمين الحلبي من أن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن بأن يكون الحديث في الآيات عن طائفةٍ واحدةٍ اتصفت بالصفات المذكورة في الآية، لأن الموصول ذُكر مرة واحدة، فالأقرب أنه لطائفة واحدة، ولأن الصفات المذكورة يظهر اتصال بعضها ببعض في
(1)
وكذلك ذكر في الدر المصون (3/ 542) أن هذا هو الظاهر.
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 322) والثعلبي (9/ 571)، والوسيط للواحدي (1/ 535)، وتفسير البغوي (1/ 557)، والكشاف للزمخشري (1/ 456)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 192)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 479)، ونظم الدرر للبقاعي (5/ 161 - 162)، ومعترك الأقران للسيوطي (3/ 262)، وفتح البيان لصديق حسن (2/ 404)، وتفسير السعدي (ص: 162)، وإعراب القرآن وبيانه لدرويش (2/ 141).
(3)
ينظر في تفسير الرازي (9/ 470) وأبي السعود (2/ 134)، وروح البيان لإسماعيل حقي (2/ 151)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 379)، وتفسير المنار لرشيد رضا (4/ 252)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 205).
موصوف واحد، فالهجرة متصلة بالإخراج من الديار والإيذاءِ في سبيل الله ومتسببة عن ذلك، ثم بعد الهجرة كان الجهاد والقتال في سبيل الله.
الثاني: ما جاء في سبب النزول وموافقة الواقع في حال المهاجرين، حيث إن الآيات نزلت في شأنهم كما تقدم من حديث أم سلمة
(1)
، والصفات المذكورة في الآية توافق ما حصل لهم رضي الله عنهم، فإنهم هاجروا إلى المدينة وأُخرجوا من ديارهم بالقهر والاستبعاد من مشركي مكة، وأُذوا في سبيل الله كثيرًا، وجاهدوا في سبيل الله وقاتلوا في مثل غزوة بدر، وجاهدوا في سبيل الله وقُتلوا في مثل غزوة أُحد.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن الآيات في أكثر من طائفة أن هذا هو مقتضى امتنان الله على عباده، بأن يستحق كل من اتصف ولو بواحدةٍ من الصفات المذكورة مغفرةَ الله ورحمته والفوز بجنته.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما من حيث المعنى فإن القول بأن الآية في أكثر من طائفة فيه تعميمٌ لفضل الله وثوابه ومغفرته ورحمته، وهذا هو المناسب في سياق الامتنان، لكن يمكن أن يشكل عليه الصفة المذكورة في قوله تعالى:{وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} ، فإن هذا الوصف لا يختص بمجرده بالأجر والثواب إلا إذا قارنه الصبر والاحتساب، ولا يقتضي المدح والكمال بمجرده، لأنه قد يُؤذى المرء في سبيل الله ولا يصبر، فيكون ذلك موضع ذم، كما في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].
وأما من حيث سياق الآية فإن الأنسب أن يكون الحديث في الآيات عن طائفة المهاجرين، لأن السياق يشير إلى أن الآيات نزلت فيهم، وتطابقُ الأحوال التي مرَّت عليهم.
وأيضًا فإن السياق يتناسب مع هذا القول من حيث إنه سياق مدح وثناء، ولم يذكر الموصول إلا مرة واحدة، ولو كان المراد أكثر من طائفة لناسب إعادة ذكر الموصول.
(1)
رواه الترمذي في الجامع (5/ 237/ 3023)، وصححه الحاكم في المستدرك (2/ 328/ 3174)، (2/ 451/ 3560)، ووافقه الذهبي، وينظر في تفسير مقاتل (1/ 322)، وتفسير الطبري (6/ 318)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 844)، وأسباب النزول للواحدي (ص: 139).
لكن يمكن أن يشكل على هذا القول ثلاث إشكالات:
الأول: أنه قد ذُكر الإخراج من الديار بعد ذكر الهجرة، فلو كان الحديث في الآيات عن طائفة واحدة للزم التكرار بأنهم خرجوا للهجرة وأُخرجوا من ديارهم، والجواب عنه كما ذكر ابن تيمية أنهم "اختاروا مفارقة الكفار ليقيموا دينهم، ولكن الكفار بعداوتهم أكرهوهم على هذه المهاجرة"
(1)
، وإنما ذكر الإخراج تشنيعًا على المشركين أنهم أساؤوا إليهم
(2)
.
ويحتمل أن يكون عملهم الأصلي هو الهجرة، ثم الأعمال المذكورة بعده هي تفصيل لهذا العمل بعد الإجمال
(3)
.
الإشكال الثاني: أنه قد جاء في أول الآية قوله تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} ، ثم ذكر هذه الأعمال، وليس المراد هذه الأعمال بمجموعها، بل بتفصيل كل واحدٍ منها أن الله لا يضيعه، وإلا لو كان المراد هو مجموع الأعمال لكان من اتصف بواحد منها يمكن أن يضيع عمله لأنه لم يتصف بالبقية
(4)
.
والجواب: أن قوله تعالى {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} هو قاعدة عامة في كل أعمال المهاجرين المقصودين بالآية، وليست مخصوصة بالأعمال المذكورة في الآية فقط، فلا يلزم من ذكر تلك الأعمال بعد هذه القاعدة العامة أن تكون تلك الأعمال مخصصة لهذه القاعدة.
ويحتمل أن يكون ذكر هذه الأعمال على وجه الاتصاف بها جميعًا من باب ذكر أشرف الأمثلة بعد ذكر القاعدة، فهؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال جميعًا هم أحق الناس بأن لا يضيع الله أجورهم.
الإشكال الثالث: قوله تعالى في القراءة الأخرى {وقُتلوا وقاتلوا}
(5)
، فيمكن أن يشكل على هذا أنهم إذا اتصفوا بهذه الأعمال جميعًا فكيف لهم أن يقاتلوا بعدما قتلوا.
والجواب: أن الآية هنا هي من الشواهد على أن الواو لا تقتضي الترتيب، فالآية هي في
(1)
جامع المسائل لابن تيمية (9/ 419).
(2)
ينظر في المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 557).
(3)
ينظر في حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 390)، وحاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (3/ 91).
(4)
ينظر في تفسير أبي السعود (2/ 134)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 379).
(5)
هي قراءة حمزة والكسائي وخلف؛ ينظر في التيسير لأبي عمرو الداني (ص: 321) والنشر لابن الجزري (2/ 246).
المقتولين بعد أن قاتلوا، ولا يشكل على هذا تقديم ذكر قتلهم أو تأخيره
(1)
.
5) النتيجة:
الراجح والله أعلم أن المذكورين في الآية هم طائفة واحدة اتصفت بالصفات المذكورة في الآية، لأن هذا هو الظاهر من إطلاق اللفظ، ولو أُريد أنهم عدة طوائف لناسب التفصيل دون الإطلاق، ولأن هذا هو المتوافق مع المخاطبين الذين نزلت الآية فيهم، وأشبه بالصفات التي اجتمعت فيهم، من المهاجرة في سبيل الله مع ما أصابهم من الإخراج من ديارهم والإيذاء في سبيل الله، ثم ما كان منهم من الجهاد والموت في سبيل الله، فوعدهم الله بأنه لن يضيع أعمالهم وأنه سيكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته، فهذه الآية مثل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ 4 سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ 5 وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6].
(1)
ينظر في إعراب القرآن للنحاس (1/ 195)، والكشف لمكي بن أبي طالب (1/ 373)، والوسيط للواحدي (1/ 535)، وكشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (1/ 282)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 237).
المسألة الحادية عشرة: وجه النصب في قوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الثواب يكون بمعنى الإثابة، ويكون بمعنى الشيء المُثاب به، فإن كان قوله {ثَوَابا} بمعنى الإثابة كان تأكيدًا للسياق بأن ما حصل لهم من الجزاء إنما هو إثابة من عند الله، وإن كان بمعنى الشيء المثاب به ففيه عدة أوجه تختلف في متعلقاتها
(1)
.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وفي انتصاب {ثَوَابا} ثمانية أوجه، أوجهها أنه منصوب على المصدر المؤكد من غير الصدر، لأن معنى الجملة التي قبله تفيده وتُفهِمُه، إذ معنى {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} معنى لأثيبنَّهم بذلك إثابةً أو تثويبًا، لأن هذين المصدرين لـ (أثاب) ولـ (ثوَّب)، فالثواب اسم مصدر، وإن كان في الأصل اسمًا لما يُثاب به، وهذا كما قالوا في العطاء أنه اسمٌ للشيء المُعطى، ثم يقع بمعنى الإعطاء، فـ {ثَوَابا} و {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88] و {وَعْدَ اللَّهِ} في الانتصاب على التأكيد بالمصدر.
الثاني: أنه منصوب على الحال من {جَنَّاتٍ} ، وجاز ذلك -وإن كانت نكرة- إما لأنه لا يُشترط فيها شرط، وهو قول سيبويه، وإما لكونها تخصصت بالجملة بعدها.
الثالث: أنه حالٌ أيضًا، لكن من مفعول (لأدخلنهم)؛ أي: لأدخلنهم ذوي ثواب؛ أي: مثابين.
الرابع: أنه حالٌ أيضًا لكن من الضمير في {تَحْتِهَا} العائد على {جَنَّاتٍ} ، وخَصَّص أبو البقاء كونه حالًا منها بكونه بمعنى الشيء المُثاب به، فقال: «وقد يقع الثواب بمعنى الشيء المُثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكون حالًا من ضمير الجنات؛ أي: مُثابًا بها
…
» (1).
الخامس: أنه بدلٌ من قوله: {جَنَّاتٍ} ، قالوا: لكنه على تضمين (لأدخلنهم):
(1)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 323).
لأعطينهم، قلت: وكأنهم إنما احتاجوا إلى ذلك لأن البدل يَحِلُّ محل المبدل منه، فيصير التقدير: ولأدخلنهم ثوابًا، لكن الثواب لا يصح تسلط الإدخال عليه، إذ ليس هو مما يُدخل فيه، ولقائلٍ أن يقول: يجوز أنه يُتجوَّز في الثواب مبالغة، فيجعل بمنزلة الظرف الحاوي لهم المشتمل عليهم، كأنه قال: ولأدخلنهم في ثواب من عند الله
…
السادس: نصبه بفعلٍ مُقدَّر؛ أي: نعطيهم ثوابًا، أو نثيبهم ثوابًا؛ أي: إثابة.
السابع: انتصابه على التمييز، وهو قول الفراء، فإن كان عنى التمييز صناعةً فأين المميز؟ وإن كان عنى غير ذلك فليُبيِّنه.
الثامن: انتصابه على القطع، وهو قول الكسائي، قلت: لمَّا نقل مكيٌّ هذا عن الكسائي فسَّر القطع بالحال.
قال الشيخ: «ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا»
(1)
؛ يعني قولي الفراء والكسائي، وقد قدَّمتُ أن مكيًّا فسَّر مذهب الكسائي"
(2)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن وجه النصب في قوله تعالى {ثَوَابا} أنه منصوب على التأكيد بالمصدر، ويظهر هذا من لفظ الترجيح الصريح بصيغة التفضيل (أوجهها)، وذلك في قوله في أول المسألة:(وفي انتصاب {ثَوَابا} ثمانية أوجه، أوجهها أنه منصوب على المصدر المؤكد).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
ترجيحات المفسرين والمعربين كلها تدور حول القول الأول
(3)
.
(1)
البحر المحيط لأبي حيان (3/ 480).
(2)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 440 - 442).
(3)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 500)، وتفسير الثعلبي (9/ 574) عن المبرد، والهداية لمكي (2/ 1206)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 265)، والكشاف للزمخشري (1/ 457)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 558)، والبيان لأبي البركات الأنباري (1/ 237)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 480)، وتفسير أبي السعود (2/ 134)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 380)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 574).
وأما بقية الأقوال فقد نقل المعربون جوازها
(1)
، ولم أقف على من رجَّح أحدها.
وأما قول الفراء فإنه يرى أن قوله {ثَوَابا} منصوبٌ على (التفسير)، وهو في معنى (التمييز) عند البصريين، وذكر السمين الحلبي في الدر المصون أن هذا قول غريب يبعُد فهمه
(2)
.
وقول الكسائي يعود إلى الأقوال السابقة أنه منصوب على الحال كما فسَّر قولَه مكي بن أبي طالب
(3)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول الأول بأمرين:
الأول: السياق، وذلك أن سياق الآية في معنى الإثابة، فإن الله ذكر أنه لن يضيع أعمالهم، وذلك إنما يكون بالإثابة عليها، وذكر الله تفصيل ذلك بأنه يكفِّر عنهم السيئات ويدخلهم الجنات، فهذا تفصيلٌ لإثابة الله لهم، فيكون قوله {ثَوَابا} إنما هو تأكيدٌ لمعنى الإثابة، وهذا ما أشار إليه السمين الحلبي بقوله:(لأن معنى الجملة التي قبله تفيده وتُفهِمُه).
الثاني: أنه قد جاء مثل هذا الوجه في القرآن في أمثلة أخرى، وذلك في الآيات التي ذكرها السمين الحلبي، في قوله تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وقوله:{وَعْدَ اللَّهِ} في أكثر من آية، منها قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقّا} [النساء: 122]، وقوله:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [يونس: 4].
3) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
لم أقف على دليل يخص أحد بقية الأقوال في المسألة، لكن يمكن أن يستدل لعمومها بأن الأصل في الثواب أن يكون بمعنى الشيء المُثاب به، كالعطاء فإنه في الأصل اسمٌ للشيء
(1)
ينظر في التبيان لأبي البقاء العكبري (1/ 323)، والكتاب الفريد للمنتجب الهمذاني (2/ 192).
(2)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 251)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 195)، وكشف المشكلات لجامع العلوم الباقولي (1/ 272) حاشية رقم (7)، وينظر في الدر المصون (2/ 544).
(3)
ينظر قوله في إعراب القرآن للنحاس (1/ 195)، وينظر في مشكل إعراب القرآن لمكي (1/ 185).
المُعطى، ثم يقع بعد ذلك بمعنى الإعطاء.
4) الموازنة بين الأدلة:
يمكن أن يرجِّح بقية الأقوال في المسألة على القول الأول ما جاء في القاعدة الترجيحية من أنه (إذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه فهو أولى)
(1)
، فالأولى إبقاء معنى الثواب على أصله، فيكون بمعنى الشيء المثاب به، ولا يُنقل إلى معنى الإثابة.
لكن يشكل على هذه الأقوال صعوبة توجيهها وبُعد المأخذ فيها، بخلاف القول الأول فإنه أسهل وأقرب في الصناعة، وله شواهد قرآنية تدل عليه.
وأما القول الخامس فلا يخلو من التجوُّز؛ إما في الفعل (لأدخلنهم)، فيكون بمعنى (لأعطينهم)، أو في الثواب فيكون كالشيء الذي يدخلون فيه، والقول الأول ليس فيه تجوُّز لأنه مصدرٌ على غير الصدر كما نبه عليه السمين الحلبي، وذلك نحو: قعدت جلوسًا، فلا يضرُّ فيه اختلاف نوع الفعل في (لأكفرن) و (لأدخلن) عن المصدر (ثوابًا).
وأما القول السادس فإنه بتقدير الفعل في الجملة تكون الجملة مستأنفة؛ أي: يعطيهم الله ثوابًا من عنده، فهذا فيه قطع لاتصال الكلام بعضه ببعض.
5) النتيجة:
الذي يظهر أن القول الراجح هو القول الأول، لأن له شواهد قرآنية تماثله، ولأن السياق يشهد له، فالسياق في معنى الإثابة، وهو يؤيد معنى التأكيد بالمصدر، لأن السياق في إثبات ثواب العاملين وأن أجورهم لا تضيع عند الله، فجاء تأكيد إثابتهم باللام ونون التوكيد في قوله:{لَأُكَفِّرَنَّ} ، وقوله:{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} ، ثم جاء تأكيد الكلام كله بالمصدر المؤكد:{ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
(2)
.
(1)
الدر المصون للسمين الحلبي (6/ 193).
(2)
ينظر في زهرة التفاسير لأبي زهرة (3/ 1556).
المبحث السابع: ترجيحات السمين الحلبي من آية (196) إلى آخر السورة
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: ما قيل في سبب نزول قول الله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ 196 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196 - 197]
•
أصل الخلاف في المسألة:
الوصف في الآية من التقلُّب في البلاد والموعظة فيها كأنها تحكي حالًا واقعةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل للآية سبب نزولٍ خاصٍّ بها؟
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "واختلف الناس في سبب إنزالها:
فعن ابن عباس وغيره: نزلت في أهل مكة؛ كانوا يرحلون الرحلتين شتاءً وصيفًا؛ لليمن والشام، ويجلبون الأمتعة، ويربحون الأرباح الخبيثة، فكأنه وقع في نفس بعض الأمة شيءٌ فنزلت، فهذه الآية مُسليةٌ لذلك الواقع في نفسه، وليس المخاطب بذلك رسول الله.
وعنه أيضًا أنها نزلت في اليهود، وكانت لهم الأموال والبضائع والمغانم يتقلبون فيها، والمؤمنون في قلٍّ من العيش، فنزلت مسلاةً لهم.
وقال الزمخشري وغيره أنه كان ناسٌ من المؤمنين يرون ما فيه الكفار من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا جوعًا وجهدًا.
وعن قتادة: نزلت في مشركي العرب.
وكلها تمثيلات، والأولى حمل اللفظ على عمومه"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن ما قيل في سبب نزول الآية أنه من باب التمثيل، وأن اللفظ
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 443 - 444).
عامٌّ لا يختص بسبب، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه ذكر الأقوال في سبب النزول ثم تعقبها بأنها تمثيلات، فهو لا يثبت لها حقيقة في سبب النزول، وإنما يعتبرها من باب التمثيل.
الثاني: لفظ الترجيح، وذلك في قوله:(والأولى حمل اللفظ على عمومه).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
لم أقف على من وافق السمين الحلبي في قوله أو ردَّ عليه.
وكثير من المفسرين ذكر أن الآيات نزلت في مشركي العرب
(1)
، وذُكر ذلك عن ابن عباس
(2)
، ولا يظهر مما روي عن قتادة في الآية أنه يرى أن الآية نزلت في مشركي العرب كما ذكره السمين الحلبي هنا
(3)
.
ومنهم من ذكر أنها في اليهود
(4)
، وذُكر ذلك عن ابن عباس أيضًا
(5)
.
ولم أقف في ذلك على شيء مسند
(6)
.
2) أدلة القول الذي رجَّحه السمين الحلبي:
يمكن أن يستدل للقول الذي رجَّحه السمين الحلبي بأن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن من الحال المذكورة في الآية، فهذه حال الكافرين جميعًا، يتقلبون في الدنيا ويتمتعون قليلًا ثم تكون عاقبتهم في الآخرة إلى النار، والعياذ بالله، وهذا مثل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].
(1)
ينظر في تفسير مقاتل (1/ 323)، وأسباب النزول للواحدي (ص: 139)، وتفسير البغوي (1/ 558) والقرطبي (4/ 319) والبيضاوي (2/ 56) والجلالين (ص: 95)، والسراج المنير للشربيني (1/ 276)، وتفسير أبي السعود (2/ 135)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 381).
(2)
ينظر في الكشاف للزمخشري (1/ 457).
(3)
روي قوله في تفسير الطبري (6/ 325) وابن أبي حاتم (3/ 845)، وينظر زاد المسير لابن الجوزي (1/ 363).
(4)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 251).
(5)
ينظر في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 363).
(6)
وينظر فيما ذكره المناوي في الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي (1/ 447).
3) أدلة الأقوال الأخرى في المسألة:
يمكن أن يستدل على أن الآية لها سبب نزول يخصها بما ذكره كثيرٌ من المفسرين من أسباب النزول لهذه الآية
(1)
، كالذي ساقه السمين الحلبي هنا، وهذا الذي تتابع عليه كثيرٌ من المفسرين يدل على أن للآية حادثةٌ خاصة كانت سببًا في نزولها.
4) الموازنة بين الأدلة:
أما ما ذكر في سبب النزول، فليس فيه شيء مسندٌ يُوجب التخصيص، وإذا لم تثبت في ذلك روايةٌ مسنده فالأقرب أن ما يذكره المفسرون من سبب النزول إنما يراد به التمثيل، وبيان تطبيق الآية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا وأن الذي ذكروه ليس فيه تخصيصٌ لأناسٍ معينين، بل فيه التعميم في الكفار عمومًا.
ومعلومٌ أن تقلب الكافرين في الأرض وتمتعهم فيها مما يتكرر في كل زمان، وليس خاصًّا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأولى كما ذكر السمين الحلبي أن يحمل اللفظ على العموم.
5) النتيجة:
الراجح أنه لم يثبت سبب نزول للآية، وإنما المذكور فيها من باب التمثيل وحكاية الواقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية هنا هي مثل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [غافر: 4]، فليست هذه الآية خاصة بالمجادلين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة في كل المجادلين إلى يوم القيامة.
(1)
وقد تقدَّم بيان من ذكر ذلك.
المسألة الثانية: المخاطب في قوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
المسألة في رعاية وحفظ جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الآية تضمنت النهي عن الاغترار، و"النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار، فكيف خوطب بهذا؟
"
(1)
.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "والخطاب كما قلنا لكل من يتأتَّى منه ذلك.
وقال الزمخشري: «الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد
…
»، ثم قال بعد كلامه: «فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُنهى عن الاغترار؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن مِدرَة القوم ومتقدمهم يُخاطب بشيءٍ فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قيل: لا يغرنكم.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم، فأكَّد عليه ما كان عليه وثُبِّت على التزامه، كقوله:{وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]
(2)
، وقوله:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105]، وقوله:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8]
…
»
(3)
.
وحاصل ما ذكره: أن الرسول مخاطبٌ بذلك والمراد أمته، لكن وُجِّه الخطاب إليه لأن العادة قاضيةٌ بخطاب سيد القوم ومُقدَّمهم.
والثاني: أنه له ولكن على سبيل التأكيد والدوام، ومثله في المعنى قول الآخر:
قد يُهَزُّ الحسام وهو حسام ويُحَثُّ الجواد وهو جواد
وتحصَّل أيضًا في المخاطب ثلاثة أوجه:
(1)
تفسير الماوردي (1/ 444).
(2)
لا يظهر صحة الاستشهاد بهذه الآية هنا، لأنها في ابن نوح الذي كان مع الكافرين حقًّا:{يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} ، وجاء بدلها في نسخة الكشاف في حاشية الطيبي (4/ 394):{ولا تكونن ظهيرًا للكافرين} .
(3)
الكشاف للزمخشري (1/ 457 - 458).
أحدها: أنه السامع المتأتِّي منه ذلك.
الثاني: غيرُ الرسول، والخطاب له تشريفًا.
والثالث: الخطاب له تأكيدًا"
(1)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يظهر أن السمين الحلبي يرجِّح أن الخطاب في الآية على العموم لكل من يتوجه إليه الخطاب فيها، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه بدأ المسألة بالتذكير بمعنى هذا القول إشارة إلى أنه هو المعتمد عنده، ثم أشار بعد ذلك إلى الخلاف وذَكَرَ الأقوال في المسألة. فالقول الأول هو المعتمد عنده، والذي صرح به قبل ذكر الخلاف.
الثاني: أنه في المسألة السابقة استبعد أن يكون المخاطب في الآية الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الأقوال في سبب النزول فقال: "فهذه الآية مُسليةٌ لذلك الواقع في نفسه، وليس المخاطب بذلك رسول الله".
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
اختار بعض المفسرين القول الأول
(2)
.
والجمهور على القول الثاني
(3)
، وهو مقتضى قول قتادة
(4)
.
وأما القول الثالث فقد ذكره بعض المفسرين من غير ترجيح
(5)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 444 - 445).
(2)
ذكره الواحدي في التفسير البسيط (6/ 267) عن بعض النحويين، وينظر في نظم الدرر للبقاعي (5/ 163 - 164)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 205)، وتفسير آل عمران للعثيمين (2/ 581).
(3)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 324)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 500)، وتفسير ابن أبي زمنين (1/ 342) والثعلبي (9/ 577)، والهداية لمكي بن أبي طالب (2/ 1206)، وتفسير البغوي (1/ 558)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 558)، والسراج المنير للشربيني (1/ 276)، وإعراب القرآن وبيانه لدرويش (2/ 144).
(4)
روي في تفسير الطبري (6/ 325) وابن أبي حاتم (3/ 845)، وينظر في زاد المسير لابن الجوزي (1/ 363).
(5)
ينظر في تفسير الماوردي (1/ 444)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 363).
وروي عن الحسن البصري أنه قال في معنى الآية: "لا تغتر بأهل الدنيا يا محمد"
(1)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن الخطاب في الآية لكل من يمكن أن يتوجَّه إليه الخطاب بما تقدَّم في المسألة السابقة، من الآية ليس لها سبب نزول يخصها، وأن اللفظ في يُحمل على عمومه، فيكون الخطاب عامًّا لكل مَنْ يمكن أن يتوجَّه إليه الخطاب.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يستدل للقول بأن الخطاب في الآية لغير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يليق أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، لأن الاغترار لا يكون منه صلى الله عليه وسلم.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
يستدل للقول بأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأمرين:
الأول: أن الخطاب جاء على سبيل الإفراد في الآية: {لَا يَغُرَّنَّكَ} ، فيتوجَّه الخطاب لمن نزل عليه القرآن، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه قد جاء مثل ذلك في آيات أخرى من القرآن، كقوله:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقوله:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} .
5) الموازنة بين الأدلة:
قال الشيخ العثيمين في الآية: "الخطاب هنا يحتمل أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من يتأتَّى خطابه، والقاعدة في التفسير أنه (إذا كانت الآية تحتمل معنيين متباينين، لكن لا يتناقضان حُمِلَت عليهما جميعًا)، و (إذا احتملت معنيين أحدهما أعم حُمِلَت على الأعم)، لأن الأخص يدخل في الأعم، ولا عكس، فهنا إذا قلنا: إن الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجنا عنه بقية الأمة، وإذا قلنا: إن الخطاب عام لكل من يتأتَّى خطابُه صار شاملًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره، وعلى هذا فيكون الخطاب هنا عامًّا؛ يعني: لا يغرنك أيها الرائي الذي ترى تقلُّب الكفار في البلاد، لا يغرنك هذا"
(2)
.
وبهذا يتبين أن القول الذي ذكره السمين الحلبي هو أعم الأقوال وأحسنها، وفيه رعاية
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 845).
(2)
تفسير سورة آل عمران للعثيمين (2/ 581).
لعموم القرآن لجميع الأمة، فليس الخطاب خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وليس الخطاب خاصًّا بأمته من دونه عليه الصلاة والسلام، بل الخطاب عامٌّ لكل من يتوجَّه إليه الخطاب، وبهذا يجاب عن إفراد الخطاب في قوله:{لَا يَغُرَّنَّكَ} أنه ليس خاصًّا بالنبي وحده لعموم القرآن لجميع الأمة.
ويصدق على هذا القول أنه يتوجَّه لكل مَنْ يكون منه الاغترار بأن لا يغتر، ويتوجَّه إلى من لا يكون منه الاغترار على سبيل التحذير والتنبيه، أو على سبيل التسلية له والتثبيت بأن الكافرين ليسوا على شيء.
واستبعد بعضهم معنى التثبيت، وذكر أنه لا حاجة إليه حتى يقال به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت لا يتزلزل، فكيف يُؤمر بالثبات ويُؤكَّد ذلك عليه
(1)
.
ويمكن الجواب عنه بأن الأمر بالتثبيت لا يقتضي احتمال أن يتزلزل عليه الصلاة والسلام، وإنما هو أمرٌ بأن يستمر على ما كان عليه
(2)
، فيتضمن هذا الثناء على الحالة التي هو عليها، وذم الحالة الأخرى التي بخلافها والنهي عنها.
ويمكن أن يكون الاغترار في الآية ليس من قبيل الانخداع بما هم عليه والانجرار خلفهم، بل هو من قبيل قوله تعالى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57]، وقوله:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188].
وبهذا يزول الإشكال عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب في الآية.
6) النتيجة:
الراجح أن الخطاب في الآية على عمومه كما أن اللفظ فيها عامٌّ لا يختص بسبب نزول كما سبق.
وترجيح السمين الحلبي لعموم الخطاب هنا يعضد ترجيحه المسألة السابقة أنه يرى أن الآية لا تختص بسبب نزولٍ معين وأن الأولى فيها حملُ اللفظ على عمومه.
(1)
ينظر في حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (3/ 92).
(2)
ينظر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (6/ 463).
المسألة الثالثة: إعراب قول الله تعالى: {خَاشِعِينَ}
•
أصل الخلاف في المسألة:
قوله تعالى: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} يصح أن يكون مرتبطًا بما بعده، فيكون الوقف قبله عند قوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} ، ويصح أن يكون مرتبطًا بما قبله فيكون الوقف عليه.
ثم هو في ارتباطه بما قبله له عدة متعلقات يصح أن يتعلق بها، والمسألة في بيان وجه ارتباطه ومُتعلَّقة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: "و {خَاشِعِينَ} يجوز أن يكون حالًا من فاعل {يُؤْمِنُ} ، ويكون جمعه باعتبار معنى (مَنْ)، لأنه راعى أولًا لفظها فأُفرد في {يُؤْمِنُ} ، ثم راعى معناه فجُمِع في قوله:{إِلَيْهِمْ} ، وفي:{خَاشِعِينَ} ، وقد جاء ذلك على الأحسن، وهو البداءة بالحمل على اللفظ ثم على المعنى.
الوجه الثاني: أنه حالٌ من الضمير المجرور في {إِلَيْهِمْ} ، فالعامل فيه {أُنزِلَ} الواقع صلةً للموصول الثاني.
الثالث: أنه حالٌ من فاعل {لَا يَشْتَرُونَ} ؛ أي: لا يشترون حال خشوعهم، وتقديم معمول المنفي بـ (لا) جائزٌ على أصح المذاهب المذكورة فيها عند قوله:{وَلَا الضَّالِّينَ} .
الرابع: أنه صفة لـ (مَنْ) إذا قلنا إنها نكرة موصوفة"
(1)
.
(1)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 460).
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي في إعراب قوله {خَاشِعِينَ} أنه حال من الفاعل في قوله {يُؤْمِنُ} ، ويظهر هذا الترجيح من وجهين:
الأول: أنه قدَّم هذا القول أولًا قبل أن يذكر أن في المسألة أقوالًا أخرى، وهذا يشير إلى أنه المعتمد عنده.
الثاني: في قوله: (وقد جاء ذلك على الأحسن)، فحسَّن ما في هذا القول، ولم يحسن شيئًا بعده، فدل على ترجيحه له.
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
جُلُّ المفسرين والمعربين اختاروا القول الأول
(1)
.
وقد قال بعض المعربين بالقول الثاني
(2)
.
وتفرَّد جامع العلوم الباقولي بالقول الثالث
(3)
.
وأما القول الرابع فهو قول الكسائي
(4)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
يستدل للقول بأن قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} حالٌ من الفاعل في قوله {يُؤْمِنُ} أن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن في الخشوع أن يكون متعلقًا بالإيمان مطلقًا، فيكون الإيمان هو مُتعلَّقه؛ أي: إن من أهل الكتاب من يؤمنون خاشعين لله.
(1)
ينظر في معاني القرآن للفراء (1/ 251)، وتفسير الطبري (6/ 331)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 501)، والكشاف للزمخشري (1/ 459)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 559)، وتفسير البيضاوي (2/ 56)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 484)، وتفسير الجلالين (ص: 96)، والسراج المنير للشربيني (1/ 277)، وتفسير أبي السعود (2/ 136)، والجدول لمحمود الصافي (4/ 424)، إعراب القرآن وبيانه لدرويش (2/ 145).
(2)
ينظر حكاية القول في القطع والائتناف للنحاس (ص: 158)، والهداية لمكي بن أبي طالب (1/ 1207).
(3)
ينظر في جواهر القرآن لجامع العلوم الباقولي (3/ 1147).
(4)
ينظر في إعراب القرآن للنحاس (1/ 196)، والهداية لمكي بن أبي طالب (1/ 1207).
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
يستدل للقول بأن قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} حالٌ من الضمير المجرور في قوله {إِلَيْهِمْ} أن هذا هو الأسهل من حيث الصناعة، وذلك بأن تتعلق الحال بأقرب المذكورات إليها
(1)
.
4) أدلة القول الثالث في المسألة:
يمكن أن يستدل للقول بأن قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} حالٌ من الفاعل في قوله {لَا يَشْتَرُونَ} أن هذا أنسب من حيث المعنى، لأن الآية جيء بها لتزكية المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وأنهم على خلاف الكافرين من أهل الكتاب المذكورين في الآيات السابقة في قوله:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 187]
(2)
، وعلى هذا فيكون الخشوع متعلقًا بالمعنى الذي سيقت الآية لأجله وهو أنهم لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا.
5) أدلة القول الرابع في المسألة:
يستدل للقول بأن قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} صفة لـ (مَنْ) في قوله {لَمَن يُؤْمِنُ} أن هذا فيه تعميمٌ لخشوعهم، وإثباتٌ لاتصافهم به على سبيل الدوام، فيكون المعنى: وإن من أهل الكتاب فريقًا خاشعين يؤمنون بالله.
6) الموازنة بين الأدلة:
يمكن أن يقال إن القول الأول بتقييد الإيمان بالخشوع أنه أنسب الأحوال من حيث المعنى، وذلك أن إيمانهم الخاشع بالله وإيمانهم الخاشع بالكتب المنزلة هو الذي حملهم على ألا يشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا.
وأما تعلُّق الحال بالضمير في قوله {إِلَيْهِمْ} فهذا الضمير وإن كان هو أقرب المذكورات، لكن العامل في هذه الحالة هو الفعل {أُنزِلَ} الثاني، وهو لا يتناسب مع معنى الخشوع مثل ما يتناسب مع الإيمان، فيكون المعنى أن الكتاب أُنزل إليهم حال كونهم خاشعين، وهذا لا ينطبق على المذكورين في الآية، فإنهم لم يعاصروا تنزيل الكتب السابقة، وإنما هم من أمة محمد
(1)
ينظر في حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (3/ 93)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 383).
(2)
ينظر في معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 501).
صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأما تعلُّق الحال بالفاعل من قوله {لَا يَشْتَرُونَ} فإن هذا خلاف الأصل بحيث تكون الحال هنا متقدمة، ويقال حينئذٍ: إن الآية فيها تقديم وتأخير، والقاعدة في الترجيح أن (القول بالترتيب مُقدَّمٌ على القول بالتقديم والتأخير)
(2)
.
وأما القول بأن قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} صفةٌ لـ (مَنْ) في قوله {لَمَن يُؤْمِنُ} ، فهو مبنى على أن تكون (مَنْ) نكرةً موصوفة، وقد ضعَّف السمين الحلبي أن تكون (مَنْ) هذه نكرة موصوفة
(3)
.
كما أن في هذا القول الفصلَ الطويل بين الصفة والموصوف، وبينهما في الأصل تلازم شديد حتى تكون الصفة كجزء من الموصوف
(4)
.
7) النتيجة:
الراجح أن وجه الإعراب في قوله {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} أنه حالٌ من الفاعل في قوله: {يُؤْمِنُ} ، لأن هذا الوجه هو أسلم الوجوه من الإشكالات وهو الظاهر المتبادر للذهن.
(1)
فإنهم لو كانوا من الأمم المتقدمة لم يكن لذكر إيمانهم بالكتاب الذي أُنزل إلينا في قوله {وما أنزل إليكم} فائدة كبيرة في هذا السياق، وإنما كان يكفي ذكر أنهم آمنوا بالكتاب الذي أُنزل إليهم.
(2)
ينظر في قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين بن علي الحربي (2/ 451 - 457).
(3)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 459).
(4)
ينظر في شرح التسهيل لابن مالك (3/ 342).
المسألة الرابعة: معنى المرابطة في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
•
أصل الخلاف في المسألة:
قال التابعي الجليل أبو سلمة بن عبد الرحمن: هل تدرون في أي شيء أُنزلت هذه الآية: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُوا وَرَابِطُواْ} ؟ إنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوٌ يُرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة
(1)
.
والخلاف في المسألة من هذا الوجه، فإن كان المراد بالمرابطة في الآية ملازمة الثغور، فكيف يجاب عن الإشكال الذي ذكره أبو سلمة.
•
نص المسألة:
قال السمين الحلبي رحمه الله: " {وَرَابِطُواْ} : وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصدين مستعدين للغزو، ودليله قوله تعالى:{وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وفي الحديث:(مَنْ رابطَ يومًا وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهرٍ وقيامه، لا يفطر فيه، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجته)
(2)
، وروى البخاري:(رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها)
(3)
، وروى مسلم:(رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمِن الفتَّان)
(4)
…
والمرابطة أصلها ما ذكرناه من رباط الخيل، ثم غلب على كل من أقام بارزًا لعدوٍّ في ثغرٍ من الثغور ناويًا بذلك منعهم عن المسلمين ومقاتلتهم وإن لم يربط فرسًا يومًا من الدهر
…
(1)
رواه ابن المبارك في الزهد (1/ 137) وسيأتي تخريجه مفصلًا.
(2)
رواه النسائي في سننه (6/ 39/ 3167) من حديث سلمان الفارسي، وصححه الحاكم (2/ 90/ 2422) ووافقه الذهبي.
(3)
رواه البخاري في صحيحه (4/ 35/ 2892) من حديث سهل بن سعد.
(4)
رواه مسلم في صحيحه (3/ 1520/ 1913) من حديث سلمان الفارسي.
والحاصل أن الأعمال بالنيات، وما فسَّرنا الرباط به هو المشهور الصحيح.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: «الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» ، قال:«ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوٌّ يُرابط فيه»
(1)
، واحتج بقوله عليه السلام:(ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذلكم الرباط) ثلاثًا
(2)
.
قال ابن عطية: «والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله
…
وقوله: (فذلكم الرباط) تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيلٌ من السُّبُل المنجية، والرباطُ اللغوي هو الأول»
(3)
"
(4)
.
•
ترجيح السمين الحلبي ووجه الترجيح:
يرجِّح السمين الحلبي أن معنى الرباط في قوله {وَرَابِطُواْ} أنها الإقامة في الثغور وربط الخيل فيها لترصد العدو، ويظهر هذا الترجيح من أربعة وجوه:
الأول: أنه فسَّر الآية بهذا القول كأنه هو المعتمد عنده، ثم ذكر القول الثاني بعد ذلك.
الثاني: أنه أكَّد هذا القول وأشاد به، ونسبه إلى نفسه، وذلك في قوله:(والمرابطة أصلها ما ذكرناه من رباط الخيل)، وقوله:(وما فسَّرنا الرباط به هو المشهور الصحيح).
الثالث: أنه استدل لهذا القول بنفسه في قوله: (ودليله قوله تعالى
…
)، وحكى دليل القول الآخر عن غيره في قوله: (واحتج بقوله عليه السلام
…
)، وهذا يفيد أن أدلة القول الأول هي المعتمدة عنده.
الرابع: أنه تعقَّب القول الثاني في ختام المسألة، فذكر كلام ابن عطية في ترجيح القول الأول وتوجيه القول الثاني، وهذا يدل على أنه يرتضي ما قاله ابن عطية.
(1)
تقدَّم تخريجه في فقرة (أصل الخلاف في المسألة)، وسيأتي تفصيله.
(2)
رواه مسلم في صحيحه (3/ 1500/ 1881) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 560).
(4)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 464 - 466).
•
دراسة المسألة:
1) مذاهب أهل العلم في المسألة:
أكثر المفسرين على أن المرابطة في الآية هي مرابطة الجهاد في سبيل الله
(1)
.
وهو المروي عن ابن عباس
(2)
، وعن الحسن البصري وقتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وزيد ين أسلم وابن جريج
(3)
.
وهو مقتضى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(4)
.
وأما القول الثاني فقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
(5)
، وفي رواية أخرى أنه يحكي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه
(6)
.
وروي هذا القول أيضًا عن ابن عباس، وعن محمد بن كعب القرظي وأبي غسان، وحكاه سعيد بن المسيب
(7)
.
وقليلٌ من المفسرين من رجَّح هذا القول على القول الأول
(8)
.
وروي عن سعيد بن جبير أنه جعل المرابطة فيما أمر الله وبه وما نهى عنه
(9)
، وكأنه بهذا
(1)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 337)، والتفسير البسيط للواحدي (6/ 274)، والكشاف للزمخشري (1/ 460)، والمحرر الوجيز لابن عطية (1/ 560)، وتفسير ابن جزي (1/ 175)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 485)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 86)، وتفسير أبي السعود (2/ 136)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 476)، وروح المعاني للآلوسي (2/ 385)، وتفسير السعدي (ص: 162)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 208).
(2)
رواه ابن المنذر في تفسيره (2/ 544) وروى عنه الضياء المقدسي في المختارة (13/ 91) أن الآية نزلت في الجهاد.
(3)
رواه عنهم الطبري في تفسيره (6/ 332 - 334)، وروى عبد الرزاق في تفسيره (1/ 431) أيضًا قول قتادة، وابن المنذر في تفسيره (2/ 543) قول الحسن والقرظي، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 850) قول القرظي.
(4)
رواه مالك في الموطأ (3/ 633) وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 222) والحاكم في المستدرك (2/ 329).
(5)
رواه ابن المبارك في الزهد (1/ 137) وعنه الطبري في تفسيره (6/ 334) وابن المنذر في تفسيره (2/ 544)، ورواه الثعلبي في تفسيره (9/ 594 - 595) من طريق أخرى.
(6)
رواه الحاكم في المستدرك من طريق ابن المبارك (2/ 329) وصححه ووافقه الذهبي، ورواه عنه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 359)، وأخرجه ابن مردويه بإسناد آخر عن أبي هريرة كما في تفسير ابن كثير (2/ 196).
(7)
روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 109) قول ابن عباس، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 847، 850) القولين الآخرين، وروى ابن وهب في التفسير من جامعه (2/ 154) ما حكاه سعيد بن المسيب.
(8)
ينظر في تفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 603).
(9)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 850).
يجعل المرابطة عامةً في كل الطاعات بمعنى المداومة عليها، وعلى هذا جرى قول بعض المفسرين
(1)
.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان ضعيفان في معنى القولين جميعا
(2)
.
2) أدلة القول الأول في المسألة:
ذكر السمين الحلبي أدلة القول بأن المرابطة في الآية هي ملازمة الثغور، وذلك يرجع إلى ثلاث أصول:
أولها: أن هذا هو المعهود في الخطاب الشرعي، أن المرابطة تطلق على ربط الخيل للجهاد في سبيل الله، ودليل ذلك الآية التي ذكرها، وهي قوله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، كما أن عموم الأحاديث في المرابطة هي في هذا المعنى
(3)
، من ذلك حديث سهل بن سعد أن صلى الله عليه وسلم قال:(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)
(4)
، وهو محمولٌ على رباط المجاهدة في سبيل الله كما يدل عليه سياق الحديث.
الثاني: أن هذا هو الموافق للأصل اللغوي، فإن المرابطة أصلها كما ذكر السمين الحلبي من ربط الخيل، ثم غلبت على ملازمة الثغور لأن الخيول تربط فيها، ثم استعملت بعد ذلك بمعنى المداومة والملازمة
(5)
، فالرباط الموافق للأصل اللغوي هو الرباط للجهاد في سبيل الله كما أفاده ابن عطية في آخر كلامه.
الثالث: أن هذا هو المناسب للسياق، فإن في السورة حديثًا عن غزوة أُحد كما تقدَّم،
(1)
حكاه ابن دريد في جمهرة اللغة (3/ 850) عن بعضهم، وحكاه الواحدي في التفسير البسيط (6/ 276 - 277) عن ابن الأنباري، وينظر في تفسير الرازي (9/ 474) والقرطبي (4/ 324) والبيضاوي (2/ 57).
(2)
روى الأول ابن حبان في المجروحين (15/ 297 - 298) وأبو نعيم في الحلية (5/ 249)، والثاني رواه ابن مردويه كما ذكر ابن كثير في تفسيره (2/ 196 - 197) وقال عنه:"هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًّا".
(3)
ذكر طرفًا منها ابن كثير في تفسيره (2/ 197 - 202).
(4)
رواه البخاري في صحيحه بلفظه (4/ 35/ 2892) وروى مسلم آخره بمعناه (3/ 1500/ 1881).
(5)
حكاه ابن سيده عن الفارسي في المحكم والمحيط الأعظم (ر ب ط)، (9/ 162).
فالمناسب أن تكون الآية الخاتمة في الصبر على الغزو والمرابطة في سبيل الله
(1)
، كما أن قوله في هذه الآية:{وَصَابِرُواْ} هو من مصابرة العدو، لأن المصابرة على وزن المفاعلة، وهي لا تكون في الغالب إلا بين اثنين فأكثر
(2)
.
3) أدلة القول الثاني في المسألة:
حكى السمين الحلبي دليل القول الثاني وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)
(3)
، فقوله:(فذلكم الرباط) فيه تعظيمٌ للمذكورات في الحديث، وبيانٌ لأحقيتهن بوصف الرباط، وعليه، فتُفسَّر المرابطة التي في الآية بهذه المذكورات، لأنهن من أحق الرباط الذي تكون به المرابطة.
4) الموازنة بين الأدلة:
الظاهر أن أدلة القول الأول أقوى وأكثر، لكن يبقى الإشكال الذي ذكره أبو سلمة على هذا القول من أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزوٌ يُرابط فيه، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الغزو ويرجع، ولم تكن المرابطة إلا بعد أن كثرت الفتوحات وانتشر الإسلام في الأرض، فاحتاج المسلمون إلى المرابطة في الثغور عند حدودهم.
والجواب عنه أن ينبغي أن تُفسَّر المرابطة بالمعنى الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالمعنى الذي اختصت به بعد ذلك، فالمرابطة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مختصة بالثغور التي تكون في حدود الدولة، وإنما كانت باقيةً على معناها الأصلي وهو ربط الخيل استعدادًا لمواجهة العدو
(4)
، وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ، ويؤيد ذلك أيضًا بأنه "قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى حراسة جيش المسلمين رباطًا، وأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط فقال: «مَنْ رابط ليلةً حارسًا من
(1)
ينظر في حاشية الطيبي على الكشاف (4/ 398)، وسيأتي قول السمين الحلبي في مناسبة ختم السورة.
(2)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 336) وتفسير العثيمين لسورة آل عمران (2/ 602).
(3)
رواه مسلم في صحيحه (3/ 1500/ 1881) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ينظر في التحرير والتنوير لابن عاشور (4/ 208).
وراء المسلمين كان له أجر مَنْ خلفه ممن صام وصلَّى» "
(1)
.
ولو كانت المرابطة غير ممكنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناسب أن يأمرهم الله بذلك في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، ولما ناسب ذكر الأحاديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى تقدير أنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط، فلا يمنع ذلك من الأمر به والترغيب فيه في الآيات والأحاديث
(2)
.
وأما تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط)، فيمكن أن يرجع إلى التشبيه بمرابطة الجهاد، فجعل المواظبة على الصلاة والمحافظة على أوقاتها كرباط المجاهد، وعلى هذا فيكون معنى الحديث تابعًا لمعنى الآية، أو أنه جعل ذلك كالرباط الذي يربط به المؤمن نفسه عن المعاصي
(3)
.
فالحديث محمولٌ على التشبيه، وليس محمولًا على حقيقته، فالأولى حمل معنى الآية على المعاني الظاهرة للمرابطة في الآيات والأحاديث وليس على هذا الحديث
(4)
.
وحتى إن قيل إن معنى المرابطة في الآية هو المداومة فإن أولى ما تتعلق به المداومة في الآية هي المداومة على القتال في سبيل الله، لأن سياق السورة فيما سبق يشير إلى هذا المعنى.
5) النتيجة:
الراجح أن المرابطة في الآية هي من المداومة على الجهاد في سبيل الله، وهذا هو المناسب للسياق واللغة والأحاديث التي في معنى المرابطة.
قال السمين الحلبي رحمه الله: "وقد خُتمت هذه السورة بهذه الوصية العظيمة، لاشتمالها على السعادة الدنيوية بالظهور على العدو، الذي هو نتيجة الصبر والمصابرة والمرابطة، والدينية بنيل الفوز بالنعيم، الذي هو نتيجة التقوى. جعلنا الله بكرمه ممن جمع هذه الخصال فحصل له الفلاح، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وسلم"
(5)
.
(1)
فتح القدير للشوكاني (1/ 476)، والحديث في المعجم الأوسط للطبراني (8/ 90/ 8059).
(2)
ينظر في فتح الباري لابن حجر (6/ 86).
(3)
ينظر في غريب الحديث للخطابي (1/ 284 - 285).
(4)
ينظر في تفسير الطبري (6/ 337).
(5)
القول الوجيز، (آل عمران: 157 إلخ)، تحقيق: وائل بن محمد بن علي جابر (ص: 467).
الخاتمة
الحمد لله أولًا وآخرا؛ هذا ختام هذا البحث: "ترجيحات السمين الحلبي في كتابه "القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز" من الآية (138) من سورة آل عمران إلى آخر السورة (جمعًا ودراسة) "، فما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطإٍ فاستغفر الله منه.
وفيما يأتي ذكر النتائج والتوصيات:
أولًا: النتائج:
1) يظهر التحول الكبير بين المنهج الذي سار عليه السمين الحلبي في أول الكتاب من الكلام عن أحكام القرآن وبين منهج التفسير الذي سار عليه في سورة آل عمران.
2) تنوعت المسائل في الكتاب في دراستها ومناقشتها لتشمل الكثير من أبواب العلم: في القراءات والتفسير وأسباب النزول وفي البلاغة والنحو والصرف والسيرة والفقه والعقيدة.
3) أكثر الأدلة التي يرجِّح بها السمين الحلبي هي الأدلة المتصلة بالآية لا الأدلة الأخرى الخارجية، كلفظ الآية ومقصدها وما سيقت له.
4) يراعي السمين الحلبي المعنى كثيرًا في مناقشة الأقوال والترجيح بينها، كما يراعي قواعد اللغة في الألفاظ، وإذا دار الأمر بين مرجِّحٍ معنوي ومرجِّحٍ لفظي، فإنه يقدِّم المعنوي.
5) تفرَّد السمين الحلبي في مسألتين لم يوافقه عليهما أحدٌ من أهل العلم.
6) خالف السمين الحلبي جمهور أهل العلم في أربعة مسائل.
7) رجَّح السمين الحلبي في أربع مسائل لم يرجِّح فيها شيئًا في الدر المصون، ورجَّح في مسألة واحدة ترجيحًا يخالف ما في الدر المصون.
8) الترجيح إنما يقع بين الأقوال المتقاربة في القوة، المتوافقة فيما بينها على أصول التفسير وقواعده.
ثانيًا: التوصيات:
1) مقابلة هذا الكتاب بكتاب التفسير للسمين الحلبي، والنظر في النسخ الأخرى لكتاب القول الوجيز غير النسخة الوحيدة التي اعتُمد عليها في هذا الكتاب.
2) جمع ودراسة تعقبات السمين الحلبي على شيخه أبي حيان في هذا الكتاب مما لم يذكره في الدر المصون.
3) جمع وتحرير المسائل العقدية المتعلقة بالإعراب مما ذكره السمين الحلبي في هذا الكتاب.
4) جمع وتحرير المسائل العقدية التي يذكرها المفسرون من الفِرق المخالفة وتكون في أصلها صحيحة عند أهل السنة، والنظر في ضوابطها وشواهدها عند أهل السنة.
5) جمع ودراسة ألفاظ الترجيح عند المفسرين، والألفاظ التي اختص بعضهم بها، وذكر ضوابطها عندهم، على غرار دراسة ألفاظ الجرح والتعديل عند المحدثين.
فهرس
المصادر والمراجع
1) الإبانة الكبرى، ابن بطة أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري، اعتنى به: رضا معطي وآخرون، دار الراية للنشر والتوزيع (الرياض).
2) إبراز المعاني من حرز الأماني، أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي، دار الكتب العلمية.
3) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، شهاب الدين أحمد بن محمد البَنَّا الدمياطي، اعتنى به: أنس مهرة، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 3 (1427 هـ).
4) أحكام القرآن الكريم، أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، اعتنى به: د. سعد الدين أونال، مركز البحوث الإسلامية (إستانبول)، ط 1 (1416 هـ).
5) أحكام القرآن، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص، اعتنى به: محمد صادق القمحاوي، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، (1405 هـ).
6) أحكام القرآن، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، اعتنى به: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 3 (1424 هـ).
7) اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير؛ دراسة وموازنة، د. محمد بن عبد الله بن جابر القحطاني و د. محمد بن عبد الله الوزرة الدوسري، كرسي القرآن وعلومه بجامعة الملك سعود، ط 1 (1439 هـ).
8) اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، اعتنى به: سامي بن محمد بن جاد الله، دار عالم الفوائد (مكة المكرمة)، ط 1 (1424 هـ).
9) الأذكار، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، اعتنى به: عبد القادر الأرناؤوط، دار الفكر (بيروت)، (1414 هـ).
10) ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف الأندلسي، اعتنى به: رجب عثمان محمد، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ط 1 (1418 هـ).
11) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، اعتنى به: د. محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، جماعة الأزهر للنشر والتأليف، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ط 1 (1369 هـ).
12) أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو الزمخشري، اعتنى به: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
13) أسباب نزول القرآن، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، اعتنى به: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح (الدمام)، ط 2 (1412 هـ).
14) الاستيعاب في بيان الأسباب، سليم بن عيد الهلالي ومحمد بن موسى آل نصر، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 1 (1425 هـ).
15) الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية، نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري، اعتنى به: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1426 هـ).
16) الأصول في النحو، ابن السراج أبو بكر محمد بن السري، اعتنى به: عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة (بيروت).
17) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الجكني الشنقيطي، دار الفكر (بيروت)، (1415 هـ).
18) إعراب القرآن الكريم، إعراب القرآن الكريم، أحمد عبيد الدعاس وأحمد محمد حميدان وإسماعيل محمود القاسم، دار المنير ودار الفارابي (دمشق)، ط 1 (1425 هـ).
19) إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش، دار اليمامة ودار ابن كثير، ط 4 (1415 هـ).
20) إعراب القرآن، أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، اعتنى به: عبد المنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
21) الأعلام، خير الدين بن محمود الزركلي، دار العلم للملايين (بيروت)، ط 15 (2002 م).
22) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، اعتنى به: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف (الرياض).
23) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اعتنى به: ناصر بن عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب (بيروت)، ط 7 (1419 هـ).
24) إكمال المعلم بفوائد مسلم، أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي، اعتنى به: د. يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع (مصر)، ط 1 (1419 هـ).
25) الأم، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة (بيروت)، (1410 هـ).
26) أمالي ابن الحاجب، جمال الدين ابن الحاجب عثمان بن عمر الكردي، اعتنى به: د. فخر صالح سليمان قدارة، دار عمار ودار الجيل، (1409 هـ).
27) أمالي ابن الشجري، ابن الشجري ضياء الدين أبو السعادات هبة الله بن علي، اعتنى به: د. محمود محمد الطناحي، مكتبة الخناجي (القاهرة)، ط 1 (1413 هـ).
28) الإمام في بيان أدلة الأحكام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، اعتنى به: رضوان مختار بن غربية، دار البشائر الإسلامية (بيروت)، ط 1 (1407 هـ).
29) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، دار الكتب العلمية (بيروت).
30) الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، المكتبة العصرية (بيروت)، ط 1 (1424 هـ).
31) أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الرازي، اعتنى به: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، دار عالم الكتب، ط 1 (1413 هـ).
32) أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، اعتنى به: عاطف صابر شاهين، دار الغد الجديد (مصر - المنصورة)، ط 1 (1426 هـ).
33) أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، ابن هشام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الأنصاري، اعتنى به: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر (بيروت).
34) إيجاز البيان عن معاني القرآن، بيان الحق محمود بن أبي الحسن النيسابوري، اعتنى به: د. حنيف بن حسن القاسمي، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
35) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر الجزائري جابر بن موسى، مكتبة العلوم والحكم (المدينة النبوية)، ط 5 (1424 هـ).
36) الإيضاح العضدي، أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، اعتنى به: د. حسن شاذلي فرهود، كلية الآداب بجامعة الرياض، (1389 هـ).
37) إيضاح الوقف والابتداء، أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، اعتنى به: محيي الدين عبد الرحمن رمضان، مجمع اللغة العربية بدمشق، (1390 هـ).
38) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه، أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، اعتنى به: د. أحمد حسن فرحات، دار المنارة (جدة)، ط 1 (1406 هـ).
39) الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، اعتنى به: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 2 (1403 هـ).
40) الإيمان، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اعتنى به: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي (الأردن - عَمَّان)، ط 5 (1416 هـ).
41) باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن، بيان الحق محمود بن أبي الحسن النيسابوري، اعتنى به: سعاد بنت صالح بن سعيد بابقي، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، (1419 هـ).
42) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم زين الدين ابن إبراهيم بن محمد المصري، دار الكتاب الإسلامي، ط 2.
43) البحر المحيط في أصول الفقه، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، دار الكتبي، ط 1 (1414 هـ).
44) البحر المحيط في التفسير، أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف الأندلسي، اعتنى به: صدقي محمد جميل، دار الفكر (بيروت)، (1420 هـ).
45) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة الفاسي، اعتنى به: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي (القاهرة)، (1419 هـ).
46) بحر المذهب، أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، اعتنى به: طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (2009 م).
47) البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، اعتنى به: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1 (1408 هـ).
48) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 2 (1406 هـ).
49) بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، دار الكتاب العربي (بيروت).
50) البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الأنصاري، اعتنى به: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال، دار الهجرة (الرياض)، ط 1 (1425 هـ).
51) البديع في علم العربية، ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني، اعتنى به: د. فتحي أحمد علي الدين، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1420 هـ).
52) البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، اعتنى به: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1 (1376 هـ).
53) البسيط في شرح جمل الزجاجي، ابن أبي الربيع عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله الأشبيلي، اعتنى به: عيَّاد بن عيد الثبيتي، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (1407 هـ).
54) البناية شرح الهداية، بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1420 هـ).
55) بيان إعجاز القرآن، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، اعتنى به: أ. د. يوسف بن عبد الله العليوي، دار التوحيد، ط 1 (1439 هـ).
56) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، ط 1 (1426 هـ).
57) البيان في غريب إعراب القرآن، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، اعتنى به: د. طه عبد الحميد طه، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
58) تاج العروس من جواهر القاموس، أبو الفيض محمد بن محمد الحسيني الزبيدي، اعتنى به مجموعة من المحققين، دار الهداية.
59) تاريخ ابن معين (رواية الدوري)، أبو زكريا يحيى بن معين بن عون، اعتنى به: د. أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي (مكة المكرمة)، ط 1 (1399 هـ).
60) تاريخ أصبهان، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، اعتنى به: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1410 هـ).
61) تاريخ دمشق، ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن، اعتنى به: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
62) تأويل مشكل القرآن، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، اعتنى به: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية (بيروت).
63) التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، اعتنى به: علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه.
64) التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد)، الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر (تونس)، (1984 م).
65) تحفة الأقران فيما قُرئ بالتثليث من حروف القرآن، أبو جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني، كنوز أشبيليا (المملكة العربية السعودية)، ط 2 (2007 م).
66) التسعينية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اعتنى به: د. محمد بن إبراهيم العجلان، مكتبة المعارف (الرياض)، ط 1 (1420 هـ).
67) التعليقة، القاضي الحسين بن محمد بن أحمد، اعتنى به: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، مكتبة نزار مصطفى الباز (مكة المكرمة).
68) تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن العظيم)، ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد، اعتنى به: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز (مكة المكرمة)، ط 3 (1419 هـ).
69) تفسير ابن أبي زمنين (تفسير القرآن العزيز)، ابن أبي زمنين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى، اعتنى به: حسين بن عكاشة ومحمد بن مصطفى الكنز، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر (القاهرة)، ط 1 (1423 هـ).
70) تفسير ابن المنذر (تفسير القرآن)، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، اعتنى به: سعد بن محمد السعد، دار المآثر (المدينة النبوية)، ط 1 (1423 هـ).
71) تفسير ابن جزي (التسهيل لعلوم التنزيل)، ابن جزي الكلبي، اعتنى به: د. عبد الله الخالدي، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم (بيروت)، ط 1 (1416 هـ)
72) تفسير ابن عرفة، أبو عبد الله محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي، اعتنى به: جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (2008 م).
73) تفسير ابن فورك (من أول سورة المؤمنون إلى آخر سورة السجدة)، أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، اعتنى به: علال عبد القادر بندويش، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1430 هـ).
74) تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، اعتنى به: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة (الرياض)، ط 2 (1420 هـ).
75) تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)، أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى، دار إحياء التراث العربي (بيروت).
76) التفسير البسيط، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، اعتنى به: عمادة البحث العلمي (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، ط 1 (1430 هـ).
77) تفسير البغوي (معالم التنزيل في تفسير القرآن)، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، اعتنى به: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (1420 هـ).
78) تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، اعتنى به: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (1418 هـ).
79) تفسير الثعالبي (الجواهر الحسان في تفسير القرآن)، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الثعالبي، اعتنى به: محمد علي معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (1418 هـ).
80) تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن)، أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، اعتنى به عدد من الباحثين في رسائل جامعية، دار التفسير (جدة)، ط 1 (1436 هـ).
81) تفسير الجلالين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الحديث (القاهرة)، ط 1.
82) تفسير الخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل)، الخازن علاء الدين علي بن محمد، اعتنى به: علاء الدين علي بن محمد، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
83) تفسير الرازي (التفسير الكبير، مفاتيح الغيب)، فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 3 (1420 هـ).
84) تفسير الراغب الأصفهاني، الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد، اعتنى به: د. محمد عبد العزيز بسيوني وآخرون، [(ج 1: جامعة طنطا)، (ج 2 - 3: دار الوطن (الرياض))].
85) تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، اعتنى به: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1420 هـ).
86) تفسير السمرقندي (بحر العلوم)، أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، اعتنى به: د. محمود مطرجي، دار الفكر (بيروت).
87) تفسير السمعاني، أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني، اعتنى به: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن (الرياض)، ط 1 (1418 هـ).
88) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، اعتنى به: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي و د. عبد السند حسن يمامة، دار هجر، ط 1 (1422 هـ).
89) تفسير العثيمين لسورة آل عمران، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 3 (1435 هـ).
90) تفسير العز بن عبد السلام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، اعتنى به: د. عبد الله بن إبراهيم الوهبي، دار ابن حزم (بيروت)، ط 1 (1416 هـ).
91) تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه، محمد علي طه الدرة، دار ابن كثير، ط 1 (1430 هـ).
92) تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، شمس الدين القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد، اعتنى به: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية (القاهرة)، ط 2 (1384 هـ).
93) تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة)، أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، اعتنى به: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1426 هـ).
94) تفسير الماوردي (النكت والعيون)، أبو الحسن الماوردي علي بن محمد، اعتنى به: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية (بيروت).
95) تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، محمد رشيد بن علي رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (1990 م).
96) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر (دمشق)، ط 2 (1418 هـ).
97) تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، أبو البركات عبد الله بن أحمد النسفي، اعتنى به: يوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
98) تفسير عبد الرزاق الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، اعتنى به: د. محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
99) تفسير مجاهد، أبو الحجاج مجاهد بن جبر، اعتنى به: د. محمد عبد السلام أبو النيل، دار الفكر الإسلامي الحديثة (مصر)، ط 1 (1410 هـ).
100) تفسير مقاتل بن سليمان، أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي، اعتنى به: عبد الله محمود شحاته، دار إحياء التراث (بيروت)، ط 1 (1423 هـ).
101) التفسير من جامع ابن وهب، أبو محمد عبد الله بن وهب، اعتنى به: ميكلوش موراني، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (2003 م).
102) التفسير من سنن سعيد بن منصور، أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة، اعتنى به: د. سعد بن عبد الله آل حميد، دار الصميعي، ط 1 (1417 هـ).
103) تفسير يحيى بن سلام، يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة، اعتنى به: هند شلبي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1425 هـ).
104) التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن همام، ابن أمير حاج أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 2 (1403 هـ).
105) تقويم الأدلة في أصول الفقه، أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي، اعتنى به: خليل محيي الدين الميس، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
106) التقييد الكبير في تفسير كتاب الله المجيد، أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
107) التلخيص الحبير (التمييز في تلخيص تخريج أحاديث شرح الوجيز)، ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني، اعتنى به: محمد الثاني بن عمر بن موسى، دار أضواء السلف، ط 1 (1428 هـ).
108) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، اعتنى به: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية (المغرب)، (1387 هـ).
109) التنبيه على مشكلات الهداية، ابن أبي العز الحنفي أبو الحسن علي بن علي، اعتنى به: عبد الحكيم بن محمد شاكر وأنور صالح أبو زيد، مكتبة الرشد (الرياض)، ط 1 (1424 هـ).
110) تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، اعتنى به: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (2001 م).
111) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، اعتنى به: نبيل بن نصار السندي، دار عالم الفوائد (مكة المكرمة)، ط 1 (1437 هـ).
112) توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، ابن أم قاسم أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم المرادي، اعتنى به: عبد الرحمن علي سليمان، دار الفكر العربي، ط 1 (1428 هـ).
113) التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الأنصاري، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر (دمشق)، ط 1 (1429 هـ).
114) التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي، اعتنى به: د. عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب (القاهرة)، ط 1 (1410 هـ).
115) التيسير في القراءات السبع، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، اعتنى به: د. خلف حمود سالم الشغدلي، دار الأندلس (حائل)، ط 1 (1436 هـ).
116) جامع البيان في القراءات السبع، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، جامعة الشارقة، ط 1 (1428 هـ).
117) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 7 (1422 هـ).
118) الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، ابن الأثير الكاتب ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد الشيباني، اعتنى به: مصطفى جواد، مطبعة المجمع العلمي، (1375 هـ).
119) جامع المسائل لابن تيمية، اعتنى به: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد (مكة المكرمة)، ط 1 (1437 هـ).
120) الجامع للترمذي (سنن الترمذي)، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة الترمذي، اعتنى به: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة عوض، مطبعة مصطفى البابي الحلبي (مصر)، ط 2 (1395 هـ).
121) الجدول في إعراب القرآن الكريم، محمود بن عبد الرحيم صافي، دار الرشيد (دمشق) ومؤسسة الإيمان (بيروت)، ط 4 (1418 هـ).
122) الجُمل في النحو، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي، اعتنى به: د. فخر الدين قباوة، ط 5 (1416 هـ).
123) جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، اعتنى به: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين (بيروت)، ط 1 (1987 م).
124) الجنى الداني في حروف المعاني، ابن أم قاسم أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم المرادي، اعتنى به: د. فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1413 هـ).
125) جواهر القرآن ونتائج الصنعة، جامع العلوم أبو الحسن علي بن الحسين الأصبهاني الباقولي، اعتنى به: د. محمد أحمد الدالي، دار القلم (دمشق)، ط 1 (1440 هـ).
126) الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة، الملَّا حسين بن إسكندر الرومي، دار البصائر (القاهرة)، ط 1 (1430 هـ).
127) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، دار المدني (القاهرة).
128) حاشية الانتصاف فيما تضمنه الكشاف، ناصر الدين ابن المنير الإسكندري، مطبوع ضمن تفسير الكشاف للزمخشري تعليقًا عليه، اعتنى به: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة (بيروت)، ط 3 (1430 هـ).
129) حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي (نواهد الأبكار وشوارد الأفكار)، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، (1424 هـ).
130) حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي)، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي، دار صادر (بيروت).
131) حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، أبو العرفان محمد بن علي الصبان، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1417 هـ).
132) حاشية الطيبي على الكشاف (فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب)، شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي، إشراف: د. محمد عبد الرحيم سلطان العلماء، وحدة البحوث والدراسات في جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط 1 (1434 هـ).
133) حاشية القونوي على تفسير البيضاوي، عصام الدين إسماعيل بن محمد القونوي، اعتنى به: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1422 هـ).
134) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (شرح مختصر المزني)، أبو الحسن الماوردي علي بن محمد، اعتنى به: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
135) الحجة في القراءات السبع، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه، اعتنى به: د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق (بيروت)، ط 4 (1401 هـ).
136) الحجة للقراء السبعة، أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، اعتنى به: بدر الدين قهوجي وبشير جويجابي، دار المأمون للتراث، ط 2 (1413 هـ).
137) حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، محمد الأمين بن عبد الله الهرري، اعتنى به: د. هاشم محمد علي، دار طوق النجاة (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
138) حروف المعاني والصفات، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، اعتنى به: علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1984 م).
139) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، دار الفكر (بيروت)، (1416 هـ).
140) الحيوان، الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 2 (1424 هـ).
141) الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 4.
142) الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي، إشراف: محمود بن عبد الفتاح النحال، شركة الروضة (القاهرة)، ط 1 (1436 هـ).
143) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: د. أحمد محمد الخراط، دار القلم (دمشق).
144) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الفكر (بيروت)، (1993 م).
145) دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد بن عبد الخالق عضيمة، دار الحديث (القاهرة).
146) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني، اعتنى به: محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية (الهند - حيدر اباد)، ط 2 (1392 هـ).
147) دلائل النبوة، أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي، اعتنى به: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية ودار الريان للتراث، ط 1 (1408 هـ).
148) دلائل النبوة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، اعتنى به: د. محمد رواس قلعه جي وعبد البَر عباس، دار النفائس (بيروت)، ط 2 (1406 هـ).
149) دليل الطالبين لكلام النحويين، مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي، إدارة المخطوطات والمكتبات الإسلامية (الكويت)، (1430 هـ).
150) الذخيرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، اعتنى به: محمد حجي وسعيد أعراب ومحمد بو خبزة، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (1994 م).
151) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار الهلال (بيروت)، ط 1.
152) الرد على من يقول القرآن مخلوق، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن النجاد، اعتنى به: رضا الله محمد إدريس، مكتبة الصحابة الإسلامية (الكويت).
153) رسالة الملائكة، أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، اعتنى به: محمد سليم الجندي، دار صادر (بيروت)، (1412 هـ).
154) الرسالة، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، اعتنى به: أحمد شاكر، مكتبه الحلبي (مصر)، ط 1 (1358 هـ).
155) رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبد النور المقالي، اعتنى به: أحمد محمد الخراط، مجمع اللغة العربية بدمشق.
156) روح البيان في تفسير القرآن، إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي، دار الفكر (بيروت).
157) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، اعتنى به: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
158) الروح، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، دار الكتب العلمية (بيروت).
159) الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، اعتنى به: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
160) روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، دار الكتب العلمية (بيروت)، (1403 هـ).
161) زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، اعتنى به: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي (بيروت)، ط 1 (1422 هـ).
162) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، مؤسسة الرسالة (بيروت) ومكتبة المنار الإسلامية (الكويت)، ط 27 (1425 هـ).
163) الزهد والرقائق، أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك، اعتنى به: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية (بيروت).
164) زهرة التفاسير، أبو زهرة محمد بن أحمد بن مصطفى، دار الفكر العربي.
165) زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، مكتبة دار القلم والكتاب (الرياض)، ط 1 (1416 هـ).
166) سر الفصاحة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1402 هـ).
167) سر صناعة الإعراب، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
168) السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، مطبعة بولاق -الأميرية- (القاهرة)، (1285 هـ).
169) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف (الرياض)، ط 1 (1422 هـ).
170) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف (الرياض)، ط 1 (1412 هـ).
171) السلوك لمعرفة دول الملوك، تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر الحسيني المقريزي، اعتنى به: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1418 هـ).
172) السُّنة، أبو بكر أحمد بن محمد الخلال، اعتنى به: عطية بن عتيق الزهراني، دار الراية (الرياض)، ط 2 (1994 م).
173) السُّنة، أبو بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني، اعتنى به: محمد ناصر الدين الألباني في (ظلال الجنة في تخريج السُّنة)، المكتب الإسلامي، ط 1 (1400 هـ).
174) سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، اعتنى به: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.
175) سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، اعتنى به: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية (بيروت).
176) سنن الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1424 هـ).
177) السنن الكبرى، أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي، اعتنى به: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 3 (1424 هـ).
178) السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي، اعتنى به: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
179) سنن النسائي (المجتبى من السنن)، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي، اعتنى به: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية (سوريا - حلب)، ط 2 (1406 هـ).
180) سِيَر أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 3 (1405 هـ).
181) السِّيَر، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري، اعتنى به: فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1987 م).
182) السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، نور الدين أبو الفرج علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 2 (1427 هـ).
183) السيرة النبوية، جمال الدين أبو محمد عبد الملك بن هشام، اعتنى به: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، مطبعة مصطفى البابي (مصر)، ط 2 (1375 هـ).
184) السيوف المشرقة ومختصر الصواقِع المحرقة، أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد الآلوسي، اعتنى به: د. مجيد الخليفة، مكتبة الإمام البخاري (القاهرة)، ط 1 (1429 هـ).
185) الشافية في علمي التصريف والخط، جمال الدين ابن الحاجب عثمان بن عمر الكردي، اعتنى به: د. صالح عبد العظيم الشاعر، مكتبة الآداب (القاهرة)، ط 1 (2010 م).
186) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي، أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة (الرياض)، ط 8 (1423 هـ).
187) شرح السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي (دمشق)، ط 2 (1403 هـ).
188) شرح الشافية، الخضر اليزدي، اعتنى به: حسن أحمد الحمدو عثمان، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، (1416 هـ).
189) شرح ألفية ابن مالك، محمد بن صالح العثيمين، مكتبة الرشد (الرياض)، ط 1 (1434 هـ).
190) شرح الكافية الشافية، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي، اعتنى به: عبد المنعم أحمد هريدي، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1402 هـ).
191) شرح المفصل للزمخشري، موفق الدين أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش، اعتنى به: د. إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1422 هـ).
192) شرح تسهيل الفوائد، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي، اعتنى به: د. عبد الرحمن السيد - د. محمد بدوي المختون، دار هجر، ط 1 (1410 هـ).
193) شرح شافية ابن الحاجب، ركن الدين حسن بن محمد بن شرف شاه الحسيني الإستراباذي، اعتنى به: د. عبد المقصود محمد عبد المقصود، مكتبة الثقافة الدينية، ط 1 (1425 هـ).
194) شرح شافية ابن الحاجب، نجم الدين محمد بن الحسن الرضي الإستراباذي، اعتنى به: محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيى الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية (بيروت)، (1395 هـ).
195) شرح شذور الذهب، ابن هشام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الأنصاري، اعتنى به: عبد الغني الدقر، الشركة المتحدة للتوزيع (سوريا).
196) شرح صحيح البخاري، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، اعتنى به: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد (الرياض)، ط 2 (1423 هـ).
197) شرح صحيح مسلم للنووي (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 2 (1392 هـ).
198) شرح قطر الندى وبل الصدى، ابن هشام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الأنصاري، اعتنى به: د. إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 4 (1425 هـ).
199) شرح كتاب سيبويه، أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، اعتنى به: أحمد حسن مهدلي وعلي سيد علي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (2008 م).
200) شرح مشكل الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
201) شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، د. مساعد بن سليمان الطيار، اعتنى به: بدر بن ناصر الجبر، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 1 (1431 هـ).
202) الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، اعتنى به: عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن (الرياض)، ط 2 (1420 هـ).
203) شعب الإيمان، أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي، اعتنى به: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد (الرياض) والدار السلفية (الهند - بومباي)، ط 1 (1423 هـ).
204) شواذ القراءات، رضي الدين شمس القراء أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الكرماني، اعتنى به: د. شمران العجلي، مؤسسة البلاغ (بيروت).
205) الصارم المسلول، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، اعتنى به: محمد محي الدين عبد الحميد، الحرس الوطني (المملكة العربية السعودية).
206) الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، اعتنى به: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين (بيروت)، ط 4 (1407 هـ).
207) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 2 (1414 هـ).
208) صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، اعتنى به: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي (بيروت).
209) صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، اعتنى به: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط 1 (1422 هـ).
210) الصحيح المسند من أسباب النزول، مقبل بن هادي بن مقبل الوادعي، مكتبة ابن تيمية (القاهرة)، ط 4 (1408 هـ).
211) صحيح سنن أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مؤسسة غراس (الكويت)، ط 1 (1423 هـ).
212) صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري، اعتنى به: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي (بيروت).
213) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، اعتنى به: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة (الرياض)، ط 1 (1408 هـ).
214) طبقات الشافعية، جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي، اعتنى به: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (2002 هـ).
215) الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد، اعتنى به: إحسان عباس، دار صادر (بيروت)، ط 1 (1968 م).
216) طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها، أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني، اعتنى به: عبد الغفور عبد الحق حسين البلوشي، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 2 (1412 هـ).
217) طبقات النحويين واللغويين، أبو بكر محمد بن الحسن بن عبيد الله الزبيدي، اعتنى به: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 2.
218) العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني، اعتنى به: عبد الحكيم محمد الأنيس، دار ابن الجوزي (الدمام).
219) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، محمد الأمين الجكني الشنقيطي، اعتنى به: خالد بن عثمان السبت، دار عالم الفوائد (مكة المكرمة)، ط 2 (1426 هـ).
220) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين أبو الطيب محمد بن أحمد الحسني الفاسي، اعتنى به: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1998 م).
221) العقد النضيد في شرح القصيد: سورة البقرة، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: ناصر بن سعود القثامي، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، (1423 هـ).
222) العقد النضيد في شرح القصيد: من أول الكتاب إلى أول باب الفتح والإمالة، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: د. أيمن رشدي سويد، دار نور المكتبات (جدة)، ط 1 (1422 هـ).
223) العقد النضيد في شرح القصيد: من أول سورة الزمر إلى نهاية الكتاب، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: عائض بن سعيد القرني، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، (1432 هـ).
224) علل الحديث، ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد، إشراف: د. سعد بن عبد الله آل حميد - د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي، مطابع الحميضي، ط 1 (1427 هـ).
225) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1417 هـ).
226) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (مخطوط)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، اعتنى به: محمود محمد السيد الدغيم، دار السيد للنشر (استانبول)، ط 1 (1407 هـ).
227) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي (بيروت).
228) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، عز الدين ابن الوزير محمد بن إبراهيم الحسني القاسمي، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 3 (1415 هـ).
229) العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي، اعتنى به: د. مهدي المخزومي - د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.
230) غاية النهاية في طبقات القراء، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري محمد بن محمد، مكتبة ابن تيمية.
231) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، شمس الدين أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، مؤسسة قرطبة (مصر)، ط 2 (1414 هـ).
232) غريب الحديث، أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، اعتنى به: د. سليمان إبراهيم محمد العايد، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1405 هـ).
233) غريب الحديث، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، اعتنى به: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي وعبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر، (1402 هـ).
234) غريب القرآن، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، اعتنى به: سعيد اللحام.
235) الغريبين في القرآن والحديث، أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، اعتنى به: أحمد فريد المزيدي، مكتبة نزار مصطفى الباز (مكة المكرمة)، ط 1 (1419 هـ).
236) فتاوى اللجنة الدائمة (المجموعة الأولى)، اعتنى به: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء (الرياض).
237) فتاوى نور على الدرب لابن باز، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، اعتنى به: د. محمد بن سعد الشويعر.
238) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني، اعتنى به: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة (بيروت).
239) فتح البيان في مقاصد القرآن، أبو الطيب محمد صديق خان، اعتنى به: عبد الله إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية (بيروت)، (1412 هـ).
240) فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، زكريا بن محمد الأنصاري، اعتنى به: محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم (بيروت)، ط 1 (1403 هـ).
241) فتح الرحمن في تفسير القرآن، مجير الدين أبو اليُمن عبد الرحمن بن محمد العليمي، اعتنى به: نور الدين طالب، دار النوادر، ط 1 (1430 هـ).
242) الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي، اعتنى به: أحمد مجتبى، دار العاصمة (الرياض).
243) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار ابن كثير (دمشق)، ودار الكلم الطيب (بيروت)، ط 1 (1414 هـ).
244) فتح القدير، كمال الدين ابن الهمام محمد بن عبد الواحد، دار الفكر.
245) الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، اعتنى به: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة (القاهرة).
246) الفصول المفيدة في الواو المزيدة، صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، اعتنى به: حسن موسى الشاعر، دار البشير (الأردن - عمَّان)، ط 1 (1410 هـ).
247) فضائل القرآن وما أنزل من القرآن بمكة وما أنزل بالمدينة، أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس، اعتنى به: غزوة بدير، دار الفكر (دمشق)، ط 1 (1408 هـ).
248) الفهرست، ابن النديم أبو الفرج محمد بن إسحاق، اعتنى به: إبراهيم رمضان، دار المعرفة (بيروت)، ط 2 (1417 هـ).
249) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، شهاب الدين أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي، دار الفكر، (1415 هـ).
250) فيض الباري على صحيح البخاري، محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري، اعتنى به: محمد بدر عالم الميرتهي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1426 هـ).
251) فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي، المكتبة التجارية الكبرى (مصر)، ط 1 (1356 هـ).
252) القطع والائتناف، أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، اعتنى به: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، دار عالم الكتب، ط 1 (1413 هـ).
253) قواعد الترجيح عند المفسرين؛ دراسة نظرية تطبيقية، د. حسين بن علي بن حسين الحربي، دار القاسم (الرياض)، ط 1 (1417 هـ).
254) القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 2 (1424 هـ).
255) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة آل عمران: 106 - 156)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: يعقوب مصطفى سي، (1435 هـ).
256) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة آل عمران: 157 - إلخ)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: وائل بن محمد بن علي جابر، (1435 هـ).
257) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة الأنعام: 141 - سورة الأعراف: 86)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: عبد الله بن صالح العمر، (1436 هـ).
258) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة البقرة: 204 - 227)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: عبد الخالق بن حسن الزميلي، (1433 هـ).
259) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة النساء: 32 - 79)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: بداح بن عبد الله السبيعي، (1437 هـ).
260) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة النساء: 80 - سورة المائدة: 41)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: عبد الهادي بن علي القرني، (1436 هـ).
261) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: (سورة النور: 41 - سورة الشعراء: 22)، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: ماجد بن ماشع الحربي، (1436 هـ).
262) القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز: من أول الكتاب إلى الآية (105) من سورة البقرة، السمين الحلبي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، اعتنى به: عبد الرحيم بن محمد القاوش، (1431 هـ).
263) الكافي في فقه الإمام أحمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1414 هـ).
264) الكامل في القراءات والأربعين الزائدة عليها، أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي، اعتنى به: جمال بن السيد بن رفاعي الشايب، مؤسسة سما، ط 1 (1428 هـ).
265) الكامل في اللغة والأدب، المبرد أبو العباس محمد بن يزيد، اعتنى به: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي (القاهرة)، ط 3 (1417 هـ).
266) الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد، أبو يوسف منتجَب الدين بن أبي العز بن رشيد الهمذاني، اعتنى به: محمد نظام الدين الفتيح، دار الزمان (المدينة المنورة)، ط 1 (1427 هـ).
267) الكتاب، سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، اعتنى به: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ط 3 (1408 هـ).
268) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو الزمخشري، دار الكتاب العربي (بيروت)، ط 3 (1407 هـ).
269) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله القسطنطيني العثماني، مكتبة المثنى (بغداد)، (1941 م).
270) كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، اعتنى به: علي حسين البواب، دار الوطن (الرياض).
271) كشف المشكلات وإيضاح المعضلات، جامع العلوم أبو الحسن علي بن الحسين الأصبهاني الباقولي، اعتنى به: محمد أحمد الدالي، مطبعة الصباح (دمشق)، (1415 هـ).
272) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، اعتنى به: د. محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 3 (1404 هـ).
273) كفاية النبيه في شرح التنبيه، ابن الرفعة نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، اعتنى به: مجدي محمد سرور باسلوم، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (2009 م).
274) الكلم الطيب، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اعتنى به: د. السيد الجميلي، دار الفكر اللبناني (بيروت)، ط 1 (1407 هـ).
275) الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، اعتنى به: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة (بيروت).
276) الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري، شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني، اعتنى به: أحمد عزو عناية، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، ط 1 (1429 هـ).
277) اللامات، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، اعتنى به: مازن المبارك، دار الفكر (دمشق)، ط 2 (1405 هـ).
278) اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الحنبلي، اعتنى به: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
279) لسان العرب، جمال الدين ابن منظور أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي الأنصاري، دار صادر (بيروت)، ط 3 (1414 هـ).
280) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، شمس الدين أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، مؤسسة الخافقين (دمشق)، ط 2 (1402 هـ).
281) المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة (بيروت)، (1414 هـ).
282) المجتبى من مشكل إعراب القرآن، أ. د. أحمد بن محمد الخراط، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، (1426 هـ).
283) المجروحين من المحدثين، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، اعتنى به: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي (الرياض)، ط 1 (1420 هـ).
284) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، اعتنى به: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي (القاهرة)، (1414 هـ).
285) مجموع الفتاوى لابن تيمية، اعتنى به: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، (1416 هـ).
286) مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، اعتنى به: أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر.
287) المجموع شرح المهذب، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، دار الفكر (بيروت).
288) مجموع فتاوى ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، اعتنى به: محمد بن سعد الشويعر.
289) مجموعة الشافية في علمي التصريف والخط (وهي تشتمل على متن الشافية لابن الحاجب وخمسة شروح لها)، اعتنى به: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1435 هـ).
290) محاسن التأويل (تفسير القاسمي)، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي، اعتنى به: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1418 هـ).
291) المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، اعتنى به: علي النجدي ناصف وعبد الحليم النجار وعبد الفتاح شلبي، وزارة الأوقاف - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء كتب السنة (القاهرة).
292) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي أبو محمد عبد الحق بن غالب، اعتنى به: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1422 هـ).
293) المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة؛ دراسة الأسباب رواية ودراية، د. خالد بن سليمان المزيني، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 1 (1427 هـ).
294) المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي، اعتنى به: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
295) المحيط في اللغة، الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني، دار عالم الكتب (بيروت)، ط 1 (1414 هـ).
296) المختارة (المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما)، ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، أ. د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر (بيروت)، ط 3 (1420 هـ).
297) مختصر التحرير شرح الكوكب المنير، ابن النجار تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي، اعتنى به: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط 2 (1418 هـ).
298) مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه، اعتنى به: برجستراسر، ضمن سلسلة النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية (7)، المطبعة الرحمانية (مصر).
299) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، اعتنى به: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي (بيروت)، ط 3 (1416 هـ).
300) المدونة، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
301) المساعد على تسهيل الفوائد، بهاء الدين ابن عقيل عبد الله بن عبد الرحمن العقيلي، اعتنى به: د. محمد كامل بركات، دار الفكر (دمشق) ودار المدني (جدة)، ط 1 (1405 هـ).
302) المسالك في شرح موطأ مالك، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، اعتنى به: محمد بن الحسين السليماني وعائشة بنت الحسين السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط 1 (1428 هـ).
303) مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، اعتنى به: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (1400 هـ).
304) المسائل الحلبيات، أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، اعتنى به: د. حسن هنداوي، دار القلم ودار المنارة، ط 1 (1407 هـ).
305) مستخرج أبي عوانة (المسند الصحيح المخرَّج على صحيح مسلم)، اعتنى به: عباس بن صفاخان بن شهاب الدين وآخرون، الجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)، ط 1 (1435 هـ).
306) المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم ابن البيع محمد بن عبد الله النيسابوري، اعتنى به: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1411 هـ).
307) مسند إسحاق بن راهويه، ابن راهويه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، اعتنى به: د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان (المدينة النبوية)، ط 1 (1412 هـ).
308) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، اعتنى به: شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1421 هـ).
309) مشكل إعراب القرآن، أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، اعتنى به: د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 2 (1405 هـ).
310) المصاحف، أبو بكر بن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، اعتنى به: محمد بن عبده، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر (القاهرة)، ط 1 (1423 هـ).
311) مصنف ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار)، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم العبسي، اعتنى به: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد (الرياض)، ط 1 (1409 هـ).
312) المصنف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، اعتنى به: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي (الهند) والمكتب الإسلامي (بيروت)، ط 2 (1403 هـ).
313) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، اعتنى به: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم (الدمام)، ط 1 (1410 هـ).
314) معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، اعتنى به: عبد الجليل عبده شلبي، دار عالم الكتب (بيروت)، ط 1 (1408 هـ).
315) معاني القرآن وتفسير مشكل إعرابه، قطرب أبو علي محمد بن المستنير، اعتنى به: محمد لقريز، جامعة الحاج لخضر باتنة (الجزائر)، (1436 هـ).
316) معاني القرآن، أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، اعتنى به: محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1409 هـ).
317) معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء، اعتنى به: أحمد يوسف النجاتي ومحمد علي النجار وعبد الفتاح إسماعيل الشلبي، دار المصرية، ط 1.
318) معاني القرآن، الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة، اعتنى به: د. هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ط 1 (1411 هـ).
319) معاني النحو، د. فاضل صالح السامرائي، دار الفكر (الأردن)، ط 1 (1420 هـ).
320) معترك الأقران في إعجاز القرآن، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1408 هـ).
321) المعتصر من المختصر من مشكل الآثار، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن موسى بن محمد المَلَطي، دار عالم الكتب (بيروت).
322) معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، اعتنى به: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي (بيروت)، ط 1 (1414 هـ).
323) المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، د. محمد حسن حسن جبل، مكتبة الآداب (القاهرة)، ط 1 (2010 م).
324) المعجم الأوسط، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي، اعتنى به: طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين (القاهرة).
325) المعجم الصغير (الروض الداني)، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي، اعتنى به: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي ودار عمار، ط 1 (1405 هـ).
326) المعجم الكبير، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي، اعتنى به: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية (القاهرة)، ط 2.
327) المغازي، أبو عبد الله الواقدي محمد بن عمر بن واقد السهمي، اعتنى به: مارسدن جونس، دار الأعلمي (بيروت)، ط 3 (1409 هـ).
328) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الأنصاري، اعتنى به: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، ط 6 (1985 م).
329) المغني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة.
330) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد، اعتنى به: صفوان عدنان داودي، دار القلم، ط 1 (1412 هـ).
331) المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، اعتنى به: د. عياد بن عيد الثبيتي - د. عبد المجيد قطامش - وآخرون، جامعة أم القرى (مكة المكرمة)، ط 1 (1428 هـ).
332) مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس، اعتنى به: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، (1399 هـ).
333) المقتضب، المبرد أبو العباس محمد بن يزيد، اعتنى به: محمد بن عبد الخالق عضيمة، دار عالم الكتب.
334) مقدمة في أصول التفسير، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، دار مكتبة الحياة (بيروت)، (1980 م).
335) المكتفى في الوقف والابتدا، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، اعتنى به: محيي الدين عبد الرحمن رمضان، دار عمار، ط 1 (1422 هـ).
336) منازل الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، اعتنى به: إبراهيم السامرائي، دار الفكر (الأردن - عمَّان).
337) المنتقى في الأحكام الشرعية من كلام خير البرية، مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية، اعتنى به: طارق بن عوض الله بن محمد، دار ابن الجوزي (الدمام)، ط 1 (1429 هـ).
338) منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات، ابن النجار تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد الفتوحي، اعتنى به: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1419 هـ).
339) منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل، جمال الدين ابن الحاجب عثمان بن عمر الكردي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1405 هـ).
340) منثور الفوائد، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، اعتنى به: د. حاتم صالح الضامن، دار الرائد العربي (بيروت)، ط 1 (1410 هـ).
341) منهاج السنة النبوية،، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اعتنى به: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1 (1406 هـ).
342) منهج الإمام ابن جرير الطبري في الترجيح بين الأقوال التفسيرية؛ دراسة نظرية تطبيقية، د. حسين بن علي الحربي، مركز تفسير للدراسات القرآنية، ط 1 (1436 هـ).
343) منهج السمين الحلبي في التفسير في كتابه الدر المصون، د. عيسى بن ناصر بن علي دُريبي، عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1 (1428 هـ).
344) الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، اعتنى به: مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1 (1417 هـ).
345) موافقة الخبرِ الخبرَ في تخريج أحاديث المختصر، ابن حجر أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني، اعتنى به: حمدي عبد المجيد السلفي وصبحي السيد جاسم السامرائي، مكتبة الرشد (الرياض) ط 2 (1414 هـ).
346) مواهب الجليل في شرح مختصر الخليل، الحطاب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، دار الفكر، ط 3 (1412 هـ).
347) موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، اعتنى به: علي الرضا الحسيني، دار النوادر (سوريا)، ط 1 (1431 هـ).
348) موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب الوقاد زين الدين خالد بن عبد الله بن أبي بكر الأزهري، اعتنى به: عبد الكريم مجاهد، مؤسسة الرسالة (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
349) موطأ مالك، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي، اعتنى به: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية (الإمارات - أبو ظبي)، ط 1 (1425 هـ).
350) نتائج الفكر في النحو، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1412 هـ).
351) نداءات الرحمن لأهل الإيمان، أبو بكر الجزائري جابر بن موسى، مكتبة العلوم والحكم (المدينة النبوية)، ط 3 (1421 هـ).
352) النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري محمد بن محمد، دار الكتب العلمية (بيروت).
353) نصب الراية لأحاديث الهداية، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، اعتنى به: محمد عوامة، مؤسسة الريان ودار القبلة، ط 1 (1418 هـ).
354) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي (القاهرة).
355) النقض على المريسي (نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد)، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، اعتنى به: رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد (الرياض)، ط 1 (1418 هـ).
356) النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني، اعتنى به: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية (بيروت).
357) نيل الأمل في ذيل الدول، زين الدين عبد الباسط بن أبي الصفاء المَلَطي، اعتنى به: عمر عبد السلام تدمري، المكتبة العصرية (بيروت)، ط 1 (1422 هـ).
358) نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، اعتنى به: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث (مصر)، ط 1 (1413 هـ).
359) الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه، أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، إشراف: أ. د. الشاهد البوشيخي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة، ط 1 (1429 هـ).
360) الهداية في شرح بداية المبتدي، برهان الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني، اعتنى به: طلال يوسف، دار احياء التراث العربي (بيروت).
361) هدية العارفين: أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل بن محمد أمين الباباني البغدادي، دار إحياء التراث العربي (بيروت).
362) همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، اعتنى به: عبد الحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية (مصر).
363) الوابل الصيب من الكلم الطيب، ابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، اعتنى به: سيد إبراهيم، دار الحديث (القاهرة)، ط 3 (1999 م).
364) الوجوه والنظائر، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، اعتنى به: محمد عثمان، مكتبة الثقافة الدينية (القاهرة)، ط 1 (1412 هـ).
365) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، اعتنى به: صفوان عدنان داوودي، دار القلم والدار الشامية، ط 1 (1428 هـ).
366) الوسيط في تفسير القرآن المجيد، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، اعتنى به: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وآخرون، دار الكتب العلمية (بيروت)، ط 1 (1415 هـ).
367) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين ابن خلكان، اعتنى به: إحسان عباس، دار صادر (بيروت)، ط 1 (1994 م).