الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{النساء: 1}
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} {الأحزاب: 70 - 71} .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
الحمد لله الذي ميَّز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث كالزبد يذهب جفاء، وجعل الصحيح كالوابل الصيب، وهو سبحانه طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً، والصلاة
والسلام على من بعثه ربه فرقاناً بين الحق والباطل، وعلى آله وأصحابه الأبطال البواسل، الذين ذبوا عن الإسلام وحاربوا كل باطل، فبقت الأمة الإسلامية برهة من الزمن على مثل البيضاء، ليلها كنهارها؛ ثم لما طال العهد، وقلَّ العلم، وكثر الجهل، انتشرت الأباطيل، والإشاعات والدعايات والانحرافات، والكذب على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشعرون، فانتشرت، واشتهرت، وصالت، وجالت الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، والقصص الواهية، بل والأشعار المهزوزة والمكذوبة، وتسربت من خلالها الأفكار المنحرفة، والعقائد الضالة، فتأثرت العامة والخاصة بهذا الكمِّ الهائل من الأباطيل في جوانب شتى، منها:
(1)
ترك العمل بالأحاديث الصحيحة الثابتة، والانشغال بالموضوعة والضعيفة
(1)
، وأخطر من ذلك العمل بالأحاديث المخالفة للأحاديث
(1)
والحديث الضعيف لا يُعمل به مطلقاً على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وقد قال بهذا القول: ابن العربي المالكي، والشوكاني، وصديق حسن خان، والشهاب الخفاجي، ويحيى بن معين، والظاهر أنه مذهب البخاري ومسلم، وهو مذهب ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والألباني، وشيخنا مقبل الوادعي. وانظر "القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف" (ص: 20 - 27) وكتابي "الملخص النفيس الميسر في مصطلح الحديث والأثر"(ص: 58).
وقد ذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه يُعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط:
(1)
أن لا يكون شديد الضعف. (2) أن يندرج تحت أصل ثابت. (3) أن يعمل به في خاصة نفسه ولا يدعو الناس إليه. (4) لا يعتقد عند العمل به ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. "تدريب الراوي"(1/ 298 - 299) و"قواعد في علوم الحديث"(ص: 92 - 95). وعند التحقيق تجد أن من يعمل بالحديث الضعيف لا يُطبق هذه الشروط التي ذكرها الجمهور.
الثابتة، مثل حديث:(لا سلام على طعام). وقد حث الإسلام على السلام ولم يستثنِ حالة الطعام.
(2)
الوقوع في بعض الاعتقادات الفاسدة، مثل حديث:(لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه). فالحديث فيه دعوة إلى عبادة الأحجار دون الواحد القهار. ومثل البيت المكذوب المنسوب للأخطل النصراني: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أودمٍ مهراق فيؤولون الاستواء في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {طه: 5} . فيقولون (استوى) بمعنى استولى، وهذا باطل.
(3)
صرف الناس عن التوسل المشروع، ودعوتهم إلى التوسل الممنوع، مثل حديث:(توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم).
(4)
إثبات بعض الأسماء لله تعالى لم تثبت في الكتاب والسنة، مثل اسم (الجليل)، وذلك في الأثر الضعيف المشهور عن علي رضي الله عنه: (التقوى الخوف من الجليل
…
إلخ).
(5)
صرف الناس عن الصلاة والعبادة إذا حصل منهم شيء من التقصير، مثل الحديث الضعيف:(من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له).
(6)
انتشار البدع واندثار السنن، مثل حديث:(من شم الطيب فليصلِّ عليَّ) فأصبح من شم طيباً، أو ريحاناً، يقول: اللهم صل على محمد، ولم يكن هذا من هديه عليه الصلاة والسلام. وحديث: (إذا طنَّت
أذن أحدكم فليذكرني، وليصلِّ عليَّ، وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير). وحديث: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
(7)
إدخال ما ليس من الإيمان في الإيمان، مثل حديث:(حب الوطن من الإيمان).
(8)
تأصيل أصول مخالفة لأصول الشريعة، مثل الحديث الذي لا أصل له:(اختلاف أمتي رحمة) وهو مخالف للنصوص التي تذم الاختلاف.
(9)
تحريم أشياء أحلَّها الله عز وجل، مثل حديث:(أبغض الحلال إلى الله الطلاق).
(10)
تشويه صور الصحابة رضوان الله عليهم، مثل القصة المفتراة على الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه في منعه للزكاة، وتركه للصلاة. وقصة رمي حسَّان بن ثابت رضي الله عنه بالجبن، وقصة رحيل بلال من الشام إلى المدينة، وأذانه وتمرغه بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته.
وهذا الانتشار الواسع في جوانب شتى من الدين دليل على خطر داهِم، حتى أصبح كثير من هذه الأباطيل المكذوبة، والأخبار الموضوعة من المُسَلَّمات، ومن الثوابت الصحيحة التي لا يُقبل فيها الجدال والنقاش عند كثير من الناس، بل إن الواحد منهم يُصاب بالدهشة ودوران الرأس ويتعجب كل العجب! إذا قيل له: هذا حديث ضعيف، أو هذا أثر لا يثبت عن فلان، أو هذه قصة ليس لها إسناد، أو سندها ساقط، أو هذه الأبيات التي يترنم بها الشعراء والأدباء والمثقفون، ويرمون بها بريئاً لا
تثبت نسبتها إليه، يُصدم بهذا الخبر، ويرتج عليه، و يُشده؛ لأنك هدمت له يقيناً لا شك فيه، ومعلومات عاشت معه دهوراً مديدة، وأعواماً عديدة، فجئته أنت بفائدة جديدة، وبمعلومة فريدة، أفسدت عليه ثقافته التليدة، والصحيح أنك أصلحت وما أفسدت، وبنيت وما هدمت، وصفَّيت وما كدرت، والحق أحق أن يُتبع، وماذا بعد الحق إلا الضلال، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} {الأنبياء: 18}.
ثم اعلم أن هذا الانتشار الكبير، لهذه الأحاديث والآثار والقصص والأشعار، في جميع مستويات وطبقات الناس، من الرجال والنساء، والصغار والكبار، بل على مستوى بعض الدعاة، وخطباء المساجد، والمثقفين، والمدرسين، سببه ما يلي:
…
(1)
الجهل.
(2)
القنوات التي تبث برامج دينية.
(3)
الإذاعات الإسلامية.
(4)
الجرائد والمجلات.
(5)
الكتب التي لا يعتني مؤلفوها بالصحيح والضعيف.
(6)
خطباء المساجد والمحاضرون، الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف.
(7)
بعض المناهج الدراسية المقررة على الطلاب والطالبات في المدارس.
(8)
عدم سؤال العلماء العالمين بهذا الفن عن تلك الأحاديث التي سمعها من هذه المصادر، وهناك مصادر أخرى انتشرت من خلالها الأحاديث والآثار والقصص والأشعار الواهية، اكتفيت بما أشرت إليه خشية الإطالة.
خطة البحث:
فلهذه الأسباب وغيرها حرصت منذ سنين أن أقوم بجمع بعض المشتهرات، من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار، التي كثر انتشارها واشتهارها في أوساط الناس في عصرنا هذا، وحرصت أن لا أذكر في كتابي هذا إلا أخباراً ساقطة، بأسانيد واهية، أو لا أصل لها، أو أجمع أهل العلم بالنقل على بطلانها، أو ذهب أكثر المحققين من أهل العلم بالحديث إلى تضعيفها، وأما غير ذلك فقليل نادر، ممالم أجد من تكلم عليه إلا آحاد العلماء من المتقدمين أو المتأخرين، وحاولت أن أجمع ما أمكن بين المتقدمين والمتأخرين في الحكم على الحديث
(1)
، أو الأثر، أو القصة، أو الأبيات الشعرية، وبخاصة علماء الدعوة السلفية المعاصرين،
(1)
قد يقول قائل: لقد أكثرت من النقل عمن لم يشتهر بعلم الحديث كالعجلوني وابن الديبع والبيروتي وغيرهم؟. والجواب: إنما فعلت ذلك لاتحاد موضوع كتابي مع موضوع كتبهم، وهو جمع الأحاديث المشتهرة.
وذلك لجهودهم المبذولة المشهورة، والمشكورة في خدمة الإسلام والمسلمين، كيف لا وهم المقيَّضون لحراسة قلعة السنة من عبث العابثين، وإفساد المفسدين.
ولِما جعل الله لهم من القبول في قلوب الناس، والتسليم لأحكامهم وفتاويهم، وكذلك ليرتبط الناس بخير خلف لخير سلف. مثل: خاتمة المحدثين، وصيرَفي الحديث، من وُصف بطول الباع، وسعة الاطلاع، وقوة الإقناع، العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وكذا الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، سماحة العلامة عبد العزيز بن باز، وشيخنا العلامة المجاهد سيف السنة، وقامع البدعة، محدث الديار اليمنية، والجزيرة العربية، مقبل بن هادي الوادعي
(1)
، والعلامة المتفنن البارع بحر العلوم، شيخنا محمد بن صالح العثيمين، واللجنة الدائمة المبجلة حرسها الله.
أولئك أشياخي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا أُخي المجامع
رحم الله من مات منهم وسقاهم من سلسبيل الجنة، وحفظ الله من بقي ومتع به.
(1)
فقد كان يقول رحمه الله: (يا حبذا لو ألَّفَ طالب علم في الأحاديث المشتهرة العصرية التي لم تكن في زمن المتقدمين). "السير الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"(ص: 301).
وقد قمت بتقسيم البحث إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الأحاديث.
القسم الثاني: الآثار
(1)
.
القسم الثالث: القصص.
(1)
قال العلامة الألباني رحمه الله جواباً على رسالة أبي إسحاق الحويني، حيث قال أبو إسحاق: توقفت طويلاً في الحكم على الآثار التي يوردها ابن كثير: هل أخضعها لقواعد المحدثين من النظر في رجال السند، واعتبار ما قيل فيهم من جرح وتعديل، أم أتساهل في ذلك، وأدَّاني البحث والتأمل أنه لابد من إخضاع كل ذلك لقواعد المحدثين، إذ الكل نقلٌ، وأصول الحديث إنما وضعها العلماء لذلك. ولأني أشعر بخطورة الأمر عرضت ما وصلت إليه على من أثق بعلمه ورأيه من شيوخي وإخواني، فكتبت لشيخنا الشيخ الإمام حسنة الأيام أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى ومتع به أذكر له ما انتهى إليه بحثي، وما اخترته منهجاً لي في العمل، وذلك في آخر شوال 1415 هـ فأجابني إلى ما أردت برغم مرضه الشديد - آنذاك - عافاه الله ورفع عنه.
…
وهاك رسالة شيخنا حفظه الله:
…
وإذا كان من المعلوم ومن المتفق عليه أنه لا سبيل إلى معرفة الصحيح المنقول من ضعيفه، سواء كان الحديث مرفوعاً أو أثراً موقوفاً إلا بإسناد، ولذلك قال بعض السلف: لو لا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فكيف يصح أن ينُسب إلى ابن تيمية وغيره من المحققين أنهم لا يعتبرون الأسانيد في نسبة الأقوال إلى قائليها؟ وكيف يمكن معرفة الصحيح من غيره إلا بالإسناد، لا سيما وفي الآثار قسم كبير له حكم الرفع بشروط معروفة، لا مجال الآن لذكرها، من أهمها أن لا يكون من الإسرائيليات.
وختاماً: فإني أرى أنه لا بد من إخضاع أسانيد التفسير كلها للنقد العلمي الحديثي، وبذلك نتخلص من كثير من الآثار الواهية التي لاتزال في بطون كتب التفسير، وما كان سكوت العلماء عنها إلا لكثرتها وصعوبة التفرغ لها، وعليه أقترح حصر النقد بما لا بد منه من الآثار المتعلقة بالتفسير بما يعين على الفهم الصحيح، أو يصرف غيره تصحيحاً وتضعيفاً، والإعراض عما لا حاجة لنا به من الآثار
…
وكتبه محمد ناصر الدين الألباني. "تحقيق تفسير ابن كثير"(1/ 8) للحويني ط. ابن الجوزي.
القسم الرابع: الأشعار
(1)
.
• وقد ذكرت مصادر البحث والتحقيق من باب الأمانة والتوثيق، إلا ما ندر، أو كان سماعاً من شيخنا الوادعي رحمه الله.
• واستخدمت في حكمي على الحديث كلمة (ضعيف)، أو (موضوع) أو (لا أصل له)، أو (منكر)، أو (ليس بحديث)، أو ما شابهها من المصطلحات المعروفة عند كثير من القراء تسهيلاً لهم، مع أن الحديث قد يكون معضلاً، أو مرسلاً، أو منقطعاً،
…
فأُبيِّن ذلك في الكلام على علة الحديث.
• وقد أذكر أحياناً تحت حديث الباب بعض الأحاديث الضعيفة التي في معناه.
• وقد قمت بالتعليق بعد التخريج والتحقيق على كل حديث بما يُناسبه، فإن كان معناه صحيحاً نصرته وبينته، وأتيت بما
(1)
قد يقول قائل: حتى الأبيات الشعرية يُنظر في سندها، وفي صحة نسيبتها إلى قائلها؟!
والجواب: نعم يُنظر في سندها، وفي صحة نسبتها إلى قائلها. قال شيخنا العلامة المحدث وصي الله عباس: ثم إن المساجلات الشعرية والمكاتبات الافتخارية التي تَنْتَحِل بعض كتب الأدب والتاريخ إلى علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه لهي من أبشع ما يُنقل ويُنسب إليهما. ولا شك أن كثيراً من أمثال هذه الروايات يُنقل بدون خُطُم ولا أزِمَّة وبدون أسانيد وإن كانت مسندة فلا تجدها إن شاء الله سالمة من متهم بالكذب، أو منكر الحديث .... ثم قال حفظه الله: فيجب أن لا تقبل الروايات من أي نوعٍ كانت إلا ما ثبت منها برواية ثقات عدول على ميزان نقد المحدثين في قبول الروايات عامة. اهـ. "المسجد الحرام تاريخه وأحكامه"(ص: 8، 9).
يُؤيده ويُغني عنه من الأحاديث الصحيحة، وإن لم يكن معناه صحيحاً نبهت على ذلك، وبيَّنت وجه الصواب فيه، فجاء الكتاب بفضل الله الملك الوهاب معالجاً لأمراض شتى، من بيان الصحيح من الضعيف في الحكم على الأحاديث والآثار، والقصص والأشعار، وبيان ما تحمله بعض هذه الأخبار من عقائد فاسدة، ومفاهيم خاطئة، وسلوكيات شاذة، وانحرافات مخالفة للكتاب والسنة، شوهت جمال الإسلام عند غير أهله، كل ذلك تجده بإذن الله في التعليق على الأحاديث.
والحق أن هذا التعليق يحمل علماً غزيراً، وفقهاً وفيراً، جمعت فيه ما تفرق من الفوائد والشوارد، فأصبح كالعذب الزلال لكل شارب ووارد، أوكأزهار متناثرة في حدائق ذات بهجة فيها من كل زوج بهيج، التقطتها ليستفيد منها القريب والبعيد، فهو كتاب عجيب له من اسمه أعظم نصيب.
وإذا أردت منازلَ الأشَرَافِ فاقرأ هُدِيتَ الرشدَ في الإسعَافِ
وانهل من العذبِ الزلالِ مواردا وانأ بنفسك عن ذوي الإجحافِ
فيا أيها الناظر فيه لك غنمه وعليَّ غرمه، ولك صفوه وعليَّ كدره، وهذه بضاعتنا المزجاة تُعرض عليك، وبنات أفكارنا تُزف إليك، فإن
صادفت كفؤاً كريماً لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن كان غير ذلك فالله المستعان
(1)
.
وقديماً قال الصولي: المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من مُنشئه.
ورحم الله العماد الأصفهاني القائل: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غيرت هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
وقال المزني رحمه الله: قرأت كتاب "الرسالة" على الإمام الشافعي رحمه الله ثمانين مرة، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ، فقال الشافعي: هيه -أي حسبك واكْفُفْ- أبى الله أن يكون كتاب صحيحاً غير كتابه
(2)
.
قال أحدهم:
…
كم من كتابٍ قد تصفَّحتُهُ
…
وقلتُ في نفسي أصلحتُهُ
حتى إذا طالعته ثانياً
…
وجدتُ تصحيفاً فصححتُهُ
وإني لمعترف بالتقصير في تناول هذا الموضوع سلفاً، وهذا جهد بشري يعتريه الخطأ والنقص. (وأفضل الصدقة جهد المقل)
(3)
.
(1)
مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله. "حادي الأرواح"(ص: 12).
(2)
صحيح "جامع بيان العلم وفضله"(ص: 80).
(3)
أخرجه أبو داود والبغوي وانظر "الصحيحة" رقم (566) و"الإرواء"(897).
والله أسأل أن يبارك في كل من ساهم في إنجاز هذا السَّفْر المبارك، وأسأله سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، طاهراً من شوائب الإحباط، وأن ينفع به طالبي الحق، ورواد الحقيقة، والباحثين عنها، وأتضرع إلى من إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، أن يجعله من الأعمال التي لا ينقطع نفعها عني بعد إدراجي في الأكفان، ومفارقة الأهل والأوطان، كما أسأله سبحانه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، أن يجعل هذا العمل حجاباً لي في الحياة من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وحجاباً من النار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وله سبحانه وبحمده الشكر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته على ما وفق وأسدى، وعلى نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
…
كتبه الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه
أبو عمار محمد بن عبد الله باموسى
اليمن - الحديدة - مركز السلام العلمي
القسم الأول (الأحاديث)
(1)
حديث: (آخر الدواء الكي)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثيرٍ من الناس على أنه حديث نبوي وليس كذلك، وإنما هو من أمثال العرب، وانظر:
(1)
"فتح الباري"(10/ 145) قال الحافظ: إنما هو من أمثال العرب.
(2)
"فيض القدير"(4/ 232) تحت حديث رقم (4941).
(3)
"المقاصد الحسنة" رقم (1).
(4)
"التمييز"(ص: 6).
(5)
"الجد الحثيث في بيان ماليس بحديث" رقم (1).
(6)
"الشذرة في الأحاديث المشتهرة" رقم (1).
(7)
"المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" رقم (10).
(8)
"كشف الخفاء" رقم (7).
(9)
"النوافح العطرة" رقم (7).
(10)
"تحذير المسلمين" رقم (366).
(11)
"معجم الأمثال العربية"(1/ 42).
التعليق:
قلت: لكن جاء ذكر الكي في بعض النصوص الصحيحة، في آخر مرحلة للعلاج كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بنار، وأنهى أمتي عن الكي) أخرجه البخاري
(1)
.
وقال العلامة ابن القيم
(2)
رحمه الله: وأما النهي عن الكي، فهو أن يكتوي طلباً للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتوِ هلك، فنهاهم عنه لأجل هذه النية. وقيل: إنما نهى عنه عمران بن حصين رضي الله عنهما خاصةً، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطراً، فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى الموضع المخوف منه، والله أعلم.
وقال ابن قتيبة رحمه الله: الكي جنسان:
الأول: كي الصحيح لئلا يعتلَّ، فهذا الذي قيل فيه:(لم يتوكل من اكتوى)، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا نَغِلَ، والعضو إذا قُطِعَ، ففي هذا الشفاءُ.
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز أن لا ينجع فإنه إلى الكراهة أقرب. اهـ.
(1)
"الفتح"(10/ 143) رقم (5680) كتاب الطب، وغيره.
(2)
"زاد المعاد"(4/ 65).
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) أخرجه البخاري ومسلم
(1)
.
فقد تضمَّنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله؛ لما رواه جابر رضي الله عنه قال: (رُمي سعد بن معاذ في أكحله قال: فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص
…
) حسمه، أي: كواه. رواه مسلم.
الثاني: عدم محبته له؛ لما رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان في شيء من أدويتكم
…
وما أحب أن أكتوي) رواه البخاري ومسلم.
الثالث: الثناء على من تركه.
الرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه فيفعل خوفاً من حدوث الداء. والله أعلم.
وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن حجر-رحمه الله في "الفتح"، والعلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة" تحت حديث:(من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل)، بكلام نفيس فارجع له إن شئت
(2)
.
(1)
"البخاري مع الفتح"(10/ 279)، ومسلم (220).
(2)
"الفتح "(10/ 164)، و"الصحيحة"(244).
(2)
حديث: (آفة العلم النسيان
…
).
(ضعيف)
…
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 190) كتاب الأدب رقم (7) عن الأعمش مرسلاً، ورواه الدارمي (ص: 170) رقم (628) مرسلاً كما في "مشكاة المصابيح"(1/ 88) رقم (265).
(2)
والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 264 - 265) رقم (844) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان). قال محمد: لم يكن في العراق هذا الحديث عند أحد من أصحاب سفيان، سألني عنه عباس العنبري.
(3)
والبيهقي في "الشُّعب"(4/ 157) رقم (4647)، وقال: تفرد به محمد بن عبد الله الحبطي عن شعبة وليس بالقوي.
(4)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 23): سنده ضعيف.
(5)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 16): سنده ضعيف.
(6)
قال العلامة الألباني في "الضعيفة"(1303): رواه أبو سعيد الأشج في حديثه (222/ 1) حدثنا أبو أسامة عن الأعمش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه أيضاً أبو الحسين الأبنوسي في "الفوائد"(24/ 2) عن علي بن الحسين قال: حدثنا أبو داود عن
الأعمش قال: كان يُقال: فذكره ولم يرفعه، والوقف أصح، والمرفوع ضعيف معضل. وقال رحمه الله: هذا الحديث معضل فإن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة، ولا من أنس وإنما رآه فقط.
(1)
.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم ضعف هذا الحديث، لكنه صحيح المعنى، كما ذكر ذلك السخاوي والعجلوني وغيرهما من أهل العلم؛ وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تدل على ذلك.
وقال ابن عبد البر
(2)
رحمه الله: (آفة العلم وغائلته وإضاعته، وكراهية وضعه عند من ليس بأهل):
عن الزهري رحمه الله قال: إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يُترك العالم حتى يذهب بعلمه؛ ومن غوائله النسيان؛ ومن غوائله الكذب فيه وهو شر غوائله.
وعنه قال: إنما يُذهِب العلمَ النسيان وترك المذاكرة.
وعن ابن بريدة قال: قال لي عليٌ: تذاكروا هذا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يُدْرس. رواه الدارمي.
(1)
وانظر كذلك "المشكاة"(1/ 88) حاشية، و"ضعيف الجامع"(10).
(2)
"جامع بيان العلم وفضله"(125 - 128).
وعن عبد الله بن بريدة أن دغفل بن حنظلة قال لمعاوية رضي الله عنه في حديث ذكره: إن غائلة العلم النسيان.
وقال الحسن رحمه الله: غائلة العلم النسيان وترك المذاكرة. رواه الدارمي.
وعن معاوية بن صالح قال: حدثني أبو فروة أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول: لا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعه عند غير أهله فتجهل، وكن طبيباً رفيقاً يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع.
وقال الحسن رحمه الله: لولا النسيان لكان العلم كثيراً.
وقال عكرمة رحمه الله: إن لهذا العلم ثمناً، قيل: وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند من يحفظه ولايضيعه.
فإن قال قائل: إن بعض الحكماء كان يحدث بعلمه صبيانه وأهله ولم يكونوا لذلك بأهل. قيل له: إنما فعل ذلك من فعله منهم لئلا ينسى.
وعن الأعمش-رحمه الله: أن إسماعيل بن رجاء كان يجمع صبيان الكتاب يحدثهم لئلا ينسى حديثه.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أن خالد بن يزيد بن معاوية كان إذا لم يجد أحداً يحدثه يحدث جواريه، ثم يقول: إني لأعلم أنكنَّ لستنَّ له بأهل يريد بذلك الحفظ. اهـ.
(3)
حديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)
.
(ضعيف)
أخرجه أبو داود (2177، 2178)، وابن ماجه رقم (2018)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(14894، 14895، 14896)، والحاكم في "المستدرك"(2853)، وابن عدي في "الكامل"(8/ 222).
قلت: وهذا الحديث على شهرته الكبيرة في أوساط الناس ضعيف كما نصَّ على ذلك أئمة هذا الشأن، فقد اختلفوا في وصله وإرساله، ورجَّح جمع من الحفاظ إرساله، منهم:
(1)
الدارقطني.
(2)
البيهقي.
(3)
أبو حاتم. "التلخيص الحبير"(3/ 205).
(4)
قال السخاوي في "المقاصد"(ص: 30): صحح البيهقي إرساله -كما في "سننه"(14895) -، وقال: إن المتصل ليس محفوظاً، ورجَّح أبو حاتم الرازي المرسل.
قلت: وفي الحديث علة أخرى غير علة الإرسال، وهي عبيد الله بن الوليد الوصافي، وهو متروك.
(5)
قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 638) رقم (1065): هذا حديث لا يصح. قال يحيى بن معين: الوصافي ليس بشيء، وقال الفلاس والنسائي فيه: متروك الحديث.
(6)
وضعَّف الحديث المناوي في "فيض القدير"(1/ 105).
(7)
وضعَّف الحديث العلامة الألباني في "إرواء الغليل"(2040)، واستوفى الكلام على علته وناقش من قال بصحته
(1)
.
(8)
وشيخنا العلامة مقبل الوادعي في تعليقه على "المستدرك" رقم (2853) قال: هذا الحديث ضعيف والراجح إرساله.
(9)
وقال العلامة ابن عثيمين في "الممتع"(10/ 428) و"دروس وفتاوى في الحرم المكي"(ص: 1048): الحديث هذا ضعيف.
التعليق:
قلت: الأصل في جواز الطلاق الكتاب والسنة والإجماع؛ ولا يشك عاقل أن الطلاق له مفاسد، إذا كان في غير موضعه، وله مصالح إذا كان في موضعه، وديننا شرع النكاح وشرع الطلاق، وإليك بعض مصالح ومفاسد الطلاق:
(1)
وانظر كذلك "ضعيف سنن أبي داود"(10/ 228) رقم (373) و (374)، و"ضعيف سنن ابن ماجه" (ص: 155) رقم (394)، و"ضعيف الجامع"رقم (144)، و"المشكاة" رقم (3280)، و"الصحيحة"(5/ 15)، و"الترغيب والترهيب"(2/ 796) رقم (1238) ترتيب مشهور بن حسن.
(1)
الغرض من النكاح البقاء والدوام، وبناء بيت الزوجية، وتكوين الأسرة التي نواتها الزوجان.
(2)
الطلاق هدم لهذا البيت، ونقض لدعائمه، وإزالة لمعالمه، لما يجره من الويلات، ولما يعقبه من النكبات، ولما يسببه من المصاعب والمفاسد.
(3)
الطلاق إبطال لمصالح النكاح المتعددة، من تكوين الأسرة، وحصول الأولاد وتكثير سواد المسلمين.
(4)
الطلاق تفرقٌ بعد وفاق سعيد، وهمٌّ بعد فرح، ويأسٌ بعد أملٍ كبير.
(5)
الطلاق يسبب العداوة والبغضاء بين الزوجين، وبين الأسرتين، بعد التقارب والتآلف والتعارف.
(6)
الطلاق يشتت الأولاد الموجودين، ويفقدهم إما قيام الأب، وتربيته، وتعليمه، وتوجيهه، وإما يفقدهم حنان الأم، ورعايتها، وعطفها.
(7)
الطلاق لا يكون محموداً، ولا تبرز حكمة شرع الله فيه، إلا حينما تسوء العشرة الزوجية، وتفقد المحبة والمودة ويكثر الشقاق والخلاف ويصعب التفاهم والتلاؤم، ولا يمكن الاجتماع، فحينئذ يكون الطلاق رحمة، ويكون التفرق نعمة قال تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} {البقرة: 229}. وقال تعالى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} {النساء: 130} .
(8)
وبهذا يعرف جلال هذا الدين، وسمو تشريعاته، وأنها الموافقه للعقل الصحيح، ومتمشية مع المصالح العامة والخاصة.
(9)
قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق مكروه في حال استقامة الزوجين، إلا أبا حنيفة فهو عنده حرام مع الاستقامة.
(10)
الطلاق تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة:
1 -
يُباح عند الحاجة إليه كسوء خلق المرأة.
2 -
يُستحب إذا كانت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحالة التي تحوجها إلى المخالعة.
3 -
يجب إذا أبى المُولي الفيئة (أي أن من آلا من زوجته ورفض مراجعتها بعد انتهاء المدة)، وكذلك الصواب: أنه يجب عند ترك أحد الزوجين العفة، أو الصلاة، وغيرها من حقوق الله تعالى.
4 -
يحرم للبدعة، وهي إذا أوقع الطلاق وكانت حائضاً، أو نفساء، أو في طهر جامع فيه، أو بالثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن نكاح ولا رجعة.
5 -
يكره لعدم الحاجة إليه
(1)
.
(1)
"توضيح الأحكام"(5/ 479 - 480).
(4)
حديث: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)
.
(ضعيف)
رواه ابن ماجه (1337) وأحمد في "الزهد"(ص: 135)، وأبو يعلى في "مسنده"(1/ 330) رقم (685)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 362) رقم (2051)، و"السنن الكبرى"(10/ 231) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ولفظه: (إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
وفي إسناده: أبو رافع، وهو إسماعيل بن رافع الأنصاري، وهو ضعيف كما في "التقريب"، والوليد بن مسلم وهو مدلس.
وضعَّف الحديث: العلامة الألباني في "الضعيفة"(6511)
(1)
.
وذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 29) رقم (42).
التعليق:
قلت: ترتيل القرآن والتغني به وتحسين الصوت عند قراءته والخشوع أمر مطلوب، وقد دلت عليه أدلة أخرى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بتحسين
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2025)، و"ضعيف سنن ابن ماجه"(250)، و"الترغيب والترهيب"(2/ 596) رقم (877) ترتيب مشهور بن حسن.
الصوت بالقرآن، فيقول:(زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)
(1)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)
(2)
.
وانظر "صفة الصلاة"
(3)
للألباني رحمه الله فقد ذكر بحثاً نفيساً في هذا الموضوع.
(1)
رواه البخاري تعليقاً، وأبو داود، والدارمي، والحاكم، وتمَّام الرازي بسندين صحيحين كما قال العلامة الألباني رحمه الله.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"، والدارمي، وابن نصر والطبراني في "أخبار أصبهان"، والضياء في "المختارة".
(3)
(ص: 124 - 127).
(5)
حديث: (اتقِ شر من أحسنت إليه)
.
(ليس بحديث)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 39) رقم (25) لا أعرفه، يُشبه أن يكون من كلام بعض السلف.
ونقل كلام السخاوي المتقدم:
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 9)، والقاري في "المصنوع" (ص: 45) رقم (1)، والعامري في "الجد الحثيث" (ص: 38) رقم (6)، والصعدي في النوافح العطرة (ص: 19) رقم (32)، والشوكاني في "الفوائد المجموعه" (ص: 81) رقم (58).
التعليق:
قلت: قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" هذا الكلام ليس على إطلاقه، بل هو محمول على اللئام غير الكرام، ويشهد لذلك مافي "المجالسة" للدينوري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما وجدت لئيماً إلا قليل المروءة.
وقد أحسن من قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال أبو عمرو بن العلاء أحد الأئمة يخاطب بعض أصحابه: كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا رحمته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لايجيبك، أوتحدث من لاينصت لك.
وفي الإسرائيليات، يقول الله: من أساء إلى من أحسن إليه، فقد بدل نعمتي كفراً، ومن أحسن إلى من أساء إليه، فقد أخلص لي شكراً.
وعند البيهقي في "الشعب" عن محمد بن حاتم المظفري، قال: اتق شر من يصحبك لنائلة، فإنها إذا انقطعت عنه لم يعذر، ولم يبال ما قال وما قيل فيه.
وللدينوري في "المجالسة" من طريق ابن عائشة عن أبيه قال: قال بعض الحكماء: لا تضع معروفك عند فاحش، ولا أحمق، ولا لئيم، ولا فاجر، فإن الفاجر يرى ذلك ضعفاً، والأحمق لايعرف قدر ما أتيت، فارزق معروفك أهله تحصل به شكراً.
وفي المرفوع ما يشهد للأخير. اهـ.
قلت: نعم وفي الوحي ما يشهد لذلك فالله تعالى خلق العباد ليعبدوه، ورزق الخليقة ليشكروه، فعبد الكثير غيره، وشكر الغالب سواه، فخير الله
إلى العباد نازل، وشرهم إليه صاعد، لأن طبيعة الجحود، والنكران، والجفاء، وكفران النعم، غالبة على النفوس البشرية، إلا ما رحم ربي، قال تعالى
…
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} {سبأ: 13} .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)
(1)
.
فلا تُصدم يا أخي إذا وجدت هؤلاء قد كفروا جميلك، وجحدوا إحسانك، ونسوا معروفك، بل ربما ناصبوك العداء، ورموك بمنجنيق الحقد الدفين، لا لشيء، إلا لأنك أحسنت إليهم {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} {التوبة: 74}.
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وطالع سجل العالم المشهود، وقلب صفحات التاريخ، فإذا في فصوله قصة أبٍ ربَّى ابنه، وغذاه وكساه، وأطعمه، وسقاه، وأدبه، وعلمه، وسهر لينام، وجاع ليشبع، وتعب ليرتاح، فلما طرَّ شارب هذا الابن، وقوي ساعده، أصبح لوالده كالكلب العقور، استخفافاً، ازدراءً، مقتاً، عقوقاً صارخاً، عذاباً وبيلاً، اللهم سلِّم سلم، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، حقاً نحن في زمن العقوق، وجفاف المشاعر، ألا فليهدأ الذين احترقت أوراق جميلهم عند منكوسي الفطر، ومحطمي الإرادات، وليهنأوا بعِوض المثوبة عند من لا تنفد خزائنه.
(1)
رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7719).
إن هذا الخطاب الحار لا يدعوك لترك الجميل وعدم الإحسان للغير، وإنما يوطنك على انتظار الجحود، والتنكر لهذا الجميل والإحسان، فلا تبتئس بما كانوا يصنعون، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} {المجادلة: 6}.
اعمل الخير لوجه الله تعالى، لأنك الفائز على كل حال، في الحال وفي المآل وليكن على بالك دائما قوله صلى الله عليه وسلم:(خير الناس أنفعهم للناس)
(1)
.
ثم لا يضر غمط من غمطك، ولا جحود من جحدك، واحمد الله لأنك المحسن، وهو المسيء، واليد العليا خير من اليد السفلى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ
…
جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} {الإنسان: 9} .
وقد ذهل كثير من العقلاء عن جبلَّة الجحود عند الغوغاء، وكأنهم ما سمعوا الوحي الجليل، وهو ينعي على الصنف عتوه وتمرده {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} {يونس: 12}.
لا تفجأ إذا أهديت بليداً قلماً فكتب به هجاءك ظلماً، أو منحت جافياً عصاً يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فشج بها رأسك، هذا هو الأصل عند كثير من هذه البشرية المحنطة في كفن الجحود مع باريها جلَّ في علاه، فكيف بها معي ومعك {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} {الأعراف: 17}.
(1)
رواه القضاعي وغيره عن جابر رضي الله عنه، وحسنه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(3289).
ولله دَرُّ من قال:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
…
فلما قال قافية هجاني
(6)
حديث: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)
.
(ضعيف)
رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 1/ 354)، والترمذي (3346) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
وابن عدي في "الكامل"(8/ 147)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
وابن جرير في "التفسير"(7/ 528) رقم (21249، 21250، 21251)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وجاء عن غيرهم، وكل طُرقه واهية.
قال العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1821)
(1)
: وجملة القول أن الحديث ضعيف لا حسن ولا موضوع، وإليه مال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" رقم (23).
قلت: والحديث مال إلى تضعيفه كذلك:
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 9).
والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 42) رقم (80).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"، (127) و"ضعيف سنن الترمذي"(607).
والحلبي في "فوائد الفوائد"(ص: 463) قال: (اتقوا فراسة المؤمن) حديث ضعيف، وعزا تخريج الحديث إلى رسالته "كشف المتواري من تلبيسات الغماري" (ص: 19 - 22). قال: وقد حاول البعض تصحيح الحديث، ولمْلمَ له ما ظنَّه يقويه، ولكنه لم يفلح، ولعلّي أتعقبه في رسالة مفردة، إذا نَسَأَ الله في العمر، وفسح في الوقت. اهـ.
التعليق:
قلت: ومعنى الحديث صحيح، ويُغني عنه حديث:(إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)
(1)
. ويقول الله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} {الحجر: 75} . ذكر عدد من أهل العلم أن هذه الآية في أهل الفِراسَة.
والفِراسَة: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، الملتزم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يكشف له بعض ما خفي على غيره، مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيُسدد في رأيه، يفرق بهذه الفِراسة بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، دون أن يستغني بذلك عن الشرع.
وللعلامة ابن القيم كلام نفيس حول الفِراسة انظرها إن شئت في "مدارج السالكين"(2/ 452 - 463).
(1)
رواه البزار وغيره عن أنس رضي الله عنه، وحسَّنه العلامة الألباني في "الصحيحة"(1693)، و"صحيح الجامع"(2168).
(7)
حديث: (
…
أجتهد رأيِي ولا آلو
…
).
(ضعيف)
أخرجه أحمد في "المسند"(22068) و (22161)، وأبو داود مع "عون المعبود"(9/ 368) رقم (3587)، والترمذي مع "التحفة"(4/ 556 - 557) رقم (1342)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 215) رقم (262)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 465 - 466) رقم (380)، وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام"(2/ 203 - 204).
من طرق عن أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيِي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره). فذكره.
قال شيخنا الوادعي رحمه الله في تعليقه على "تفسير ابن كثير"(1/ 11)
(1)
: اختلف الناس في هذا الحديث، فمنهم من يقول: إنَّ سنده جيد.
(1)
كالحافظ ابن كثير.
(1)
وانظر كذلك "غارة الأشرطة"(2/ 58).
(2)
وشيخه ابن تيمية.
(3)
ويؤيد ذلك ابن القيم في "إعلام الموقعين".
(4)
والشوكاني في "إرشاد الفحول".
ومنهم من حكم عليه بالوضع:
(1)
كالجوزقاني في "الأباطيل والمناكير"(1/ 243 - 245) رقم (101) قال: هذا حديث باطل
…
إلخ.
(2)
ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام".
ثم قال رحمه الله: والحق أنه لا يثبت سنداً ولا متناً.
وقال العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(881)
(1)
: وجملة القول أن الحديث لا يصح إسناده، فقد أعلَّ بعلل ثلاث:
(1)
الإرسال.
(2)
جهالة أصحاب معاذ.
(3)
جهالة الحارث بن عمرو.
(1)
وانظر كذلك "المشكاة"(2/ 1103) رقم (3737)، و"ضعيف أبي داود"(3592)، و"ضعيف سنن الترمذي"(1350).
فمن كان عنده من المعرفة بهذا العلم الشريف، وتبيَّن له ذلك فبها، وإلا فحسبه أن يستحضر أسماء الأئمة الذين صرحوا بتضعيفه، فيزول الشك من قلبه، وهأنذا أسردها، وأقربها إلى القراء الكرام:
(1)
البخاري.
(2)
الترمذي.
(3)
العقيلي.
(4)
الدارقطني.
(5)
ابن حزم.
(6)
ابن طاهر.
(7)
ابن الجوزي.
(8)
الذهبي.
(9)
السبكي.
(10)
ابن حجر، وغيرهم.
كل هؤلاء -وغيرهم ممن لا نستحضرهم- قد ضعَّفوا هذا الحديث. اهـ.
قلت: ولمزيد من التوسع انظر "الضعيفة" للعلامة الألباني رحمه الله برقم الحديث السابق، فقد ذكر بحثاً قيماً نفيساً متكاملاً في هذا الحديث، وردَّ على كل من مال إلى تصحيحه، كالكوثري وغيره.
التعليق:
قال العلامة الألباني رحمه الله: الحديث صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد، وعند فقدان النص، وهذا مما لاخلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لايجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يؤخذ بالسنة إلا إذا لم يوجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لايقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معاً، وعدم التفريق بينهما، لما عُلِم من أن السنة تبيِّن مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه.
وقال شيخنا الوادعي رحمه الله: ومتن الحديث يفيد أننا لانرجع إلى السنة إلا إذا لم نجد في كتاب الله، مع أن السنة قد تكون مقيدة لمطلق القرآن ومبينة لمجمله، ومخصصة لعامه، فالواجب الرجوع في القضية إلى الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً.
(8)
حديث: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)
.
(ضعيف)
أخرجه الدارمي في سننه (ص: 72 - 73) من طريق عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قال العلامة الألباني-رحمه الله في "الضعيفة"(1814)
(1)
: وهذا سند ضعيف لإعضاله، فإن عبيد الله هذا من أتباع التابعين، مات سنة (136 هـ)، فبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم واسطتان أو أكثر.
والحديث ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 51) رقم (113) وقال: رواه ابن عدي مرسلاً.
قلت: وقد سمعت شيخنا الوادعي رحمه الله يُضعِّف هذا الحديث.
وضعَّفه كذلك اللجنة الدائمة (5/ 17) فتوى رقم (2171).
التعليق:
قال ابن القيم
(2)
رحمه الله: (كراهة العلماء التسرع في الفتوى): وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويَوَدُّ كل واحد منهم أن يكفيه غيره، فإذا رأى بها قد تعينت عليه، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(147).
(2)
"إعلام الموقعين"(1/ 27 - 28).
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال في المسجد، فما كان منهم مُحَدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مامنهم رجل يُسأل عن شيء إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه، ولا يحدث حديثاً إلاودَّ أنَّ أخاه كفاه.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد: أن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالساً عند عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير، فقال: إن رجلاً من أهل البادية طلَّقَ امرأته فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير: إن هذا الأمر مالنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهبت فسألتهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال: قال ابن عباس: إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون. قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود
مثل ذلك، رواه ابن وضاح، عن يوسف بن عدي، عن عبد بن حميد، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود. ورواه حبيب بن أبي يوسف، عن أبي وائل، عن عبد الله.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم، يظن أن الحق كله فيه.
قلت: الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم أومن غزارته وسعته، فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يُسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا، وقد قيل إن فتاواه جُمِعت في عشرين سَفْراً، وكان سعيد بن المسيب أيضاً، واسع الفتيا، وكانوا يُسمونه كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق، قال: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشئ فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس، حتى يُدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب، كراهية للفتيا. قال: وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء.
وقال سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر؟ فَلِمَ أُلام على حبس الجواب؟
وقال ابن وهب: حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: إنما يفتى الناس أحد ثلاثة: من يعلم مانُسخ من القرآن، أو أمير لايجد بداً، أو أحمق متكلف، قال: فربما قال ابن سيرين: فلست بواحدٍ من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث. (انتهى كلام ابن القيم رحمه الله).
(9)
حديث: (أحب الأسماء إلى الله ما عُبِّدَ وحُمِّدَ)
.
(لا أصل له)
هذا الحديث مع شهرته الكبيرة في أوساط الناس إلا أنه لا أصل له كما صرَّح بذلك غير واحد من العلماء منهم:
(1)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(217).
(2)
السخاوي في "المقاصد"(ص: 60) تحت حديث رقم (65).
(3)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 16).
(4)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 94) رقم (150).
(5)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 95) رقم (244).
(6)
الصعدي في "النوافح العطره"(ص: 136) رقم (708).
(7)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 42) تحت حديث رقم (146).
(8)
الأزهري في "تحذيرالمسلمين"(ص: 143) رقم (446).
(9)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(411) قال: لا أصل له كما صرح به السيوطي وغيره. وقال أيضاً في "الترغيب"(2/ 785) حاشية: وهنا في الأصل زيادة نصها: (أحب الأسماء إلى الله ما عبد وحمد) وهي زيادة باطلة لم ترد في المخطوطة وغيرها،
والظاهر أنها مدرجة من بعض جهلة النساخ، فإنه لا أصل له بهذا اللفظ كما بينته في "الضعيفة"(411) وكنت نسبت الخطأ هناك إلى المؤلف رحمه الله إحساناً مني الظن بمحقق الكتاب فأستغفر الله من ذلك وعفا عنا وعن محققه.
(10)
العلامة ابن عثيمين في شرح "نزهة النظر"(ص: 51).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الضعيف حديث: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
أما تعبيد الأسماء لغير الله عز وجل فهذا أمر محرم لا يجوز.
قال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: نقل ابن حزم الاتفاق على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى، وعبد الكعبه، وأقره العلامة ابن القيم في "تحفة المودود" (ص: 37) وعليه فلا تحلُّ التسمية بـ: عبد علي، وعبد الحسين، كما هو مشهور عند الشيعة؛ ولا عبد النبي، وعبد الرسول كما يفعله بعض الجهلة من أهل السنة. اهـ.
فائدة: مراتب الأسماء استحباباً وجوازاً:
• استحباب التسمية بهذين الاسمين عبد الله وعبد الرحمن، وهما أحب الاسماء إلى الله تعالى.
(1)
"الضعيفة"(411).
• استحباب التسمية بالتعبد لأي من أسماء الله الحسنى مثل: عبد العزيز، وعبد الملك.
• التسمية بأسماء أنبياء الله ورسله لأنهم سادة بني آدم، فالتسمية بأسمائهم تُذكِّر بهم وبأوصافهم الجميلة، وقد أجمع العلماء على جواز التسمية بها.
• التسمية بأسماء الصالحين من المسلمين فقد ثبت من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم كانوا يُسمون بأسماء الأنبياء والصالحين من قبلهم) رواه مسلم. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم رأس الصالحين في هذه الأمة
(1)
.
(1)
"تسمية المولود" لبكر أبو زيد (ص: 32 - 37).
(10)
حديث: (أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي)
.
(موضوع)
أخرجه الحاكم في"المستدرك"(4/ 183) رقم (7078)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 348)، والبيهقي في "الشعب" رقم (1433) و (1610).
وفي سنده: العلاء بن عمرو، مجمع على ضعفه، ومنهم من كذَّبه.
قلت: وقد نصَّ جمع من العلماء على بطلان هذا الحديث منهم:
(1)
العقيلي في "الضعفاء"(3/ 348) قال: منكر لا أصل له.
(2)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 292) رقم (859).
(3)
أبو حاتم في "العلل"(2/ 375) قال: هذا حديث كذب، كما نقل عنه الهيثمي في "المجمع".
(4)
الذهبي في "تلخيصه للمستدرك" قال: وأظن الحديث موضوعاً.
(5)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 52) قال: فيه العلاء بن عمرو وهو مجمع على ضعفه.
(6)
السخاوي في "المقاصد الحسنه"(ص: 42) رقم (31).
(7)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(1/ 404).
(8)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 30) رقم (12).
(9)
الشوكاني في "الفوئد المجموعة"(ص: 367) رقم (167).
(10)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1/ 189) رقم (160) و"ضعيف الجامع"(173).
(11)
شيخنا الوادعي في تعليقه على المستدرك (4/ 183) رقم (173).
التعليق:
قال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله تحت حديث: (أنا عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي): ومما يدل على بطلان نسبة هذا الحديث إليه صلى الله عليه وسلم أن فيه افتخاره بعروبته، وهذا شيء غريب في الشرع الإسلامي لايلتئم مع قوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} {الحجرات: 13}.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي
…
إلا بالتقوى) رواه أحمد
(2)
بسند صحيح؛ كما قال ابن تيمية في "الاقتضاء"
(3)
.
ولا مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن الافتخار بالآباء وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس من آدم وآدم
(1)
"الضعيفة"(1/ 299) رقم (161).
(2)
(5/ 411).
(3)
(ص: 69).
من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم، أوليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأفواهها)
(1)
.
فإذا كانت هذه توجيهاته صلى الله عليه وسلم لأمته فكيف يعقل أن يخالفهم إلى ما نهى عنه؟!.
قلت: لكن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
: فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم وروميهم وفرسيهم وغيرهم، وأن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفساً وأفضلهم نسباً، وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفساً ونسباً وإلا لزم الدور
(3)
.
(1)
رواه أبو داود والترمذي وحسنه؛ وصححه ابن تيمية في "الاقتضاء"(ص: 69، 35).
(2)
في "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 419 - 420).
(3)
وانظر كذلك "مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين"(7/ 183).
(11)
حديث: (اختلاف أمتي رحمة)
.
(لا أصل له)
هذا الحديث مع شهرته الكبيرة في أوساط الناس إلا أنه لا أصل له كما صرَّح بذلك جمع من أهل العلم منهم:
(1)
السبكي، قال: ليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع. "فيض القدير"(1/ 274).
(2)
ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام"(2/ 61) قال: ليس بحديث. وقال في موضع آخر: باطلٌ مكذوب.
(3)
العراقي، قال: ذكره البيهقي في "رسالته الأشعرية" بغير إسناد بهذا اللفظ. "إتحاف السادة المتقين"(1/ 204 - 205).
(4)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 90 - 92).
(5)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 141) رقم (57) قال: لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يقفوا
(1)
.
(6)
الوادعي في "المقترح"(ص: 9) و"إجابة السائل"(ص: 315، 519) قال: لا يوجد له سند ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(230)، و"إصلاح المساجد" (ص: 14) حاشية، و"صفة الصلاة" (ص: 58).
(7)
الإمام ابن باز في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"(مجلد 26) قال: ليس بصحيح، هذا من كلام بعض السلف، من كلام القاسم بن محمد في اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وما أظنه إلا رحمة، وليس بحديث.
(8)
شيخنا ابن عثيمين في "تفسير سورة البقرة"(آية: 116) قال: لا يصح.
(9)
اللجنة الدائمة للإفتاء (4/ 407) قالت: (اختلاف أصحابي لكم رحمة) ضعيف.
وقد ذكر هذا الحديث جمع من العلماء ممن ألَّف في الأحاديث المشتهرة منهم: السيوطي في "الدرر المنتثرة"(6)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة"(39)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 11)، والصالحي في "الشذرة"(37)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(153)، والبيروتي في "أسنى المطالب"(75).
التعليق:
قال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله معلقاً على هذا الحديث مبيناً أن الاختلاف شر وليس برحمة: ثم إن معنى هذا الحديث مُستنكر عند المحققين من العلماء، فقال العلامة ابن حزم في "الإحكام في أصول
(1)
"الضعيفة"(57) و"صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "(ص: 59).
الأحكام" (5/ 64) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث: وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً، وهذا مالا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط.
وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيراً من المسلمين يقرون بسببه الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة، ولا يحاولون أبداً الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة، كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم، بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة، يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها المخالف للدليل، وقبول بعضها الآخر الموافق له، وهذا ما لا يفعلون! وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض! وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لوكانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن
…
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} {النساء: 82} .
فالآية صريحة في أن الاختلاف ليس من الله، فكيف يصح إذاً جعله شريعة متبعة ورحمة مُنزَّلة؟ وبسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير من المسائل الاعتقادية والعملية، ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شر، كما قال ابن مسعود وغيره رضي الله عنه ودلت على ذمِّه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، لسعوا
إلى الاتفاق ولأمكنهم ذلك في أكثر هذه المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يُعرف بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، ثم عذر بعضهم بعضاً فيما قد يختلفون فيه، ولكن لماذا هذا السعي وهم يرون أن الاختلاف رحمة، وأن المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة؟ وإن شئت أن ترى هذا الاختلاف، والإصرار عليه، فانظر إلى كثير من المساجد تجد فيها أربعة محاريب يُصلي فيها أربعة من الأئمة! ولكل منهم جماعة ينتظرون الصلاة مع إمامهم كأنهم أصحاب أديان مختلفة! وكيف لا وعالمهم يقول: إن مذاهبهم كشرائع متعددة! يفعلون ذلك وهم يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) رواه مسلم وغيره، ولكنهم يستجيزون مخالفة هذا الحديث وغيره محافظة منهم على المذهب؛ كأن المذهب محترم عندهم ومحفوظ أكثر من أحاديثه عليه الصلاة والسلام!.
وجملة القول: إن الاختلاف مذموم في الشريعة، فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن، لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} {الأنفال: 46}.
أما الرضا به، وتسميته رحمة، فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذمه كما قال تعالى {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} {الرُّوم: 31 - 32}
وقال تعالى {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} {هود: 118 - 119} ولا مستند لهم إلا هذا الحديث الذي لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يرد سؤال وهو أن الصحابة قد اختلفوا وهم أفاضل الناس، أفيلحقهم الذم المذكور؟
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله فقال في "الإحكام": كلا. ما يلحق أولئك شيء من هذا، لأن كل امرئ منهم تحرى سبيل الله ووجهته الحق، فالمخطئ منهم مأجور أجراً واحداً لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رُفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه، ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد المنصوص، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى وهو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليهم، وقيام الحجة به عليه وتعلق بفلان وفلان مقلداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبية وحمية الجاهلية، قاصداً للفرقة، ومتحرياً في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ به، وإن خالفها تعلق بجاهليته، وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم المختلفون المذمومون.
وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ويشير في آخر كلامه إلى (التلفيق) المعروف عند الفقهاء، وهو أخذ قول العالم بدون دليل وإنما اتباعاً للهوى، أو الرخص، وقد اختلفوا في جوازه، والحق تحريمه لوجوه لا مجال الآن لبيانها، وتجويزه مستوحى من هذا الحديث، وعليه استند من قال: من قلد عالماً لقي الله سالماً، وكل هذا من آثار الأحاديث الضعيفة، فكن في حذر منها إن كنت ترجو النجاة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} {الشعراء: 88 - 89}.
وقال شيخنا العلامة الوادعي
(1)
رحمه الله: أما الاختلاف هل هو رحمة أم ليس برحمة؟
ليس برحمة لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} {هود: 118 - 119} مفهوم الآية الكريمة أن الذين رحمهم الله لايختلفون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في "الصحيحين":(ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم، كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في "صحيح البخاري" من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: أنه اختلف هو ورجل في القراءة فأتيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأا ولا تختلفا كما اختلف الذين من قبلكم فتهلكوا كما هلكوا).
(1)
"إجابة السائل"(ص: 315 - 316).
وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، وفي رواية:(أوليخالفن الله بين قلوبكم).
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى أصحابه متفرقين تحت الأشجار في غزوة من الغزوات فقال: (إن تفرقكم من الشيطان)، وذا كان في تفرق الأجسام فما ظنك بتفرق القلوب، ورب العزة يقول في كتابه الكريم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} {آل عمران: 103} ويقول {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} {الأنعام: 159} ثم بعد ذلك النظر إلى الواقع، إخواني في الله هل الاختلاف رحمة، أم أصبحت معارك؟ ومن قرأ التاريخ وجد اصطداماً بين الحنابلة والشافعية، ووجد اصطداماً أيضاً بين الزيدية وسائر الفرق، أما الاصطدام بين الشيعة وأهل السنة فعلى استمرار التاريخ، نسأل الله أن يجمع شمل المسلمين آمين.
وقال أيضاً
(1)
: الاختلاف الذي يُعد هلاكاً؟ هو اختلاف التضاد الذي كان ينكره النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، اختلاف التضاد قال صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح مسلم" من حديث سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يأكل بشماله، فقاله له:(كل بيمينك)، قال: لا أستطيع، قال له:(لا استطعت)، فما رفعها إلى فيه، ما منعه إلا الكبر.
(1)
"إجابة السائل"(ص: 519 - 521).
وأيضاً دخل النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه على شيخ وهو مريض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(طهور)، فقال الشيخ الكبير: بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(فنعم إذاً)، وحُرم بركة الدعوة النبوية؛ ورجل أيضاً آخر قد ذكرنا لكم قصته، وهو أن ذلكم الرجل عند أن تضاربت امرأتان، فضربت إحداهما الأخرى في بطنها فأسقطت، فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، (عبد)، فجاء حمل بن مالك النابغة، وقال: يا رسول الله كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا تكلم ولا استهل، -أو بهذا المعنى- فمثل ذلك يطل، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أراد أن يبطل حكم الله بسجعه، فقال:(إنما هذا من إخوان الكهان) من أجل سجعه؛ وأما إنكار أهل العلم على من رد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه فهذا أمر لا يتسع له المقام، وقد ذكرت جملة من هذا في "شرعية الصلاة في النعال"، في آخرها، وفي "ردرود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر"، والحمد الله رب العالمين.
وقال شيخنا العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: إن الاختلاف ليس رحمة، بل إنه شقاق وبلاء، وبه نعرف أن ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اختلاف أمتي رحمة)، لا صحة له، وليس الاختلاف برحمة، بل قال الله سبحانه وتعالى {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} {هود: 118 - 119}
(1)
"تفسير سورة البقرة"(آية 116).
أي فإنهم ليسوا مختلفين، نعم الاختلاف رحمة، بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه، فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والخطأ معفو عنه، وأما أن يُقال هكذا على الإطلاق: إن الاختلاف رحمة، فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف، لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي! فالصواب أن الاختلاف شر.
(12)
حديث: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
.
(ضعيف)
قال السخاوي: رواه العسكري في "الأمثال" عن علي رضي الله عنه قال: قدم بنو نهد بن زيد على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتيناك من غور تهامة، وذكر خطبتهم وما أجابهم به النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا نبي الله نحن بنو أبٍ واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نفهم أكثره، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأتُ في بني سعد بن بكر).
قلت: هذا الحديث ضعيف لا يثبت كما نصَّ على ذلك جمع من العلماء، منهم:
(1)
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(18/ 375) قال: معناه صحيح لكن لا يُعرف له إسناد ثابت
(1)
.
(2)
وأيَّده السخاوي في "المقاصد"(45).
(3)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(8).
(4)
الصالحي في "الشذرة"(42).
(5)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 62) رقم (164).
(1)
وانظر كذلك "الأحاديث الضعيفة والباطلة"(ص: 43) رقم (63) لابن تيمية.
(6)
الصعدي في "النوافح العطرة"(68).
(7)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 292) رقم (25) باب فضائل النبي صلى الله عليه وسلم.
(8)
البيروتي في "أسنى المطالب"(86).
(9)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(72) و"ضعيف الجامع"(249).
التعليق:
قلت: تبين لك ضعف هذا الحديث، ولا شك أنه قد اجتمع في رسول الله صلى الله عليه وسلم من خصال الكمال ما لا يحيط به أحد ولا يحصره عدٌّ، أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} {القلم: 4} وكلمة (على) للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق، ومستولٍ عليها. والخلُقُ: ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.
وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم، فقال تعالى {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} {النساء: 113}. ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} {القلم: 4} فدلَّ مجموع هاتين الآيتين على
أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة.
قال الحليمي: وإنما وصف خُلقه صلى الله عليه وسلم بالعظيم مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم، لأن كرم الخُلق يُراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خُلُقه صلى الله عليه وسلم مقصوراً على ذلك بل كان رحيماً بالمؤمنين رفيقاً بهم، شديداً على الكفار غليظاً عليهم، مهيباً في صدور الأعداء، منصوراً بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خُلقه بالعظيم أولى ليشمل: الإنعام، والانتقام.
وقال الجنيد: وإنما كان خُلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم عاشر الخلق بخلقه وباينهم بقلبه. وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال صلى الله عليه وسلم:(بعثت لأتمم حسن الأخلاق)
(1)
.
فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدب بالقرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها:(كان خلقه القرآن)، وقد كان صلى الله عليه وسلم مجبولاً على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له
(1)
رواه مالك في "الموطأ" وأحمد عن أبي هريرة، وحسنه الألباني رحمه الله في "المشكاة"(3/ 1411) رقم (5096).
ذلك برياضة نفس بل بجودٍ إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية العلية والمقام الأسنى، وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمال العقل لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل وجوهر العقل الصبر
(1)
.
(1)
وانظر "الزهور الندية في خصائص وأخلاق خير البرية"(ص: 98 - 99) بتصرف.
(13)
حديث: (إذا أعيتكم الأمور فعلكيم بأصحاب القبور) أو (فاستعينوا بأهل القبور)
.
(موضوع)
هذا الحديث موضوع كما نصَّ على ذلك أهل العلم، منهم:
(1)
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(1/ 356) قال: هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وأنه غير مشروع، ولم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يُوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.
(2)
ابن قيم الجوزية رحمه الله في "إغاثة اللهفان"(1/ 242 - 243) قال: وهو يعدد الأشياء التي أوقعت القبورية في الافتتان بها: ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام، من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه وما جاء به كحديث:(إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)
…
وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال والضلال.
(3)
الألوسي رحمه الله في "روح المعاني"(6/ 127 - 128) قال: وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء ولايوجد فى شئ كتب الحديث المعتمدة.
(4)
الشقيري رحمه الله في "السنن والمبتدعات"(ص: 265) قال: مختلق مكذوب.
(5)
العلامة ربيع المدخلي -حفظه الله- في "قاعدة جليلة"(ص: 297)(حاشية) قال: بحثت عنه فلم أجده إلا في "كشف الخفاء" للعجلوني بلفظ: (إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأصحاب القبور).
(6)
شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله فقد شنَّع على العجلوني في إيراده هذا الحديث في كتابه "كشف الخفاء" وسكوته عنه. فقال في "المقترح"(ص: 127): والعجلوني ربما يذكر الحديث ولا يذكر الحكم، وربما يكون حديثًا مخلاًّ بالعقيدة مثل حديث:(إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور) ذكره وسكت عليه، وهو دعوة إلى التمسح بأتربة الموتى، وإلى العقيدة الشركية
(1)
.
(1)
وانظر كذلك "السير الحثيث"(ص: 300).
التعليق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: وقد قال تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} {الفرقان: 58} وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك، ولعن أهله تحذيرًا من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان كما قال تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} {نوح: 23} فإن هؤلاء كانوا قوماً صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف، فمن فهم معنى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} {الفاتحة: 5} عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده، وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لايكون إلا عليه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {آل عمران: 126} فالنصر المطلق وهو خَلْقُ ما يُغلب به العدو لا يقدر عليه إلا الله، وفى هذا القدر كفاية لمن هداه الله، والله أعلم.
(1)
"مجموع الفتاوى"(1/ 357، 364).
وهذا الذى نهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الشرك هو كذلك، وفى شرائع غيره من الأنبياء ففى التوراة أن موسى عليه السلام نهى بنى إسرائيل عن دعاء الأموات، وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله، وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما فى الصحيح عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إنا معشر الأنبياء ديننا واحد)، وقد قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} {الشُّورى: 13}.
وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} {المؤمنون: 51 - 52} .
وقال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
…
لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} {الرُّوم: 30 - 32} . وهذا هو دين الإسلام الذى لا
يقبل الله ديناً غيره من الأولين والآخرين، كما قد بُسط الكلام عليه فى غير هذا الموضع.
وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فى حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم، وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وأرفع الشفعاء منزلة، وأعظمهم جاهاً عند الله تبارك وتعالى، تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بأن لا يُشرَك به، ولا يتخذ قبره وثناً يُعبد، ولا يُدعى من دون الله لا فى حياته ولا فى مماته.
…
ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين، ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدى فلاناً أغثنى وانصرنى وادفع عنى، أو أنا فى حسبك، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذى حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم لما كانوا من جنس عبَّاد الأوثان، صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عبَّاد الأوثان ويغويهم، فتتصور الشياطين فى صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لابد أن يكون فى ذلك ما هو كذب بل الكذب أغلب عليه من الصدق، وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذى جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صوَّر ملكاً على
صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم هذا سر الشيخ وحاله وإنما هو الشيطان تمثَّل على صورته، ليضل المشرك به المستغيث به كما تدخل الشياطين فى الأصنام وتكلّم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك فى أصنام مشركى العرب، وهو اليوم موجود فى المشركين من الترك والهند وغيرهم، وأعرف من ذلك وقائع كثيرة فى أقوام استغاثوا بى وبغيرى فى حال غيبتنا عنهم فرأونى، أو ذاك الآخر الذى استغاثوا به قد جئنا فى الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثونى بذلك بيَّنتُ لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصوّر بصورتى وصورة غيرى من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين، وهذا من أكبر الأسباب التى بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلامس يرون أيضاً من يأتى على صورة ذلك الشيخ النصرانى الذى استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم، وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور، أو يحكي لهم بعض هذه الأمور فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل، ومن هؤلاء من يأتى إلى قبر الشيخ الذى يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه وإنما ذلك كله
من الشياطين، وهذا من أعظم الأسباب التى عُبدت بها الأوثان، وقد قال الخليل عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} {إبراهيم: 35 - 36} . كما قال نوح عليه السلام.
ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيراً من الناس إلا بسببٍ اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عبَّاد الأصنام يعتقد أنها خَلَقَت السماوات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب:
منهم: من صورها على صور الأنبياء والصالحين.
ومنهم: من جعلها ثماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر.
ومنهم: من جعلها لأجل الجن.
ومنهم: من جعلها لأجل الملائكة، فالمعبود لهم فى قصدهم إنما هو الملائكة والأنبياء والصالحون أو الشمس أو القمر، وهم فى نفس الأمر يعبدون الشياطين فهى التى تقصد من الإنس أن يعبدوها وتُظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك كما قال تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
…
يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا
…
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} {سبأ: 40 - 41} وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين، أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء
والصالحين والملائكة وغيرهم، ممن يحسن العابد ظنه به وأما إن كان ممن لا يحرِّم عبادة الجن عرَّفوه أنهم الجن.
وقد يطلب الشيطان المتمثل له فى صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة، أو أن يأكل الميتة، ويشرب الخمر، أو أن يقرب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس، وأولئك جن تمثلت بصور الإنس، أو رؤيت فى غير صور الإنس، وقال تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} {الجنّ: 6} كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادى من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا! وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية هى تتضمن أسماء رجال من الجن يُدعون ويُستغاث بهم، ويُقسم عليهم بمن يعظمونه فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك فى بعض الأمور، وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} {البقرة: 102} .
وكثير من هؤلاء يطير فى الهواء وتكون الشياطين قد حملته، وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقاً يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله، وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله فارقته تلك الشياطين وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات؛ وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم، وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد، ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذى يجتمع فيه هذا وهذا الذى تكون فيه مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال.
والمشركون الذين لم يدخلوا فى الإسلام مثل البخشية والطونية والبدى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم فى الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذى يغني لهم به يمشى فى الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذى يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم فى مكان فمن نزل منهم عنده ضيَّفه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة.
وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه، أو من غيرها تسرقه وتأتى به، وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة.
(14)
حديث: (إذا اغتاب أحدكم أخاه فليستغفر له فإنها كفارة له)
.
(موضوع)
…
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 212): رواه ابن عدي في "الكامل"(4/ 222) عن سهل بن سعد مرفوعاً، وقال: وضعه سليمان بن عمرو.
وقد رواه ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي إسناده: عنبسه بن عبد الرحمن القرشي، متروك.
ورواه البيهقي في "الشعب" من طريقه. وقال: إسناده ضعيف. وكذلك اقتصر العراقي في "تخريج الإحياء" على تضعيفه.
ورواه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً وقال: تفرد به حفص بن عمر الأيلي، وهو ضعيف. اهـ (الشوكاني).
والحديث ورد بألفاظ أخرى كلها لا تصح.
قلت: وقد نصَّ جمع من العلماء على بطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن عدي.
(2)
البيهقي.
(3)
العراقي.
(4)
الدارقطني.
(5)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 342) رقم (1583، 1584).
(6)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 375) رقم (804).
(7)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة "(2/ 256).
(8)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 229) رقم (57).
(9)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 121).
(10)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(193).
(11)
الصالحي في "الشذرة"(687).
(12)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 169).
(13)
البيروتي في "أسنى المطالب"(1076).
(14)
الصعدي في "النوافح العطرة"(1397).
(15)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 212).
(16)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1518) و (1519) و (1520).
التعليق:
قلت: الغِيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب العزيز:
فقوله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} {الحجرات: 12} .
وأما السنة المطهرة:
فقوله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)
(1)
.
وأما الإجماع: فقد قال القرطبي رحمه الله: والإجماع على أنها من الكبائر وأنه يجب التوبة منها.
وقال ابن كثير رحمه الله: في تفسير سورة الحجرات: الغيبة محرمة بالإجماع.
أما مسألة كفارة من اغتبته فإليك كلام الإمام النووي
(2)
رحمه الله: فيها حيث قال: (باب كفارة الغيبة والتوبة منها):
(1)
رواه الطبراني في "الأوسط" عن البراء رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3537) و"الصحيحة"(1871).
(2)
"الأذكار"(ص: 429 - 431).
اعلم أن كل من ارتكب معصية لزمه المبادرة إلى التوبة منها، والتوبة من حقوق الله تعالى يُشترط فيها ثلاثة أشياء: أن يقلع عن المعصية في الحال، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم ألا يعود إليها.
والتوبة من حقوق الآدميين يُشترط فيها هذه الثلاثة، ورابع: وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو طلب عفوه عنها والإبراء منها، فيجب على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حق آدمي، ولا بد من استحلاله من اغتابه، وهل يكفيه أن يقول: قد اغتبتك فاجعلني في حل، أم لا بد أن يبين ما اغتابه به؟
فيه وجهان لأصحاب الشافعي رحمهم الله:
أحدهما: يشترط بيانه، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصح، كما لو أبرأه عن مال مجهول.
والثاني: لا يشترط لأن هذا مما يتسامح فيه، فلا يشترط علمه بخلاف المال. والأول أظهر، لأن الإنسان قد يسمح بالعفو عن غيبة دون غيبة، فإن كان صاحب الغيبة ميتاً أو غائباً فقد تعذر تحصيل البراءة منها.
لكن قال العلماء: ينبغي أن يكثر من الاستغفار له والدعاء ويكثر من الحسنات.
اعلم أنه يستحب لصاحب الغيبة أن يبرئه منها ولا يجب عليه ذلك لأنه تبرع وإسقاط حق، فكان إلى خيرته، ولكن يستحب له استحباباً متأكداً الإبراء ليخلص أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوز هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} {آل عمران: 134} وطريقه في تطبيب نفسه بالعفو أن يذكِّر نفسه أن هذا الأمر قد وقع، ولا سبيل إلى رفعه، فلا ينبغي أن أفوت ثوابه وخلاص أخي المسلم، وقد قال الله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} {الشورى: 43} وقال تعالى {خُذِ الْعَفْوَ} {الأعراف: 199} .
والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
(1)
.
وقد قال الشافعي رحمه الله: من استرضي فلم يرضَ فهو شيطان.
وقد أنشد المتقدمون:
قِيلَ لي: قد أساء إليك فلان
…
ومقام الفتى على الذل عار
قلت: قد جاءنا وأحدث عذرا
…
دية الذنب عندنا الاعتذار
(1)
رواه مسلم.
فهذا الذي ذكرناه من الحث على الإبراء عن الغيبة هو الصواب.
وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا أحلل من ظلمني.
وعن ابن سيرين: لم أحرمها عليه فأحللها له، لأن الله تعالى حرم الغيبة عليه، وما كنت لاحلل ما حرمه الله تعالى أبداً، فهو ضعيف أو غلط، فإن المبرئ لا يحلل محرماً، وإنما يسقط حقاً ثبت له، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على استحباب العفو وإسقاط الحقوق المختصة بالمسقط، أو يحمل كلام ابن سيرين على أني لا أبيح غيبتي أبداً، وهذا صحيح فإن الإنسان لو قال: أبحت عرضي لمن اغتابني لم يصر مباحاً، بل يحرم على كل أحد غيبة غيره.
وأما الحديث: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال إني تصدقت بعرضي على الناس)
(1)
.
فمعناه: لا أطلب مظلمتي ممن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء.
فأما ما يحدث بعده، فلا بد من إبراء جديد بعدها، وبالله التوفيق. اهـ.
قلت: وقد ذكر العلماء أنه يُستثنى من الغيبة ما يلي:
(1)
رواه أبو داود وابن السني من حديث أنس رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "الإرواء"(2366) و"ضعيف الجامع"(2185).
• التظلم، كالتظلم للسلطان والقاضي.
• الاستفتاء، كأن يقول للمفتي ظلمني فلان.
• الاستعانة على تغيير منكر أو رفع بلاء عن مسلم.
• تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر، وممن يضر بالمسلمين.
• ذكر المجاهر بما فيه، أو صاحب البدعة ببدعته ليعرفه الناس ويحذروه.
• التعريف إن كان الإنسان معروفاً بلقب معين كالأعرج والأصم والأعمى.
قال النووي رحمه الله: وأكثر هذه الأسباب مجمع على جواز الغيبة بها
(1)
.
وقد جاءت هذه الأمور في بيتين من الشعر:
القدحُ ليس بغيبة في ستةٍ
…
متظلمٍ ومعرِّفٍ ومحذرِ
ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن
…
طلب الإعانة في إزالة منكر
(2)
تنبيه:
لكن تجد الكثير من الناس يتكلم في أعراض المسلمين، بدون روية، أو ضوابط شرعية، بحجة النصيحة، أو الجرح والتعديل، أو الأمر بالمعروف
(1)
"الأذكار"(ص: 423 - 225).
(2)
"سبل السلام"(4/ 370).
والنهي عن المنكر، أو الغيرة على الدين، وفي حقيقة الأمر الكلام يكون لأمراض نفسية، وقضايا شخصية، وشهوة خفية، لا يعلم بها إلا رب البرية، فبالهوى والإعجاب يقدح، وبالهوى والإعجاب يمدح، فمن تأمل كثيراً من أَلْسِنَة هؤلاء وجدها ناراً محرقةً، وأفاعي تلدغ وتدمر، ولا تُعَمِّر، ويالها من ألسنة تزرع الهموم، وتثمر الغموم، وتحصد الشرور، فنعوذ بالله من الهوى والغرور.
فالجرح أمر صعب، يحتاج فيه إلى أقصى درجة من التدين والورع والتقوى والاحتياط، كما قال المباركفوري رحمه الله.
ألا فليتق الله المرء، وليراقب الذي يعلم السر وأخفى، وليعلم أنه محاسب على كل كلمة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} {ق: 18} وليدع هذا الباب لأهله وفرسانه، من العلماء الأتقياء أهل الورع والدين، وليشغل نفسه بأولويات العلم، وأبجديات الطلب، وإصلاح نفسه فالقيام بهذا الأمر أمر كفائي إذا قام به ما يكفي سقط عن الآخرين، كما قرر ذلك علماء الإسلام.
(15)
حديث: (إذا بليتم فاستتروا)
.
(ليس بحديث بهذا اللفظ)
وانظر:
(1)
"المقاصد الحسنة"(ص: 56) رقم (56).
(2)
"التمييز"(ص: 14).
(3)
"كشف الخفاء"(1/ 87) رقم (56).
التعليق:
قلت: يُغني عنه حديث: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله عز وجل، فإنه من يبدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)
(1)
قالها صلى الله عليه وسلم بعد رجم ماعز رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) متفق عليه.
فالواجب على المسلم: أنه إذا ابتلي بشيء من المعاصي والذنوب أن يستتر ويتوب إلى الله علام الغيوب فيما بينه وبين الله، فإن المجاهرة بالمعصية معصية أخرى، نسأل الله العظيم العفو والعافية والستر في الدنيا والآخرة.
(1)
رواه البيهقي والحاكم والطحاوي في "مشكل الأثار" والعقيلي عن ابن عمر رضي الله عنه، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (663) و"صحيح الجامع"(149).
(16)
حديث: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء)
.
(لا أصل له)
هذا الحديث لا أصل له بهذا اللفظ كما نصَّ على ذلك أهل العلم منهم:
(1)
الحافظ العراقي في "شرحه على سنن الترمذي"، قال: لا أصل له بهذا اللفظ
(1)
.
(2)
تلميذه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 190).
(3)
تلميذ ابن حجر السخاوي في "المقاصد الحسنة"(61).
(4)
تلميذ السخاوي ابن الديبع في "التمييز"(ص: 25).
(5)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(69).
(6)
الفتني الهندي في "تذكرة الموضوعات"(ص: 142).
(7)
القاري في "الأسرار المرفوعة "(25)، و"المصنوع"(18).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 90 - 91) رقم (225).
(1)
"الفتح"(2/ 190).
(9)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 146) رقم (10) كتاب الأطعمة والأشربة.
(10)
البيروتي في "أسنى المطالب"(115).
التعليق:
قلت: ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العَشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء)
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأقيمت الصلاة) أعم من أن تكون صلاة العِشاء الواردة في الحديث المشهور على الألسن، أو أن تكون صلاة المغرب، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام
…
) فلفظ (صلاة) هاهنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم عند علماء الأصول، فتعم كل صلاة من الصلوات الخمس، وغيرها كما أن النفي هاهنا بمعنى النهي، أي: لا يُصَلِّ أحد بحضرة طعام يتوق إليه سواء كانت الصلاة ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو عشاءً، فإن صلى ونفسه تتوق إلى الطعام فقد ذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة مع كراهتها على هذا الحال، وقالوا: إن نفي الصلاة في هذا الحديث نفي لكمالها لا لصحتها.
(1)
رواه البخاري (631) ومسلم (867) عن عائشة رضي الله عنها وعن ابن عمر رضي الله عنه نحوه.
وقالت الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية بالبطلان فلم يصححوا الصلاة مع وجود الطعام ولا مدافعة أحد الأخبثين، وعدوا الصلاة باطلة إلا أن شيخ الإسلام لم يُصِحَّها مع الحاجة إلى الطعام، والظاهرية شذوا فلم يصححوها مطلقاً
(1)
.
(1)
"فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (2/ 188).
(17)
حديث: (إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه ليس بحديث، كما ذكر ذلك:
(1)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 91) رقم (226) قال: كلام يجري على ألسِنة الناس وليس بحديث.
(2)
العامري في "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث"(17).
(3)
الأزهري في "تحذير المسلمين"(16).
(4)
الألباني في "الضعيفة" تحت حديث (1840).
التعليق:
قلت: لكن في الحديث الصحيح ما يدل على أن الشيطان لا يجتمع مع الملك، وهو ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سبَّ أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا يقول شيئاً، فلما سكت ذهب أبو بكر يتكلم فقام صلى الله عليه وسلم واتَّبعه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يسبني وأنت جالس فلما ذهبتُ أتكلم قمتَ، قال:(إن الملك كان يرد عنك فلما تكلمت ذهب الملك ووقع الشيطان فكرهت أن أجلس)
(1)
.
(1)
رواه أبو داود وحسنه العلامة الألباني في "الصحيحة"(2376) و"صحيح الجامع"(6758).
ففي الحديث إشارة إلى أن الملك والشيطان لا يجتمعان.
وكذلك قصة هروب الشيطان يوم بدر عندما رأى الملائكة، وكذلك عدم دخول الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة، ولا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب أو جرس
(1)
…
إلخ.
قال العلامة الألباني
(2)
رحمه الله: فالبيت المسلم لا يجوز أن يكون فيه صور ظاهرة -هذا أقل ما يُقال- مهما كانت هذه الصور، فيجب أن نحرص كل الحرص أن نُجنب إظهار الصور في بيوتنا؛ لأن هذا الظهور يمنعُ دخول الملائكة، ومعنى هذا خطير جداً؛ لأن العامة يقولون:(إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين) فهذا شيء كأنه مستنبط من هذا الحديث، إذا كانت الملائكة لا تدخل البيت فمن يدخله إذن؟ إذا خلا الجو لهؤلاء الشياطين سارعوا إلى هذه البيوت، فالقضية متعاكسة تماماً، فإذا اتخذت الوسائل الشرعية لاستجلاب ملائكة الله عز وجل إلى دارك؛ فقد اتخذت سبباً قوياً جداً في إبعاد الشياطين عن بيتك، والعكس بالعكس تماماً؛ إذا تساهلت فخالفت الشرع واتخذت الأسباب لعدم دخول الملائكة إلى بيتك؛ فقد أفسحت المجال لدخول الشياطين إليه.
(1)
وانظر "كشف الخفاء"(1/ 91).
(2)
دروس صوتية مفرغة.
(18)
حديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)
.
(ضعيف)
رواه أحمد (11651)، والترمذي (2750)، وابن ماجه (802) والدارمي (1/ 278)، وابن خزيمة (1502)، والحاكم (773) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
والحديث ضعيف في سنده: درَّاج بن سمعان أبو السمح.
قال عنه الذهبي: درَّاج كثير المناكير.
وقال الإمام أحمد وغيره: أحاديثه مناكير.
وقال ابن حجر في "التقريب"(1824): صدوق في روايته عن أبي الهيثم ضعف.
قلت: وهذا الحديث منها.
"تهذيب التهذيب"(3/ 186) و"الميزان"(2/ 24) و"المستدرك" بتعليق شيخنا الوادعي (1/ 319) رقم (773) و"المغني في الضعفاء"(1/ 223).
وممن نصَّ على ضعف هذا الحديث:
(1)
العلامة الألباني في "المشكاة"(723)
(1)
.
(2)
شيخنا العلامة الوادعي في "غارة الأشرطة"(1/ 141) وتعليقه على "المستدرك"(773).
(3)
اللجنة الدائمة (4/ 443).
(4)
العلامة ابن عثيمين في "المجموع الثمين"(2/ 48).
والحديث ذكره السخاوي في "المقاصد"(ص: 60) رقم (64) وابن الديبع في "التمييز"(ص: 16) والعجلوني في"كشف الخفاء" رقم (235).
التعليق:
قلت: الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، وقد سئل شيخنا ابن عثيمين
(2)
رحمه الله: هل يُشهد للرجل بالإيمان بمجرد اعتياده المساجد؟
فأجاب بقوله: نعم لاشك أن الذي يحضر الصلوات في المساجد، حضوره لذلك دليل على إيمانه، لأنه ما حمله على أن يخرج من بيته ويتكلف المشي إلى المسجد إلا الإيمان بالله عز وجل. اهـ.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف أبي داود"(68) و"ضعيف ابن ماجه"(154) و"ضعيف الترمذي"(490)، (600)، (601) و"الضعيفة" تحت حديث رقم (1682) و"ضعيف الجامع" (509) و"تمام المنة" (ص: 291) و"الترغيب والترهيب"(1/ 181) رقم (203).
(2)
"المجموع الثمين"(2/ 47 - 48).
قلت: ومما يدل على أن الحديث معناه صحيح قوله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} {التوبة: 18} .
قال العلامة الشنقيطي
(1)
رحمه الله:
العمارة المعنوية: بالعبادات وذكر اسم الله فيها.
والعمارة الحسية: من بنائها وترميمها هذا كله من شأن المؤمنين لا من شأن الكفار، وهذا قوله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الذي آمن بالله هو الذي يعمر مساجد الله، لا الكافر الذي عمله ضد لما بُنيت له المساجد، فهذا تناقض، لا يمكن أن يكون عامراً للمساجد وعمله ضد ما بنيت له المساجد.
وقال أبو بكر بن العربي: اشهدوا له شهادة ظاهرة، (أي من يعتاد المساجد) لأن فعله يدل عليها وتعاهد المساجد يدل على إيمانه ظاهراً، أما حقيقة الباطن فهي عند الله جلَّ وعلا.
قلت: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (
…
إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) متفق عليه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(1)
"العذب النمير في مجالس التفسير"(5/ 331 - 332).
(19)
حديث: (إذا طنَّت أذن أحدكم فليذكرني وليصلِ عليَّ)
.
(موضوع)
…
أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص: 63) رقم (166)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 271)، (8/ 208)، والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 261)، والطبراني في "الصغير"(2/ 120) و"الكبير"(1/ 322) رقم (958) و"الأوسط"(10/ 104) رقم (9218). وغيرهم عن أبي رافع.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 138). والحافظ ابن حجر في "المطالب العالية"(3/ 236) رقم (3364).
وفي سنده: محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، متهم بالوضع.
ورواية ابنه معمر عنه قال ابن عدي: منكرة.
قلت: وقد نصَّ جمع من أهل العلم على بطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 266) رقم (1500).
(2)
ابن القيم في "المنار المنيف"(ص: 65) رقم (119) قال: كل حديث في طنين الأذن فهو كذب.
(3)
ابن كثير في "التفسير"(3/ 622)،
(4)
العقيلي، كما نقل عنه السخاوي.
(5)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 62) رقم (70).
(6)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 17).
(7)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 242).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 110) رقم (292).
(9)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 166).
(10)
الصالحي في "الشذرة"(1/ 56) رقم (65).
(11)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 43) رقم (130).
(12)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 293).
(13)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 34) رقم (16)
(14)
الصعدي اليمني في "النوافح العطرة"(ص: 35) رقم (138).
(15)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 204) رقم (20).
(16)
المعلمي في تحقيق "الفوائد المجموعة"(ص: 204) رقم (20).
(17)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(2631): موضوع
(1)
.
(1)
وانظركذلك "ضعيف الجامع"(586)، و"التوسل" (ص: 22) و"الروض النضير"(906).
(18)
العلامة ابن باز في "التحفة الكريمة"(44).
(19)
شيخنا الوادعي في "غارة الأشرطة"(2/ 61).
(20)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 450).
التعليق:
تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث لايصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من الأحاديث والأقوال والأفعال تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منها براء، وكم من خرافات وتراهات وظنون وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، تُنسب إلى سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم والله المستعان، فمن ذلك على سبيل المثال:
• هذا الكلام الذي بين يديك: (إذا طنت أذن أحدكم
…
).
•
…
(إذا رمشت العين اليمنى أنه سيرى رجلاً يحبه وإذا رمشت عينه اليسرى يرى رجلاً لا يحبه) لا أصل له.
•
…
(إذا حكت اليد يقولون سوف يأتينا مال أو غيره).
•
…
(إذا كانت الحذاء مقلوبة يعدلونها)
(1)
.
وغير ذلك من الخرافات التي لا أصل لها في الشريعة الإسلامية.
(1)
"التوسل" للألباني (ص: 22 - 23)، و"السنن والمبتدعات" (ص: 333)، و"الخطب المنبرية" للسدحان (2/ 447 - 478)، و"معجم البدع" (ص: 421).
(20)
حديث: (إذا كبر ولدك واخيه)
.
(ليس بحديث)
…
اشتهر هذا الكلام على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، وليس كذلك إنما هو من كلام العامة كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم:
(1)
العامري في "الجد الحثيث"(21) قال: هو من كلام العامة، وقولهم:(واخيه) لحن وصوابه (آخِه).
(2)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 64) رقم (73).
(3)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 18).
(4)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 99) رقم (255) قال: قال النجم: هو من كلام العامة.
التعليق:
قلت: وقد جاء في معنى هذا الكلام حديث ضعيف عن أبي جبيرة ابن الضحاك عند الطبراني وغيره بسند ضعيف: (الولد سبع سنين سيد وأمير، وسبع سنين عبد وأسير، وسبع سنين أخ ووزير)
(1)
.
(1)
"أسنى المطالب" تحت حديث رقم (140).
وتقدير مراحل العمر للأولاد هذا مما يجدر بالوالدين أن يراعوه، فالولد يكبر وينمو تفكيره فلا بدَّ أن تكون معاملته ملائمة لسنِّه وتفكيره واستعداده، وأن لايعامل على أنه صغير دائماً.
(21)
حديث: (إذا كثرت الفتن فعليكم باليمن)
.
(موضوع)
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(18/ 384): هذا اللفظ لايعرف.
(2)
قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 351): قال ابن تيمية: موضوع.
(3)
قال شيخنا الوادعي في "إجابة السائل"(ص: 470): حديث (إذا جاءتكم الفتن فعليكم باليمن) موضوع ليس له سند.
…
وقال في تحفة المجيب (ص: 418): وأما حديث: (إذا هاجت الفتن فعليكم باليمن) فهو حديث موضوع مكذوب لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم عدم صحة هذا الحديث، ومعناه كذلك ليس بصحيح، فاليمن كغيرها من البلدان مليئة بالفتن، فالواجب عند حصول الفتن العمل بأسباب النجاة منها.
وأسباب النجاة من الفتن كثيرة، منها: الهجرة، فإذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض فهاجر إلى أرض تستطيع تعبد الله فيها.
ونستطيع أن نلخص أنواع الهجرة -سواء ما بقي منها مفروضاً أو نسخ، وما هو غير ذلك- في النقاط التالية:
• الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام: وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان، فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام.
• الخروج من أرض البدعة إلى أرض السنة: قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف.
• الخروج عن أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاجراً شقياً. وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته، وانتقاله من
الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة.
• الفرار من الأذية في البدن: وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} {العنكبوت: 26} . {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)} {الصافات: 99} . وموسى عليه السلام قال الله فيه {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)} {القصص: 21} .
• خوف المرض في البلاد الوخمة، والخروج منها إلى الأرض النزهة: وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج، فيكونوا فيه حتى يصحوا، وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون كما قرر ذلك الحديث الصحيح.
• الفرار خوف الأذية في المال: فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد
(1)
.
(1)
"الولاء والبراء في الإسلام"(ص: 286 - 288). بتصرف.
(22)
حديث: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
.
(ضعيف)
…
قال العلامة الألباني: رواه ابن إسحاق في "السير"(4/ 31 - 32) وعنه الطبري في "التاريخ"(3/ 120).
ثم قال: هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت، وهو عند ابن هشام معضل، وقد ضعَّفه الحافظ العراقي، كما بينته في "تخريج فقه السيرة" (ص: 415) حاشية.
وقال في "الضعيفة"(1163): وهذا سند ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق لم يُسمَّ، وقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم، فهو مجهول ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانهم، وهو مرسل أو معضل.
"دفاع عن الحديث النبوي والسيرة"(ص: 41).
قلت: وقد ذكر هذا الحديث جمع من أهل العلم
(1)
ولم يتكلموا عليه صحة أوضعفاً، والحجة كما قال العلامة الألباني في الرد على البوطي
(1)
منهم: الطبري في "تاريخه"(2/ 161)، وابن خلدون في "التاريخ"(2/ 445)، وابن كثير في "البداية والنهاية"(4/ 300)، وابن القيم في "الزاد"(3/ 408)، وابن حجر في "الفتح"(7/ 612)، والمناوي في "فيض القدير"(5/ 218)، وصديق حسن خان في "الروضة الندية"(3/ 475)، والصنعاني في "سبل السلام"(1/ 199)، والشوكاني في "فتح القدير"(2/ 60).
(ص: 41 - 42): إن كان يرى -أي البوطي- أن هذا الحديث صحيح فليثبت لنا ذلك نكن له من الشاكرين، أم هو يجري على القول المشهور:(الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور).
التعليق:
قلت: وإن كان هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم والقلب الرحيم، والعفو العميم، والصفح الجميل، وحسبك صبره وعفوه صلى الله عليه وسلم عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له، في أشد ما نالوه به من الجراح والجهد، بحيث كُسِرَت رباعيته وشُجَ وجهه يوم أحد حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديداً وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال:(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)
(1)
.
وههنا دقيقة وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما شج وجهه عفا وقال: (اللهم اهد قومي) وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: (اللهم املأ بطونهم ناراً) فتحمل الشجة الحاصلة في وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة في دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة فرجَّح حق خالقه على حقه، واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، لهذا شق عليه صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في
(1)
رواه البخاري.
القسمة لكنه عليه الصلاة والسلام حَلُمَ على القائل وصبر لما علم جزيل ثواب الصابر، وأن الله يأجره بغير حساب، وصبره صلى الله عليه وسلم على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة كما قال له تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} {التحريم: 9} .
وقد وقع له عليه الصلاة السلام أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
"الزهور الندية في خصائص وأخلاق خير البرية "(ص: 102 - 103).
(23)
حديث: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)
.
(موضوع)
أخرجه ابن عبد البر في"جامع بيان العلم"(2/ 91)، وابن حزم في "الإحكام"(2/ 251 - 252) عن جابر رضي الله عنهما مرفوعاً.
في سنده: سلام بن سليمان مجمع على ضعفه.
بل قال ابن خراش: كذَّاب.
وقال ابن حبان: روى أحاديث موضوعة.
قلت: وقد نصَّ جمع من أهل العلم على بطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن عبد البر، قال: هذا إسناد لا تقوم به حجة.
(2)
ابن حزم في "الإحكام"(2/ 251 - 252) قال: هذه رواية ساقطة وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك.
(3)
ابن الملقن في الخلاصة.
(4)
البيهقي، كما نقل عنه الحافظ في "التلخيص".
(5)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة"(7/ 142 - 143).
(6)
ابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 190) رقم (2098).
(7)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 283).
(8)
العلامة الألباني في"الضعيفة"(58).
(9)
اللجنة الدائمة (29/ 216) رقم الفتوى (12464).
التعليق:
قال العلامة الألباني
(1)
: قال ابن حزم: فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا، بل لا شك أنها مكذوبة، لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} {النجم: 3 - 4}.
فإذا كان كلامه عليه الصلاة والسلام في الشريعة حقاً كله وواجباً فهو من الله تعالى بلا شك، وما كان من الله تعالى فلا يختلف فيه، لقوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} {النساء: 82}، وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} {الأنفال: 46}، فمن المحال أن يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم، وفيهم من يحلل الشيء وغيره يحرمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً اقتداءً بسمرة بن جندب رضي الله عنه، ولكان أكل البرد للصائم حلالاً اقتداءً بأبي طلحة رضي الله عنه، وحراماً اقتداءً بغيره منهم،
(1)
"الضعيفة"(61).
ولكان ترك الغسل من الإكسال واجباً بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب و أبي بن كعب، وحراماً اقتداءً بعائشة وابن عمر وكل هذا مروى عندنا بالأسانيد الصحيحة.
ثم أطال في بيان بعض الآراء التي صدرت من الصحابة وأخطأوا فيها السنة، وذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته.
ثم قال: فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون؟!.
وقال قبل ذلك تحت باب (ذم الاختلاف): وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى، الذي شرع لنا دين الإسلام، و ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمره الله تعالى ببيان الدين
…
فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلاً، و قد غلط قوم فقالوا:(الاختلاف رحمة)، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
قال: وهذا الحديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية.
أحدها: أنه لم يصح من طريق النقل.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يأمر بما نهى عنه، و هو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره، و كذَّب -أي خطأ- عمر في تأويل تأوله في الهجرة، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة،
فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون عليه السلام يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ.
فيكون حينئذ أمر بالخطأ، تعالى الله عن ذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، وهو عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنهم يخطئون، فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطيء، إلا أن يكون عليه السلام أراد نقلهم لما رووا عنه، فهذا صحيح لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات، فمن أيهم نقل، فقد اهتدى الناقل.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل، بل قوله الحق، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر، لأنه من أراد جهة مطلع الجدي، فأم -اتجه- جهة مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضل ضلالاً بعيداً وأخطأ خطأ فاحشاً، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحاً ضرورياً.
ونقل خلاصته ابن الملقن في "الخلاصة" وأقره، وبه ختم كلامه على الحديث، فقال: وقال ابن حزم: خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط. اهـ.
قلت: تبين لك أخي الكريم عدم صحة الحديث، وعدم صحة معناه، لكن لا يشك مسلم في فضل الصحابة رضي الله عنهم، وأن من سار على نهجهم واقتفى أثرهم اهتدى، فإن الله سبحانه وتعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، هادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، واختار له أصحاباً
كانوا نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء، وهم الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حفظوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقلوها إلى كل من جاء بعدهم، وبلغوها وأدوها ناصحين محتسبين، فهم خير القرون وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعدل ممن ارتضاه الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرتة، ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منها، وهم أولى الناس بأن تُعرف أحوالهم، وما اتصفوا به من أخلاق عالية وصفات نبيلة، إذ في معرفة ذلك إضاءة الطريق أمام المؤمن الذي أحب أن يسير إلى الله على بصيرة، استناداً إلى ما جاء في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، ومن هنا كان لزاماً على كل مسلم ومسلمة معرفة أخبارهم وأحوالهم على وجه الدقة، حتى يقتدى بهم على بصيرة وينشرها بين المسلمين
(1)
.
…
ومن فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري ومسلم
(2)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني
(3)
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
(1)
"معرفة الصحابة" لأبي نعيم (1/ 7).
(2)
البخاري (2458) ومسلم (4601).
(3)
(تنبيه): لقد اشتهر هذا الحديث على كثير من ألسنة الناس بلفظ: (خير القرون قرني
…
) قال شيخنا الوادعي في"السير الحثيث"(ص: 454): (خير القرون
…
) بهذا اللفظ ليس لها أصل. وقال العلامة الألباني "التنكيل"(2/ 208): هكذا اشتهر الحديث على الألسنة.
وأخرج مسلم
(1)
في صحيحه عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلنا: لوجلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا فقال: (ما زلتم ها هنا؟) قلنا: يارسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا نصلي معك العشاء، قال:(أحسنتم، أو أصبتم) قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وروى البخاري
(2)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم).
وجاء عند ابن أبي شيبة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزالون بخير مادام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير مادام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني) وهو حديث حسن.
(1)
(2)
(24)
حديث: (اطلبو العلم ولو بالصين)
.
(باطل)
رواه ابن عدي في "الكامل"(5/ 188)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (ص: 12) رقم (17)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 254) رقم (1663)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 230) رقم (777)، والخطيب في "التاريخ"(9/ 364) عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي سنده: الحسن بن عطية ضعَّفه أبوحاتم الرازي.
وفيه: طريف بن سليمان، قال البخاري: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقه.
وقال الدارقطني وغيره: ضعيف.
وقد حكم ببطلان هذا الحديث جمع من العلماء، منهم:
(1)
ابن حبان في "المجروحين" قال: هذا الحديث باطل لا أصل له.
(2)
…
ابن الجوزي في"الموضوعات"(1/ 347) رقم (427) و (428) و (429) قال: هذا حديث لايصح.
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 86) رقم (125).
(4)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(1/ 175).
(5)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 24).
(6)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(1/ 258) رقم (28).
(7)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 154) رقم (397).
(8)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 247) رقم (1).
(9)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 413) رقم (416)
(1)
.
التعليق:
قلت: لاشك أن الرحلة في طلب الحديث من أبرز صفات هذه الأمة، فقد بذل السلف الصالح غاية الوسع والطاقة في الرحلة لطلب الحديث، فكان الواحد منهم يرحل المسافات الشاسعة، ويتجاوز الفيافي والقفار، يأتدم الخبز اليابس، ويكتفي بالطعام الجلف، ويلبس خلْق الثياب ويعاني الأهوال للفوز بطلب العلم، بل طلب مسألة من العلم أولسماع حديث واحد.
وقد جمع الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب أخباراً عجيبة، وتحفاً نادرةً، من أخبار رحلاتهم، فهذا شعبة بن الحجاج يرحل شهراً في طلب حديث
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(906) و (907) و"تخريج مشكلة الفقر"(ص: 50) رقم (86).
سمعه من طريق لم يمر عليه، كما ذكر الخطيب في "الرحلة"، وهذا جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما صحابي جليل، يقول: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه، قال: فابتعت بعيراً فشددت عليَّ رحلي فسرت إليه شهراً حتى أتيت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري قال: فأرسلتُ إليه أن جابراً على الباب، قال: فرجع إليَّ الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. قال: فرجع الرسول إليه فخرج إليَّ فاعتنقني واعتنقته، قال: قلت: حديثاً بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه.
وهذا أبو زرعة ومحمد بن نصر وغيرهم يقطعون الفيافي على الأقدام كل هذا في سبيل تحصيل العلم، فهم يقطعون المسافات الشاسعة التي تنقطع دونها رقاب المطي مع ما يصاحب ذلك من التعب وعناء الطريق، ومع ذلك فإن لذة العلم التي وضعها الله عز وجل في قلوبهم أنستهم عناء الطريق وبعد الشقة.
فكم قد حدثنا التاريخ أن بعض الرحَّالة في طلب العلم اشتد به الجوع والظمأ، وضاع في الصحاري والقفار، وخشي على نفسه الهلاك وانقطعت به السبل، فمنهم من شرب بوله، ومنهم من بال دماً، ومنهم من أنفق كل أمواله في الرحلة في طلب العلم، ومنهم من ترك أهله وأولاده
حتى قال أحدهم:
خلفتُ عرسي يوم السير باكية
…
يا ابن المبارك تبكيني برنات
خلفتها سحراً في النوم لم أرها
…
وفي فؤادي منها شبه كيات
أهلي وعرسي وصبياني تركتهمُ
…
وسرت نحوك في تلك المفازات
أخاف والله قطاع الطريق بها
…
وما أمنت بها من لدغ حيات
مستوفزات بها رقط مشوهة
…
أخاف صولتها في كل ساعات
اجلس لنا كل يوم ساعة بكراً
…
إن خفَّ ذاك وإلا بالعشيات
يا أهل مرو أعينونا بكفكم
…
عنا وإلا رميناكم بأبيات
لا تضجرونا فإنا معشر صبر
…
وليس نرجو سوى رب السماوات
وقال بعضهم:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى
…
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
…
وعلم وآداب وصحبة ماجد
وقال آخر:
ارحل بنفسك من أرض تضام بها
…
ولا تكن من فراق الأهل في حرق
فالعنبر الخام روث في مواطنه
…
وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره
…
في أرضه وهو مرمي على الطرق
لما تغرَّب حاز الفضل أجمعه
…
فصار يحمل بين الجفن والحدق
(25)
حديث: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)
.
(لا أصل له)
(1)
قال العلامة الألباني رحمه الله-في "الضعيفة"(8): هذا الحديث لا أصل له وإن اشتهر على الألسنة في الأزمنة المتأخرة
(1)
.
…
(2)
قالت اللجنة الدائمة في "الفتاوى"(29/ 269) رقم (13793): ذلك ليس بحديث مرفوع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3)
قال شيخنا ابن عثيمين في "شرح الأربعين النووية"(ص: 391): وهذا يروى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ليس بحديث. وقال أيضاً في "فتاوى نورعلى الدرب"(2/ 234): هذا القول المشهور لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأحاديث الموضوعة.
قلت: وقد أفرد هذا الحديث برسالة مستقلة أحد المعاصرين بعنوان: (إياك أن تغتر بحديث اعمل لدنياك) قرر في هذه الرسالة عدم وجود أصل لهذا الحديث بهذا النص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
وانظر كذلك "إصلاح المساجد"(ص: 68).
التعليق:
قلت: قال العلامة الألباني رحمه الله معلقاً على هذا الحديث
(1)
: ثم إن هذا السياق ليس نصاً في أن العمل المذكور فيه هو العمل للدنيا، بل الظاهر منه أنه يعني العمل للآخرة، والغرض منه الحض على الاستمرار برفق في العمل الصالح وعدم الانقطاع عنه، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) متفق عليه.
وقال شيخنا العلامة ابن عثيمين
(2)
رحمه الله: هذا القول المشهور لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأحاديث الموضوعة، ثم إن معناه ليس هو المتبادر إلى أذهان كثير من الناس، من العناية بأمور الدنيا والتهاون بأمور الآخرة، بل معناه على العكس، وهو المبادرة والمسارعة في إنجاز أعمال الآخرة، والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا، لأن قوله:(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) يعني أن الشيء الذي لا ينقضي اليوم ينقضي غداً، والذي لا ينقضي غداً ينقضي بعد غدٍ، فاعمل بتمهل وعدم تسرع، لو فات اليوم فما يفوت اليوم يأتي غداً وهكذا، أما الآخرة (فاعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) أي بادر بالعمل ولا تتهاون، وقدركأنك تموت غداً بل أقول قدركأنك تموت قبل غد، لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، وقد
(1)
"الضعيفة"(1/ 63).
(2)
"فتاوى نور على الدرب"(2/ 234).
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) هذا هو معنى هذا القول المشهور، إذن فالجواب أن هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن معناه ليس كما يفهمه كثير من الناس من إحكام عمل الدنيا، وعدم إحكام عمل الآخرة، بل معناه المبادرة في أعمال الآخرة، وعدم التأخير والتساهل فيها، وأما أعمال الدنيا فالأمر فيها واسع ما لا ينقضي اليوم ينقضي غداً وهكذا.
قلت: الشطر الثاني من الحديث يدعو إلى قصر الأمل في هذه الدنيا وهذا تدعمه الأدلة الصحيحة منها، حديث ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري
(1)
، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكنبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
قال العلامة ابن عثيمين
(2)
رحمه الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) سبحان الله أعطى الله نبيه جوامع الكلم هاتان الكلمتان، يمكن أن تكونا نبراساً يسير الإنسان عليه في
(1)
"البخاري مع الفتح"(11/ 237).
(2)
"شرح رياض الصالحين"(2/ 318).
حياته (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، والفرق بينهما أن عابر السبيل ماشٍ يمر بالقرية وهو ماش منها، وأما الغريب فهو مقيم فيها حتى يرتحل عنها يقيم فيها يومين أو ثلاثة أو عشرة أو شهراً، وكل منهما لم يتخذ القرية التي هو فيها وطناً وسكناً وقراراً، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام كن في الدنيا كهذا الرجل، إما غريب أو عابر سبيل، فالغريب وعابر السبيل لا يستوطن، يريد أن يذهب إلى أهله وإلى بلده، لو أن الإنسان عامل نفسه في هذه الدنيا بهذه المعاملة لكان دائماً مشمراً للآخرة لا يريد إلا الآخرة، ولا يكون أمام عينيه إلا الآخرة حتى يسير إليها سيراً يصل به إلى مطلوبه، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، المعنى أنك لا تؤمل أنك إذا أصبحت أمسيت، وإذا أمسيت أصبحت، فكم من إنسان أمسى ولم يصبح، وكم من إنسان لبس ثوبه ولم يخلعه إلا الغاسل، وكم من إنسان خرج من أهله قد هيأوا له غداءه أو عشاءه ولم يأكله، وكم من إنسان نام ولم يقم من فراشه، المهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يطيل الأمل، بل يكن حذراً حاذقاً حازماً كيساً، هذا معنى قوله: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح
…
) إلخ.
(26)
حديث: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه)
.
(ضعيف)
أخرجه أبو داود مع العون (4106)، والترمذي (2940)، وأحمد في "المسند"(26537)، والطحاوي في"مشكل الآثار"(1/ 265) رقم (288) والبيهقي في "الكبرى"(7/ 91)، والبغوي في "شرح السنة" (5/ 20) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت أنا وميمونة عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟).
قلت: هذا إسناد ضعيف علته: نبهان، وهو المخزومي أبو يحيى المدني مولى أم سلمة مجهول. كما قال ابن حزم ونقله عنه الذهبي في "المغني"(2/ 664) وأقره.
ولم يرو عنه سوى الزهري ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة.
وقال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين يعني هذا الحديث وحديث: (إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه).
وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يُعرف إلا برواية الزهري عنه.
والحديث ضعَّفه جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الإمام أحمد
(1)
رحمه الله.
(2)
القرطبي رحمه الله في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(6/ 85) قال: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل، لأن راويه عن أم سلمة نبهانُ مولاها، وهو ممن لا يحتج بحديثه.
(3)
العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(5958) و"الإرواء"(1806)
(2)
.
(4)
شيخنا الوادعي رحمه الله.
(5)
العلامة ابن باز رحمه الله في "التحفة الكريمة"(18).
(6)
العلامة ابن عثيمين-رحمه الله في "شرح رياض الصالحين"(4/ 282).
(7)
الأرنؤوط في "تحقيق صحيح ابن حبان"(12/ 387) رقم (5575)، و"تحقيق مشكل الآثار"(1/ 265).
(8)
سليم الهلالي في "بهجة الناظرين"(3/ 146).
(9)
العدوي في "أحكام النساء"(5/ 522).
(1)
وانظر "الضعيفة" تحت هذا حديث (5958).
(2)
وانظر كذلك: "المشكاة"(2/ 934) رقم (3116) و"جلباب المرأة المسلمة"(ص: 11) و"ضعيف سنن أبي داود"(4112) و"ضعيف سنن الترمذي"(526) و"فقه السيرة"(ص: 44) و"غاية المرام"(ص: 111) رقم (203) و"التعليقات الحسان"(8/ 141) رقم (5548)، و"الرد المفحم"(1/ 63).
التعليق:
مسألة: حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي.
الجواب: لا يخلو نظر المرأة إلى الرجل من حالين:
الحال الأولى: أن يكون نظر المرأة إلى ما بين السرة والركبة من الرجل، بمعنى أن المرأة تنظر إلى عورة الرجل، فهذا مما جاءت الشريعة بحسم مادته وبيان حكمه، فهذا النظر حرام بالاتفاق، سواء كان هذا النظر بشهوة أو بغير شهوة.
الحال الثانية: أن يكون نظر المرأة إلى ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل، وهذا النظر إما أن يكون بشهوة أو بغير شهوة. فإن كان هذا النظر بشهوة فهوحرام أيضاً قولاً واحداً، وإن كان بلا شهوة فهو موطن السؤال.
وللجواب عليه يقال: إن من يجمع النصوص المتعلقة بنظر المرأة إلى الرجل من الكتاب والسنة يجدها متقابلة متعارضة فيما يظهر، ولهذا صار محصلة آراء العلماء قولين متقابلين.
القول الأول: إن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي محرم مطلقاً سواء كان النظر إليها بشهوة أو بغير شهوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً.
قلت: وقد استدل المانعون بقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} {النور: 30 - 31} . فالأمر بغض البصر هنا عام في كل نظر سواء كان بشهوة أو بغير شهوة.
القول الثاني: إن نظر المرأة للرجل جائز إذا كان بلا شهوة، واستدلوا على ذلك بأدلة أشهرها ما يلي:
• حديث فاطمة بنت قيس في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بالعدة في بيت ابن أم مكتوم بقوله: (اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك
…
) رواه مسلم. وهذا أمر صريح لها بالسكنى عند ابن أم مكتوم، فلو كان النظر إلى الرجل حراماً لأمرها بغض بصرها عنه عقب أمره لها بالسكنى عنده، وهذه الحادثة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة بدليل سؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها، واستشارتها له في نكاح رجال خطبوها منهم معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح.
• حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم) متفق عليه.
وهذا الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فيه دليل على أن النظر إلى الرجال بلا شهوة غير محرم.
مناقشة القائلين بالتحريم والمنع:
ويمكن مناقشة أدلة القائلين بالمنع بأن قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عام والأحاديث التي تبيح النظر إلى الرجال خاصة، والعام إذا خص فلا يعمل به وإنما يعمل بالدليل المخصص فلا حجة في ذلك، ويبقى عمل الآية فيما بقي على عمومه مما أمر النساء بكف البصر عنه.
وقد قال ابن سعدي في معناها {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عن النظر إلى العورات والرجال بشهوة ونحو ذلك.
وأما حديث أم سلمة فيمكن الجواب عنه: أن الحديث لا يصح.
مناقشة القائلين بالجواز:
وجه إلى الدليل الأول، وهو حديث فاطمة بنت قيس، بأنها يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه، ولا يخفى بعده.
وأما حديث عائشة فقالوا: إنها كانت تنظر إلى لعبهم ولا تنظر إليهم.
وقالوا أيضاً: إنها كانت وقتئذ صغيرة لم تبلغ، بدليل قولها:(فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن). وأجيب عليه بأن الروايات الأخرى تذكر أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة، ووفد الحبشة كان في السنة السابعة من الهجرة فيكون عمر عائشة حينئذ ست عشرة سنة، فكانت بالغاً.
الترجيح:
والقول الراجح هو القول بالمنع مطلقاً، فقد أمر العلي العليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور الرجال والنساء بغض أبصارهم وحفظ فروجهم {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} {النور: 30 - 31}.
فدل على أن النساء كالرجال في تحريم النظر، ووجوب غض البصر. والمنع أيضاً من باب سد الذريعة، فالنظر يجر إلى مفاسد كثيرة، وهذا القول هو الذي عليه أكثر أهل العلم
(1)
. والله أعلم.
(1)
"فتح الباري"(2/ 516) رقم (950) و"تفسير ابن كثير"(3/ 283) و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (15/ 392 - 396) و"بهجة الناظرين"(3/ 146) و"شرح رياض الصالحين" لشيخنا ابن عثيمين (4/ 282) و"التحفة الكريمة" للإمام ابن باز (18).
(27)
حديث: (أقامها الله وأدامها) عند قول المؤذن: (قد قامت الصلاة)
.
(ضعيف)
…
رواه أبو داود (528)، والبيهقي في "السنن"(1/ 605) رقم (1490)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 41) رقم (104) عن أبي أمامة رضي الله عنه أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وتمامه: أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما بلغ (قد قامت الصلاة) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقامها الله وأدامها).
وفي سنده:
(1)
رجل مجهول لم يُسم.
(2)
شهر بن حوشب، ضعيف.
(3)
محمد بن ثابت وهو العبدي، ضعيف.
والحديث ضعَّفه جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 605) رقم (1940).
(2)
النووي في "المجموع"(3/ 130).
(3)
الحافظ ابن حجر رحمه الله في "التلخيص الحبير"(1/ 211).
(4)
العلامة الألباني في "إرواء الغليل"(1/ 258 - 259) رقم (241) و"الثمر المستطاب"(1/ 216 - 217)
(1)
وقال: هو حديث ضعيف اتفاقاً.
(5)
شيخنا العلامة الوادعي في "إجابة السائل"(ص: 46).
(6)
شيخنا العلامة ابن عثيمين في "مجموع الفتاوى"(12/ 201) سؤال رقم (130) و"المناهي اللفظية"(ص: 28 - 29).
التعليق:
قلت: تبين لك ضعف هذا الحديث، وأنه ليس من السنة قول:(أقامها الله وأدامها) عند إقامة الصلاة، بل هو من البدع المحدثة كما قرر ذلك أهل العلم فتنبه.
لكن السنة أن تقول ما يقوله المقيم، فإن إجابة المقيم كإجابة المؤذن سواء، ويقول مثل قول المقيم:(قد قامت الصلاة)، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) رواه مسلم وغيره، والإقامة أذان لقوله صلى الله عليه وسلم:(بين كل أذانين صلاة) رواه البخاري ومسلم.
قال العلامة الألباني-رحمه الله: وعلى من يسمع الإقامة مثل ما على من يسمع الأذان من الإجابة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة له
(1)
وانظر كذلك "ضعيف سنن أبي داود"(104) و"تمام المنة"(ص: 150) و"المشكاة"(1/ 212)(670).
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ولأن الإقامة أذان لغة وكذلك شرعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) يعني أذاناً وإقامة
(1)
. اهـ.
(1)
"الثمر المستطاب"(1/ 214).
(28)
حديث: (اقرأوا على موتاكم يس)
.
(ضعيف)
رواه أحمد (20301)، وأبو داود (3121)، وابن ماجه (1448)، وابن حبان (7/ 269) رقم (3002)، والحاكم في "المستدرك"(2127) عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
وهذا الحديث ضعيف فيه ثلاث علل:
(1)
جهالة أبي عثمان، وليس بالنهدي.
(2)
جهالة أبيه.
(3)
الاضطراب. "التلخيص الحبير"(2/ 104) رقم (734).
وقد نصَّ جمع من العلماء على تضعيف هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن القطان كما في "التلخيص الحبير"(2/ 104) رقم (734).
(2)
نقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث.
(3)
النووي في "الأذكار"(ص: 192) رقم (445).
(4)
الصنعاني في "سبل السلام"(2/ 186).
(5)
الشوكاني في "نيل الأوطار"(4/ 29) رقم (1369).
(6)
الألباني في "إرواء الغليل"(3/ 150) رقم (688)
(1)
.
(7)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(2127)
(2)
.
(8)
اللجنة الدائمة (4/ 41 - 42).
(9)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(20301).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث ضعيف لا يصح، وعلى تقدير صحة هذا الحديث، فالمراد به قراءته على من حضرته الوفاة، ليتذكر ويكون آخر عهده بالدنيا سماع تلاوة القرآن لا قراءتها على من مات بالفعل.
قال الحافظ ابن حجر
(3)
: قال ابن حبان في صحيحه عقب حديث معقل قوله: (اقرأوا على موتاكم يس) أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يُقرأ عليه. وبهذا قالت اللجنة الدائمة
(4)
.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(1072) و"المشكاة"(1/ 509) رقم (1622) و"ضعيف ابن ماجه"(308) و"ضعيف أبي داود"(683).
(2)
و"غارة الأشرطة"(2/ 49، 198) و"إجابة السائل"(ص: 91، 421).
(3)
"التلخيص الحبير"(2/ 104).
(4)
"الفتاوى"(4/ 42).
أما مسألة إهداء ثواب قراءة القرآن للميت هل يصل إليه أم لا؟
فالجواب: أن قراءة القرآن وجعل ذلك للموتى على قسمين:
أحدهما: متفق على منعه بين العلماء.
والثاني: مختلف فيه.
أما القسم المتفق على منعه: فقراءة القرآن للموتى بأجرة.
فقراءته بأجرة للموتى لاينتفع بها الموتى باتفاق العلماء؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله وكذلك ابن أبي العز في "شرح الطحاوية"
(2)
قال: وأما استئجار قوم يقرأونه ويهدونه للميت فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين ولا رخص فيه، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء
(3)
برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: عن حكم استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت أو على روحه؟ فأجابت: بعدم الجواز
…
إلخ.
وسئل فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين
(4)
رحمه الله: عن حكم استئجار قارئ ليقرأ القرآن الكريم على روح الميت؟
(1)
"مجموع الفتاوى"(24/ 315).
(2)
(2/ 672).
(3)
"الفتاوى"(9/ 48 - 49).
(4)
"فتاوى العقيدة"(ص: 627، 628).
فأجاب رحمه الله: أن هذا من البدع
…
إلخ.
وسئل شيخنا الوادعي
(1)
رحمه الله عن هذه المسألة فقال: بعدم الجواز.
أما الجزء الثاني من هذه المسألة: وهي قراءة القرآن للميت وإهداء ثوابها له بغير أجرة.
فهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء قديماً وحديثاً كما تقدم فمنهم من منع ومنهم من أجاز:
فذهب الجمهور إلى الجواز، وأن قراءة القرآن وإهداء ثوابها جائز، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم الجواز، منهم:
• الإمام الشافعي رحمه الله.
• الإمام مالك رحمه الله.
• الإمام النووي
(2)
رحمه الله.
• الإمام ابن كثير
(3)
رحمه الله.
• الإمام ابن باز
(4)
رحمه الله.
(1)
"إجابة السائل"(ص: 90 - 91).
(2)
"شرح مسلم"(6/ 94).
(3)
"التفسير"(4/ 330).
(4)
" مجموع فتاوى ومقالات متنوعة "(4/ 334، 339، 341).
• العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: إلا أن تكون قراءة القرآن من الولد لأنه من كسب أبيه.
• العلامة الوادعي
(2)
رحمه الله.
• العلامة الفوزان
(3)
-حفظه الله-.
والخلاصة: ما ذكره الإمام ابن كثير تحت قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} {النَّجم: 39} أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الإمام الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات مقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما. اهـ.
(1)
"أحكام الجنائز"(ص: 221) حاشية.
(2)
"إجابة السائل"(ص: 90 - 91).
(3)
"المنتقى من فتاوى الفوزان"(2/ 161 - 162).
* أفرد هذه المسألة محمد أحمد عبد السلام من علماء مصر في رسالة مستقلة سمَّاها: "حكم القراءة للأموات هل يصل ثوابها إليهم"؟ وقد أجاد رحمه الله في الموضوع.
(29)
حديث: (الأقربون أولى بالمعروف)
.
(لا أصل له)
اشتهر هذا الكلام على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه لا أصل له بهذا اللفظ في كتب السنة، كما قال ذلك أهل العلم، منهم:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 96) رقم (141).
(2)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 183) رقم (376).
(3)
البيروتي في "أسنى المطالب"(436).
(4)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 377) رقم (376).
التعليق:
قلت: يتوهم بعض العامة أن هذا الكلام آية في كتاب وهذا غلط، وإنما في القرآن قوله تعالى {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} {البقرة: 215}. وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} {البقرة: 181} .
وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة رضي الله عنه: (أرى أن تجعلها في الأقربين).
وهذا كله إذا أوقف أو أوصى لأقاربه، وإليه الإشارة في التنزيل
…
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} {الأحزاب: 6}
(1)
.
فيكون معنى هذا القول صحيحاً، والله أعلم.
(1)
وانظر "الضعيفة"(376) و"كشف الخفاء"(486).
(30)
حديث: (أكثروا ذكرالله حتى يقولوا مجنون)
.
(ضعيف)
أخرجه أحمد (11674)، وأبو يعلى في "مسنده"(2/ 130) رقم (1371)، وابن حبان (3/ 99) رقم (817)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 683) رقم (1891)، وابن عدي في "الكامل"(4/ 11)، والبيهقي في "الشعب"(1/ 397) رقم (526) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي سنده: درَّاج بن سمعان أبو السمح المصري، في روايته ضعف عن أبي الهيثم؛ ودرَّاج ذو مناكير، وهذا من جملة مناكيره.
كما قال ابن عدي في "الكامل"(4/ 16).
وقد ضعَّف هذا الحديث:
(1)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 76).
(2)
العلامة الألباني في "الضعيفة" رقم (517)
(1)
.
(3)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(1/ 683) رقم (1892).
(4)
شعيب الأرنؤوط في "تحقيق المسند" رقم (11674).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(1108) و"الترغيب"(2/ 614) رقم (901).
التعليق:
قلت: وإن كان هذا الحديث ضعيفاً، فقد جاء في الكتاب والسنة الصحيحة ما يُغني عنه، فقد أمر الله في كتابه عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، بالليل والنهار، وفي البر والبحر، وفي السفر والحضر، وفي الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، وفي السر والعلن، وفي كل حال، ورتب على ذلك جزيل الأجر، وعظيم الثواب، وجميل المآب قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا
…
(44)} {الأحزاب: 41 - 44} .
ففي هذه الآيات الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى، وبيان ما يترتب على ذلك من أجر عظيم، وخير عميم وقوله {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} فيه أعظم الترغيب في الإكثار من ذكر الله، وأحسن حظ على ذلك، أي: أنه سبحانه يَذكُركم فاذكروه أنتم فهو نظير قوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} {البقرة: 151 - 152} .
فالجزاء من جنس العمل، فمن ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره الله في ملأٍ خير منه، ومن نسي الله نسيه الله، فالمكثرون من ذكر الله لهم الحظ الأوفر والنصيب الأكمل من ذكر الله لهم، وصلاته عليهم وملائكته.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أنه قال: فإذا فعلتم ذلك، أي: أكثرتم من ذكر الله صلى الله عليكم هو وملائكته.
ويقول الله تعالى في آية أخرى مبيناً فضل الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، منوهاً بشأنهم، معلياً لذكرهم مبيناً لعظيم أجرهم وثوابهم {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} {الأحزاب: 35} أي: هيأ لذنوبهم الصفح والغفران، ولأعمالهم الصالحة الأجر العظيم، والدرجات العالية في الجنان، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان.
إن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، هم المُفرِّدون السابقون إلى الخيرات، المحظوظون بأرفع الدرجات وأعلى المقامات، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له: جمدان فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون) قالوا: وما المفردون؟ قال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المفردين بأنهم
الذاكرون الله كثيراً والذاكرات، وأصل المفردين كما يقول ابن قتيبة وغيره: الذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم وبقوا يذكرون الله تعالى.
إن من يتأمل هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة الواردة في بيان عظيم أجر الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وجزيل ثوابهم، وما أعد الله لهم من النعيم المقيم، والثواب الكبير يوم القيامة لتتحرك نفسه شوقاً وطمعاً ويهتز قلبه حباً ورغباً في أن يكون من هؤلاء، أهل هذا المقام الرفيع والمنزلة العالية. لكن بمَ ينال العبد ذلك؟
هذا سؤال عظيم يجدر لكل مسلم أن يقف عنده ويعرف جوابه، وقد جاء عن السلف في معنى الذاكرين الله كثيرا والذاكرات نُقُولٌ عديدة، منها:
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى.
وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وقد سئل أبو عمرو بن الصلاح فيما نقله النووي عنه في كتاب "الأذكار" عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات؟ فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء
في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً، وهي مبينة في كتاب "عمل اليوم والليلة"، كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
ويقول الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن": وأقل ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصباح والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب، وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة الله ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح.
أسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، من الذين أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير
(1)
. اهـ.
ملحوظة:
لقد اشتهر بين العامة أن من أكثر من القراءة في الكتب أنه يُصاب في عقله بالجنون.
وهذا جنون، فإن القراءة في كتاب الله عز وجل وفي كتب العلم النافعة تزيد في العقل والدين، ففي العلم شفاء وفي الكتب النافعة دواء.
(1)
"فقه الأدعية والأذكار" لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (ص: 39 - 44).
وأما من يُصاب في عقله بالجنون فهذا نتيجة القراءة في كتب السحر والشعوذة فهي تسبب الجنون والصرع والهوس لأنها كتب ضلال مليئة بالمحرمات والمخالفات والشركيات والخزعبلات، مثل: كتاب "شمس المعارف"، و"المندل السليماني"، و "السبعة العهود"، و"نتيجة فلكي بيت الفقيه"، وغيرها من كتب السحر والضلال. فنعوذ بالله من الزيغ والضلال.
(31)
حديث: (إكرام الميت دفنه)
.
(لا أصل له)
…
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصل له مرفوعاً كما قال ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنه"(ص: 101) رقم (150) قال: لم أقف عليه مرفوعاً، وإنما أخرجه ابن أبي الدنيا من جهة أيوب السختياني قال: كان يُقال: (من كرامة الميت على أهله تعجيله إلى حفرته).
(2)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 30).
(3)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 191) رقم (504).
(4)
البيروتي في "أسنى المطالب"(249).
(5)
العلامة الألباني في "أحكام الجنائز"(ص: 24).
التعليق:
قلت: اتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يُخاف من الإسراع انفجار الميت ونحوه. ذكر الاتفاق ابن قدامة
(1)
.
(1)
"المغني"(3/ 394).
وقال الإمام أبو شامة الشافعي
(1)
: ومما يفعله الناس اليوم في الجنائز بدع كثيرة، ومخالفة لما ثبت في السنة من ترك الإسراع بها
…
إلخ.
وقد قال الإمام ابن القيم
(2)
في معرض سياق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنائز: وكان يأمر بالإسرع بها حتى وإن كانوا يرملون بها رملاً، وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة مخالفة للسنة، ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب اليهود.
وقال الإمام الصنعاني
(3)
: قال القرطبي: مقصود الحديث يعني حديث أسرعوا بالجنازة، أن لايتباطأ بالميت عن الدفن ولأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاختيال. اهـ.
والأصل في الإسرع بالجنازة قوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة
…
) أخرجه الشيخان وأصحاب السنن الأربع عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني) أخرجه البخاري وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه.
وعن عبد الرحمن بن جوشن قال: كنت في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، فجعل زياد ورجال من مواليه يمشون على أعقابهم أمام السرير،
(1)
في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"(ص: 270).
(2)
"زاد المعاد"(1/ 517).
(3)
"سبل السلام"(2/ 215).
ثم يقولون: رُويداً رُويداً بارك الله فيكم، فلحقهم أبو بكرة في بعض سكك المدينة، فحمل عليهم بالبغلة وشد عليهم بالسوط، وقال:(خلوا والذي أكرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتُنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنكاد أن نرمل بها رملاً)
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي والبيهقي وأحمد وغيرهم. وصححه العلامة الألباني في "أحكام الجنائز"(ص: 94).
(32)
حديث: (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)
.
(ضعيف جداً)
…
رواه ابن ماجه (3671)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 214) رقم (261)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 288) عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي سنده:
(1)
الحارث بن النعمان. روى العقيلي (1/ 214) رقم (261) عن البخاري أنه قال فيه: منكر الحديث. وساق له هذا الحديث.
(2)
سعيد بن عمارة. قال الأزدي: متروك، وقال ابن حزم: مجهول. وقال الحافظ: ضعيف. وقال الذهبي: جائز الحديث. قال العلامة الألباني: والأقرب قوله في "الكاشف" مستور.
"تهذيب التهذيب"(4/ 59) رقم (2460)، و"التقريب"(2380)، و"الميزان"(2/ 153) رقم (3244).
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
البخاري كما نقل عنه العقيلي وغيره.
(2)
العقيلي في "الضعفاء"(1/ 214) رقم (261).
(3)
الذهبي في "الميزان"(2/ 153).
(4)
البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 222).
(5)
ابن حجر في "تهديب التهذيب"(4/ 59).
(6)
السيوطي في "الجامع الصغير" مع الفيض (1419).
(7)
المناوي في "فيض القدير"(2/ 115).
(8)
الألباني في "الضعيفة"(1649)
(1)
.
التعليق:
قلت: هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن معناه صحيح.
قال المناوي
(2)
: (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم) بأن تعلموهم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، وتخرجوهم في الفضائل وتمرنوهم على المطلوبات الشرعية، ولم يرد إكرامهم بزينة الدنيا وشهواتها.
والأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً واجتماع خصال الخير، أو وضع الأشياء موضعها، أو الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف مع كل مستحسن، أو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، أو الظرف وحسن التنازل، أو مجالسة الخلق على بساط الصدق، ومطالعة الحقائق بقطع العلائق.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف سنن ابن ماجه"(738) و"الترغيب والترهيب"(2/ 787) رقم (1231).
(2)
"فيض القدير"(2/ 115).
قال بعض العارفين: الأدب طبقات فأكثر طبقات أدب أهل الدنيا في الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم وأشعار العرب، وأدب أهل الدين رياضة النفس وترك الشهوات، وأدب الخواص طهارة القلوب. اهـ.
قلت: لا شك أن الإسلام أمر بإكرام الأولاد، وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، ورتب على ذلك الأجر العظيم، قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} {التَّحريم: 6}.
فالآباء والأمهات مسؤولون أمام الله عن تربية هذا الجيل، فإن أحسنوا تربيته سَعِدَ وسعدوا في الدنيا والآخرة، وإن أهملوا تربيته شقي، وكان الوزر في أعناقهم، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه:(كلكلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فبشرى لكم أيها الآباء بقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
فليكن إصلاحك لنفسك أيها الأب قبل كل شيء، فالحَسَن عند الأولاد ما فعلت، والقبيح ما تركت، وإن حُسن سلوك الآباء والأمهات أمام الأولاد أفضل تربية لهم، لأن الأبوين هما القدوة الحسنة، في نظر الأبناء.
قال بعض العلماء موجهاً الآباء في تربية الأولاد:
لا يرضع إلا صالحة لا تأكل الحرام فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة له، وإذا رضع منه مال طبعه إلى ما يناسبه من الخبائث، ثم يعلمه آداب الأكل بحيث لا يوالي اللقم ولا يلطخ يده وثوبه، ويذم عنده سيئ الأخلاق من الصبيان، ويمدح حسان أخلاقهم، ثم يجب أن يقدم إلى المكتب لتعليم القرآن، ويذكر عنده أحاديث الأنبياء ومناقب الصلحاء، ويحفظه عمن لا يضبط لسانه عن الفحش ولا جوارحه عن القبائح كالشعراء، فإذا صدر منه خلق جميل أو فعل حسن يكرم ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح به بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك أحيانا يتغافل ولا يكشف، فإن عاد ثانياً يعاقب سراً ويهدده ويجعل الأمر عظيماً، ولا يكثر التخويف بالعقاب في كل حين، والأم تخوفه بالأب وتزجره بالقبائح، ويعود الخشونة من الطعام والملبس والمفرش، ويعود التواضع والحلم والإكرام لكل من عاشره، ويعلم العطاء ويمنع الأخذ من كل أحد، ويقبح إليه الدراهم والدنانير والطمع، ويعلم آداب الجلوس عند الناس ويمنع من كثرة الكلام، ويؤذن بعد المكتب أو التعليم باللعب اليسير لئلا يذهب ذكاؤه ويموت قلبه، ويعلم طاعة الوالدين وطاعة معلمه ومؤدبه ومن هو أكبر سناً منه، وقواعد إكرامهم ويمنع من اللعب في محضرهم ويعلمه من حدود الشرع، ويخوفه من نحو السرقة والحرام ومن نحو الغيبة والكذب وفحشيات الكلام، ويعلمه فناء الدنيا وزوالها
وأن الموت منتظر في كل ساعة، ويرغبه في نعيم الجنة وما يدعو إليها، ويخوفه النار وما يكون باعثاً إليها ويقول إن الجنة لمن كان قارئاً وعالماً والنار لمن كان جاهلاً وفاسقاً.
واعلم أن الصبي خلق جوهرة قابلة للنقش للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين، قال صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) فأكل الحرام منشأ لكون الولد شريراً فإنهما عند عدم اجتنابهما من الحرام يكون طبع الولد مائلا إلى كل الشر، وفي هذا الزمان أكثر الناس شريراً وفاسقاً إنما هو من حصولهم من لقمة الحرام كذا في التبيين وفي الشرعة، ويعلم الكتاب إذا عقل وما يحتاج إليه من الفرائض والسنن، ويعلم السباحة والرمي، ولا يرزقه إلا طيباً، وأن الولد أمانة الله أودعه إياها طاهراً مطهراً، فيجتهد في صيانة دينه وعرضه، ويؤدبه بآداب الله، فإن ذلك خير له من كثير من القرب فإنه مسئول عنه يوم القيامة ومؤاخذ بالتقصير، فإذا تكلم يعلمه أولاً كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ويعوده على فعل الخيرات وثوابه للوالد، ويسوي بين أولاده في العطاء، ويعاشر الأولاد بالمرحمة والعطف واللين، ويقبلهم عن شفقة ورأفة ويباسطهم في الكلام واللعب المباح، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يدلع لسانه للحسن، فإذا رأى الصبي حمرة لسانه يفرح.
(33)
حديث: (أكرموا عمتكم النخلة)
.
(موضوع)
أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 256) رقم (1853)، وابن عدي في "الكامل"(8/ 183) رقم (1910)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 132) رقم (8067) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خُلقت من فضلة طينة أبيكم آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نساءكم الوالد الرطب، فإن لم يكن رطباً فتمراً).
والحديث في إسناده: مسرور بن سعيد التيمي.
وهو منكر الحديث كما قال ابن عدي في "الكامل"، وابن حبان في "المجروحين".
قلت: وقد حكم جمع من أهل العلم ببطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن عدي في "الكامل"(8/ 183) رقم (1910) قال: هذا حديث عن الأوزاعي منكر، وعروة بن رزيم عن علي ليس بالمتصل، ومسرور بن سعيد غير معروف، لم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث.
(2)
ابن حبان في "المجروحين"(3/ 44 - 45).
(3)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 290) رقم (385).
(4)
ابن كثير في "التفسير"(3/ 160).
(5)
السخاوي في "المقاصد"(ص: 105) رقم (156).
(6)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(1/ 142).
(7)
ابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة"(1/ 209) رقم (75).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 195) رقم (511).
(9)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 437) رقم (60).
(10)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 282، 283) رقم (261، 263) و"ضعيف الجامع"(1136).
وجاء الحديث عن ابن عمر بلفظ: (أحسنوا إلى عمتكم النخلة
…
) رواه ابن عدي في "الكامل"(2/ 400) رقم (348).
وفي إسناده: جعفر بن أحمد بن علي الغافقي، وضَّاع.
قال ابن عدي: لا أشك أنه وضع هذا الحديث.
التعليق:
قلت: هناك ما يُغني عن هذا الحديث الذي لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل النخلة، فقد ذكر الشيخ الفاضل الدكتور عبد الرزاق بن عبد
المحسن البدر -حفظه الله- في كتابه "الفوائد المنثورة"
(1)
كلاماً نفسياً تحت عنوان: (مماثلة المؤمن للنخلة).
قال-حفظه الله-: إن الشجرة الكريمة المباركة أعني -النخلة- التي هي أفضل الشجر وأطيبه وأحسنه، قد جعلها الله في كتابه الكريم مثلاً لعبده المؤمن يقول الله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} {إبراهيم: 24 - 25}.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم حدثوني ماهي؟).
فوقع الناس في شجر البوادي.
قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت.
ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: (هي النخلة)
(2)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمن مثل النخلة، ما أخذت منها من شيء نفعك)
(3)
.
(1)
(ص: 46).
(2)
رواه البخاري (61) ومسلم (2811).
(3)
رواه الطبراني (13514) وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(5848).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب، فقال:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ (25)} {إبراهيم: 24 - 25} .
قال: (هي النخلة).
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} {إبراهيم: 26} . قال: (هي الحنظل).
قال: فأخبرت أبا العالية، فقال: صدق وأحسن
(1)
.
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأن جعلت مثلاً لعبد الله المؤمن، لأنها أفضل الشجر، وأكثره عائدةً، ويكفيها فضيلة أنها خُصت من بين سائر الشجر بأن جعلت مثلاً للمؤمن، مما يدل على كريم فضلها ورفيع قدرها، وتنوع فضائلها كثبات أصلها وارتفاع فرعها، وإيتائها أكلها كل حين، ووصفها بالبركة وأنها لايؤخذ منها شيء إلا نفع، ونحو ذلك مما يدل على فضل النخلة وتميزها، وتشابهها مع المؤمن المطيع لله الذي قامت في قلبه كلمة الإيمان وانغرست في صدره، وأخذت تثمر الثمار اليانعة والخير المتنوع.
(1)
رواه الترمذي (3119) مرفوعاً وموقوفاً. قال الألباني: ضعيف مرفوعاً، وصحيح موقوفاً. "ضعيف الترمذي"(605).
ومن يتأمل في النخلة والمؤمن المطيع لله، يجد بينهما أوجهاً من الشبه كثيرة منها:
أن النخلة لابد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، وكذلك الإيمان لابد له من أصل وفروع وثمر، فأصله الإيمان بأصول الإيمان الستة المعروفة، وفروعه الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة والقربات العديدة، وثمراتها كل خير يحصله المؤمن، وكل سعادة في الدنيا والآخرة.
والنخلة لا تبقى إلا بمادة تسقيها وتنميها، فهى لاتحيا ولا تنمو إلا إذا سقيت بالماء، فإذا حُبس عنها الماء ذبلت، وإذا قطع عنها تماماً ماتت، وهكذا الشأن في المؤمن لا يحيا الحياة الحقيقية ولا تستقيم له حياته، إلا بسقي من نوع خاص وهو سقي قلبه بالوحي كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}.
وبهذا يُعلم أن شجر الإيمان في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها في سقياها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، و إلا أوشكت أن تيبس.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)
(1)
.
(1)
رواه الحاكم (1/ 4) وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1585).
ومن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة أن النخلة شديدة الثبوت كما قال الله تعالى {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} وهكذا الشأن في الإيمان إذا رسخ في القلب، فإنه يصير في أشد ما يكون من الثبات لا يزعزعه شيء، بل يكون ثابتاً كثبوت الجبال الرواسي.
سُئل الأوزاعي رحمه الله عن الإيمان أيزيد؟ قال: نعم حتى يكون مثل الجبال، قيل: أينقص؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء.
والنخل لا تنبت في كل أرض، بل لا تنبت إلا في أراضٍ طيبة التربة، فهي في بعض الأماكن لا تنبت مطلقاً، وفي بعضها تنبت لكن لا تثمر، وفي بعضها تثمر ولكن يكون الثمر ضعيفاً، فليست كل أرض تناسب النخلة، وهكذا الشأن في الإيمان فهو لا يثبت في كل قلب، وإنما يثبت في قلب من كتب الله له الهداية وشرح صدره للإيمان، والقلوب أوعية متفاوتة، وبعضها أوعى من بعض.
وقد وصفت النخلة في الآية بأنها شجرة طيبة، وهذا أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمر وطيب المنفعة، والمؤمن كذلك أجل صفاته الطيب في شؤونه كلها وأحواله جميعها، وفي ظاهره وباطنه وفي سره وعلنه.
ولهذا عندما يدخل المؤمنون الجنة تتلقاهم خزنتها قائلة لهم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} {الزُّمر: 73} .
وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} {النحل: 32} .
والنخلة وصفت بأنها ما أخذت منها من شيء نفعك، كما في حديث ابن عمر المتقدم.
فكل شيء في النخلة ينفع، وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه وجلسائه؛ لا يرى فيه إلا الأخلاق الكريمة، والآداب الرفيعة، والمعاملة الحسنة، والنصح لجلسائه وبذل الخير لهم. ولا يصل إليهم منه ما يضر بل لا يصل إليهم منه إلا ما ينفع.
ثم إن قلب النخلة وهو الجمار من أطيب القلوب وأحلاها إذ هو حلو الطعم لذيذ المذاق، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب وأحسنها، لا يحمل إلا الخير ولا يبطن سوى الاستقامة والصلاح والسلامة.
وثمرة النخلة من أنفع ثمار العالم وله حلاوة لا تدانيها حلاوة، وكذلك الإيمان له حلاوة ولذة لا يذوقها إلا صحيح الإيمان.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)
(1)
.
(1)
رواه البخاري (16) ومسلم (43).
ثم إن النخل بينه تفاوت عظيم في شكله ونوعه وثمره، فليست النخيل في مستوى واحد في الحسن والجودة بل بينه من التفاوت والتمايز الشيء الكثير، وهكذا الشأن بين المؤمنين، فالمؤمنون متفاوتون في الإيمان، وليسوا في الإيمان على درجة واحدة، بل بينهم من التفاوت والتفاضل الشيء الكثير، كما قال الله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} {فاطر: 32}.
والنخلة كلما طال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها، وكذلك المؤمن إذا طال عمره ازداد خيره وحسن عمله.
عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله)
(1)
.
فهذه بعض أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة، يحيا بتأملها قلب المؤمن، ويزيد إيمانه ويقوى يقينه، ويعظم شكره وحمده لربه قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} {إبراهيم: 24 - 25}.
(1)
رواه الترمذي (2329) وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(1898).
بما تقدم يُعلم أن الإيمان شجرة مباركة، عظيمة النفع غزيرة الفائدة، كثيرة الثمر لها مكان خاص تغرس فيه، ولها سقي خاص، ولها أصل وفرع وثمار، أما مكانها فهو قلب المؤمن، فيه توضع بذورها وأصولها ومنه تتفرع أغصانها وفروعها، وأما سقيها فهو الوحي المبين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فبه تسقى هذه الشجرة، ولا حياة لها ولا نماء إلا به، وأما أصلها فهو أصول الإيمان الستة، وأعلاها الإيمان بالله تعالى، فهو أصل أصول هذه الشجرة المباركة.
وأما فروعها فهي الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة، والقربات العديدة التي يقوم بها المؤمن.
وأما ثمرها فكل خير وسعادة ينالها المؤمن في الدنيا والآخرة فهو ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجها.
وإنا لنسأل الله الكريم أن يعظم نماء هذه الشجرة الكريمة المباركة في قلوبنا وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتقين، وأن يصلح لنا شأننا كله، فإنه سبحانه خير مسؤول وأفضل مأمول. اهـ.
(34)
حديث: (التمسوا الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار)
.
(ضعيف جداً)
أخرجه الطبراني في "الكبير"، وأبو الشيخ في "الأمثال" عن رافع بن خديج عن أبيه عن جده مرفوعاً.
وفي إسناده:
(1)
أبان بن المحبر. قال الذهبي: شيخ متروك.
(2)
سعيد بن معروف بن رافع، غير معروف. قال الأزدي: لا تقوم به حجة.
وضعَّف هذا الحديث:
(1)
الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 164).
(2)
الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/ 49) ترجمة سعيد بن معروف ابن رافع بن خديج الأزدي.
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(163).
(4)
العجلوني في "كشف الخفاء"(531).
(5)
البيروتي في "أسنى المطالب"(265).
(6)
المناوي في "فيض القدير"(2/ 197) رقم (1565).
(7)
الألباني في "الضعيفة" رقم (3013) و"ضعيف الجامع"(1147) و (2643).
التعليق:
قلت: لاشك أن اختيار الصديق أمر مطلوب، دعا إليه الإسلام ورغب فيه، وحذر من رفيق السوء غاية التحذير.
قال ابن قدامة
(1)
رحمه الله: (فصل في بيان الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته):
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
(2)
.
واعلم أنه لايصلح للصحبة كل أحد، ولا بد أن يتميز المصحوب بصفات وخصال يرغبُ بسببها في صحبته، وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة، وهي:
(1)
"مختصر منهاج القاصدين"(126 - 127).
(2)
رواه أبو داود (4833) والترمذي (2379) وغيرهم وحسنه الألباني في "المشكاه"(5019).
إما دنيوية: كالانتفاع بالمال والجاه، أو بمجرد الاستئناس بالمشاهدة والمحاورة وليس ذلك غرضنا.
وإما دينية: وتجتمع فيها أغراض مختلفة:
منها: الاستفادة بالعلم والعمل.
ومنها: الاستفادة من الجاه تحصيناً عن إيذاء من يكدر القلب ويصد عن العبادة، ومن الاستفادة من المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت.
ومنها: الاستعانة بالمهمات، وتكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال.
ومنها: انتظار الشفاعة في الآخرة، كما قال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة.
فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها.
وفي الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال:
(1)
أن يكون عاقلاً.
(2)
حسن الخلق.
(3)
غير فاسق.
(4)
ولا مبتدع.
(5)
ولا حريص على الدنيا.
أما العقل: فهو رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق لأنه يريد أن ينفعك فيضرك، ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما
بنفسه، وإما أن يكون بحيث إذا أفهم فهم، وأما حسن الخلق فلابد منه، إذ رُبَّ عاقل يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه ولا خير في صحبته.
وأما الفاسق: فإنه لا يخاف الله، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق به.
وأما المبتدع: فيخاف من صحبته بسراية بدعته.
ولله دَرُّ من قال:
لا تصحب أخا الجهل
فكم من جاهل أردى
يقاس المرء بالمرء
وللشيء على الشيء
وللقلب على القلب
…
وإياك وإياه
حليماً حين آخاه
إذا ما المرء ماشاه
مقاييس وأشباه
دليل حين يلقاه
(1)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقليك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
(1)
الأبيات ذكرها المناوي في "فيض القدير"(2/ 197).
قال يحيى بن معاذ: بئس الصديق تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك، وأن تعيش معه بالمداراة، أو تحتاج أن تعتذر إليه.
ودخل جماعة على الحسن وهو نائم، فجعل بعضهم يأكل من فاكهة في البيت فقال: رحمك الله، هذا والله فعل الإخوان.
وقال أبو جعفر لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم أخيه فيأخذ منه ما يريد؟ قالوا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون.
ويروى أن فتحاً الموصلي جاء إلى صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل، فقال: للخادمة أخرجي لي كيس أخي، فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بذلك فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة، فإذا هي قد صدقت فأعتقت.
قلت: ويغني عن حديث الباب الضعيف قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة)
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول)
(2)
.
(1)
رواه الطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وحسنة الألباني في "صحيح الجامع"(1299).
(2)
رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(1290).
ومما تقدم علمت أهمية الرفيق الصالح واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء، قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع،
…
والجار الصالح، والمركب الهنيء.
وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء. والمسكن الضيق)
(1)
.
وإن من توفيق الله تعالى للإنسان أن يكون بين جيران يشعر منهم بالعطف عليه، واللطف به، والتقدير والمحبة له، ومن قلة توفيق الله للعبد أن يكون بين جيران يضمرون الشر له والعدوان، ويدبرون له المكائد ويذمرون عليه الخصوم، فالشخص الذي له جيران سوء يضرون به في نفسه أو ماله أو عرضه، ويحيكون له العظائم والدواهي، تجده منغصٌ عيشه، لا يهنأ له بال ولا ينعم بمال، غير مرتاح، قلق منهم إن دخل أو خرج، تراه محزون النفس، مكلوم الفؤاد، مقطب الوجه، كل ذلك من جار السوء، إما من قبل التسلط على أهله أو على أولاده، وإما بوضع أذية في طريقه، أو في بيته، أو بِتَعَدٍ على ملكه، أو بتجسس عليه، وإما بنظر عليه من نافذة، أو باب، أو سطح، أو رمي بالحصا ونحوه من أنواع الأذى، وربما اضطر إلى بيع منزله من أجل جار السوء، كما ذكر بعض من ابتلي بجار سوء اضطره إلى بيع ملكه، قال في ذلك:
(1)
رواه الحاكم وغيره عن سعد رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(887).
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
…
ولم يعلموا جاراً هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملامة فإنما
…
بجيرانها تغلو الديار وترخص
وقال آخر:
اطلب لنفسك جيراناً تسر بهم
…
لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
(35)
حديث: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)
.
(ضعيف)
أخرجه أحمد (17628)، وابن حبان (3/ 230) رقم (949)، والحاكم (4/ 17) رقم (6587)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 123) رقم (1912)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 153)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 178) عن بُسْر بن أبي أرطاة القرشي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
قلت: وعلة هذا الحديث: بسر بن أبي أرطاة القرشي.
قال يحيى: كان بُسر رجل سوء، وأهل المدينة ينكرون أن يكون له صحبة.
وقال الواقدي: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وبسر صغير لم يسمع منه.
"تهذيب الكمال"(4/ 59 - 69) رقم (665).
وقال الذهبي في "الميزان" رقم (1168): له صحبة فيما قيل، وقيل لا.
هذا حال بسر أما من دونه في إسناد هذا الحديث ففي بعضهم كلام لأهل العلم.
وقد ضعَّف الحديث:
(1)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(907) و"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان"(2/ 283) رقم (945).
(2)
أشار إلى تضعيفه شيخنا الوادعي في "تعليقه على المستدرك" رقم (6587) وتفسير ابن كثير (1/ 290).
التعليق:
هذا الدعاء يقوله كثير من المؤذنين في بلادنا اليمنية قبل الإقامة مباشرة بحجة أن هذا الحديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصواب أن هذا الحديث ضعيف لايصح، وإن صح ليس هذا موضعه، فهؤلاء مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة اثنان بالمدينة وهما:
بلال بن رباح وهو أول من أذَّنَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: عمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى. والثالث: بقباء، وهو سعد القرظ مولى عمار بن ياسر. والرابع: بمكة، أبو محذورة، وهو أوس بن المغيرة الجمحي
(1)
.
هؤلاء هم مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان واحد منهم يقول قبل الإقامة: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها)؟ فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها.
(1)
"زاد المعاد"(1/ 124).
(36)
حديث: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)
.
(موضوع)
رواه البيهقي في "الشعب"(3/ 375) رقم (3815)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (659) عن أنس رضي الله عنه بلفظ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال:
…
) الحديث.
وفي سنده: زائدة بن أبي الرُّقاد الباهلي أبو معاذ البصري.
قال البخاري: منكر الحديث.
قلت: وجهله جماعة. "تهذيب التهذيب" رقم (2063).
وممن ضعَّف هذا الحديث:
(1)
البيهقي في "شعب الإيمان"(3815).
(2)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 165).
(3)
النووي في "الأذكار"(ص: 245) رقم (572).
(4)
ابن رجب في "لطائف المعارف"(ص: 121).
(5)
الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب"(ص: 11 - 12)
(1)
.
(1)
"الموسوعة الحديثية للحافظ ابن حجر"(2/ 411 - 412).
(6)
السيوطي في "الجامع الصغير"، و"الدر المنثور"(1/ 183).
(7)
المناوي في "فيض القدير"(5/ 167) رقم (6678).
(8)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 117).
(9)
الألباني في "ضعيف الجامع"(4395) و"المشكاة"(1369).
التعليق:
هناك بدع تحصل في شهر رجب ما أنزل الله بها من سلطان، منها:
• قراءة قصة المعراج والاحتفال بها في ليلة السابع والعشرين.
• صلاة أم داود في نصف رجب.
• الصلاة الألفية التي في أول رجب ونصف شعبان.
• الصلاة الاثنا عشرية في أول ليلة جمعة من رجب.
• صلاة الرغائب في رجب.
• الصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب.
• التصدق عن روح الموتى في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان.
• صيام رجب.
• الأدعية التي تقال في رجب وشعبان ورمضان كلها مخترعة.
• زيارته صلى الله عليه وسلم في شهر رجب.
• الذهاب إلى المقابر في يومي العيدين ورجب وشعبان ورمضان
(1)
.
وهناك رسالة في (فضائل شهر رجب) لأبي محمد الحسن بن محمد الخلال، ورسالة للحافظ ابن حجر بعنوان:"تبيين العجب بما ورد في فضل رجب".
وقد ردا في رسالتيهما على كثير من البدع والمحدثات، والأحاديث والآثار التي لم تصح في فضل شهر رجب.
(1)
"معجم البدع"(ص: 255 - 256).
(37)
حديث: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم)
.
(ضعيف)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 156) رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الملك بن هارون وهو ضعيف.
ورواه الطبراني في الأوسط، وفيه داود بن الزبرقان وهو ضعيف.
قلت: والحديث جاء عند أبي داود في "السنن"، و"المراسيل" وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن المبارك في "الزهد"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، والبغوي في "شرح السنة" كلهم من طريق حصين عن معاذ بن زهرة مرسلاً.
والحديث ضعَّفه:
(1)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 156).
(2)
ابن القيم في "زاد المعاد"(2/ 51).
(3)
الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 202) رقم (911).
(4)
العلامة الألباني في "الإرواء"(4/ 36) رقم (919) و"ضعيف أبي داود"(2358) و"المشكاة"(1/ 621) رقم (1994).
(5)
ابن باز كما ذكر ذلك الطيار في "لقاءاتي مع الشيخين ابن باز وابن عثيمين".
التعليق:
قد يقول قائل: إذا كان هذا الحديث ضعيفاً إذاً ماذا نقول عند الإفطار؟ نقول له: هناك نصوصٌ صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها استحباب الدعاء حال الصيام من أول النهار إلى آخره، منها قوله صلى الله عليه وسلم:(ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)
(1)
.
وعند الإفطار تقول ما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من سنته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال:(ذهب الظمأ وابتلتِ العروق وثبت الأجر إن شاء الله)
(2)
.
(1)
رواه العقيلي في "الضعفاء" والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(3030).
(2)
رواه أبو داود والحاكم؛ وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(4678)، و"المشكاة"(1993)، و"الإرواء"(920).
(38)
حديث: (أنا ابن الذبيحين)
.
(ضعيف)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 652) رقم (4094)، وابن جرير في "التفسير" (10/ 514) رقم (29530) عن الصنابحي أنه قال:(حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنهما، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم عليهم السلام فقال: بعضهم الذبيح إسماعيل، وقال بعضهم: بل إسحاق، فقال معاوية رضي الله عنه: سقطتم على الخبير، كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يارسول الله خلفت البلاد يابسة، والماء يابساً، هلك المال، وضاع العيال، فعد عليَّ مما أفاء الله عليك (يا ابن الذبيحين)، قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه، فقلنا: يا أمير المؤمنين ومن الذبيحان؟ قال: إن عبد المطلب لما حفر زمزم نذر لله إن سهل له أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم، فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم، وقالوا: أرضِ ربك وافد ابنك قال: ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح، وإسماعيل الثاني).
قلت: وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الحافظ ابن كثير في "التفسير"(4/ 25) قال: هذا حديث غريب جداً.
(2)
الذهبي، كما نقل عنه شيخنا الوادعي في تعليقه على المستدرك.
(3)
السيوطي في "الفتاوى"(2/ 35) قال: في إسناده من لا يُعرف حاله. وضعَّفه في "الدر المنثور"(5/ 281).
(4)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1/ 336) رقم (331) و (4/ 172) رقم (1677) قال: لا أصل له.
(5)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(2/ 652) رقم (4094).
(6)
العلامة ابن باز في "فتاوى نور على الدرب" قال: يُروى لكن لا أعرف صحته. وقال في فتوى أخرى: هذا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم وفي صحته نظر، لكنه مشهور.
قلت: والحديث ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 32) رقم (13)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 230) رقم (606)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 7).
التعليق:
قلت: هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن معناه صحيح، فهو صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين ولا شك؛ والمراد بالذبيحين:
الأول: أبوه عبد الله بن عبد المطلب، وقصته معروفة مشهورة في كتب السير.
الذبيح الثاني: اختلف فيه العلماء هل هو إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؟
والصواب: أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام خلافاً للجمهور.
قال ابن القيم
(1)
رحمه الله: وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتبهم، فإن فيه:(إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره). وفي لفظ: (وحيده). ولايشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غرَّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق. قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يُقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشَّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة:
(1)
رواه أبو داود والحاكم؛ وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(4678)، و"المشكاة"(1993)، و"الإرواء"(920).
إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} {هود: 70 - 71} .
فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه.
فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان (يعقوب) مجروراً عطفاً على إسحاق، فكانت القراءة {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي: ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل: لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به، لأن البشارة قول مخصوص، وهي أول خبر سار صادق.
وقوله تعالى {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية، ولما كانت البشارة قولاً كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول، كأن المعنى: وقلنا لها: من وراء إسحاق يعقوب، والقائل إذا قال: بشَّرتُ فلاناً بقدوم أخيه وثَقَلِهِ في أثره لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً.
هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة ثم يُضعف الجرَّ أمر آخر، وهو ضعف قولك: مررت بزيد ومِن بعده عمرو، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور.
ويدل عليه أيضاً: أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات قال {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} {الصَّفات: 103 - 111} .
ثم قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} {الصَّفات: 112} .
فهذه بشارة من الله تعالى له شكراً على صبره على ما أُمِرَ به، وهذا ظاهر جداً في أن المبشَّر به غير الأول بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبياً، ولهذا نصب (نبياً) على الحال المقدر، أي: مقدراً نبوته، فلا يمكن إخراج البشراة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى
الفضيلة، هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشراة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى، وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه في البيت الحرام الذي اشترك في بنائه إسماعيل وإبرهيم، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً، ولو كان الذبح في الشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر في الشام لا بمكة.
وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليماً فقال تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى
…
أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} {الذاريات: 24 - 28} .
وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته وهي المبشَّرة به وأما إسماعيل فمن السُّرِّيَّةِ.
وأيضاً: فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك.
وأيضاً: فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، فإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلاً والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة للمحبوب، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل فأمره بذبح المحبوب فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، وقد حصل المقصود فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بدفعه وهذا في غاية الظهور.
وأيضاً: أن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة، فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها (هاجر) وابنها، ويسكنها في أرض
مكة لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمته تعالى ورأفته، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السُّرِّيَّة، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتاً هذه وابنها منهم، وليُريَ عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، متعبدات لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمنَّ عليه بعد استضعافه وذله وانكساره.
قال تعالى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} {القصص: 5} .
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
…
وبهذا القول أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(1)
.
(1)
"الفتاوى"(4/ 289 - 292).
(39)
حديث: (أنا أفصح مَنْ نطق بالضاد)
.
(لا أصل له)
هذا الحديث لا أصل له كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم، منهم:
(1)
الحافظ ابن كثير في "التفسير"(1/ 54) قال: لا أصل له، ومعناه صحيح.
(2)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 122) رقم (185).
(3)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(37).
(4)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 35).
(5)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 87).
(6)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 232) رقم (609).
(7)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 57) رقم (50).
(8)
القاري في "المصنوع "(41).
(9)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 348) رقم (26).
(10)
البيروتي في "أسنى المطالب"(386).
(11)
العلامة الألباني في "النصيحة"(ص: 104) و"أحكام الجنائز"(ص: 229) حاشية قال: لا أصل له
…
فالصفة المذكورة معروفة فيه صلى الله عليه وسلم إجماعاً، ما يحتاج مثبتها إلى مثل هذا الحديث. اهـ.
(12)
العلامة ابن باز في "التحفة الكريمة"(56).
قلت: وقد جاء هذا الحديث بألفاظ كلها لاتصح عنه صلى الله عليه وسلم مثل:
(1)
(أنا أعربكم أنا من قريش)"ضعيف الجامع"(1303).
(2)
(أنا أفصح العرب).
(3)
(أنا أعرب العرب). "ضعيف الجامع"(1307).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الضعيف ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه)
(1)
.
وقد بوَّب البخاري في "صحيحه": باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بُعثت بجوامع الكلم).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بجوامع الكلم
…
) متفق عليه.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في "الكبير" وأبو يعلى في "مسنده" عن أبي موسى رضي الله عنه. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن عمرو؛ وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(1058) و"الصحيحة"(1483).
ومن أمثلة جوامع الكلم في الأحاديث النبوية:
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
وحديث: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) متفق عليه.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري وغيره.
وحديث المقدام رضي الله عنه: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه)
(1)
.
(1)
أخرجه الأربعه، وصححه ابن حبان والحاكم والألباني في "صحيح الجامع"(5674). وانظر "فتح الباري"(13/ 261 - 262).
(40)
حديث: (أنزلوا الناس منازلهم)
.
(ضعيف)
أخرجه أبو داود (4842)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 49) عن عائشة رضي لله عنها، أنه مر بها سائل فأعطته كسرة خبز، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم).
هذا الحديث ضعيف لسببين:
(1)
الانقطاع بين ميمون بن أبي شبيب وعائشة رضي الله عنها. قال أبو داود رحمه الله: ميمون لم يدرك عائشة.
(2)
حبيب بن أبي ثابت: مُدلس وقد عنعن.
قلت: والحديث ذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 170) تعليقاً، وشرطه في المقدمة ليس كشرطه في الصحيح.
وقد أشار لضعفه بقوله: ويُذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
…
فذكره.
وقد ضعَّف الحديث أيضاً:
(1)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 75) رقم (2735) و (2736).
(2)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1892) و (1894)
(1)
.
والحديث ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 118) رقم (179)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 241) رقم (629)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 34).
التعليق:
قلت: لا شك أن معنى هذا الحديث صحيح، فمراعاة مراتب الناس ومكانتهم، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، فيُكرم الكريم ويُعز العزيز، ويُقال لذوي الهيئات عثراتهم، هذا أمر نادت به الشريعة، وبُعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق.
قال المناوي
(2)
: (أنزلوا الناس منازلهم) أي: احفظوا حرمة كل أحد على قدره، وعاملوه بما يلائم حاله في دين وعلم وشرف، فلا تسووا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقداً في النفوس.
وقال العسكري: هذا مما أدب به المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبه ذلك.
(1)
و انظر كذلك "ضعيف الجامع"(1342)، (1344)، و"ضعيف أبي داود"(1032).
(2)
"فيض القدير"(3/ 75).
وقال الإمام مسلم: فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه من قوله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} {يوسف: 76} وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف
(1)
.
فائدة:
جاء عند أبي داود رحمه الله وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)
(2)
.
وقال رحمه الله: روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: (وذووا الهيئات الذين يقالون عثراتهم) الذين ليسوا يُعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة.
وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": ويُستفاد منه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير، وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام
(3)
.
(1)
وانظر مقدمة "صحيح مسلم"(1/ 170) و"دليل الفالحين بشرح رياض الصالحين"(2/ 217).
(2)
وصححه العلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحية"(638).
(3)
وانظر "الصحيحة"(2/ 239).
(41)
حديث: (إن تحت كل شعرة جنابة)
.
(ضعيف)
رواه أبو داود (248)، والترمذي (106)، وابن ماجه (597، 598)، والبيهقي في "الشعب"(3/ 19) رقم (2748) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 480) رقم (511) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
ومداره على الحارث بن وجيه، وهو ضعيف.
قال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو داود: حديثه منكر، وهو ضعيف.
وقال الترمذي: شيخ ليس بذاك. انظر "تهذيب التهذيب"(2/ 149).
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على ضعف هذا الحديث، منهم:
(1)
الإمام الشافعي قال: هذا الحديث ليس بثابت.
(2)
البيهقي قال: أنكره أهل العلم بالحديث، كـ:
(3)
البخاري.
(4)
وأبي داود وغيرهم. اهـ. انظر"سنن البيهقي"(1/ 270 - 276) و"التلخيص الحبير"(1/ 142).
(5)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 183) رقم (317).
(6)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 40).
(7)
العجلوني في "كشف الخفاء" رقم (268) و (952).
(8)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(3801)
(1)
.
(9)
شيخنا العلامة الوادعي في "قمع المعاند"(ص: 432 - 433) و"فتاوى المراة المسلمة"(ص: 90).
قلت: وجاء عند أبي داود وغيره عن علي رضي الله عنه: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل الله به كذا وكذا من النار).
وقد ضعَّف هذا الحديث العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(930) والإرواء (133).
التعليق:
قال العلامة الألباني رحمه الله: وقد ثبت في غير ما حديث صحيح أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها في غسل الجنابة، فالرجل مثلها إن كان له شعر مظفور كما هو معروف من عادة العرب قديماً، واليوم أيضاً عند بعض القبائل، وأما في الحيض فيجب نقضه هذا هو الأرجح
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(1847) و"المشكاة"(1/ 138) رقم (443) و"ضعيف سنن الترمذي"(15) و"ضعيف سنن أبي داود"(46) و"ضعيف سنن ابن ماجه"(118).
الذي تقتضيه الأحاديث الواردة في هذا الباب، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في الحيض:(انقضي شعرك واغتسلي).
وقال رحمه الله: استدل الصنعاني بالحديث على أن نقض الشعر من المرأة الحائض في غسلها ليس واجباً عليها بل هو على الندب لذكر الخطمي والأشنان فيه، قال:(إذ لا قائل بوجوبهما فهو قرينة على الندب).
قلت (الألباني): وإذا عرفت ضعف الحديث فالاستدلال به على ما ذكر الصنعاني غير صحيح، لا سيما وقد ثبت من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في الحيض:(انقضي شعرك واغتسلي) ولهذا كان أقرب المذاهب إلى الصواب التفريق بين غسل الحيض فيجب فيه النقض، وبين غسل الجنابة فلا يجب، كما بينت ذلك في الكلام على حديث عائشة في الأحاديث الصحيحة (188).
قلت: ومذهب الجمهور أنه إذا وصل الماء إلى جميع شعرها ظاهره وباطنه من غير نقض لم يجب النقض.
(42)
حديث: (إن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً)
.
(ضعيف جداً)
أخرجه أحمد (24842)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 142) رقم (311)، والطبراني في "الكبير"(264) و (5407)، وابن سعد في "الطبقات" (3/ 132) عن حبيب بن أبي مرزوق قال: قَدِمَتْ عير لعبد الرحمن بن عوف، قال: فكان لأهل المدينة يومئذ رجَّة، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما هذا؟
قيل لها: عير لعبد الرحمن قدمت، فقالت عائشة رضي الله عنها: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط، يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يفلت ولم يكد، قال: فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، قال: هي وما عليها صدقة، قال: وما كان عليها أفضل منها، قال: وهي يومئذ خمسمائة راحلة).
قلت: حبيب بن أبي مرزوق لم يدرك عائشة رضي الله عنها، بل قال في "التقريب" (1095): متروك، كذَّبه أبو داود وجماعة.
ومن طريق أخرى، أخرجه الحاكم (3/ 381 - 382) رقم (5425) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يا ابن عوف إنك من الأغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفاً فأقرض الله يطلق قدميك)، قال: فما أقرض الله؟ قال: (تتبرأ مما
أنت فيه)، قال: يا رسول الله من كله أجمع؟ قال: (نعم) فخرج ابن عوف وهو يهمّ بذلك، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(أتاني جبريل، فقال: مر ابن عوف فليضف الضيف، ويطعم المسكين، وليعطِ السائل وليبدأ بمن يعول، فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه).
وهذا الحديث ضعيف جداً: في سنده خالد بن يزيد بن أبي مالك.
قال أحمد: ليس بشيء.
وقال النسائي: غير ثقة.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال الحافظ: ضعيف مع كونه فقيهاً، وقد اتهمه ابن معين.
"ميزان الاعتدال"(1/ 645) رقم (2475). "التقريب"(1698).
ومن طريق أخرى أخرجه أحمد.
قال الشوكاني: وفي إسناده عماره بن زاذان، وهو يروي المناكير، وقد قال أحمد: هذا حديث كذب منكر.
وقال النسائي: الحديث موضوع.
وقال المنذري في "الترغيب والترهيب": ورد من حديث جماعة من الصحابة (أن عبد الرحمن ابن عوف يدخل الجنة حبواً لكثرة ماله).
ولا يسلم أجودها من مقال. "الفوائد المجموعة"(ص: 356 - 357).
وقال الحافظ في "القول المسدد": والذي أراه عدم التوسع في الكلام فإنه يكفينا شهادة الإمام أحمد بأنه كذب. "تنزيه الشريعة" لابن عراق (2/ 15).
قلت: قال ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 247 - 248): باطل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "في مجموع الفتاوى"(11/ 128 - 129): كلام موضوع لا أصل له.
وقد ضعّف الحديث العلامة الألباني في "الضعيفة"(1772).
وشيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(5425).
التعليق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: ما روي أن ابن عوف يدخل الجنة حبواً كلام موضوع لا أصل، فإنه قد ثبت في الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم.
وقال ابن الجوزي
(2)
رحمه الله: وبمثل هذا الحديث الباطل يتعلق جهلة المتزهدين، ويرون أن المال مانع من السبق إلى الخير، ويقولون: إذا كان ابن عوف يدخل الجنة زحفاً لأجل ماله كفى ذلك في ذم المال.
(1)
"مجموع الفتاوى"(11/ 128).
(2)
"الموضوعات"(2/ 247 - 248).
قلت: حاشا عبد الرحمن بن عوف المشهود له بالجنة، الذي شهد بدراً وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنعه ماله من السبق، لأن جمع المال مباح، وإنما المذموم كسبه من غير وجهه، ومنع الحق الواجب فيه، وأن يكون سبباً في صدك عن الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(نعم المال الصالح للرجل الصالح) رواه أحمد وغيره.
وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كثير الإنفاق في سبيل الله عز وجل، أعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً.
(وأوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بعده بأربعين ألف دينار)
(1)
.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره وحسنه العلامة الألباني في "الصحيحة"(4/ 462) تحت حديث رقم (1845). وانظر فضائل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في "الصحيح المسند من فضائل الصحابة" للعدوي (ص: 174 - 177).
(43)
حديث: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)
.
(لا أصل له)
…
لقد اشتهر هذا الحديث على ألسِنة كثير من الأئمة عند تسويتهم للصفوف في الصلاة، وهو حديث لايصح ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
قال العلامة ابن باز رحمه الله: لا أصل له. كما نقل عنه الطيار في "لقاءاتي مع الشيخين ابن باز وابن عثيمين" اللقاء السادس.
(2)
قال شيخنا المحدث مقبل الوادعي رحمه الله في "المقترح في أجوبة بعض أسئلة المصطلح"(ص: 11 - 12):
…
بعض الائمة عند تسوية الصفوف يقول: (استووا فإن الله لاينظر إلى الصف الأعوج). وهذا لايثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن تقول: استووا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين قلوبكم).
(3)
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه العظيم "الشرح الممتع على زاد االمستقنع"(3/ 14): وهاهنا حديث مشهور بين الناس وليس له أصل، وهو:(إن الله لاينظر إلى الصف الأعوج). وتكلَّم رحمه الله بكلام عظيم عن مسألة تسوية الصف فانظره إن شئت.
(4)
قالت اللجنة الدائمة في "الفتاوى"(32/ 328) رقم الفتوى (16744): هذا اللفظ في تسوية الصفوف: مشتهر على الألسنة، وهو لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع أن يقال لتسوية الصفوف به، ويكتفى بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(استووا اعتدلوا) ونحوهما.
(5)
قال الشيخ مشهور في "أخطاء المصلين"(ص: 214): هذا الحديث لم يصح ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا أصل له.
التعليق:
قلت: كثير من أئمة المساجد يستدلون به عند خطابهم للمصلين بتسوية الصفوف
(1)
، فالواجب على الإمام أن يتحرى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبتعد عن الأحاديث الضعيفة والواهية، وهناك نصوص كثيرة في الأمر بتسوية الصفوف تغني عن هذا الحديث الذي لا أصل له.
وقد بوب العلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة"
(2)
: "باب وجوب إقامة الصفوف في صلاة الجماعة".
(1)
للفائدة: انظر رسالة "تسوية الصفوف وأثرها في حياة الأمة" للعوايشة.
(2)
رقم (31) و (32).
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أقيمت الصلاة، وأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم، وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم -ثلاثاً -، والله لَتُقِيمُنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم).
قال رحمه الله: ففي هذين الحديثين فوائد هامه:
الأولى: وجوب إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها للأمر بذلك والأصل فيه الوجوب، إلا لقرينة كما هو مقرر في الأصول، والقرينة هنا تؤكد الوجوب وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(أو ليخالفن الله بين قلوبكم) فإن مثل هذا التهديد لا يُقال فيما ليس بواجب كما لا يخفى.
الثانية: أما التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب وحافة القدم بالقدم، لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمِروا بإقامة الصفوف والتراص فيها، ولهذا قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق الزيادة التي أوردتها في الحديث الأول من قول أنس، وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته.
ومن المؤسف أن هذه السُّنَّة من التسوية قد تهاون بها المسلمون بل أضاعوها إلا القليل منهم، فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث فإني رأيتهم في مكة سنة (1368 هـ) حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة -لا أستثني منهم حتى الحنابلة- فقد صارت هذه السنة عندهم نسياً منسياً، بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها، ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين بقدر أربع أصابع، فإن زاد كره كما جاء مفصلاً في الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 207)، والتقدير المذكور لا أصل له في السنة، وإنما هو مجرد رأي، ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد حتى لا يعارض به هذه السنة الصحيحة كما تقتضيه القواعد الأصولية.
وخلاصة القول: إنني أهيب بالمسلمين وخاصة أئمة المساجد الحريصين على اتباعه صلى الله عليه وسلم واكتساب فضيلة إحياء سنته صلى الله عليه وسلم، أن يعملوا بهذه السُّنَّة ويحرصوا عليها ويدعوا الناس إليها، حتى يجتمعوا عليها جميعاً وبذلك ينجون من تهديد (أو ليُخالفنَّ الله بين قلوبكم).
وأزيد في هذه الطبعة فأقول: لقد بلغني عن أحد الدعاة أنه يهوِّن من شأن هذه السُّنَّة العملية التي جرى عليها الصحابة، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ويلمح إلى أنه لم يكن من تعليمه صلى الله عليه وسلم إياهم ولم ينتبه والله أعلم
إلى أن ذلك فَهْم منه أولاً، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقرهم عليه ثانياً، وذلك كافٍ عند أهل السنة في إثبات شرعية ذلك لأن الشاهد يرى مالا يرى الغائب، وهم القوم لا يشقى متَّبع سبيلهم.
الثالثة: في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه ولكن ينبغي أن يُعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذ لم يرد في شيء من السُّنَّة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً. والله أعلم.
الرابعة: في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس وإن كان صار معروفاً في علم النفس، وهو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن، والعكس بالعكس، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة لعلنا نتعرض لجمعها وتخريجها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
الخامسة: أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن: (قد قامت الصلاة) بدعة لمخالفتها للسُّنَّة الصحيحة، كما يدل على ذلك هذان الحديثان، لا سيما الأول منهما؛ فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجباً ينبغي عليه القيام به، وهو أمر الناس بالتسوية مذكراً لهم بها، فإنه مسؤول عنهم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
…
)
(1)
.
(1)
وانظر كذلك "نظم الفرائد"(1/ 356 - 358).
(44)
حديث: (إن الله يحب المؤمن المحترف)
.
(ضعيف)
…
رواه الطبراني في "الكبير"(13200) و"الأوسط"(8929)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 50)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 589 - 590) رقم (968)، والديلمي في "الفردوس"(570)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 88) رقم (1237).
وفي سنده: أبو الربيع السَّمَّان.
قال هشيم: كان يكذب.
وقال الدارقطني: متروك. انظر "مجمع الزوائد"(4/ 62).
وممن ضعَّف هذا الحديث:
(1)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 589 - 590) رقم (968).
(2)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 62).
(3)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 291) تحت حديث (763).
(4)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 13) رقم (13) كتاب المعاملات.
(5)
الألباني في "الضعيفة"(1301) و"الترغيب والترهيب"(1043).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الضعيف ما جاء في "صحيح البخاري" وغيره عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده)
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(1)
رواه ابن ماجه وأحمد وصححه الألباني في "الترغيب والترهيب"(1685).
(45)
حديث: (إن الله يحب الملحين في الدعاء)
.
(باطل)
…
رواه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 452)، وابن عدي في "الكامل"(500)، والطبراني في "الدعاء" عن عائشة رضي الله عنها.
وفي سنده: يوسف بن السفر، وهو كذَّاب.
قال البخاري: كان يكذب.
وقال أبو زرعة: كان متروك الحديث.
وقال النسائي: متروك الحديث. "الكامل"(8/ 497 - 500).
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على بطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن أبي حاتم في "العلل"(2087) وقال قال أبى: هذا حديث منكر نرى أن بقية دلسه عن ضعيف عن الأوزاعى.
(2)
العقيلي في "الضعفاء"(4/ 452).
(3)
ابن عدي في "الكامل"(500).
(4)
البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 38) رقم (1109).
(5)
ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 226).
(6)
البيروتي في "أسنى المطالب"(330).
(7)
الألباني في "الضعيفة"(637)، و"الإرواء"(677).
التعليق:
تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما من جهة المعنى فإن المقصود من الإلحاح في الدعاء تكراره، وقد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً).
قال النووي
(1)
رحمه الله: فيه استحباب تكرير الدعاء ثلاثاً.
وقوله: (وإذا سأل) هو الدعاء، لكن عطفه لاختلاف اللفظ توكيداً.
وقال البخاري-رحمه الله: باب تكرير الدعاء، ثم ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله تعالى، وكرر الدعاء لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي.
قالت عائشة رضي الله عنها: (حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا
…
) الحديث. رواه البخاري ومسلم واللفظ له
(2)
.
(1)
شرح صحيح مسلم (12/ 394) رقم (1794).
(2)
البخاري (6391) ومسلم (2189)
وقال ابن القيم
(1)
رحمه الله: ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء.
وفي كتاب "الزهد"
(2)
للإمام أحمد رحمه الله: عن قتادة قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة فهو يدعو: يارب، يارب، لعل الله أن ينجيه.
(1)
"الداء والدواء"(ص: 25).
(2)
(ص: 305).
(46)
حديث: (أنفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثير من الناس، على أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك إنما هو من كلام الناس، كما قال:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 131) رقم (203).
(2)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 58) رقم (54).
(3)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 37).
(4)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 245) رقم (641).
(5)
الصالحي في "الشذرة"(1/ 140) رقم (182).
(6)
البيروتي في "أسنى المطالب"(403).
(7)
القاري في "الأسرار المرفوعة"(ص: 140).
(8)
الصعدي في "النوافح العطرة"(288).
التعليق:
قلت: ويُغني عنه قوله تعالى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
…
الرَّازِقِينَ (39)} {سبأ: 39} . والحديث القدسي: (أنْفق أُنفق عليك) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وحديث: (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً وممسكاً تلفاً) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(47)
حديث: - زيادة - (
…
إنك لا تخلف الميعاد)
.
(شاذة)
…
هذه الزيادة أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى": (1/ 603) رقم (1933)، وهي شاذة لأنها لم ترد في جميع طرق الحديث الذي يُقال بعد الأذان.
وأصل الحديث عند أحمد والبخاري والأربعة عن جابر رضي الله عنه كلهم بدون ذكر هذه الزيادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي).
وقد ضعَّف هذه الزيادة:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 254).
(2)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 483) رقم (1289).
(3)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 99) رقم (163).
(4)
شيخنا الوادعي في "الشفاعة"(ص: 235) قال: زيادة تفرد بها محمد بن عوف الطائي، وقد خالف البخاري، وأحمد، ومحمد بن سهل بن عسكر البغدادي، وإبراهيم بن يعقوب وهوالجوزجاني، وعمرو بن منصور، ومحمد بن يحيى وهو الذهلي، والعباس بن الوليد
الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين، وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، وموسى بن سهل. هؤلاء عشرة يروون الحديث عن علي بن عياش وليس فيه هذه الزيادة:(إنك لاتخلف الميعاد) ويُعتبر محمد بن عوف الطائي شاذاً ويُحكم على زيادته بالضعف؛ والله أعلم.
(5)
العلامة الألباني في "الإرواء"(1/ 260) قال: زيادة (إنك لا تخلف الميعاد) في آخر الحديث عند البيهقي وهي شاذة، لأنها لم ترد في جميع طرق الحديث عن علي بن عياش. وقال أيضاً في تحقيقه لكتاب "إصلاح المساجد" للقاسمي (ص: 131): وأما زيادة (الدرجة الرفيعة) و (إنك لا تخلف الميعاد) فبدعة لم ترد
(1)
.
(6)
العلامة بكر أبو زيد في "تصحيح الدعاء"(ص: 382 - 383).
(7)
العلامة ربيع المدخلي في تحقيقه "للتوسل والوسيلة"(ص: 69) حاشية.
(8)
العلامة محمد بن آدم الأتيوبي في "شرح سنن النسائي"(8/ 174 - 175).
(9)
القوصي في "كتاب الأذان"(ص: 175 - 178).
(10)
مشهور بن حسن في "أخطاء المصلين"(ص: 183).
(11)
الشقيري في "السنن والمبتدعات"(ص: 40) أشار إلى بدعيتها.
(1)
وانظر كذلك "الترغيب والترهيب"(1/ 159) حاشية.
التعليق:
المشروع بعد الأذان للمؤذن وغيره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم هذا أولاً.
ثم يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته) لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) رواه مسلم.
تنبيه: قد يقول قائل: إن الله يقول في كتابه الكريم {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} {آل عمران: 194} {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} {آل عمران: 9} .
الجواب: نعم إن الله لا يخلف الميعاد، لكن هل أمرك الله أن تقول هذا بعد الأذان؟
الجواب: لا لأنه لم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ثبت قلناه وما لم يثبت تركناه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} {الحشر: 7}. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
(48)
حديث: (
…
إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)
.
(ضعيف)
رواه الترمذي -مع التحفة- (2578) وغيره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه فرأى ناساً كأنهم يكتشرون قال: (أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللَّذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يأتِ على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دُفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنتَ لأحب من يمشي على ظهري إليَّ، فإذا وليتك اليوم وصرتَ إليَّ فسترى صنيعي بك فيتسع له مدَّ بصره ويُفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إن كنتَ لأبغضَ من يمشي على ظهري إلىَّ فإذا وليتك اليوم وصرت إلىَّ فسترى صنيعي بك. قال: فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض قال: ويُقَيَّض له سبعون تِنِّيناً لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه حتى يُفضَى به إلى الحساب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار).
وفي سنده:
(1)
عبيد الله بن الوليد الوصَّافي، وهو واهٍ كما قال المنذري.
(2)
عطية العوفي، ضعيف مدلس.
والحديث ضعَّفه:
(1)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 118) رقم (1853).
(2)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 289).
(3)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(4990)
(1)
.
التعليق:
قلت: هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، فإن القبر إما روضة من رياض الجنة لأهل الإيمان والصلاح، وإما حفرة من حفر النار لأهل الكفر والفساد، فقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين. فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول.
(1)
وانظر كذلك"ضعيف الجامع"(1231) و"المشكاة"(3/ 1470) رقم (5351) و"ضعيف سنن الترمذي"(437) و"الترغيب والترهيب"(3/ 1207) رقم (1944).
فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تُعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا.
فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنيناً.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها إليه التفات البته، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المُسَلِّم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه.
وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق به، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً، فالنوم أخو الموت فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة، وليس السؤال في القبر للروح وحدها، كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين.
وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن متصلة به.
واعلم أن عذاب القبر هوعذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه (قبر أو لم يُقبَر)، أكلته السباع، أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور
…
بل أعجب من هذا أن الرجلين، أحدهما يُدفن إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حرّ ناره، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه.
وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مُولعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً.
وقد أرانا الله في هذه الدار عجائب قدرتة ما هو أبلغ من هذا بكثير.
وإذا شاء الله أن يُطلع على ذلك بعض عباده أطلعه، وغَيَّبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولمَا تدافن الناس كما جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:(لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته
(1)
.
(1)
"شرح العقيدة الطحاوية"(ص: 450 - 453) بتصرف.
(49)
حديث: (أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، فقال: يا رب فيها عبدٌ لم يعصك طرفة عين، قال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر فيَّ ساعة قط) وفي رواية: (أن به فابدأ
…
).
(ضعيف جداً)
رواه ابن الأعرابي في "معجمه"(199/ 1).
وفي إسناده: عمار بن سيف.
أورده الذهبي في "الضعفاء"، وقال: قال الدارقطني وغيره: متروك.
…
"الضعيفة"(1904).
قلت: وقد نصَّ على ضعف هذا الحديث:
(1)
البيهقي في "الشعب"(7594) و (7595).
(2)
الحافظ العراقي. "الإحياء وبذيله المغني"(2/ 434).
(3)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 270).
(4)
العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1904).
(5)
الحلبي في تعليقه على "الداء والدواء"(ص: 72).
التعليق:
قلت: من المقرر عند أهل العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب من الواجبات الكفائية، إذا قام به ما يكفي سقط الإثم عن الآخرين، وقد أمر الله عز وجل به، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة الصريحة المتواترة، وإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذا سبب لهلاكهم، قال تعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} {المائدة: 78 - 79}. فالواجب التحذير من المنكرات بجميع صورها وعدم حضور أماكنها، فإن هذا من أسباب النجاة بإذن الله. قال تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} {الأعراف: 165}. أما حضور المنكرات وعدم إنكارها فإن هذا من أسباب الهلاك والعياذ بالله، إذ أن حاضر المنكر كفاعله كما هو مقرر في الشريعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما في الحديث أنه قال:(من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر).
(1)
"مجموع الفتاوى"(28/ 221 - 222).
ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائماً، فقال: ابدءوا به، أفما سمعتم الله يقول:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} {النساء: 140} .
بيّن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: إذا دُعي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله، بترك ما أمره به من بغض إنكاره والنهي عنه، وإذا كان كذلك، فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمره الله هو شريك الفساق في فسقهم فيلحق بهم. اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان فإنه يكون معهم الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم ولا تترك أحداً، ثم يوم القيامة يُبعثون على نياتهم قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} {الأنفال: 25}.
(1)
"شرح رياض الصالحين"(1/ 19).
(50)
حديث: (أُوقد على النَّار ألف سنةٍ حتى احمرَّت ثمَّ أوقد عليها ألف سنةٍ حتى ابيضت ثمَّ أوقد عليها ألف سنةٍ حتى اسودت فهي سوداء مظلمة)
.
(ضعيف)
…
أخرجة الترمذي (2717)، وابن ماجه (4320) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي سنده: شريك بن عبد الله النخعي القاضي، وهو سيئ الحفظ.
وقد ضعَّف هذا الحديث:
(1)
العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1305)
(1)
.
(2)
شيخنا العلامة مقبل الوادعي رحمه الله.
قلت: وجاء عند البيهقي في"شعب الإيمان"(799) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} {البقرة: 24} .
فقال: (أوقد عليها
…
) وهذا الحديث ذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(1/ 409 - 410).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2125)، و"ضعيف سنن الترمذي"(485)، و"ضعيف سنن ابن ماجه"(941) و"الترغيب والترهيب"(3/ 1331) رقم (2132).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الضعيف ما جاء في كتاب الله الكريم من الآيات الكثيرة في وصف النار، وما جاء في السنة الصحيحة من أحاديث تصف النار من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) قيل يارسول الله: إن كانت لكافية. قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهنَّ مثل حرها) متفق عليه عن أبي هريرة.
ورواه أحمد وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي فزادوا فيه: (وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد) *.
وفي رواية للبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحسبون أن نار جهنم مثل ناركم هذه؟ هي أشد سواداً من القار) *. والقار: الزفت.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لوكان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه)
(1)
رواه أبو يعلى.
(1)
وجميع هذه الأحاديث صححها العلامة الألباني رحمه الله في "الترغيب والترهيب"(3/ 1330).
(51)
حديث: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم؛ فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم؛ فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا)
.
(ضعيف)
…
رواه مالك في "الموطأ"(ص: 756) رقم (19) باب ما جاء في الصدق والكذب. والبيهقي في"شعب الإيمان"(4/ 207) رقم (4812) عن صفوان ابن سليم.
(1)
قال ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد"(16/ 373): لا أحفظ هذا الحديث مسنداً بهذا اللفظ من وجه ثابت، وهو حديث حسن مرسل.
(2)
قال المنذري رحمه الله في "الترغيب والترهيب"(3/ 1083): مرسل.
(3)
قال العلامة الألباني-رحمه الله في "الترغيب والترهيب"(3/ 1083) رقم (1752)، والمشكاة (3/ 1364) رقم (4862): مرسل ضعيف.
(4)
قالت اللجنة الدائمة في فتاوى اللجنة (4/ 432): هو حديث مرسل كما قال المنذري، والمرسل من قسم الأحاديث الضعيفة.
(5)
قال شيخنا الوادعي رحمه الله: ضعيف. (سماعاً).
(6)
قال سليم الهلالي في تحقيقه "للموطأ"(4/ 518): ضعيف.
التعليق:
قال ابن عبد البر رحمه الله
(1)
: ومعنى الحديث أن المؤمن لا يكون كذاباً يريد أنه لا يغلب عليه الكذب، حتى لا يكاد يصدق، هذا ليس من أخلاق المؤمن، وأما قوله في المؤمن: أنه يكون جباناً وبخيلاً هذا يدل على أن البخل والجبن قد يوجدان في المؤمن وهما خلقان مذمومان، قد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، فهذا معناه إن صح أن المؤمن قد يكون فيه من الأخلاق ما لا يحمد ولا يرضى، لأن البخل والجبن مذمومان بكل لسان، ومن جُبل عليهما فقد جُبل على خلق غير محمود. اهـ.
وقال في "مرقاة المفاتيح": أيكون المؤمن جباناً أي بالطبع أو مطلقاً وهو بفتح الجيم وتخفيف الموحدة ضد الشجاع قال: نعم أي يكون ولا ينافي الإيمان فقيل له: أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن بخيلاً أي بالطبع كما قال تعالى {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} {الإسراء: 100} أو بإخراج ما يجب عليه من المال لميله على وجه الكمال، قال نعم أي يكون ولا ينافيه مطلق الإيمان أو كماله، فقيل: أي له أيكون المؤمن كذاباً أي كثير الكذب مبالغاً فيه أو ذا كذب بحسب الطبع والخلقة قال: لا. اهـ.
(1)
"التمهيد"(16/ 373).
(52)
حديث: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا مرضاً مفسداً، وهرماً مفنداً، أو غناً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر منتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)
.
(ضعيف جداً)
…
رواه الترمذي (2306)، والعقيلي (4/ 230) رقم (1822)، وابن عدي (8/ 196)، والحاكم (7987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي سنده: محرز بن هارون وهو متروك.
قال العقيلي: قال البخاري: محرز بن هارون منكر الحديث.
وقال النسائي: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
وقال ابن حبان: يروي عن الأعرج ما ليس من حديثه، لا تحل الرواية عنه، ولا الاحتجاج به.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال الساجي: منكر الحديث. وذكره العقيلي وابن عدي في الضعفاء. "تهذيب التهذيب"(10/ 49) رقم (6802).
والحديث ضعَّفه:
(1)
العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1666)
(1)
.
(2)
شيخنا الوادعي رحمه الله في تعليقه على "المستدرك" رقم (7987) بلفظ: (ما ينظر أحدكم إلا غناً مطغياً
…
).
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما معناه فقد قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير":(بادروا بالأعمال سبعاً) أي سابقوا وقوع الفتن بالإشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل حلولها.
(هل تنتظرون إلا فقراً منسياً) أي نسيتموه ثم يأتيكم فجأة.
(أو غنى مطغياً) أي {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} {العلق: 6 - 7} .
(أو مرضاً مفسداً) للمزاج مشغلاً للحواس. (أو هرماً مفنداً) أي موقعاً في الكلام المحرف عن سنن الصحة من الخرف والهذيان.
(1)
و"ضعيف الجامع"(2315)، و"ضعيف الترمذي" (ص: 260) رقم (400)، و"الترغيب والترهيب"(3/ 1214) رقم (1957).
(أو موتاً مجهزاً) أي سريعاً يعني فجأة ما لم يكن بسبب مرض كقتل وهدم بحيث لا يقدر على التوبة، من أجهزت على الجريح أسرعت قتله.
(أو الدجال) أي خروجه (شر منتظر) بل هو أعظم الشرور المنتظرة.
(أو الساعة والساعة أدهى وأمر).
قال العلائي: مقصود هذه الأخبار الحث على البداءة بالأعمال قبل حلول الآجال، واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات، وقد كان صلى الله عليه وسلم من المحافظة على ذلك بالمحل الأسمى والحظ الأوفى، قام في رضا الله حتى تورمت قدماه. اهـ.
وقال ابن رجب
(1)
رحمه الله: والمرادُ من هذا أنَّ هذه الأشياء كلَّها تعوقُ عن الأعمال، فبعضُها يشغل عنه، إمَّا في خاصّة الإنسان، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضُها عامٌّ، كقيام الساعة، وخروج الدجال، وكذلك الفتنُ المزعجةُ، كما جاء في حديث (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم).
وبعضُ هذه الأمور العامّة لا ينفع بعدها عملٌ، كما قال تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا
…
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} {الأنعام: 158} .
(1)
"جامع العلوم والحكم"(ص: 384).
وفي "الصحيحين" عن أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(لا تقومُ السَّاعةُ حتّى تطلع الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).
(53)
حديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعفُّ نساؤكم)
.
(ضعيف جداً)
رواه الطبراني في "الأوسط"(2/ 8) رقم (1006) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 366)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 265) رقم (7339)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 354)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 249) رقم (1249) عن جابر رضي الله عنه.
وفي سنده: علي بن قتيبة الرفاعي.
قال عنه الذهبي في "تلخيص الموضوعات"(753): كذَّاب.
وقال الدارقطني: كان ضعيفاً ولا يثبت حديثه هذا.
وقال العقيلي في "الضعفاء"(3/ 249) رقم (1247): علي بن قتيبة الرفاعي يحدث عن الثقات بالبواطيل، وما لا أصل له.
وقال ابن عدي في "الكامل"(6/ 354): علي بن قتيبة الرفاعي منكر الحديث. وانظر "الضعفاء والمتروكين"(2/ 198).
والحديث ضعَّفه:
(1)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 283) رقم (1516).
(2)
ابن عبد البر في "التمهيد"(5/ 404، 405) قال: لا أصل له.
(3)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 139).
(4)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 161).
(5)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 260 - 261).
(6)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 335) رقم (900) و (2/ 79) رقم (1738).
(7)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 135) رقم (4) و (ص: 234) رقم (130).
(8)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(2043، 2039)
(1)
.
(9)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(7339).
التعليق:
قلت: تبين لك أيها القارئ الكريم ضعف هذا الحيث لكن هل معناه صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
رحمه الله، في الرجل الذي يزني بنساء الناس: فإِنهُ إذَا كَانَ يَزنِي بِنسَاء النَّاسِ كَان هَذَا مِما يَدعو المَرأَةَ إلى
(1)
وانظر كذلك"ضعيف الجامع"(2329 - 2330) و"الترغيب والترهيب"(2/ 943) رقم (1479).
(2)
"الفتاوى الكبرى"(4/ 120).
أَنْ تُمَكِّنَ مِنها غَيْرَهُ، كما هو الواقع كثيراً، فلم أَرَ من يزني بنساءِ الناس، إلا فيحمل امرأَته على أَنْ تَزنِيَ بِغيره مُقابلةً على ذَلِكَ وَمغايظةً.
وأَيضاً: فإِذا كان عادته الزنَا استغنى بالبغايا، فلم يكف امرأَته في الإعفاف، فتحتاج إلى الزنا.
وَأَيضاً: فإِذا زنى بنساء الناس طلب الناس أَنْ يزنوا بنسائه، كما هو الواقع، فامرأَة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة، وإن استحلت ما حرمه اللهُ كانت مشركة؛ وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك، فلا يكاد يعرف في نساء الرجال الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امرأَة سليمة سلامة تامة، وطبع المرأَة يدعو إلى الرجال الأَجانب إذا رأَت زوجها يذهب إلى النساء الأَجانب. اهـ.
وقال العلامة الالباني
(1)
رحمه الله تحت حديث: (ما زنى عبد فأدمن على الزنا إلا ابتلي في أهل بيته).
ومما يؤيد بطلان هذا الحديث أنه يؤكد وقوع الزنا في أهل الزاني، وهذا يتنافى مع الأصل المقرر في القرآن {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
{النَّجم: 39} .
(1)
"الضعيفة"(723).
نعم، إن كان الرجل يجهر بالزنا ويفعله في بيته فربما سرى ذلك إلى أهله والعياذ بالله تعالى، ولكن ليس ذلك بحتم كما أفاده هذا الحديث، فهو باطل. اهـ.
قلت: أما بر الوالدين والإحسان إليهما فقد أمر الله به في أكثر من آية في كتابه الكريم، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المتواترة عنه. والجزاء من جنس العمل، والواقع يشهد بذلك.
(54)
حديث: (البِرُّ لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تُدان)
.
(ضعيف)
…
أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 197) رقم (132)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 348)، وابن الجوزي في "ذم الهوى"(210)، وعبد الرزاق في "المصنف" (11/ 178 - 179) رقم (20262) عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
وعلة هذا الحديث: الإرسال.
فإن أبا قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، تابعي وقد أرسله.
والحديث له طرق أخرى معلولة.
وممن ضعَّف هذا الحديث:
(1)
البيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 197) رقم (132) قال بعد ذكره: مرسل.
(2)
السيوطي في "الجامع الصغير"(3199).
(3)
الحافظ في "الإصابة"(7/ 64 - 65) رقم (9712).
(4)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 285) رقم (3199).
(5)
والسخاوي في "المقاصد الحسنة"(834).
(6)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 125).
(7)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 336) رقم (902).
(8)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(4/ 77) رقم (1576) و (4124)، و"ضعيف الجامع"(2369).
التعليق:
قلت: هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح.
قال المناوي
(1)
رحمه الله: (البر)، بالكسر (لا يبلى) أي: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باق عند الله.
وقيل: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى) أي: الإحسان وفعل الخير، لا يبلى ثناؤه وذكره في الدنيا والآخرة و (الذنب لا ينسى) أي: لا بد أن يجازى عليها {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} {طه: 52} ونبه به على شيء دقيق يغلط الناس فيه كثيراً وهو أنهم لا يرون تأثير الذنب فينساه الواحد منهم ويظن أنه لا يغير بعد ذلك وأنه كما قال:
إذا لم يغير حائط في وقوعه
…
فليس له بعد الوقوع غبار
(1)
"فيض القدير"(3/ 285 - 286).
قال ابن القيم رحمه الله: سبحان الله كم أهلكت هذه البلية من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وما أكثر المفترين بها من العلماء فضلاً عن الجهال، ولم يعلم المفتري أن الذنب ينقض ولو بعد حين كما ينقض السم والجرح المندمل على دغل، (والديان لا يموت) فيه جواز إطلاق الديان
(1)
على الله سبحانه وتعالى لو صح الخبر)، (اعمل ما شئت) تهديد شديد، وفي رواية:(فكن كما شئت، كما تدين تدان) أي: كما تُجَازِي تُجَازَى، يقال: دنته بما صنع، أي: جزيته. ذكره الديلمي ومن مواعظ الحكماء: عباد الله الحذر، فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر، ولقد أمهل حتى كأنه أهمل.
قلت: وقريباً من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس)
(2)
.
(1)
قال شيخنا العلامة العباد في "قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني"(ص: 86 - 87): الديان دليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله العباد -أو قال الناس- عراة غرلاً بهما، قال: قلنا: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان) أخرجه الحاكم في المستدرك في موضعين (2/ 438)، (4/ 574)، وصححه وأقره الذهبي، وحسنه الحافظ في "الفتح"(1/ 174) والألباني في صحيح الأدب المفرد (746).
(2)
رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(73).
(55)
حديث: (تحية البيت الطواف)
.
(لا أصل له)
وجاء بلفظ: (من أتى البيت فليحيه بالطواف).
وقد نصَّ على عدم ثبوت هذا الحديث كثير من العلماء منهم:
(1)
الحافظ الزيلعي في "نصب الراية"(3/ 51) رقم (4171) أشار إلى أنه لا أصل له بقوله: غريب جداً.
(2)
الحافظ ابن حجر في "الدراية"(ص: 192) قال: لم أجده.
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة" قال: لم أره بهذا اللفظ كما نقله عنه "العجلوني في كشف الخفاء"(1/ 354).
(4)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 57).
(5)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 76) رقم (101) قال: ليس بحديث.
(6)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(3/ 73) رقم (1012) قال: لا أعلم له أصلاً، وإن اشتهر على الألسنة، ولا أعلم في السنة القولية أو العملية ما يشهد لمعناه.
التعليق:
قال الحافظ في "الفتح": والذي يظهر من قولهم: (إن تحية المسجد الحرام الطواف) إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالباً وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف.
وقال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: ولا أعلم في السنة القولية أو العملية ما يشهد لمعناه، بل عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد تشمل المسجد الحرام أيضاً، والقول بأن تحية البيت الطواف مخالف للعموم المشار إليه فلا يقبل إلا بعد ثبوتها وهيهات لا سيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا يمكن للداخل إلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام الموسم والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (78)} {الحج: 78} وإن مما ينبغي التنبه له أن هذا الحكم إنما هو بالنسبة لغير المحرم وإلا فالسنة في حقه أن يبدأ بالطواف ثم بالركعتين بعده.
(1)
"الضعيفة"(3/ 73 - 74).
قلت: نعم هذه هي السنة للمحرم أنه إذا أتى البيت يبدأ بالطواف أولاً، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت
…
) الحديث.
(56)
حديث: (تخرج الدابة ومعها عصا موسى عليه السلام، وخاتم سليمان عليه السلام فتخطم الكافر بالخاتم وتجلو وجه المؤمن بالعصا)
.
(ضعيف)
أخرجه أبو داود الطيالسي (ص: 334) رقم (2564)، والترمذي (3416)، وابن ماجه (4066)، وأحمد (7937)، والحاكم (4/ 654) رقم (8559) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي سنده:
1 -
علي بن زيد بن جدعان، ضعيف. كما في "التقريب"(4768).
2 -
أوس بن خالد، مجهول. كما في "التقريب"(579).
وذكره البخاري في الضعفاء، وقال ابن القطان: له عن أبي هريرة رضي الله عنه ثلاثة أحاديث منكرة. "الميزان"(1/ 277) رقم (1044).
والحديث ضعَّفه:
(1)
العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1108)
(1)
.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2413) و"ضعيف الترمذي"(622) و"ضعيف ابن ماجه"(811).
(2)
شيخنا الوادعي رحمه الله في تعليقه على "المستدرك"(4/ 654) رقم (8559).
(3)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق"مسند أحمد"(13/ 321) رقم (7937).
التعليق:
قلت: ظهور دابة الأرض في آخر الزمان علامة على قرب الساعة، وهذه العلامة ثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا
…
بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} {النمل: 82} .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا
…
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} {الأنعام: 158} : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ثم يغمرون - أي يكثرون- فيكم حتى يشتري الرجل البعير فيقول ممن اشتريته فيقول: من الرجل المخطم)
(1)
.
(1)
صححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(2927).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
أما خروج الدابة ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام عن الدابة، وعن صفتها، وعن مكان خروجها، وعن عملها، مظانه في الكتب التي بحثت أشراط الساعة فراجعها إن شئت غير مأمور ولا مجبور.
(57)
حديث: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)
.
(لا يصح)
قلت: قال الحافظ العراقي رحمه الله: رواه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها مختصراً دون قوله: (فإن العرق دساس).
وروى أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أنس رضي الله عنه: (تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس).
وروى أبو موسى المديني في كتابه "تضييع العمر والأيام في اصطناع المعروف إلى اللئام" من حديث ابن عمر رضي الله عنه: (وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس) وكلاهما ضعيف.
"الإحياء وبذيله المغني"(2/ 59).
وذكر ابن الجوزي رحمه الله ألفاظاً متقاربة لهذا الحديث في "العلل المتناهية"(2/ 612 - 615) وقال: هذه الأحاديث لا تصح.
وقال المناوي رحمه الله في "فيض القدير"(2/ 92): وأورده ابن الجوزي بلفظ: (أقل من الدَّين تعش حراً، وأقل من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس) وقال: هذا حديث لا يصح.
وذكر السخاوي رحمه الله في "المقاصد الحسنة"(ص: 186) ألفاظاً كثيرة لهذا الحديث وضعَّفها.
وضعَّف الحديث العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(3401) بلفظ: (تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس) بل قال: موضوع.
وسئل العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله كما في "فتاوى نور على الدرب"، هل هذا حديث صحيح:(تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس؟).
فأجاب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فالحديث المذكور نصَّ أهل العلم على أنه غير صحيح، فليس بمعتمد.
التعليق:
…
قلت: وإن كان هذا الحديث ضعيفاً إلإ أن معناه صحيح فإن العرق دساس، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(تخيروا لنطفكم، فأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم)
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل؟) قال: نعم. قال: (فما لونها؟) قال: حمر. قال: (فهل يكون فيها من
(1)
رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي وصححه الألباني في "الصحيحة"(1067) و"صحيح الجامع"(2928).
أورق؟) قال: إن فيها لورقاً. قال: (فأنى أتاها ذلك؟) قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: (وهذا عسى أن يكون نزعة عرق) متفق عليه.
ومعنى هذا الحديث: أنه ولد لرجل من قبيلة فزارة غلام خالف لونه لون أبيه وأمه فصار في نفس أبيه شك منه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُعَرِّضاً بقذف زوجه، وأخبره بأنه ولد له غلام أسود، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم مراده من تعريضه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقنعه ويزيل وساوسه، فضرب له مثلاً مما يُعرف ويُؤلف، فقال صلى الله عليه وسلم:(هل لك إبل؟) قال: نعم. قال: (فما ألوانها؟) قال: حمر. قال: (فهل فيها من أورق؟) - الأسود الذي لم يخلص سواده وإنما فيه غبره- مخالف لألوانها؟ قال: إن فيها لورقاً فقال: (فمن أين أتاها ذلك اللون المخالف لألوانها؟)، قال الرجل: عسى أن يكون جذبه عرق وأصل من آبائه وأجداده، فقال: فابنك كذلك عسى أن يكون في آبائك وأجدادك من هو أسود فجذبه في لونه، فقنع الرجل بهذا القياس المستقيم، وزال ما في نفسه من الخواطر
(1)
.
قال المناوي
(2)
تحت قوله: (فإن العرق دساس) أي دخَّال-بالتشديد- لأنه ينزع في خفاء ولطف، يُقال دسست الشيء إذا أخفيته وأخملته، ومنه قوله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} {الشمس: 10} أي: أخمل
(1)
" تيسير العلام شرح عمدة الأحكام"(2/ 270).
(2)
"فيض القدير"(3/ 317).
نفسه وأبخس حضها، وقيل معنى: دساس، خفي قليل، وكل من أخفيته وقللته فقد دسسته، والمعنى أن الرجل إذا تزوج في منبت صالح يجيء الولد يشبه أهل الزوجة في العمل والأخلاق ونحوها وعكسه بعكسه.
(58)
حديث: (تزوجوا فقراء يغنكم الله)
.
(لا أصل له)
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الأحاديث "الضعيفة والباطلة" رقم (54): لا أعرفه.
(2)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/ 383)"تفسير سورة النور": وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث (تزوجوا فقراء يغنكم الله) فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه.
(3)
أشار إلى عدم ثبوته السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 108) رقم (162) و (ص: 187) رقم (330).
(4)
قال السيوطي في "الدرر المنتثرة"(165): لا يُعرف.
(5)
قال ابن الديبع في "التمييز"(ص: 58، 31): هذا من كلام العوام.
(6)
قال العامري في "الجد الحثيث"(ص: 77): لا يُعرف.
(7)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(528، 972): لا يُعرف.
(8)
قال البيروتي في "أسنى المطالب"(264): ليس بحديث.
(9)
قال الصعدي في "النوافح العطرة"(521): لا يعرف بهذا اللفظ.
(10)
قال الأزهري في "تحذير المسلمين"(44): يدور على ألسِنة العوام.
وجاء بلفظ: (تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال) رواه البزار وغيره عن عائشة رضي الله عنها. وضعفه العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(3400) و "ضعيف الجامع"(2427).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الذي لا أصل له قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} {النور: 32} .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى، فقال {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وقال ابن أبي حاتم: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى
…
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: التمسوا الغنى في النكاح يقول الله تعالى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} رواه ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف)
(1)
.
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(التمس ولو خاتماً من حديد) متفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله
(2)
.
وقد يقول قائل: كم من شخص قد تزوج ولم يغنه الله تعالى بل أصيب بفقر شديد مدقع، فكيف تجمع بين هذا الواقع، وبين قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} {النور: 32}.
الجواب: لأهل العلم في ذلك أقوال:
(1)
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(3050).
(2)
وانظر "تفسير ابن كثير"(3/ 383).
أحدها: أن ذلك مقيد بالمشيئة بمعنى يغنهم الله من فضله إن شاء، كما قال تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} {التوبة: 28}.
وكما قال تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} {الأنعام: 41} .
الثاني: أن هذا في الغالب، فأغلب من يتزوج يرزقه الله.
الثالث: إن كان المتزوج يريد بتزوجه العفاف فإن الله يغنيه.
الرابع: أن المراد إن هم اتقوا الله وأخذوا بالأسباب التي شرعها الله سبحانه وتعالى لهم.
الخامس: أن المراد بالغنى غنى النفس.
السادس: أن المراد يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا.
السابع: أن رزق الزوج يجتمع مع رزق الزوجة عند الزواج
(1)
.
(1)
وانظر "التسهيل لتأويل التنزيل" تفسير سورة النور (ص: 232 - 233).
(59)
حديث: (تلقين الميت بعد الدفن)
.
(ضعيف جداً)
رواه الطبراني في "الكبير"(7979) من حديث سعيد بن عبد الله الأودي قال شهدت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه وهو في النزع فقال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب عليه، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل يا فلان ابن فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: ارشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما نقعد عند من لقن حجته فيكون الله حجيجه دونهما، قال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فينسبه إلى حواء يا فلان ابن حواء).
قلت: هذا الحديث ضعَّفه جمع من أئمة الحديث:
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(24/ 296) عندما سئل عن مسألة التلقين بعد الموت فقال: فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مما لا يحكم بصحته.
(2)
قال ابن القيم رحمه الله في "الزاد"(1/ 522 - 523) و"الروح"(ص: 12): هذا حديث لا يصح. وقال في "حاشيته على سنن أبي داود" تحت حديث (4781)(باب في تغيير الأسماء): ولكن هذا الحديث -أي حديث التلقين- متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة فضلاً عن أن يُعارض به ما هو أصح منه.
(3)
قال العز بن عبد السلام رحمه الله في "فتاواه"(ص: 96): لم يصح في التلقين شيء وهو بدعة.
(4)
أشار القرطبي في "التذكرة"(ص: 107) إلى تضعيفه.
(5)
قال ابن الصلاح: ليس إسناده بالقائم. "الضعيفة"(2/ 65).
(6)
وقال الحافظ العراقي: منكر. "الإحياء وبذيله المغني "(5/ 175).
(7)
قال الحافظ ابن حجر في "أمالي الأذكار" بعد تخريجه فيما ذكره ابن علان في "الفتوحات الربانية"(4/ 196): حديث غريب وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً. "زاد المعاد"(1/ 523) حاشية.
(8)
قال الهيثمي رحمه الله في "مجمع الزوائد"(3/ 45): رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم.
(9)
قال النووي رحمه الله في "المجموع"(5/ 304): إسناده ضعيف. وقال في "فتاواه"(ص: 54): ضعيف.
(10)
قال السيوطي-رحمه الله في "الدرر المنتثرة"(469): سنده ضعيف.
(11)
قال السخاوي رحمه الله في "المقاصد الحسنة"(346): ضعيف.
(12)
قال ابن الديبع رحمه الله في "التمييز"(ص: 61): ضعَّفه ابن الصلاح ثم النووي وابن القيم والعراقي وابن حجر في بعض تصانيفه.
(13)
قال العجلوني-رحمه الله في "كشف الخفاء"(1016): إسناده ضعيف.
(14)
قال المقبلي-رحمه الله في "المنار"(1/ 277): لا يشك الحديثي بل العاقل أن ألفاظ ذلك الحديث تدل على وضعه.
(15)
قال الصنعاني-رحمه الله في "سبل السلام": قال في "المنار": إن حديث التلقين لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. ثم قال: ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
(16)
أورده الشوكاني-رحمه الله في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"(ص: 242) رقم (190) و"نيل الأوطار"(4/ 109).
(17)
قال الألباني رحمه الله في"الإرواء"(753) و"الضعيفة"(599): ضعيف.
(18)
قال العلامة ابن باز رحمه الله في "مجموع فتاوى ومقالات"(13/ 206): ورد في ذلك - أي في التلقين بعد الدفن - أحاديث موضوعة ليس لها أصل.
(19)
وقالت اللجنة الدائمة فتوى (7408): تلقين الميت بعد الدفن بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاءه الراشدون، ولا بقية الصحابة رضي الله عنهم، والأحاديث الواردة في ذلك غير صحيحة.
(20)
وسئل شيخنا الوادعي رحمه الله كما في "إجابة السائل"(ص: 539) هل ورد حديث في التلقين في القبر؟ فقال: هذا ورد به حديث ضعيف، والحديث موجود في كتاب "الروح" لابن القيم وفي "سبل السلام" للصنعاني.
(21)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في "فتاوى أركان الإسلام"(ص: 404): لا يثبت.
(22)
ضعَّفه الشيخ حمدي السلفي في تحقيقه "المعجم الكبير"(8/ 149).
(23)
ضعَّفه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه "زاد المعاد"(1/ 523).
(24)
ضعَّفه الحلبي في رسالته "القول المبين في ضعف حديث التلقين".
التعليق:
قلت: بعد الكلام على إسناد هذا الحديث وأن أئمة هذا الشأن قد أطبقوا على تضعيفه بقي الكلام على متنه، فقد ذكر الحلبي حفظه الله وجوه نقد متن هذا الحديث في رسالة له قيمة بعنوان "القول المبين في ضعف حديث التلقين".
قال: أولاً: قول أبي أمامة في أوله: (كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا) فهذا الأمر النبوي لو كان صحيحاً ثابتاً لسارع الصحابة رضوان الله عليهم إلى العمل به، والدعوة إليه وبخاصة أن الموت واقعة لا يكاد يخلو منها يوم، ولم ينقل عن أحد منهم بالسند الصحيح أنه فعل ذلك بل المنقول عنهم نقيضه فدل هذا على بطلانه.
ثانياً: أن قوله في الحديث: (يا فلان ابن فلانة) مخالف لواقع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في تسمية الناس ونسبتهم لأبائهم دون أمهاتهم، بل عند البخاري في صحيحه عن ابن عمر مرفوعاً:(إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان).
ثالثاً: قوله: (فإنه يسمعه) مخالف لنصوص شرعية كثيرة، فالصواب عندنا أن الأموات لا يسمعون إلا إذا تولى عنهم الناس، فيسمعون قرع نعالهم ليتهيئوا لسؤال الملكين، وفي المسألة تفصيل أوسع وأعظم تراه مجموعاً في كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات" للعلامة نعمان الألوسي وهو مطبوع بتحقيق شيخنا الألباني وموشى بتعليقاته.
رابعاً: أن قول الملكين: (انطلق ما نقعد عند من قد لقن حجته فيكون الله حجيجه دونهما) مخالف للنصوص الكثيرة المتظافرة وقد ساقها ابن كثير في "تفسيره" في أن الذي يسأل الناس في قبورهم هما الملكان الموكلان بذلك وليس في واحد منهما وأنهما ينطلقان على المسؤول إذا لقن ونحو ذلك.
وليس أيضاً في أي: حديث أن الله سبحانه هو الذي يسأل الأموات في قبورهم إذا لقنوا.
خامساً: والقائلون بهذا الحديث يلزمهم أن يعطلوا عمل هذين الملكين الموكلين.
سادساً: يلزمهم التسوية بين الطائع والعاصي. اهـ.
…
قلت: أما حكم تلقين الميت بعد الدفن، فقد حكم جماعة من العلماء بأنه أمر مبتدع محدث، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء العلماء:
• العز بن عبد السلام رحمه الله قال في "فتاواه"(ص: 427): لا يصح في التلقين شيء وهو بدعة.
• ابن القيم رحمه الله قال في "زاد المعاد"(2/ 522 - 523): ولم يكن -أي النبي صلى الله عليه وسلم يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم.
• الصنعاني رحمه الله قال في "سبل السلام"(2/ 230): ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أن حديث التلقين ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
• الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز (ص: 197 - 198).
• ابن باز رحمه الله قال في "مجموع فتاواه"(13/ 206):
…
بدعة وليس له أصل فلا يلقن بعد الموت وإنما التلقين يكون قبل الموت.
• شيخنا الوادعي رحمه الله قال في "إجابة السائل"(ص: 539) عندما سئل هل ورد حديث في التلقين في القبر؟ فضعَّف الحديث، وقال: فهذا التلقين يكون عند موته، الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بتلقين المحتضر، يقول: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
• شيخنا ابن العثيمين رحمه الله قال في "فتاوى أركان الإسلام"(ص: 404): وأما التقلين بعد الدفن فإنه بدعة لعدم ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن الذي ينبغي أن يفعل ما
رواه أبو داود حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل). وأما القراءة عند القبر وتلقينه فهذا بدعة لا أصل له.
• شيخنا صالح الفوزان -حفظه الله- سئل كما في "المنتقى من فتاواه"(1/ 198) عن تلقين الميت بعد الدفن؟ فقال: هذا ما يسمى بالتلقين ويروى فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز فعله ويجب إنكاره، لأنه بدعة. والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره هو وأصحابه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل، وذلك بان يقال: اللهم اغفر له اللهم ثبته، ولا ينادى الميت ويلقن كما يفعل هؤلاء الجهال.
قلت: وتختلف صيغ تلقين الميت في قبره بعد موته من بلد إلى بلد فعندنا في اليمن مثلا: يقال يا عبد الله يا ابن عبديه إذا جاءك الملكان الموكلان
…
إلخ.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(60)
حديث: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)
.
(لا أصل له)
لقد شاع هذا الحديث وذاع بين كثير من الجهلة وأهل الابتداع، وهو حديث باطل مكذوب موضوع لا أصل له.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى الكبرى"(2/ 433) و"الصغرى"(1/ 319): وما يرويه بعض العامة من أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهو حديث كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة في الدين.
…
وقال رحمه الله في الرد على البكري (1/ 130، 70): وما يرويه بعض العامة (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) كذب موضوع ومن الأحاديث المشينات التي ليس لها زمام ولا خطام. قال الإمام أحمد رحمه الله: للناس أحاديث يتحدثون بها على أبواب دورهم ما سمعنا بشيء منها، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لم نعلم، والقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عليه لأن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر فالله أمرنا به فلو كان قد قال لكنا مأمورين به ولا يجوز أن نقول إن الله أمرنا مالم نعلم أن الله أمر به، فكيف إذا لم يذكره عالم ولا عارف؟ فكيف إذا كان أهل
المعرفة بالحديث يقطعون أنه كذب موضوع، والعلم بذلك علم مُسَلمٌ لأهله، لهم فيه طرق ومعارف يختصون بها.
(1)
(2)
قال الشوكاني رحمه الله في "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"(ص 65) حديث: (توسلوا بجاهي): موضوع، لم يختلف في وضعه اثنان.
(3)
قال الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(22): لا أصل له.
(4)
قال العلامة ابن باز رحمه الله في "التحفة الكريمة"(ص: 37) رقم (15): هذا حديث كذب.
التعليق:
قال العلامة الألباني
(2)
رحمه الله: ومما لا شك فيه أن جاهه صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله عظيم، فقد وصف الله تعالى موسى بقوله {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} {الأحزاب: 69} ومن المعلوم أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى، فهو بلا شك أوجه منه عند ربه سبحانه وتعالى، لكن هذا شيء والتوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم شيء آخر، فلا يليق الخلط بينهما كما يفعل البعض، إذ أن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم يقصد به من يفعله أنه أرجى لقبول دعائه، وهذا أمرلا يمكن معرفته بالعقل إذ أنه من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في إدراكها
(1)
وانظر كذلك "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 318)، و"التوسل والوسيلة" (ص: 252).
(2)
في "الضعيفة"(1/ 76 - 99).
فلا بد فيه من النقل الصحيح الذي تقوم به الحجة، وهذا مما لا سبيل إليه البتة، فإن الأحاديث الواردة في التوسل به صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: صحيح وضعيف، أما الصحيح فلا دليل فيه البتة على المدعي مثل توسلهم به صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم فإنه توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بجاهه ولا بذاته صلى الله عليه وسلم، ولما كان التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن كان بالتالي التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن وغير جائز، ومما يدل على هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما استسقوا في زمن عمر رضي الله عنه توسلوا بعمه صلى الله عليه وسلم العباس، ولم يتوسلوا به صلى الله عليه وسلم وما ذلك إلا لأنهم يعلمون معنى التوسل المشروع وهو ما ذكرناه من التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم ولذلك توسلوا بعده صلى الله عليه وسلم بدعاء عمه لأنه ممكن ومشروع، كذلك لم ينقل أن أحداً من العميان توسل بدعاء ذلك الأعمى، ذلك لأن السر ليس في قول الأعمى: (اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمه
…
) وإنما السر الأكبرفي دعائه صلى الله عليه وسلم له كما يقتضيه وعده صلى الله عليه وسلم إياه بالدعاء له، ويشعر به قوله في دعائه:(اللهم شفعه فيَّ) أي: أقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم أي دعاءه فيَّ (وشفعني فيه) أي أقبل شفاعتي أي دعائي في قبول دعائه صلى الله عليه وسلم فيَّ فموضوع الحديث كله يدور حول الدعاء كما يتضح للقارئ الكريم بهذا الشرح الموجز، فلا علاقة للحديث بالتوسل المبتدع، ولهذا أنكر الامام أبو حنيفة فقال:(أكره أن يسأل الله إلا بالله) كما في "الدر المختار" وغيره من كتب الحنفية.
وأما قول الكوثري في "مقالاته"(ص: 381) وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في أوائل "تاريخ الخطيب" بسند صحيح. فمن مبالغاته بل مغالطاته فإنه يشير بذلك إلى ما أخرجه الخطيب من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال نبأنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول: (إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى)، فهذه رواية ضعيفة بل باطلة، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، ويحتمل أن يكون هو عمرو -بفتح العين- ابن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي وقد ترجمه الخطيب (12/ 226) وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجاً سنة (341 هـ) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول الحال، ويبعد أن يكون هو هذا إذ أن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة (247 هـ) على أكثر الأقوال فبين وفاتيهما نحو مائة سنة ويبعد أن يكون قد أدركه، وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل.
وقد ذكر شيخ الإسلام في "إقتضاء الصراط المستقيم" معنى هذه الرواية ثم أثبت بطلانها فقال (ص: 165): هذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل، فالشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفاً، وقد رأى الشافعي في
الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده؟! ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره. ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف.
وأما القسم الثاني من أحاديث التوسل: فهي أحاديث ضعيفة تدل بظاهرها على التوسل المبتدع فيحسن في هذه المناسبة التحذير منها والتنبيه عليها فمنها: (الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين).
و حديث: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطرا
…
أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له ألف ملك).
وحديث: (لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لما
خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليَّ ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك) فهذه الأحاديث لا يصح منها شيء.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في "مجموع فتاواه"(2/ 345): وعلى هذا نقول: التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يتوسل بالإيمان به واتباعه وهذا جائز في حياته وبعد مماته.
القسم الثاني: أن يتوسل بدعائه أي بأن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فهذا جائز في حياته لا بعد مماته لأنه بعد مماته متعذر.
القسم الثالث: أن يتوسل بجاهه ومنزلته عند الله فهذا لا يجوز لا في حياته ولا بعد مماته لأنه ليس وسيلة إذ أنه لا يوصل الإنسان إلى مقصوده لأنه ليس من عمله.
قلت: هذا كلام أهل العلم والإتقان والحجة والبرهان في كل زمان ومكان.
(61)
حديث: (التوبة تجب ما قبلها)
.
(لا أصل له)
قلت: اشتهر على ألسنة كثير من الناس هذا القول، على أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك بل هو من كلام الناس.
قال العلامة الألباني رحمه الله في الضعيفة (1039): لا أعرف له أصلاً.
التعليق:
قلت: ويُغني عنه حديث: (الإسلام يَجُب ما قبله).
وحديث: (وإن الهجرة تجب ما كان قبلها من الذنوب، والحج يهدم ماكان قبله).
وحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)
(1)
.
وإليك أخي الكريم هذا الكلام الماتع العظيم في مسألة (التائب من الذنب) للإمام ابن القيم
(2)
رحمه الله حيث قال: إن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه، هل
(1)
انظر "الإرواء"(5/ 121 - 124) رقم (1280) و"صحيح الجامع"(2777) و (3008).
(2)
"طريق الهجرتين وباب السعادتين"(ص: 220 - 225).
يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟
فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأُولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محى أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله.
قالوا: ولأَن التوبة هى الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأُولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إِنما هو فى التوبة النصوح.
قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أثر الذنب فى الحال بالإقلاع عنه وفى المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره فى الماضى جملة، ومن أَثره فى الماضى انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده، فلابد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.
قالوا: ولأَنه لو بقى نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت فى الماضى شيئاً، وإِن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأْثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأُولى لضعف عن
تبليغه تلك المنزلة التى وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأْثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأْثير عن إِعادته إلى المنزلة الأولى.
قالوا: وأيضاً فالله سبحانه ربط الجزاء بالأعمال، ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع الله بقلبه إليه أولاً فرجع الله إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً فتاب بها العبد، وتاب الله عليه قبولاً ورضى.
فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله؟
قالوا: وأيضاً فإن التوبة من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين وأعظمها عناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كل شئ، وهى من أحب الطاعات إلى الله سبحانه فإنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت بهذه المثابة فالآتى بها آت بما هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل له مزيد تقدم وعلو درجة، فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل.
قالوا: وأيضاً فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو فى التوبة النصوح الكاملة، وجانب العدل ولهذا كان من جانب العدل آحاد بآحاد وجانب الفضل أرجح من جانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه.
قالوا: وأيضاً فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية، والعبد إذا مرض ثم عوفى وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت، بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، لأنه ربما كان معه فى حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيراً مما كانت وأكمل، وفى مثل هذا قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه
…
وربما صحت الأجسام بالعلل
وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال: أنه يعود خيراً بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضاً بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط فى حصولها، وإن حصل له محبة أُخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإن الله يحب التوابين، ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التى كان
عليها أولاً انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوى الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذى كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن الله قال لداود عليه السلام:(يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود).
وهذا كذب قطعاً، فإن الود يعود بعد التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته، وأيضاً فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبه.
وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ
…
الْوَدُودُ (14)} {البروج: 13 - 14} تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبداً، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يهيج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفاً على ربه- الذى لا إله إلا هو ولا رب له سواه- عكوف المحب الصادق على محبوبه الذى لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبداً.
واحتجوا أيضاً بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف والإشفاق
ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له فى دنياه وآخرته، ولم تكن هذه الأُمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بدون لازمة محال، والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن.
ولهذا قال بعض السلف: لو لم تكن التوبة أحب الأشياءِ إليه لما أصاب بالذنب أكرم الخلق عليه.
وقيل: إن فى بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام: يا داود، كنت تدخل على دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على الملوك.
قالوا: وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
…
(25)} {ص: 25} .
فزاده على المغفرة أمرين: الزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأُمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف.
والثانى: حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأْوى عند الله.
قالوا: ومن تأمل زيادة القرب التى أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد بعد التوبة يعود خيراً مما كان.
قالوا: وأيضاً فإن للعبودية لوازم وأحكاماً وأسراراً وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هى حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول: طريق معبَّد أى مذلل بوطءِ الأقدام.
والذل أنواع: أكملها ذل المحب لمحبوبه.
الثانى: ذل المملوك لمالكه.
الثالث: ذل الجانى بين يدى المنعم عليه المحسن إليه المالك له.
الرابع: ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدى القادر عليها التى هى فى يده وبأمره.
وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له فى أن يجلب له ما ينفعه.
والثانى: ذل له فى أن يدفع عنه ما يضره على الدوام. ويدخل فى هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن.
فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بين يدى ربه مستصحباً لها شاهداً لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.
قالوا: وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضره أَنْ يخلى المطى وحاديها، ويعطى القوس باريها.
فللكثافة أَقوام لها خلقوا
…
وللمحبة أَكباد وأجفان.
قالوا: وأيضاً فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته).
قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه.
ثم إنه عدمها فى أرض دوّية لا أَنيس بها ولا معين ولا من يأْوى له ويرحمه ويحمله ثم إنها مهلكة لا ماءَ بها ولا طعام، فلما أَيس من الحياة بفقدها وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه، فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟
ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى صلى الله عليه وسلم، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادى الخفا وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا فى شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم ولا لجؤوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل.
مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أَنْ يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال، ويوقع الأُمة فى أودية التأْويلات شعاب الاحتمالات والتجويزات، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وهل قدر الرسول حق قدره أو مرسله حق قدره من نسب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه المتأولون له غير تأْويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجى. والحمد لله رب العالمين.
(62)
حديث: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)
.
(ضعيف)
رواه ابن ماجه (750)، والطبراني في "الكبير"(20/ 173) رقم (369)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 375)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 347 - 348) رقم (1379)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 177) رقم (22068)، وعبد الرزاق في "المصنف"(1/ 441 - 442) رقم (1726).
وعلة هذا الحديث: الحارث بن نبهان.
قال شيخنا الوادعي رحمه الله: وهو متفق على ضعفه. اهـ.
وفي بعض طرقه أيضاً: العلاء بن كثير الدمشقي.
قال البيهقي-رحمه الله: منكر الحديث.
وقال ابن المديني-رحمه الله: ضعيف.
وقال أحمد-رحمه الله: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم-رحمه الله: ضعيف الحديث.
"تهذيب التهذيب"(8/ 164) رقم (5473).
وقد نصَّ على عدم ثبوت هذا الحديث جمع من العلماء:
(1)
البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة "(2/ 41) رقم (998).
(2)
البزار، قال: لا أصل له.
"أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " للألباني (1/ 391) حاشية.
(3)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 402 - 403).
(4)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 25).
(5)
المنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 168).
(6)
عبد الحق الإشبيلي قال: لا أصل له.
"أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " للألباني (1/ 391) حاشية.
(7)
الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(3/ 391) سورة النور.
(8)
القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(6/ 12/ 251).
(9)
الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1/ 654) و (13/ 168) و"التلخيص الحبير"(3/ 67) تحت رقم (1309) و (4/ 188) رقم (2088) و"المطالب العالية"(1/ 100، 357).
(10)
العيني في "عمدة القاري"(4/ 325).
(11)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 210) رقم (372).
(12)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 462 - 463) رقم (3601).
(13)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 65).
(14)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 400) رقم (1077).
(15)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص: 106) قم (179).
(16)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 45) رقم (38) و"نيل الأوطار"(2/ 144).
(17)
الصنعاني في "سبل السلام"(1/ 323).
(18)
العلامة الألباني في" أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "(1/ 391) قال: ضعيف لا يحتج به اتفاقاً
(1)
.
(19)
شيخنا الوادعي في "إجابة السائل"(ص: 191).
(20)
مشهور بن حسن في "أخطاء المصلين"(ص: 286).
التعليق:
قال الشوكاني
(2)
رحمه الله:
…
وقد عارض هذين الحديثين الضعيفين حديث أمامة المتقدم وهو متفق عليه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره
…
) رواه أحمد.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2636)، و"ضعيف ابن ماجه"(164)، و "الترغيب والترهيب"(1/ 168) رقم (186)، و "الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب"(2/ 689)، و "إصلاح المساجد" (ص: 110)، و "الأجوبة النافعة" (ص: 114).
(2)
"نيل الأوطار"(2/ 144).
وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخفف مخافة أن تُفتن أمه) متفق عليه.
قلت: وبنى كثير من العوام على هذا الحديث اعتقاد منع الصبيان بيوت الله عز وجل، وقد سُئل الإمام مالك رحمه الله عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب وعرف ذلك ولا يعبث بالمسجد فلا أرى بأساً، وإن كان صغيراً لا يقِرّ فيه ويعبث فلا أحب ذلك.
وقال ابن رشد: المعنى فى هذه المسألة مكشوف لا يفتقر إلى بيان ذلك إذ لا إشكال في إباحة دخول الولد إلى المسجد قال تعالى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} {آل عمران: 37} .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي في الصلاة فيتجوز في الصلاة مخافة أن تفتن أمه، وإلا فالكراهة في دخولهم المسجد إذا كانوا لا يقرون فيه ويعبثون لأن المسجد ليس موضع العبث واللعب وبالله التوفيق. اهـ.
هذا وقد شهدت خطر هذا الحديث الواهي عندما رأيت بعض العامة من الجهلة يطردون الناشئة من بيوت الله محتجين بهذا الحديث وينفرونهم من الدين، على حين تفتح المؤسسات التبشيرية والأندية وأماكن الفساد صدرها وذراعيها لأبناء المسلمين
(1)
.
(1)
انظر "أخطاء المصلين"(ص: 287).
وقال العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: والصحيح عدم جواز إبعاد الصبي عن مكانه في الصف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه)
(2)
.
ولأن فيه اعتداء على حق الصبي، وكسراً لقلبه، وتنفيراً له عن الصلاة، وزرعاً للبغضاء والحقد في قلبه
…
وقال رحمه الله: لا يمنع الصبيان من الصلاة في الصف الأول من المسجد إلا إذا حصل منهم أذيه، أما ما داموا مؤدبين فلا يجوز إخراجهم من الصف الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) رواه أبو داود وغيره.
وهؤلاء سبقوا إلى ما لم يسبقهم إليه أحد، فكانوا أحق به من غيرهم .. الخ
وقد سئلت اللجنة الدائمة (6/ 275) عن حكم دخول الأطفال والمجانين المسجد؟
فقالت: على ولي أمر المجنون منعه من دخول المسجد دفعاً لأذاه عن المسجد والمصلين، والسعي في علاجه، أما الأطفال فلا يمنعون من دخول المسجد مع أولياء أمورهم أو وحدهم إذا كانوا مميزين وهم أبناء سبع سنين فأكثر، ليؤدوا الصلاة مع المسلمين.
(1)
"مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين"(13/ 25 - 26).
(2)
رواه البخاري (911) ومسلم (27، 2117).
(63)
حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات من شئن أدخلن ومن شئن أخرجن)
.
(موضوع)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(8/ 64) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي سنده: موسى بن محمد بن عطاء الدمياطي، وهو ممن اتفقت كلمات الأئمة على تكذيبه واطراح حديثه.
"لسان الميزان"(6/ 165 - 167) و "الضعفاء" للعقيلي (1743).
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" والخطيب في "الجامع" عن أنس رضي الله عنه.
وفي سنده: منصور بن المهاجر وأبو النضر الأبار، لا يعرفان.
وقد نصَّ على عدم ثبوت هذا الحديث جمع من أهل العلم منهم:
(1)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "الأحاديث الموضوعة والباطلة"(56).
(2)
ابن طاهر كما في "المقاصد"(373).
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 211 - 212) رقم (373).
(4)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 66).
(5)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 401) رقم (1078).
(6)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(593) و"ضعيف الجامع"(2666).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فثَمَّ الجنة)
(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الزمها فإن الجنة تحت أقدامها)
(2)
يعني: الأم.
والمراد من الحديثين التواضع لهنَّ وترضِّيهنَّ فإنه يكون سبب لدخول الجنة.
وقال بعض العلماء: المراد أنه يكون في برها وخدمتها كالتراب تحت قدميها، مقدماً لها على هواه، مؤثراً برها على بر كل عباد الله، لتحملها شدائد حمله ورضاعه وتربيته.
(1)
رواه ابن ماجه عن معاوية بن جاهمة وحسنه الألباني رحمه الله في"صحيح الجامع"(1248).
(2)
رواه أحمد والنسائي عن جاهمة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1249) و"الضعيفة"(2/ 59) وجوَّد إسناده المنذري.
(64)
حديث: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)
.
(موضوع)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 323) رقم (10458)، وعبد الله بن أحمد في "الزهد" (ص: 92).
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على بطلان هذا الحديث وأنه لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم:
(1)
شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
.
(2)
ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(ص: 299).
(3)
العراقي في "شرح الألفية". كما نقل عنه السيوطي.
(4)
ابن الجوزي في "الموضوعات". كما نقل عنه المناوي.
(5)
البيهقي. كما نقل عنه المناوي.
(6)
السيوطي في "تدريب الراوي"(ص: 287).
(7)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 487) رقم (3662).
(8)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 218) رقم (384).
(9)
الألباني في "الضعيفة"(1226).
(1)
"مجموع الفتاوى"(11/ 107)، (18/ 123)، و"الكبرى"(5/ 129).
(10)
شيخنا ابن عثيمين في "شرح نزهة النظر"(ص: 51).
التعليق:
قلت: معنى هذا الحديث صحيح، قال المناوي
(1)
: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) بشاهد التجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعو إلى كل خطيئة ظاهرة وباطنة، سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها فيُسكر عاشقها حبها عن علمه بتلك الخطيئة وقبحها، وعن كراهتها واجتنابها، وحبها يوقع في الشبهات، ثم في المكروه ثم في المحرم، وطالما أوقع في الكفر، بل جميع الأمم المكذِّبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوا عن المعاصي التي كانوا يلتمسون بها حب الدنيا حملهم على حبها تكذيبهم، فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، ولا تنسى خطيئة الأبوين فإن سببها حب الخلود، ولا تنسى خطيئة إبليس فإن سببها حب الرياسة، التي هى شر من حب الدنيا، وكفر فرعون وهامان وجنودهما، فحبها هو الذي عمر النار بأهلها، وبغضها هو الذي عمر الجنة بأهلها، ومن ثم قيل الدنيا خمر الشيطان، فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إلا في عسكر الموتى خاسراً نادماً.
…
قلت: وللعلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله بحث نفيس في الكلام على هذا الحديث انظره إن شئت في "الفتح الرباني" من فتاوى الإمام الشوكاني (4/ 1781 - 1819).
(1)
"فيض القدير"(3/ 487)
(65)
حديث: (حب الوطن من الإيمان)
.
(موضوع)
لقد اشتهرت هذه المقولة على ألسِنة كثير من الناس على أنها حديث نبوي شريف، وليست كذلك بل هي من كلام الناس.
وقد بيَّن أهل العلم عدم ثبوت هذه المقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
قال الصاغاني في "الموضوعات"(ص: 47) رقم (81): موضوع.
(2)
قال القاري في "المصنوع"(106): لا أصل له عند الحفاظ.
(3)
قال الزركشي: لم أقف عليه. "الأسرار المرفوعة"(ص: 180).
(4)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(386): لم أقف عليه.
(5)
قال ابن الديبع في "التمييز"(ص: 68): قال شيخنا لم أقف عليه.
(6)
ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 413) رقم (1102) ونقل كلام السخاوي والصاغاني.
(7)
قال العامري في "الجد الحثيث"(125): ليس بحديث.
(8)
قال اللكنوي في "ظفر الأماني"(ص: 269): اشتهر بين الناس قال في مجمع البحار: لا أصل له.
(9)
قال البيروتي في "أسنى المطالب"(551): موضوع.
(10)
قال الصالحي في "الشذرة"(343): لم أقف عليه.
(11)
قال الألباني في "الضعيفة"(1/ 55) رقم (36): موضوع.
(12)
قال شيخنا الوادعي في "المقترح"(ص: 9): هذا حديث قد شاع وذاع ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(13)
قالت "اللجنة الدائمة"(4/ 466): ليس بحديث وإنما هو كلام جرى على ألسنة الناس.
(14)
قال شيخنا ابن عثيمين في "شرح نزهة النظر"(ص: 51): ليس له أصل. وقال في كتاب "العلم": مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
التعليق:
قلت: لكن هل معنى هذا الحديث صحيح؟
الجواب: اختلف أهل العلم في صحة معناه، فقال السخاوي: معناه صحيح.
قال اللكنوي
(1)
معقباً على كلام السخاوي: ونازعه في حكمه بصحة معناه بعضهم بأنه عجيب إذ لا ملازمة بين حب الوطن والإيمان، ويرده قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا
(1)
"ظفر الأماني"(ص: 269 - 270).
مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} {النساء: 66} فإنه دال على حبهم وطنهم مع عدم تلبسهم بالإيمان فإن الضمير للمنافقين، وأجيب عنه بأنه ليس في كلام السخاوي أنه لا يحب الوطن إلا المؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان، ورده على القاري في بعض رسائله بأن هذا الجواب مدخول، وفي النظر الصحيح معلول فإن السخاوي، أراد أنه جاء في القرآن حكاية عن أهل الإيمان {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} {البقرة: 246} فعارضه بقوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية، فدلت الآيتان على أن حب الوطن من خصوصية الإنسان لا من خصوصية أهل الإيمان، فلا يصح أن يكون علامة عليه، ولا يبعد أن يكون مراد السخاوي بقوله: صحيح المعنى أن يقصد بالوطن الجنة فإنها المسكن الأول لآدم أو مكة فإنها أمُّ قرى العالم. اهـ.
وقال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: ومعناه غير مستقيم إذ أن حب الوطن كحب النفس والمال كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه ولا هو من لوازم الايمان، ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون في هذا الحب لا فرق في ذلك بين مؤمنهم وكافرهم؟
(1)
"الضعيفة"(1/ 55).
وقال بعضهم: وأما معناه فهو أن حب الوطن بعض من الإيمان، وهذا لا يستقيم من الناحية الشرعية، لأن حب الوطن أمر طبيعي جِبِلِّي يستوي فيه الفاسق والمؤمن والكافر، ولاعلاقة له بالدين وإلاَّ للزم منه أن يكون سلمان الفارسي الذي أحب البلاد العربية وعلى الأخص المدينة المنورة، ولم يحب فارس الذي ولد فيه هو وأباؤه وأجداده فيها وتربى فيها والتي هي وطنه ومسقط رأسه أن يكون قد نقص جزء من إيمانه.
كما أنه سيلزم أن يكون أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من كفار قريش قد ملكوا جزءاً من الإيمان أو اتصفوا بجزء من الإيمان، لأنهم كانوا يحبون وطنهم مكة، واللازم باطل وكذلك الملزوم.
(66)
حديث: -زيادة لفظة- (ثلاث) في حديث (حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)
.
(لا أصل لها)
قلت: لقد تكلم أهل العلم على هذه الزيادة وهي لفظة (ثلاث) وبيَّنوا أنه لا أصل لها في شيء من طرق الحديث، بل هي مفسدة للمعنى كما لا يخفى، لأن الصلاة ليست من أمور الدنيا.
وهذه الزيادة لم يقف عليها الحفاظ في شيء من كتب السنة كما نصَّوا على ذلك:
(1)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(28/ 31).
(2)
الزركشي في "اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة".
(3)
العراقي في "أماليه" كما نقل عنه المناوي في "فيض القدير".
(4)
الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 116) رقم (1435).
(5)
السيوطي في "الدررالمنتثرة"(ص: 109) رقم (186).
(6)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 489).
(7)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 215) رقم (380).
(8)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 67).
(9)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 405) رقم (1089).
(10)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 124).
(11)
القاري في "المصنوع"(103)، و"الأسرار المرفوعة".
(12)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 117 - 118) رقم (23) كتاب النكاح، و"نيل الأوطار"(1/ 163).
(13)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 122) رقم (548).
(14)
الألباني في "المشكاة"(3/ 1448) رقم (5261).
(15)
شيخنا الوادعي (سماعاً).
التعليق:
وبناءً على هذا فزيادة لفظة (ثلاث) في الحديث غير صحيحة من جهة الرواية ومن جهة الدراية، وإنما أوردها الزمخشري في "الكشاف"، والغزالي في "الإحياء"، وزيادتها تفسد المعنى حيث تكون الصلاة من أمور الدنيا مثل الطيب والنساء.
والحديث الصحيح: (حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)
(1)
. بدون زيادة لفظة (ثلاث).
(1)
رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3124).
قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: لما كانت الصلاة جامعة لفضائل الدنيا والآخرة، خصها بزيادة صفة، وقدم الطيب لإصلاحه النفس، وثنى بالنساء لإماطة أذى النفس بهن، وثلث بالصلاة لأنها تحصل حينئذ صافية عن الشوائب، خالصة عن الشواغل.
فوائد من هذا الحديث:
• مشروعية حب النساء، وأنه لا ينافي مقام النبوة.
• ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوة محبته لله عز وجل حيث لم يؤثر فيه حبَّه للنساء، بل ازداد به القرب من الله تعالى والزلفى.
• أنه يدل على أن محبته للنساء والطيب ليس من جنس المحبة المجردة الشهوية، كسائر عامة الناس، بل لكونه طريقاً لنشر الشريعة التي لا تنقل من طرق الرجال، بل من طرق الأزواج اللآتي يلازمنه في نومه، ويقظته وأكله وشربه، وسائر أحواله التي يكون عليها من حين يدخل بيته إلى أن يخرج منه.
• بيان أن محبة النساء، وسائرملاذ الدنيا إذا لم يؤدّ إلى الإخلال بأداء حقوق العبودية لا يكون نقصاً
(1)
.
(1)
وانظر شرح سنن النسائي المسمى "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى"(28/ 174 - 175) لشيخنا محمد آدم حفظه الله.
(67)
حديث: (حبك الشيء يعمي ويصم)
.
(ضعيف)
رواه أحمد (21694، 27548)، وأبو داود في "السنن"(5130)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(1853)، والطبراني في "الأوسط"(4356)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 212)، والقضاعي في "مسند الشهاب" كما في"فتح الوهاب"(1/ 192) رقم (150) عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي سنده: أبو بكر بن أبي مريم، فإنه كان اختلط مع سوء حفظه.
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على عدم ثبوت هذا الحديث، منهم:
(1)
الحافظ العراقي، قال: إسناده ضعيف؛ كما نقل عنه المناوي في "فيض القدير"(3/ 492، 493).
(2)
الزركشي، قال: روي من طرق في كل منها مقال.
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 216) رقم (381) قال: وقد بالغ الصاغاني وحكم عليه بالوضع.
(4)
ذكره العامري في "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث"(437).
(5)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 232) قال: ذكره ابن الجوزي والصاغاني في "الموضوعات" وهو في "سنن أبي داود" بسند ضعيف، فيه بقية، وابن أبي مريم، وهما ضعيفان وليسا ممن يضع.
(6)
ضعَّفه المعلمي في تعليقه على"الفوائد المجموعة"(ص: 232).
(7)
الألباني في "الضعيفة"(4/ 348) رقم (1868)
(1)
.
(8)
شيخنا الوادعي في تحقيق "تفسير ابن كثير"(1/ 236) قال: الحديث ضعيف من أجل أبي بكر بن أبي مريم مختلط.
(9)
العلامة ابن باز في "التحفة الكريمة"(ص: 31) رقم (10) قال: ضعيف لأن في إسناده أبا بكر ابن أبي مريم، وهو ضعيف.
قلت: وقد جاء هذا الحديث موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه كما في "مسند أحمد"(21694)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 107).
قال السيوطي في "الدرر المنتثرة": وهو أشبه -أي: الوقف- ومال إليه الألباني رحمه الله
(2)
.
وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق "مسند أحمد"(21694): صحيح موقوفاً.
التعليق:
قال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: ولكن معناه صحيح نسأل الله العافية.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2688) و "ضعيف سنن أبي داود"(1097).
(2)
وانظر "الضعيفة"(1168) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 468 - 469).
وقال المناوي
(1)
رحمه الله ": حبك الشيء يعمي ويصم، أي يجعلك أعمى عن عيوب المحبوب، أصم عن سماعها حتى لا تبصر قيبح فعله ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى القبيح منه حسناً وتسمع منه الخنا جميلاً وهذا معنى قول كثير يعمي العين عند النظر إلى مساويه ويصم الأذن عن العذل فيه، أو يعمي ويصم عن الآخرة أو عن طرق الهدى، وفائدته النهي عن حب مالا ينبغي الإغراق في حبه، وهذا الحديث قد عده العسكري من الأمثال، والحب لذة تعمي عن رؤية غير المحبوب وتصمه عن سماع العذل فيه، والمحبة إذا استولت على القلب سلبته عن صفاته وقال القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقال بعضهم:
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
وقال أيضا:
أَصَمَّني الحب إلا عن تسارره فمن رأى حُبَّ حِبٍّ يورث الصمما
وكفَّني الحب إلا عن رعايته
…
والحب يعمي وفيه القتل إن كُتِمَا
(1)
"فيض القدير"(3/ 492 - 493) رقم (3674).
(68)
حديث: (حَثْو التراب في وجوه الجيش القادم من غزوة مؤتة، وقولهم: يا فرار في سبيل الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرار إن شاء الله)
.
(ضعيف)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 98) وابن هشام في "السيرة"(4/ 24 - 25) قال ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال: ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دآبة فقال: (خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه) قال: وجعل الناس يحثُون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسو بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله).
قال ابن كثير
(1)
رحمه الله بعد أن ساق هذا الإسناد: وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة، وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان الذين فروا حين التقى الجمعان وأما بقيتهم فلم يفروا بل نُصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"السيرة النبوية"(3/ 468 - 469).
المسلمين وهو على المنبر بقوله: (ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه) فما كان المسلمون ليسمونهم فرار بعد ذلك وإنما تلقوهم إكراماً وإعظاماً، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك
(1)
.
وقال العلامة الألباني رحمه الله في "الدفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة"(ص: 40) تعليقاً على هذه الحادثة: هذا منكر بل باطل ظاهر البطلان، إذ كيف يُعقل أن يقابل الجيش المنتصر مع قلة عَدَده وعُدَده على جيش الروم المتفوق عليهم في العَدَد والعُدَد أضعافاً مضاعفة، كيف يُعقل أن يقابل هؤلاء من الناس المؤمنين بحثو التراب في وجوههم ورميهم بالفُرّار من الجهاد وهم لم يفروا بل ثبتوا ثبوت الأبطال حتى نصرهم الله وفتح عليهم كما في حديث البخاري (
…
حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم). اهـ.
قلت: وموطن الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى فتح الله عليهم) وفي هذا دلالة على أن النصر والفتح كان حليف المسلمين حين تولى خالد القيادة وتسلم الراية.
(1)
"البداية والنهاية"(4/ 248 - 250).
(69)
حديث: (حجة الجمعة باثنتين وسبعين حجة)
.
(لا أصل له)
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(1/ 65): وأما ما استفاض على ألسِنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة (أي حجة الجمعة) فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين.
وقال العلامة الألباني-رحمه الله في "الضعيفة"(1193): لا أصل له.
قلت: جاء حديث آخر في فضل حجة الجمعة بلفظ: (حجة الجمعة حجة المساكين) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الأحاديث الضعيفة والباطلة"(35).
وقال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 400): رواه القضاعي عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي سنده مقاتل ضعيف. وقال الصاغاني: موضوع.
التعليق:
قلت: ولا يعني ضعف الحديث أن الوقوف بعرفة يوم الجمعة ليس له مزية بل له مزية.
قال العلامة ابن القيم
(1)
رحمه الله: ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة:
(1)
"زاد المعاد"(1/ 60 - 65).
أحدها: اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام.
الثاني: أنه اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.
الثالث: موافقته ليوم وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه.
الخامس: أن يوم الجمعة يوم عيد، ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كره لمن بعرفة صومه، وفي النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة) وفي إسناده نظر، فإن مهدي ابن حرب العبدي ليس بمعروف ومداره عليه، ولكن ثبت في الصحيح من حديث أم الفضل:(أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه).
وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفة بعرفة:
فقالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهذا هو قول الخرقي وغيره.
وقال غيرهم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة فلا يستحب صومه لهم، قال: والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه أنه قال: يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام.
قال شيخنا: وإنما يكون يوم عرفة عيداً في حق أهل عرفة لاجتماعهم فيه بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم، والمقصود أنه إذا اتفق يوم عرفة ويوم جمعة فقد اتفق عيدان معاً.
السادس: أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين وإتمام نعمته عليهم كما ثبت في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب، قال جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا أمير المؤمنين آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيداً قال أي آية قال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} {المائدة: 3}.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم جمعة ونحن واقفون معه بعرفة.
السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر والموقف الأعظم يوم القيامة فإن القيامة تقوم يوم الجمعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس
يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه) ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى لعباده يوماً يجتمعون فيه فيذكرون المبدأ والمعاد والجنة والنار وادخر الله تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة إذ فيه كان المبدأ وفيه المعاد ولهذا كان النبي يقرأ في فجره سورتي السجدة، وهل أتى على الإنسان، لاشتمالهما على ما كان وما يكون في هذا اليوم من خلق آدم وذكر المبدأ والمعاد ودخول الجنة والنار فكان يذكر الأمة في هذا اليوم بما كان فيه وما يكون فهكذا يتذكر الإنسان بأعظم مواقف الدنيا وهو يوم عرفة الموقف الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه ولا يتنصف حتى يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم.
الثامن: أن الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة أكثر منها في سائر الأيام حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل عجل الله عقوبته ولم يمهله وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه بالتجارب وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله واختيار الله سبحانه له من بين سائر الأيام ولا ريب أن للوقفة فيه مزية على غيره.
التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في واد أفيح وينصب لهم منابر من لؤلؤ ومنابر من ذهب ومنابر من
زبرجد وياقوت على كثبان المسك فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم فيرونه عياناً ويكون أسرعهم موافاة أعجلهم رواحاً إلى المسجد وأقربهم منه أقربهم من الإمام فأهل الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة وهو يوم جمعة فإذا وافق يوم عرفة كان له زيادة مزية واختصاص وفضل ليس لغيره.
العاشر: أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية يوم عرفة من أهل الموقف ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء أشهدكم أني قد غفرت لهم وتحصل مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائلاً يسأل خيراً فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب أحدهما قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة والثاني قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاته بهم ملائكته فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور فتزداد قوة إلى قوتها وفرحاً وسروراً وابتهاجاً ورجاءً لفضل ربها وكرمه فبهذه الوجوه وغيرها فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها. اهـ.
(70)
حديث: (حجوا قبل أن لا تحجوا)
.
(موضوع)
…
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 618) رقم (1648)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 556) رقم (8668) عن علي رضي الله عنه مرفوعاً:(حجوا قبل أن لا تحجوا، فكأني أنظر إلى حبشي أصمع أفدع بيده معول يهدمها حجراً حجراً).
وفي سنده: حصين بن عمر الأحمسي.
قال الذهبي: حصين واهٍ.
وقال ابن خراش وغيره: كذَّاب.
وقال ابن حبان: روى الموضوعات عن الأثبات.
"تهذيب التهذيب"(2/ 347) رقم (1449).
قلت: والحديث جاء بلفظ آخر: (حجوا قبل أن لا تحجوا يقعد أعرابها على أذناب أوديتها فلا يصل إلى الحج أحد) وهو حديث باطل.
أخرجه البيهقي في " الكبرى"(4/ 557) رقم (8702) وغيره.
وفي سنده: محمد بن أبي محمد المدني.
قال العقيلي في "الضعفاء"(4/ 135) رقم (1693): محمد بن أبي محمد مجهول بالنقل ولا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.
وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 564) رقم (926): قال العقيلي محمد بن أبي محمد مجهول بالنقل ولا يعرف هذا الحديث إلا به ولا يتابع عليه، ولا يصح في هذا شيء.
ونقل كلام العقيلي كذلك السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 220) رقم (391)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 68)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 418) رقم (1110).
والحديث ضعَّفه:
السيوطي في "الجامع الصغير"، والمناوي في "فيض القدير"(3/ 496) رقم (3683) و (3684).
وحكم على الحديثين العلامة الألباني رحمه الله: بالوضع. كما في "الضعيفة"(543، 544) و"ضعيف الجامع"(2695، 2697).
التعليق:
قلت: ويُغني عنه حديث: (تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)
(1)
.
وحديث: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)
(2)
.
(1)
رواه أحمد عن ابن عباس وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2957).
(2)
رواه أحمد وابن ماجه عن الفضل وحسنه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(6004).
فائدة: لا يستحل البيت الحرام إلا أهله، وأهله هم المسلمون، فإذا استحلوه، فإنه يصيبهم الهلاك، ثم يخرج رجل من أهل الحبشة، يقال له: ذو السويقيتن، فيخرب الكعبة، وينقضها حجراً حجراً، ويسلبها حليتها، ويجردها كسوتها، وذلك في آخر الزمان، حين لا يبقى في الأرض أحد يقول الله الله، ولذلك لا يُعمر البيت بعد هدمه أبداً، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
روى الإمام أحمد في مسنده عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يخبر أبا قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يبايع لرجل بين الركن والمقام ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا يُسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة، فيخربونه خراباً لا يعمر بعدها أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه)
(1)
.
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرب الكعبة ذو السويقيتن من الحبشة، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه: أُصيلع، أُفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله)
(2)
.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرب الكعبة ذو السويقيتن من الحبشة).
وروى الإمام أحمد والبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجراً حجراً)(يعني الكعبة).
(1)
صححه الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(579).
(2)
روه أحمد وصححه أحمد شاكر.
فإن قيل إن هذه الأحاديث تخالف قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} {العنكبوت: 67} .
والله تعالى قد حبس عن مكة الفيل، ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين.
قيل جواباً على ذلك: إن خراب الكعبة يقع في آخر الزمان، قرب قيام الساعة، حين لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله، الله، ولهذا جاء في رواية الإمام أحمد السابقة عن سعيد بن سمعان قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يعمر بعده أبداً، فهو حرم آمن ما لم يستحله أهله). وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها.
وقد حدث القتال في مكة مرات عديدة، وأعظم ذلك ما وقع من القرامطة في القرن الرابع الهجري، حيث قتلوا المسلمين في المطاف، وقلعوا الحجر الأسود، وحملوه إلى بلادهم، ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ومع ذلك لم يكن ما حدث معارضاً للآية الكريمة، لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين المنتسبين إليهم، فهو مطابق لما جاء في رواية الإمام أحمد من أنه لا يستحل البيت الحرام إلا أهله، فوقع ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسيقع ذلك في آخر الزمان، لا يعمر مرة أخرى، حين لا يبقى على ظهر الأرض مسلم
(1)
.
(1)
"أشراط الساعة" ليوسف الوابل (ص: 231 - 235).
(71)
حديث: (حدّ السَّاحر ضربةٌ بالسيف)
.
(ضعيف)
أخرجه الترمذي (1501)، والطبراني في "الكبير"(1665)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 462)، والدارقطني في "سننه"(3/ 114) رقم (112)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 512) رقم (8155)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 234) رقم (16500)، والجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 64 - 65)، وابن الأثير في "أسد الغابة"(1/ 568) رقم (806) عن جندب الخير به مرفوعاً.
وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم المكي.
قال الحافظ في "التقريب"(489): ضعيف الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يُضعف في الحديث، والصحيح عن جندب موقوفاً.
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
البخاري كما نقل عنه المناوي في "فيض القدير"(3/ 498).
(2)
الترمذي في "جامعه"(1501).
(3)
البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 234).
(4)
الذهبي في "الكبائر"(ص: 33) قال: الصحيح أنه من قول جندب رضي الله عنه.
(5)
ابن القيم في "الزاد"(5/ 62) قال: الصحيح أنه موقوف على جندب رضي الله عنه.
(6)
ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(ص: 127) قال: الصحيح وقفه على جندب رضي الله عنه.
(7)
ابن عدي في "الكامل"(1/ 462).
(8)
الحافظ في "الفتح"(10/ 247).
(9)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 498).
(10)
شمس الدين العظيم أبادي في "التعليق المغني على الدارقطني"(3/ 114).
(11)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1446)
(1)
.
(12)
شيخنا الوادعي في تعليقه على"المستدرك"(4/ 512) رقم (8155) قال: إسماعيل بن مسلم ضعيف جداً والحديث لا يصح رفعه.
التعليق:
حكم الساحر في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
: أكثر أهل العلم على قتل الساحر.
وقال بعض العلماء: يُقتل لأجل الكفر.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2699) و"ضعيف سنن الترمذي"(244) و "المشكاة" التحقيق الثاني (3551).
(2)
"السياسة الشرعية"(ص: 151 - 152).
وقال بعضهم: يُقتل لأجل الفساد في الأرض.
لكن الجمهور يرون قتله حداً. اهـ.
وقال ابن القيم
(1)
: (حد الساحر ضربة بالسيف) الصحيح أنه موقوف على جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتله، وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها قتلت مدبَّرة سحرتها، فأنكر عليها عثمان رضي الله عنه إذ فعلته دون أمره، وروي عن عائشة رضي الله عنها أيضاً أنها قتلت مدبَّرة سحرتها، وروي أنها باعتها، ذكره ابن المنذر وغيره.
وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل من سحره من اليهود، فأخذ بهذا الشافعي، وأبو حنيفة رحمهما الله، وأما مالك، وأحمد رحمهما الله فإنهما يقتلانه، ولكن منصوص أحمد، أن ساحر أهل الذمة لا يقتل، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودي حين سحره، ومن قال بقتل ساحرهم يجيب عن هذا بأنه لم يقر، ولم يقم عليه بينة، وبأنه خشي صلى الله عليه وسلم أن يثير على الناس شراً بترك إخراج السحر من البئر، فكيف لو قتله. اهـ.
(1)
"زاد المعاد"(5/ 62 - 63).
(72)
حديث: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذب الله ورسوله)
.
(ضعيف)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 421) رقم (1118) وقال الغرس: خرجه الديلمي في مسند الفردوس عن علي رضي الله عنه مرفوعاً. قال: وإسناده واهٍ، بل قيل: موضوع. اهـ.
و الحديث ضعَّفه العلامة الألباني في "ضعيف الجامع"(2701).
وجاء الحديث بلفظ: (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(18/ 338): هذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية وليس في شيء من كتبهم.
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 119) رقم (180): عزاه ابن حجر لمسند الحسن ابن سفيان عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (أمرنا أن نخاطب الناس على قدرعقولهم) قال: وإسناده ضعيف جداً.
وقال ابن الديبع في التمييز (ص: 35): له طرق منها عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه به وكلها ضعيفه.
وقال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 225) رقم (592): رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً، وفي "اللآلئ" بعد عزوه "لمسند الفردوس" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وفي إسناده ضعيف ومجهول.
وقال المناوي في "فيض القدير"(3/ 500): خبر الحسن بن سفيان عن الحبر ابن عباس يرفعه (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم) سنده كما قال ابن حجر ضعيف جداً.
التعليق:
قلت: والصحيح هو الموقوف على علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية لا يفهمون، وأخرج مسلم في مقدمته عن ابن مسعود رضي الله عنه:(ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لاتبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
(1)
رحمه الله: في هذا الأثر دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة.
ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت محدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم.
(1)
"تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد"(ص: 433 - 434)
قال: وممن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة رضي الله عنه كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. اهـ.
وما ذكر عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك، وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن؟ فهل يقول مالك وغيره من علماء الإسلام: إن آيات الصفات لا تتلى على العوام، وما زال العلماء قديماً وحديثاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم يقرأون آيات الصفات، وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، بل شرط الإيمان هو الإيمان بالله، وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين؟ بل نقول: من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين. ومن وجد في قلبه حرجاً من ذلك فهو من المنافقين، ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم
الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى، فلما رأوا أحاديث الصفات مبطلة لمذهبهم، قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين، لئلا يعلموا ضلالهم، وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك. وفي الأثر دليل على أنه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثهم به، وليس ذلك على الإطلاق، وإن كثيراً من الدين والسنن يجهله الناس، فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه فلا يترك العالم تحديثهم، بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي أحسن.
وقال العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: قوله في أثر علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس) أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ.
قوله: (بما يعرفون) أي: بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقلوهم حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:) إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويداً رويداً حتى تستقر عقولهم، وليس معنى (بما يعرفون) أي: بما يعرفونه من قبل، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل.
قوله: (أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟) الاستفهام للاستنكار، أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك
(1)
"القول المفيد على كتاب التوحيد"(2/ 192 - 193).
إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا: هذا كذب، إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله، فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل.
فإن قيل: هل ندع التحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟ أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن تنقلهم رويداً رويداً حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع مالا تبلغه عقولهم.
ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به، ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها.
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته.
(73)
حديث: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) وفي لفظ: (علمه بحالي يُغني عن سؤالي)
.
(لا أصل له)
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "التوسل والوسيلة"(ص: 55): وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل: سل. قال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) ليس له إسناد معروف وهو باطل. وانظر "مجموع الفتاوى"(8/ 539).
(2)
أشار البغوي رحمه الله في "تفسيره"(5/ 327) سورة الأنبياء إلى ضعفه حيث قال: روي عن كعب الأحبار أن إبراهيم عليه السلام
…
لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل فقال يا إبراهيم: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال جبريل: فسل ربك فقال إبراهيم: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).
(3)
قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة"(1/ 250): قال ابن تيمية: موضوع.
(4)
قال الألباني في "الضعيفة"(21) حديث: لا أصل له، أورده بعضهم من قول إبراهيم الخليل عليه السلام وهو من الإسرائيليات ولا أصل له في المرفوع.
(5)
قال شيخنا ربيع المدخلي -حفظه الله- في تحقيق "التوسل والوسيلة"(ص: 55): الأمر كما قال شيخ الإسلام ليس له إسناد معروف وهو باطل.
(6)
قال الشيخ بكر أبو زيد في "معجم المناهي اللفظية"(ص: 398) بعد إيراده لكلام من تقدم في تضعيفه: وعليه فإذا مررت به في "الورد المصطفى المختار" فاشطب عليه.
والحديث ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 427) رقم (1136)، والمناوي في "فيض القدير"(2/ 370) و (5/ 381).
التعليق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصاً، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله سبحانه فقال {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} {النساء: 32}.
ومدح الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة، ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب، ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقي في النار قال له جبريل:(هل لك من حاجة؟) فقال: أما إليك فلا، قال:(سل)، قال:(حسبي من سؤالي علمه بحالي).
(1)
"مجموع الفتاوى"(8/ 538 - 539).
وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله أما إليك فلا، وقد ثبت في "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:(حسبنا الله ونعم الوكيل) أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} {آل عمران: 173}.
وأما قوله: (حسبي من سؤالي علمه بحالي) فكلامٌ باطل خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له من صلاح الدنيا والآخره، كقولهم:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} {البقرة: 201} .
ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطاً لما خلقه وأمر به؟ والله أعلم وصلى الله على محمد وسلم
(1)
. اهـ.
وقال العلامة الألباني
(2)
رحمه الله: وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنَّف في الحكمة على طريق الصوفية فقال: (وسؤالك منه) يعني الله تعالى (اتهام له). وهذه ضلالة كبرى! فهل كان الأنبياء صلوات الله
(1)
وانظر كذلك "التوسل والوسيله"(ص: 55 - 56).
(2)
"الضعيفة"(1/ 75).
عليهم مُتَّهِمِين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟ فهذا إبراهيم عليه السلام يقول {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} {إبراهيم: 37} إلى آخر الأيات وكلها أدعية، وأدعية الأنبياء في الكتاب والسنة لا تكاد تحصى، والقائل المشار إليه قد غفل عن كون الدعاء الذي هو تضرع والتجاء الى الله تعالى عبادة عظيمة بغض النظر عن ما هية الحاجة المسؤولة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(الدعاء هو العبادة)، ثم تلا قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} {غافر: 60} ذلك لأن الدعاء يظهر عبودية العبد لربه وحاجته إليه ومسكنته بين يديه، فمن رغب عن دعائه، فكأنه رغب عن عبادته سبحانه وتعالى، فلا جرم جاءت الأحاديث متضافرة في الأمر به، والحض عليه حتى قال صلى الله عليه وسلم:(من لا يدع الله يغضب عليه)
(1)
.
قلت: وهو حديث حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله كل شيء حتى الشسع، فإن الله عز وجل إن لم ييسره لم يتيسر)
(2)
.
وبالجملة فهذا الكلام المعزو لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يصدر من مسلم يعرف منزلة الدعاء في الإسلام فكيف يقوله من سمانا المسلمين؟!
(1)
أخرجه الحاكم (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه ابن السني (349) بسند حسن، وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذي (4/ 292) وغيره.
(74)
حديث: (الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)
.
(لا أصل له)
(1)
أورده الغزالي في "الإحياء". وقال مخرجه الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل. "الإحياء وبذيله المغني"(1/ 207).
(2)
قال الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 36): لم يوجد.
(3)
قال السبكي في "طبقات الشافعية"(4/ 145 - 147): لم أجد له إسناداً.
(4)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 423) رقم (1121): قال القاري نقلاً عن المختصر: أنه لم يوجد.
(5)
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 29): قال الفيروزأبادي: لم يوجد.
(6)
قال العلامة الألباني في "الضعيفة"(1/ 60) رقم (4):
…
(الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش) لا أصل له، والمشهور على الألسنة (الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) وهو هو.
وقال في "الثمر المستطاب"(2/ 683): أما الحديث المشهور على الألسنة: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، لا أصل له، وقد أورده الغزالي في "الإحياء" (1/ 136) بلفظ:(الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش) قال مخرجه الحافظ العراقي لم أقف له على أصل.
التعليق:
إن الإسلام لم يمنع الكلام المباح في المسجد، مالم يكن فيه تشويش على المتعبدين، ولكن على أن لا يكون فيه إعراض عن الصلاة أو تشاغل عنها، وقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتكلمون على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الجاهلية فيضحكون ويبتسم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا مشروعية التحديث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل جواز ما فيه ضحك وغيره ما دام مباحاً، عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة، حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم) أخرجه مسلم.
هذا مع ملاحظة أن الأصل في الجلوس في المسجد أن يكون للصلاة والتلاوة والذكر والتفكر، أو تدريس العلم، بشرط عدم رفع الصوت، وعدم التشويش على المصلين والذاكرين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة)
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة)
(2)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً إمامهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة)
(3)
.
ففي هذا الحديث النهي عما يفعله بعض الناس من الحِلق، والجلوس جماعة في المسجد، للحديث في أمر الدنيا، وما جرى لفلان، وما جرى على فلان، فينبغي أن ينزه المسجد من أن يصبح مقهى أومايشبه المقهى
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1001).
(2)
أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح، وانظر "الصحيحة"(1597، 1603).
(3)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والطبراني وانظر "الصحيحة"(1163).
(4)
وانظر "أخطاء المصلين"(ص: 188 - 189).
(75)
حديث: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)
.
(ضعيف)
رواه ابن ماجه (4210)، وأبو يعلى في "مسنده"(4/ 5) رقم (3644)، والخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(1/ 146)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 433) و (8/ 381) وغيرهم عن أنس رضي الله عنه.
وفي سنده: عيسى بن أبي عيسى الحناط متروك كما في "التقريب"(5352).
والحديث ضعَّفه:
الحافظ العراقي. "الإحياء وبذيله المغني "(3/ 249).
والعلامة الألباني في "الضعيفة"(1901)
(1)
.
قلت: وجاء هذا الحديث بلفظ: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) أخرجه أبو داود (4903) وعبد بن حميد في "المنتخب"، والبخاري في "التاريخ"(1/ 1/ 272) رقم (876) عن إبراهيم ابن أبي أسيد عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(2781) و"ضعيف ابن ماجه"(975).
قال البخاري في التاريخ (1/ 1/ 273) رقم (876): لا يصح.
وقال الحافظ كما نقل عنه صاحب "عون المعبود"(13/ 167): جد إبراهيم بن أبي أسيد لا يعرف.
وضعَّف الحديث العلامة الألباني في "الضعيفة"(1902) قال: وفيه جد إبراهيم وهو مجهول لأنه لم يسم.
التعليق:
قلت: الحسد حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} {الفلق: 5} والآيات في ذم الحسد كثيرة.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) متفق عليه عن أنس رضي الله عنه، والآحاديث في ذم الحسد كثيرة.
وأما الإجماع: فإن الأمة مجمعة على تحريم الحسد.
والحسد مرض من أمراض النفوس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، لهذا قيل: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، والحسد ذميم قبيح حيث أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن
يتعوذ من شر الحاسد، كما أمر بالإستعاذة من شر الشيطان قال الله تعالى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} {الفلق: 5}.
والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإن لم يصح الحديث، لكن معناه صحيح.
قال المناوي: الحسد يأكل الحسنات: أي يذهبها ويحرقها ويمحو أثرها (كما تأكل النار الحطب) أي اليابس لأنه يفضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود وشتمه وقد يتلف ماله أو يسعى في سفك دمه وكل ذلك مظالم يقتص منها في الآخرة ويذهب في عوض ذلك حسنات.
(تنبيه) قال الغزالي: الحاسد جمع لنفسه بين عذابين لأن حسده على نعمة الدنيا وكان معذبا بالحسد وما قنع بذلك حتى أضاف إليه عذابا في الآخرة فقصد محسوده فأصاب نفسه وأهدى إليه حسناته فهو صديقه وعدو نفسه وربما كان حسده سبب انتشار فضل محسوده فقد قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب نشر العود
قلت: وقد أحسن من قال:
الحاسد لو قدمت له حذاءه، وأحضرت له طعامه، وناولته شرابه، وألبسته ثيابه، وهيأت له وضوءه، وفرشت له بساطه، وكنست له بيته، فإنك لا تزال عدوه أبداً، لأن سبب العداوة لا زال فيك، وهو فضلك أو
علمك أو أدبك أو مالك أو منصبك، فكيف تطلب الصلح معه وأنت لم تتب من مواهبك؟ والحاسد ينظر متى تتعثر، ويتحرى متى تسقط، ويتمنى متى تهوي.
أحسن أيامه يوم تمرض، أجمل لياليه يوم تفتقر، وأسعد ساعاته يوم تُنْكَب، وأحب وقت لديه يوم يراك مهموماً مغموماً حزيناً منكسراً، وأتعس لحظة عنده إذا اغتنيت، وأفظع خبر عنده إذا علوت، وأشد كارثة لديه إذا ارتقيت، ضحكك بكاءٌ له، وعيدك مأتم له، ونجاحك فشل لديه، ينسى كل شيء عنك إلا الهفوات، ويغفل عن كل أمر فيك إلا الزلات، خطؤك الصغير عنده أثقل من جبل أحد، وذنبك الحقير لديه أثقل من جبل ثهلان، لو كنت أفصح من سحبان، فأنت عنده أعيى من باقل، ولو كنت أسخى من حاتم فأنت لديه أبخل من مادر، ولو كنت أعقل من الشافعي فهو يراك أحمق من هبقنة، الذي يمدحك عنده كذاب، والذي يثني عليك لديه منافق، والذي يذب عنك في مجسله ثقيل حقير، يصدق من يسبك، ويحب من يبغضك، ويقرب من يعاديك، ويساعد من يكرهك ويجافيك، الأبيض في عينك سواد عنده، والنهار في نظرك ليل في نظره، لا تجعله حكماً بينك وبين الآخرين فيحكم عليك قبل سماع الدعوى وحضور البينة، ولا تطلعه على سرك فأكبر همه أن يشاع ويذاع، ويحفظ عليك الزلة ليوم الحاجة، ويسجل عليك الغلطة ليوم الفاقة لا حيلة فيه إلا العزلة عنه، والفرار منه، والاختفاء عن نظره والبعد عن بيته، والانزواء عن مكانه.
أنت الذي أمرضه وأسقمه، أنت الذي أسهره وأضناه، أنت الذي جلب له همه، وحزنه وتعبه ووصبه، وهو الظالم في صورة مظلوم، لكن يكفيك ما هو فيه من غصص، وما يعايشه من آلام، وما يعالجه من أحزان، وما يذوقه من ويلات.
…
ولله در من قال:
ألا قل لمن ظل لي حاسداً
…
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمهِ
…
إذ أنت لم ترضَ لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني
…
وسد عليك وجوه الطلب
وقال أبو العتاهية:
فيا ربِّ إنَّ الناسَ لا ينصفونني
…
فكيف ولو أنصفتُهم ظلموني
وإن كان لي شيءٌ تَصدَّوا لأخذهِ
…
وإن شئتُ أبغي شيئَهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شُكَر عندهم
…
وإن أنا لم أبذُل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبةٌ فكهُوا بها
…
وإن صَحِبتني نعمةٌ حَسَدوني
سأمنعُ قلبي أن يحنَّ إليهمُو
…
وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقد أحسن من قال:
اصبر على حسدِ الحسودِ
…
فإن صبرك قاتلُه
فالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تاكله
(76)
حديث: (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)
.
(ضعيف جداً)
رواه الترمذي (2840)، وابن ماجه (4169)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 60) رقم (56) والقضاعي في "مسند الشهاب" كما في "فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب"(1/ 145) رقم (101) وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وعلة هذا الحديث: إبراهيم بن الفضل المخزومي، أجمعوا على تركه، وقد ضعَّفه كل نقاد الحديث، ولم أر أحداً وثقه.
"تهذيب التهذيب"(1/ 135 - 136) و"المجروحين"(1/ 104).
وقد ضعَّف هذا الحديث:
(1)
الإمام الترمذي في "سننه"(2840).
(2)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 95 - 96) رقم (114).
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 228) رقم (415).
(4)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 72).
(5)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 435) رقم (1159).
(6)
العلامة الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"(506)
(1)
.
التعليق:
قال السيد جمال الدين رحمه الله: يعني أن الحكيم يطلب الحكمة فإذا تفوَّه بها من ليس لها بأهل ثم وقعت إلى أهلها فهو أحق بها من قائلها من غير التفات إلى خساسة من وجدها عنده، أو المعنى أن الناس يتفاوتون في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة واستكشاف الأسرار المرموزة فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك حقائق الآيات ودقائق الأحاديث على من رزق فهماً وأُلهم تحقيقاً كما لا يُنازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها أو كما أن الضالة إذا وجدت مضيعة فلا تترك بل تؤخذ ويتفحص عن صاحبها حتى ترد عليه، كذلك السامع إذا سمع كلاماً لا يفهم معناه ولا يبلغ كنهه فعليه أن لا يضيعه وأن يحمله إلى من هو أفقه منه فلعله يفهم أو يستنبط منه ما لا يفهمه ولا يستنبطه هو، أو كما أنه لا يحل منع صاحب الضالة عنها فإنه أحق بها، كذلك العالم إذا سئل عن معنى لا يحل له كتمانه إذا رأى في السائل استعداداً لفهمه
(2)
.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف سنن ابن ماجه"(912) و"مشكاة المصابيح"(1/ 75) و"ضعيف الجامع" رقم (4301، 4302).
(2)
"تحفة الأحوذي"(7/ 381).
وقال العسكري رحمه الله: الحكيم يطلب الحكمة أبداً وينشدها فهو بمنزلة المضل ناقته يطلبها، ثم أسند عن مبارك بن فضالة قال: خطب الحجاج فقال: إن الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤنة الدنيا، فليته كفانا مؤنة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، قال: يقول الحسن: ضالة المؤمن عند فاسق فليأخذها.
وعن يوسف بن أسباط قال: كنت مع سفيان الثوري وحازم بن خزيمة يخطب، فقال حاز: إن يوماً أسكر الكبار، وأشاب الصغار، ليوم عسير شره مستطير، فقال سفيان: حكمة من جوف خرب. ثم أخرج شريحة يعني ألواحاً فكتبها.
ونحوه: (فرب مبلغ أوعى من سامع)
(1)
.
(1)
"المقاصد الحسنة"(ص: 229).
(77)
حديث: (الحي أفضل من الميت)
.
(ليس بحديث)
وانظر "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث"(ص: 88) رقم (137)، و"كشف الخفاء"(1/ 444) رقم (1158).
التعليق:
قال العجلوني
(1)
رحمه الله: قال النجم: ليس بحديث ولا يصح معناه على الإطلاق، بل إن أريد به الحي إذا تساوى مع الميت في فضله كالإسلام والعلم كان الحي أفضل من الميت بما يكسبه من الأعمال فإن معناه صحيح، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: كان رجلان من يَليٍّ - حي من قضاعة- أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما، وأُخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة، فرأيت المؤخَّر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعه، وكذا وكذا ركعة صلاة سنة)
(2)
.
(1)
"كشف الخفاء"(1/ 444 - 445).
(2)
صححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(372).
وأخرج ابن ماجه وابن حبان من حديث طلحة بنحوه لكنه أطول منه، وزاد في آخره:(وكان بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)
(1)
.
وعند أحمد عن عبد الله بن شداد وأبي يعلى عنه عن طلحة، ورواتهما رواة الصحيح أن نفراً من بني عُذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يكفيهم؟ فقال طلحة: أنا، قال فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانو عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه، ورأيت أولهم آخرهم قال: فدخلني من ذلك فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام، لتسبيحة وتكبيره وتهليله.
وعند أحمد والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال كان رجلان أخوان هلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول منهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم يكن الآخر مسلماً؟) قالو: بلى، وكان لابأس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وما يدريك ما بلغت به صلاته، إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ما ترون ذلك يبقي من درنه؟ فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته)
(2)
.
(1)
صححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(1316).
(2)
صححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(371).
(78)
حديث: (خادم القوم سيدهم)
.
(ضعيف جداً)
…
قال الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(4/ 10) رقم (1502)
(1)
: أخرجه المخلَّص في "قطعة من الفوائد" وابن أبي شريح الأنصاري في جزء "بيبي " وإسناده ضعيف جداً.
وعلته: سلْم بن سالم وهو البلخي الزاهد أجمعوا على ضعفه كما قال الخليلي.
وجاء بلفظ: (سيد القوم خادمهم) وهو ضعيف أيضاً.
وانظر:
(1)
"المقاصد الحسنة"(ص: 293).
(2)
"التمييز"(ص: 91).
(3)
"كشف الخفاء"(1/ 561) رقم (1515).
(4)
"فيض القدير"(4/ 161).
(5)
"أسنى المطالب"(766).
(6)
"الضعيفة"(1502).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(3323، 3324).
التعليق:
قال المناوي رحمه الله تحت حديث: (سيد القوم خادمهم) لأن السيد هو الذي يفزع إليه في النوائب فيتحمل الأثقال عنهم.
قال الشاعر:
إذا اجتمع الإخوان كان أذلُّهم لإخوانه نفساً أبرَّ وأفْضلا
وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه ولكن فضل المرء أن يتفضلا
وقال آخر:
إن أخا الإحسان من يسعى معك
…
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريْبُ الزمانِ صدعكْ
…
شتّت فيك شمْلهُ ليْجمعك
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: فإن الفاضل قد يخدم المفضول، فنقول: اعلم أن منفعة الأعلى للأدنى غير مستنكره فإن (سيد القوم خادمهم) ولكن منفعته يعود إليه ثوابها، وتمام التقرب إلى الله يحصل بنفع خلقه. اهـ.
قلت: يعني أن المعنى صحيح، وإن كان الحديث ضعيفاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(خير الناس أنفعهم للناس)
(2)
.
(1)
"مجموع الفتاوى"(4/ 364)
(2)
أخرجه الطبراني والدارقطني والبيهقي في "الشعب"وابن عساكر والقضاعي عن جابر رضي الله عنه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(3289) و"الصحيحة"(426).
(79)
حديث: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء)
.
(لا أصل له)
هذا الحديث على شهرته في أوساط الناس لا وجود له في دواوين السُّنَّة المطهرة لا بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولا وجود له في كتب الموضوعات التي ألّفَها المتقدمون من علماء الحديث كابن الجوزي والصاغاني وغيرهما من المتقدمين.
وممن نفى وجود هذا الحديث:
(1)
ابن القيم-رحمه الله في "المنار المنيف"(ص: 60 - 61) رقم (91). وقال في "المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول"(ص: 51): وكل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء فهو كذب مختلق. مثل:(يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يورث كذا وكذا)، وحديث:(خذوا شطر دينكم عن الحميراء).
(2)
المزي رحمه الله قال: كل حديث فيه يا حميراء فهو موضوع إلا حديثاً عند النسائي. "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع"(407).
(3)
الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية"(8/ 96) قال: فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء) فإنه ليس
له أصل، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.
(4)
الذهبي رحمه الله كما نقل عنه الحافظ ابن كثير.
(5)
الحافظ رحمه الله في "الفتح "(2/ 515) قال: ولم أرَ في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا، بعد أن ذكر رواية النسائي من طريق أبي سلمة: (دخل الحبشة المسجد يلعبون
…
). وقال رحمه الله: حديث (خذوا شطر دينكم عن الحميراء): لا أعرف له إسناداً، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ولم يذكر من خرجه. "موسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية"(3/ 535).
(6)
الزركشي-رحمه الله في كتابه "الإجابة فيما استدركت عائشة على الصحابة".
(7)
السخاوي رحمه الله في "المقاصد الحسنة"(ص: 237) رقم (432) قال: ذكره في "الفردوس" بغير إسناد وبغير هذا للفظ.
(8)
السيوطي رحمه الله في "الدرر المنتثرة"(ص: 115) رقم (210) قال: لم أقف عليه، كذا في المرقاة.
(9)
ابن الديبع رحمه الله في "التمييز"(ص: 73).
(10)
الزرقاني رحمه الله في "مختصر المقاصد".
(11)
القاري رحمه الله في "الأسرار المرفوعة"، و"المصنوع"(407).
(12)
العجلوني رحمه الله في "كشف الخفاء"(1198).
(13)
البيروتي رحمه الله في "أسنى المطالب"(600).
(14)
الأزهري رحمه الله في "تحذير المسلمين"(440).
(15)
المباركفوري رحمه الله في "تحفة الأحوذي"(10/ 381).
(16)
الفتني رحمه الله في "تذكرة الموضوعات"(ص: 100).
(17)
العامري رحمه الله في "الجد الحثيث"(141).
(18)
الشوكاني رحمه الله في "الفوائد المجموعة"(ص: 355) رقم (139).
(19)
العلامة الألباني رحمه الله في "الإرواء"(1/ 10).
التعليق:
قلت: لا يشك مسلم عاقل في فضل عائشة رضي الله عنها وفي علمها ومكانتها وإن لم يصح هذا الحديث فقد زخرت السنة بأحاديث صحيحة في فضلها من جميع الجوانب.
قال ابن كثير رحمه الله في "السيرة النبوية"(2/ 137): فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة رضي الله عنها في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أحداً من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وروت بعده عنه علماً جماً كثيراً مباركاً فيه. اهـ.
فهي رضي الله عنها بعلمها ودرايتها ساهمت بتصحيح المفاهيم، والتوجيه لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أهل العلم يقصدونها للأخذ من علمها الغزير فأصبحت بذلك نبراساً منيراً يضيئ على أهل العلم وطلابه كما أنها رحمها الله استدركت على الصحابة رضي الله عنهم بعض المسائل كما ذكر ذلك الزركشي في كتابه "الإجابة فيما استدركت عائشة على الصحابة".
تلكم هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالقرآن والحديث والفقه روت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً وقد بلغ مسند عائشة رضي الله عنها (2210) حديثاً.
روى عنها الرواة من الرجال والنساء وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق البريئة المبرأة.
وهي التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
توفيت رضي الله عنها سنة (57) وقيل (58) للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان.
وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلاً ودفنت وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه ونزل قبرها خمسة عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد ابن أبي بكر وعبد الله بن عبد الرحمن.
(80)
حديث: (خير الأمور أوسطها)
.
(ضعيف)
رواه البيهقي في السنن "الكبرى"(3/ 387) رقم (6102).
بسند منقطع.
ونصَّ جمع من أهل العلم على عدم صحة هذا الحديث منهم:
(1)
البيهقي في "السنن الكبرى" قال: منقطع.
(2)
الذهبي في "المهذب" قال: منقطع، كما نقل عنه المناوي في "فيض القدير".
(3)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 245) رقم (455) قال: رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد بسند مجهول عن علي رضي الله عنه مرفوعاً.
(4)
العراقي، قال: معضل. "الإحياء وبذيله المغني "(3/ 225).
(5)
السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 193) و"الجامع الصغير".
(6)
المناوي في "فيض القدير"(2/ 237).
(7)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 76).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 469) رقم (1247).
(9)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 94) رقم (151) قال: هو من كلام مطرف بن عبد الله، ويزيد بن مرة الجعفي.
(10)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 228) رقم (95).
(11)
العلامة الألباني في "ضعيف الجامع"(1252).
التعليق:
قلت: هذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، فإن الوسط محمود في كل شيء والإفراط والتفريط مذمومان في كل شيء.
قال القرطبي
(1)
: تحت قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} {البقرة: 143} وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط: العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً. قال هذا حديث حسن صحيح وفي التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} {القلم: 28} أي: أعدلهم وخيرهم.
قال زهير:
هُمْ وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بُمْعظم
(1)
"الجامع لأحكام القرآن"(1/ 1/ 143 - 144).
وقال آخر:
لا تذهبن في الأمور فرطاً
…
لاتسألن إن سألت شططاً
وكن من الناس جميعاً وسطاً
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثر كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أى هذه الأمة لم تغل غلوالنصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، وفيه عن علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل، وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم.
وقال المناوي
(1)
: (وخير الأمور أوسطها) أي الذي لا ترجيح لأحد جانبيه على الآخر، لأن الوسط العدل الذي نسبته الجوانب كلها إليها سواء فهو خيار الشيء والعدل هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط والآفات إنما تطرق إلى الإفراط والأوساط محمية بأطرافها قال:
كانت هِيَ الوسط المُحَمّي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طَرَفاً
ومالك الوسط محفوظ الغلط، ومتى زاغ عن الوسط حصل الجور الموقع في الضلال عن القصد.
(1)
"فيض القدير"(2/ 237).
(81)
حديث: (خير البر عاجله) وفي لفظ: (خيار البر عاجله)
.
(ليس بحديث)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 461) رقم (1229): ليس بحديث؛ وقال القاري: لا يصح مبناه.
وانظر "المقاصد الحسنة"(ص: 242) رقم (448) و"التمييز"(ص: 75) و"الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث"(ص: 94) رقم (149).
التعليق:
هذا القول وإن لم يثبت حديثاً إلا أن معناه صحيح، وقد رغب الإسلام في المسابقة في فعل الخيرات والمسارعة إليها قال تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {آل عمران: 133}.
وقال الله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {الحديد: 21} .
وقوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} {الأنبياء: 90} .
وقوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} {الواقعة: 10 - 11} .
وقوله تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} {المطَّففين: 26} .
وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} {الجمعة: 9} .
ولقد أسرع موسى للقاء ربه وقال {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} {طه: 84} .
أما نصوص السنة فكثيرة أيضاً منها قوله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم
…
)
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك
…
)
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
واحرص على ما ينفعك واستعن بالله
…
)
(3)
.
ولقد تعلَّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدروس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يتنافسون فيما بينهم في مرضات الله تعالى فحين طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتصدقوا، قال عمر رضي الله عنه: فوافق ذلك عندي مالاً، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله؛ وأتى أبو بكر بكل ماعنده، فقال صلى الله عليه وسلم: يا
(1)
رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه الحاكم والبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1077).
(3)
رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً)
(1)
.
أما المسابقة إلى الدنيا فلم يرغب الإسلام فيها، فالله يقول في الآخرة
…
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} {الجمعة: 9} .
وقال في أمر الدنيا في آخر الآية {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} {الملك: 15} .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (التؤدة خير في كل شيء إلا في عمل الآخرة)
(2)
.
قال المناوي
(3)
في "فيض القدير": أي مستحسن ومحمود إلا في عمل الآخره فإن التؤدة غير محمودة.
وقال الطيبي: معناه أن أمور الدنيا لا يعلم أنها محمودة العواقب حتى يتعجل فيها، ومذمومة حتى يتأخر عنها، بخلاف الأمور الأخروية.
وكان الحسن-رحمه الله-يقول في موعظته: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم الأعمال التي تتقربون بها إلى الله عز و جل، رحم الله امرأ نظر لنفسه وبكى على ذنبه، ثم قرأ هذه الآية {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} {مريم: 84} يعني الأنفاس، آخر العدد خروج نفسك وفراق أهلك.
(1)
رواه الترمذي وغيره عن عمر رضي الله عنه وهو حديث حسن. وانظر "صحيح الترمذي" رقم (2902) و "صحيح أبي داود"(1678).
(2)
رواه أبوداود والحاكم والبيهقي في "الشعب" وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3009)
(3)
"فيض القدير"(3/ 365).
وقال بعض الصلحاء: اغتنم تنفس الأجل، وإمكان العمل، واقتطع ذكر المعاذير والعلل، فإنك في أجل محدود، ونفس معدود، وعمر غير ممدود.
وقال غيره: أعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك، ليوم ليس يعدوك، فيطرحك في حفرة لا يخافك فيها أحد ولا يرجوك.
وكتب رجل إلى بعض إخوانه: أما بعد فإن الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط بينهما، ونحن في أضغاث أحلام والسلام.
وكتب محمد بن يوسف رحمه الله إلى أخ له: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني محذرك من دار منقلبك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك، فتصير في باطن الأرض بعد ظهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا فاقه، ولا بأس ولا وحشة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك يا أخي من سوء مصرع وضيق مضجع، ثم تبلغك صيحة النشور، ونفخة الصور، وقيام الخلائق لفصل القضاء، وامتلأت الأرض بأهلها، والسموات بسكانها، فباحث الأسرار، وسعرت النار، ووضعت الموازين، ونشرت الدواوين، وجيء بالنبيين، والشهداء وقضي بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين.
فكم من مفتضح ومستور، ومعذب ومرحوم، وكم من هالك وناج، فيا ليت شعري ما حالي وحالك يومئذ، فإن في هذا ما هدم اللذات، وسلى عن الشهوات، وقصر من الأمل، وأيقظ النائم، ونبه الغافل، أعاننا الله وإياك على هذا الخطر العظيم، وأوقع الدنيا من قلبك وقلبي موقعها من قلوب المتقين، فإنما نحن له وبه والسلام.
(82)
حديث: (الدعاء سلاح المؤمن)
.
(موضوع)
أخرجه أبو يعلى في "المسند"(435)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 674) رقم (1864)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 372)، والقضاعي في "مسند الشهاب" كما في "فتح الوهاب"(1/ 143) رقم (98) عن علي رضي الله عنه.
والحديث فيه علتان:
الاولى: الانقطاع بين علي بن الحسين وجده علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثانية: محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني كذَّبه بعض الأئمة وتركه آخرون.
…
"ميزان الاعتدال"(7372) و (7382).
وقد حكم على عدم ثبوت هذا الحديث:
(1)
الهيثمي في "المجمع"(10/ 147).
(2)
الألباني في "الضعيفة"(179)
(1)
.
(3)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(1/ 674) رقم (1863).
(4)
الحلبي في تحقيقه للداء والدواء (ص: 10).
(1)
وانظر كذلك"ضعيف الجامع" رقم (3001) و"الترغيب والترهيب"(2/ 671) رقم (2385).
(5)
وصاحب "تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة"رقم (23).
والحديث ذكره الحافظ في "المطالب العالية"(3/ 226) رقم (3331)، والسخاوي في "المقاصد" (ص: 255) رقم (485)، وابن الديبع في التمييز (79)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 485) رقم (1292).
التعليق:
قلت: ومعنى هذا الحديث صحيح وإن كان لا يثبت من الناحية الحديثية.
قال العلامة ابن القيم
(1)
رحمه الله: الدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فليقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)
(2)
.
(1)
"الداء والدواء"(ص: 10 - 12).
(2)
رواه الحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(7739).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء)
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)
(2)
.
وقال المناوي
(3)
: (الدعاء سلاح المؤمن) يعني أنه به يدافع البلاء ويعالجه كما يدافع عدوه بالسلاح.
فنزل الدعاء منزلة السلاح، فالسلاح يضارب به لا بحده فقط فمتى كان السلاح تاماً لا آفة به والساعد قوي والمانع مفقود حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح والداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه، أو كان ثمة مانع من الإجابة لم يحصل التأثير.
(1)
رواه الحاكم وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3409).
(2)
رواه الترمذي والحاكم عن سلمان رضي الله عنه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(7687) والصحيحة (154)
(3)
"فيض القدير"(3/ 722).
(83)
حديث: (الدعاء الذي يقال عند غسل أعضاء الوضوء)
.
(باطل)
…
عن أنس رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه إناء من ماء فقال لي: يا أنس ادنُ مني أعلمك مقادير الوضوء، فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن غسل يديه قال: بسم الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلما استنجى قال: اللهم حصن لي فرجي ويسر لي أمري، فلما أن تمضمض واستنشق قال: اللهم لقني حجتك ولا تحرمني رائحة الجنة، فلما أنْ غَسَلَ وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه، فلما أن غسل ذراعيه قال: اللهم أعطني كتابي بيميني، فلما أن مسح يديه على رأسه قال: اللهم تغشنا برحمتك وجنبنا عذابك، فلما أن غسل قدميه قال: اللهم ثبت قدمي يوم تزل فيه الأقدام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق يا أنس، ما من عبد قالها عند وضوئه لم يقطر من خلل أصابعه قطرة إلا خلق الله منها ملكاً يسبح الله عز وجل سبعين لساناً يكون ثواب ذلك التسبيح له إلى يوم القيامة.
هذا حديث باطل في سنده:
(1)
عبَّاد بن صهيب. قال ابن المديني: ذهب حديثه؛ وقال البخاري والنسائي: متروك؛ وقال ابن حبان: يروي المناكير التي يشهد لها بالوضع.
(2)
…
أحمد بن هاشم. اتهمه الدارقطني.
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على بطلان هذا الحديث منهم:
(1)
ابن الجوزي رحمه الله في "العلل المتناهية"(1/ 338) رقم (554).
(2)
ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف"(ص: 120).
(3)
النووي رحمه الله في "الروضة" كما نقل عنه الحافظ في "التلخيص الحبير".
(4)
ابن حجر رحمه الله في التلخيص الحبير (1/ 100).
(5)
ابن الملقن رحمه الله في "البدر المنير"(2/ 276).
(6)
الفتني رحمه الله في "تذكرة الموضوعات"(ص: 31 - 32).
(7)
ابن عراق رحمه الله في "تنزيه الشريعة"(2/ 70 - 71).
(8)
الشوكاني رحمه الله في "الفوائد المجموعة"(ص: 19) رقم (33).
(9)
الشقيري رحمه الله في "السنن والمبتدعات"(ص: 29 - 30).
(10)
شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله في "إجابة السائل"(ص: 30).
(11)
اللجنة الدائمة للإفتاء (5/ 205).
التعليق:
قلت: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أثناء الوضوء عند غسل الأعضاء أو مسحها، وما ذكر من الأدعية في ذلك مبتدع لا أصل له
(1)
.
وإنما المعروف شرعاً التسمية في أوله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)
(2)
.
والنطق بالشهادتين بعده لما جاء في صحيح مسلم من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)
(3)
. ثم يقول بعد الشهادتين: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 205).
(2)
أخرجه ابن ماجه والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، وصححه الألباني في صحيح "الجامع"(7573).
(3)
والحديث أخرجه كذلك أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وعند الترمذي زيادة صحيحة (اللهم اجعلني من التوابين واجلعني من المتطهرين) صححها الألباني في "إرواءالغليل"(96) وصحيح سنن أبي داود (162).
(84)
حديث: - زيادة - (الدرجة الرفيعة) في الدعاء الذي يُقال بعد الأذان
.
(لا أصل لها)
جاءت هذه الزيادة في الدعاء المسنون الذي يُقال بعد الأذان، وهو ما رواه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة).
فيزيد بعض الناس في هذا الدعاء بعد قوله: (الوسيلة والفضيلة) كلمة
…
(والدرجة الرفيعة) وهي زيادة لا أصل لها.
(1)
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 210): وليس في شيء من طرقه ذكر (الدرجة الرفيعة).
(2)
قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 254) رقم (254): حديث (الدرجة الرفيعة) المدرج فيما يقال بعد الأذان، لم أره في شيء من الروايات.
(3)
قال القاري في "المصنوع"(132): قال السخاوي: لم أره في شيء من الروايات.
(4)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 483) بما قاله السخاوي في "المقاصد".
…
(5)
قال العلامة الألباني في "الثمر المستطاب"(1/ 191): وقد اشتهر على الألسن زيادة: (الدرجة الرفيعة) في هذا الدعاء وهي زيادة لا أصل لها في شيء من الأصول المفيدة. وقد قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة": لم أره في شيء من الروايات. وقال شيخه الحافظ العسقلاني في "التلخيص الحبير": وليس في شيء من طرقه ذكر (الدرجة الرفيعة). نعم ذكرت هذه الزيادة في رواية ابن السني، ولكنني أقطع بأنها مدرجة من بعض النُّساخ لأنها لو كانت ثابتة في النسخ الصحيحة من ابن السني لما خفيت على مثل هذين الحافظين العسقلاني والسخاوي. ويؤيد ذلك أن ابن السني رواها من طريق النسائي كما سبق وليست هذه الزيادة في سننه فثبت أنها مدرجة
(1)
.
…
(6)
أشار شيخنا العلامة محمد بن الشيخ علي بن آدم الإتيوبي في "شرح سنن النسائي"(8/ 169) إلى عدم ثبوتها.
(1)
وانظر كذلك "الإرواء"(1/ 261) و"إصلاح المساجد"(ص: 131).
(7)
قال العلامة بكر أبو زيد في كتابه العظيم "تصحيح الدعاء"(ص: 381 - 382): زيادة (الدرجة الرفيعة) أو (الدرجة العالية الرفيعة) أو (الدرجة العالية الرفيعة في الجنة آمين) أو (يا أرحم الراحمين) لا يثبت شيء من هذه الألفاظ في دعاء الوسيلة.
(8)
قال العلامة ربيع المدخلي في تحقيقه "للتوسل والوسيلة"(ص: 69): كلمة (الدرجة الرفيعة) مدرجة.
(9)
قال القشيري في "السنن والمبتدعات"(ص: 48): زيادة (الدرجة الرفيعة) بدعة.
(10)
أشار القوصي في كتابه "الأذان"(ص: 177): إلى أن زيادة (الدرجة الرفيعة) مدرجة.
(11)
قال مشهور في "أخطاء المصلين"(ص: 183 - 184): زيادة (الدرجة الرفيعة) شاذة لا أصل لها.
(85)
حديث: (الدعاء مخ العبادة)
.
(ضعيف)
رواه الترمذي (3611) عن أنس رضي الله عنه.
وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
قلت: وعبد الله بن لهيعة ضعيف، عند جمهور المحدثين.
وقد نصَّ على ضعف هذا الحديث جمع من العلماء منهم:
(1)
السيوطي في "الجامع الصغير". "فيض القدير"(4256).
(2)
العلامة الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"(669)
(1)
.
(3)
العلامة عبد العزيز بن باز في "التعليقات البازية على كتاب التوحيد"(1/ 22).
(4)
شيخنا ابن عثيمين في "فتاوى نور على الدرب"(2/ 349).
(5)
شيخنا عبد المحسن العباد في شرح "سنن أبي داود".
(6)
الشيخ صالح آل الشيخ في "شرح الأصول الثلاثة"(ملزمة: 21).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(3003)، و"المشكاة"(2231) و"ضعيف الترغيب والترهيب"(1016).
(7)
عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه "فتح المجيد"(ص: 191).
التعليق:
قلت: الحديث بهذا اللفظ لا يصح، والصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم:(الدعاء هو العبادة)
(1)
.
وقد تقدم الكلام عن الدعاء وفضله تحت حديث (الدعاء سلاح المؤمن) والحمد لله.
(1)
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه والبخاري في "الأدب المفرد" وابن المبارك في "الزهد" وابن أبي شيبة والطيالسي وابن حبان والطبراني في "الصغير" والحاكم في "المستدرك" والقضاعي في "مسند الشهاب" وأبو نعيم في "الحلية" والبغوي في "معالم التنزيل" وفي "شرح السنة" والمزي في "تهذيب الكمال" وصححه النووي في "الأذكار" وحسنه السخاوي في "الفتوحات الربانية" و قال ابن حجر في "الفتح": إسناده جيد. وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(3407).
(86)
حديث: (الدين المعاملة)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك إنما هو من كلام الناس.
(1)
قال العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(5/ 11):
…
ويقرأ - أي خطيب المسجد - لهم من ورقتين أحاديث كتبها، أو كُتبت له، وأكثرها ضعيف لا يصح، وكان يعلق على بعضها من ذاكرته، ويرفع بذلك صوته، فذكر جملة متداولة اليوم؛ وهي:(الدين المعاملة) فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبها إليه أكثر من مرة، بل زاد الطين بلة وزعم أنها من مفاخر الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر الإسلام في كلمتين فقط (الدين المعاملة) ولعله اشتبه عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة) ولا أصل لذلك، ولا في الأحاديث الموضوعة. والله المستعان.
(2)
وسئل العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذه المقولة: (الدين المعاملة) هل هي حديث؟ فقال: هي من كلام الناس. (سمعته من بعض أشرطة الشيخ رحمه الله).
(3)
وذكره السدحان في كتابه "تحت المجهر"(ص: 216) و"الخطب المنبرية"(3/ 141).
التعليق:
قلت: الدين المعاملة، الصحيح أنه ليس بحديث وإنما هو من كلام الناس، والإسلام قد أمر أهله بالمعاملة الحسنة مع جميع الخلق، والمعاملات الإنسانية كثيرة ومتنوعة، بل متنامية ومتطورة، وهي متشعبة الاتجاهات، ولذلك لا تخلو يوميات الأفراد في المجتمع من التعامل المتبادل مع الآخرين، وهذه هي سنة الحياة وطبيعة الدنيا، غير أن هذه الحياة يتعكر صفوها ولا يمضي أهلها في تحقيق أهدافهم عند ما تغيب أو تضعف الروح الإنسانية والأخلاق السامية، والأذواق الرفيعة في المعاملات المتبادلة بين بني آدم، حيث يسود الغلو والعلو والغلظة والشدة والجفاء والنفور بدل المعاملة السمحة التي رفع من شأنها الإسلام وجعلها من علامات الإيمان، ومن دعائم الحياة الكريمة في المجتمع المسلم، من تحلى بها فقد نال حظاً وافراً من الإيمان والتدين الصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم:(أفضل الإيمان الصبر والسماحة)
(1)
.
وإذا كان للتدين أشكال وصور تتجلى في سلوكيات الناس، فإن السماحة في المعاملة أعظم صورة يجب أن يكون عليها المسلم الغيور على دينه فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم:(أي الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الحنيفية السمحة)
(2)
.
(1)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن معقل بن يسار رضي الله عنه والبخاري في التاريخ عن عمير الليثي رضي الله عنه، وجاء عن غيرهم وصححه الألباني في "الصحيحة"(1495) و"صحيح الجامع"(1097).
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس وحسنة العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(1090).
ومن العوج الذي أصاب تديننا، أننا لا نرى التدين مهماً في معاملة بعضنا بعضاً، ونكتفي بأشكال وأعمال نحاكم عليها الناس، ونقيمهم ونزنهم بها، وإن لم ينتقل تديننا إلى معاملاتنا في أسواقنا ووسائل نقلنا ومقاعد دراستنا ومجالس مساجدنا وإدارتنا، فإن الدين المعاملة يبقى في واد ونحن في وادٍ آخر لا يلتقيان إلا تظاهراً ورياءً ونفاقاً اجتماعياً لا يرضاه لنا الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إلا من رحم الله-، وهو الذي دعا بالرحمة والنعمة للعبد السمح السهل، عندما ضرب مثلاً للمعاملة الحسنة في أربعة أشياء فقال:(رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).
وفي رواية: (وإذا قضى) رواه البخاري وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه.
فهذه مواضع أربعة ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في سياق واحد.
ونصوص القرآن والسنة كثيرة في الحث على السماحة في المعاملات مع الإنسان مسلماً كان أو غير مسلم، حياً أو ميتاً، بل وحتى مع عالم الحيوان والنبات والجماد.
وقد بنى الإسلام المعاملة الحسنة على أسس وقيم نفيسة تدور حول خُلُقي الرحمة واللين، إذا لم يوطن الأفراد أنفسهم على التحلي بها بالمجاهدة والممارسة والمحاولة، لن يرى المجتمع مظاهر المعاملة الطيبة بين أفراده، ولن تسود فيه معاني الطمأنينة والسلامة والراحة التي تمتد إلى يوم القيامة كجزاء للراحمين والراحمات يقول صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة
بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالسماحة درس للمسلمين المتدينين الذين يصرون على تقديم صورة مشوهة للدين من خلال معاملاتهم التي تخالف الدين الحكيم والشرع القويم، والمعاملة الحسنة التي تحلى بها أسلافنا فدخل الناس في دين الله أفواجاً بمعاملتهم الحسنة قال صلى الله عليه وسلم:(المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجمل الأنف، إن قِيدَ انقاد، وإذ أنيخ على صخرة استناخ)
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يألف، ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم للناس)
(3)
.
لقد آن لنا أن نذم نظرياً وعملياً سلوكيات التنافر، والتباغض، والغش، والتدليس، والخداع، والغلظة، والتعسف، وأن نشيع نظرياً وعملياً معاملات طيب النفس، وانشراح الصدر، ولين الجانب، وطلاقة الوجه، وسهولة التعامل، والتيسير والتواضع والصدق.
(1)
رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما وحسنه الألباني في "الصحيحة"(936) و"صحيح الجامع"(6669).
(2)
رواه الدارقطني عن جابر رضي الله عنه وحسنه الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"(6662).
(3)
رواه القضاعي وغيره عن جابر رضي الله عنه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(3289).
ولو لم يكن من فضلٍ للسماحة بالنسبة للمؤمن بالله واليوم الآخر إلا النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة، وفضلاً عن المصالح الدينية والدنيوية للسماحة لكفته لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار)
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غداً على كل لين قريب سهل)
(2)
.
فمن كان يؤمن بالمصلحة الدنيوية فقط ففي السماحة والمعاملة الحسنة تحقيق لأهدافه كما يشهد الواقع الاجتماعي، ومن كان يؤمن بالمصلحة الدينية فقط ففي السماحة والمعاملة الحسنة تحقيق لأهدافه بشهادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بخيري الدنيا والآخرة فعليه بالسماحة والمعاملة الحسنة ففيها تحقيق المسلم الإنسان الذي اتخذ من قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} {البقرة: 30}. وقوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} {البقرة: 201} شعاراً له في الحياة.
(1)
رواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(6484).
(2)
رواه أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه والترمذي والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه وابن حبان والإمام أحمد وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(2609) و "الصحيحة"(938).
(87)
حديث: (
…
رأس الحكمة مخافة الله
…
).
(ضعيف)
رواه البيهقي في "الدلائل"(5/ 242)، والعسكري في "الأمثال"، والديلمي في "مسنده" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. والقضاعي في "مسند الشهاب" مع "فتح الوهاب"(1/ 119) رقم (78) عن خالد بن زيد الجهني عن أبيه عن جده.
والحكيم الترمذي من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرجنا إلى غزوة تبوك، وذكر حديثاً طويلاً فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، والخمر جماع الإثم
…
).
ورواه البيهقي في "الشعب"(1/ 470 - 471) رقم (744) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قلت: جميع طرق الحديث لا تخلو من ضعف.
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على ضعف هذا الحديث منهم:
(1)
البيهقي في "الشعب"(1/ 470) رقم (743).
(2)
العراقي. "الإحياء" وبذيله "المغني"(4/ 220).
(3)
ابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 13) قال: هذا حديث غريب وفيه نكارة وفي إسناده ضعف.
(4)
الذهبي في "ميزان الاعتدال"(2/ 506).
(5)
المناوي في "فيض القدير"(3/ 769).
(6)
والبيروتي في "أسنى المطالب"(693).
(7)
الألباني في "الضعيفة"(2059) و"ضعيف الجامع"(3066).
وهذا الحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 225)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 265) رقم (507)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 82)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 507) رقم (1350)، والبيروتي في "أسنى المطالب" (ص: 149) رقم (693).
التعليق:
قلت: وقد صح الحديث موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه كما عند البيهقي وابن أبي شيبة وغيرهما. ولا شك أن رأس الحكمة هو الخوف من الله جل وعلا، فالخوف من الله من سمات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن سمات صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم خير القرون، ومن سمات الصالحين الأبرار، والعلماء الأخيار. الخوف الذي يحملك على أداء ما أوجب الله عليك، واجتناب ما نهاك الله عنه.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسط عن فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محموداً فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضاً أو موتاً وهماً لازماً، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله لم يكن محموداً.
وقال بعض العلماء: الخوف له قصور، وله إفراط، وله اعتدال، والمحمود منه هو الاعتدال والوسط.
فأما القاصر منه: فهو الذي يجري مجرى رقة النساء، يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء وتفيض الدموع، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب إلى الفضيلة فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع.
وأما المفرط: فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حتى يخرج إلى اليأس والقنوط وهو مذموم أيضاً لأنه يمنع من العمل.
وأما خوف الاعتدال: فهو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات.
وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفاً.
قال بعض الحكماء: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
فالخوف يحرق الشهوات المحرمة، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الخشوع والذل والاستكانة ومفارقة الكبر والحقد والحسد. اهـ.
(88)
حديث: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)
.
(لا أصل له)
قلت: هذا الحديث ذكره الغزالي في "الإحياء"(1/ 373) بدون سند.
(1)
قال الشقيري في "السنن والمبتدعات"(ص: 294): حديث (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره في "الإحياء" من قول أنس رضي الله عنه بلفظ: (رب تالٍ
…
). اهـ.
(2)
سئل العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذا الحديث، في "مجموع فتاوى ومقالات" (26/ 61): أرجو أن تتفضلوا بشرح الجمل التالية: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) كيف يلعن القرآن قارئه ولماذا؟ فأجاب رحمه الله: لا أعلم صحة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى تفسيره، ولو صح لكان المعنى أن في القرآن ما يقتضي ذمه ولعنه لكونه يقرأ القرآن وهو يخالف أوامره أو يرتكب نواهيه فهو يقرأ كتاب الله، وفي كتاب الله ما يقتضي سبه وسب أمثاله لأنهم خالفوا الأوامر وارتكبوا النواهي، هذا هو الأقرب في معناه إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا أعلم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
وسئل شيخنا العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- عن هذا الحديث: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) هل هذا الحديث صحيح، وما معناه؟ قال شيخنا -حفظه الله-: الذي أعرفه أن هذا من كلام السلف، ومعناه أنه لا يمتثل ما نهى عنه القرآن أو أمر به. فمثلاً القرآن نهى عن الكذب وهو يكذب والله تعالى يقول {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} {آل عمران: 61}، القرآن قال الله فيه {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} {الأعراف: 44}. وهو يظلم
…
"فتاوى الفوزان"(10498).
التعليق:
قلت: هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه من كلام بعض السلف ومعناه أن الإنسان إذا تلى القرآن ولا يرعوي إلى الشيء منه فإنه من شرار الناس، فإن الرجل يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، ويلعن نفسه فيه، يقرأ ألا لعنة الله على الظالمين وهو يظلم فيلعن نفسه، ويقرأ لعنة الله على الكاذبين وهو يكذب، فيلعنه القرآن، ويلعن نفسه في تلاوته، ويمر بالآية فيها ذم الصفة القبيحة وهو موصوف بها، فلا ينتهي عنها، ويمر بالآية فيها حمد الصفة الحسنة فلا يعمل بها ولا يتصف بها، فيكون القرآن حجة عليه لا له، قال صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه (القرآن حجة لك أو عليك).
(89)
حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)
.
(ضعيف)
أخرجه الخطيب في "تاريخه"(13/ 493)، والبيهقي في "الزهد" (ص: 165) رقم (373) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: (قدمتم خير مقدم، من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه).
(1)
قال البيهقي رحمه الله: وهذا إسناد فيه ضعف.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(11/ 197): أما الحديث الذي يرويه بعضهم في غزوة تبوك (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله
(1)
.
(3)
قال العراقي رحمه الله حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) رواه البيهقي في "الزهد" من حديث جابر رضي الله عنه وهذا إسناد ضعيف. "الإحياء" وبذيله "المغني"(3/ 9).
(1)
وانظر كذلك "الأحاديث الضعيفة والباطلة" لابن تيمية (ص: 53) رقم (84).
(4)
نقل السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص: 124) رقم (245) عن الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه قال في كتاب "تسديد القوس" في كلامه على هذا الحديث: وهو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة في "الكنى للنسائي".
…
(5)
قال الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 191): ضعيف.
(6)
قال المناوي في "فيض القدير"(4/ 669) بعد أن أورد الحديث: رواه البيهقي في كتاب "الزهد"، وقال: إسناده ضعيف؛ وتبعه العراقي.
(7)
وضعَّفه العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 511) رقم (1362).
(8)
والبيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 200) رقم (989).
(9)
والصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 224) رقم (1225).
(10)
وقال العلامة الألباني في "الضعيفة" رقم (2460) و"ضعيف الجامع"(4080): منكر.
(11)
وضعَّفه العلامة ابن باز في "التحفة الكريمة"(ص: 29 - 30) رقم (9).
(12)
واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 435).
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث ضعيف، ومعناه كذلك لا يصح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
رحمه الله: وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الانسان، قال الله تعالى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} {النساء: 95}.
وقال تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} {التوبة: 19 - 22} .
وثبت فى صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد فى سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"مجموع الفتاوى"(11/ 197 - 199).
ولكن إذا قضيت الصلاة سألته، فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ
…
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد فى سبيل الله)، قال: حدثنى بهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادنى.
وفى الصحيحين عنه أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله وجهاد فى سبيله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور).
وفى الصحيحين: أن رجلاً قال له يا رسول الله: أخبرنى بعمل يعدل الجهاد فى سبيل الله؟ قال: (لا تستطيعه أو لا تطيقه) قال: فأخبرنى به؟ قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر؟). اهـ.
قلت: لا شك أن الجهاد في سبيل الله من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الانسان، ولكن لما تعسَّر الجهاد بالنفس في هذا الزمان، أحببت أن أذكِّر المحبين للجهاد بأنواع أخرى من الجهاد
(1)
جاء بها القرآن والسنة لا تَقِلّ عن الجهاد بالنفس، منها:
(1)
الجهاد بالمال: بإنفاقه في سبيل الله فهو قرين للجهاد بالنفس كما ذكر الله تعالى في مواضع كثيرة في كتابه الكريم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(1)
أشار إلى هذا الموضوع فضيلة الشيخ سالم بن سعد الطويل حفظه الله في مقال له.
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
…
تَعْلَمُونَ (11)} {الصَّف: 10 - 11} .
والآيات كثيرة معلومة والأكثر تقديم الجهاد بالنفس.
(2)
جهاد النفس والهوى: عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه في الله)
(1)
.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه)
(2)
.
(3)
جهاد الشيطان: إن أعدى أعداء بني آدم الشيطان الرجيم قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} {فاطر: 6} .
وقال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} {البقرة: 168} .
فأمر الله تعالى أن يتخذوه عدواً، والعدو لا بد من جهاده، والحذر من كيده وخطواته وتزيينه وزخرفته وحباله وشباكه ودعوته.
(1)
رواه الترمذي وابن حبان وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(6555).
(2)
رواه ابن النجار وغيره وصححه الألباني في "الصحيحة"(1496) و "صحيح الجامع"(1099)
ولقد كتب ابن القيم -رحمه الله تعالى- كتاباً كبيراً نافعاً سماه "إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان" بين فيه ما فعله الشيطان في الناس، وما زال يفعله، وكتب ابن الجوزي في الباب نفسه كتاباً سماه "تلبيس إبليس" والمقصود أن جهاد الشيطان من أعظم الجهاد المفروض على كل مسلم.
(4)
جهاد المنافقين: قال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} {التوبة: 73} .
ولما كان المنافق يظهر الإسلام ويبطن الشرك، ويظهر الخير ويبطن الشر، فلا يمكن جهاده بالقتال كما يُجَاهد الكافر وذلك لأنه بظاهره يستحق أن يعامل معاملة المسلمين، لكن له علامات يُعرف بها، وجهاد المنافقين يكون بمناقشتهم وإقامة الحجة عليهم وبيان باطلهم والتحذير منهم، وجهاد النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين مشهور ومعلوم.
(5)
جهاد أهل البدع والأهواء: البدعة قرينة الشرك وخطرها عظيم وخطر المبتدع لا يقل عن خطر الكفار، وإذا كان المشرك ينقض شهادة أن لا إله إلا الله فالمبتدع ينقض شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قلما يسلم المبتدع من التلبس بالشرك وربما يكون الابتداع في الدين من جنس الشرك لقوله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} {الشُّورى: 21}.
ويكون جهاد أهل البدع ببيان السُّنَّة وتقريريها ونشرها والرد على بدعهم وضلالاتهم وتفنيد شبههم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الراد على أهل البدع مجاهد.
وقال يحيى بن يحيى رحمه الله: الذَّب عن السنة أفضل من الجهاد.
(6)
جهاد المشركين الذين ينتسبون إلى الإسلام: أعني بهم أولئك الذين يعبدون الأولياء والصالحين فهم وإن كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله إلا أنهم ينقضونها صباح مساء، فيدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله قال تعالى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} {الزُّمر: 45}.
وجهاد هؤلاء يكون بالتمسك بالتوحيد ونبذ الشرك وأهله، وبيان بطلان عبادة الأولياء والصالحين، وبيان شركهم وكشف حقيقتهم والحكم عليهم بما يناسبهم، وتعليم جاهلهم، ودحض عالمهم، وهذه الفئة كبيرة جداً اليوم في بلاد المسلمين ومنتشرة فلا بد من الجهاد ببيان حقيقة التوحيد وفضله وشروطه ونواقضه ومنقصاته، ولابد من الجهاد ببيان الشرك ومعناه وأنواعه، ولابد من التحذير منه، وهذا أيضاً من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.
(7)
جهاد المفسدين في الأرض: المفسدون في بلادنا وفي بلاد المسلمين كثيرون لا كثَّرهم الله قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} {المائدة: 33} . هؤلاء يقطعون الطرق ويروعون الآمنين، ويسفكون دماءهم، ويأكلون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، وينشرون الفساد، ويأمرون بالفواحش، ويأتون بالمنكر إلى بلاد المسلمين، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} {النور: 19}. فكيف لا تكون محاربة تجار المخدارت والمسكرات من الجهاد في سبيل الله؟
(8)
من الجهاد في سبيل الله كلمة حق عند سلطان جائر: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)
(1)
.
قالت اللجنة الدائمة
(2)
: معناه أن إبلاغ السلطان الظالم الحق بالمشافهة أو الكتابة ونحوهما أفضل أنواع الجهاد، قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": لأن ظلم السلطان يسري إلى جم غفير، فإذا كفه فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل الكافر. اهـ.
وهو من مناصحة ولاة الأمور في كل زمان لمن قدر عليه، مع العلم والحلم والصبر. اهـ.
(1)
رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع (1100).
(2)
فتوى رقم (8502).
(9)
جهاد المرتدين: وهذا الذي حاز فضله أبو بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة ولولا الله تعالى ثبتهم في جهادهم للمرتدين لما وصل إلينا الإسلام فهو جهاد عظيم أيضاً.
(10)
الجهاد ببر الوالدين: بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله الذي هو "القتال" فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) متفق عليه.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله. قال: فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: فارجع إلى والديك وأحسن صحبتهما) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم وفي رواية لهما:(جاء رجل يستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
(11)
الحج جهاد الضعيف والمرأة: حتى للمرأة جهاد سوى القتال كما روى البخاري في صحيحه لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: (لكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان وإني ضعيف، فقال: هلمَّ إلى جهادٍ لا شوكة فيه الحج)
(1)
.
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" وعبد الرزاق وصححه الألباني في "الترغيب والترهيب"(1098).
(12)
السعي على الأرملة والمسكين: ياليت الذين يسفكون دماء الأبرياء وورطوا المسلمين بالحروب الخاسرة مع الكفار، ياليتهم اجتهدوا بأموالهم وجهدهم على الأرامل والمساكين وما أكثرهم في بلاد المسلمين، فإن هذا كالجهاد في سبيل الله لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) متفق عليه.
(13)
تعلم العلم وتعليمه: قال شيخنا ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: لا يجوز السبق (أي: الرهان) إلا في ثلاثة أشياء: الإبل، والخيل، والسهام، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله قال: ويجوز أيضاً في طلب العلم؛ لأن العلم من أنواع الجهاد، وقد جعله الله قسيماً للجهاد في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} {التوبة: 122} والصحيح ما قاله شيخ الإسلام.
(1)
"الشرح الممتع" باب أهل الزكاة (6/ 142).
(90)
حديث: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)
.
(ليس بحديث)
هذا الكلام شائع على ألسِنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه ليس بحديث لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولم أجده في كتب السنة النبوية المطهرة على صاحبها وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام؛ لا في الأمهات الست، ولا في المسانيد ولا المعاجم والأجزاء، بل لم أجده حتى في الكتب التي اعتنت بجمع الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس "كاللآلئ المصنوعة"، و"المقاصد الحسنة"، و"الدرر المنتثرة"، و"كشف الخفاء" وغيرها من الكتب التي تكلمت في هذا الموضوع، بل حتى لم أعثر عليه في المؤلفات التي جمع أصحابها ومصنفوها الأحاديث الموضوعة ليحذِّروا الناس منها ومن الاعتقاد بها، وبأنها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ليست كذلك، "كالموضوعات" لابن الجوزي و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" لابن عراق، و"تذكرة الموضوعات" لابن طاهر الهندي و"الفوائد المجموعة" للشوكاني وغيرهم ممن ألَّف في الموضوعات مرتباً على الأبواب أو حروف المعجم كالسمهودي والقاري والأزهري وغيرهم، ولم أعثر عليه في كتب علمائنا المعاصرين ككتب العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أوكتب شيخنا العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله هذا والله وحده أعلم.
وقد سئل شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في "فتاوى نور على الدرب" عن صحة هذا الحديث (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه) هل له أصل وهل هو وارد في الأحاديث؟
فأجاب رحمه الله: لا أعلم له أصلا لكن معناه صحيح.
التعليق:
تبين لك أخي القارئ الكريم: أن هذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه بلغه أن ابنه اشترى خاتماً بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتما من حديد بدرهم، واكتب عليه (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه)
(1)
.
قلت: وإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تُهان، وجنَّبها مواطن الذل والهوان، وذلك بأن لا يحمِّلها ما لا تطيق، أو يضعها فيما لا يليق.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: إذا عرف الإنسان قدر نفسه خضع لربه، وقام بعبادته، وعرف أنه لا غنى له عن ربه طرفة عين، وإذا عرف نفسه عرف قدره بين الناس، فتحمله هذه المعرفة على أن لا يتكبر
(1)
"الجامع لأحكام القرآن"(10/ 81).
عليهم، ولا يحتقرهم، لأن الكبرياء من كبائر الذنوب، وغمط الناس من الأمور المحرمة، ولهذا لما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبر، قالوا يا رسول الله كلنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)
(1)
فبطر الحق يعني رده وغمط الناس يعني احتقارهم وازدراءهم، فإذا عرف الإنسان قدر نفسه عرف منزلته بين الناس، ونزل نفسه منزلتها فتواضع لخلق الله عز وجل، ومن تواضع لله رفعه الله.
(1)
رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(91)
حديث: (رحم الله قبراً لا يُعرف)
.
(ليس بحديث)
هذا حديث لا يُعرف وإن كان اشتهر على ألسِنة العوام على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه ليس بحديث، ولم أقف له على مرجع.
التعليق:
تبين مما تقدم أن هذا الكلام ليس بحديث، ومعناه كذلك ليس بصحيح، فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم معروف وكذلك قبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والقبور إذا لم تُعرف تُداس وتُهان، وعليه فإن تعليم القبر مشروع من أجل ألا يخفى موضعه وليُعلم أنه قبر لميت فيُصان ولا يُهان، ويُزار ويترحم على صاحبهُ وهذا لا شك فيه نفع للميت المقبور فكان مستحباً، لحديث المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدُفِن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه، قال: المطلب قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما فوضعها عند رأسه، وقال:(أتعلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)
(1)
.
(1)
رواه أبو داود وحسنه الألباني في "أحكام الجنائز"(ص: 197).
وفي هذا دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم قبر عثمان رضي الله عنه وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم يفيد الاستحباب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك كما جاء في الحديث أنه أمر رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله ثم فعله هو مما يدل على تأكد هذا العمل وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم عمله هذا بأنه يتعرف فيه على قبر أخيه وذلك ليزوره ويسلم عليه ولأجل أن يدفن إليه من مات بعده من أهله صلى الله عليه وسلم.
والطريقة الشرعية لإعلام القبر:
أن يكون بوضع حجر شاخص عند رأس القبر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه وهذا هو قول أكثر الفقهاء الذين قالوا بجواز التعليم أو باستحبابه. وذكروا أيضاً أنه يجوز الإعلام بوضع الخشبة والعود ونحو ذلك. ولعل هذا من باب القياس على الحجر الوارد ذكره في الحديث المتقدم.
أما تشييد القبور والبناء عليها وزخرفتها فبدع محدثة.
قال ابن القيم
(1)
رحمه الله: ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور، ولا بناؤها بآجُرّ، ولا بحجرٍ ولَبِنٍ، ولا تشييدها ولا تطيينها، ولا بناء القباب عليها، فكل هذا بدعة مكرُوهةٌ مُخَالِفَةٌ لهديهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
زاد المعاد (1/ 524 - 526).
وقد بعث علي بن أَبي طالِب رضي الله عنه إلى اليمن ألا يدع تمثالاً إلا طمسه، ولا قبرًا مُشرِفًا إلا سواه، فسنتُهُ صلى الله عليه وسلم تسوية هذه القُبورِ المشرفة كلها، ونهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه.
وكانت قبور أصحابه لا مشرفة، ولا لاطِئة، وهكذا كان قبره الكريم وقبر صاحبيهِ، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه.
وكان يُعلِم قبر من يريد تَعَرُّف قبره بصخرة.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً، ولعن زوّراتِ القبور.
وكان هديه أن لا تهان القبور وتُوطَأَ، وألا يُجلس عليها ويتكأَ عليها، ولا تُعَظّم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها وتتخذ أعياداً وأوثاناً.
(92)
حديث: (رضى الناس غاية لا تدرك)
.
(ليس بحديث)
هذا الكلام شائع على ألسِنة كثير من الناس على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بصحيح وإنما هو من كلام بعض أهل العلم.
قال السخاوي في "المقاصد"(ص: 272) رقم (526): ذكر الخطابي في "العزلة" عن أكثم بن صيفي أنه قال: (رضى الناس غاية لا تدرك
…
).
ومن طريق الشافعي أنه قال ليونس بن عبد الأعلى: يا أبا إسحاق: (رضى الناس غاية لا تدرك، وليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك الزمه ودع الناس وما هم فيه).
وانظر كذلك:
(1)
"أسنى المطالب"(ص: 152) رقم (712).
(2)
"كشف الخفاء"(1/ 520 - 521) رقم (1391).
(3)
"التمييز"(ص: 85).
(4)
"تحذير المسلمين"(ص: 92) رقم (103).
(5)
"النوافح العطرة"(ص: 155) رقم (812).
(6)
"الشذرة "(1/ 312) رقم (461).
(7)
"الجد الحثيث"(187).
(8)
"مجمع الأمثال" للميداني (1/ 420).
التعليق:
قلت: رضى الناس غاية لا تدرك، نعم والله إرضاء الناس ليس في الإمكان أبداً، لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتريهم الهوى ويعتريهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك فلا يمكن إرضاؤهم، فمن نُرضي إذن؟ ارضِ الله جل وعلا.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك، فالزمه ودع ما سواه فلا تعانه، فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور
(1)
.
وذكر الشيخ أحمد بن المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب"
(2)
عن الشيخ أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد أنه قال رحمه الله: أخذت مع والدي يوماً في اختلاف مذاهب الناس وأنهم لا يُسلِّمون لأحد في اختياره، فقال: متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف -أعني المغرب- ولا تُعْتَرَض أتبعت نفسك باطلاً، وطلبت غاية لا تُدرك، وأنا أضرب لك مثلاً: يحكى أن رجلاً
(1)
"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص: 267).
(2)
(2/ 327).
من عقلاء الناس كان له ولد، فقال له يوماً: يا أبي، ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل؟ ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم، فقال: يا بني، إنك غِرٌّ لم تجرب الأمور، وإن رضى الناس غاية لا تُدرك، وأنا أوقفك على حقيقة ذلك، وكان عنده حمار، فقال له: اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشياً، فبينما هما كذلك إذ قال رجل: انظر، ما أقل هذا الغلام بأدب، يركب ويمشي أبوه، وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا، فقال له: انزل أركب أنا وامش أنت خلفي، فقال شخص آخر: انظر هذا الشخص، ما أقله بشفقة، ركب وترك ابنه يمشي، فقال له: اركب معي، فقال شخص: أشقاهما الله تعالى، انظر كيف ركبا على الحمار، وكان واحد منهما كفاية، فقال له: انزل بنا، وقدماه وليس عليه راكب، فقال شخص: لا خفف الله تعالى عنهما، انظر كيف تركا الحمار فارغاً وجعلا يمشيان خلفه، فقال: يا بني، سمعت كلامهم، وعلمت أن أحداً لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان. اهـ.
ولله در من قال:
ضحكتُ فقالوا ألا تحتشم
…
بكيتُ فقالوا ألا تبتسم
بسمتُ فقالوا يرائي بها
…
عبستُ فقالوا بدا ما كتم
حلمتُ فقالوا صنيع الجبان
…
ولو كان مقتدراً لانتقم
بسلتُ فقالوا لطيش به
…
وما كان مجترءاً لو حكم
فأيقنت أني مهما أرد
…
رضى الناس يوماً فلابد أن أذم
وهذا آخر يقول:
وإن يسألوا عن مذهبي لم أبح به
…
وأكتمه كتمانه لي أسلمُ
فإن حنفياً قلت قالوا بأنني
…
أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن مالكياً قلت قالوا بأنني
…
أبيح لهم لحم الكلاب وهم هُمُ
وإن شافعياً قلت قالوا بأنني
…
أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني
…
ثقيل حلولي بغيض مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه
…
يقولون تيس ليس يدري ويفهم
تعجبت من هذا الزمان وأهله
…
فما أحد من ألسن الناس يسلم
فارضِ الله جل وعلا أخي المسلم وكفى:
فلست بناج من مقالة طاعن
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً
…
ولو كنت في غار على جبل وعر
ولوغاب عنهم بين خافيتي نسر
وإياك أخي في مجاراة الناس لإرضائهم قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
(1)
.
وربنا يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} {الأنعام: 116} .
(1)
رواه ابن حبان في "صحيحه" وعبد بن حميد والعقيلي في "الضعفاء" وأبو نعيم في "الحلية" وصححه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"(6010).
وذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه "مواقف": أن طفلة صغيرة من بيت محافظ تعود لأمها من المدرسة ذات يوم وعليها سحابة حزن وكآبة وهم وغم، فتسألها أمها عن سبب ذلك فتقول: إن مدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة.
فتقول الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا.
فتقول الطفلة: لكن المدرسة لا تريدها.
قالت الأم: المُدرسة لا تريد والله يريد فمن تطيعين إذن؟ الذي خلقك وصورك وأنعم عليك أم مخلوقاً لا يملك لك ضراً ولا نفعاً.
فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: لا .. بل أطيع الله وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس وتذهب بها إلى المدرسة، فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، أكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أليم أذهل المعلمة، ثم كفكفت دموعها وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، تقول: والله لا أدري من أطيع أنتِ أم هو؟!!
قالت المعلمة: ومن هو؟!! قالت: الله رب العالمين الذي خلقني وخلقك وصورني وصورك، أأطيعك فألبس ما تريدين وأغضبه هو، أم أطيعه وأعصيك أنتِ، لا لا، سأطيعه وليكن ما يكون.
ذهلت المعلمة وشدهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة، ووقعت منها الكلمات موقعاً عظيماً، وسكتت منها المعلِمَة، وفي اليوم الثاني تستدعي المعلمة أم البنت وتقول: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله وأُبتُ إلى الله، فقد جعلت نفسي نداً لله حتى عرفتني ابنتك من أنا، فجزاك الله من مربية خيراً.
(93)
حديث: - تسمية خازن الجنة - (رضوان)
.
(موضوع)
…
لقد اشتهرت هذه التسمية وهو أن اسم خازن الجنة -رضوان- عند كثير من الناس، وربما اعتمد أكثرهم على ما ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 45) حيث قال: وخازن الجنة ملك يُقال له: -رضوان- جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث. اهـ.
قلت: ومن الأحاديث التي صرحت أن خازن الجنة اسمه رضوان: ما أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1036) عن أُبي بن كعب رضي الله عنه مرفوعاً: (إن لكل شيء قلباً، وإن قلب القرآن يس
…
وأيما مسلم قرأ وهو في سكرات الموت لم يَقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنة يبشره
…
) الحديث.
وفي إسناده: مخلد بن عبد الواحد.
قال ابن حبان في كتاب "المجروحين"(1096): منكر الحديث جداً.
والحديث حكم عليه الألباني بالوضع. "الضعيفة"(5870).
وما أخرجه الواحدي في "أسباب النزول"(ص: 342، 343) وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} {الفرقان: 7} حزن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل من عند ربه معزياً له
…
فقال: أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك، فأقبل رضوان
…
) الحديث.
وهذا الحديث ضعيف جداً فيه ثلاث علل
(1)
:
الأولى: جويبر، وهو ابن سعيد الأزدي أبو القاسم البلخي ضعيف جداً.
"التقريب"(994).
الثانية: الضحاك بن مزاحم الهلالي، لم يلقَ ابن عباس رضي الله عنهما.
"تهذيب التهذيب"(4/ 417 - 418) رقم (3078)
الثالثة: إسحاق بن بشر الكاهلي متروك. "الميزان "(1/ 186).
التعليق:
قلت: والخلاصة، أنه لا يصح حديث في تسمية خازن الجنة "رضوان"؛ كما أنه لا يصح حديث في تسمية ملك الموت "عزرائيل" كما سيأتي.
وقد جاء في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة التصريح ببعض أسماء الملائكة الكرام وهم:
(1)
جبريل.
(2)
ميكائيل. قال تعالى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} {البقرة: 98} .
(1)
"الاستيعاب في بيان الأسباب"(3/ 6).
(3)
مالك خازن جهنم. قال تعالى {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} {الزُّخرف: 77} .
(4)
إسرافيل. (كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل
…
) رواه مسلم.
(5)
منكر ونكير. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير
…
)
(1)
.
(1)
رواه الترمذي وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"(724).
(94)
حديث: - زيادة لفظة - (الرائش) في حديث: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش: الذي يمشي بينهما)
.
(منكرة)
…
أخرجه الحاكم (4/ 203) رقم (7147)، وأحمد رقم (22399)، والبزار رقم (1353)، والطبراني في "المعحم الكبير"(1415) عن ثوبان رضي الله عنه.
وفي سنده:
(1)
ليث بن أبي سليم: ضعيف لاختلاطه، وقد تفرد بهذه الزيادة.
(2)
شيخه أبو الخطاب: مجهول لا يُعرف كما قال البزار والذهبي والمنذري والهيثمي وغيره.
"تهذيب الكمال"(33/ 284) و"تهذيب التهذيب"(8/ 406) و (12/ 77) و"ميزان الاعتدال"(4/ 520)، وكشف الأستار (1353) و"الترغيب والترهيب"(3/ 180)"مجمع الزوائد"(4/ 198، 199).
وقد نصَّ على ضعف هذا الزيادة:
(1)
الهيثمي في "المجمع"(4/ 198، 199).
(2)
الألباني في "الضعيفة"
(1)
(3/ 381) رقم (1235).
(1)
وانظر كذلك "الإرواء"(2621)، و"الترغيب والترهيب"(2/ 857) رقم (1344)، و"ضعيف الجامع"(4684)، و "التعليقات الرضية"(3/ 228 - 229).
(3)
شيخنا الوادعي.
(4)
شعيب الأرنوؤط في "مسند أحمد"(22399).
التعليق:
قلت: الرشوة محرمة بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} {البقرة: 188} .
بل الرشوة من صفات اليهود المستحقين للعنة، فإذا سرت هذه الخصلة الذميمة القبيحة المنكرة الشنعة إلى أهل الإسلام، صار فيهم صفة من صفات اليهود، واستحقوا من اللعنة ما استحقه اليهود في أخذهم الرشوة، قال تعالى في اليهود {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} {المائدة: 42}.
أما الأحاديث في تحريم الرشوة فكثيرة:
منها حديث: (لعن الله الراشي والمرتشي) وهو حديث صحيح بدون الزيادة.
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة بل هي من كبائر الذنوب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آخذها ومعطيها، واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، وعليه فيحرم بذلها وأخذها
والتوسط فيها والإعانة عليها، لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل، مع ما فيه من تغيير حكم الله تعالى، والحكم بغيرما أنزل الله؛ فقد ظلم بأخذها نفسه، ظلم المحكوم له، وظلم المحكوم عليه، والظلم ظلمات يوم القيامة.
قال شيخنا العلامة ابن عثيمين
(1)
:
…
الرشوة محرمة لأمور:
أولاً: للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، واللعن هو الطرد من رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخَلق، فإن الناس إذا كانوا يحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس صاروا يتباهون فيها أيهما أكثر رشوة.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عز وجل، كيف ذلك؟ لأنه بطبيعة الحال النفس حيَّافة ميَّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أُعطي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان هذا تغييراً لحكم الله عز وجل.
رابعاً: أن فيها ظلماً، وجوراً، لأنه إذا حكم الراشي على خصمه في غيرحق، فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيرها.
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل المال بالباطل، كيف ذلك؟ هل من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؟
(1)
"الشرح الممتع "(11/ 494 - 495).
الجواب: لا، لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على حكمه بالحق، والحكم بالحق لا يجوز له أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على خلاف الحكم بالحق، أو عن الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها إعانة لأكل المال بالباطل.
سادسًا: أن فيها ضياعاً للأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والحاكم لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيُحكم له بما معه من الحق، أو يُحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم. لذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله والعياذ بالله.
ولكن ما تقول فيما إذا تعذر إعطاء المستحق حقه إلا ببذل الدراهم، فهل يدخل هذا في الرشوة؟
الجواب: نعم، هي رشوة، لأن الإنسان يريد أن يتوصل بها إلى حقه، لكن إثمها على الآخذ دون المعطي لأن المعطي إنما بذلها ليستخرج حقه حتى لا يضيع حقه، ويكون اللعن على المرتشي الآخذ، وقد نصَّ على ذلك أهل العلم
(1)
رحمهم الله وبيَّنوا أن من بذل شيئاً للوصول إلى حقه فليس عليه شيء، ويوجد الآن من يقول للإنسان الذي يطالب بحقه، إما أن تعطيني كذا وكذا صراحة وإلا فاصبر حتى أقضي لك حاجتك ويماطله فيما له من الحق، ولا يمكنه من أخذ حقه حتى يدفع له
(1)
قلت: وهو قول جمهور أهل العلم.
ما يريد من الرشوة، وهذا أمر مرٌ ومفسد للخَلق ولأديانهم، لأنهم يأكلون السحت -والعياذ بالله- ولهذا يحرم على القاضي أن يأخذ الرشوة مطلقاً.
…
وقال شيخنا الفوزان
(1)
-حفظه الله-: والرشوة قد تكون دراهم، وقد تكون منفعة أنه يسكن بيته، أو أنه يركب سيارته، أو تكون الرشوة في صورة هدية، يهدي إليه هدية من أجل العمل الذي يقوم به، لايسميها رشوة يسميها هدية، يسميها حق تعب، بأي اسم سميت هي الرشوة، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصدقات، يقال له: ابن "اللتبية" جاء وقال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب وخطب وقال: (ما بال قوم نوليهم على ما ولانا الله عليه يأتي يقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ، أفلا جلس هذا في بيت أمه فرأى هل يهدى له) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
فما يعطى للمسؤولين فإنه رشوة، سواء ليأخذ غير حقه، أو ليؤخر حقوق الناس، ويقدم حقه في الإنجاز، فهذا كله من الرشوة، وما فشت الرشوة في مجتمع إلا فسد هذا المجتمع، وفقدت فيه العدالة، وظهر فيه الأشرار وأهين الأخيار؛ الأخيار لا يدفعون الرشوة فيهانون، والأشرار يدفعون الرشوة فيقدمون ويكرمون، فالرشوة خراب في المجتمع، ومن أعظمها رشوة القاضي من أجل أن يحكم له على خصمه.
(1)
"تسهيل الإلمام"(6/ 97).
(95)
حديث: (ساعة لقلبك وساعة لربك)
.
(لايصح بهذا اللفظ)
لقد شاع هذا اللفظ على ألسِنة كثيرٍ من الناس على أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بصحيح فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: (ساعة لقلبك وساعة لربك)، وإنما الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحنظلة رضي الله عنه:(ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) رواه مسلم.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الكلام ليس بحديث، ومعناه أيضاً غير صحيح والذي جاء في"صحيح مسلم" عن حنظلة الأُسيدي رضي الله عنه أنه لقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة قال: سبحان الله، ما تقول؟! قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا
كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات.
قال شيخنا العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة
…
) يعني: ساعة للرب عز وجل وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان للنفس راحتها ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم. اهـ.
فانظر -رحمك الله- أن الساعة التي تقضيها مع أهلك وأولادك ومع ضيوفك أنت مأمور بها لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك -ضيفك-عليك حقاً
…
) الحديث وهو في الصحيحين.
وفي قصة سلمان وأبي ذر رضي الله عنهما:
…
فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(صدق سلمان) رواه البخاري.
أما قول القائل: (ساعة لقلبك وساعة لربك) فهي مقولة غير صحيحة.
(1)
"شرح رياض الصالحين"(1/ 569).
أولاً: لأنه قدم حق النفس على حق الله.
ثانياً: هذا القول مشتق من المقولة التي يقولها النصارى أن عيسى عليه السلام قال: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله).
ثالثاً: إن هؤلاء القوم الذين يقولون هذه العبارة أجرموا فيها جداً، فهي عبارة مخذولة، فساعة القلب على الحقيقة هي ساعة ذكر للرب تبارك وتعالى، ولو تأملوا وأدركوا هذه العبارة وبعدها لوجدوا أنها تعني الشرك، لكن لا يعني أن من يقولها مشرك بل نقول: إن مآل هذه العبارات إلى الشرك، لأنني في وقت أعبد الله وفي وقت آخر قد أعبد الهوى، أي في وقت أطيع الله وفي وقت آخر أطيع الهوى والشهوة والمعصية، فمآل هذا القول إذا وُضع قاعدة في الحياة أنه يعني أنني أشرك فأجعل له وقتاً فقط وأقول له الوقت الآخر لا تتدخل فيه لأن هذا الوقت (لربي) والآن أنا في وقت (لنفسي) ومن هنا نعرف خطورة مثل هذه الشعارات وهؤلاء جعلوها بمعنى آخر، أي هذا لنفسك وهذا لربك، والنتيجة أن كل الساعات له، وليس لربه ساعة.
والخلاصة: أن الدنيا ساعة اجعلها طاعة، ونفسك الطماعة علمها القناعة، وإذا كانت ساعة فلتكن في طاعة الله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الأنعام: 162}. وقال صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم
…
)
(1)
.
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" عن أنس رضي الله عنه وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(1890).
(96)
حديث: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)
.
(ضعيف)
رواه ابن جرير في "التفسير"(7/ 360) رقم (20260) عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: أنه كان إذا سمع الرعد قال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته).
وفي إسناده: رجل مجهول.
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث لم يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح وقفه على عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بلفظ: (كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض
(1)
.
وعليه: فلابأس لمن سمع الرعد أن يقول: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) فإنه كما سبق صح عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
(1)
رواه مالك في "الموطأ" كتاب الكلام، باب القول إذا سمعت الرعد رقم (26) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (723)، وصححه العلامة الألباني في صحيح"الأدب المفرد" (ص: 268) رقم (656) و "صحيح الكلم الطيب"(ص: 87) رقم (129).
فائدة:
وأما بالنسبة للرعد والبرق، فقد جاء في السنة الصحيحة أن الرعد ملك يزجر السحاب بأمر الله تعالى، فيكون من آثار زجره هذا الصوت الشديد، وجاء في بعض الروايات أن معه مخاريق يسوق بها السحاب، وأنه إذا ضرب هذا السحاب بهذا المخراق سُمع له هذا الصوت الشديد، الذي هو الرعد الذي قد يصم الآذان من شدة صوته، فقد خرج الترمذي في "جامعه" وأحمد في "مسنده" والطبراني في "الكبير" والضياء المقدسي في "المختارة" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الرعد ملك من الملائكة موكل بالسحاب بيده أو في يده مخراق من نار يزجر به السحاب والصوت الذي يُسمع منه زجرُه السحاب حتى ينتهي إلى حيث أمره)
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك)
(2)
.
وفي هذه الأزمنة يدعي المتمعلمون أن الرعد هو أثر احتكاك السحاب بعضه ببعض، وأن السحابتين إذا تقابلتا واصطدمت إحداهما بالأخرى فمن آثار هذا الاصطدام يحدث هذا الصوت، لا شك أن هذا قول باطل ليس عليه دليل.
(1)
وصحح الحديث العلامة الألباني في "الصحيحة"(1872) و"صحيح الجامع"(3553).
(2)
أخرجه أحمد والبيهقي في "الأسماء والصفات" وصححه العلامة الألباني في "الصحيحة"(1665) و "صحيح الجامع"(1920).
(97)
حديث: (سلمان منا أهل البيت)
.
(ضعيف جداً)
رواه ابن سعد في "الطبقات"(4/ 62) و (7/ 231)، وابن جرير في "التفسير"(10/ 269)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 25) رقم (6618)، والطبراني في "الكبير" رقم (6040) وغيرهم من حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه.
وفي إسناده: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وهو ضعيف جداً، بل قال فيه الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب.
وقال الحافظ ابن حجر: متروك متهم.
وقال الذهبي في "السير": كثير متروك.
والحديث رواه أبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين" من طريق آخر.
وفي إسناده:
(1)
النضر بن حميد، قال فيه البخاري: منكر الحديث.
(2)
سعد الاسكافي: تركه النسائي والدارقطني.
وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور.
"تهذيب التهذيب"(8/ 366 - 367) و (3/ 412 - 413) و"الضعفاء للعقيلي"(4/ 289) رقم (1883) و"لسان الميزان"(6/ 208 - 209) رقم (8871).
وقد نصَّ على ضعف هذا الحديث:
(1)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 130) حيث قال: حديث (سلمان منا أهل البيت) رواه الطبراني. وفيه كثير بن عبد الله المزني، ضعَّفه الجمهور. وقال أيضاً (9/ 118): حديث (سلمان منا أهل البيت) فيه النضر بن حميد الكندي، متروك.
(2)
ابن كثير في "البداية والنهاية"(4/ 101 - 102) قال: هذا حديث غريب.
(3)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 160) رقم (756) قال: ضعيف ولم يذكر أحد أنه موضوع.
(4)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 558) رقم (1505) قال: ضعيف.
(5)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(3704) و"ضعيف الجامع"(3272) قال: ضعيف جداً.
(6)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(4/ 25) رقم (6618) قال: معضل. وقال في "رياض الجنة "(ص: 58) حاشية: لا يثبت.
التعليق:
قال العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة": قد صح الحديث موقوفاً على علي رضي الله عنه كما عند ابن أبي شيبة وابن سعد وأبي نعيم في "الحلية" وابن عساكر أنه: سُئل علي عن سلمان الفارسي؟ فقال: ذاك أمير منا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم عَلِمَ العلم الأول وأدرك العلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر وكان بحراً لا ينزف.
…
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس) متفق عليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من فارس حتى يتناوله) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان)
(1)
.
ومناقب سلمان كثيرة جداً تغنينا عن هذا الحديث الضعيف.
(1)
رواه الترمذي والحاكم عن أنس رضي الله عنه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1598).
(98)
حديث: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهرت هذه المقولة على ألسنة كثير من الناس، بل تناقلتها وسائل الإعلام وهي:(الساكت عن الحق شيطان أخرس) وبعضهم ينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنها حديث نبوي، وهذا ليس بصحيح وإنما هي مجرد مقولة تناقلها الناس وليس لها في كتب السنة أساس.
قال محمد عمرو عبد اللطيف في كتابه "تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة"(2/ 71): لم أقف له على أصل صحيح ولا ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا موقوفاً على أحد من الصحابة أو التابعين ومتقدمي السلف رضوان الله عليهم، ولا رأيت أحداً من المصنفين في "الأحاديث المشهورة" تعرض له بنفي أو إثبات، على الرغم من اشتهاره جداً في أيامنا هذه. ومن طالع الصحف الجادة بانتظام وجد كثيراً من المقالات قد صُدِّر بها هذا الكلام، وألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم إلصاقاً بصيغة الجزم
…
إلخ.
التعليق:
قلت: هذه العبارة وهي (الساكت عن الحق شيطان أخرس) معناها صحيح وإن لم تكن من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرها النووي في "شرح صحيح مسلم" تحت حديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً
…
).
وابن العماد في "شذرات الذهب"(3/ 324)، والعلامة بكر أبو زيد في "هجر المبتدع" على أنها من كلام أبي علي الدقاق.
وبالمناسبة أذكر لك هنا كلاماً نفيساً للإمام ابن القيم
(1)
رحمه الله حول حفظ اللسان من قول الباطل أو السكوت عن الحق.
قال رحمه الله حكاية عن الشيطان أعاذنا الله منه: ثم يقول -أي الشيطان وهو يخطب في أتباعه وجنوده ويوصيهم بوصايا- قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله، واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحته عباده، أو التكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أثران عظيمان لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل، فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
الثاني: السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ لكم ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع إخوانكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس، فالرباط الرباط على هذا الثغر أن
(1)
"الداء والدواء"(ص: 154 - 155).
يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق، واعلموا يا بنيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكَ منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر، وأوصيكم بوصية فاحفظوا لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب واقعدوا لهم كل مرصد.
(99)
حديث: (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ)
.
(لا أصل له)
لقد اشتهر هذا الحديث في أوساط كثير من الناس على أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه باطل لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نصَّ على ذلك جمع من العلماء، منهم:
(1)
ابن حجر كما نقل عنه في "التمييز".
(2)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 297) رقم (585).
(3)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 92).
(4)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص: 131) رقم (267).
(5)
المناوي في "فيض القدير"(4/ 347).
(6)
القاري في "المصنوع"(ص: 113).
(7)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 121).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 4) رقم (1929).
(9)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 165) رقم (784).
(10)
ابن طاهر في "تذكرة الموضوعات"(ص: 128).
(11)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 122).
(12)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 169) رقم (899).
(13)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 429) رقم (430).
التعليق:
قلت: لا شك أن هذا القول: (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ) من الإجحاف في حق النساء، ففي كثير من الأحيان إذا أصاب الرجل الهمُّ لجأ -بعد الله تعالى- إلى أمِه طالباً منها المشورة والدعاء؛ أو ربما لجأ إلى حليلته يبثها شكواه فتخفف عنه من همه.
تأملوا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الغار بعد أن جاءه الملك رجع صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة رضي الله عنها فقال: (زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال: (أي خديجة مالي؟ قال: لقد خشيت على نفسي. قالت له خديجة: كلا. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة رضي الله عنها حتى أتت به ورقة ابن نوفل
…
) رواه البخاري ومسلم.
فمن آزر الرسول صلى الله عليه وسلم وهدَّأ من روعه وطمأنه إلا خديجة رضي الله عنها صاحبة العقل والرأي السديد، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف لها حقها وقدرها حتى بعد موتها.
كيف لا تُستشار المرأة إذا كانت أهلا للمشورة، وقد استشار صلى الله عليه وسلم المرأة وأخذ بمشورتها في قضية تهم المسلمين بل قد أهمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مشهود من أيامه صلى الله عليه وسلم.
أما سمعتم -رعاكم الله-: عن إحجام الصحابة عن حلق رؤوسهم يوم الحديبية، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
قال الراوي: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فأخذ بمشورتها، فخرج ولم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدنَه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً. كما عند البخاري في الصحيح.
فمن الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرٍ فيه الرأي الرشيد؟ ومن الذي أزاح الهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وليست هذه حادثة فريدة، فقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أخرى في قضية تُعد من أخطر القضايا، فقد سأل زينب بنت جحش عن عائشة رضي الله عنها بعد حادثة الإفك، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري،
فقال: ما علمتِ أو ما رأيتِ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع. متفق عليه.
بل وثبت في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله ما كنا في الجاهلية نعد النساء شيئاً حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم وبينما أنا في أمر أأتمره فقالت لي امرأتي لو صنعت كذا وكذا فقلت لها مالكِ أنت ولِمَا هاهنا وتكلفك في أمر أريده، فقالت لي: عجباً يا ابن الخطاب ما تريد أن تُراجَع أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فأخذت ردائي ثم انطلقت أدخل على حفصة فقلت لها يا بنيه
…
إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت: إنا والله لنراجعه. رواه البخاري.
وقبل ذلك ابنت الرجل الصالح أشارت على أبيها بالرشد في أمر موسى عليه السلام فقالت {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
…
(26)} {القصص: 26} فأصابت وأخذ برأيها.
وكل هذا إذا كانت المرأة صاحبة رأي وعقل ودين وفهم فيما استشيرت فيه، فلا بأس أن تستشار، وإلا فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء ناقصات عقل ودين كما في الصحيحين، وقال صلى الله عليه وسلم:(لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.
(100)
حديث: (شراركم عزابكم)
.
(ضعيف)
رواه أبو يعلى في "مسنده"(2/ 397) رقم (2038)، والطبراني في "الأوسط"(4473)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 478) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفيه: خالد بن إسماعيل المخزومي وهو متروك.
قال ابن عدي: خالد بن إسماعيل يضع الحديث على ثقات المسلمين، وعامة أحاديثه موضوعة.
ورواه أحمد في "مسنده"(21450) وعبد الرزاق في "المصنف"(6/ 171) رقم (10387) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وهو ضعيف لجهالة الرجل الراوي عن أبي ذر رضي الله عنه.
ورواه البيهقي في "الشعب"(5480) عن عطية بن بسر المازني.
…
وفيه: معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف. وبقية بن الوليد وقد عنعن.
وقد نصَّ على ضعف هذا الحديث جمع من العلماء منهم:
(1)
ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 43) رقم (1250) و"العلل المتناهية"(2/ 608) رقم (999).
(2)
ابن حجر في "المطالب العالية"(2/ 30 - 36) رقم (1585).
(3)
الهيثمي في "المجمع"(4/ 250 - 251).
(4)
البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة "(4/ 9) رقم (3075).
(5)
السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 136) و"الدرر المنتثرة"(268).
(6)
المناوي في "فيض القدير"(4/ 207).
(7)
السخاوي في "المقاصد الحسنة "(ص: 299) رقم (589).
(8)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 93).
(9)
العجلوني في "كشف الخفاء"(1938).
(10)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 125).
(11)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 122) رقم (125).
(12)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 113) رقم (5).
(13)
المباركفوري في "تحفة الأحوذي"(4/ 168).
(14)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(2511) و"ضعيف الجامع"(3387) و (3388).
التعليق:
قلت: لاشك أن هذا الحديث باطل لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت جملة من الأحاديث في هذا الموضوع وهي باطلة ولا تصح أيضاً، منها:
• حديث: (ركعتان من المتزوج خير من سبعين ركعة من الأعزب) ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات".
• حديث: (فراش الأعزب من النار) قال ابن تيمية: موضوع.
• حديث: (خير أمتي أولها المتزوجون وآخرها العزاب
…
) وفي إسناده كذَّاب.
• حديث: (خيركم في رأس المأتين الخفيفُ الحاذّ، قيل: يا رسول الله، ما خفة الحاذ؟ قال: (من لا أهل له ولا مال) لا أصل له.
…
"حاشية شرح المجموع"(ص: 133) لابن عثيمين.
قال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف"(286): أحاديث مدح العزوبة كلها باطل.
فائدة:
من الطريف أنه وجد من أهل العلم والفضل وغيرهم ممن يُرَغِب عن الزواج حتى قال أحدهم في الترغيب عن الزواج:
قالوا تزوج فلا دنيا بلا امرأة
…
وراقب الله واقرأ آي ياسينا
لما تزوجت طاب العيش لي وحلا
…
وصرت بعد وجود الخير مسكينا
جاء البنون وجاء الهم يتبعهم
…
ثم التفت فلا دنيا ولا دينا
هذا الزمان الذي قال الرسول لنا
…
خفوا الرجال فقد فاز المخفون
وقال الإمام النووي في مقدمة "المجموع": قال الخطيب البغدادي في كتابه "الجامع لآداب الرواي والسامع": يُستحب للطالب أن يكون عزباً ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم.
وعن إبراهيم بن أدهم: من تعود أفخاذ النساء لم يفلح.
وعن سفيان: إذا تزوج الفقيه فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كسر به.
وقال سفيان لرجل: تزوجت؟ قال: لا. قال: ما تدري ما أنت فيه من العافية.
قال العلامة ابن عثيمين
(1)
رحمه الله: هذا لا نوافق عليه اطلاقاً كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يحث الشباب على الزواج: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ونحن نقول: يا معشر الطلاب لا تتزوجوا، هذا قول بعيد عن الصواب، بل يُقال تزوج وربما تكون الزوجة خير معين له على علمه، لكن مطلق الفردية لا نوافق عليه اطلاقاً.
ثم قال: أنا أعجب أن تخرج هذه الكلمات من هؤلاء الأجلة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على الزواج وأن نتزوج، وقال:(خيركم خيركم لأهله) وإذا كان أعزب فأين الأهل
…
اهـ.
قلت: وهذا ابن عباس رضي الله عنه يقول لسعيد بن جبير: هل تزوجت؟ قال: لا. قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً.
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لو لم يبق من الدهر إلا ليلة لأحببت أن يكون لي في تلك الليلة امراة.
(1)
"شرح مقدمة المجموع"(ص: 132 - 133).
فائدة:
ذكر العلامة بكر أبو زيد
(1)
رحمه الله جملة من الأعلام الذين لم يتزوجوا، منهم: مالك بن دينار، وعبد الله ابن أبي نجيح، وإبراهيم بن أدهم، ويونس بن حبيب أبو عبد الرحمن الضبي مولاهم، وحسين بن علي الجعفي مولاهم، وبشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، وهنَّاد بن السري التميمي، وأبو الجنيد الختلي، وبكار بن قتيبة بن عبد الله الثقفي، وحمد بن أبي جعفر بن علي بن عبد الله الوراق، وسعدون بن إسماعيل الأندلسي، وإسحاق بن سليمان الطبيب المعروف بالإسرائيلي، وأبو جعفر الطبري، وابن الأنباري أبو بكر محمد بن القاسم، وعلي بن عبد الرحمن بن صيف، وإبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء النيسابوري، وابن أبي ديلم، وأبو علي الفارسي الحسن بن أحمد الفارسي، ومحمد بن يزيد البطليوسي، و أبو عمرو معوذ بن داود الأزدي التاكرتي، وعبد الرحيم بن عبد ربه الربعي المعروف بالزاهد، وأبو نصر السجزي عبيد بن سعيد الوائلي من أعلام أهل السنة الحفاظ، وأبو سعد السمعاني، وأبو الحسين بن علي
الفاسي، والشيرزاي، والزمخشري، والنووي، وابن تيمية، والسخاوي، وغير هؤلاء كثير.
(1)
النظائر" (ص: 225 - 282).
(101)
حديث: (
…
شهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار)
.
(ضعيف)
رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(3/ 192) رقم (1887)، والمحاملي في "أماليه"(293) عن سلمان رضي الله عنه.
وهو حديث طويل، لفظه: (يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء، قالوا: ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم، فقال: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء، أو مذقة لبن، ومن أشبع صائماً سقاه الله من الحوض شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بها ربكم وخصلتان لا غنى بكم عنها، أما الخصلتان اللتان
ترضون بها ربكم شهادة ألا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان التي لا غنى بكم عنهما تسألونه الجنة وتتعوذون من النار).
وفي سنده: علي بن زيد بن جدعان، ضعيف.
قال ابن سعد: فيه ضعف ولا يحتج به.
وقال أحمد: ليس بالقوي.
وقال ابن معين: ضعيف.
وقال ابن أبي خيثمة: ضعيف في كل شيء.
وقال ابن خزيمة: لا يحتج به لسوء حفظه.
"تهذيب التهذيب"(7/ 274 - 276).
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
ابن خزيمة.
(2)
ابن حجر كما نقل عنه السيوطي في "جمع الجوامع" ..
(3)
السيوطي في "جمع الجوامع"(4/ 237).
(4)
نقل ابن أبي حاتم عن أبيه في "علل الحديث"(1/ 249): أنه حديث منكر.
(5)
العلامة الألباني في "الضعيفة"
(1)
(2/ 262 - 263) رقم (871).
(6)
سليم الهلالي.
(7)
علي الحلبي. في "صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان"(ص: 110 - 111).
وجاء بلفظ: (أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار) أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 162)، وابن عدي في "الكامل"(4/ 325) والخطيب في "الموضح"(2/ 149)، وغيرهم عن سلام بن سوار عن مسلمة بن الصلت عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال ابن عدي: سلام بن سليمان بن سوار هو عندي منكر الحديث، ومسلمة ليس بمعروف، وكذا قال الذهبي.
وقال ابن أبي حاتم: مسلمة متروك الحديث.
وقال العقيلي: لا أصل له من حديث الزهري.
والحديث ضعَّفه:
(1)
السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 184).
(2)
الألباني في"الضعيفة"(1569)، و"ضعيف الجامع"(2135).
(1)
وانظر كذلك "الترغيب والترهيب"(1/ 425) رقم (589).
التعليق:
قلت: لا شك أن شهر رمضان من أوله إلى أخره رحمة، ومغفرة، وعتق من النار، خلافاً لهذا الحديث الضعيف الذي قيد المغفرة في أوله، والرحمة في وسطه، والعتق من النار في آخره.
أما الرحمة: فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة) متفق عليه، وفي رواية لمسلم:(فتحت أبواب الرحمة).
وأما المغفرة: فقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أما العتق: فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)
(1)
.
(1)
رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع".
(102)
حديث: (شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر)
.
(ضعيف)
رواه ابن شاهين في "ترغيبه"، والضياء عن جرير رضي الله عنه.
وفي سنده: محمد بن عبيد وهو مجهول.
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 499) رقم (428).
(2)
ابن حجر في "لسان الميزان"(5/ 277) رقم (7797).
(3)
السيوطي في "الجامع الصغير".
(4)
المناوي في "فيض القدير"(2/ 578) رقم (2287) و (4/ 219) رقم (4905).
(5)
البيروتي في "أسنى المطالب"(795).
(6)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 59) رقم (43)
(1)
.
(7)
ابن عثيمين في "دروس وفتاوى الحرم المكي"(875).
(1)
وانظر كذلك"ضعيف الجامع"(1768) و (3413) و"الترغيب والترهيب"(1/ 464) رقم (664).
التعليق:
قال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: ثم إن هذا الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان متوقف على إخراج صدقة الفطر، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به.
أقول هذا وأنا أعلم أن بعض المفتين ينشر هذا الحديث على الناس كلما أتى شهر رمضان، وذلك من التساهل الذي كنا نطمع في أن يحذروا الناس منه فضلاً عن أن يقعوا فيه هم أنفسهم. اهـ.
قلت: أما حكم زكاة الفطر فواجبة بالسنة والإجماع.
…
أما السنة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صَاعًا من تَمر، أَوْ صَاعًا من شعيرٍ، على العبد والحر والذَّكَرِ والأنثَى والصغِيرِ والكَبير من المسلمين وأَمَرَ بها أَنْ تُؤدَّى قبل خروج النَّاس إلى الصلاة) متفق عليه.
وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد من أهل العلم، كابن عبد البر وابن المنذر وغيرهما.
فائدة: ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز إخراج زكاة الفطر من غير هذه الأجناس المذكورة في الحديث، فقالوا: يجوز إخراجها من قوت أهل البلد كالأرز والدقيق والدخن والحنطة وغير ذلك.
(1)
"الصحيحة"(1/ 60).
(103)
حديث: (صلوا خلف كل برٍ وفاجر)
.
(ضعيف)
رواه أبو داود (594) و (2533)، وعنه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 29) رقم (6832)، والدارقطني في "السنن"(2/ 56 - 57) عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وعلة الحديث: الإنقطاع بين مكحول وأبي هريرة رضي الله عنه.
وقد ضعَّف الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الإمام أحمد كما نقل عنه الحافظ في "التلخيص".
(2)
الدارقطني في "السنن"(2/ 56 - 57).
(3)
البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 29).
(4)
قال الزيلعي في "نصب الراية "(2/ 26 - 27).
(5)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 418 - 425).
(6)
ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 35) رقم (577).
(7)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 318).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 37) رقم (1611).
(9)
العلامة الألباني في "الإرواء"(527)
(1)
.
(10)
العلامة ابن باز في "مجموع فتاوى ابن باز"(4/ 303).
(11)
…
مشهور في "أخطاء المصلين"(ص: 449).
التعليق:
قلت: هذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تجوز نسبته إليه، ولا يتوهمن متوهم أن الصلاة خلف الفاجر لا تجوز بمجرد تضعيف هذا الحديث، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي.
وأخرج مسلم وأهل السنن: أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة وإخراجه منبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الشوكاني
(2)
رحمه الله: ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائرين، لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجا مع"(3478) و"ضعيف أبي داود"(120) و"تخريج الطحاوية"(ص: 373).
(2)
"نيل الأوطار"(3/ 194 - 195).
وقال ابن أبي العز
(1)
رحمه الله: اعلم رحمك الله وإيانا، أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعه ولا فسقاً باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء.
والصحيح: أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه، كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً ثم قال أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة.
وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حُصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم، والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن
(1)
"شرح الطحاوية"(ص: 374 - 375).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يترتب إماماً للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثَّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب، أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يُقَدِّم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشرٍّ أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بقدر الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
(104)
حديث: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد النَّاس: العلماء والأمراء)
.
(موضوع)
…
رواه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 100)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 184) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي سنده: محمد بن زياد اليشكري.
قال الإمام أحمد: كذَّاب أعور يضع الحديث.
وقال ابن معين والدارقطني: مثله.
"تهذيب التهذيب"(9/ 145 - 146) رقم (6145).
وقد حكم جمع من العلماء على عدم ثبوت هذا الحديث، منهم:
(1)
الحافظ العراقي، كما نقل عنه الزبيدي والمناوي.
(2)
السيوطي، كما نقل عنه المناوي.
(3)
المناوي في "فيض القدير"(4/ 276).
(4)
الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين"(1/ 78).
(5)
الألباني في "الضعيفة"(16) و"ضعيف الجامع"(3495).
(6)
شيخنا العلامة الوادعي في "المقترح"(ص: 13).
(7)
اللجنة الدائمة (4/ 427).
التعليق:
قلت: الحديث معناه صحيح.
قال المناوي
(1)
: فبصلاح العلماء والأمراء صلاح الناس، وبفساد العلماء والأمراء فساد الناس، فالعالم يقتدي به الناس في أفعاله وأقواله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والأمير يحمل الناس على ما يفسدهم أو يصلحهم، ولا يمكن مخالفته. اهـ.
ولله در ابن المبارك حين قال:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
وأحبار سوء ورهبانها
وقال محمد بن محمد ابن عبد الكريم الموصلي الشافعي
(2)
: تصلح البلاد والعباد بالسلطان العادل، وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة فكذلك ليس فوق رتبة السلطان الشرير رتبة لأن شره يعم، وكما أن بالسلطان العادل تصلح البلاد والعباد، كذلك بالسلطان الجائرتفسد البلاد والعباد وتقترف المعاصي والآثام، وكذلك السلطان إذا
(1)
"فيض القدير"(4/ 276)
(2)
"حسن السلوك الحافظ دولة الملوك"(ص: 64 - 68).
عدل انتشر العدل في الرعية، فأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطوا الحق فيما بينهم ولزموا قوانين العدل، فمات الباطل، وذهب رسوم الجور، فأرسلت السماء غيثها، وأخرجت الأرض بركتها، ونمت تجاراتهم، وزكت زروعهم، وتناسلت أنعامهم، ودرت أرزاقهم، ورخصت أسعارهم، فواسى البخيل، وأفضل الكريم، وقضيت الحقوق، وأعيرت المواعين، وتهادوا فضول الأطعمة والتحف، فهان كل الحطام لكثرته، وذل بعد عزته فتماسكت على الناس مروءاتهم، وحفظت عليهم أديانهم.
وبهذا يتبين لك أن الوالي مأجورعلى ما يتعاطاه من إقامة العدل، وعلى مايتعاطاه الناس بسببه.
وإذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد، وعم العباد، فَرَقَّتْ أديانهم، واضمحلت مروءاتهم، وقست قلوبهم، وفشت فيهم المعاصي وذهبت أماناتهم، فضعفت النفوس، وقنطت القلوب، فضعفوا عن إقامة الحق فتعاطوا الباطل، وبخسوا الكيل والميزان، وروجوا البهرج، فرفعت منهم البركة، وأمسكت السماء غيثها ولم تخرج الأرض زرعها ونباتها، فقل في أيديهم الحطام، فقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة، وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم، وفشت فيهم الأيمان الكاذبة، والختل في البيع والشراء، والمكر والحيل في القضاء والاقتضاء، فيظل أحدهم عارياَ من محاسن دينه، متجرداً من جلباب مروءته، ومن عاش كذلك فبطن الأرض خير له من ظهرها.
قال وهب بن منبه: إذا عمل الوالي بالجور أوْ هَمَّ به، أدخل الله النقص في أهل مملكته من الزرع والضرع وكل شيء، وكذلك إذا هَمَّ بالعدل أوعمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته.
قال عمر بن عبد العزيز: تهلك العامة بذنب الخاصة، وتهلك الخاصة بعمل العامة.
والخاصة هم الولاة وفي هذا المعنى قال الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} {الأنفال: 25} .
وقال سفيان الثوري لأبي جعفر المنصور: إني لأعلم رجلاً إن صلح صلحت الأمة؟ قال: ومن هو؟ قال: أنت.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ملكاً من الملوك خرج يسير في مملكته مستخفياً، فنزل على رجل له بقرة، فراحت فحلبت له وزن ثلاثين بقرة (والله على كل شيء قدير)، فعجب الملك من ذلك وحدث نفسه بأخذها، فلما راحت عليه من الغد حلبت على النصف، فقال الملك: ما بال حلابها انتقص، أرعيت في غير مرعاها بالأمس؟ فقال: لا. ولكن أظن أن مَلِكَنا هم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بظلم ذهبت البركة، فعاهد الله سبحانه في نفسه ألا يأخذها، وراحت من الغد فحلبت حلاب ثلاثين بقرة، فتاب الملك وعاهد ربه ليعدلنًّ ما بقي.
ومن المشهور في أرض المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو، وأن القصبة الواحدة منها تعصر قدحاً، فعزم على أخذها منها، ثم أتاها وسألها عن ذلك فقالت: نعم، ثم إنها عصرت قصبة فلم تعصر نصف قدح. فقال لها: أين الذي كان يُقال؟ فقالت: هو الذي بلغك، إلا أن يكون السلطان عزم على أخذها مني فارتفعت البركة منها، فتاب السلطان وأخلص نيته لله تعالى ألا يأخذها أبداً، ثم أمرها فعصرت قصبة فجاءت ملء قدح.
قال صاحب سراج الملوك: وشهدت أنا بالإسكندرية، والصيد بالخليج مطلق للرعية، والسمك فيه يغلب الماء كثرة، ويصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده، فذهب السمك حتى لا تكاد توجد منه إلا الواحده بعد الواحده إلى يومنا هذا.
قال: وهكذا تتعدى سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إلى الرعية، إن خير فخير، وإن شر فشر.
قال: وروى أصحاب التواريخ في كتبهم أن الناس كانوا إذا أصبحوا في أيام الحجاج يتساءلون من قتل البارحة؟ ومن صلب؟ ومن جلد؟ ومن قطع؟ وأمثال ذلك.
وكان الوليد صاحب ضياع واتخذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان، والمصانع، والضياع، وشق الأنهار، وغرس الأشجار.
ولما ولي سليمان بن عبد الملك وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون في الأطعمة الرفيعة ويتخذونها، ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويعمرون مجالسهم بذكر ذلك.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون في زمانه: كم تحفظ من القرآن؟ وكم وردك؟ وكم يحفظ فلان؟ وكم يصوم؟ وأمثال ذلك. اهـ.
…
وأما الصنف الثاني وهم العلماء: فبصلاحهم صلاح العباد والبلاد، وبفسادهم فساد العباد والبلاد.
قال بعض العلماء: احذر من الاغترار بعلماء السوء، فإن شرهم أعظم على الدين من شر الشياطين، إذ الشياطين بواسطتهم يتصيدون إلى انتزاع الدين من قلوب المؤمنين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للعالم من الأتباع، يزل زلة فيرجع عنها ويتحملها الناس فيذهبون في الآفاق.
وفي منثورالحكم: زلة العالم كانكسارالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير. قيل: لعيسى عليه السلام: من أشد الناس فتنة؟ قال: زلة عالم.
وفي الإسرائيليات أن عالماً كان يضل الناس ببدعته ثم تاب وعمل صالحاً، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: لو كان ذنبك فيما بيني وبينك لغفرته لك، لكن كيف بمن أضللته من عبادي فأدخلتهم النار؟
فأمر العلماء خطر، وعليهم وظيفتان، ترك الذنب، ثم إخفاؤه إن وقع، وكما يتضاعف ثوابهم على الحسنات فيضاعف عقابهم على الذنوب والسيئات إذا اتُّبِعوا، والعالم إذا ترك الميل إلى الدنيا قنع منها بالقليل ومن الطعام بالقوت ومن الكسوة بالخَلِق، اقتدى به العامة فكان له مثل ثوابهم، بنص خبر (من سن سنة حسنة) وإن مال إلى التوسع في الدنيا مالت طباع من دونه إلى التشبه به، ولا يقدرون على ذلك إلا بخدمة الظلمة، وجمع الحطام الحرام، فيكون هو السبب في ذلك، فحركات العلماء في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بربح أو خسران.
(105)
حديث: (صوموا تصحوا)
.
(ضعيف)
…
رواه الطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الطب النبوي" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
…
وفي سنده: زهير بن محمد أبو المنذر الخرساني. وهو ضعيف في رواية الشاميين عنه.
قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد ذكر رواية الشاميين عن زهير بن محمد، قال: يروون عنه أحاديث مناكير هؤلاء.
وقال أبو حاتم: في حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه.
وقال العجلي: وهذه الأحاديث التي يرويها أهل الشام عنه ليست تعجبني.
"تهذيب الكمال"(9/ 414 - 418) و"تهذيب التهذيب"(3/ 308).
والذي روى عنه هذا الحديث محمد بن سليمان وهو شامي، فروايته عن زهير كما نصَّ الأئمة منكرة وهذا منها
(1)
.
(1)
"صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم "لسليم الهلالي وعلي الحلبي (ص: 111 - 112).
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
العراقي. "الإحياء وبذيله المغني"(3/ 117).
(2)
الصاغاني في "الموضوعات"(72).
(3)
ابن عدي في "الضعفاء"(3/ 227).
(4)
المناوي في "فيض القدير"(5060)
(5)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 70).
(6)
البيروتي في "أسنى المطالب"(829).
(7)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 86) رقم (10).
(8)
الشقيري في "السنن والمبتدعات"(ص: 294).
(9)
الألباني في "الضعيفة"(253) و"ضعيف الجامع"(3504).
(10)
شيخنا ابن عثيمين في "فتاوى نور على الدرب".
(11)
سليم الهلالي.
(12)
علي الحلبي. "صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم "(ص: 111 - 112).
والحديث ذكره السخاوي في "المقاصد"(ص: 282) رقم (549)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 88)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 539) رقم (1455). والصالحي في "الشذرة"(479).
التعليق:
قلت: الحديث معناه صحيح، وإن كان ضعيفاً، فإن في الصوم صحة عظيمة بجميع معانيها صحة بدنية حسية وصحة روحية معنوية، فالصوم يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ما شاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم وحمية الجسد والتخلص من الفضلات المترسبة، والأطعمة غير المهضومة والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة، ولقد أكثر الأطباء من ذكر فوائد الصوم، ومما قالوه: أنه يحفظ الرطوبات الطارئة، ويطهر الأمعاء من فساد السموم التي تحدثها البطنة، ويحول دون كثرة الشحم في الجوف، وهي شديدة الخطر على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوة على الكر والفر
وأما الصحة المعنوية الروحية: فهي ما يورثه الصوم من توجيه الصائمين إلى الله سبحانه وتعالى، وحسن مراقبته، ومعرفة الغاية من خلقهم، وإعدادهم للأخذ بجميع وسائل التقوى التي تقيهم من الخزي والذل والخسران في الدنيا والآخرة، فتصح قلوبهم، وتشفى من مرض الشبهات، ومرض الشهوات الذي ابتلى به كثير من الناس.
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة، كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق
الكريمة، كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب إليه.
ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه وحاجته، وضعفه وفقره لربه، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء، فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته، ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم. ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعالجوا به كثيراً من الأمراض
(1)
. اهـ.
(1)
"الصيام أحكام وآداب"(ص: 51 - 52). ولمزيد الفائدة والتوسع في فوائد الصوم الصحية: انظر "صوم رمضان"(ص: 77 - 82) للاستانبولي.
(106)
حديث: (الصبر مفتاح الفرج)
.
(لا أصل له)
اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 309) رقم (616):
(2)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص: 136) رقم (281).
(3)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 96).
(4)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 27) رقم (1590).
(5)
الصالحي في "الشذرة "(1/ 357) رقم (5035).
(6)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 174) رقم (831).
قلت: وقد جاءت طائفة من الأحاديث الضعيفة في الصبر، منها:
•
…
(الصبر كنز من كنوز الجنة). قال العراقي في تخريج الإحياء: لم أجده. "كشف الخفاء"(1589).
•
…
(الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) ضعيف جداً. "ضعيف الجامع"(3535).
•
…
(الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله) ضعيف. "ضعيف الجامع"(3536).
•
…
(الصبر والاحتساب أفضل من عتق الرقاب ويدخل الله صاحبهن الجنة بغير حساب) ضعيف جداً. "ضعيف الجامع"(3537).
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الأمثال السائرة، لكن معناه صحيح فالصبر مفتاح الفرج، كما قيل، فثمرة الصبر الظفر، وعند اشتداد البلاء يأتي الرخاء.
وكان يُقال: تضايقي تنفرجي. ويُقال: إذا اشتد الخناق انقطع.
ويقال: ارج النفع، من موضع المنع، واحرص على الحياة، بطلب الموت، فكم من بقاء سببه استدعاء الفناء، ومن فناء سببه إيثار البقاء، وأكثر ما يأتي الأمن من قبل الفزع.
والعرب تقول: إن في الشر خياراً.
قال الأصمعي: معناه، أن بعض الشر أهون من بعض.
وقال أبو عبيدة: معناه، إذا أصابتك مصيبة، فاعلم أنه قد يكون أجل منها، فلتهن عليك مصيبتك.
قال بعض الحكماء: عواقب الأمور، تتشابه في الغيوب، فرب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب، وكم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومرحوم من داء هو شفاؤه.
وكان يُقال: رُبَّ خير من شر، ونفع من ضر.
وقال وداعة السهمي في كلام له: اصبر على الشر إن قدحك، فربما أجلى عما يفرحك، وتحت الرغوة اللبن الصريح.
وقال شريح القاضي: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع، لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
وكان يقال: من ساعة إلى ساعة فرج
(1)
.
وقد أحسن من قال:
الصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته
…
لكن عواقبه أحلى من العسلِ
وقال آخر:
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير
…
وكل شيء له وقت وتدبير
(1)
"الفرج بعد الشدة" للقاضي التنوخي.
وقال آخر:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
…
ابشر بخير فإن الفارج الله
والله ما لك غير الله من أحد
…
فحسبك الله في كلٍ لك الله
وقال آخر:
إذا ضاقت بك الدنيا
…
ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يُسرين
…
متى تذكرهما تفرح
وقال آخر:
إذا كنت في هم وضيق وفاقة
…
وأصبحت مكروباً وأمسيت في حرج
فصلِّ على المختار من آل هاشم
…
وسلم فإن الله يأتيك بالفرج
وقال آخر:
ثمانية لا بد منها على الفتى
…
. ولا بد أن تجري عليه الثمانيه
سرورُ وهمُ واجتماع وفرقة .. ويسر وعسر ثم سقم وعافيه
(107)
حديث: (الصلاة عماد الدين)
.
(ضعيف)
…
هذا الحديث مشهور على ألسِنة كثير من الوعاظ، يلهجون به في المناسبات والخطب والمحاضرات وهم يتحدثون عن أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام، والصحيح أن هذا الحديث لم يثبت البتة بهذا السياق (الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين) وإنما أخرج البيهقي في "الشعب"(3/ 39) رقم (2807) الجزء الأول من هذا الحديث (الصلاة عماد الدين) من طريق عكرمة بن عمار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفعه.
قال البيهقي عَقِبَه فيما نقله عن شيخه الحاكم: عكرمة لم يسمع من عمر رضي الله عنه.
قلت: وقد ضعَّف الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
العراقي. "الإحياء وبذيله المغني "(1/ 200).
(2)
النووي في "التنقيح" كما نقل عنه الحافظ في "التلخيص".
(3)
الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 173).
(4)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 316) رقم (632).
(5)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(280).
(6)
المناوي في "فيض القدير"(4/ 326) رقم (5185).
(7)
الفيروز أبادي في "المختصر" كما نقل عنه الشوكاني في "الفوائد ".
(8)
الفتني الهندي في "تذكرة الموضوعات"(ص: 38).
(9)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 39 - 40) رقم (1626).
(10)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 176) رقم (843).
(11)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 131) رقم (139).
(12)
الصالحي في "الشذرات"(1/ 366) رقم (551).
(13)
الصعدي في "النوافح العطرة "(ص: 182) رقم (978).
(14)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 31) رقم (49).
(15)
الألباني في "الضعيفة "(3805) و"ضعيف الجامع"(3566).
(16)
مشهور في "القول المبين"(ص: 450).
التعليق:
قلت: نعم هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، ويغني عنه حديث
(1)
معاذ رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،
(1)
رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي وابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5136).
وتحج البيت، ثم قال له: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} {السجدة: 16} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال: كف (عليك) هذا، قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
(108)
حديث: (الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)
.
(ضعيف)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(3/ 486) رقم (4144)، والخطيب في "المتفق والمفترق" عن جابر رضي الله عنه.
وفيه إبراهيم بن أبي حية وهو واهٍ. كما قال السيوطي في "الجامع الكبير".
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الحافظ في "التلخيص الحبير"(4/ 179) رقم (2069).
(2)
السيوطي في "الجامع الكبير".
(3)
الشوكاني في "نيل الأوطار"(8/ 291).
(4)
العلامة الألباني في "الضعيفة" رقم (5355)
(1)
.
(5)
مشهور في "أخطاء المصلين"(ص: 262 - 263).
فائدة: حديث: (إن الصلاة في بيت المقدس بمائة ألف صلاة) حديث منكر كما قاله الإمام الذهبي والعلامة الألباني. "تمام المنة"(ص: 294).
(1)
وانظر كذلك"إرواء الغليل"(4/ 341 - 343) رقم (1130) و"الترغيب والترهيب"(2/ 506) رقم (757)، و"تمام المنة" (ص: 292) و "ضعيف الجامع"(3521).
وحديث: (وصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة) رواه ابن ماجه، قال العلامة الألباني في "الترغيب والترهيب"(756) ضعيف جداً.
التعليق:
تبين لك أخي الكريم أن حديث: (الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة) ليس بصحيح بل هو ضعيف كما رأيت، والصحيح المحفوظ هو أن الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسين ومئتي صلاة فيما سواه إلا مسجد مكة والمدينة، فقد جاء في الحديث الصحيح
(1)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً).
فملخص ما ثبت في فضل الصلاة في المساجد الثلاثة ما يلي:
(1)
أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة.
(2)
الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة.
(3)
الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة.
أسأل الله العظيم أن يحرره من اليهود المعتدين، وأن ينصر الاسلام والمسلمين آمين.
(1)
أخرجه ابن طهمان في "مشيخته" ومن طريقه الحاكم في "مستدركه" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" والطحاوي في "مشكل الآثار"والبيهقي، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "تمام المنة" (ص: 294)، ومشهور في "أخطاء المصلين" (ص: 264).
(109)
حديث: (ضمَّ وسربل) أو (ضمَّ وأرسل)
.
(لا أصل له)
…
قال شيخنا الوادعي رحمه الله في "رياض الجنة"(ص: 133): وأما الإرسال فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزم بذلك ابن عبد البر كما في "سبل السلام"(1/ 348)، ومحمد بن إبراهيم الوزير كما في "الروض النضير".
فيخشى على القائل ذلك أن يتناوله ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم وكثرة الحديث عني ومن قال عليَّ مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار).
فالواجب هوالتثبت فيما يُعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحل لمسلم أن يعزو شيئاً حتى يعلم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم. اهـ.
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صح وثبت عنه صلى الله عليه وسلم:(أنه كان يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد)، (وأمر بذلك أصحابه)، (وكان يضعهما على الصدر)
(1)
.
(1)
"صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة الألباني"(ص: 88).
قال الصنعاني رحمه الله: قال ابن عبد البر رحمه الله: لم يأتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف أي في ضم اليدين في القيام حال الصلاة، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين
(1)
.
قلت: وأما ما ينسب إلى الإمام مالك رحمه الله من القول بالإرسال فليس بصحيح.
قال الشيخ بكر أبو زيد
(2)
رحمه الله: شهرة النسبة إلى مذهب الإمام مالك رحمه الله القول بالإرسال في الصلاة، وهذا غلط عليه في فهم عبارة "المُدَوَّنة" وخلاف منصوصه، المصرح به في "الموطأ""القبض".
وقد كشف عن هذا جمع من المالكية وغيرهم من مؤلفات مفرده تقارب ثلاثين كتاباَ سوى الأبحاث التابعة في الشروح والمطولات. اهـ.
(1)
"أخطاء المصلين"(ص: 105 - 109).
(2)
"المجموعة العلمية"(ص: 119 - 120).
(110)
حديث: تسمية العام الذي ماتت فيه خديجة رضي الله عنها وأبو طالب بـ (عام الحزن)
.
(لا يصح)
…
لقد اشتهر عند كثير من الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، ووفاة أبي طالب في العام العاشر من بعثته صلى الله عليه وسلم، أنه أطلق على هذا العام:(عام الحزن) لشدة ما كابد فيه من الشدائد في سبيل الدعوة.
وهذه التسمية لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام.
قال العلامة الألباني رحمه الله في "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة النبوية في الرد على جهالات الدكتور البوطي" في كتابه "فقه السيرة"(ص: 26 - 27): هذه التسمية لا تصح، ومما يدل على ذلك أن المصدر الوحيد الذي رأيته قد أورده إنما هو القسطلاني في "المواهب اللدنية" فلم يزد على قوله: فيما ذكره صاعد وصاعد هذا هو ابن عبيد البجلي كما قال الزرقاني في شرحه عليه (1/ 244) فما حال صاعد هذا؟
إنه مجهول لا يعرف، ولم يوثقه أحد، بل أشار الحافظ إلى أنه لين الحديث إذا لم يتابع كما هو حاله في هذا الخبر، على أن قول القسطلاني: وذكره صاعد يشعر أنه ذكره معلقاً بدون إسناد فيكون معضلاً، فيكون الخبر ضعيفاً لا يصح، حتى ولو كان صاعداً معروفاً بالثقة والحفظ وهيهات هيهات. اهـ.
التعليق:
قلت: نعم عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الأحداث الجسام المتتالية في عام واحد في حزن بالغ لا نختلف في ذلك، وإنما النقد موجه إلى تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام بعام الحزن، فإن هذه التسمية لا تصح، نعم لقد تراكمت الأحزان بعد موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب، وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فقد تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غماً على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير مؤوياً ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونال منهم مالم ينله من قومٍ آخرين، كما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم واشتدت على أصحابه، حتى لجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة من مكة فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره، قال ابن إسحاق كما في "السيرة" لابن هشام (2/ 57 - 58): لما هلك أبو طالب نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً، ودخل بيته، والتراب على رأسه فقامت إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم-
يقول لها لا تبكي يابنية، فإن الله مانع أباك. قال ويقول بين ذلك:(ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).
قلت: ولك أخي الداعية قدوة حسنة في رسول صلى الله عليه وسلم، فقد وضع السلى على رأسه وأدميت قدماه، وشج رأسه، وحوصر في الشعب حتى أكل ورق الشجر، وطرد من مكة، وكسرت ثنيته، ورمي عرض زوجته الشريف، وقتل سبعون من أصحابه، وفقد ابنه وأكثر بناته في حياته، وربط الحجر على بطنه من الجوع، واتهم بأنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون كذاب، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} {الكهف: 5}، وهذا بلاء لابد منه، وتمحيص عظيم جداً، وقد قتل قَبْلُ زكريا، وذبح يحيى، وهجر موسى، ووضع الخليل في النار، وسار الأئمة على هذا الطريق، فضُرِج عمر بدمه واغتيل عثمان، وقُتِلَ علي، وجُلدت ظهور الأئمة، وسُجِنَ الأخيار، ونُكِل بالأبرار {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} {البقرة: 214}.
(111)
حديث: - تسمية ملك الموت- (عزرائيل)
.
(لا يصح)
…
(1)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه "الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع"(ص: 108): وأما تسمية ملك الموت (بعزرائيل) فقد اشتهر ذلك بين الناس وقد راجعت مبهمات القرآن لأبي القاسم السهيلي فلم أجد ذلك فيه، ثم راجعت تفسير القرطبي فوجدته ذكر أن اسم ملك الموت "عزرائيل" ولم ينسبه لقائل ولا ذكر فيه أثراً، ثم راجعت تفسير الثعلبي فوجدته حكى أن اسمه عزرائيل وعزاه لتفسير مقاتل وتفسير الكلبي ثم تتبعت الأثار في ذلك فوجدت في كتاب "العظمة" لأبي الشيخ (ص: 160 - 161) قال ثنا أحمد ابن محمد بن عمر ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد وهو أبو بكر بن أبي الدنيا ثنا داود بن رشيد ثنا حكام وهو بن سالم الرازي عن عنبسة وهو ابن سعيد بن الضرير الرازي عن أشعث قال: (سأل إبراهيم عليه السلام ملك الموت واسمه (عزرائيل)، وله عينان عين في وجهه وعين في قفاه، فقال: ياملك الموت ما تصنع إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب، ووقع الوباء بأرض، أو التقى الزحفان كيف تصنع؟ قال: أدعو الأرواح بإذن الله
فتكون بين اصبعي هاتين قال: ودحيت له الأرض فبركت مثل الطست يتناول منها حيث شاء). ضعيف ورجال هذا السند موثقون ولكن أشعث شيخ عنبسة هو ابن جابر الحراني تابعي صغير والحديث معضل. اهـ.
(2)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية"(1/ 42): وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح.
(3)
قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير"(3/ 30): لم أقف على تسميته بذلك في الخبر، أي تسمية ملك الموت (بعزرائيل).
(4)
قال الألباني رحمه الله في "أحكام الجنائز"(ص: 199): وأما تسمية ملك الموت (بعزرائيل) فمما لا أصل له، خلافاً لما هو المشهور عند الناس ولعله من الإسرائيليات
(1)
.
(5)
قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه العظيم "معجم المناهي اللفظية"(ص: 390): خلاصة كلام أهل العلم في هذا أنه لا يصح في تسمية ملك الموت (بعزرائيل) ولا غيره حديث والله أعلم.
(1)
وانظر كذلك انظر "الفتاوى المدنية والإماراتية"(ص: 57).
ثم أشار رحمه الله أن هناك مؤلفاً في هذه المسألة اسمه "الاعتراضات والعراقيل لمن سمى ملك الموت بعزرائيل" لعبد الحي الكناني.
التعليق:
تبين لك أخي الكريم بعد هذا البحث أن تسمية ملك الموت (بعزرائيل) لا تصح وإنما يُقال له ملك الموت كما قال تعالى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} {السجدة: 11} .
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء الطويل: (
…
ثم يجلس ملك الموت عند رأسه).
(112)
حديث: (عشر خصال عملتها قوم لوط
…
).
(موضوع)
رواه ابن عساكر في "تاريخه" عن الحسن مرفوعاً.
بلفظ: (عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة: إتيان الرجال بعضهم بعضاً، ورميهم بالجلاهق، والخذف، ولعبهم بالحمام، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، وقص اللحية، وطول الشارب، والصفير والتصفيق، ولباس الحرير، وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهن بعضاً).
وفي سنده: إسحاق بن بشر أبو حذيفة البخاري وهو كذَّاب.
"ميزان الاعتدال"(1/ 184 - 189)"ولسان الميزان"(1/ 465).
وقد روي الحديث بلفظ آخر: (عشر من أخلاق قوم لوط: الخذف في النادي، ومضغ العلك، والسواك على ظهر الطريق، والصفير، والحمام، والجلاهق والعمامة التي لايتلحى بها، والسكينة، والطريف بالحناء، وحل أزرار الأقبية، والمشي في الأسواق والأفخاذ بادية) رواه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. وهو موضوع.
في سنده: إسماعيل بن يزيد الشامي وهو كذَّاب.
وقد حكم العلامة الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1233) و"ضعيف الجامع"(3711) على الحديث بالوضع.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 324)، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(7/ 13/ 315)، والألوسي في "روح المعاني"(17/ 95)، وذكره صاحب كتاب "الحكم المضبوط في تحريم فعل قوم لوط" (ص: 99).
التعليق:
قلت: هذا الحديث الذي ذُكرت فيه صفات قوم لوط، حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تبين لك.
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر صفات قوم لوط منها:
(1)
إتيان الرجال في أدبارهم دون تستر، قال الله تعالى عن قوم لوط {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} {النمل: 54 - 55}
قال الحافظ ابن كثير
(1)
: فمن قائل أنهم كانوا يأتون بعضهم بعضاً في الملأ، قاله مجاهد.
…
ومن قائل: كانوا يتضارطون ويتضاحكون، قالته عائشة رضي الله عنها والقاسم، ثم قال: وكل ذلك يصدر عنهم وكانوا شراً من ذلك.
(2)
ومن صفاتهم أنهم كانوا قطَّاع طريق، قال تعالى {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
…
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ
(1)
التفسير (3/ 546).
مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} {العنكبوت: 28 - 29} .
أي: تقطعون الطريق على المارة بالقتل وأخذ المال.
قال ابن كثير: أي كانوا يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم.
(3)
أنهم كانوا يتعاطون أنواعاً من المنكر في مجالسهم، قال تعالى
…
{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} {العنكبوت: 29} .
قال بعض العلماء: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} أي: تفعلون في مجالسكم ونواديكم ما لا يليق من أنواع المنكرات علناً وجهاراً أمام الملأ، أما كفاكم قبح فعلكم حتى ضممتم إليه قبح الإظهار.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا يخذفون بالحصى من مر بهم مع الفحش في المزاح، وحل الإزار والصفير وغير ذلك من القبائح.
(4)
ومن صفاتهم ميلهم الجنسي للرجال دون النساء، قال تعالى
…
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} {الشعراء: 165 - 166} .
وقال تعالى عن لوط {قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)} {هود: 78 - 79} .
(5)
ومن صفاتهم الإسراف، قال تعالى عنهم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} {الأعراف: 81}.
(6)
ومن صفاتهم الظلم، قال تعالى {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)} {العنكبوت: 31}.
(7)
ومن صفاتهم الفساد، قال لوط عليه السلام {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)} {العنكبوت: 30}.
(8)
ومن صفاتهم الفسوق، قال تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} {الأنبياء: 74}.
(9)
ومن صفاتهم العدوان، قال تعالى {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} {الشعراء: 166}.
(10)
ومن صفاتهم الجهل، قال تعالى {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} {النمل: 55}.
(11)
ومن صفاتهم الإجرام، قال تعالى {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} {الأعراف: 84}.
(12)
ومن صفاتهم أنهم كانوا يعملون الخبائث قال تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} {الأنبياء: 74}
(1)
.
(1)
"الداء والدواء"(ص: 265) و"أسباب هلاك الأمم"(ص: 225 - 226)، "ولا تقربوا الفواحش" (ص: 59 - 61).
فائدة: العقاب الذي عوقب به قوم لوط كان أشد مما عوقب به غيرهم فقد جمع الله عليهم:
(1)
الصيحة قال تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} {الحجر: 73} .
(2)
قلب الديار قال تعالى {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}
{هود: 82} .
(3)
الحجارة قال تعالى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} {هود: 82 - 83} .
وقال تعالى {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)} {الذاريات: 33} .
(113)
حديث: (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها)
.
(ضعيف)
…
قال العجلوني في"كشف الخفاء"(2/ 108) رقم (1817): قال النجم: رواه الرافعي في "أماليه" عن أنس رضي الله عنه.
قلت: هذا الحديث على شهرته الواسعة في أوساط الناس إلا أنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نصَّ على ذلك أهل هذا الشأن، منهم:
(1)
السيوطي في "الجامع الصغير"(5975).
(2)
السخاوي كما نقل عنه البيروتي.
(3)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 218).
(4)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 198).
(5)
الألباني في "الضعيفة"(3258) قال: منكر. ثم قال: وهذا إسناد ضعيف مظلم بمرة من دون أنس لم أعرفهم جميعاً. و"ضعيف الجامع"(4024)
(6)
شيخنا الوادعي.
…
(7)
اللجنة الدائمة (29/ 225) رقم (17867).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث ضعيف لا تصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن السعي بالفتنة والفساد بين المؤمنين أمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو من صفات شياطين الإنس والجن قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} {الأنعام: 112}.
وقال تعالى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} {الناس: 4 - 5} .
أما كون السعي بالفتنة بين المؤمنين من صفات شياطين الإنس بل ومن صفات منافقيهم فلقوله تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} {التوبة: 47} .
وأما كون السعي بالفتنة بين المؤمنين من صفات شياطين الجن فلقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم) رواه مسلم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً) متفق عليه عن صفية رضي الله عنها.
ولقوله تعالى {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} {الإسراء: 53} . ولقوله تعالى
…
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} {الأعراف: 22} بل إن الذي يشعل الفتن ويؤجج نارها ويدق فتيلها بين المؤمنين فيه شبه ببعض فواسق الدواب، وهي الوزغ التي كانت تنفخ على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب، فقد جاء في "البخاري" من حديث أم شريك رضي الله عنها:(إن الوزغ كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام. وجاء عند أحمد وابن ماجه: (أن إبراهيم لما ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه، إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه)
(1)
.
فانظر رعاك الله لفعل هذه الدابة الفويسقة كيف تنفخ في النار لتزيدها اشتعالاً على النبي الكريم إبراهيم عليه السلام، وكم والله وبالله وتالله من الناس من يفعل فعلها ويقوم بدورها القبيح في إشعال نار الفتنة بين المؤمنين، فما أن تظهر فتنة بين المؤمنين من علماء ودعاة ومصلحين وغيرهم حتى يظهر هذا العاطل ليذكيها بحجة الدفاع عن السنة والدعوة، وهم في حقيقة الأمر لا في العير ولا في النفير، لا للإسلام نصروا ولا للبدعة كسروا، بل من السنة نفَّروا إن بينهم وبين العلم والدعوة بُعْدَ المشرقين، فهم بحق تلاميذ الفتن ومشائخ الفرقة والاختلاف. ومن أبرز صفات هذا الصنف، أنك تراه في الخير نائم، وفي الفتنة قائم، وبحبها هائم، والله المستعان.
(1)
صححه العلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(1581).
(114)
حديث: (كان إذا استعاذ جعل ظاهر كفيه إليه)
.
(ضعيف)
رواه أحمد في "المسند"(16563) عن خلاد بن السائب الأنصاري مرفوعاً. (كان إذا سأل الله جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه).
وفي سنده:
(1)
خلاد مختلف في صحبته، قال الحافظ في "التقريب" (1772) ثقة من الثالثة ووهم من زعم أنه صحابي. قال العلامة الألباني في "الضعيفة" (4199): وهذا التوثيق من الحافظ اجتهاد منه، وكأن وجهه أنه تابعي روى عنه جماعة من الثقات، ولم يجرح، وإلا فهو لم يحك في "التهذيب" توثيقه عن أحد، بل نقل عن العجلي أنه قال: ما نعرفه.
…
(2)
ابن لهيعة، سيء الحفظ.
وقد ضعَّف الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 168).
(2)
ابن الملقن في "البدر المنير"(5/ 171).
(3)
ابن حجر في "التلخيص الحبير"(723).
(4)
الشوكاني في "نيل الأوطار"(4/ 13).
(5)
الألباني في "الضعيفة"(4199) و"ضعيف الجامع"(4417).
(6)
الأرنؤوط في "تحقيق مسند أحمد"(27/ 97 - 98).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذه الصفة وهي قلب اليدين عند الاستعاذة في الدعاء ليست بصحيحة ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بالنسبة للشطر الأخير من الحديث لم يثبت وعلته ما تقدم.
أما الشطر الأول من الحديث فقد جاءت له شواهد تقويه، بل قد ثبت الأمر بذلك والنهي عن السؤال بظهور الأكف، قال صلى الله عليه وسلم:(إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)
(1)
.
أماحديث: (استسقى صلى الله عليه وسلم فأشار بظهر كفيه إلى السماء) رواه مسلم.
قال العلامة بكر أبو زيد
(2)
رحمه الله: أي من شدة الرفع بيده كأن ظهور كفيه نحو السماء، وهذا هو الذي يلتقى مع جميع أحاديث الرفع التي فيها التصريح بجعل بطونهما إلى السماء، ومع حديث مالك
(1)
رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في "الصحيحة"(595).
(2)
"تصحيح الدعاء"(ص: 118 - 119).
ابن يسار رضي الله عنه: (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها) رواه أحمد وأبو داود.
ولم أجد من حلَّ هذا الإشكال على هذا الوجه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما نقله عنه العلامة المرداوي رحمه الله تعالى في "الإنصاف"(2/ 321) حينما ذكر المذهب بجعل ظهور يديه نحو السماء في الاستسقاء لأنه دعاء رهبة، وأن ظاهر كلام كثير من الأصحاب أن دعاء الاستسقاء كغيره في كونه يجعل بطون أصابعه نحو السماء. قال ما نصه: واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: صار كفه نحو السماء لشدة الرفع لا قصداً له، وإنما كان يوجه بطونهما مع القصد وأنه لو كان قصده فغيره أولى وأشهر، قال: ولم يقل أحد ممن يرى رفعهما في القنوت إنه يرفع ظهورهما بل بطونهما. اهـ.
وهو نقل عزيز حَلَّ هذا الإشكال المتعارض ظاهراً، المتآلف باطناً، فيه تآلفت السنن ظاهراً وباطناً والحمد لله.
وقال الشقيري
(1)
: وتقليب أيديهم في دعاء القنوت، وقولهم لا يَذِل من واليت؛ بدعة وحركة في الصلاة سيئة.
(1)
"السنن والمبتدعات"(ص: 52).
(115)
حديث: (كان إذا تغدى لم يتعشَّ وإذا تعشَّى لم يتغدَّ)
.
(ضعيف)
…
رواه ابن بشران في "الأمالي"(412)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 371) رقم (4309) عن عطاء ابن أبي رباح قال دُعي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إلى وليمة فرأى صفرة وخضرة فقال:(أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعشَّ، وإذا تعشَّى لم يتغدَّ).
وعلة الحديث:
(1)
الوضين بن عطاء: سيء الحفظ. "تقريب التهذيب"(7458).
(2)
الإرسال، لأن عطاء لم يوصله عن أبي سعيد رضي الله عنه.
والحديث ضعَّفه:
(1)
العراقي، قال: لم أجد له أصلاً في المرفوع. "إتحاف السادة (7/ 409).
(2)
المناوي في "التيسير شرح الجامع الصغير"(2/ 474).
(3)
السبكي في " أحاديث الأحياء التي لا أصل لها"(1/ 35).
(4)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 235) رقم (1289).
(5)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 143).
(6)
الألباني في "الضعيفة"(250)، و"ضعيف الجامع"(4360).
التعليق:
تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث ضعيف لا تصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن جاءت أحاديث صحيحة حذرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم من الإفراط في الأكل والشرب، ومجاوزة حد الاعتدال فيهما، من ذلك ما جاء عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل في مجلسه:(أقصر عنا جشاءك -أي: أكففه وامنعه عنا- فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة)
(1)
.
وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الميزان المعتدل في الأكل والشرب فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محاله فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)
(2)
.
وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً اتخذوا السمنة هدفاً وغاية لهم وطلبوها وأحبوها وحرصوا عليها فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم
…
ثم يأتي قوم يتسمنون، ويحبون السمن، ويعطون الشهادة قبل أن يسألوها)
(3)
.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" وحسنه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(1179).
(2)
رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه العلامة الألباني في و"الصحيحة" رقم (2265) و"الإرواء"(1983) و"صحيح الجامع"(5674).
(3)
رواه الحاكم والترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3294).
(116)
حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته من طولها وعرضها)
.
(موضوع)
رواه الترمذي (2924)، والبيهقي في "الشعب"(5/ 220 - 221) رقم (6439)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 61)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 194) رقم (1192) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وعلة الحديث: عمر بن هارون بن يزيد الثقفي.
قال الحافظ ابن حجر في "التقريب"(5014): متروك.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال الذهبي في "الميزان"(3/ 228 - 229) قال: ابن معين كذَّاب.
وقال صالح جزرة: كذَّاب ثم ذكر له هذا الحديث.
"تهذيب التهذيب"(7/ 425 - 427).
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على عدم ثبوت هذا الحديث، منهم:
(1)
الترمذي، قال بعد أن ساق الحديث: حديث غريب، وسمعت محمد بن اسماعيل -يعني- البخاري يقول: عمر بن هارون
مقارب الحديث لا أعرف له حديثاً ليس له إسناد أصلاً، أو قال: يتفرد به إلا هذا الحديث.
(2)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 686) رقم (1142).
(3)
السيوطي في "الجامع الصغير".
(4)
الشوكاني في "نيل الأوطار"(1/ 150).
(5)
الألباني في "الضعيفة"(288) حكم عليه بالوضع
(1)
.
(6)
شيخنا الوادعي في "إجابة السائل"(219) و"غارة الأشرطة"(2/ 108 - 109) قال: لا يثبت لأنه عن عمر بن هارون البلخي وقد كذَّبه ابن معين.
(7)
العلامة ابن باز في "مجموع الفتاوى"(4/ 443) و"التحفة الكريمة" رقم (54) قال: هذا الحديث باطل عند أهل العلم ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(8)
اللجنة الدائمة (2/ 40) رقم (2196) قالت: باطل لا صحة له عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن في إسناده راوياً متهماً بالكذب.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(4517) و"ضعيف سنن الترمذي"(525) و "المشكاة"(4439).
قلت: وقد جاءت طائفة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة في مسألة التحقير من اللحى وجواز الأخذ منها، من ذلك:
(1)
حديث: (خذ من لحيتك ورأسك) أخرجه البيهقي في "الشعب"(5/ 221) رقم (6440) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال العلامة الألباني في "الضعيفة"(5/ 375) رقم (2355): ضعيف جداً.
(2)
حديث: (من سعادة المرء خفة لحيته) رواه ابن عدي في "الكامل" عن ابن عباس وأبي هريرة، وهو حديث لا يصح. "الضعيفة"(193).
(3)
حديث: (ينبغي للرجل إذا خرج إلى أصحابه أن يُهيء من لحيته ومن رأسه، فإن الله جميل يحب الجمال). لا يصح، ذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية (1114) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
حديث: (طول اللحية دليل على قلة العقل). لا أصل له؛ ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 60) رقم (1677) بدون سند.
(5)
حديث: (لا يغرنك طول اللحى فإن التيس له لحية). لا أصل له؛ ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 61) تحت حديث رقم (1677)
(1)
. قال الألباني في "الضعيفة"(3/ 375): واعلم أنه لم يثبت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ من اللحية قولاً ولا فعلاً.
(1)
لمزيد الفائدة انظر "الجامع في أحكام اللحية"(ص: 329 - 349)، و"إشراقة أولي النهي في حكم الأخذ من اللحى" (ص: 55 - 59).
التعليق:
قلت: تبين لك أن حديث (كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها) لا يصح؛ والحق في هذه المسألة أنه لا يجوز الأخذ من اللحية ولا حلقها.
وقد نقل ابن حزم في "مراتب الإجماع"
(1)
: الإجماع على أن حلق اللحية لا يجوز.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يُبحه أحد.
وسئلت اللجنة الدائمة
(2)
للبحوث العلمية والإفتاء زادها الله توفيقاً وسداداً: ما حكم حلق اللحية أو أخذ شيء منها؟
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وصحبه
…
وبعد: حلق اللحية حرام؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة والأخبار، لعموم النصوص الناهية عن التشبه بالكفار.
فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب).
وفي رواية: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى).
(1)
(ص: 157).
(2)
"فتاوى اللجنة"(5/ 133 - 135) فتوى رقم (667).
وفيه أحاديث أخرى بهذا المعنى، وإعفاء اللحية تركها على حالها، وتوفيرها إبقاءها وافرة من دون أن تحلق، أو تنتف، أو يُقص منها شيء.
حكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض واستدل بجملة من الأحاديث منها حديث ابن عمر السابق، وبحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من لم يأخذ من شاربه فليس منا) صححه الترمذي.
وقال ابن مفلح في "الفروع": وهذه الصيغة عند أصحابنا -يعني الحنابلة- تقتضي التحريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة؛ لأن مشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة بل وفي نفس الاعتقادات، فهي تورث محبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
وروى الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى). وفي لفظ: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد.
وردَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهادة من ينتف لحيته.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: يحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال، يعني بذلك المتشبهين بالنساء، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. وفي رواية:(كثيف اللحية) وفي أخرى: (كث اللحية) والمعنى واحد. ولا يجوز أخذ شيء منها، لعموم أدلة المنع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الألباني
(1)
رحمه الله: مما لا ريب فيه عند من سلمت فطرته وحسنت طويته أن كلاً من الأدلة السابقة الذكر كافٍ لإثبات وجوب اللحية وحرمة حلقها فكيف بها مجتمعة.
وقال شيخنا الوادعي
(2)
رحمه الله: إعفاء اللحية يعتبر واجباً، وحلقها حرام، وحالق اللحية يعتبر فاسقاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى). ويقول صلى الله عليه وسلم: (ارخوا اللحى).
وكانت لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم تملأ صدره، وقيل لبعض الصحابة رضي الله عنهم بمَ تعرفون النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ؟ قالوا: باضطراب لحيته.
وحلق اللحية يعتبر تشبهاً بالنساء، ويعتبر تشبهاً بالكفار، والأخذ من طولها وعرضها لم يثبت، اترك لحيتك وأعف كما أمرك رسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
"آداب الزفاف" حاشيه (ص: 207 - 212).
(2)
"إجابة السائل"(ص: 219).
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: حلق اللحية حرام لأنه مشابهة للمشركين والمجوس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من تشبه بقوم فهو منهم)، ولأنه تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى وهو من أمر الشيطان .. فحلقها خروج عن هدي عباد الله الصالحين من الأنبياء والمرسلين وغيرهم، وتقصيرها عصيان لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:(أعفوا)، وقال:(وفروا)، وقال:(أرخوا اللحى). فإن هذا يدل على أن من قص منها شيئاً كان واقعاً في معصية النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عصى النبي صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله لقوله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {النساء: 80}.
ولقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} {الأحزاب: 36}
(1)
.
وقال الشيخ صالح الفوزان
(2)
-حفظه الله-: وجاء في الأحاديث أن من خصال الفطرة: إعفاء اللحية وهو توفيرها
…
ومن الناس من يقص لحيته ولا يبقي منها إلا شئياً يسيراً، وهذا يخالف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من توفيرها وإعفائها، فإن معنى ذلك إبقاؤها كاملة من غير تعرض لها بقص أو نتف، ولكن الشيطان لما لم يدرك منه إزالتها بالكلية اكتفى منه بإزالة بعضها، لأنه يريد منه مخالفة السنة على أي وجه.
(1)
انظر "الجامع في أحكام اللحية "(ص: 169).
(2)
"الخطب المنبرية"(2/ 311 - 312).
قلت: الخلاصة أن حلق اللحية محرم من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أنها تغيير لخلق الله.
الوجه الثاني: أن الشرع أمر بإعفائها.
الوجه الثالث: حلقها تشبه بالنساء.
الوجه الرابع: حلقها تشبه بالكافرين.
الوجه الخامس: إجماع العلماء على حرمة حلقها.
والخلاف في التحريم حدث من بعض أهل البدع ثم سرى إلى بعض العلماء، وهذا الخلاف حادث بعد الإجماع فلا يُعتد به باتفاق.
(117)
حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها)
.
(ضعيف)
…
أخرجه أحمد في "المسند"(11155) و (11312)، والترمذي (480)، وأبو يعلى في "المسند"(1270).
وفي سنده: عطية العوفي وهو سيء الحفظ ومدلس.
والحديث ضعَّفه:
(1)
العلامة الألباني في "الإرواء"(460)
(1)
.
(2)
وشعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(11155) و (11312) وتحقيق "زاد المعاد"(1/ 349).
التعليق:
قلت: هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما صلاة الضحى فقد اختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم رحمه الله الأقوال في ذلك فبلغت ستة أقوال:
• أنها سنة مستحبة.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف سنن"الترمذي" (72)، و"المشكاة" (1/ 413)، و"تمام المنة" (ص: 258).
• لا تشرع إلا لسبب.
• لا تستحب أصلاً.
• يستحب فعلها تارة وتركها تارة فلا يواظب عليها.
• يستحب المواظبة عليها في البيوت.
• أنها بدعة.
قلت: وقد ذكر رحمه الله هنالك مستند كل قول، وأرجح الأقوال أنها سُنَّة مستحبة كما قرره ابن دقيق العيد، وهو قول الجمهور ودلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة والله أعلم
(1)
.
(1)
وانظر "زاد المعاد"(1/ 341 - 360) و"سبل السلام"(2/ 35)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(5/ 150).
(118)
حديث: (كان يُكبر بين أضعاف الخطبة، يُكثر التكبير في خطبة العيدين)
.
(ضعيف)
…
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 299)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 37 - 38) رقم (6633)، وابن ماجه في "سننه"(1287)، والطبراني في "الكبير"(5448) و"الصغير"(2/ 143) عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن حدثني أبي عن أبيه عن جده به.
وفي سنده: عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن ضعيف. وأبوه وجده لا يُعرفان كما قاله الألباني
(1)
رحمه الله.
وضعَّف الحديث:
(1)
العلامة الألباني كما تقدم.
(2)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(6633).
(3)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "زاد المعاد"(1/ 448).
(4)
الحلبي في كتابه "أحكام العيدين"(ص: 55).
(5)
حمدي السلفي في تحقيق "المعجم الكبير"(6/ 39) رقم (5448).
(1)
انظر "الإرواء"(3/ 119 - 120) رقم (647)، "وتمام المنة" (ص: 351)، و"ضعيف الجامع"(4597) و"ضعيف سنن ابن ماجه" رقم (234)، و"الروض النضير" رقم (337).
التعليق:
قلت: نعم لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه كبَّر في أثناء خطبة العيد، ولا افتتحها بالتكبير، وإنما كان يستفتح جميع خطبه بالحمد.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، وأما قول كثير من الفقهاء: أنه يفتتح خطب الاستسقاء بالاستغفار، وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، والسنة تقضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله.
وقال ابن القيم رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير.
وقال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله: ومع أنه لا يدل (أي الحديث) على مشروعية افتتاح خطبة العيد بالتكبير فإن إسناده ضعيف
…
فلا يجوز الاحتجاج به على سنية التكبير في أثناء الخطبة.
قلت: والظاهر صحة ماذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والعلامة الألباني ومن قال بهذا القول من المحققين وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بدأ بالتكبير فلا تبطل الخطبة به ولا يحصل بسببها فرقة ونزاع لأنه اجتهاد أكثر أهل العلم
(2)
.
(1)
"تمام المنة"(ص: 351).
(2)
وانظر "السيل الجرار"(1/ 640)، و "زاد المعاد"(1/ 448)، و"شرح مسلم"(6/ 429 - 430)، و"الأم"(1/ 397 - 398)، و"الحاوي"(2/ 493)، و"المجموع"(5/ 23).
(119)
حديث: (كان يليه في الصلاة الرجال ثم الصبيان ثم النساء)
.
(ضعيف)
…
رواه أبو داود في "سننه"(677)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 97)، وأحمد في "المسند"(22896) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
وفي سنده: شهر بن حوشب، وهو ضعيف لسوء حفظه.
والحديث ضعَّفه:
(1)
البيهقي في "الكبرى"(3/ 97).
(2)
الألباني في ضعيف "سنن أبي داود"(677)
(1)
.
(3)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(22896).
التعليق:
تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث ضعيف لا يصح، وهو جعل الصبيان في صفوف خاصة خلف الرجال، ويستدل من يفعل ذلك بهذا الحديث الذي لا يصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن الصبيان يقفون مع الرجال متفرقين بين الصفوف حتى يُضبطوا من الكبار ويا حبذا لو يكون كل صغير بين كبيرين.
(1)
انظر كذلك "المشكاة"(1/ 348) رقم (1115) و"ضعيف الجامع"(4625) و"تمام المنة"(ص: 166 - 167).
قال العلامة الألباني رحمه الله: جاء في الصحيحين (أن أنساً وغلاماً يتيماً وقفا صفاً واحداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على أن الصبي ليس كالمرأة في وقوفها ولو وحدها وراء الرجال، بل له أن يقف مع الرجل. أما إذا كثر الرجال والصبيان فهل يُسن أن يقف الصبيان صفاً واحداً ولو لم يكمل صف الرجال الذي يتقدمهم؟ فهذا يتوقف على ثبوت حديث الباب، ولم يثبت كما عرفت.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والصبيان مع الرجال وإنهم يصفون معهم ولا يتأخرون عنهم، وأما صف النساء وحدهنَّ خلف صفوف الرجال فقد وردت بذلك أحاديث صحيحة.
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: الصحيح عدم جواز إبعاد الصبي عن مكانه في الصف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل، الرجل من مقعده ثم يجلس فيه). ولأنه فيه اعتداء على حق الصبي، وكسراً لقلبه، وتنفيراً له عن الصلاة، وزرعاً للبغضاء والحقد في قلبه.
ولأننا لو قلنا بجواز تأخير الصبيان إلى آخر الصفوف لاجتمعوا في صف واحد وحصل منهم اللعب والعبث في الصلاة، لكن لا بأس بزحزحته عن مكانه للتفريق بينهم إذا خيف منهم اللعب
(1)
.
(1)
انظر "صحيح سنن أبي داود"(1/ 200) و"مجموع فتاوى ابن عثيمين"(13/ 25 - 26) و"أخطاء المصلين"(ص: 222) و"توضيح الأحكام"(2/ 495 - 496).
(120)
حديث: (كتاب الله فيه نبأ ماقبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)
.
(ضعيف)
…
أخرجه الترمذي (3082)، والدارمي (3332)، والبغوي في "شرح السنة"(3/ 9 - 10) و"التفسير"(1/ 39)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 55) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، فقلت ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال:(كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين، والذكر الحكيم وهوالصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} {الجنّ: 1 - 2} من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
هذا الحديث ضعيف في إسناده ثلاث علل:
(1)
أبو المختار الطائي. قال ابن المديني: لا يعرف. وقال أبو زرعة: لا أعرفه، فهو مجهول. وقال الذهبي: حديثه في فضائل القرآن العزيز منكر. "ميزان الاعتدال"(4/ 571) رقم (10585).
(2)
ابن أخي الحارث الأعور. وهو مجهول أيضاً.
(3)
الحارث الأعور: الجمهور على توهينه، واتهمه بعضهم بالكذب ورمي بالرفض. "تهذيب التهذيب"(2/ 133 - 135) و"ميزان الاعتدال"(1/ 435).
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الإمام الترمذي حيث قال بعد سياقه لهذا الحديث: هذا الحديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث الأعور مقال.
(2)
الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن"(ص: 15) قال: والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه، بل كذَّبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده.
(3)
الإمام الذهبي في "الميزان" كما تقدم.
(4)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 164 - 165).
(5)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 76 - 77).
(6)
العلامة الألباني في "ضعيف الترمذي"(554)
(1)
.
(7)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "الطحاوية"(ص: 10).
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا الحديث ضعيف ولا شك أن كتاب الله فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين، والذكر الحكيم وهوالصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، وفضائله كثيرة جداً، فهو يهدي للتي هي أقوم وأفضل وأحسن وأكمل في كل شيء.
قال العلامة الشنقيطي
(2)
رحمه الله: في قوله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {الإسراء: 9} ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جل وعلا -يهدي للتي هي أقوم- أي الطريقة التي هي أسد وأعدل.
(1)
وانظر "المشكاة"(2138) التحقيق الثاني، وتحقيق "الطحاوية" (ص: 71).
(2)
"أضواء البيان"(3/ 409).
وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات وهي توحيد الله والإيمان برسله، وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها مافي القرآن من الهُدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن الكريم، لشمولها لجميع مافيه من الهُدى إلى خيري الدنيا والآخرة.
(121)
حديث: (كذب المنجمون ولو صدقوا)
.
(ليس بحديث)
…
هذا الكلام شائع على ألسِنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه ليس بحديث لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولم أجده في كتب السنة النبوية المطهرة على صاحبها وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، لا في الأمهات الست، ولا في المسانيد ولا المعاجم والأجزاء، بل لم أجده حتى في الكتب التي اعتنت بمثل هذا وجمع مصنفوها فيها الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس "كاللآلئ المصنوعة" و"المقاصد" و"الدرر المنتثرة" و"التمييز" و"كشف الخفاء" وغيرها من الكتب التي كُتبت في هذا الموضوع بل حتى لم أعثر عليه في المؤلفات التي جمع مصنفوها الأحاديث الموضوعة ليحذروا الناس منها، ومن الاعتقاد بها وبأنها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست كذلك، "كالموضوعات" لابن الجوزي و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" لابن عراق، و"تذكرة الموضوعات" لابن طاهرالهندي، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني، وغيرهم ممن ألَّف في الموضوعات مرتباً على الأبواب أو حروف المعجم كالسمهودي والقاري والأزهري وغيرهم.
• وقد سئل عن هذا الحديث الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: في "فتاوى نور على الدرب"(كذب المنجمون ولو صدقوا). فقال: لا أعلم أصلاً لهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• وسئل عنه فضيلة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في "لقاء الباب المفتوح" لقاء رقم (119) فقال: هذا ليس بصحيح، لكن لا يجوز للإنسان أن يصدق المنجمين.
• وسئل عنه فضيلة شيخنا صالح الفوزان -حفظه الله- في "مجموع فتاوى الفوزان"(1/ 32) فقال: لا أعرف له أصلاً من ناحية السند، ولم أقف عليه.
التعليق:
قلت: تبين لك أن هذا ليس بحديث، لكن معناه صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(1)
: قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق، وهم في ذلك من أنواع الكهان، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: إن منا قومًا يأتون الكهان، فقال:(إنهم ليسوا بشيء)، فقالوا: يا رسول اللّه، إنهم يحدثونا أحيانا بالشيء فيكون حقاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (تلك الكلمة من الحق يسمعها الجني يقرها في أذن وليه (، وأخبر: (أن اللّه إذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
(1)
"مجموع الفتاوى"(35/ 172 - 180).
قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} وأن كل أهل السماء يخبرون أهل السماء التي تليهم، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض، فربما سمع الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، وربما أدركه الشهاب بعد أن يلقيها). قال صلى الله عليه وسلم:(فلو أتوا بالأمر على وجهه، ولكن يزيدون في الكلمة مائة كذبة).
وهكذا المنجمون حتى إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها.
قال رئيس منهم: والله إنا نكذب مائة كذبة، حتى نصدق في كلمة.
ثم ذكر رحمه الله: قصة تدل على كذب المنجمين، وهي قصة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك -أو كما قال- فقال علي: بل أسافر ثقة باللّه، وتوكلاً على اللّه، وتكذيباً لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سر به، حيث كان قتاله لهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما يذكره بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر والقمر في العقرب، فكذب مختلق باتفاق أهل الحديث. اهـ.
(122)
حديث: (كفى بالموت واعظاً)
.
(ضعيف)
رواه الطبراني، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 353) رقم (10556)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1410)، وأبو سعيد بن الأعرابي في "معجمه"(962) عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه.
وفي سنده: الربيع بن بدر وهو متروك.
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
الحافظ العراقي في "المغني"(3681).
(2)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 308).
(3)
العلائي.
(4)
المنذري.
(5)
السيوطي.
(6)
المناوي.
…
"فيض القدير"(5/ 5).
(7)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(376).
(8)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 146).
(9)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 121).
(10)
الفتني الهندي في "تذكرة الموضوعات"(ص: 213).
(11)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 216) رقم (1081).
(12)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 251) رقم (139).
(13)
الألباني في "الضعيفة"(502) و"ضعيف الجامع"(4185).
قلت: لكنه صح موقوفاً، كما عند أحمد في "الزهد" (176) وابن أبي الدنيا في "كتاب اليقين" (31) بسند صحيح عن جعفر بن سليمان عن يونس قال: حدثني من سمع عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: فذكره موقوفاً غير مرفوع.
ورواه نعيم بن حماد في "زوائد زهد ابن المبارك"(148) عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً. "الضعيفة"(502).
قلت: وقد جاءت جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة في الترهيب من الموت منها:
• (كفى بالدهر واعظاً وبالموت مفرقاً) رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن أنس رضي الله عنه، وضعَّفه العلامة الألباني في "الضعيفة"(4087) و"ضعيف الجامع"(4171).
• (كفى بالموت مزهداً في الدنيا ومرغباً في الآخرة) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" وأحمد في "الزهد" عن الربيع بن أنس مرسلاً. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4095) و"ضعيف الجامع"(4184).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذه الأحاديث الضعيفة ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات، فإنه لم يذكر في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها عليه)
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن جابر رضي الله عنه.
ولاشك ولا ريب أن الموت أعظم واعظ، كيف لا وهو المصيبة العظمى والرزية الكبرى وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وقلة التفكير فيه وترك العمل له وأن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن افتكر.
قيل: إن أعرابياً كان يسير على جمل فخر الجمل ميتاً، فنزل عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم، ما لك لا تقوم، مالك لا تقوم، ما لك لا تنبعث، هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة، ما شأنك، ما الذي كان يبعثك، ما الذي صرعك، ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متفكراً في شأنه متعجباً في أمره وأنشأ يقول:
جاءته مِنْ قِبَلِ المَنُونِ إشارةٌ
…
فَهَوى صَرِيعاً لليدين وللفَمِ
قال الحسن رحمه الله: قد أفسد الموت على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عيشاً لا موت معه.
(1)
رواه البيهقي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه والبزار عن أنس رضي الله عنه وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1211).
وقيل: ذهب ذكر الموت بلذة كل عيش، وسرور كل نعيم.
فكفى بالموت مزهداً في الدنيا ومرغباً في الآخرة لأنه أعظم المصائب، وأبشع الرزايا، وأشنع البلايا، فتفكر يا ابن آدم في مصرعك وانتقالك من موضعك، وإذا انتقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك، ونقلت من مهادك، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك إلا الأكفان، بل هو للخراب، وجسمك للتراب، فاعتبر يا مسكين بمن صار تحت الثرى، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاء الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه، وليتأمل حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقاربه وخلانه، الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحى التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أجزاؤهم، وترملت نساؤهم، وشمل ذلّ اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم
(1)
.
(1)
"فيض القدير"(5/ 4 - 6) بتصرف.
(123)
حديث: (كل إناء بما فيه ينضح)
.
(ليس بحديث)
هذا الكلام شائع على ألسنة كثير من الناس على أنه حديث نبوي، والصحيح أنه ليس بحديث كما قال ذلك مجموعة ممن كتب في الأحاديث المشتهرة، منهم:
(1)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 378) تحت حديث رقم (810) و (ص: 380) رقم (820).
(2)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 122).
(3)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 149 - 150) تحت حديث رقم (1943) و (2/ 157)(1967).
(4)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 170) رقم (343).
(5)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 168) رقم (196).
(6)
القاري في "المصنوع"(ص: 135) و "الأسرار المرفوعة"(ص: 265).
(7)
الأزهري في "تحذير المسلمين"(ص: 102) رقم (164).
(8)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 254) رقم (1410).
(9)
الصالحي في "الشذرة "(2/ 39) تحت حديث رقم (693).
(10)
القاوقجي في "اللؤلؤ المرصوع"(139).
التعليق:
قلت: لا شك أن معنى هذا الكلام صحيح، فإن الإنسان مهما حاول إخفاء ما في نفسه سوف يظهر ولو بعد حين على فلتات لسانه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، قال تعالى {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} {البقرة: 72}.
وقد أحسن من قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تُخْفَى على الناس تُعلمِ
وقال أحد السلف: من أخفى عنا بدعته لم تخف علينا ألفته.
وقد قيل: اللسان مغراف القلب؛ وكل إناء بالذي فيه ينضح.
قال ابن كثير رحمه الله تحت قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} {محمد: 30} .
قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما سر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
(124)
حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
.
(ضعيف)
…
رواه الحارث بن أسامة في "مسنده"(1/ 308) عن علي رضي الله عنه.
وفي إسناده: سوار بن مصعب الهمداني الكوفي أبو عبد الله الأعمى المؤذن.
قال الذهبي: قال أحمد والدارقطني: متروك.
وقال البخاري: منكر.
وقال النسائي وغيره: متروك.
وقال أبو داود: ليس بثقة.
"ميزان الاعتدال"(2/ 246) رقم (3613) و"نصب الراية"(4/ 60).
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على ضعف هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن عبد الهادي في "التنقيح"، قال: هذا إسناد ساقط؛ وسوار متروك الحديث.
(2)
الحافظ ابن حجر
(1)
.
(1)
"بلوغ المرام"(252) و"التلخيص الحبير"(3/ 34) و"المطالب العالية"(1/ 411).
(3)
السخاوي. كما نقل عنه المناوي في "الفيض".
(4)
السيوطي في "الجامع الصغير".
…
(5)
المناوي في "فيض القدير"(5/ 36) رقم (6336).
(6)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 164).
(7)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 124).
(8)
البيروتي في "أسنى المطالب"(1094).
(9)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 259) رقم (1436).
(10)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 173) رقم (206).
(11)
الألباني في "الإرواء"(1398) و"ضعيف الجامع"(4244).
(12)
العلامة بن باز في "مجموع فتاوى"(19/ 294).
(13)
شيخنا ابن عثيمين في "شرح زاد المستقنع"(9/ 109).
قلت: وقد جاء الحديث موقوفاً عن فضالة بن عبيد كما رواه البيهقي في "المعرفة" و"السنن الكبرى" عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس رضي الله عنهم موقوفاً عليهم. "التلخيص الحبير"(3/ 34).
التعليق:
قد يقول قائل: إن تحريم ربا القرض لم يثبت بحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن حديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ضعيف؟
والجواب: أن هناك أدلة من الكتاب والسنة، وآثار عن الصحابة، وإجماع أهل العلم على تحريم ربا القرض، فإن كان الحديث ضعيفاً فإن الإجماع قد قام على تحريم القرض الذي جر منفعة
(1)
، والإجماع يغني عن هذا الحديث الضعيف.
ولمن أراد الاستزادة في هذه المسألة فليرجع إليها في مواضعها من كتب الفقه.
(1)
انظر "فتاوى اللجنة الدائمة" فتوى رقم (19492).
(125)
حديث: (كُل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)
.
(ليس بحديث)
اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثير من الناس، وقد يظن البعض أنه حديث نبوي، والصحيح أنه من كلام بعض الأدباء حيث قالوا: ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس، كما قيل:
نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس كُلْ ما اشتهيت والبسن ما تشتهيه الناس
"كشف الخفاء"(2/ 153).
التعليق:
قلت: والصحيح أن الإنسان يأكل ما يريد، ويلبس ما يريد في حدود الشرع، فإن المسلم محكوم بالشرع، فما كان في الشرع حسن فهو حسن، وما كان في الشرع قبيح فهو قبيح، وليس الإنسان محكوماً بالناس، وبرغباتهم وشهواتهم وأهوائهم وطبقاتهم، فإن إرضاء الناس غاية لا تدرك كما تقدم، لكن إذا كان لباس الناس موافقاً للشرع فمن السنة أن توافق الناس في لباسهم، كما فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم في موافقة قومه في لباسهم، ولا تشذ عنهم بلباسك فيخشى عليك والحال هذه أن تدخل في لباس الشهرة، والله أعلم.
(126)
حديث: (كلوا واشربوا وعلى الحق تحاسبوا)
.
(ليس بحديث)
هذا من كلام الناس وقد بحثت عنه كثيراً فلم أقف له على مرجع، والذي يظهر أنه من كلام المتأخرين في هذا العصر، لكنه شاع وذاع في بلادنا اليمنية عامة وفي صفوف العامة خاصة حتى ظنه البعض حديثاً أو آية قرآنية.
التعليق:
قلت: الذين يقولون هذا الكلام: يقصدون به أنه إذا كنتم مجموعة فتشاركتم في شراء طعام أو شراب فكل يدفع حصته بدون خجل أو استحياء، حتى يضمن كل واحد منهم حقه، وتسلم القلوب والنفوس من الضغينة، وتبقى الألفة والمحبة بينهم، ولا يظن الصاحب أن صاحبه يبخسه ويهضمه ويستغله ويحتال عليه، إلى غير ذلك مما يحصل بين الأصدقاء والإخوة والزملاء.
وقد تستخدم هذه المقولة فيما هو أعم من ذلك في معاملات الناس، والله أعلم.
(127)
حديث: (كما تكونوا يولى عليكم)
.
(ضعيف)
…
رواه البيهقي في "الشعب"(6/ 22 - 23) رقم (7391) من طريق يحيى عن يونس بن أبي إسحاق مرسلاً.
قال البيهقي: هذا منقطع، ورواية يحيى بن هشام ضعيفة.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(577) عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.
قال الحافظ في "الكافي الشافي"(1/ 345): وفي إسناده مجاهيل.
"موسوعة الحافظ الحديثية"(3/ 121).
والحديث ضعَّفه:
(1)
البيهقي في "الشعب"(6/ 22 - 23) كما تقدم.
(2)
الحافظ ابن حجر في "الكافي الشافي"(1/ 345) كما تقدم.
(3)
السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 46) و"الدرر المنتثرة"(ص: 154) رقم (329) و"الجامع الصغير"(6406).
(4)
المناوي في "فيض القدير"(5/ 60).
(5)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 385) رقم (835).
(6)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 125).
(7)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 166) رقم (1997).
(8)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 182).
(9)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 221) رقم (1108).
(10)
الصالحي في "الشذرة "(2/ 49) رقم (714).
(11)
الصعدي في "النوافح العطرة"(ص: 261) رقم (1450).
(12)
السمهودي في "الغماز على اللماز"(ص: 170) رقم (201).
(13)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 192) رقم (10).
(14)
الألباني في "الضعيفة"(320) و"ضعيف الجامع"(4275) و"المشكاة"(2/ 1097) رقم (3717).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث ضعيف لا تصح نسبته إلى رسول صلى الله عليه وسلم، لكن معناه صحيح فإن الله يقول في كتابه الكريم {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
…
يَكْسِبُونَ (129)} {الأنعام: 129} .
ويقول سبحانه {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} {آل عمران: 165} .
ويقول سبحانه {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} {الرُّوم: 41} .
ويقول سبحانه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} {الرعد: 11} وما قال: (ما بحاكمهم).
وقال سبحانه وتعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
…
(30)} {الشُّورى: 30} .
إلى غير ذلك من الآيات.
وهل الحاكم إلا من الشعب، فإن كان الشعب صالحاً كان الحاكم صالحاً وإن كان الشَّعْب ظالماً كان الحاكم ظالماً.
يداك أوكتا وفوك نفخ
…
أنت الجاني فعلام الصرخ
وقد أحسن وأبدع غاية الإبداع العلامة ابن القيم حيث صور القضية أحسن تصوير وبينها أجمل بيان حيث قال
(1)
رحمه الله في كتابه العظيم "مفتاح دار السعادة":
وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن
(1)
(2/ 177 - 178):
استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عَدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم، وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمَّالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم، ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرَّها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شيبت لهم الولاة، فحِكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلاً عن مثل أبي بكر وعمر، بل وُلاتُنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها.
قلت: وهذا الكلام المحبر النفيس من أعظم قواعد التغيير التي يتنازع تبنِّيها الكثير من الإسلامين.
وأما العلامة الألباني رحمه الله فقد قال تحت هذا الحديث في "الضعيفة"(320): ثم إن الحديث معناه غير صحيح على إطلاقه عندي، فقد حدثنا التاريخ تولي رجل صالح عقب أمير غير صالح، والشعب هو هو.
(128)
حديث: (كن مع الله يكن الله معك)
.
(ليس بحديث)
…
اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثير من الناس، ويظن البعض أنه حديث نبوي، وبعضهم يذكره بلفظ:(من كان مع الله كان الله معه) والصحيح أنه ليس بحديث، وإنما هو من كلام الناس.
"كشف الخفاء"(2/ 369) رقم (2623).
التعليق:
قلت: هذا الكلام ليس بحديث لكن معناه صحيح بلا ريب.
قال ابن رجب رحمه الله: قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} {النحل: 128} .
قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
كتب بعض السلف إلى أخ له أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو، وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} {طه: 46}، وقول موسى {قَالَ
…
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} {الشعراء: 62} .
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا) فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، فمن حفظ الله وراعا حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال، فاستأنس به واستغنِ به عن خلقه وكن معه يكن معك
(1)
.
وقال العلامة ابن القيم
(2)
رحمه الله: إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغنِ أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا، فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم، فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم، وتقربوا إليهم، لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرَّف أنت إلى الله، وتودد إليه، تنل بذلك غاية العز والرفعة. اهـ.
(1)
"جامع العلوم والحكم"(ص: 187 - 188) بتصرف.
(2)
"الفوائد"(ص: 172).
(129)
حديث: (كَنْسُ المساجد مهور الحور العين)
.
(موضوع)
لقد اشتهر هذا الحديث على ألسِنة كثير من الناس في فضل كنس المساجد وتنظيفها، وهو حديث موضوع لا تصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 580) رقم (1808)، وقال: هذا الحديث لا يصح من جميع جهاته.
قال المناوي في "فيض القدير"(5/ 72): قال ابن الجوزي: فيه مجاهيل وعبد الواحد بن زيد متروك.
وقد نصَّ جمع من العلماء على بطلان هذا الحديث، منهم:
(1)
ابن الجوزي كما تقدم.
(2)
الذهبي في "تلخيص الموضوعات"(ص: 352) رقم (962) قال: إسناده مظلم إلى عبد الواحد بن زيد، وهو متروك.
(3)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 383) قال: لا يصح، فيه مجاهيل وعبد الواحد بن زيد متروك.
(4)
السيوطي في "الجامع الصغير".
(5)
المناوي في "فيض القدير"(5/ 72) رقم (6432).
(6)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(9/ 172) رقم (4147)"ضعيف الجامع"(4280) قال: موضوع.
والحديث جاء بلفظ آخر كما في "مجمع الزوائد"(2/ 9) قال الهيثمي: حديث (ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها فمن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، فقال رجل: يا رسول الله، وهذه المساجد التى تبنى على الطريق؟ قال: نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين) رواه الطبراني في "الكبير".
وفي إسناده مجاهيل.
والحديث أورده السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(2/ 376)، والألباني في "الضعيفة"(4/ 170) رقم (1675).
التعليق:
قلت: وردت بعض النصوص في الكتاب والسنة في الحث على تطهير المساجد وتنظيفها تُغني عن هذا الحديث الضعيف، منها:
قوله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} {البقرة: 125} .
وكانت هناك امراة سوداء تقمُّ المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب)
(1)
.
(1)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(455).
(130)
حديث: (الكبر على أهل الكبر صدقة)
.
(ليس بحديث)
هذا الكلام اشتهر على ألسِنة كثير من الناس، ويظنه بعضهم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك، إنما هو من كلام الناس.
وجاء بلفظ: (التكبر على المتكبر صدقة).
قال الرازي: هو من كلام الناس، وليس بحديث.
وانظر:
(1)
"كشف الخفاء"(1/ 374) رقم (1011).
(2)
"أسنى المطالب"(ص: 116) رقم (519).
(3)
"الأسرار المرفوعة"(163).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذه المقولة التي يلوكها كثير من الناس بألسنتهم ليست بحديث نبوي شريف مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من كلام الناس، وكلام الناس يوزن بميزان الشرع، فما وافق الشرع قبلناه وما خالف الشرع تركناه، وهذه المقولة التي تدعو إلى الكبر على أهل الكبر لا شك أنها مقولة مصادمة لنصوص الوحيين. لكن ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوَّز الخيلاء في موضعين فعن جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يُبغِضُ الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يُبغِضُ الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يُبغِضُ الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال، واختياله عند الصدقة، وأما الخيلاء التي يُبغِضُ الله فاختيال الرجل في البغي والفخر)
(1)
.
فائدة:
يخلط كثير من الناس بين المهابة والكبر، وبين الصيانة والتكبر، والتواضع والمهانة.
وإليك هذا الكلام القيم من الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يفرق لك بين ما تشابه عليك:
أولاً: الفرق بين المهابة والكبر.
المهابة: أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حلَّ فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، فاكتسى
(1)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان، وحسنه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(2221).
فائدة: قصة تبختر أبي دجانة رضي الله عنه في غزوه أحد أمام المشركين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن
…
) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 109): رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه، فلا تصح هذه الرواية، وانظر "سير أعلام النبلاء"(1/ 244 - 245).
وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة، فحنت إليه الأفئدة، وقرت به العيون، وأنست به القلوب، فكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، وإن سكت علاه الوقار، وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع.
…
وأما الكبر: فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار، لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله، لا يزداد من الله إلا بعداً، ومن الناس إلا صغاراً أو بغضاً.
…
ثانياً: الفرق بين الصيانة والتكبر.
…
أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوباً جديداً نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به على الملوك فمن دونهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار، والطبوع وأنواع الآثار إبقاء على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثوبه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعة وإزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وآثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي للبياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من تخالطهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين
والذباحين والطباخين ونحوهم، بخلاف صاحب العلو فإنه وإن شابه، هذا في تحرزه وتجنبه، فهويقصد أن يعلو رقابهم ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون وذاك لون.
ثالثًا: الفرق بين التواضع والمهانة.
أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
…
وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفلة في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع والله سبحانه، يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة وفي الصحيح عنه:(وأوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).
والتواضع المحمود على نوعين:
النوع الأول: تواضع العبد عند أمر الله امتثالاً، وعند نهيه اجتناباً، فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشراد، هرباً من العبودية، وتثبت عند نهيه! طلبا للظفر بما منع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية.
والنوع الثاني: تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه، فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى وتفرده بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأخبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس، والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين والله المستعان
(1)
.
(1)
انظر "الروح"(ص: 210 - 213).
(131)
حديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)
.
(ضعيف)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(171) ومن طريقه أخرجه الطيالسي (ص: 153) رقم (1122)، والترمذي (2577) مع "التحفة"، وابن ماجه (4260)، وأحمد في "المسند"(17123)، والطبراني في "الكبير"(7143)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 382) رقم (7720)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 335) رقم (896) و (8/ 185) رقم (11832)، والقضاعي في "مسند الشهاب"، والبيهقي في "السنن"(3/ 369) و"الشعب"(7/ 350) رقم (10546) والخطيب في "التاريخ"(12/ 50)، والبغوي في "السنة"(7/ 333) رقم (4011، 4012) و"التفسير"(3/ 305)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 212) عن شداد بن أوس رضي الله عنهما.
وفي سنده: أبو بكر بن أبي مريم الغساني، وهو ضعيف.
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على ضعف هذا الحديث، منهم:
(1)
الذهبي حيث تعقب الحاكم عندما قال إنه على شرط البخاري. قال الذهبي: لا والله إن في سنده أبا بكر بن أبي مريم وهو واه.
(2)
الحافظ ابن حجر.
…
"موسوعة الحافظ الحديثية"(6/ 180).
(3)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(5319)
(1)
.
(4)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(4/ 382)
(2)
.
(5)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(28/ 350) رقم (17123).
والحديث ذكره: السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 389) رقم (850)، والسيوطي في "الدرر المنتثرة" (ص: 155) رقم (332)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 178) رقم (2029)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 127)، والبيروتي في "أسنى المطالب" (ص: 225) رقم (1132)، والصعدي في "النوافح العطرة" (ص: 265) رقم (1476) والصالحي في "الشذرة"(2/ 54) رقم (726).
التعليق:
قلت: وهذا الحديث مع ضعفه إلا أن معناه صحيح كما قال شيخنا الوادعي وغيره من أهل العلم رحمهم الله.
قال المناوي
(3)
: (الكيس) أي العاقل، وهو حسن التأني في الأمور.
(من دان نفسه) أي حاسبها وأذلها واستعبدها وقهرها، يعني جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربها.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الترمذي"(436) و"ضعيف" ابن ماجه (983) و"المشكاة"(5285) و"الروض النضير"(356) و"ضعيف الجامع"(4305).
(2)
وانظر كذلك "غارة الأشرطة"(1/ 475) و"المقترح"(ص: 10) و"تفسير" ابن كثير (1/ 54).
(3)
"فيض القدير"(5/ 86 - 87) بتصرف.
(وعمل لما بعد الموت) أي قبل نزوله ليصير على نور من ربه، فالموت عاقبة أمور الدنيا، فالكيس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها، وحجبته الشهوات والغفلات.
(والعاجز) المقصر في الأمور.
(من أتبع نفسه هواها) فلم يكفها عن الشهوات، ولم يمنعها عن مقارفة المحرمات واللذات.
(وتمنى على الله) أي فهو مع تقصيره في طاعة ربه واتباع شهوات نفسه، لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والعافية والجنة مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.
قال الحسن: إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة.
ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} {فصِّلت: 23}.
قد أفاد الخبر أن التمني مذموم، وأما الرجاء فمحمود لأن التمني يفضي بصاحبه إلى الكسل، بخلاف الرجاء فإنه تعليق القلب بمحبوب يحصل حالاً.
وقال بعضهم: والرجاء يكون على أصل، والتمني لا يكون على أصل، فالعبد إذا اجتهد في الطاعات يقول: أرجو أن يتقبل الله مني هذا اليسير، ويتم هذا التقصير، ويعفو وأحسن الظن فهذا رجاء، وأما إذا غفل وترك الطاعة وارتكب المعاصي، ولم يبال بوعد الله ولا وعيده، ثم أخذ يقول: أرجو منه الجنة والنجاة من النار، فهذه أمنية لا طائل تحتها، سماها رجاء وحسن ظن وذلك خطأ وضلال.
(132)
حديث: (لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)
.
(ضعيف)
…
رواه أحمد (18979)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 584) رقم (8369)، الطبراني في "الكبير"(1216)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 81) رقم (1760) عن بشر الغنوي.
والحديث إسناده ضعيف: لجهالة عبد الله بن بشر الغنوي، فقد انفرد بالرواية عنه الوليد بن المغيرة المعافري، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان.
والحديث ضعَّفه:
(1)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(2/ 268) رقم (878)
(1)
قال: وجملة القول أن الحديث لم يصح عندي لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغنوي، هذا وهو غير عبد الله بن بشر الخثعمي الثقة الذي أخرج له الترمذي والنسائي كما مال إليه العسقلاني كما في تعجيل المنفعة. اهـ. بتصرف يسير.
(2)
شيخنا الوادعي في تعليقه على "المستدرك"(4/ 584).
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(4655).
(3)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(18957).
التعليق:
قلت: ويُغني عن هذا الحديث الضعيف ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها -قال ثور أحد رواة الحديث: لا أعلمه إلا قال الذي في البحر-، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم، فيدخلوها، فيغنموا، فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون).
والذي يدل عليه هذا الحديث أن هذا الفتح يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى، وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذ يتوجهون إلى مدينة القسطنطينة، فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، سلاحهم التكبير والتهليل.
(133)
حديث: (لعن الله الشارب قبل الطالب)
.
(ليس بحديث)
لقد اشتهر هذا الكلام شهرة عظيمة على ألسِنة كثير من الناس، وهو أنك إذا بدأت بإعطاء الشراب لشخص غير الطالب له تسمع مباشرة هذه المقولة تصك أذنك من أحد الجالسين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الشارب قبل الطالب) وهذا الكلام ليس بحديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، بل هو كلام لا أصل له، وقد بحثت عنه في الكتب التي تحدثت عن الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس، فلم أجده ولعله من خصائص بلادنا اليمنية، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
وقد سئل شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في "فتاوى إسلامية"(4/ 138) عن هذا الحديث (لعن الله الشارب قبل الطالب) هل هذا حديث صحيح خاصة وأنه يتردد على ألسنة كثير من الناس؟
فقال: هذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه من الأحاديث التي اشتهرت على ألسنة الناس وليس لها أصل
…
والواجب على الإنسان أن يتحرى عما ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل لأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس بالكذب على أحد منا، لأنه كذب على شريعة الله سبحانه وتعالى.
وقال في لقاء الباب المفتوح، اللقاء (168): هذا حديث كذب
…
هذا لا صحة له. لكنه ليس من الأدب إذا طلب الإنسان ماءً أن يتقدم أحدٌ عليه، بل يعطى الطالب ثم الطالب يعطي الذي عن يمينه.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذه المقولة ليست بحديث. نعم نبدأ بسقيا من طلب الشراب قبل غيره هذه هي السنة، لكن إذا بدأت بغير الطالب هل أنت ملعون؟
الجواب: لا، لكن ليس من الأدب إذا طلب الإنسان ماءً أن يتقدم أحدٌ عليه، بل يعطى الطالب ثم الطالب يعطي الذي عن يمينه. وهذه المسألة قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتي بلبن قد شيب بالماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي، فقال:(الأيمن فالأيمن).
قال العلامة الالباني: إن بدء الساقي بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لأنه صلى الله عليه وسلم كان طلب السقيا، فلا يصح الاستدلال به على أن السنة البدء بكبير القوم مطلقاً كما هوالشائع اليوم، كيف وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بل أعطى الأعرابي الذي كان عن يمينه دون أبي بكر الذي كان عن يساره، ثم بين ذلك بقوله:(الأيمن فالأيمن)
(1)
.
وقال العلامة ابن عثيمين: بمن يبدأ في إعطاء الإناء إذا أراد أن يعطي الشراب أحداً؟ نقول: إذا كان أحد من الناس قد طلب الشراب، فقال: هات الماء مثلاً، فإنه يبدأ به الأول، وإذا لم يكن أحد طلبه، فإنه يبدأ بالأكبر، ثم الأكبر، يناوله من على يمينه
(2)
.
(1)
"الصحيحة" تحت حديث رقم (1771).
(2)
"شرح رياض الصالحين"(2/ 600 - 601).
(134)
حديث: (لعن الله الناظر إلى عورة المؤمن والمنظور إليه)
.
(موضوع)
…
رواه ابن عدي في "الكامل"(1/ 539) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما مرفوعاً.
وفي سنده: إسحاق بن نجيح.
قال ابن معين: وهو من المعروفين بالكذب ووضع الحديث.
وقد نصَّ على بطلان هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
ابن عدي في "الكامل".
(2)
القاري في "المصنوع"(ص: 250) رقم (451).
(3)
الذهبي في" الميزان"(1/ 200 - 202).
(4)
السيوطي في "ذيل الأحاديث الموضوعة"(ص: 149).
(5)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1/ 476 - 477) رقم (306) و"المشكاة"(2/ 936) رقم (3125).
(6)
العلامة ابن باز في "التحفة الكريمة "(5).
التعليق:
قلت: هذا الحديث موضوع لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النظر إلى العورات فقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال النووي رحمه الله:
• فيه تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل.
• والمرأة إلى عورة المرأة. وهذا لا خلاف فيه.
• وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة.
• والمرأة إلى عورة الرجل. حرام بالإجماع.
وهذا التحريم في حق غير الأزواج مع أزواجهم والسادة مع إمائهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:(احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)
(1)
.
(1)
حسنه العلامة الألباني في "الصحيحة" تحت حديث رقم (1706) وآداب الزفاف (ص: 39).
(135)
حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة)
.
(ضعيف)
…
رواه أحمد في "المسند"(23323) و (23436)، وأبو داود (4826)، والترمذي (2913)، والحاكم (4/ 418) رقم (7835) عن حذيفة رضي الله عنه.
وعلة الحديث الانقطاع: بين أبي مجلز وحذيفة رضي الله عنه، فإن أبا مجلز لم يدرك حذيفة رضي الله عنه.
فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب"(11/ 151) رقم (7812) في ترجمة أبي مجلز لاحق بن حميد، قال: وأرسل عن عمر وحذيفة، وفيه قال الدوري عن ابن معين: لم يسمع من حذيفة.
قال الحافظ العلائي في "جامع التحصيل"(ص: 296) في ترجمة لاحق بن حميد: قال شعبة بن الحجاج: لم يدرك حذيفة، أي لاحق بن حميد.
وضعَّف الحديث:
(1)
ابن مفلح في "الآداب الشرعية"(1/ 405).
(2)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(2/ 97) رقم (638)
(1)
.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(4694) و "ضعيف سنن أبي داود"(1028) و"ضعيف سنن الترمذي"(523) و"المشكاة"(4722).
(3)
شيخنا العلامة الوادعي في "تعليقه على المستدرك"(4/ 418) رقم (7835) و"أحاديث معلة ظاهرها الصحة"(ص: 118).
(4)
شيخنا العلامة عبد المحسن العباد في "شرح سنن أبي داود".
والحديث ذكره:
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(182)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة"(263)، وابن الديبع في "التمييز" (ص: 64)، والعجلوني في "كشف الخفاء"(1061)، والفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص: 164)، والصالحي في "الشذرة"(322)، والبيروتي في "أسنى المطالب"(537).
التعليق:
قال شيخنا عبد المحسن العباد -حفظه الله- في "شرح سنن أبي داود" في شرح هذا الحديث: إذا كان الناس في حلقة مستديرين، ثم جاء واحد وجلس بينهم، فإن هذا قد حصل منه شيء لا ينبغي، وذلك أنه أولاً تخطى الرقاب، وأساء إلى الناس، ثم أيضاً يحجب من جاءوا قبله عن رؤية من أمامهم ممن سبقوا إلى الحلقة، فكون الإنسان يأتي ويجلس وسطهم فيه إساءة إلى الحاضرين بالتخطي أولاً، وبكونه يحجب الذين يكون أمامهم في جهة أخرى. والحديث ضعيف،
…
ولكن المعنى صحيح من جهة أنه عندما يكون الناس حلقة، ثم يتخطى إنسان هذه الحلقة ويجلس في وسطهم، لا شك أن هذا فيه شيء من عدم المعاملة الحسنة للناس، وإنما عليه أن يجلس في حلقة
ثانية تكون وراء هذه الحلقة، اللهم إلا أن يكون ليس وراءهم إلا جدران، وأن هذه الحلقة ليس فيها مجلس إلا في الوسط، فإنه يمكن أن يكونوا حلقاً أخرى في الوسط، وإذا كان الأمر يستدعي جلوسهم ومجيئهم ودخولهم، فإن ذلك لا يتم إلا بهذه الطريقة، وهذا حيث يكونون عدداً فالأولون إما أن يتقدموا أو يتركوا الذين دخلوا يجلسون أمامهم؛ لأن مثل هذه الحالة لا يمكن فيها إلا مثل هذا، فإما أن يتقدم الأولون حتى يصيروا قريباً ممن يحدثهم، إذا كانوا بين يدي من يحدثهم، أو أنهم يبقون ولكن يتحلق الناس حلقاً أخرى في داخل تلك الحلقة، وهذا لا بأس به حيث يكون المكان لا يتسع للناس، وهم محتاجون إلى أن يدخلوا وأن يكونوا في هذا المكان، والمكان مفتوح لمن يدخل، فإذا زاد العدد على ما في المجلس فيمكن أن يجلس الناس في الوسط، وإذا أراد الذين سبقوا أن يتقدموا يتقدمون، وإن أرادوا أن يبقوا في أماكنهم ويتكئون على الجدران، فليتركوا الفرصة لمن جاء بعدهم فيجلس أمامهم. اهـ.
قلت: هناك آداب نفائس في آداب المجالس ذكرها العلماء في كتبهم منها:
(1)
تعميرها بذكر الله تعالى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة) رواه أبو داود والحاكم وصححه الألباني.
(2)
اختيار الرفيق الصالح، عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة) متفق عليه.
(3)
النهي عن إقامة الرجل من مجلسه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا)، وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. رواه البخاري.
(4)
إذا رجع إلى مجلسه فهو أحق به، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) رواه مسلم.
(5)
رفع الأذية عن الجلساء، عن جابر رضي الله عنهما قال: مر رجل في المسجد بسهام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك بنصالها) رواه البخاري ومسلم.
(6)
السلام في القدوم والذهاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى أحق من الآخرة) رواه أحمد الترمذي وأبو داود وغيرهم وصححه الألباني.
(7)
أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، عن شيبة بن عثمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فإن وسع له فليجلس، وإلا فلينظر إلى أوسع مكان يراه فليجلس فيه) رواه البغوي والطبراني والبيهقي في "الشعب" وحسنه الألباني.
(8)
لا يفرق بين اثنين، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) رواه أحمد والترمذي وأبوا داود وصححه الألباني.
(9)
دعاء كفارة المجلس، عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححه الألباني.
(10)
النهي عن الجلوس بين الظل والشمس، عن علي بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس) رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني.
(11)
التحول من المجلس عند النعاس، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نعس أحدكم في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني.
(12)
النهي عن التسمع على الآخرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( .. من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة .. ) رواه البخاري.
(13)
النهي عن تناجي اثنين إذا كانوا ثلاثة بدون إذن الثالث، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس فإن ذلك يحزنه) رواه البخاري ومسلم.
(14)
التفسح في المجلس، قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} {المجادلة: 11}. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا) رواه البخاري ومسلم.
(15)
عدم مقاطعة المتحدث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه البخاري.
(16)
الجلوس في وسط الحلقة، الحديث ضعيف، لكن بعض السلف كان يكره ذلك.
(17)
النهي عن الاتكاء على إلية اليد اليسرى خلف الظهر، عن الشريد ابن سويد قال:(مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، أي وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري، واتكأت على إلية يدي فقال: لا تقعد قعدة المغضوب عليهم) رواه أبو داود وصححه الألباني.
(18)
تجنب طرق الناس، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله: لابد من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجالس فاعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) رواه البخاري ومسلم.
(136)
حديث: (لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن)
.
(منكر)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 490) رقم (2494) عن علي رضي الله عنه.
وفي سنده: علي بن الحسن "دُبَيْس" عده الذهبي في الضعفاء والمتروكين.
وقال الدارقطني: ليس بثقة. وقال الخطيب: منكر الحديث.
والحديث ضعَّفه:
(1)
السيوطي في "الجامع الصغير".
(2)
المناوي في "فيض القدير"(5/ 364 - 365).
(3)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(1350)
(1)
.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث في فضل سورة الرحمن لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم لضعفه
(2)
.
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(4729) و"المشكاة"(1/ 668) رقم (2180).
(2)
وللفائدة: لم يصح في سبب نزول سورة الرحمن شيء. انظر "الاستيعاب في بيان الأسباب"(3/ 313 - 314) و"أسباب النزول " لشيخنا الوادعي رحمه الله.
والذي صح في سورة الرحمن ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: ما لي أراكم سكوتاً لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)
(1)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيت على قول الله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا شيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي وابن المنذر وأبو الشيخ في "العظمة" والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل".
(2)
أخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في "الأفراد" وابن مردويه والخطيب في "تاريخه" وحسنة العلامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(2150) و"صحيح "الجامع" (5138).
(137)
حديث: (لكل مجتهد نصيب)
.
(ليس بحديث)
اشتهر هذا الكلام على ألسِنة كثير من الناس، ويظنه بعضهم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه ليس بحديث كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء، منهم:
(1)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 131).
(2)
القاري في "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع"(244).
(3)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 191) رقم (2065).
(4)
الصالحي في "الشذرة في الأحاديث المشتهرة"(744).
(5)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 229) رقم (1154).
(6)
العامري في "الجد الحثيث في بيان ماليس بحديث"(382).
التعليق:
هذ المقولة معناها صحيح وهي أن كل من اجتهد في شيء لا بد أن يحصل على شيء منه، وقد يكون هذا النصيب من الخير وقد يكون من الشر فتأمل.
قال القاري: وفي معناه: من جد وجد، ومن لجَّ ولجَ.
قال ابن الغرس: ويؤيده قول بعض العارفين: الصدق ضامن لحصول المطلوب.
فائدة: قاعدة (كل مجتهد مصيب).
اشتهرت هذه المقولة، وهذه القاعدة عند كثير من الناس، أن كل مجتهد مصيب فإذا كانت من الإصابة فهي باطلة بأدلة الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} {الأنبياء: 78 - 79} .
فهذه الآية فيها دلالة على بطلان هذه القاعدة، إذ أن داود وسليمان اجتهدا في الحكم فكان الصواب مع سليمان دون داود لقوله تعالى
…
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
وقال أبو إسحاق الاسفرائيني
(1)
: القول بأن كل مجتهد مصيب، أوله سفسطة وآخره زندقة. اهـ.
قلت: ولو قلنا بصحة هذه القاعدة للزم منها لوازم باطلة.
قال ابن حزم في "المحلى"(1/ 70): ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولاً لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا معقول وما كان هكذا فهو باطل.
(1)
"سير أعلام النبلاء"(17/ 355).
ويبطله أيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فنصَّ عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ.
وقد ردَّ هذه القاعدة:
• شيخ الاسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(20/ 19 - 26).
• ابن القيم في "أحكام أهل الذمة"(1/ 117 - 118).
• ابن حزم في "المحلى"(1/ 70).
• الشوكاني في "الفتح الرباني"(1/ 157).
• الألباني في "صفة الصلاة"(ص: 63).
• بكر أبو زيد في "معجم المناهي اللفظية"(ص: 459 - 464).
وغيرهم من أهل العلم.
(138)
حديث: (لن يغلب عسر يسرين)
(ضعيف)
…
رواه الحاكم (2/ 621) رقم (4008)، والبيهقي في "الشعب"(7/ 206) رقم (10013)، والطبري في "التفسير"(12/ 627 - 628) عن الحسن البصري.
في قول الله عز وجل {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول: (لن يغلب عسر يسرين، إن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً).
قلت: هذا الحديث ضعيف علته الإرسال، فإن الحسن البصري رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر الواسطة.
وقد نصَّ جمع من أهل العلم على عدم ثبوت هذا الحديث، منهم:
(1)
الحاكم. قال: مرسل.
(2)
الذهبي. قال: مرسل.
(3)
ابن كثير في "التفسير"(4/ 679). قال: جاء عن الحسن مرسلاً.
(4)
الحافظ في "الفتح"(8/ 582). قال: إسناده ضعيف، ولم يصح في سورة (ألم نشرح) حديث مرفوع.
(5)
السخاوي في "المقاصد الحسنة"(877). قال: ضعيف.
(6)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 132).
(7)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2079) قال: ضعيف.
(8)
البيروتي في "أسنى المطالب" رقم (1162). قال: رُوي عن الحسن مرسلاً، وله طرق ضعيفة. قال العراقي: مراسيل الحسن عندهم مثل الريح.
(9)
الألباني في "الضعيفة"(4342) و"ضعيف الجامع"(4784) قال: ضعيف وعلة الحديث الإرسال.
(10)
شعيب الأرنؤوط في تحقيق "الزاد"(3/ 9). قال: رجاله ثقات لكنه مرسل.
قلت: وقد جاء الحديث بعِدِّة ألفاظ لا يصح منها شيء مرفوعاً، وقد بسط القول فيها السخاوي في "المقاصد الحسنة".
…
التعليق:
قلت: تبين لك ضعف هذا الحديث، ولا شك أن معناه صحيح لقوله سبحانه وتعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
…
يُسْرًا
…
(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
…
يُسْرًا} {الشرح: 5 - 6} .
قال شيخنا ابن عثيمين في تفسير "جزء عم"(ص: 249): فإن اليسر تكرر مرتين والعسر مرة، لأن القاعدة أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ماندر، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير
فالثاني غير الأول لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول، إذاً في الآيتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد. اهـ.
وقد أحسن الشاعر حين قال:
إذا ضاقت بك الدنيا
…
ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين
…
متى تذكرهما تفرح
وقال تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} {الطَّلاق: 2 - 3} .
وقال سبحانه {وَمَنْ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} {الطَّلاق: 4} .
وقال سبحانه {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} {الطَّلاق: 7} .
وقال سبحانه {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} {المائدة: 52} .
فيا أخي الحبيب: أبشر فإن العسر أسير بين يسرين، ومهما ضاقت فإن الفرج قريب، ومهما اشتدت فإن بشائر الفرج قد لاحت بالفرج والمخرج، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام رُمي في النار فقال الله لها {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} {الأنبياء: 69}.
وأحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الغار فقال الله {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} {التوبة: 40} .
ونجَّى الله يونس من ظلمات ثلاث، وأحاط أهل الكفر بموسى ومن معه من المؤمنين فاصطدم بالبحر أمامه وبالعدو خلفه {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
…
الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} {الشعراء: 61 - 66} .
ولقوله سبحانه {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
…
(110)} {يوسف: 110} .
وقال سبحانه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} {آل عمران: 173 - 174} .
قال الشاعر:
عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى
عسى فرجاً يأتي به الله إنه
إذا لاح عسر فارج يسراً فإنه
…
له فرجاً مما ألح به الدهر
له كل يوم في خليقته أمر
قضى الله إن العسر يتبعه يسر
وقال آخر:
أيا فارج الهم عن نوح وأسرته
…
وصاحب الحوت مولى كل مكروبِ
وفالق البحر عن موسى وشيعته
…
ومذهب الحزن عن ذي البيت يعقوبِ
وجاعل النار لإبراهيم باردة
…
ورافع السقم عن أوصال أيوبِ
إن الأطباء لا يغنون عن وصب
…
أنت الطبيب طبيب غير مغلوبِ
وقال آخر:
ثمانية لابد منها على الفتى
…
ولا بد أن تجري عليه الثمانيه
سرور وهم واجتماع وفرقة
…
وعسر ويسر ثم سقم وعافيه
فأبشر يا من تعسرت عليه الأمور فإن الأمر بيد الله من قبل ومن بعد، إن هناك فتحاً مبيناً، ونصراً قريباً، وفرجاً بعد شدة، ويسراً بعد عسر، وأن هناك لطفاً خفياً من بين يديك ومن خلفك، وهناك أملاً مُشرقاً، ومُستقبلاً حافلاً، ووعداً صادقاً {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} {الرُّوم: 6}.
أبشر أخي الحبيب: فبعد الجوع شبع، وبعد الظمأ ريٌّ، وبعد السهر نوم هنيئ، وبعد المرض عافية، سوف ينقشع الظلام ويأتي الضياء، ويزول الظلم، ويسود العدل، بشِّر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشِّر الهموم بفرج مفاجئ وكف حانية، واعلم أن الحبل إذا اشتد سينقطع، واعلم أن بعد الدمعة بسمة، وبعد الخوف أمناً، وبعد الفزع سكينة.
(139)
حديث: (لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه)
.
(موضوع)
هذا الكلام مشتهر على ألسِنة العوام المغرر بهم، وهو كلام باطل عاطل ساقط يدعو إلى الكفر والوثنية.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(11/ 513): هو من كلام أهل الشرك والبهتان. وقال (24/ 335): هو من المكذوبات. وقال (19/ 146): إنما هذا قول بعض جهال الكفار.
(2)
قال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف"(ص: 139) رقم (319)، وإغاثة اللهفان (1/ 243): هو من وضع المشركين عباد الأوثان.
(3)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 402) رقم (883): قال ابن تيمية: إنه كذب، ونحوه قول شيخنا ابن حجر: إنه لا أصل له.
قلت: وقد نقل كلام الحافظ في الحكم على الحديث كذلك:
(4)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 133).
(5)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 198) رقم (2087).
(6)
الصالحي في "الشذرة"(2/ 70) رقم (754).
(7)
القاري في "المصنوع"(ص: 147) رقم (248).
(8)
الأزهري في "تحذير المسلمين"(ص: 162) رقم (581).
(9)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 231) رقم (1165).
(10)
قال الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 28): كذب.
(11)
قال الألباني في "الضعيفة"(1/ 646) رقم (450) و"التوسل"(ص: 22 - 23): موضوع.
التعليق:
قال ابن القيم
(1)
رحمه الله: وحديث (لواعتقد أحدكم ظنه بحجر لنفعه) وأمثال هذه الأحاديث التي هى مناقضة لدين الإسلام، وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال، والله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق كما تقدم.
ومنه حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها.
(1)
"إغاثة اللهفان"(1/ 243 - 244).
وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلاناً نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب، والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعوه العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر، فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب المضطر ولو كان كافراً، وقد قال الله تعالى {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ
…
عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} {الإسراء: 20} .
وقد قال الخليل {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
{البقرة: 126} .
فقال الله سبحانه وتعالى {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
…
الْمَصِيرُ (126)} {البقرة: 126} .
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له بفعله، فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه، أو يشترط في دعائه، أو يكون مما لايجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه، فيظن أن عمله صالح مرضي لله ويكون بمنزلة من أملي له وأمد بالمال
والبنين، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات وقد قال تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} {الأنعام: 44}، فالدعاء يكون عبادة فيثاب عليه الداعي، وقد يكون مسألة تنقضي به حاجته ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضي حاجته ويعاقب على ماجرى عليه من إضاعته حقوقه وإعتداء حدوده، والمقصود: أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، فإن تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.
(140)
حديث: (لو اغتسل اللوطي بماء البحر لم يجئ يوم القيامة إلا جنباً)
.
(موضوع)
أخرجه الديلمي في "الفردوس"(5176).
وفيه: محمد بن العباس بن سهيل وهو كذَّاب.
(1)
قال ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 330) رقم (1567): قال الخطيب: الرجال المذكورون في إسناد هذا الحديث كلهم ثقات غير ابن سهيل وهو الذي وضعه.
(2)
قال الذهبي في "تلخيص الموضوعات"(ص: 291) رقم (788): فيه محمد ابن العباس بن سهيل كذاب.
(3)
قال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 168): ابن سهيل هو الذي وضع هذا الحديث.
(4)
قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة "(2/ 220): ابن سهيل هو الذي وضع هذا الحديث.
(5)
قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(887): باطل.
(6)
قال ابن الديبع في "التمييز"(ص: 133 - 134): باطل.
(7)
قال القاري في "المصنوع"(249): باطل لا أصل له.
(8)
قال البيروتي في "أسنى المطالب"(1167): باطل لا أصل له.
(9)
قال الصالحي في "الشذرة"(755): باطل لا أصل له.
(10)
قال الأزهري في "تحذير المسلمين"(ص: 161): باطل لا أصل له.
(11)
قال الصعدي في "النوافح العطرة"(1538): ضعيف.
(12)
قال شيخنا الوادعي في "إجابة السائل"(ص: 363): وما جاء أن اللوطي لو اغتسل بماء البحر لما طهر: فهو حديث مكذوب لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قلت: وأخرج البيهقي في"شعب الإيمان"(4/ 359) رقم (5403) نحو الحديث المتقدم ولا يصح أيضاً.
قال السخاوي في "المقاصد"(ص: 403): وكل ما في معناه باطل.
التعليق:
قلت: هذا الحديث لا يصح كما تبين لك، لكن الغسل من الجنابة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، سواء كانت جنابة لواط أو زنا
…
وقد سئل شيخ الإسلام
(1)
رحمه الله عن الفاعل والمفعول به بعد إدراكهما ما يجب عليهما، وما يطهرهما، وما ينويان عند الطهاره؟
(1)
"مجموع الفتاوى"(34/ 181)
فأجاب:
…
عليهما الاغتسال من الجنابة وترتفع الجنابة من الاغتسال لكن لا يطهران من نجاسة الذنب إلا بالتوبة
…
الخ.
وأما حكم جريمة فعل قوم لوط، فهي من أقبح الجرائم وأشنعها:
قال الذهبي
(1)
رحمه الله: وأجمع المسلمون من أهل الملل أن التلوط من الكبائر قال تعالى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} {الشعراء: 165 - 166} .
قال صلى الله عليه وسلم: (ملعون من عمل بعمل قوم لوط)
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:(اقتلوا الفاعل والمفعول به)
(3)
.
قال الشوكاني رحمه الله: وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارفي هذه الرذيلة الذميمة بأن يُعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويُعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون من الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم.
وإنما شدد الاسلام في عقوبة هذه الجريمة لآثارها السيئة وأضرارها في الفرد والجماعة.
(1)
"الكبائر"(ص: 80 - 81)
(2)
رواه أحمد عن ابن عباس وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع"(5891).
(3)
رواه أحمد والأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6589).
وهذه الأضرار نذكرها ملخصة من كتاب: الاسلام والطب" فيما يلي:
• الرغبة عن المرأة: من شأن اللواطة أن تصرف الرجل عن المرأة، وقد يبلغ به الأمر إلى حد العجز عن مباشرتها، وبذلك تتعطل أهم وظيفة من وظائف الزواج، وهي إيجاد النسل. ولو قدر لمثل هذا الرجل أن يتزوج، فإن زوجته تكون ضحية من الضحايا، فلا تظفر بالسكن، ولا بالمودة، ولا بالرحمة التي هي دستور الحياة الزوجية، فتقضي حياتها معذبة معلقة، لاهي متزوجة ولا مطلقة.
• التأثير في الأعصاب: وإن هذه العادة تغزو النفس، وتؤثر في الأعصاب تأثيراً خاصاً، أحد نتائجه الإصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده بأنه ما خلق ليكون رجلاً، وينقلب الشعور إلى شذوذ، به ينعكس شعور اللائط انعكاساً غريباً، فيشعر بميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية. ومن هذا تستطيع أن تتبين العلة الحقيقية في إسراف بعض الشبان الساقطين في التزين وتقليدهم النساء في وضع المساحيق المختلفة على وجوههم، ومحاولتهم الظهور بمظهر الجمال بتحمير أصداغهم، وتزجيج حواجبهم، وتثنيهم في مشيتهم، إلى غير ذلك مما نشاهده جميعاً في كل مكان، وتقع عليه أبصارنا في كثير من الاحيان. ولقد أثبتت كتب الطب كثيراً من الوقائع الغريبة التي تتعلق بهذا الشذوذ أضرب صفحاً عن ذكرها. ولا يقتصر الأمر على إصابة اللائط بالانعكاس النفسي، بل هنالك ما تسببه هذه الفاحشة من إضعاف القوى النفسية الطبيعية في الشخص كذلك، وما
تحدثه من جعله عرضة للإصابة بأمراض عصبية شاذة وعلل نفسية شائنة، تفقده لذة الحياة، وتسلبه صفة الإنسانية والرجولة، فتحيي فيه لوثات وراثية خاصة، وتظهر عليه آفات عصبية كامنة تبديها هذه الفاحشة، وتدعو إلى تسلطها عليه.
• التأثير على المخ: واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالاً كبيراً في توازن عقل المرء، وارتباكاً عاماً في تفكيره، وركوداً غريباً في تصوراته، وبلاهة واضحة في عقله، وضعفاً شديداً في إرادته. وإن ذلك ليرجع إلى قلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد فوق الكلى، وغيرها مما يتأثر باللواط تأثراً مباشراً، فيضطرب عملها وتختل وظائفها. وإنك لتجد هنالك علاقة وثيقة بين (النيورستانيا) واللواط، وارتباطاً غريباً بينهما، فيصاب اللائط بالبله والعبط وشرود الفكر وضياع العقل والرشاد.
• السويداء: واللواط إما أن يكون سبباً في ظهور مرض السويداء أو يغدو عاملاً قوياً على إظهاره وبعثه. ولقد وجد أن هذه الفاحشة وسيلة شديدة التأثير على هذا الداء من حيث مضاعفتها له، وزيادة تعقيدها لأعراضه، ويرجع ذلك للشذوذ الوظيفي لهذه الفاحشة المنكرة وسوء تأثيرها على أعصاب الجسم.
• عدم كفاية اللواط: واللواط علة شاذة، وطريقة غير كافية لإشباع العاطفة الجنسية، وذلك لأنها بعيدة الأصل عن الملامسة الطبيعية، لا تقوم
بإرضاء المجموع العصبي، شديدة الوطأة على الجهاز العضلي، سيئة التأتير على سائر أجزاء البدن.
• وإذا نظرنا إلى فسيولوجيا الجماع والوظيفة الطبيعية التي تؤديها الأعضاء التناسلية وقت المباشرة، ثم قارنا ذلك بما يحدث في اللواط، وجدنا الفرق بعيداً والبون بين الحالتين شاسعاً، ناهيك بعدم صلاحية الموضع وفقد ملاءمته للوضع الشاذ.
• ارتخاء عضلات المستقيم وتمزقه: وإنك إذا نظرت إلى اللواط من ناحية أخرى وجدته سبباً في تمزق المستقيم وهتك أنسجته وارتخاء عضلاته وسقوط بعض أجزائه، وفقد السيطرة على المواد البرازية وعدم استطاعة القبض عليها، ولذلك تجد الفاسقين دائمي التلوث بهذه المواد المتعفنة بحيث تخرج منهم بغير إرادة أو شعور.
• علاقة اللواط بالاخلاق: واللواط لوثة أخلاقية ومرض نفسي خطير، فتجد جميع من يتصفون به سيئي الخلق فاسدي الطباع، لا يكادون يميزون بين الفضائل والرذائل، ضعيفي الإرادة ليس لهم وجدان يؤنبهم ولا ضمير يردعهم، لا يتحرج أحدهم، ولا يردعه رادع نفسي، عن السطو على الأطفال والصغار واستعمال العنف والشدة لاشباع عاطفته الفاسدة والتجرؤ على ارتكاب الجرائم التي نسمع عنها كثيراً، ونطالع أخبارها في الجرائد السيارة وفي غيرها، ونجد تفاصيل حوادثها في المحاكم وفي كتب الطب.
• اللواط وعلاقته بالصحة العامة: واللواط فوق ما ذكرت يصيب مقترفيه بضيق الصدر ويرزؤهم بخفقان القلب. ويتركهم بحال من الضعف العام يعرضهم للإصابة بشتى الأمراض ويجعلهم نهبة لمختلف العلل والأوصاب.
• التأثير على أعضاء التناسل: ويضعف اللواط كذلك مراكز الإنزال الرئيسية في الجسم ويعمل على القضاء على الحيوية المنوية فيه، ويؤثر على تركيب مواد المني ثم ينتهي الأمر بعد قليل من الزمن بعدم القدرة على إيجاد النسل، والإصابة بالعقم مما يحكم على اللائطين بالانقراض والزوال.
• التيفود والدوسنتاريا: ونستطيع أن نقول: إن اللواط يسبب بجانب ذلك العدوى بالحمى التيفودية والدوسنتاريا، وغيرهما من الأمراض الخبيثة التي تنتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزودة بمختلف الجراثيم، المملوءة بشتى أسباب العلل والامراض.
• أمراض الزنا: ولا يخفى أن الأمراض التي تنتشر بالزنا يمكن أن تنتشر كذلك بطريق اللواط، وتصيب أصحابه فتفتك بهم فتكاً ذريعاً، فتبلي أجسامهم، وتحصد أرواحهم. مما تقدم نتبين حكمة التشريع الإسلامي في تحريم اللواط، وتظهر دقة أحكامه في التنكيل بمقترفيه، والأمر بالقضاء عليهم وتخليص العالم من شرورهم
(1)
.
(1)
"فقه السنة"(2/ 428) بتصرف.
(141)
حديث: (لوخشع قلب هذا لخشعت جوارحه)
.
(موضوع)
قال السيوطي في "الجامع الصغير" أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول"(ص: 184، 317، 352).
وفي سنده: سليمان بن عمرو بن عبد الله بن وهب أبو داود النخعي.
قال ابن عدي في "الكامل"(4/ 219): اجتمعوا على أنه يضع الحديث.
والحديث ضعَّفه جماعة من العلماء، منهم:
(1)
العراقي في "تخريج الإحياء". "إتحاف السادة المتقين"(3/ 23).
(2)
ابن رجب في "الخشوع في الصلاة"(ص: 12).
(3)
السيوطي في "الجامع الصغير".
(4)
المناوى في "فيض القدير"(5/ 406) رقم (7447).
(5)
زكريا الأنصاري في تعليقه على "تفسير البيضاوي"، كما نقل عنه الألباني في "الضعيفة".
(6)
الألباني في "الضعيفة"(1/ 227) رقم (110)
(1)
وقال: موضوع.
(7)
شيخنا الوادعي في "غارة الأشرطة"(1/ 138)
(2)
قال: لا يثبت.
(1)
وانظر كذلك "الإرواء"(2/ 92) رقم (373)، و"ضعيف الجامع"(4821).
(2)
وانظر كذلك "المقترح"(ص: 13)، و"رياض الجنة" (ص: 105).
(8)
شيخنا ابن عثيمين في "الشرح الممتع"(3/ 233) قال: هذا الحديث ضعيف لا يحتج به.
قلت: وقد روي هذا الحديث موقوفاً على حذيفة بن اليمان وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهم.
فقد أخرج ابن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 194) رقم (150): حدثنا إسحاق ثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد قال: رأى حذيفة بن اليمان رجلاً يصلي يعبث بلحيته فقال: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه).
وهذا الأثر إسناده واهٍ فيه علتان:
الأولى: الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية ولم يصرح بالتحديث.
الثانية: الانقطاع بين ثور بن يزيد وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
وأما أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(18/ 273) ولم ينسبه.
وروي مقطوعاً على سعيد بن المسيب أخرجه ابن المبارك في "الزهد" رقم (1188)، وابن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 194) رقم (151). وفي سنده راوٍ لم يُسَم فالإسناد ضعيف.
قال شيخنا الوادعي رحمه الله: أثر سعيد لم يثبت.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 266) رقم (3308) عن معمر به ولكنه سمى الرجل أبان.
وأبان هو ابن أبي عياش متروك فالإسناد ضعيف جداً.
وأخرجه عبد الرزاق أيضاً رقم (3309) عن الثوري عن رجل قال: رآني ابن المسيب أعبث بالحصى في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). وإسناده ضعيف فيه رجل لم يسم.
وبهذ التخريج يتبين لك أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً ولا موقوفاً ولا مقطوعاً.
قال الألباني رحمه الله: والحديث لا يصح مرفوعاً ولا موقوفاً
(1)
.
التعليق:
قلت: وإن لم يصح الحديث المرفوع، أو الأثر الموقوف، أو الخبر المقطوع، فإن المعنى صحيح لأن البدن تابع للقلب قال صلى الله عليه وسلم:(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد).
قال ابن القيم
(2)
رحمه الله: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق:
(1)
"الخشوع وأثره في بناء الأمة"(ص: 91 - 93) لسليم الهلالي.
(2)
"الروح"(ص: 209).
أن خشوع الإيمان: هو خشوع القلب لله بالتعظيم، والإجلال، والوقار، والمهابة، والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح.
وأما خشوع النفاق: فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعاً والقلب غير خاشع، فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حشي به، وخمدت الجوارح، وتوقر القلب واطمأن إلى الله، وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مخبتاً له، (والمخبت: المطمئن)، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالاً وذلاً وانكساراً بين يديه، سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره وربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء، فهذا خشوع الإيمان وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعاً ومراءاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات، فهو يخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة.
(142)
حديث: (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها)
.
(لا يصح مرفوعاً)
…
أورده الغزالي في "الإحياء"(1/ 217).
وقال العراقي: لم أجده مرفوعاً.
وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة" من رواية عثمان بن أبي دهرش مرسلاً: (لا يقبل الله من عبدٍ عملاً حتى يحضر قلبه مع بدنه).
ورواه أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
ولابن المبارك في "الزهد" موقوفاً على عمار: (لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه). اهـ. "الإحياء مع المغني"(1/ 217).
وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(22/ 612)، وابن القيم في "مدارج السالكين"(1/ 521) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما.
التعليق:
قلت: الحديث لا يصح لكن معناه صحيح ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها)
(2)
.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فإذا لم يعقل من صلاته إلا جزءاً واحداً كان له الأجر بقدر ذلك الجزء وإن برئت ذمته من الصلاة.
وقال الغزالي
(3)
: قال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فجعله إجماعاً، وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى.
(1)
رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3488) و"المشكاة"(2014)، و"صحيح الترغيب"(1083).
(2)
رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"(1626).
(3)
"الإحياء"(1/ 219).
(143)
حديث: (ليس من امبر امصيام في امسفر)
.
(شاذ بهذا اللفظ)
أخرجه أحمد في "مسنده"(23679)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 242)، والطحاوي في "شرح معاني الأثار"(2/ 63) وغيرهم عن كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه.
قال شيخنا الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين"(2/ 179): وعند الإمام أحمد (ليس من امبر امصيام في امسفر)، ومن طريقين آخرين (ليس من البر الصيام في السفر).
ومدار الحديث على الزهري رحمه الله.
ورواية: (ليس من امبر) تصحيف كما في "الكفاية" للخطيب و"التلخيص الحبير" لابن حجر.
بل قال الزهري: لم أسمعه أنا (ليس من امبر امصيام في امسفر) كما عند الحميدي في "مسنده"(2/ 381) فعلم من هذا أن الحديث لم يثبت. اهـ.
وقد حكم الألباني رحمه الله في "الإرواء"(4/ 58) و"الضعيفة"(3/ 264) رقم (1130) على هذا الحديث بهذا اللفظ بالشذوذ.
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم أن هذا الحديث بهذا اللفظ (ليس من امبر امصيام في امسفر) لا يصح. واللفظ الصحيح ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من البر الصيام في السفر).
وأما الصيام في السفر فإنه يدور على الأحكام التكليفية الخمسة.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم أصوم في السفر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت فصم وإن شئت فافطر) رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
…
والجمهور على جواز الصيام والفطر في السفر
(1)
.
(1)
وانظر "فتح الباري"(4/ 183) و"شرح مسلم" للنووي (7/ 230) و "نيل الاوطار"(4/ 251) و"الروضة الندية"(1/ 547).
(144)
حديث: (ما بين كل سماءٍ وسماء مسيرة خمسمائة سنة)
.
(ضعيف)
أخرجه أحمد في "المسند"(1770)، والحاكم في "المستدرك"(3486)، وأبو يعلى في "مسنده" (6/ 149) رقم (6682) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماءٍ إلى سماءٍ خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء).
وفي سنده:
(1)
يحيى بن العلاء. وهو الرازي البجلي. قال عمرو بن علي الفلاس، والنسائي، والدارقطني: متروك الحديث. وقال أحمد: كذَّاب يضع الحديث. وقال أبو داود: ضعفوه.
(2)
عبد الله بن عميرة، مجهول لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل. وذكره العقيلي وابن عدي في جملة الضعفاء. وقال الذهبي: لا يعرف.
(3)
الانقطاع: عبد الله بن عميرة لم يسمع من الأحنف. قال البخاري: عبد الله بن عميرة لا نعلم له سماعاً من الأحنف.
قلت: والحديث له طرق أخرى عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما لا يصح منها شيء
(1)
.
وقد نصَّ على ضعفه غير واحد من أهل العلم، منهم:
(1)
ابن عدي في "الكامل"(9/ 27).
(2)
ابن العربي في شرحه "للترمذي" قال: أمور تلقفت من أهل الكتاب ليس لها أصل من الصحة.
(3)
الجوزقاني في "الأباطيل"(1/ 209 - 210).
(4)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 24 - 25).
(5)
الذهبي في "التذكرة" قال: والخبر منكر.
(6)
ابن كثير في "التفسير"(4/ 389) قال: في إسناده نظر، وفي متنه غرابة ونكارة.
(7)
أحمد شاكر في تحقيق "المسند".
(1)
هذا الحديث يسمى بحديث الأوعال، والأوعال: جمع وعل، بفتح الواو وضمها مع كسر العين، وأصله تيس الجبل، والمراد هنا ملائكة على صورة الأوعال، على ما قاله ابن الأثير في "النهاية"(5/ 179 - 180).
(8)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(3/ 398) رقم (1247)
(1)
.
(9)
شيخنا الوادعي في "تعليقه على المستدرك"(3486)، و"الجمع بين الصلاتين في السفر" (ص: 111) قال-رحمه الله: ولم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير ما بين السماء والأرض، ولا ما بين كل سماءين.
(10)
الأرنؤوط في تعليقه على "الطحاوية"(ص: 365)، وتحقيق "المسند"(3/ 292) رقم (1770).
التعليق:
قلت: تبين لك أخي الكريم ضعف هذا الحديث، وفي القرآن الكريم والسنة الصحيحة ما يبين عظمة الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهو العظيم جلت عظمته عن الوصف، ولا طريق لمعرفة الله والإقرار بعظمته وجلاله إلا بالنظر في آيات الله المتلوة، والتدبر في معاني هذه الآيات، أو النظر في آيات الله الكونية، والتأمل في عظيم صنع الله تعالى، وقد حثنا القرآن الكريم على الأمرين، فقال المولى تبارك وتعالى في تدبر آيات القرآن العظيم:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
…
{محمد: 24} .
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(6093)، و"ضعيف سنن" الترمذي (651)، و"ضعيف سنن" أبي داود (4723)، و"ضعيف سنن"ابن ماجه (34)، و"المشكاة" (3/ 1598) رقم (5735) و"تخريج الطحاوية" (ص: 277).
وقال سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ
…
لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} {ق: 37} .
وقال سبحانه في الحث على التفكر في آيات الكون {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
…
(191)}
…
وقال سبحانه {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} {الذاريات: 20 - 21} .
ففي الأرض من الآيات الدالة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوان والجبال والقفار والأنهار والبحار، وما دق وما عظم من المخلوقات، ما يدل على عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه الذي تحار فيه العقول.
وما في السماء من آيات أعظم مما في الأرض، فقد بناها الخلاق العظيم بقوة وأوسع خلقها، وبغير عمد رفعها وأقامها، وزينها بالنجوم والكواكب، حتى إن الناظر إليها بأعظم وسائل التقنية من تلسكوب أو
أقمار صناعية ليحارمن عظمتها وسعتها {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} {الذاريات: 47} .
وإذا كان العلماء قد استطاعوا تقدير المسافة بين الأرض وبين القمر، وبين الأرض وبين الشمس، مستخدمين في ذلك سرعة الضوء كوحدة للقياس، فإنهم لا يزالون يعلنون عن عجزهم عن مجرد رؤية أبعاد السماء أو تصور سعتها، ولهذا يعبرون عنها بأنها فضاء لا نهائي.
وقد اهتم أهل السنة بما يثير في النفوس كوامن التعظيم لله عز وجل، فكتبوا في ذلك وصنفوا، ويندر أن تجد كتابًا من كتب الاعتقاد على طريقة السلف الصالح إلا وتجد فيه أبوابًا في عظمة الله تعالى، وعظمة بعض مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه كالحديث عن الملائكة ومنهم حملة العرش ومن حوله، والحديث عن الكرسي والعرش وعظم خلقهما.
ومن علماء السلف من صنَّف في موضوع العظمة ذاته، فكتبوا في دلائل عظمة الله تعالى في آياته المنظورة وآياته المتلوة المسموعة، ومن أشهر من كتب في موضوع "العظمة" أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ المتوفى سنة 369 هـ، ومن قبله أبو أحمد العسال المتوفى سنة 349 هـ.
(145)
حديث: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار)
.
(موضوع)
أخرجه الطبراني في"الصغير"(2/ 78)، و"الأوسط"(6623)، والقضاعي في "مسند الشهاب " من طريق الطبراني من رواية عبد القدوس، كما في "فتح الوهاب"(2/ 50) رقم (506).
وفي سنده: عبد القدوس بن حبيب، كذَّاب.
وقد نصَّ على ضعف هذا الحديث:
(1)
الحافظ ابن حجر في "الفتح"(11/ 188) حيث قال: وسنده واهٍ جداً.
…
"موسوعة الحافظ الحديثية"(3/ 114).
(2)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 280).
(3)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 242) رقم (2205).
(4)
الألباني في "الضعيفة"(2/ 78) رقم (611)، و"ضعيف الجامع" (5056) قال: موضوع.
والحديث ذكره الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين"(8/ 164)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 430) رقم (954)، وابن الديبع في "التمييز"
(ص: 45)، والسيوطي في "الدر المنثور"(2/ 90)، والصالحي في "الشذرة"(2/ 107) رقم (819)، والصعدي في "النوافح العطرة" (ص: 308) رقم (1253)، والبيروتي في "أسنى المطالب" (ص: 247) رقم (1253).
التعليق:
قلت: الحديث لا يصح لكن معناه صحيح.
قال المناوي
(1)
رحمه الله: ما خاب من استخار الله تعالى، والاستخارة طلب الخيرة في الأمور منه تعالى، وحقيقتها تفويض الاختيار إليه سبحانه فإنه الأعلم بخيرها للعبد والقادر على ما هو خير لمستخيره إذا دعاه أن يخير له فلا يخيب أمله، والخائب من لم يظفر بمطلوبه.
(ولا ندم من استشار): أي أدار الكلام مع من له تبصرة ونصيحة.
قال الحرالي: والمشورة أن يستخلص من حلاوة الرأي وخالصه من خبايا الصدور كما يشور العسل جانبه، وفي بعض الأثار نقحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة.
وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك على عقلك، وقالوا: إذا أشكلت عليك الأمور وتغير لك الجمهور فارجع إلى رأي العقلاء وافزع إلى استشارة الفضلاء ولا تأنف من الاسترشاد ولا الاستمداد.
(1)
"فيض القدير"(5/ 564).
وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم أو الغافل فإنه يكون جازماً بشيء يعتقد أنه صواب وهو بخلافه.
وقال بعضهم:
إذا عزّ أمر فاستشر فيه صاحباً
…
وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها
…
وتدرك ماقد حل في موضع الشهب
وقال الأرجاني:
شاور سواك إذا نابتك نائبة
…
يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحاً من نأى ودنى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
قال شيخنا ابن عثيمين
(1)
: والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأى والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خلق ضعيفاً، فقد تشكل عليه الأمور، وقد يتردد فيها، فماذا يصنع؟ فمثلاً همَّ أن يشتري سيارة، أو بيتاً، أو أن يصاهر رجلاً، أو ما أشبه ذلك ولكنه متردد فماذا يصنع؟ نقول له طريقان:
الطريق الأول: استخارة رب العالمين الذي يعلم ما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة، قال تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .
(1)
"شرح رياض الصالحين "(2/ 555 - 557).
وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى} {آل عمران: 159} .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسَدُّ الناس رأياً، وأصوبهم صواباً يستشير أصحابه في بعض الأمور التي تشكل عليه، كذلك خلفاؤه من بعده كانوا يستشيرون أهل الرأي والصلاح، ولا بد من هذين الشرطين فيمن تستشيره:
أن يكون ذا رأي وخبرة في الأمور وتأن وتجربة وعدم تسرع.
وأن يكون صالحاً في دينه. لأن من ليس بصالح في دينه ليس بأمين، حتى وإن كان ذكياً وعاقلاً ومحنكاً في الأمور، إذا لم يكن صالحاً في دينه فلا خير فيه، وليس أهلاً لأن يكون من أهل المشورة، لأنه إذا كان غير صالح في دينه فإنه ربما يخون -والعياذ بالله- ويشير بما فيه الضرر، أو يشير بما لا خير فيه فيحصل بذلك من الشر والفساد ما الله به عليم، ولنفرض أنه رجل من أهل الفسق والمجون والفجور فلا يجوز أن تستشيره لأن هذا يوقعك في الهلاك كذلك لو كان رجلاً صالحاً ديناً أميناً لكنه مغفل، ما يعرف الأمور أو متسرعاً لا خبرة له، فهذا أيضاً لا تحرص على استشارته، لأنه ربما إذا كان مغفلاً لا يدري عن الأمور يأخذ الأمور بظواهرها، ولا يعرف شيئاً مما وراء الظواهر، كذلك إذا كان متسرعاً فإنه ربما يحمله التسرع على أن يشير عليك بما لا خير فيه فلا بد أن يكون ذا خبرة وذا رأي وصلاح في الدين.
وقال الله تبارك وتعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} {الشُّورى: 38} .
يعني أمرهم المشترك الذي هو للجميع، كالجهاد مثلاً فإنه شورى بينهم، فإذا أراد ولي الأمر أن يجاهد أو أن يفعل شيئاً عاماً للمسلمين فإنه يشاروهم ولكن كيف تكون المشورة؟ المشورة تكون إذا حدث له أمر يتردد فيه، جمع الإمام من يرى أنهم أهل للمشورة برأيهم وصلاحهم واستشارهم.
أما الاستخارة: فهي مع الله عز وجل، يستخير الإنسان ربه إذا هم بأمر وهو لا يدري عاقبته ولا يدري مستقبله، فعليه بالاستخارة، والاستخارة: معناها طلب خير الأمرين.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بأن يصلي الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهي، إلا في أمر يخشى فواته قبل خروج وقت النهي فلا بأس أن يستخير ولو في وقت النهي.
أما ما كان فيه الأمر واسعاً فلا يجوز أن يستخير في وقت النهي، فلا يستخير بعد صلاة العصر وكذلك بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس مقدار رمح، كذلك عند زوالها حتى تزول لا يستخير، إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلم وإذا سلم قال: (اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك
العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر ويسميه، خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله -يعني إما أن تقول هذا أو هذا- فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به) وينتهي.
ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوب، يأخذ بما ينشرح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء وبقي متردداً أعاد الإستخارة مرة ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة إذا لم يتبين له شيء بعد الإستخارة، فإنه يشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أشير به عليه فهو الخير إن شاء الله، لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلاً إلى شيء معين حتى يستشير، فيجعل الله تعالى ميل قلبه بعد المشورة.
وقد اختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الإستخارة؟
والصحيح أن المقدم الاستخارة، فقدم أولاً الاستخارة لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا هم أحدكم بالأمر فليصل ركعتين) ثم إذا كررتها ثلاث مرات ولم يتبين لك الأمر فاستشر، ثم ما أشير عليك به فخذ به، وإنما قلنا: إنه يستخير ثلاث مرات لأن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا دعا ثلاثاً،
والاستخارة دعاء، وقد لا يتبين للإنسان خير الأمرين من أول مرة، بل قد يتبين في أول مرة، أو في الثانية، أو في الثالثة وإذا لم يتبين فليستشر.
…
فائدة:
لا يُستخار في فعل الواجبات والمستحبات، ولا في ترك المحرمات والمكروهات، وإنما تكون الاستخارة في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعاً
(1)
.
(1)
"فتح الباري"(11/ 188).
(146)
حديث: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)
.
(لا أصل له مرفوعاً)
أخرجه أحمد (3600)، والطيالسي في "مسنده" (ص: 33)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"
(1)
عن أنس رضي الله عنه.
(1)
قال ابن القيم في "الفروسية"(ص: 167): إن هذا الأثر ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إليه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله.
(2)
قال ابن عبد الهادي: روي مرفوعاً عن أنس بإسناد ساقط، والأصح وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه. "كشف الخفاء"(2/ 245).
(3)
قال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 133) رقم (6804): غريب مرفوع ولم أجده إلا موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 281) رقم (452): تفرد به النخعي. قال أحمد بن حنبل: كان يضع الحديث، ثم قال: وهذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
(1)
"صحيح الفقيه والمتفقه"(ص: 161) رقم (267).
(5)
قال العلامة الألباني في "الضعيفة"(2/ 17) رقم (533): لا أصل له مرفوعاً وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه.
(6)
قال شيخنا الوادعي في "مجموع فتاوى" الوادعي (1/ 402): لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في "مسند" أحمد بسند حسن.
(7)
وضعَّف الحديث الأرنؤوط في تحقيق "المسند"(3600)، وتحقيق "الزاد"(5/ 795)، وحسَّن الأثر الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، وصحح الموقوف أحمد شاكر في تحقيق "المسند"(3700).
والحديث ذكره: السيوطي في "الدرر المنتثرة"(402)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 431) رقم (959)، والصالحي في "الشذرة"(2/ 109) رقم (824)، والصعدي في "النوافح العطرة" (ص: 310) رقم (1736)، والعامري في "الجد الحثيث"(423)، والبيروتي في "أسنى المطالب" (ص: 247) رقم (1257).
التعليق:
قلت: هذا الحديث يستدل به كثير من أهل البدع والأهواء على تحسين ما ابتدعوه بحجة أنه حسن، وأن ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
والجواب على هذا من أوجه:
أولاً: الحديث لا يثبت كما تبين لك.
ثانياً: لا يجوز أن يُعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أحد من الناس كائناً من كان.
ثالثاً: أن (ال) في قوله (المسلمون) للعهد وهو راجع إلى الصحابة فهم المقصودون هنا كما يدل له سياق الأثر حيث قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء).
وقد جاء في بعض الروايات زيادة وهي: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر) ففي هذا دلالة على أن المراد بالمسلمين في هذا الأثر الصحابة.
ومما يدل على هذا كذلك إخراج الأئمة المصنفين للحديث هذا الأثر في كتاب الصحابة كما فعل الحاكم في "المستدرك" فقد أخرجه في معرفة الصحابة ولم يورد أوله بل ذكره من قوله (ما رأى المسلمون حسناً
…
) فهذا يدل على أن أبا عبد الله فهم أن المقصود بالمسلمين الصحابة، وإذا كان الأمر كذلك فقد علم أن الصحابة رضوان الله عليهم مجمعون على ذم البدع كلها وتقبيحها، ولم يروَ عن أحد منهم تحسين شيء من البدع.
رابعاً: على القول أن (ال) هنا ليست للعهد وإنما هي للاستغراق يكون المراد به الإجماع، والإجماع حجة.
قال العز بن عبد السلام
(1)
: إن صح الحديث فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع.
وهنا نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن في الدين بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟ إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها، بل انعقد الإجماع في القرون الأولى أن كل بدعة ضلالة، ولا زال الأمر على ذلك ولله الحمد.
خامساً: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع مع أنه كان من أشد الصحابة نهياً عن البدع وتحذيراً منها، وقد سبق النقل عنه أنه قال:(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة) وكلامه رضي الله عنه في النهي عن البدع كثير جداً)
(2)
.
(1)
"الفتاوى"(ص: 42) رقم (9).
(2)
"الضعيفة"(2/ 17 - 19) و "اللمع في الرد على محسني البدع"(ص: 26 - 30) بتصرف.
(147)
حديث: (ما زال يقنت حتى فارق الدنيا)
.
(منكر)
…
أخرجه أحمد في "المسند"(12657)، وعبد الرزاق في "المصنف"(3/ 110) رقم (4964)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 211)، والدارقطني في "السنن"(2/ 41) رقم (20)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 201)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 244)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 441) رقم (753)، والبغوي في "شرح السنة"(2/ 244) رقم (640) عن أنس رضي الله عنه.
وفي سنده: أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان، وهو سيء الحفظ.
قال ابن المديني: كان يخلط.
وقال أبو زرعة: كان يهم كثيراً.
وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
"زاد المعاد"(1/ 275 - 276)، و"ميزان الاعتدال"(3/ 320) رقم (6595)، و"تاريخ بغداد"(11/ 146)، و"تهذيب التهذيب"(12/ 49).
والحديث ضعَّفه جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 441)، و"التحقيق في أحاديث الخلاف"(1/ 462 - 464) رقم.
(2)
ابن القيم في "زاد المعاد"(1/ 275 - 276).
(3)
الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 245).
(4)
الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 136) رقم (2422 - 2423).
(5)
الشوكاني في "نيل الأوطار"(2/ 400 - 401).
(6)
المباركفوري في "تحفة الأحوذي"(2/ 433).
(7)
العلامة الألباني في "الضعيفة"(3/ 384) رقم (1238).
(8)
شيخنا العلامة الوادعي في "رياض الجنة"(ص: 72).
(9)
شعيب الأرنؤوط في "تحقيق المسند"(12657).
(10)
شيخنا العلامة ابن عثيمين في "مجموع الفتاوى"(14/ 178).
(11)
شيخنا العلامة الفوزان في "تسهيل الإلمام "(2/ 265).
(12)
اللجنة الدائمة (7/ 42 - 45).
(13)
الشقيري في "السنن والمبتدعات"(ص: 62).
(14)
مشهور بن حسن في "أخطاء المصلين"(ص: 126).
التعليق:
قلت: هذه المسألة من المسائل التي طال فيها النزاع واشتد فيها الخلاف بين المسلمين، والحكم عند الخلاف والنزاع الرجوع إلى الكتاب والسنة قال تعالى:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} {النساء: 65} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).
والذي ترجح في هذه المسألة هو ضعف حديث أنس رضي الله عنه الذي لو صح لكان فيصلاً في محل النزاع، ومُحَال أن يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته يدعو وهم يُؤمِّنون على دعائه كل فجر ثم لا يتواتر ذلك عنه، بل يأتينا من طرق ضعيفة واهية، بل يقول بعض الصحابة: إنه محدث وبدعة، بل قال بعض العلماء: لو فرضنا صحة هذا الحديث: (لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البته، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع كما قال تعالى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} {الرُّوم: 26} وقال تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ} {الزُّمر: 9} .
وقال تعالى {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} {التَّحريم: 12} .
وقال زيد بن أرقم: لما نزل قوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} {البقرة: 238} أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وأنس رضي الله عنه لم يقل لم يزل يقنت بعد الركوع رافعاً صوته (اللهم اهدني فيمن هديت
…
) ويُؤَمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: (ربنا ولك
الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد
…
) الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت وتطويل هذا الركن قنوت، وهذا الدعاء المعين قنوت، فمن أين لكم أن أنساً إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت، ولا يقال: تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها، وأنس خص الفجر دون سائر الصلوت بالقنوت ولا يمكن أن يقال: إنه الدعاء على الكفار لا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين لأن أنساً أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركه فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف؟
والجواب من وجوه:
أحدها: أن أنساً قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء. فما بال القنوت اختص بالفجر، فإن قلتم المغرب كان قنوتاً للنوازل لا قنوتاً راتباً؟ قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو قنوت، وقنوت الفجر سواء وما الفرق؟ قالوا: ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة لا قنوتاً راتباً أن أنساً أخبر بذلك، وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال:(قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعوا على حي من أحياء العرب ثم تركه).
الثاني: أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون وإن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان، ففي الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال:(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حَيَّان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له: بئر معونة فقال القوم والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا عليهم رسول الله شهراً في صلاة الغداة) فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائماً، وقول أنس:(فذاك بدء القنوت) مع قوله: (قنت شهراً ثم تركه) دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل، وهو الذي وقته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته، اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، اللهم أنجِ سلمة بن هشام، اللهم أنجِ عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم فلم يدعُ لهم فذكرت ذلك له فقال: أوما تراهم قد قدموا
(1)
.
(1)
"زاد المعاد"(1/ 275 - 276) و "نيل الأوطار"(2/ 400 - 401) و"القول المبين في أخطاء المصلين"(126 - 130). وللتوسع في هذه المسألة انظر رسالة "إسفار الصبح بتفصيل القول في قنوت الصبح" لمجدي بن عبد الهادي.
قلت: وممن قال بعدم شرعية القنوت في صلاة الفجر من علمائنا المعاصرين رحمهم الله:
• اللجنة الدائمة في "الفتاوى"(7/ 42 - 45).
• العلامة الألباني في "تمام المنة"(ص: 243 - 244).
• شيخنا العلامة الوادعي في "رياض الجنة"(72).
• شيخنا ابن عثيمين في "مجموع الفتاوى"(14/ 178).
(148)
حديث: (ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)
.
(لا أصل له)
ذكره الغزالي في "الإحياء"(3/ 19) وهو حديث باطل لا أصل له مرفوعاً، بل هو من الإسرائيليات كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
العراقي. "اتحاف السادة المتقين"(7/ 234).
(2)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"(5/ 87)، و"الصغرى"(18/ 122)، و"الأحاديث الضعيفة والباطلة"(1).
(3)
الزركشي في "التذكرة"(17).
(4)
ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(ص: 364).
(5)
ابن حجر في "الفتاوى الحديثية"(1/ 206).
(6)
السخاوي في "المقاصد"(ص: 438) رقم (990)
(7)
ابن عراق في "تنزيه الشريعة"(1/ 148) رقم (45).
(8)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 30).
(9)
السيوطي في "الدرر المنتثرة"(ص: 165) رقم (363).
(10)
ابن الديبع في "التمييز"(ص: 150).
(11)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 255) رقم (2256).
(12)
العامري في "الجد الحثيث"(ص: 200 - 201) رقم (430).
(13)
القاري في "المصنوع"(ص: 164) رقم (293).
(14)
البيروتي في "أسنى المطالب"(ص: 252) رقم (1289).
(15)
الصالحي في "الشذرة"(2/ 117) رقم (849).
(16)
الأزهري في "تحذير المسلمين"(ص: 166) رقم (609).
(17)
شيخنا الوادعي في "غارة الأشرطة"(1/ 177).
(18)
اللجنة الدائمة (29/ 274).
التعليق:
قال البيروتي
(1)
: وفي هذا الحديث نزعة من كلام أهل الحلول، وإذا صح الحديث كان معناه أن قلب المؤمن يسع ويقبل ما ورد من عند الله، ويسلم للأقدار، فيتسع قلبه ولا ينفر من شيء خالف هوى النفس، بل يحملها على الصبر والرضى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
: وسع قلبه محبتي ومعرفتي.
(1)
"أسنى المطالب"(ص: 252).
(2)
"الفتاوى الصغرى"(18/ 122) و"الكبرى"(5/ 87).
وقال الصالحي
(1)
: ومعناه وسع قلبه الإيمان بي، ومحبتي ومعرفتي، وإلا فمن قال: إن الله يحل في قلوب الناس فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال:(إن الله فتح السموات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب، فقال الله: إن السموات والأرض ضعفن أن يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين). وبخط ابن الزركشي: سمعت بعض أهل العلم يقول: هذا يعني حديث الترجمة حديث باطل وهو من وضع الملاحدة، وأكثر ما يرويه المتكلم على رؤوس العوام علي بن وفا لمقاصد يقصدها، ويقول: عند الوجد والرقص: طوفوا ببيت ربكم.
(1)
"الشذرة"(2/ 117) رقم (849).
(149)
حديث: (ملعون من نكح يده)
.
(ضعيف)
…
وفي لفظ: (سبعة لعنهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ويقال لهم: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل، والمفعول به في عمل قوم لوط، وناكح البهيمة، وناكح يده، والجامع بين المرأة وبنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي لجاره حتى يلعنه، والناكح للمرأة في دبرها إلا أن يتوب) أخرجه أبو الشيخ ابن حيان، وابن بشران في "أماليه" عن عبد الله ابن عمر مرفوعاً.
وفي سنده: عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف.
وأخرجه البيهقي في "الشعب"(4/ 378) رقم (5470) عن أنس رضي الله عنه.
وفي سنده: مسلمة بن جعفر.
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(4/ 108): يجهل هو وشيخه.
وقال الأزدي: ضعيف.
وقد ضعَّف هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم:
(1)
البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 378) رقم (5470).
(2)
ابن كثير في "تفسيره"(1/ 354).
(3)
ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 633) رقم (1046).
(4)
ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 188) رقم (1545).
(5)
الرُهاوي في "حاشية المنار" كما نقل عنه العجلوني.
(6)
العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 431) رقم (2838).
(7)
القاري في المصنوع (ص: 199) رقم (378).
(8)
الشوكاني في"بلوغ المنى في حكم الاستمناء"(ص: 19 - 21).
(9)
الألباني في "الضعيفة"(319) و (4851)، و"الإرواء"(2401).
(10)
العدوى في "التسهيل لتأويل التنزيل"(جزء تبارك)(ص: 176).
فائدة:
قال بعض علماء الحديث: كل حديث جاء في نكح اليد لا يصح.
التعليق:
قلت: الاستمناء باليد محرم في أصح قولي أهل العلم، وهو قول جمهور السلف، وكبار علماء عصرنا كالألباني وابن باز والعثيمين والوادعي وغيرهم لعموم قوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} {المؤمنون: 5 - 7}.
فأثنى سبحانه على من حفظ فرجه فلم يقض وطره إلا مع زوجته أو أمته، وحكم بأن من قضى وطره فيما وراء ذلك أياً كان فهو عادٍ متجاوز لما أحله الله له، ويدخل في عموم ذلك الاستمناء باليد كما نبه على ذلك الحافظ ابن كثير وغيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء وهو أصح القولين في مذهب أحمد ولذلك يعزر من فعله.
وقال العلامة الألباني
(1)
رحمه الله:
…
وفي الحديث توجيه نبوي كريم لمعالجة الشبق وعرامة الشهوة في الشباب الذين لا يجدون زواجاً ألا وهو الصيام فلا يجوز لهم أن يتعاطوا العادة السرية (الاستمناء باليد) لأنه قاعدة من قيل لهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ} {البقرة: 61} .
ولأن الاستمناء في ذاته ليس من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله في القرآن الكريم {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} {المؤمنون: 5 - 7} .
(1)
"الصحيحة"(4/ 446).
قلت: وقد ذكر أهل العلم لهذه العادة السيئة أضراراً منها:
• ضعف الجهاز التناسلي وعدم استقامته.
• فقد شهية الطعام والنحافة وفقد الأمل ومحاولة الانتحار.
• التوتر العصبي.
• خروج المني بشعور وبدون شعور.
• سرعة الإنزال وعدم الانتصاب.
• انحناء العضو.
• أنه يقف نمو الأعضاء خصوصاً الإحليل والخصيتين.
• أنه يورث ألماً في فقار الظهر وهو الصلب.
• أنه يورث رعشة في بعض الأعضاء كالرجلين.
• أنه يورث صفرة على الوجه تنذر بحلول السل
(1)
.
(1)
"تحفة الشاب الرباني في الرد على الإمام الشوكاني"(ص: 50) وكتاب "الزنا"(ص: 182 - 186) و "الفتح الرباني للإمام الشوكاني" حاشية (7/ 3380 - 3381).
(150)
حديث: (من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)
.
(موضوع)
أخرجه الأصفهاني في "الترغيب"(ص: 101).
وجاء بلفظ: (من أحيا ليلة الفطر، وليلة الأضحى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 198): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وفي سنده: عمر بن هارون البلخي، وهو كذَّاب.
وجاء بلفظ: (من قام ليلتي العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) أخرجه ابن ماجه عن أبي أمامه رضي الله عنه.
قال في "الزوائد": فيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد عنعن.
وقال العراقي في "تخريج الإحياء"(1/ 328): إسناده ضعيف.
وجاء من حديث معاذ رضي الله عنه بلفظ: (من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة، ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر) وهو موضوع.
وجاء بلفظ: (من أحيا ليلتي العيد والنصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وفيه مروان بن سالم، وهو متهم بالكذب.
وقد ضعَّف هذه الأحاديث:
(1)
الحافظ العراقي في تخريج الإحياء.
(2)
الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 80) و"موسوعة الحافظ الحديثية"(1/ 574).
(3)
ابن الجوزي في العلل المتناهية" (2/ 562).
(4)
الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 198).
(5)
الفتني في "تذكرة الموضوعات"(ص: 47).
(6)
الصعدي في "النوافح العطرة"(1986).
(7)
الشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص: 54) رقم (112).
(8)
العلامة الألباني في الضعيفة" رقم (520) و (521) و (522) و (5163)
(1)
.
التعليق:
قلت: إن كثيراً من الخطباء والوعاظ يلهجون بحث الناس على التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بإحياء ليلتي العيدين، فيلهبون المشاعر
(1)
وانظر كذلك "ضعيف الجامع"(5361) و"الترغيب والترهيب"(1/ 464 - 465) رقم (666، 667، 668) و"ضعيف سنن" ابن ماجه (353).
والأحاسيس بهذه الأحاديث الباطلة، ولا يكتفي هؤلاء بحثِّ الناس على ذلك، بل ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن مشروعية العمل به ودعوة الناس إلى تطبيقه، فينيغي أن يقال هذه الليالي من جملة الليالي التي تشملها الأدلة العامة في فضل قيام الليل.
قال العلامة الألباني رحمه الله: قال ابن القيم رحمه الله في (هديه صلى الله عليه وسلم ليلة النحر من المناسك): ثم نام حتى أصبح ولم يحي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء
(1)
.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني من حديث رقم (151)
(1)
"زاد المعاد"(2/ 247) و"الترغيب والترهيب"(1/ 465).