الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
سُئلتُ عن حديثِ: "أَحبِب حَبِيبَكَ هَونًا مَا؛ عَسَى أَن يَكُونَ بَغِيضَكَ يَومًا مَا، وَأَبغِض بَغِيضَكَ هَونًا مَا، عَسَى أَن يَكُونَ حَبِيبَكَ يَومًا مَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ موقوفٌ.
أخرجَهُ ابنُ عدي في "الكاملِ"(2/ 711 - 712)، والخطيبُ في "تاريخِهِ"(11/ 427)، ومن طريقه ابنُ الجوزيِّ في "الواهياتِ"(2/ 248) مِن طريقِ الحسنِ بن دينارٍ، عن محمَّدِ بن سيرينَ، عن أبِي هريرةَ، مرفوعًا
…
فذكرَهُ.
وهذَا سندٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وآفتُهُ: الحسنُ بنُ دينارٍ؛ فإنَّهُ واهٍ.
لكنَّهُ لَم يتفرَّد به، فتابعَهُ أيُّوبُ السَّختيانيُّ، فروَاهُ عن محمَّدِ بن سيرينَ، عن أبِي هُريرةَ - قالَ: أُراهُ رفعَهُ -، ثمَّ ذَكرَ الحديثَ.
أخرجَهُ التِّرمذيُّ (1997)، والبزَّارُ في "مسند"(ج 2/ ق 267/ 1)، وابنُ حبَّانَ في "المجروحين"(1/ 351)، وابنُ عدي في "الكاملِ"(2/ 712)، وأبُو الشَّيخِ في "الأمثالِ"(رقم 114)، والبيهقيُّ في "الشُّعَبِ"(ج 11/ رقم 6171) مِن طريقِ سُويدِ بن عمرٍو، عن حمَّادِ بن سلمةَ، عن أيُّوبَ السَّختيانيِّ به.
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديث غريبٌ، لا نعرفُهُ بهذا الإسنادِ إلَّا مِن هذا الوجهِ".
قال المُناويُّ في "فيضِ القديرِ"(1/ 177): "وقد استَدركَ الحافظُ العراقيُّ على التِّرمذيِّ دعوَاهُ غرابتَهُ وضعْفَهُ، فقالَ: قلتُ: رجالُهُ رجالُ مُسلم، لكنَّ الرَّاوِي تردَّدَ في رفعِهِ".
• قلت: استِغرابُ التِّرمذيِّ إنّما هو في رفعِهِ، وقد صحَّحَ وقفَهُ على أميرِ المؤمنينَ عليِّ بن أبِي طالبٍ رضي الله عنه، ووافقَهُ علَى هذا الحُكمِ جماعة منَ الحفَّاظِ، مِنهُم: ابنُ حبَّانَ، والَدَّارقُطنيُّ في "العلل"(ج 3/ ق 27/ 2)، والبزَّارُ، وابنُ عديٍّ، والبيهقيُّ، وغيرُهُم.
واعلَم! أنَّ للحديثِ المرفوعِ شواهدَ عن بعضِ الصَّحابةِ، لكِنَّهَا شديدةُ الضَّعفِ، فلا يُعَوَّلُ على شيءٍ مِنهَا. واللهُ أعلمُ.
أمَّا أثرُ عليِّ بن أبِي طالبٍ الموقوفُ عليهِ:
فأخرجَهُ البخاريُّ في "الأدبِ المفرَدِ"(1321)، وابنُ أبِي شيبةَ في "المصنَّفِ"(14/ 102)، ومُسدَّدُ في "مسندِه" - كما في "المطالبِ العاليةِ"(3/ 9) للحافظِ -، والبيهقيُّ في "الشُّعَبِ"(6168 - 6170)، بسندٍ حسنٍ.
وأخرجَ عبدُ الرَّزَّاقِ في "المصنَّفِ"(ج 11/ رقم 20269) عن مَعمَرٍ.
والبخاريُّ في "الأدب المفرَدِ"(1322) عن محمَّدِ بن جعفرٍ.
كلاهُمَا، عن زيدِ بن أَسلمَ، عن أبِيهِ، قال: قال لي عُمرُ بنُ الخطَّابِ: "يا أسلمُ! لا يَكُن حُبُّكَ كَلَفًا، ولا يكُن بغضُكَ تلَفًا"، قلتُ: وكيفَ ذلكَ؟ قال: "إذا أحبَبتَ فلا تكلِف كما يَكلِفُ الصبيُّ بالشَّيءِ يُحبُّهُ، وإذا أبغَضت، فلا تبغض بُغضًا تحبُّ أن يَتلَفَ صاحبُكَ ويهلِكَ".
وسندُهُ صحيحٌ، ورضيَ اللهُ عن عُمرَ.
2 -
سئلتُ عن حديثِ: "إِنَّ الله يبغضُ كلَّ جَعظَرِيٍّ، جَوَّاظٍ، سَخَّابِ فِي الأَسوَاقِ، جِيفَةٍ بِاللَّيلِ، حِمَارٍ بِالنَّهَارِ، عَالمٍ بِأَمرِ الدُّنيَا، جَاهِلٍ بِأَمرِ الآخِرَةِ".
• قلتُ: هذا حديث ضعيفٌ.
أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ في "صحيحِهِ"(1975)، وأبُو القاسمِ الأصبهانيُّ في "التَّرغيبِ"(1926)، والبيهقيُّ (10/ 194) من طريقِ عبدِ الله بن سعيدِ بن أبِي هندٍ، عن أبِيهِ، عن أبِي هُريرةَ، مرفُوعًا
…
فذكرَهُ.
وهذا سندٌ ضعيف، وعبدُ الله بنُ سعيدٍ صدوق، وثَّقهُ أحمدُ، وابنُ معينٍ، وغيرُهمَا، وضعَّفهُ أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ. وأبوه فلَم يسمَع من أبي هُريرَة. وكنتُ حسَّنتُ هذا الحديثَ، ثُمَّ تراجعتُ عنه بعد عدَّة أشهُرٍ، ونبَّهتُ على ذلك في المجلَّة نفسِها. والحمدُ لله.
أمَّا معنَى الحديثِ ..
فـ "الجَعظَرِيُّ": هو الشَّديدُ الغليظُ.
و "الجَوَّاظُ": هو الأكولُ.
و "السَّخَّابُ": هو الصَّخَّابُ، كثيرُ الصِّياحِ، عالِي الصَّوتِ.
ومقصودُ الحديثِ ..
ذمُّ أهلِ الدُّنيَا، المتكالِبِينَ عليهَا، بحيثُ إنهم يَكدَحونَ فِيهَا طُوالَ
حياتهم كالأنعامِ، ليسَ لهُم همٌّ إلَّا جمعُهَا، والاستكثَارُ مِنهَا، فإذَا جَنَّ عليهِم اللَّيلُ نامُوا كالأمواتِ بلَا حِراكٍ، ولا يذكُرونَ الله تبارك وتعالى.
واللهُ أعلمُ.
3 -
سُئلتُ عن حديثِ: "اليَمِينُ الكَاذبَةُ تَذَرُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حسنٌ.
أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ في "الثقاتِ"(8/ 400)، والدُّولابيُّ في "الكُنَى"(2/ 165)، والكِلَابَاذِيُّ في "مفتاحِ المعانِي"(ق 223/ 1 - 2)، والخطيبُ في "التَّلخيصِ"(2/ 702 - 703) من طريقِ سُليمانَ بن عبدِ الحميدِ بن عبدِ العزيزِ، عن أبِيهِ، عن عمرِو بن قيسٍ، عن واثِلةَ بن الأسقعِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"اليمينُ الغَموسُ الكاذبةُ، تَذرُ الدِّيارَ بلاقعَ"، وهذَا لفظُ الخطيبِ.
وسندُهُ ضعيفٌ؛ وسليمانُ بنُ عبدِ الحميدِ، ذكرَهُ في "التَّهذيبِ" تمييزًا، ولَم يذكُرهُ بأكثرَ مِن روايةِ الحسنِ بن سُليمانَ الفزاريِّ عنهُ.
وأبُوهُ، ذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في "الثِّقاتِ" بروايةِ ابنِهِ فقط، فهُمَا مجهُولانِ.
ولكِن للحديثِ شاهدٌ عن عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ، مرفوعًا بلفظِ:"اليمينُ الفاجرةُ تُذهِبُ المالَ - أو: تَذهَبُ بالمالِ - ".
أخرجَهُ البزَّارُ (ج 2/ رقم 1345)، من طريقِ ابن عُلاثَةَ، عن هشامِ بن حسَّانَ، عن يحيَى بن أبِي كثير، عن أبِي سلمةَ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ.
قال البزَّارُ: "لا نعلَمُهُ عن عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ إلا من هذَا الوجهِ، ولا أسندَ هشامٌ عن يحيَى غيرَ هذا، ولا رواهُ عن هشامٍ إلَّا ابنُ عُلاثةَ، وهو ليِّنُ الحديث".
وقال المُنذِرِيُّ في "التَّرغيبِ"(3/ 47): "إسنادُهُ صحيحٌ، لو صحَّ سماعُ أبِي سَلَمةَ من أبِيهِ عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ".
وجزَمَ الهيثميُّ في "المَجمعِ"(4/ 179) بأنَّهُ لَم يَسمَع مِن أبِيهِ، ولكنَّهُ وَهِمَ، فقالَ:"رجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ"!
ومحمَّدُ بنُ عبدِ الله بن عُلاثَةَ لَم يُخرِّج لهُ أحدُ الشَّيخينِ شيئًا، وهو صدوقٌ، في حفظِهِ مقالٌ يسيرٌ، أفرَطَ الأزديُّ وابنُ حبَّانَ فِيهِ، وإنَّما وقَعَت المناكيرُ في روايتهِ مِن قِبَلِ عموِو بن الحُصينِ، كما قال الخطيبُ.
وعمرُو بنُ الحُصينِ تالفٌ البتّة.
وخُولفَ هشامُ بنُ حسَّانَ فِيهِ.
خالَفَهُ أبو حنيفةَ، فروَاهُ عن يحيَى بن أبِي كثيرٍ، عن مُجاهدٍ، وعِكرمةَ، عن أبِي هُريرةَ مرفُوعًا:"ليس شيءٌ أُطِيعَ اللهُ فيه أعجلَ ثوابًا من صلة الرَّحِمِ، وليس شيءٌ أعجَلَ عقابًا من البَغيِ وقطيعةِ الرَّحِمِ، واليمينُ الفاجرةُ تَدَع الدِّيارَ بلاقِعَ".
أخرجَهُ البيهقيُّ (10/ 35) من طريقِ عبدِ اللهِ بن يزيدَ المُقرِئِ، عن أبِي حنيفَة، به، وقال:"كذا رواهُ عبدُ اللهِ بنُ يزيدَ المقرِئ، عن أبِي حنيفَةَ. وخالفَهُ إبراهيمُ بنُ طَهمانَ، وعليُّ بنُ ظَبيانَ، والقاسمُ بنُ الحَكَمِ، فرَوَوهُ عن أبِي حنيفَةَ، عن ناصحِ بن عبدِ الله، عن يحيَى بن أبِي كثيرٍ، عن أبِي سلَمةَ، عن أيِي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقِيلَ: عن يحيَى، عن أبِي سلَمةَ، عن أبِيهِ. والحديثُ مشهور بالإِرسالِ" اهـ.
ثُمَّ روَى البيهقيُّ الحديثَ مِن طريقَينِ مُرسلينِ بسندٍ صحيحٍ.
ولَهُ طريقٌ آخرُ، عن أبِي سلَمةَ، عن أبِي هُريرةَ مرفوعًا:"إن أعجَلَ الطَّاعات ثوابًا صلةُ الرَّحِم، وإنَّ أهل البيت لَيَكُونون فُجَّارًا، فتَنموا أموالهُم، ويَكثر عددُهُم إذا وَصَلُوا أرحامَهُم. وإنَّ أعجَلَ المعصية عُقوُبَةً البغيُ، والخِيانةُ. ويَمينُ الغَموسُ: تُذهِبُ المالَ، وتذَرُ الدِّيارَ بلاقِعَ". وزاد الطَّبرانِيُّ: "وتُقِل في الرَّحمِ".
أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ في "المجرُوحِينَ"(3/ 149 - 150) مُعلَّقًا، ووصلَهُ الطَّبرانيُّ في "الأوسطِ"(ج 1/ ق 61/ 1) من طريقِ أبِي جعفرٍ النُّفيليِّ، ثنا أبُو الدَّهماءِ البصريُّ - شيخُ صدقٍ -، عن محمَّدِ بن عمرٍو، عن أبِي سلَمةَ به.
قال الطَّبرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن محمَّدِ بن عمرٍو إلَّا أبُو الدَّهماءِ، تفرَّدَ به النُّفيليُّ".
• قلتُ: والنُّفيليُّ ثقةٌ مأمونٌ، ولكِنْ أبُو الدَّهماءِ قال فيه ابنُ حبَّانَ:"كانَ مِمَّن يروِي المقلوباتِ، ويأتِي عن الثِّقاتِ بمَا لَا يُشبهُ حديث الأثباتِ، فبطُلَ الاحتجاجُ به إذَا انفَرَدَ".
واعتَمَدَ كلامَهُ الهيثميُّ في "المَجمعِ"(8/ 152) فضعَّفهُ جدًّا، ولكنَّهُ خالفَ فِي موضعٍ آخرَ من "كتابِهِ" (8/ 185) فقال:"فيه أبو الدَّهماءِ البصريُّ، وثَّقهُ النُّفيليُّ، وضعَّفهُ ابنُ حبَّانَ". وفي عبارتهِ نظرٌ؛ فإنَّ النُّفيليَّ لَم يُوثِّقهُ، بل قالَ:"شيخُ صدقٍ"، وهذا لا يَدلُّ علَى ضبطٍ، بل غايتُهُ إثباتُ صدقِهِ فحَسبُ.
وخُلاصةُ البحثِ، أن الحديث حسنٌ بالطَّريقِ الأوَّلِ مع المرسَلَينِ الصَّحيحَينِ اللَّذَينِ أشرتُ إليهِمَا.
واللهُ تعالَى أعلَمُ.
4 -
سئلتُ عن حديثِ: "مَن قَلَّ مَالُهُ، وَكثُرَ عِيَالُه، وَحَسُنَت صَلَاتُهُ، وَلَم يَغتَب أَحَدًا مِنَ المُسلِمِينَ، كانَ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ كأُصبُعَيَّ هَاتَينِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجَهُ أبو يعلَى (ج 2/ رقم 990)، والأصبهانيُّ في "التَّرغيب"(2226)، والخطيبُ في "تاريخه"، ومن طريقه ابنُ الجوزيِّ في "الواهيات"(2/ 319) من طريق مَسلَمَةَ بن عَليٍّ، عن عبد الرَّحمن بن يزيدَ، عن الزُّهريِّ، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكره.
قال ابن الجوزيِّ: "هذا حديثٌ لا يصحُّ. قال أحمد: عبد الرَّحمن بن يزيدَ ضعيفٌ. وقال النَّسائيُّ: متروكٌ".
كذا قال ابن الجوزيِّ! وفي إعلاله نظرٌ، فإنَّه لا يَتِمُّ له ..
وبيان ذلك، أن مَسلَمَةَ بن عليٍّ يَروِى عن عبد الرَّحمن بن يزيدَ بن تميمٍ، وكذا عن عبد الرَّحمن بن يزيدَ بن جابرٍ، كما أن كليهما يَروِي عن الزُّهريِّ. والأوَّل ضعيفٌ أو متروكٌ، والثَّاني ثقةٌ ثبتٌ، فلا يَتمُّ له الإعلال إلَّا إذا أَثبَت أن الواقع في السند هو المتروكُ دون الثِّقة، ولا يُقطَع بهذا إلَّا إذا جاء منسوبًا.
أمَّا علَّة الحديث الَّتي أغفَلَها ابنُ الجوزيِّ، فهي مَسلَمَةُ بنُ عليٍّ، وهو أبو سعيدٍ الخشُنيُّ، وهو متروكٌ كما قال النَّسائيُّ، والدَّارقُطنيُّ، والبَرقانيُّ، وغيرُهُم.
وقالَ أبو داوُد: "ليس بثقةٍ ولا مأمونٌ".
وقال البُخاريُّ، وأبُو زُرعةَ، وغيرُهما:"منكَر الحديث".
والله أعلم.
5 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا قَلَّ وَكفَى، خيرٌ مِمَّا كثُرَ وَأَلهَى".
• قلتُ: هذا الحديث صحيحٌ.
أخرجه أحمدُ في "المسند"(5/ 197)، وفي "الزُّهد"(ص 19)، وابنُ أبي شَيبةَ في "المسند"(36)، والطَّيالسيُّ (979)، وعبدُ بن حُميدٍ في "المنتخَب"(257)، وابنُ جَريرٍ في "تفسيره"(11/ 104، و 30/ 221)، وفي "تهذيب الآثار"(443، 444، 447 - مُسنَد ابن عبَّاسٍ)، وابنُ أبي حاتِمٍ في "تَفسِيره"(10326)، وابنُ حِبَّانَ (814، 2476)، وأبو مُحمَّدٍ الفَاكِهِيُّ في "حدِيثه"(ج 1/ ق 14/ 1 - رقم 64 بتحقيقي)، وابنُ السُّنِّيِّ في "القناعة"(30، 31، 32)، والمَحَامِليُّ في "الأمالي"(ق 49/ 2 - 50/ 1)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(2891)، وابنُ بِشرَانَ في "الأمالي"(ق 98/ 2)، والحاكمُ (2/ 444 - 445)، وأبو الشَّيخِ في "الأمثال"(188)، وابنُ أبي الدُّنيَا في "كَلَام الأيَّام واللَّيَالِي"(رقم 1، 2)، وأبُو نُعيم في "الحِلية"(1/ 226، و 2/ 232 - 233، و 9/ 60)، والأصبهانيُّ في "التَّرغيب"(516، 2048)، والبيهقيُّ في "الشُّعَب"(ج 7/ رقم 3139)، والقُضَاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(810)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 247) من طُرُقٍ عن قتادة، عن خُلَيد بن عبد الله العَصَريِّ، عن أبي الدَّرداءِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما طلعت الشمسُ قطُّ، إلَّا وبِجَنبَتَيهَا ملَكان يناديان، يُسمعَان مَن علَى
الأرض، غيرَ الثَّقلينِ: أيُّها النَّاسُ! هلُمُّوا إلَى ربِّكُم، ما قلَّ وكفَى خيرٌ ممَّا كثُرَ وألهَى. ولا آبت شَمسٌ قَطُّ، إلَّا بُعِثَ بجَنبَتَيهَا مَلَكَان يُنادِيان، يُسمِعان أهلَ الأرضِ، إلَّا الثَّقَلَين: اللَّهُمَّ! أَعط مُنفِقًا خَلَفًا، وأَعط مُمسِكًا مَالًا تَلَفًا"، لفظُ أحمدَ.
وفي حدِيثِ عبَّادِ بن راشدٍ، عن قَتادَةَ - عِند ابن جَرِيرٍ، وابنِ أبي حاتِم، والفَاكِهِيِّ، وابنِ بِشرَانَ، والبَيهَقِيِّ -، زادَ: "
…
وأنزَلَ اللّهُ تعالَى في ذلك قُرآنًا - في قول الملكين: يا أيُّها النَّاسُ! هَلُمُّوا إلى رَبِّكُم -، في سُورَة يُونُس:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]. وَأنزلَ في قولهِمَا: اللَّهُمَّ! أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، وأَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}
…
إلى قَولِه:
…
{لِلْعُسْرَى} [الليل: 1 - 10] ".
• قلتُ: وقد تَفَرَّد عبَّادُ بن راشدٍ دُونَ سائِرِ رُواتِه عن قتادةَ، بِجَعلِ هذا الحديثَ سبَبًا لنُزُول هذه الآياتِ.
وعبَّادُ بن راشدٍ لا يُحتَمَلُ لمِثلِه أن يَنفَرِد عن قَتادَةَ بهذا.
وقد رَوَاهُ عن قَتَادَةَ دُون سَبَب النزول: سَعِيدُ بن أبي عَرُوبَةَ - مِن رواية عَبدِ الأَعلى بن عبد الأَعلَى -، وهمَّامُ بنُ يَحيَى، وشيبَانُ بن عبد الرَّحمَن، وهِشَامٌ الدَّستوائِيُّ، وسُليمانُ التَّيمِيُّ، وأبو عَوَانَةَ، وسَلَّام بن مِسكِين، فلَم يَذكُر واحدٌ مِنهُم ما ذَكَرَهُ عبّادُ بن راشدٍ.
نعم! وَقَع في رواية هِشَامٍ الدَّستوائِيِّ، قال: ثنا قتادَةُ، وتلا قَولَ الله عز وجل:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}
[الشُّورَى: 27]، فقال: ثنا خُلَيدُ بن عبدِ الله العَصَرِيُّ، عن أبي الدَّردَاءِ، مرفُوعًا،
…
إلى قوله: "وعجِّلْ لممسِكٍ تَلَفًا".
أخرَجَهُ الحاكمُ (2/ 444 - 445) قال: أخبَرَنَا أبو الحُسَين أحمدُ بن عُثمانَ بن يَحيَى المُقرِئُ ببغدادَ، ثنا أبو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ، ثنا عبدُ الصَّمَد بن عبد الوَارِثِ، ثنا هِشَامٌ الدَّستوائِيُّ، بهذا.
وشَيخُ الحاكِمِ ثقةٌ.
وأبو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ هو عبدُ المَلِك بنُ مُحَمَّدٍ. وهو من الحُفَّاظِ. إلَّا أن الدَّارَقُطنِيَّ رَمَاهُ بكثرةِ الخَطَإِ في المَتنِ والإِسناد.
وقد رواه الطَّيَالِسِيُّ، ومُعاذُ بن هِشَامٍ كلاهُمَا، عن هِشامٍ الدَّستوائِيِّ، دُون ذِكرِ الحِكاية التي وَرَدَت في حديث عبدِ الصَّمَد، عِند الحَاكِم.
وعبدُ الصَّمَد من الأَثبَاتِ، فَهَل وَهِمَ عليه أبو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ؟! ولكن، يُمكِن أن يُقالَ: ذَكَرَ الإمامُ أحمدُ أنَّهُ إذَا وَرَدَت حكايَةٌ في الحديث دَلَّ علَى أنَّهُ محفُوظٌ. وهذا مِنهَا.
ووَقَعَ تصريحُ قتَادَةَ بالسَّمَاع مِن خُلَيدٍ عند الطَبَرِيِّ، والحاكِمِ مِن رواية عبَّادِ بن راشِدٍ، وهِشامٍ الدَّستوائِيِّ، عن قَتادَةَ.
وخُلَيدُ بنُ عبد الله العَصَرِيُّ رَوَى له مُسلِمٌ حديثًا واحِدًا، مُتابَعةً، في "كتاب الزَّكَاة"(992/ 35) عنه، عن الأَحنَف بن قَيسٍ، قال: كُنتُ في نَفَرٍ من قُرَيشٍ، فمَرَّ أبُو ذَرٍّ، وهو يَقُولُ:"بشِّر الكَانِزِين بِكَيٍّ في ظُهُورِهم، يَخرُج من جُنُوبِهم. وبِكَي مِن قِبَل أَقفَائِهِم، يَخرُج مِن جِبَاهِهِم"، - قال: - ثمَّ تَنَحَّى، فقَعَد، - قال. - قُلتُ:"مَن هَذَا؟ "،
قالُوا: "هذا أبو ذَرٍّ"، - قال: - فقُمتُ إليه، فقُلتُ:"ما شَيءٌ سَمِعتُك تقولُ قُبَيلَ؟ "، قال:"ما قُلتُ إلَّا شيئًا قد سمِعته مِن نَبِيِّهم صلى الله عليه وسلم"، - قال: - قُلتُ: "ما تقُولُ في هذا العَطَاءِ؟ "، قال:"خُذهُ؛ فإنَّ فيه اليومَ مَعُونَةً. فإن كان ثَمَنًا لدِينِكَ فادفَعهُ".
هذا ما لِخُلَيدٍ في "صحيح مُسلِمٍ".
وخُلَيدٌ ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات". ونَصَّ ابنُ مَعِينٍ في "تَارِيخِه"(2/ 224) على صِحَّة سمَاعِهِ مِن أبي الدَّردَاءِ.
وصَحَّحَ إسنادَهُ الحاكمُ، كما مَرَّ ذِكرُه.
وقولُهُ: "اللَّهُمَّ! أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا
…
" أخرَجَهُ الشَّيخَانِ، مِن حديثٌ أبي هُريرَة رضي الله عنه، مرفُوعًا.
وصحَّح إسنادَهُ المنذريُّ في "التَّرغيب"(2/ 537)، وشيخُنَا الألبانيُّ في "الصَّحيحة"(رقم 947).
وقال الهَيثميُّ في "المجمَع"(3/ 122، و 10/ 255): "رجاله رجال الصَّحيحِ".
وله شاهدٌ عن أبي أُمامَة الباهليِّ مرفوعًا: "هلُمُّوا إلى ربِّكُم عز وجل، ما قلَّ وكفَى خيرٌ ممَّا كثُر وألهَى".
أخرجَهُ ابنُ السُّنِّيِّ في "القَناعة"(35)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(8/ 314)، والقُضاعيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(1263).
وفي إسناده فَضَّالُ بنُ جُبيرٍ، وهو ضعيفٌ.
وأخرجه أبُو يَعلَى (ج 2/ رقم 1053) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبَّادٍ،
حدَّثَنا أبو سعِيدٍ، عن صَدقةَ بن الرَّبيع، عن عُمارَةَ بن غَزِيَّةَ، عن عبد الرَّحمن بن أبي سعيدٍ - أُراه عن أبيه، شكَّ أبو عبد الله -، قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد، وهو يقولُ:"ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى".
وصحَّحَهُ الضِّياءُ في "المُختارَة".
• قلتُ: والذي شك هو شيخ أبي يعلى، ويكنى: أبا عبد الله، وأبو سعيدٍ هو مَولَى بني هاشمٍ، من ثقات مشايخ الإمام أحمد.
وفي إسناده صَدَقَةُ بن الرَّبيع، قال الهيثميُّ في "المجمع" (10/ 255 - 256):"وهو ثقةٌ"!! كذا قالَ!
وصدَقةُ ترجَمَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في "الجرح والتَّعديل"(2/ 1/ 433)، ولم يذكر فيه شيئًا، وذَكَره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات" (8/ 319). فمِثلُهُ لا يُقال فيه:"ثقةٌ".
وأخرجه ابن عديٍّ في "الكامل"(1/ 276) قال: حدَّثَنا الحَسنُ بنُ شعبةَ الأنصاريُّ، ثنا محمَّدُ بن أحمدَ بن سعيدٍ، ثنا القاسمُ بنُ الحَكَم، ثنا إسماعيلُ بنُ سَلمَانَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، مرفوعًا:"ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى".
وفيه إسماعيل بن سلمان الأزرق، وهو متروكٌ، كما قال النَّسائِيُّ. وخَتَمَ ابنُ عَدِيٍّ ترجَمَته بقوله:"وقد رَوَى - يعني: إسماعيلَ - عن أنسٍ أيضًا حديثَ الطَّير في فضائِلِ عليّ بن أبي طالبٍ".
وهو بهذا يُشير إلى وهائِهِ؛ لأنَّ حديث الطَّير - وإن تعدَّدت طُرُقه - فهو باطلٌ واللهُ أعلمُ.
6 -
سُئلتُ عن الحديث القدسيِّ: "إِنَّ مِن عِبَادي مَن لَا يَصلُحُ إِيمَانهُ إِلَّا بِالغِنَى، وَلَو أَفقَرتُهُ لَكَفَرَ
…
الخ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَه الخطيبُ في "التَّاريخ"(6/ 15) من طريق يحيى بن عيسى الرَّمليِّ، حدَّثنا سفيانُ بنُ سعيدٍ الثَّوريُّ، حدَّثنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، عن أبي قِلابةَ، عن كَثر بن أَفلَحَ، عن عُمَر بن الخطَّاب مرفُوعًا:"أتاني جبريلُ، فقال: يا مُحمَّدُ! ربُّك يقرأُ عليكَ السَّلامَ، ويقولُ: إنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلُح إيمانُهُ إلَّا بالغِنى، ولو أفقرته لكفرَ، وإنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلُح إيمانُهُ إلَّا بالفقر، ولو أغنيته لكَفَرَ، وإنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلُح إيمانُهُ إلَّا بالسَّقَم، ولو أصحَحته لكفر، وإنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلُح إيمانُهُ إلَّا بالصِّحَّة، ولو أسقمته لكفر".
وهذا سندٌ ضعيفٌ أو واهٍ، وعلَّتُهُ: يحيى بنُ عيسى الرَّمليُّ، ضعَّفه ابن مَعِينٍ، وقال النَّسائيُّ:"ليس بالقويِّ"، وقال ابن عدِيٍّ:"عامَّة ما يروِيهِ ممَّا لا يُتابَع عليه".
وله شاهدٌ من حديث أنسٍ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيَا في "الأولياء"(1)، وأبو بَكرٍ الكِلَابَاذِيُّ في "معاني الأَخبَار"(ق 133/ 1 - 2)، وأبو نُعيمٍ في "الحِليَةِ"(8/ 318 - 319)، والأَصبَهَانِيُّ فِي "التَّرغيب"(204)، وابنُ عساكر في "تاريخ دِمَشقَ"
(7/ 68)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(27)، وفي "صفة الصَّفوة"(رقم 3 - بتحقيقي)، والشَّجَرِيُّ في "الأَمالِي"(2/ 204) من طُرُقٍ عن الحَسَن بن يحيى الخُشَنِيِّ أبي عبد المَلِك، ثنا صَدَقةُ بن عبد الله، عن هِشامٍ الكِنَانِيِّ، عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"قال اللهُ تعالَى: مَن أهانَ لِي وليًّا فقد بَارَزَنِي بالمُحارَبة، وما تَردَّدتُ عَن شيءٍ أنا فَاعِلُهُ ما تَرَدَّدتُ في قَبضِ نفسِ عَبدِي المُؤمِنِ؛ لأنَّهُ يَكرَهُ المَوتَ، وأنا أَكرَهُ مَسَاءَتَهُ، ولابُدَّ لَهُ مِنهُ. وإن مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن يُرِيدُ بَابًا مِنَ العِلمِ فأكُفُّهُ عَنهُ؛ لا يَدخُلُه عُجبٌ فيَفسَدُ لذلك. وما تَقرَبَ إليَّ عَبدِي بمِثلِ أداءِ ما افتَرَضتُ عليه. وما يَزَالُ عَبدِي يَتنَفَّلُ لي حَتَّى أُحِبَّه، فإذا أَحبَبتُه كنتُ له سَمعًا، وبَصَرًا، ويَدًا، ومُؤَيِّدًا، دَعَانِي فأجَبتُه، وسَألنِي فأعطَيتُه، ونَصَح لي فنَصَحتُ له. وإن مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لا يُصلِحُ إيمانَهُ إلَّا الفَقرُ، ولو بَسَطتُ لَهُ لأَفسَدَهُ ذلك. وإنَّ مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لَا يُصلِحُ لَهُ إيمانَهُ إلَّا الصِّحَّةُ، ولو أَسقَمته لأفسَدَهُ ذلك. وإن مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لا يُصلِحُ إيمانَهُ إلا السَّقَمُ، ولو أَصحَحتُهُ لأفسَدَهُ ذلك. إنِّي أُدَبِّرُ أَمرَ عِبادِي بِعِلمِي، إنِّي بقلُوبِهِم عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
وعزاهُ شيخُنا في "الصَّحيحة"(4/ 189) إلى مُحمَّدِ بن سُليمان الرَّبعِيِّ في "جُزءٍ من حديثه"(ق 216/ 2).
قال أبو نُعيمٍ: "غَرِيبٌ من حديث أنسٍ. لم يَروِهِ عنه بهذه السِّيَاقَةِ إلَّا هشَامٌ الكِنَانِيُّ، وعنه صَدَقَةُ بن عبد الله أبو مُعاوِيَةَ الدِّمَشقِيُّ. تفرَّدَ به الحَسَنُ بن يحيى الخُشَنِيُّ".
قال شيخُنا: "هشامٌ الكنانِيُّ لم أعرفه، وقد ذَكَره ابنُ حِبّان في كلامه الذي سبق نقلُهُ عنه بواسطةِ الحافظِ ابن حَجَرٍ، فالمفروضُ أن يُورِدِهُ ابنُ حبَّان في "ثقات التَّابعين"، ولكنَّه لم يَفعَل، وإنَّما ذَكَر فيهم هشامَ بن زيدِ بن أنسٍ البَصريَّ، يروي عن أَنسٍ، وهو من رجال الشَّيخَين. فلعلَّه هو".
• قلتُ: وهو بعيدٌ أن يكون هو.
والخُشَنِيُّ صَدُوق في نَفسِه، ولكنَّه صاحِبُ مَنَاكِير.
وخالَفَهُ سَلامَةُ بن بِشرٍ، قال: نا صَدَقَةُ، عن إبراهيمَ بن أبي كَرِيمَةَ، عن هِشامٍ الكِنَانِيِّ، عن أنسٍ، عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، عن جِبرِيلَ، عن رَبِّه تبارك وتعالى،
…
فذَكَرَه.
فجَعَلَ بين صدقةَ وهِشامٍ: "إبراهيمَ بنَ أبي كَرِيمَة".
أخرَجَهُ ابنُ عَسَاكِر (7/ 67)، من طرِيقٍ تمامٍ الرَّازِيِّ، أنا أبو الحَسَن أَحمَدُ بن سُليمَان بن حَذْلَمٍ، نا يزيدُ بن مُحمَّد بن عبد الصَّمَد، نا سَلَامةُ بن بِشرٍ بهذا.
وسَلَامةُ هو ابن بِشرِ بن بُدَيلٍ، قال أبو حاتِمٍ:"صَدُوقٌ"، وذَكَرَهُ ابن حِبَّانَ في "الثِّقات" وقال:"يُغرِبُ". وهو أحسَنُ حالًا من الخُشَنِيِّ.
والرَّاوِي عنه يَزِيدُ بن مُحَمَّدٍ أحَدُ الثِّقاتِ، مِن مشَايخ أبِي دَاوُد، والنَّسائِيِّ.
وإبراهيمُ بنُ أبي كَرِيمَةَ تَرجَمَهُ ابنُ عسَاكِر في مَوضِع الحديثِ، ولم يَذكُر فيه شَيئًا.
بَقِيَ الكلامُ عن صَدَقَةَ بن عبد الله السَّمِينِ، والذي اختَلَفَ الرُّواةُ عَنهُ.
فالذي يَتَحَصَّلُ مِن كلام العُلَماء فيه أنَّهُ ضَعِيفٌ. وقد مَرَّ وَجهَانِ مِن الاختلاف عليه ..
ووَجهٌ ثالِثٌ ..
وهو ما رَوَاهُ عُمَرُ بن سعيدٍ الدِّمَشقِي، عنه، قال: حدَّثَني عبدُ الكَرِيم الجَزَرِيُّ، عن أنس بن مالِكٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، عن جِبرِيلَ عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى، أنَّهُ قال:"مَن أَهَانَ لِي وليًّا فقد بَارَزَنِي بالمُحارَبَة، وإِنِّي لأَسرَعُ شَيءٍ إلى نُصرَةِ أوليَائِي؛ لأنِّي لأَغضَبُ لَهُم كما يَغضَبُ اللَّيثُ الحَرِبُ. وما تَردَّدتُ عن شَيءٍ أنا فَاعِلُهُ ترددي عن قَبضِ رُوح عَبدِي المُؤمِنِ؛ وهو يَكرَهُ الموتَ وأَكرَهُ مَساءَتَهُ، ولابدَّ له مِنهُ. وما تَعَبَّدَ لي عَبدِي المُؤمِنُ بمِثلِ الزُّهدِ في الدُّنيَا. ولا تَقَرَّبَ إليَّ عَبدِي المُؤمِنُ بِمِثلِ أداءِ ما افَترَضتُ عليه. وما يَزَالُ عَبدِي يتقَرَّبُ إليَّ بالنَّوَافِل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحبَبتُه كنتُ له سَمعًا، وبَصَرًا، ويَدًا، ومُؤَيِّدًا، إن سَألني أعطيته، وإن دَعَانِي أجَبتُ لَهُ. وإِنّ مِن عِبادِي المؤمِنِين لمَن يَسألُني البابَ مِن العِبَادَة، ولو أَعطَيته إيَّاهُ لدَخَلَهُ العُجبُ فأَفسَدَهُ. ذَلِكَ؛ أن مِن عِبادِي مَن لا يُصلِحُهُ إلَّا الغِنَي، ولو أَفقَرتُهُ لأفسَدَهُ ذلك. وإنَّ مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لا يُصلِحُهُ إلَّا الفَقرُ، ولو أَغنَيتُه لأفسَدَهُ ذلك. وإنَّ مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لا يُصلِحُهُ إلَّا الصِّحَّةُ، ولو أَسقَمته لأَفسَدَهُ ذلك. وإن مِن عِبادِي المُؤمِنين مَن لا يُصلِحُهُ إلا السَّقَمُ، ولو أصَحَحته لأَفسَدَهُ ذلك. إنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلمِي بِقُلُوبِهم، إنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
قال صَدَقَةُ: سمعتُ أبانَ بنَ أبي عيَّاش يحدِّثُ هذا، عن أنَسَ بن مالِكٍ رضي الله عنه، ثُمَّ يقُولُ أنَسٌ:"اللَّهُمَّ! إنِّي مِن عِبَادِك الذين لا يُصلِحُهُم إلا الغِنَى، فلا تُفقِرْنِي".
أخرَجَهُ الحكيمُ التِّرمِذِيُّ في "نَوادِر الأُصُول"(ج 1/ ق 259/ 1 - 2)، قال: حدَّثَنا داوُد بنُ حمَّادٍ القَيسِيُّ، قال: حدَّثَنَا عُمَرُ بن سعيدٍ الدِّمَشقِيُّ بهذا.
• قلتُ: وعُمَرُ بن سَعِيدٍ هذا هو عِندِي ابنُ سُليمانَ أبو حَفصٍ الأَعوَرُ. تَرجَمَهُ ابن عَساكِر (48/ 41 - 45)، وذَكَرَهُ الحافِظُ في "التَّهذِيب"(7/ 453 - 454)، تميِيزًا. وهو ضَعِيفٌ جِدًّا. قال النَّسَائِيُّ:"ليس بِثِقَةٍ"، وضَعَّفَهُ ابنُ المَدِينِيِّ جِدًّا، وقال أبو حَاتِمٍ:"كَتَبتُ عَنهُ، وطَرَحتُ حدِيثَهُ".
وعبدُ الكَرِيم بن مالِكٍ الجَزَرِيُّ أحَدُ الأَثبَات، لكِنَّهُ لم يُدرِك أَحَدًا مِن الصَّحَابَة؛ فالإِسنادُ مُنقَطِعٌ أيضًا.
وأَشبَهُ الوُجُوه ما رَوَاهُ سَلَامة بن بِشرٍ، عن صَدَقَة، عن إبرَاهِيمَ بن أبي كَرِيمَةَ، عن هِشامٍ الكِنَانِيِّ، عن أنَسٍ. وقد بَيَّنتُ لك قَبلَ ذلك أن هذا الوجهَ لا يَصِحُّ أيضًا.
أمَّا حدِيثُ: "مَن عَادَى لي وَليًّا فقد آذَنته بالحرب
…
"، فهو حديثٌ صحِيحٌ، مِن مَفَارِيد البُخارِيِّ. ولِشَيخِنَا الأَلبَانِيِّ حَفِظَهُ اللهُ تحقِيقٌ مُمتِعٌ عليه، أَودَعَهُ في "الصَّحِيحَة" (4/ 183 - 193).
والله أعلَمُ.
7 -
سُئلتُ عن حديث: "العَمَلُ عِبَادَةٌ".
• قلتُ: هذا الحديثُ لا أصلَ له.
ولعلَّ مستنَدَ هذا القول هو ما يتداوله العوامُّ، مِن أن رجلًا كان يَتعبَّد في المسجد ليلَ نهارٍ، وله أخٌ يُنفِقُ عليه، فرآه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"مَن يُنفِق عليك؟ "، قالَ:"أخي"، قال:"أخوك أَعبَدُ منك".
وهذا باطلٌ، لا أصل له في شيءٍ مِن كُتب السُّنَّة المعتبَرة.
بل يُبطِله ما: أخرجه التِّرمذيُّ (2345)، والحاكمُ (10/ 93 - 94)، والسَّهميُّ في "تاريخ جُرجَان"(542)، وابنُ عبدِ البَرِّ في "جامع العلم"(1/ 59) من طريقِ حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: كان أَخَوان على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان أحدُهما يأتِي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، والآخَر يحتَرِفُ - يَعنِي: يَعملُ -، فشكَى المحترفُ أخاه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"لعلَّك تُرزَقُ به".
قال التِّرمذيُّ: "حسنٌ صحيحُ".
وقال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط مُسلِم، ورواتُهُ عن آخرِهِم أثباتٌ ثقاتٌ"، ووافقَهُ الذَّهبيُّ، وهو كما قالوا.
وليس في هذا الحديث أيضًا ما يتَّكئُ عليه العاطلون، فقد تتابعت الأحاديث في الحضِّ على العمل، والنَّهيِ عن السُّؤال.
وبيانُ عدم التَّعارض بين الأحاديث يحتاجُ إلى مَقامٍ آخرَ.
وأخرجَ البُخاريُّ في "التاريخ الكبير"(4/ 1/ 181)، ويعقوبُ بن سفيانَ في "المعرفة"(1/ 311)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 63، وأبو نُعيمٍ في "الحلية" (3/ 125)، والبيهقيُّ (10/ 194 - 195) من طريق بكر بن بشرٍ العسقلانيِّ، ثنا عبدُ الحميد بنُ سَوَّارٍ، عن إياسِ بن مُعاوية، عن أبيه، عن جَدِّه، وساق حديثًا، فيه:"والعمل من الإيمان".
لكنَّه ضعيفٌ؛ بكرُ بنُ بشر مجهولٍ كما قال الذَّهبيُّ في "الميزان".
وعبدُ الحميد بنُ سَوَّارٍ ضعيفٌ، وبه أعلَّه الهيثميُّ في "المجمَع"(8/ 27).
ولو صحَّ، لم يكُن فيه دليلٌ للحديث المسئول عنه؛ لأنَّ المقصودَ منه أن الأعمال الَّتي هي كالصَّلاة والزَّكاةِ وغيرِها مِن تمامِ الإيمانِ. وفيه ردٌّ علَى المُرجئةِ، الَّذين لا يَعتبِرون الأعمالَ داخلةً في الإيمانِ.
(وهناك تنبيه)
وهو أن المُسلمَ لو عَمِلَ أيَّ عملٍ مُباحٍ، واقترَنَت به نيَّةُ الزُّلفَى إلى الله تعالَى، فإنَّهُ يَدخل في جنس العبادة، فلو ذهب لِعَمَله وفي نيَّته أنَّهُ يَستعِفُّ به، ويُؤدِّي ما أوجبه اللهُ عليه مِنَ النَّفقة على زوجته وأولاده، كان بذلك عابدًا لله؛ لأنَّهُ لو قَصَّر في ذلك حتَّى ضيَّعَهُم، أَثِمَ به، وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قال:"كفى بالمرء إثمًا أن يَحبِس عمَّن يملِكُ قوتَهُ"، أخرجهُ مُسلمٌ وغيرُهُ.
واللهُ أعلمُ.
8 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنّ لِكُلِّ شيءٍ شَيخًا، وَشَيح الجِهَادِ الرِّبَاطُ فِي سبِيلِ اللهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ منكَرٌ.
أخرجه العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(80/ 2)، ومن طريقِهِ ابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(2/ 90 - 91) من طريق سُليمانَ بن الحجَّاج الطَّائفيِّ، عن خالد بن سعيدٍ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ السَّاعديِّ، مرفُوعًا فذكره.
قال العُقيليُّ: "سُليمان بن الحجَّاج: الغالبُ على حديثه الوَهَمُ. وهذا الحديثُ لا أصل له".
وقال ابنُ الجوزيِّ: "لا يصحُّ".
9 -
سُئلتُ عن حديث: "يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ رِجَالٌ، يَختِلُونَ الدُّنيَا بِالدِّينِ، يَلبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأنِ مِنَ اللِّينِ، أَلسِنَتُهُم أَحلَى مِنَ العَسَلِ، وَقُلُوُبهُم قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَبِي يَغتَرُّونَ؟! أَم عَليّ يَجترئُونَ؟! فَبِي حَلَفتُ! لأَبعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنهُم فِتنَةً، تَدَع الحَلِيمَ مِنهُم حَيرَانَ".
• قلتُ: هذا الحديثُ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجه التِّرمذيُّ (2404)، وابنُ المبارَك (50)، وهنَّادُ بنُ السَّريِّ (860) كلاهما في "الزُّهد"، وابنُ عبد البرِّ في "الجامع"(1/ 189)، والخطيبُ في "الفقيه والمتفقِّه"(2/ 162)، والبغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 394) من طريق يحيى بن عُبيد الله، عن أبيه، عن أبي هُريرة، مرفوعًا به.
وهذا سندٌ ضعيفٌ جدًّا؛ ويحيى بن عُبيد الله: قال أحمد: "أحاديثه مناكيرُ"، وضعَّفه ابنُ مَعِين، وابنُ عديٍّ،. وتركه يحيى القَطَّانُ آخرَ أمرِهِ. وأبوه عُبيد الله بن عبد الله بن مَوهَبٍ: قال أحمد، والجُوزجانيُّ، والشَّافعيُّ:"لا يُعرَف"، وقال ابنُ القطَّان الفاسيُّ:"مجهول الحال"، أمَّا ابنُ حِبَّانَ، فوثَّقه (5/ 72)!
وله شاهدٌ من حديث ابن عُمَر رضي الله عنه.
أخرجه التِّرمذيُّ (2405) من طريق حمزة بن أبِي مُحَمَّدٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عُمَر، مرفوعًا:"إنَّ الله تعالى قال: لقد خلَقتُ خلقًا، ألسنتُهُم أحلَى من العسل، وقلوبُهُم أَمَرُّ من الصبر، فبِي حَلَفتُ! لأُتِيحَنَّهُم فتنةً تدع الحليمَ منهُم حَيرانَ، فَبِي يغترُّونَ؟! أم عليَّ يَجتَرِؤُون؟! ".
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث ابن عُمَر، لا نَعرِفه إلَّا مِن هذا الوجه".
• قلتُ: كذَا! وحمزة بن أبي مُحَمَّدٍ: ليَّنَه أبو زُرعةَ، وقال أبو حاتمٍ:"ضعيف الحديث. مُنكَر الحديث. لم يَروِ عنه غيرُ حاتم بن إسماعيل"، وهذا معناه أنَّه مجهول العين. فإذا كان مع جهالته مُنكَر الحديث، فهو ساقطٌ عن حدِّ الاعتبار به، فالسَّند واهٍ.
وله شاهدٌ من حديثِ أبِي الدَّرداءِ مرفُوعًا: "أنزل الله عز وجل في بعض كتبِه، أو أَوحَى إلى بعض أنبيائِهِ: قُل للَّذين يتفقَّهُون لغيرِ الدِّين، ويتعلَّمُون لغيرِ العمل، ويطلبون الدُّنيا بعملِ الآخرةِ، يَلبسُون للنَّاس مُسُوكَ الكِباش، قلوبُهُم كقلوب الذِّئاب، ألسنتُهُم أحلَى من العسل، وقلوبُهُم أَمَرُّ من الصبر: إيَّاي يَخدعُون؟! أَوْ بي يستهزِئُون؟! فبِي حَلفتُ!
…
الحديثُ".
أخرجه ابنُ عبد البرِّ في "الجامع"(1/ 189)، والخطيب في "الفقيه والمتفقِّه"(2/ 162)، وابنُ عساكر في "المجلس الرَّابع عشر من الأمالي"(ق 2/ 1) من طريق المغيرة بن عبد الرَّحمن، عن عُثمان بن عبد الرَّحمن، عن الزُّهريِّ، عن عائذ الله بن عبد الله، عن أبي الدَّرداء مرفوعًا.
قال ابنُ عساكر: "تفرَّد به المغيرةُ بن عبد الرَّحمن المخزوميُّ، عن عثمانَ الوَقَّاصِيِّ، عن الزُّهريِّ".
وهذا سندٌ تالفٌ البتةَ؛ والمغيرةُ مجهولٌ، وعُثمانُ الوَقَّاصِيُّ: كذَّبه ابنُ مَعِينٍ، وأبو حاتمٍ، وقال:"ذاهب الحديث. متروك الحديث"، وقال النَّسائِيُّ وابنُ البَرقِيِّ:"ليس بثقةٍ"، وكذلك تركه النَّسائِيُّ في روايةٍ، والدَّارَقُطنِيُّ. والكلامُ فيه طويلُ الذَّيل، فالحمل عليه.
وأخرجه الدَّارميُّ (1/ 76 - 77) قال: حدَّثَنا أبو النُّعمان - هو: عارمٍ -، ثنا حمَّاد بن زيدٍ، عن يزيدَ بن حازمٍ، حدَّثني عمي جَرِيرُ بن زيدٍ، أنَّه سمع تبيعًا يُحدِّثُ، عن كعب الأحبارِ، قال:"إنِّي لأَجدُ نَعتَ قومٍ يتعلَّمُون لغير العَمَل، ويتفقَّهُون لغير العبادة، ويطلُبون الدُّنيا بعمَل الآخِرة، وَيلبَسُون جُلود الضَّأن، وقُلوبُهُم أَمَرُّ من الصَّبر. فَبِي يغتَرُّون؟! أو إيَّاي يُخادِعُون؟! فَحَلفتُ بي! لأُتيحَنَّ لهم فتنةً تترُكُ الحليمَ فيها حيرانَ". وقد خُولف الدَّارميُّ فيه ..
خالفه عليُّ بنُ عبد العزيز: فرواهُ عن عارمٍ، حدَّثنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، أنَّهُ بَلَغَهُ عن كعبٍ، قالَ:
…
فذكرَهُ.
أخرجه ابن عبد البرِّ (1/ 189).
ولعلَّ هذا من عارمٍ؛ فقد ساء حِفظُه بأَخَرَةٍ.
وقد خُولف عارمٌ ..
خالَفَه عليُّ بنُ المَدينيِّ، قال: حدَّثَنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، حدَّثَنَا يزيدُ بنُ حازمٍ، عن عمِّه جرير بن زيدٍ، قال: سمعتُ تُبيعًا يقولُ:
…
فذكر مثله.
أخرَجَه البيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(1773 - طبع الهند) من طريق أبي جعفرٍ الحذَّاء، قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ المَدِينيِّ بهذا.
وتُبيعٌ هذا ربيبُ كعبٍ الأحبارِ، فلعلَّه أَخَذه منه، فتتَّفق الرِّوايتان.
وبالجُملة، فلا يصِحُّ الحديثُ من أيِّ وجهٍ.
واللهُ أعلمُ.
10 -
سُئلتُ عن حديث: "رُبَّ عَابِدٍ جَاهِلٌ، وَرُبَّ عَالمِ فَاجِرٌ، فَاحذَرُوا الجُهَّالَ مِنَ العُبَّادِ، وَالفُجَّارَ مِنَ العُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ فِتنَةُ الفُتَنَاءِ".
• قُلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(2/ 446)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 3/ ل 357)، وفي "المجلس الرَّابع عشر من الأمالي"(ق 2/ 1) من طريق بشرِ بن إبراهيم أبي سعيدٍ الدِّمشقيِّ، ثنا ثَورُ بن يزيدَ، عن خالدِ بن معدان، عن أبِي أُمَامة مرفوعًا، فذكره.
قال ابنُ عديٍّ: "غير محفوظٍ".
وقال ابنُ عساكر: "تَفرَّد به أبو سعيدٍ بِشرُ بنُ إبراهيم الدِّمشقيُّ".
• قلتُ: وبِشرٌ هذا: قال ابنُ حِبَّانَ: "كان يَضعُ الحديثَ على الثِّقاتِ".
وأخرجه ابنُ عديٍّ (6/ 2433) من طريق عُمَر بن مُوسَى، عن خالدِ بن مَعدانَ، عن أبِي أُمَامة مرفُوعًا به.
وعُمَرُ بنُ موسى الوَجِيهِيُّ: قال أبو حاتمٍ، وابنُ عديٍّ:"كان يضع الحديثَ".
فالحديث ساقطٌ بالطَّريقَين. والله أعلمُ.
11 -
وسُئلتُ عن قول عُمَر رضي الله عنه: "إِن أنا نِمتُ نَهَارِي ضَاعَتِ الرَّعِيَّةُ، وَإِنَ أنا نِمتُ لَيلِي ضَيَّعتُ نَفسِي .. كَيفَ بِالنَّومِ مَعَهُمَا؟ ".
• قُلتُ: أخرجه نِظامُ المُلكِ الحسنُ بن عليٍّ في "مجلسين من الأمالي"(رقم 23 - بتحقيقي)، من طريق عبد الله بن إِدريسَ، عن ليثِ بن أبِي سُليمٍ، أنَّه قال: بَلَغني أن عُمَر بن الخطَّاب عُوتِب في جَهدِهِ نهارًا في أُمُور النَّاس، وفي اجتهَادِه ليلًا في أُمُور آخرتِهِ، فقالَ:
…
فذكرَهُ.
وسندُهُ ضعيفٌ، للانقطاع بين ليثٍ وعُمَر، ثُمَّ ليث فيه مقالٌ معروفٌ.
والله أعلم.
12 -
سُئلتُ عن الحديث القدسي: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَحَبُّ عِبَادِي إِليَّ أَعجَلُهُم فِطرًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه التِّرمذيُّ (700، 701)، وأحمد (2/ 237 - 238، 329)، وابن خُزَيمَة (ج 3/ رقم 2062)، وابنُ حِبَّانَ (886)، والبَغَوِيُّ في "شرح السنة"(6/ 256)، والشَّجريُّ في "الأمالي"(1/ 189 - 190) من طُرُقٍ عن قُرَّة بن عبد الرَّحمن، عن الزُّهريِّ، عن أبِي سَلَمة، عن أبِي هُرَيرة مرفُوعًا، فذكَرَه.
قال التِّرمذيُّ: "حسنٌ غريبٌ".
• قلتُ: وسندُه ضعيفٌ؛ وقُرَّة بن عبد الرَّحمن: في حديثهِ نكارةٌ عن الزُّهريِّ.
ولكنَّه تُوبِعَ ..
تابعه مُحمَّدُ بن الوليد الزُّبَيدِيُّ، عن الزُّهريِّ، بسندِهِ سواء.
أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط"(ج 1/ رقم 149) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ يحيى بن خالد بن حيَّان، قال: نا مُحمَّدُ بنُ سُفيانَ الحضرَمِيُّ، قال: نا مَسلَمةُ بنُ عليٍّ، عن مُحمَّدِ بن الوليد به.
ورواه هشامُ بنُ عمَّارٍ، قال: ثنا مَسلَمَةُ بنُ عليٍّ، بهذا الإسناد.
أخرجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 2315)، قال: حدَّثَنا عبدُ الصَّمد بنُ عبد الله الدِّمَشقِيُّ، ثنا هشامٌ بهذا.
قال الطَّبَرانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن الزُّبَيدِيِّ إلَّا مَسلَمةُ بنُ عليٍّ".
• قُلتُ: وهو الخُشَنيِّ: ضعيفُ الحديث جدًّا، ترَكَهُ غيرُ واحدٍ، منهم: النَّسائيُّ، والدَّارقُطنِيُّ، والبَرقَانِيُّ، والأَزدِيُّ، وقالَ الحاكم:"رَوَى عن الأوزاعِيِّ والزُّبَيدِيِّ المناكيرَ والموضُوعَاتِ".
وَخَتَمَ ابنُ عَدِيٍّ ترجَمَتَه بقوله: "ولمَسلَمَةَ غيرُ ما ذكرتُ من الحديثِ، وكُلُّ أحاديثهِ، ما ذكرتُهُ وما لم أذكُرهُ، كُلُّها أو عامَّتُها غيرُ محفُوظَةٍ".
وفي الباب حديثُ سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنه مرفُوعًا: "لا يزالُ النَّاسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ".
أخرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا أبا داوُد.
وقال التِّرمذِيُّ: "حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
(تنبيهٌ)
عزا مُلَّا عليٌّ القارِي هذا الحديثَ في "الأربعون القدسية"(22 - بتحقيقي)، لابن ماجَهْ، ولم أَجِده فيه.
واللهُ أعلَمُ.
13 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن آذَى مُسلِمًا فَقَد آذَانِي، وَمَن آذَانِي فَقَد آذَى الله".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَه الطَّبرانيُّ في "الصَّغير"(1/ 168 - 169) قال: حدَّثَنا سعيدُ بنُ مُحمَّد بن المُغيرَةَ الواسِطِيُّ، حدَّثَنا سعيدُ بنُ سُليمانَ، حدَّثنا مُوسى بن خَلَفٍ العَمِّيُّ الواسِطيُّ، حدَّثنا القاسمُ العِجليُّ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطُب، إِذ جاءَ رجلٌ يتخطَّى رقابَ النَّاس حتَّى جلس قريبًا منَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاتَه قالَ:"ما مَنَعَكَ يا فُلانُ أن تجمِّعَ؟ "، قال: يا رسولَ الله! قد حرَصتُ علَى أن أضع نفسي بالمكان الَّذِي ترَى. قال: "قد رأيتُك تخطَّى رقابَ النَّاس وتُؤذِيهم، مَن آذَى مُسلمًا
…
الحديث".
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِه عَن أنسٍ إلَّا القاسمُ العِجليُّ، ولا عنه إلَّا مُوسى بن خَلَفٍ".
• قُلتُ: وعِلَّته القاسمُ العِجليُّ، فقد تركه ابنُ حِبَّانَ، وبه أعلَّه الهيثميُّ في "المَجمَعِ"(2/ 179). ومُوسَى بنُ خَلَفٍ قوَّاهُ أكثرُ العُلماء، ولكن قال النَّسائِيُّ:"ليس بذاك القَوِيِّ، ليس به بأسٌ"، وهو معنَى قولِ الدَّارقُطنِيِّ:"ليس بالقوِيِّ، يُعتبَرُ به". وترك ابنُ حِبَّان الاحتجاجَ به إذا خالَفَ أو انفَرَدَ. وشيخُ الطَّبَرانِيِّ لا أعلَمُ من حاله شيئًا. والله أعلم.
14 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن وَدَعَهُ الناسُ اتِّقَاءَ فُحشِهِ".
• قُلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه البُخاريُّ (10/ 452، 471)، ومُسلمٌ (2591)، وأبو داود (4791)، والتِّرمذيُّ (1996)، وأحمدُ (6/ 38)، والطَّيالسِيُّ (1455) وآخرُون مِن حديث عائشة، قالت: استأذن رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عِندَه، فقالَ:"بئس ابنُ العَشِيرة - أو: أخو العَشيرَة - " ثمَّ أَذِنَ له، فأَلانَ له القولَ، فلمَّا خرجَ، قلتُ:"يا رسول الله! قُلتَ له ما قُلتَ، ثمَّ أَلنت لَهُ؟! "، فقالَ -: "إنَّ شرَّ النَّاس
…
الحديثُ".
قال التِّرمذيُّ: "حسنٌ صحيحٌ".
15 -
سُئلتُ عن حديث: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا يَتبَوَّأُ لِمَنزِلِهِ.
• قُلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ الحارثُ بن أبي أُسامَة في "مُسنَده"(64)، ومن طريقِهِ أبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(4798) ..
وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(ج 7/ ق 109/ 1 - 2)، قال: حدَّثَنا بِشرُ بن مُوسى ..
قالا (بشرٌ والحارِثُ): ثنا يحيى بن إسحاق السَّيْلَحِينِيُّ، ثنا سعيدُ بن زيدٍ، عن واصل مَولَى أبي عُيَينة، عن يحيى بن عُبيدٍ، عن أبيه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
وأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1214) عن أبي عاصمٍ الضَّحَّاكِ بن مَخلَدٍ ..
وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(4799) عن وَكِيع بن الجرَّاح ..
قالا: ثنا سعيدُ بن زيدٍ، بهذا الإسناد.
وكذلك، أخرَجَهُ ابن مَنْدَهْ في "الصَّحابة".
وقال أبو نُعيم: "وكذلك رواه أبو داوُد، عن سعيدِ بن زيدٍ".
وأخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسَط"(3064)، قال: حدَّثَنا بِشرُ بن مُوسَى، قال: نا يحيى بن إسحاقَ السَّيْلحينيُّ، قال: نا سعيدُ بن زيدٍ،
عن واصلٍ مَولَى أبي عُيَينَة، عن يحيى بن عُبَيدٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة
…
فذَكَره.
فجَعَله من مُسنَد أبي هُريرَة.
وقد مرَّ في التَّخريج أن ابنَ قانِعٍ يرويه عن شيخه بِشرِ بن مُوسَى، عن يحيى بن إسحاقَ، بهذا الإسنادِ، ولم يَذكُر أبا هُريرَة.
ولا أدري، كيف وقع هذا وشيخُ الطَّبَرَانِيِّ وابنِ قانعٍ واحدٌ؟!
وقال أبو نُعيمٍ: "ورواه ابن زيدَانَ، عن عمرِو بن عاصمٍ، عن حمَّادٍ وسعيدٍ ابنَيْ زيدٍ، عن واصلٍ، عن يحيى بن عبيد بن رُحَيٍّ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة، فذكره".
• قلتُ: وابنُ زيدان هذا لم أَعرِفهُ، وبحثتُ عنه كثيرًا. ثُمَّ تبيَّن لي أنهُ مُصَحَّفٌ، وصوابُه: ابن زيدٍ - وتصَحَّف اسمُه في الرُّواة عن عمرِو بن عاصمٍ، في "تهذيب الكمال"(22/ 88)، فقال:"مُحمَّد بن زَبْدا"، هكذا ضبَطَه بالزَّاي، بعدها باءٌ مُوحَّدةٌ، ثُمَّ ألفٌ -. وهو محمَّد بن أحمد بن زيدٍ المَدارِيُّ. ذكرَهُ ابنُ حِبّان في "الثِّقات"(9/ 123)، وقال: "أبو جعفرٍ المَداريُّ من أهل البَصرة
…
حدَّثنا عنه عبدُ الله بن قَحْطَبةَ، وغيرُه". ورأيتُه في "التَّوضيح" (8/ 96) لابن ناصر الدِّين، قال: "المَدَاريُّ، بالدَّال المُهمَلة
…
- ثُمّ قال: - ومُحمَّد بن أحمد بن زيدٍ المداريُّ، عن عمرِو بن عاصمٍ". وضَبَطَه ابنُ نُقطَة بالذال المُعجَمة: المَذارِيُّ. ورأيتُ له حديثًا في "أوسطِ الطبَرَانِيِّ"(2036)، عن عمرو بن عاصمٍ، ثُمَّ قال:"تفرَّد به ابنُ زيدٍ - يعني: مُحمّد بن أحمد بن زيدٍ المَدارِيُّ -، وهو ثقةٌ".
• قلتُ: وهذه فائدةٌ نفيسةٌ غاليةٌ، خَلَت منها كُتُب الرِّجال. والحمد لله تعالَى.
فقد رأيتَ - أراك اللهُ الخير - أن يحيى بن إسحاقَ ووكيعًا والطَّيالسِيَّ رووه عن سعيد بن زيدٍ، عن واصلٍ، عن يحيى بن عُبيدٍ، عن أبيه.
وقال أبو زُرعَة - كما في "عِلل ابن أبي حاتمٍ"(87) -: "مُرسلٌ" ورواه يحيى بن إسحاق مرَّةَ أخرى، عن سعيد بن زيدٍ، فزاد في إسناده أبا هُريرَة.
أخرجه الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط" كما سبق، وقال:"لم يَروِ هذا الحديث عن واصلٍ مولى أبي عُيينَة إلَّا سعيدُ بن زيدٍ. ويحيى هو يحيى بن عُبيد بن رُحَيٍّ. ولم يُسنِد عُبيد بن رُحَيٍّ عن أبي هُريرَة إلَّا هذا الحديث".
كذا قال! ولم يتفرَّد به سعيد بن زيدٍ، بل تابعه حمَّادُ بن زيدٍ، كما مَرَّ في كلام أبي نُعيمٍ. وانظُر "تنبيه الهاجد"(رقم 2732).
والحاصلُ أن هذا الاضطرابَ يبدُو أنهُ من سعيد بن زيدٍ؛ فإنَّه وإن وَثَّقه بعضُ النُّقَاد، فليس بعمدةٍ إذا انفَرَد. وقد تابعه أخُوه حمَّادُ بن زيدٍ، الحُجَّةُ الإمامُ. فلذلك أُرَجِّحُ من هذا الاختلاف أنهُ من مُسنَد أبي هُريرَة.
فيبقَى الكلامُ عن يحيى بن عُبيدٍ وأبيه.
فقال الهيثَمِيُّ في "المَجمع"(1/ 204): "هو من رواية يحيى بن عبيد بن رُحَيٍّ، عن أبيه. ولم أَر من ذكَرَهما. وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ".
وقال المُناويُّ في "فيض القدير"(5/ 300): "قال الوليُّ "العِرَاقِيُّ: فيه يحيى بن عبيدٍ وأبوه: غيرُ معرُوفَين".
وبعد كتابة ما تقدَّم، رأيتُ الحديثَ في "المَطالِب العالية"(35/ 2) للحافظ، قال:"قال سعيدُ بن يعقُوبَ الأَصبَهَانِيُّ - في "كتابه في الصحَّابة" -: حدَّثَنا سهلُ بنُ الفَرُّخان، ثنا ابنُ أبي السَّرِيِّ، ثنا وكيعٌ، عن سعيد بن زيدٍ، عن واصلٍ مولَى أبي عُيينَة، عن عُبيد بن صَيْفِيٍّ، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
- وذَكَر الحديث - ". كذا، جَعَل الحديثَ مِن مُسنَد صَيفيٍّ.
وهذه روايةٌ مُنكَرةٌ.
وقد رواها هنَّادُ بن السَّرِيِّ، عن وكيعٍ، عن سعيد بن زيدٍ، عن واصلٍ، عن يحيى بن عبيدٍ، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
أخرَجَها أبو نُعيمٍ في "المعرفة"(4799)، قال: حدَّثَنا الطَّلْحِيُّ، ثنا الحَضرمِيُّ - هو مُطيَّنٌ -، ثنا هنَّاد بن السَّريِّ، بهذا.
أمَّا ابنُ أبي السَّريِّ، واسمه الحُسين بن المتوكِّل بن عبدِ الرحمن، أحدُ شُيوخ ابن ماجَهْ، كذَّبَه أخُوه، وأبو عَرُوبةْ الحرَّانِيُّ، وضعَّفُه أبو داوُد، وقال ابن حِبَّان:"يُخطِئ ويُغرِب".
ثمَّ رأيتُ الحافظَ ذكر صَيفِيًّا هذا في "الإصابة"(5/ 326 - طبع هجر)، في القِسم الرَّابع، وقال:"ذكره سعيدُ بن يعقوبَ، من طريق وكيعٍ، عن سعيد بن زيدٍ، عن واصلٍ مولى أبي عُيينَة، عن عُبيد بن صيفيٍّ، عن أبيه - وذكر الحديثَ. قال: - وهذا وهم نشأَ عن سقطٍ. وفي إسنادِهِ إلى وكيعٍ ضعفٌ. والصَّوابُ ما رواه يحيى بن إسحاقَ، عن سعيد بن زيدٍ، "عن واصلٍ، عن يحيى بن عبيدٍ، عن أبيه" انتهَى.
وله شواهدُ مثلُه في الضَّعف، لا يَتقوَّى الحديثُ بها. والله أعلم.
16 -
سألني سائل، فقال: ذكر بعض الخطباء أنه يجوز صلاة الصُّبح بعد شروق الشَّمس، واستدلَّ بحديثٍ عن أحد الصَّحابة، اسمه على ما أَذكُر "صفوان"، وقد سألتُ عنه بعض أهل العلم، فقال لي:"هو حديثٌ منكَرٌ"، فنرجو أن تذكر لنا نصَّ الحديث، مع ذكر درجته ..
وقد ذكر هذا الخطيبُ أيضًا، أن في هذا الحديث النَّهيَ عن قراءة سورتين بعد الفاتحة، فهل هذا صحيحٌ؟
• قلتُ: الحديثُ صحيحٌ.
أخرجه أبُو داوُد (2459)، وأحمدُ (3/ 80)، وكذا ابنُهُ عبدُ الله في "زوائده على المسند" في ذات الموضع، وابنُ حِبَّانَ (956)، عن أبِي يَعلَى، وهذا في "مُسنَده"(ج 2/ رقم 1037، 1174)، والطحاويُّ في "مُشكِل الآثار"(2/ 424)، والحكمُ (1/ 436)، والبيهقى (4/ 303)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 8/ ل 349 - 350) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن أبِي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: جاءت امرأةٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي صفوانَ بنَ المُعَطِّل يضربُني إذا صلَّيتُ، ويُفَطِّرُني إذا صُمتُ، ولا يُصلِّي صلاةَ الفجرِ حتَّى تطلُع الشَمسُ. - قال: - وصفوانُ عنده، فسأله عمّا قالَت،
فقال: يا رسول الله! أمَّا قولها: يضربِنُي إذا صلَّيتُ، فإنهَّا تقرأُ بسورَتَينِ، وقد نهيتُها عنها. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لو كانت سُورةً واحدةً لَكَفَتِ النّاس"، قال: وأمَّا قولها: يُفطِّرُني إذا صُمتُ، فإنَّها تنطلِقُ فتصومُ، وأنا رجلٌ شابٌّ، لا أصبرُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: "لا تصوم امرأةٌ إلا بإذن زوجها"، وأمَّا قولهُا: لا أُصلِّي حتَّى تطلُع الشَّمسُ، فإنَّا أهل بيتٍ لا نكاد نستيقظُ حتَّى تطلُع الشَّمسُ. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا استَيقَظتَ فصلِّ". وهذا السِّياقُ لابن حِبَّانَ.
ورواه أبُو بكرٍ بنُ عيَّاشٍ، عن الأعمشِ، بسنده سواءٌ، وفي حديثه:"وأمَّا قولهُا: إنِّي أضرِبُها عن الصَّلاة؛ فإنَّها تقرأُ بسورَتِي، فتُعَطِّلُني"، قال:"لو قرأها النّاس ما ضَرَّك"، "وأمَّا قولها: إنِّي لا أُصلِّى حتَّى تطلُع الشَّمسُ، فإنِّي ثقيلُ الرَّأس، وأنا مِن أهل بيتٍ يُعرَفون بذاكَ، بثِقَلِ الرُّؤُوسِ"، قال: "فإذَا قُمتَ فصلِّ".
أخرجه أحمدُ (3/ 84 - 85) حدَّثنا أَسوَدُ بن عامرٍ، نا أبُو بكرٍ بنُ عيِّاشٍ به.
قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحٌ، على شرطِ الشَّيخين"، وهُو كما قال. وصحَّح إسنادَهُ الحافظُ في "الإصابة"(3/ 441). وقد صرَّح الأعمشُ بالتَّحديثِ عن أبي صالحٍ، عند ابن سعدٍ في "الطَّبقات"، كما قال الحافظُ في "الفتح"(8/ 462).
أمَّا من أنكره فهُو مسبوقٌ إليه ..
فقد قال الحافظُ في "الإصابة"(3/ 441): "إنَّ البُخاريَّ أوردَ هذا الإشكال قديمًا".
ولمَّا رَوَى البزَّارُ هذا الحديثَ في "مُسنَده"، قال:"هذا الحديثُ كلامُهُ منكَرٌ، ولعلَّ الأعمشَ أخذه من غير ثقةٍ فدلَّسَهُ، فصار ظاهِرُ سنده الصِّحةُ، وليس للحديث عندي أصلٌ".
وخُلاصة الإشكال، أن صفوان بن المعطِّل لمَّا رُمِي بعائشَةَ رضي الله عنها في حديث الإفك المشهور، في "الصَّحيحين" وغيرهما، قال:"سُبحان الله! والله! ما كَشَفتُ كَنَفَ أُنثَى قطُّ! "، فيكونُ حديث أبِي سعيدٍ هذا منكرًا؛ إذ فيه أن لصفوانَ زوجةً، فكيف يقولُ:"والله! ما كشفتُ كنف أنثى قطُّ! "؟، فلهذا استَشكَلَه البُخاريُّ، وأنكره البزَّارُ.
ولكن يُجاب عنه بأنَّ الجمعَ أولَى من التَّرجيحِ، فالأصلُ في الدَّليلين الصَّحيحَين الإعمالُ لا الإهمالُ، والجَمعُ هنا مُمكنٌ، بل ظاهرٌ، وهو أنْ يكون حديث أبِي سعيدٍ هذا متأخرًا عن حادثة الإفك، فيُحمَل قولُه:"ما كشفتُ كنفَ أُنثَى قطُّ! " على أنَّه لم يكُن تزوَّج آنذاكَ، ثُمَّ تزوَّج بعد ذلك، فشَكَتهُ امرأتُهُ. وبهذا أجاب الحافظ.
وهناك جوابٌ آخرُ. قال القُرطُبيُّ: قولُه: "ما كشفتُ كنفَ أُنثَى قطُّ"، يعنى: بزنًا، أي في الحرام. ولكن اعتَرَضَه الحافظُ بقولِهِ:"فيه نظرٌ؛ لأنَّ في رواية سعيد بن أبِي هلالٍ، عن هشام بن عُروة، في قِصَّة الإفكِ، أن الرَّجُل الَّذي قيل فيه ما قيل لمَّا بلغهُ الحديثُ قال: "والله! ما أصبتُ امرأةً قطّ، حلالًا ولا حرامًا"، وفي حديث ابن عبَّاسٍ
عند الطَبرانيِّ: "كان لا يَقرَبُ النِّساء". فالَّذِي يظهَرُ، أن مرادَه بالنَّفيِ المذكورِ ما قبل القصَّة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، فهذا الجمعُ لا اعتراض عليه، إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنَّه كان حَضورًا، لكنَّه لم يثبُت، فلا يُعارِض الحديثَ الصَّحيحَ" انتهى كلامُ الحافظ.
وما ذكره من حديث ابن عبَّاسٍ، فأخرجه الطَّبرانيُّ (23/ 123)، وفي سنده إسماعيل بن يحيى بن سَلَمة بن كُهَيلٍ، وهو متروك، وكذلك أبوه يحيى بنُ سَلَمة. فالسّندُ ضعيفٌ جدًّا.
وخُلاصة الجواب أن الحديثَ صحيح، وليس معناهُ مُنكَرًا كما شرحنَاه.
أمَّا ما ذكره ذاك الواعظُ من صلاة الفجر بعد طُلوع الشَّمس فجائزٌ، لا سيَّما مَن كان حالُه كحال صفوانَ بن المُعطِّل، وأنَّه كان ثقيلَ الرَّأس، فكانت هذه فيه كالصِّفات الجِبِلِّيَّة في الإنسان. واستَبعدَ الذهبيُّ في "سير النُّبلاء"(2/ 550) هذه الخَصلَة في صفوان، فقال:"فهذا بعيدٌ. مِن حال صَفوان أن يكُون كذلك" كذا قال! ولا بُعد فيه، كما لا يخفَى.
أمَّا من يظلُّ ساهرًا طول اللَّيل في غير منفعة، - ليس - إلَّا لمجرَّد السَّهرِ، حتَّى إذا اقترَبَ الفجرُ نام، فلا يستيقظ إلا وقد تعالَى النَّهارُ، فلا شكَّ أنَّه مُؤاخَذٌ، وإن جازت صلاتُهُ. والله أعلمُ.
أمَّا استدلالُ ذلكَ الخطيبِ على النَّهي عن قراءةِ سُورتين بعدَ الفاتحة، فلستُ أدرِي مِن أين أخذه؟! فليس في الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم نهاها عن قراءة سُورتين، وإنَّما قال:"لو كانت سُوْرةٌ واحدةٌ لكَفَت النَّاس"، يعني أن
سورةً واحدةً، لو قرأها المُصلِّي مُتدبِّرًا لها، لَكَفَتهُ، لو عمل بها.
ويكفي في ردِّ استدلال هذا الخطيب، ما أخرجه البُخاريُّ (2/ 255 - فتح) من حديث أنسٍ رضي الله عنه، أن رجُلًا مِنَ الأنصار كان يَؤُمُّهُم في مسجدِ قُباءَ، وكان كُلَّما افتتح سُورةً يقرأُ بها لهم في الصَّلاة ممَّا يقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، حتَّى يَفرُغ منها، ثمَّ يقرأُ سورةً أُخرى معها، وكان يصنع ذلك في كلِّ ركعةٍ،
…
وذكرَ الحديثَ، وفيه: أنَّهم شكوه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن لُزُومه سورةَ الإخلاص في كلِّ ركعةٍ، فقال الرَّجلُ:"إنِّي أُحبُّها"، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حُبُّك إيَّاها أدخلَكَ الجنَّةَ". وبوَّب البُخاريُّ على هذا الحديثِ وغيرِهِ، بقوله:"بابُ الجمع بين السُّورتين في الرَّكعةِ".
وهذا البحثُ كلُّه قائمٌ على أن اللَّفظ "سورتين".
ووقع في روايةٍ لأحمدَ والطَّحاويِّ: "وأمّا قولهُا: "يضربُنِي إذا صلَّيتُ"، فإنَّها تقوم بسورتي التي أقرأُهَا، فتقرأُ بها"، فلفظُ "السُّورة" في هذه الرِّواية جاء مضافًا. ومعناه كما قال الطَّحاويُّ، أنَّه إنَّمَا ضربَهَا لأَنَّها تقومُ بسُورتهِ التي يقرأُ بها، فظنَّ صفوانُ أنَّها إذا قرأت السُّورةَ الَّتِي يقرأُهَا فلا يحصُلُ لهما بقراءتهما إيّاها جميعًا إلَّا ثوابًا واحدًا، فلو أنَّها قرأت سُورةً أُخرَى غيرَ التي قرأها حصَل لهما ثوابان، فأَعلَمَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ واحدٍ منهُما لو قرأَهَا في صلاِتهِ فيحصُلُ لهما ثوابانِ؛ لأنَّ قراءةَ أحدِهما غيرُ قراءة الآخَر. وممَّا يدل على ذلكَ قولُهُ في روايةِ أبِي بكرٍ ابن عيَّاشٍ، عن الأعمش، عند أحمد، قولُهُ: "فإنَّها تقرأ بسورتي
فتُعَطِّلُني"، أي: تُنازِعُنِي في الثَّواب بقراءَتِها نفسَ السُّورةِ فتترُكُنِي عُطْلًا من الثَّوابِ.
واللهُ أعلَمُ.
17 -
سُئلتُ عن حديث: "اهتَزَّ العَرشُ لِمَوتِ سَعدِ بن مُعَاذٍ حَتَّى تَفَسَّخَت أَعوَادُهُ"، هل صحَّ هذا الحديثُ؟ ونحنُ نعلمُ قدرَ عَظَمَة العرش. وهل تفسَّخت أعواده لمَّا اهتزَّ؟!
• قُلتُ: أمَّا أن العرش تفسَّخت أعوادُه، فهذا حديثٌ منكَرٌ بهذا اللَّفظ.
أخرَجَه ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(3/ 433)، وابنُ أبِي شيبة (12/ 142 - 143)، والبزَّارُ (ج/ رقم 2697)، وابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيره"(11993) ببعض اختصارٍ، والحاكم (3/ 206) من طريق مُحمَّد بن فُضيلٍ، حدَّثنا عطاءُ بنُ السَّائب، عن مجاهدٍ، عن ابن عُمَر، قال: اهتزَّ العرش لحُبِّ لقاء الله سعدَ بن معاذٍ، قال: فقال: إنَّما يعني: السَّريرَ؛ {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف:100]، قال: تفسَّخَت أعوادُه. - قال: - ودَخَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبرَه فاحتُبِس، فلمَّا خرج قيل له: يا رسول الله! ما حَبَسَكَ؟ قال: "ضُمَّ سعدٌ في القبر ضمَّةً، فدعوتُ الله، فكَشَف عنه".
ورأيتُ مُحمَّدَ بنَ عثمانَ بن أبي شيبةَ في "كتاب العرش"(49) روَى هذا الحديثَ عن عمِّه أبي بكرٍ بن أبي شيبةَ بهذا الإسناد، لكنَّه رَفَعَ أوَّله، ولم يقل: "إنَّما يعنِي السَّرير
…
الخ".
ولا أدري كيفَ هذا، وهذا القدرُ عند ابن أبي شيبة في "المُصنَّف" موقوفٌ؟!
ثمَّ خَطَر لي أن يكون هذا وقع من مُحمَّدِ بن عُثمان بن أبي شيبَةَ لأنَّه روَى الحديثَ هكذا، قال: حدَّثَنا يحيَى بنُ عبد الحميد، حدَّثَنا عبدُ السَّلام بنُ حربٍ (ح) وحدَّثَنا عمِّي أبو بكرٍ، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ فُضيلٍ. جميعًا عن عطاءِ بن السَّائب، عن مُجاهدٍ، عن ابن عُمر مرفُوعًا:"اهتزَّ العرشُ لحبِّ لقاء الله سعدًا".
فحَمَل مُحمَّدُ بنُ عثمانَ روايةَ ابن فُضيلٍ الموقوفةَ على روايةِ عبدِ السَّلام المرفوعةِ. والله أعلم.
قال البزَّار: "هذا الحديثُ بهذا التَّفسير لا نعلمُه إلَّا عن ابن عُمَر".
• قلتُ: هذا مُتعَقَّبٌ بما أخرجه البُخاريُّ (7/ 123) وغيرُهُ، عن أبِي صالحٍ، عن جابرٍ، مرفوعًا:"اهتزَّ العرشُ لموت سعدٍ"، فقال رجل لجابرٍ:"فإنَّ البراءَ يقولُ: اهتزَّ السَّريرُ؟ "، فقال:"إنَّه كان بين هذينِ الحيَّينِ ضغائنُ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "اهتزَّ عرشُ الرَّحمن لموت سعدِ بن مُعاذٍ".
فيُؤخَذ من هذه الرِّواية أن البراءَ بنَ عازبٍ رضي الله عنه كان يُفسِّر "العرش" بأنَّه "السَّرير"، أي "النَّعشَ"، فردَّهُ جابرُ بنُ عبدِ الله ردًّا واضحًا لمَّا أضاف العرش إلى "الرَّحمن" جلَّ وعلَا، ثمَّ لو كان "العرشُ" هو "النَّعش" لَمَا كان فيه أيَّةُ منقَبةٍ؛ فكُلُّ "نعشٍ" يهتزُّ بمن فيه.
لكنِ الشَّأنُ في ثبوت هذا التَّفسير عن ابن عُمَر، وهو لا يَثبُت بهذا الإسناد؛ فإنَّ مُحمَّدَ بنَ فُضيلٍ كان ممَّن سمِع من عطاءِ بن السَّائب في الاختلاط، فوقَعَت في روايته عنه أغلاطٌ واضطرابٌ، كما قال أبُو حاتمٍ
الرَّازيُّ. ثُمَّ رأيتُ في "علل الدَّارَقُطنِيِّ"(ج 2/ ق 36/ 2 - 37/ 1) أنَّه قال: "رواه إبراهيمُ بنُ طَهمَان، وابنُ فُضيلٍ، وحمَّادُ بنُ سَلَمة، عن عطاء بن السَّائب، عن مُجاهدٍ، عنْ ابن عُمَر"، فهذا يدُلُّ على أن ابن الفُضيلِ لم يتفرَّد به. ولكنَّ حمادَ بنَ سَلَمة سمِعَ من عطاءٍ قبل الاختلاط وبعده، فلا يُحتَجُّ بروايته عنه حتَّى نُميِّزَ رَوايتَه قبل أو بعد الاختلاط. وإبراهيمُ بن طَهمَان يَظهَرُ أنَّهُ سمع من عطاءٍ بعدَ الاختلاط، يُعلَمُ ذلك من مُطالَعة ترجمة:"عطاءٍ"، فأخشَى أن يكُون أَخْذُهم في وقتٍ واحدٍ. ثُمَّ إنَّ الدَّارَقُطنِيَّ لم يذكُر لفظَ حديث ابن طَهمانَ وحمَّادٍ، فَلَرُبَّمَا تَابَعَا ابن فُضيلٍ على أصله وليس على هذه اللَّفظة المُنكَرة، وهي "تفَسَّخت أعوادُه".
وقد قال العُقَيلِيُّ في "الضُّعفاء"(4/ 425): "وليس يُحفَظ: "حتَّى تخَلَّعَت أعوادُهُ" مِن وجهٍ صحيحٍ" ا. هـ.
وبهذا التَّحقيقِ تعلمُ ما في قولِ الحاكِمِ: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد"!!
وقد رأيتُ أبا عَوانَةَ روَى هذا الحديثَ - دون هذه اللفظةِ - عن عطاءِ بن السَّائِبِ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"اهتزَّ العرشُ لحبِّ لقاء الله سعدًا".
هكذا رَفَعَهُ.
أخرَجَه ابنُ أبي حاتم في "العِلل"(2626)، والمَحَامِلِيُّ في "الأمالِي"(ق 23/ 1).
وسُئل أبُو زُرعة عن هذه الرِّواية، فقال: "رواه جريرٌ، وابنُ فُضَيلٍ
وغيرُهُم، عن عطاءِ بن السَّائب، عن مُجاهِدٍ، عن ابن عُمر موقُوفًا، لا يرفعُونه" انتهَى.
• قلتُ: وأبو عَوانَةَ كان ممَّن سمع من عطاءٍ في الاختلاط.
وتابَعَه عبدُ السَّلام بنُ حربٍ، فرواه عن عطاء بن السَّائب، بهذا الإسناد.
أخرَجَه مُحمَّدُ بنُ عثمان بن أبي شيبَةَ في "كتاب العرش"(49) ..
والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4171) قال: حدَّثَنا فهدُ بنُ سُليمان ..
قالا: ثنا يحيَى بنُ عبدِ الحميد الحِمَّانِيُّ، قال: ثنا عبدُ السَّلام بنُ حربٍ بهذا.
والحِمَّانِيُّ فيه مقالٌ معروفٌ.
وخالَفَه مالكُ بنُ إسماعيل أبُو غَسَّان النَّهديُّ، فرواه عن عبد السَّلام بن حربٍ بهذا الإسنادِ، ولم يرفعه.
أخرَجَه الطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(10/ 365 - 366) - واللفظُ له -، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن عليّ بن داوُد ..
والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 13555)، قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ عبد العزيز ..
- قالا: ثنا أبو غسَّان بهذا، ولفظُهُ:"اهتزَّ العرشُ لحبِّ لقاء الله سعدًا". قال: ثُمَّ قالُوا: "وما العرشُ؟ "، قال:"سُبحان الله! لقد تفسَّخَت أعوادُهُ، أو عوارِضُهُ، وإنَّه على رقابِنَا وأكتافِنا، وكان آخِرُ مَن خَرَج من قبره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال: إن سعدًا ضُغِط في قبره ضغطةً، فسألتُ الله تعالى أن يُخفِّفَ عنه"، وقرأ:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} . قال: السَّرير.
وقد رأيتُ يحيَى الحِمَّانِيَّ رواه عن ابن فُضيلٍ، عن عطاء بن السَّائب، بهذا الإسناد مرفُوعًا. أخرَجَه الطَّحاوِيُّ (4171).
وهذا يدُلُّ على الاضطراب في رواية هذا الحديثِ عن ابن عُمر.
وخالَفَ الجميعَ أبُو بكرٍ النَّهشَليُّ، فرواه عن عطاء بن السَّائبُ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عُمر.
ذَكَره الدَّارَقُطنِيُّ في "العلل"(ج 2/ ق 37/ 1) وقال: "حديثُ مُجاهِدٍ عن ابن عُمر أشبَهُ بالصَّواب.
فالصَّحيحُ في حديث ابن عُمر أن أوَّلهُ موقُوفٌ عليه، دون آخِرِه.
وقد وقفه: جريرُ بنُ عبد الحميد، وإبراهيمُ بنُ طَهمانَ، وحمَّادُ بنُ سلَمَة، ومُحمَّدُ بنُ فُضيلٍ - مع الاختلاف عليه -. ولكن له حُكم المرفوع كما لا يَخفَى.
وروايةُ جَريرٍ أخرَجَها المَحامليُّ في "الأمالِي"(ق 23/ 1) قال: حدَّثنا يوسفُ بنُ مُوسَى ..
والحكيمُ التِّرمِذيُّ في "نوادر الأصول"(ج 1/ ق 15/ 1) قال: حدَّثَنا الجارُودُ ..
قالا: ثنا جريرُ بنُ عبد الحميد، عن عطاءٍ بهذا موقُوفًا.
أمَّا حديثُ: "اهتزَّ العرشُ لموتِ سعدِ بن مُعاذٍ" فصحيحٌ، بل مُتواتِرٌ.
وقد وَرَد من حديث جابرِ بن عبد الله، وأبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، وأنسٍ، وحُذَيفةَ، وأُسيدِ، بن حُضَيرٍ، وابنِ عُمر، ورُميثةَ، وعائشةَ، وأسماءَ بنتِ يزيدَ، وسعدِ بن أبي وقَّاصٍ، ومُجَمِّعِ بن جاريةَ، وأبي هُريرةَ رضي الله عنهم.
• أوَّلًا: حديثُ جابرٍ رضي الله عنه: وله عنه طُرُقٌ:
1 -
أبُو سُفيانَ، عنه.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ (7/ 122 - 123 - فتح)، ومُسلمٌ (2466/ 124)، وابنُ ماجَهْ (158)، وأحمدُ في "المُسنَد"(3/ 316)، وفي "الفضائل"(1485)، وابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(12/ 142، و 14/ 414)، وسعيدُ بنُ منصورٍ في "سُننه"(2936)، وابنُ سعدٍ (3/ 433 - 434)، وابنُ طَهمانَ في "سُنَنِه"(145، 141)، وعبَّاسٌ التَّرقُّفِيُّ في "جُزئه"(ق 121/ 1)، ومُحمَّدُ بنُ عُثمان بن أبي شيبةَ في "كتاب العَرش"(48)، والحكيمُ التِّرمِذِيُّ في "نوادر الأُصول"(ج 1/ ق 16/ 1)، وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(562، 563)، والدُّولابِيُّ في "الكُنَى"(2/ 114 - 115)، والجُرجانِيُّ في "الأمالِي"(ق 87/ 1)، والطَّبرانِيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5335)، والطَّحاوِيُّ في "المشُكِل"(4167، 4168)، وابنُ حِبَّان (ج 9/ رقم 6992)، والبَيهَقِيُّ في "الأسماء والصِّفات"(2/ 140)، وابنُ البَطِر في "الفوائد المُنتَقاة"(ق 221/ 2)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(818، 819)، وابنُ الأثير في "أُسد الغابة"(2/ 398)، والبَغَوِيُّ في "شرح السَّنَّة"(3980) من طُرُقٍ عن الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابرٍ مرفُوعًا:"اهتزَّ العرشُ لموت سعد بن مُعاذٍ".
وعند الحكيم التِّرمِذِيِّ: لمَّا مات سعدٌ، نزل جِبريلُ، فقال: يا مُحمَّدُ! رجلٌ من أُمَّتك اهتزَّ له العرشُ. فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا امرأةٌ في المسجد، فقالت: يا رسول الله! إنَّ سعدَ بنَ مُعاذٍ قد ماتَ.
فَشَهِدَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جِنازَتَهُ، فجلس على القبر، فقال:"لا إله إلَّا الله! سُبحان الله! "، ثمَّ قال:"هذا العبدُ الصَّالحُ قد ضُيِّق عليه في قبره، حتى خشيتُ أن لا يُوسَّع عليه، ثُمَّ وُسِّع عليه".
وقال البزَّارُ (795 - زوائد ابن حَجَرٍ): "على أنَّ الأعمشَ لم يسمع من أبي سُفيانَ، وقد روَى عنه نحوَ مئة حديثٍ".
كذا قال! وقد سمع الأعمشُ أبا سُفيانَ طلحَةَ بنَ نافعٍ ..
فأخرَج البُخارِيُّ في "كتاب الأشرِبة"(10/ 70) قال: حدَّثَنا عُمر بن حفصٍ، ثنا أبي، ثنا الأعمشُ، قال: سمعتا أبا صالحٍ يَذكُرُ، - أُراه - عن جابرٍ رضي الله عنه، قال: جاء أبو حُميدٍ - رجلٌ من الأنصار - من النَّقيع بإناءٍ من لبنٍ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"ألا خمَّرتَهُ، ولو أن تَعرِضَ عليه عُودًا".
وحدَّثَنِي أبُو سُفيان، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا.
وأخرَجَه البُخارِيُّ (10/ 70) قال: حدَّثَنا قُتَيبَةُ ..
ومُسلمٌ (2011/ 95) قال: حدَّثَنا عُثمانُ بنُ أبي شَيبَةَ ..
قالا: ثنا جَريرٌ، عن الأعمَشِ، عن أبي سُفيانَ، وأبي صالحٍ، عن جابرٍ فذَكَرَه.
وقد أخَرج البُخارِيُّ (7/ 122 - 123)، ومُسلمٌ (2466/ 124) هذه التَّرجَمَة أيضًا، وساق حديثَ:"اهتزَّ العرشُ لموتِ سعد بن مُعاذٍ".
ولم يُخرِّج البُخارِيُّ غيرَ هذين الحديثَين. وأخرج البُخارِيُّ الحديثَين لأبي سُفيان مقرُونًا بأبي صالحٍ.
أمَّا مُسلمٌ، فأخرَج نحوًا من ثلاثين حديثًا بهذه التَّرجَمة. والله أعلم.
وقد علَّق الهَيثَمِيُّ على قول البَزَّار بقوله: "عجِبتُ من قوله: لم يَسمَع الأعمشُ من أبي سُفيان".
2 -
أبُو صالحٍ ذَكوَانُ، عنه.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ (7/ 122 - 123)، وابنُ البَطِرِ في "الفوائد المُنتقاة"(ق 221/ 2 - 222/ 1)، والدُّولابِيُّ في "الكُنَى"(2/ 114 - 115)، والحاكمُ (3/ 207) عن أبي عَوانَة ..
وابنُ حِبَّان (7031) عن أبي عُبيدَة بن مَعنٍ ..
وابنُ طَهمانَ في "سُننه"(140) عن الحَسَن بن عُمارَةَ ..
ثلاثتُهُم، عن الأعمَشِ، عن أبي صالحٍ، عن جابِرٍ مرفُوعًا:"اهتزَّ العرشُ لموتِ سعد بن مُعاذٍ".
زاد البُخارِيُّ: فقال رجلٌ لجابرٍ: فإنَّ البَراء يقولُ: اهتزَّ السَّرير؟ فقال: إنَّه كان بين هذين الحيَّين ضغائنُ، سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ:"اهتزَّ عرشُ الرَّحمن لموت سعد بن مُعاذٍ".
وَوَهِم الحاكمُ في استدراكه على البُخارِيِّ.
قال الحافظُ في "الفتح"(7/ 123 - 124):
"قولُهُ: "إنَّه كان بين هذين الحَيَّين ضغائنُ" أي: الأوس والخَزرَج.
قولُهُ: "ضغائن" بالضَّاد والغَين المُعجَمَتَين، جمعُ ضغينةٍ، وهو الحِقدُ. قال الخَطَّابِيُّ: إنَّما قال جابرٌ ذلك لأنَّ سعدًا كان من الأوس، والبَرَاءَ خَزرَجِيٌّ، والخَزرَجُ لا تُقِرُّ للأوس بفضلٍ. كذا قال! وهو خطأٌ فاحشٌ؛ فإنَّ البَراءَ أيضًا أوسِيٌّ؛ لأنَّه: ابنُ عازِب بن الحارثِ بن عَدِيِّ بن مجدعةَ
ابن حارِثَةَ بن الحارثِ بن الخَزرَجِ بن عَمرِو بن مالكِ بن الأوسِ، يجتَمع مع سعد بن مُعاذٍ في الحارث بن الخَزرَج، والخَزرَجُ والدُ الحارث بن الخَزرَج، وليس هو الخَزرَج الذي يُقابل الأوسَ، وإنَّما سُمِّي على اسمه. نعم! الذي من الخَزرَج الذين هم مُقابِلُو الأوس: جابرٌ. وإنَّما قال جابرٌ ذلك إظهارًا للحقِّ واعترافًا بالفضل لأهله، فكأنَّه تعجَّب من البَراء: كيف قال ذلك مع أنَّه أوسِيٌّ؟! ثُمَّ قال: أنا وإن كُنتُ خَزرَجِيًّا وكان بين الأوس والخَزرَج ما كان، لا يمنَعُنِي ذلك أن أقول الحقَّ. فذَكَر الحديث. والعُذر للبراء أنَّه لم يقصد تغطيةَ فضلِ سعدِ بن مُعاذٍ، وإنَّما فهم ذلك، فَجَزَم به. هذا الذي يليقُ أن يُظَنَّ به، وهو دالٌّ على عدم تعصُّبه.
ولمَّا جَزَم الخَطَّابِيُّ بما تقدَّم احتاج هو ومَن تَبِعَه إلى الاعتذارِ عمَّا صدَرَ من جابرٍ في حقِّ البَراء، وقالُوا في ذلك ما مُحَصِّلُهُ: إنَّ البَراء معذُورٌ لأنَّه لم يَقُل ذلك على سبيل العَداوة لسعدٍ، وإنَّما فهم شيئًا مُحتمَلًا فحَمَل الحديث عليه، والعُذرُ لجابِرٍ أنَّه ظنَّ أن البَراء أراد الغَضَّ من سعدٍ، فساغ له أن ينتصر له. والله أعلم.
وقد أنكَرَ ابنُ عُمر ما أنكَرَهُ البراءُ، فقال: إنَّ العرش لا يَهتَزُّ لأَحَدٍ. ثُمَّ رجع عن ذلك وَجَزَم بأنَّه اهتزَّ له عرشُ الرَّحمن. أخرَج ذلك ابنُ حِبَّانَ من طريق مُجاهِدٍ عنه.
والمُرادُ باهتزاز العَرش استبشارُهُ وسُرُورُه بقدوم رُوحِهِ. يُقال لكلِّ مَن فرح بقدُوم قادِمٍ عليه: اهتزَّ له. ومنه: اهتزَّت الأرضُ بالنَّبات إذا اخضرَّت وحسُنت. ووقع ذلك من حديث ابن عُمر عند الحاكم بلفظ:
"اهتزَّ العرشُ فَرَحًا به"، لكنَّه تأوَّله كما تأوَّله البراءُ بن عازِبٍ، فقال:"اهتزَّ العرشُ فرَحًا بلقاء الله سعدًا حتَّى تفسَّخت أعوادُه على عواتِقِنا" قال ابنُ عُمر: يعني عرشَ سعدٍ الذي حُمل عليه. وهذا من رواية عطاء بن السَّائب، عن مُجاهدٍ، عن ابن عُمر. وفي حديث عطاءٍ مَقالٌ؛ لأنَّه ممَّن اختَلَط في آخر عُمره. ويُعارِضُ روايَتَه أيضًا ما صحَّحه التِّرمِذِيُّ من حديث أنَسٍ، قال: لمَّا حُمِلَت جنازةُ سعدِ بن مُعاذٍ قال المُنافِقُون: ما أخفَّ جنازَتَه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الملائكة كانت تحمِلُهُ".
قال الحاكمُ: الأحاديثُ التي تُصرِّحُ باهتزاز عرش الرَّحمن مخُرَّجَةٌ في "الصَّحيحَين"، وليس لِمُعارِضِها في الصَّحيح ذِكرٌ. انتهَى.
وقيل: المُراد باهتزاز العَرش اهتزازُ حَمَلة العَرش. ويُؤيِّدُهُ حديثُ: "إنَّ جبريل قال: مَن هذا الميِّتُ الذي فُتِحَت له أبوابُ السَّماء واستَبشَر به أهلُها" أخرَجَه الحاكم.
وقيل: هي علامةٌ نَصَبَها الله لموت مَن يموتُ مِن أوليائِهِ؛ لِيُشعِرَ الملائكةَ بفضله.
وقال الحَربِيُّ: إذا عظَّمُوا الأمرَ نَسَبُوه إلى عظيمٍ، كما يقُولُون: قامَت لموتِ فُلان القيامةُ، وأظلمت الدُّنيا ونحو ذلك.
وفي هذه مَنقَبَةٌ عظيمةٌ لسعدٍ.
وأمَّا تأويل البَراء على أنَّه أراد بالعرش السَّريرَ الذي حَمَلَهُ عليه، فلا يَستَلزِمُ ذلك فضلًا له؛ لأنَّه يشركه في ذلك كلُّ ميِّتٍ، إلَّا أنَّه يُريدُ: اهتزَّ حَمَلةُ السَّرير فَرَحًا بقُدُومه على ربِّه" انتهَى كلامُ الحافظ.
3 -
أبو الزُّبَير، عنه.
أخرَجَه مُسلمٌ (2466/ 123) واللفظ له، والتِّرمِذِيُّ (3848)، وأحمدُ (3/ 296 - 295، 349)، وعبدُ الرَّزَّاق (6747)، وابنُ حِبَّان (ج/ رقم 6990)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5336، 5337، 5338)، وابنُ مندَهْ في "التَّوحيد"(817) من طُرقٍ عن أبي الزُّبَير، أنَّه سمع جابرَ بنَ عبدِ الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجِنازةُ سعدِ بن مُعاذٍ بين أيديهِم:"اهتزَّ لها عرشُ الرَّحمن".
قال التِّرمذيُّ: "حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
4 -
أبو سَلَمَة، عنه.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ (ج 6/ رقم 5339).
ولكن في سنده زكريَّا بنُ يحيَى الوَقَارُ، كذَّبَه صالحٌ جَزَرَةُ.
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "يَضَع الحديثَ". وضَعَّفه ابنُ يُونُسَ، وغيرُه.
5 -
معاذُ بنُ رِفاعَةَ، عنه.
أخرَجَهُ النَّسائيُّ في "الفضائل"(120)، وأحمدُ (327)، وفي "الفضائل"(1496)، والحاكمُ (3/ 206)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(821)، وأبو عليٍّ حامدُ بنُ مُحَمَّدٍ الهَرَوِيُّ في "الفوائد"(ق 400/ 1)، والخطيبُ في "المُدرَج" (ص:412 - 413) من طريق مُحمَّد بن عَمْرٍو، حدَّثَني يزيدُ بنُ عبد الله بن أُسامَة، ويحيَى بنُ سعيدٍ، عن مُعاذِ بن رفاعَةَ، عن جابرٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لسَعدٍ وهو يُدفَن: "إنَّ هَذَا العَبدَ الصَالِحَ تحرَّكَ له العَرشُ، وفُتِحَت له أَبوَابُ السَّماء".
ومن هذا الوجه أخرَجَهُ أحمدُ في "الفضائل"(1497)، والطَّبَرانيُّ (ج 6/ رقم 5340) عن مُحمَّدِ بن عَمرٍو، حدَّثَني يزيدُ بنُ عبدِ الله به. ولم يذكُر يحيَى بنَ سعيدٍ.
وسَندُهُ حَسَنٌ.
وتابَعَهُ اللَّيثُ بنُ سعدٍ، عن يزيدَ بن عبد الله به.
أخرَجَهُ الطَّحاوِيُّ (4173)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(825)، والبَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(4/ 29).
وتابعه عبدُ العزيزِ بنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، فرواه عن يزيدَ بن الهادِ بهذا.
أخرَجَهُ أبو القاسم البَغَوِيُّ في "حديث مُصعَبٍ بن الزُّبير"(ق 279/ 1).
وأخرَجَهُ مُحمَّدُ بنُ عثمانَ بن أبي شَيبةَ في "كتاب العَرش"(51) قال: حدَّثَنا عُقبَةُ بن مُكرِمٍ، نا يُونُس بن بُكَيرٍ، عن مُحمَّد بن إسحاقَ، عن مُعاذَ بن رفاعة الزُّرَقِيُّ، ثنا مَن شئتُ مِن رجاك قَومِي: أن جبرِيلَ أتَى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حين قُبِض سعدُ بنُ مُعاذٍ من جَوفِ اللَّيل مُعتَجِرًا بعِمامةٍ من إِستبرَقٍ، فقال: يا مُحمَّدُ! مَن هذا الميَتُ الذي فُتِحتْ له أبوابُ السَّماء واهتزَّ له العَرشُ؟ - قال: - فقام رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سرِيعًا يجرُّ ثوبَهُ إلى سعدٍ، فوَجَدَهُ قد مات.
• قلتُ: ومحُمَّد بن إسحاقَ مُدَلِّسٌ، ولم يُصرِّح بتحديثٍ.
ثمَّ رأيتُهُ صَرَّح بالتَّحديث، قال: حدَّثَنا مُعاذُ بن رِفاعَةَ، أخبَرَنا محمُودُ بن عبدِ الرَّحمن بن عَمرِو بن الجَمُوح، عن جابِرِ بن عبدِ الله، قال: لمَّا وُضِعَ سعدُ بنُ مُعاذٍ في حُفرَته، سَبَّح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسَبَّح النَّاسُ معه،
ثُمَّ كَبَّر وكَبَّر القومُ معه، قالوا: يا رسولَ الله! لم سَبَّحتَ؟ فقال: "هَذَا العَبدُ الصَالحُ! لَقَد تَضايقَ عليه قَبرُهُ "حتى فرَّجه الله عنه".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(4/ 29 - 30) من طريق أحمدَ بن عبد الجَبَّار، حدَّثَنا يُونُس - يعني ابنَ بُكَيرٍ -، عن ابن إسحاقَ به.
وهذا سَندٌ حَسَنٌ، لولا أنَّني لم أَقِف على ترجمةٍ لمحمُودِ بن عبدِ الرَّحمن.
ويغلُبُ على ظَنِّي أنَّه مُصحَّفٌ.
ثمَّ هذا مَتنٌ آخَرُ بخلاف ما رواه عُقبَةُ بن مُكرِمٍ، عن يُونُس.
ثُمَّ رأيتُهُ في "المُعجَم الكبير" للطَّبَرانِيِّ (ج 6/ رقم 5346) من طريق مُحمَّد بن سَلَمة، عن مُحمَّد بن إسحاقَ به.
وتبَيَّن أن "مَحمُودَ" مُصحَّفٌ عن "مُحَمَّدٍ"!! ومحُمَّد بن عبد الرَّحمن وثَّقَهُ أبُو زُرعَة - كما في "الجرح والتَّعديل"(3/ 2/ 316) -.
فالسَّنَد حَسَنٌ بغير ترَدُّدٍ، والحمدُ لله على تَوفِيقِه. ولكنَّ الشَّأنَ في اختلاف المَتن.
ثُمَّ وجدتُهُ يرويه عن عاصمِ بن عُمَر بن قَتَادَة، عن عبدِ الله بن كَعبِ بن مالكٍ
…
فذَكَرَهُ بأطولَ منه.
أخرَجَهُ الحاكمُ (3/ 205) عن سَلَمَة بن الفَضلِ، حدَّثَني مُحمَّدُ بن إسحاقَ، عن عاصمِ بن عُمَرَ به.
وسَنَدُهُ ضعيفٌ؛ لأنَّ عبدَ الله بنَ كَعبٍ لم يُدرِك سَعدًا. واللهُ أعلَمُ.
• ثانيًا: حديثُ أبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنه.
أخرَجَه النَّسَائِيُّ في "الفَضائل"(121)، وأحمدُ (3/ 23 - 24)، وفي
"فَضَائل الصَّحَابة"(1486)، وابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(12/ 142)، وابنُ سَعدٍ (3/ 434)، وعَبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(869)، ومحمَّدُ بن عبدِ الله الأنصَارِيِّ في "حديثه"(57)، وابنُ أبي عاصِمٍ في "الآحاد والمَثَانِي"(ق 211/ 1)، والقَطِيعِيُّ في "جُزء الألف دِينارٍ"(200)، والبَزَّارُ (ج 3/ رقم 2701 - كشف)، وتَمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(ق 3/ 2)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(4169)، وأبو يَعلَى (ج 2/ رقم 1265)، وابنُ المُقرِئِ في "المُعجَم"(ج 1/ ق 17/ 1)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5334)، والحاكمُ (3/ 206)، والخِلَعِيُّ في "الخِلَعِيَّات"(ج 5/ ق 23/ 2)، وأبو نُعَيمٍ في "أخبار أصبَهان"(2/ 274)، وفي "مَعرِفة الصَّحابة"(3110)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(825) من طُرُقٍ عن عَوفِ بن أبي جَمِيلةَ الأَعرَابِيِّ، عن أبي نَضرَةَ، عن أبي سعيدٍ مرفُوعًا:"اهتزَّ العَرشُ لمِوتِ سَعدِ بن مُعاذٍ".
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُهُ رُوِي عن أبي سعيدٍ إلَّا مِن هذا الوَجهِ، ولا رواه عن أبي نَضرَةَ إلَّا عَوفٌ".
كذا قال! وقد ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ في "العُلُوِّ" أن داودَ بنَ أبي هِندٍ رواه عن أبي نَضرَةَ. والحمدُ لله.
قال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط مُسلمٍ"، ووافقه الذَّهَبِي.
وقال الذَّهَبِيُّ في "العُلُوِّ"(ص: 71): "هذا حديثٌ صحيحٌ".
• ثالثًا: حديثُ أنس رضي الله عنه.
أخرَجَهُ مُسلمٌ (2467/ 125)، وأحمدُ (3/ 234)، والبَزَّارُ (ج 2/
ق 192)، وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(561)، والطَّبَرَانِيُّ (ج 6/ رقم 5342)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(822، 823، 824)، والبَيهَقِيُّ في "الأسماء"(2/ 140) من طريق سعيدِ بن أبي عَرُوبَةَ، عن قتادَةَ، حدَّثَنا أنَسٌ، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال وجنازَتُهُ موضُوعَةٌ - يعني سعدًا -:"اهتَزَّ لها عَرشُ الرَّحمن".
ورواه عن سعيدٍ: عبدُ الوَهَّاب بنُ عطاءٍ، ومُحمَّدُ بنُ سواءٍ.
ورأيتُهُ عند أبي عَوَانَة - كما في "إتحاف المَهَرة"(2/ 215) -، وابنِ حِبَّان (7032) من طريق مُحمَّد بن سواءٍ، عن شعبَة، عن قتادَةَ بهذا.
وأخشى أن يكُونَ "شعبةُ" تصحَّفَ إلى "سعيدٍ". واللهُ أعلَمُ.
وأخرَجَهُ أبو يَعلَى (ج 5/ رقم 2953)، والبَزَّارُ (ج 3/ رقم 2802)، والحكيمُ التِّرمِذِيُّ في "نوادر الأُصُول"(ج 1/ ق 16/ 1)، والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 4/ رقم 3488)، وأبو نُعَيمٍ في "معرفة الصَّحابَة"(ج 1/ ق 186) من طريق عبدِ الوَهَّاب بن عطاءٍ، أخبَرَنا سعيدٌ، عن قتادةَ، عن أنَسٍ، قال: افتَخَر الحيَّانِ "من الأَنصارِ الأوسُ والخَزرَجُ، فقالت الأوسُ: منا غسيلُ المَلائِكَةِ: حنظَلَةُ ابنُ الرَّاهب، ومِنَّا من اهتزَّ له عرشُ الرَّحمنِ: سعدُ بنُ مُعاذٍ، ومِنَّا من حَمَتهُ الدَّبْرُ: عاصمُ بنُ ثابتِ بن أبي الأَقلَح، ومِنَّا من أُجِيزَت شَهَأدَتُه بشهادة رَجُلَين خُزَيمَةُ بنُ ثَابتٍ. وقَالَت الخَزرَجِيونَ: مِنَّا أَربَعَةٌ جَمَعُوا القُرآن على عَهد رَسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمَعهُ غيرُهُم: زَيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو زَيدٍ، وأُبَيُّ بن كَعبٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ.
ورواهُ أبو المِقدامِ، عن قتادةَ، عن أنَسٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وجنازةُ سعدِ بن مُعاذٍ موضوعَةٌ: "اهتزَّ لها عرشُ الرَّحمنِ عز وجل".
أخرَجَهُ ابنُ قانعٍ في "جُزءٍ من حديثهِ"(ق 8/ 1) قال: حدَّثَنا الحسنُ بنُ عبدِ العَزيز، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عُقبَةَ السُّدُوسِيُّ، حدَّثنا سُليمانُ بنُ أبي سُليمانَ، عن أبي المِقدامِ بهذا.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وأبو المِقدَامِ اسمُهُ: هِشامُ بنُ زيادٍ، وهو مترُوكٌ.
ورواهُ الحسَنُ البَصرِيُّ، عن أنَسٍ به.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ (ج 6/ رقم 5343)، والبَزَّارُ (ج 2/ ق 66/ 1) من طريق عُمَرَ بن سَهلٍ، ثنا مُبارَكُ بن فَضَالةَ، عن الحَسَن بهذا.
قال البَزَّار: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمُ رواه عن مُبارَكٍ، عن الحَسَن، عن أنَسٍ إلَّا عُمَرُ بنُ سَهلٍ. وعُمَرُ بنُ سهلٍ بَصرِيٌّ لا بأس به، انتَقَل من البَصرَة إلى مَكَّة إلى أن مات بها. وهو حديثٌ غرِيبٌ".
وعُمَرُ بنُ سَهلٍ فيه ضعفٌ. ومُبَارَكٌ كثيرُ التَّدليس. ثُمَّ عَنَعنَةُ الحسَنُ.
• رابعًا: حديثُ حُذَيفةَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(12/ رقم 12367، و 14/ رقم 18652)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 434 - 435)، قالا: ثنا عُبيدُ الله بنُ مُوسَى، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن رَجُلٍ حدَّثَه، عن حُذَيفَة مرفُوعًا:"اهتَزَّ العَرشُ لِرُوحِ سعدِ بن مُعَاذٍ".
ورجالُهُ ثقاتٌ، حاشا الرَّجُل الذي لم يُسَمَّ.
• خامسًا: حديثُ أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أحمدُ (4/ 352)، وإسحاق بن رَاهَوَيه في "مُسنَده"(ج 4/ ق 204/ 2 - 205/ 1)، وابنُ أبي شيبة في "المُصنَّفِ"(12/ 142، و 14/ 415)، وفي "المُسنَد"(928)، وابنُ أبي عاصِمٍ في "الآحاد والمَثانِي"(ق 210/ 2)، وابنُ سَعدٍ (3/ 434)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4172)، والحكيمُ في "نوادر الأُصُول"(ج 1/ ق 15/ 2)، وابنُ حِبَّان (ج 9/ رقم 6991) بدُون القِصَّة، والطَّبَرَانِيُّ (ج 1/ رقم 553 - 554، ج 6/ رقم 5332)، والحاكمُ (3/ 289)، وأوبو نُعَيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(ق 63/ 2 - 64/ 1)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(826)، والضِّياءُ في "المُختارَة"(1469) من طريق مُحمَّد بن عَمْرٍو، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عائشةَ، قالت: قَدِمنَا من حَجٍّ أو عُمرَةٍ فتُلُقِّينَا بذي الحُلَيفة، وكان غِلمَانُ الأنصار يتلقَّونَ أهليهم، فلَقَوْا أُسَيدَ بنَ حُضَيرٍ، فنَعَوْا له امرَأَتَهُ، فتقَنَّعَ وجَعَل يبكي. فقُلتُ: غَفَرَ اللهُ لك! أنتَ صاحبُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولك من السَّابِقَة والقِدَم مَا لَكَ، وأنتَ تَبكِي على امرأةٍ؟! - قالت: - فكَشَفَ رأسَهُ وقال: صدقتِ! لعَمرِي! ليَحِقَّنَّ أن لا أَبكِي على أحدٍ بعد سَعدِ بن مُعاذٍ، وقد قال له رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عنهُ ما قال. - قالت: - قلتُ: وما قال له رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "اهتَزَّ العَرشُ لوَفَاةِ سَعدِ بن مُعَاذٍ"، - قالت: - وهو يَسِيرُ بيني وبين رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
واللَّفظُ لابن سعدٍ.
وقال الحاكمُ: "على شرط مُسلِمٍ" كذا قال!
وفي لفظٍ: "إنَّ العَرشَ اهتَزَت أَعوادُهُ لمَوتِ سعدٍ".
وفي رواية حمَّادِ بن سَلَمةَ، عن مُحمَّد بن عَمرٍو، قالت عائشةُ:"ولمَّا مات سعدٌ بَكَى أبُو بكرٍ وعُمَرُ، حتى عرفتُ بُكاءَ أبي بَكرٍ من بُكاءِ عُمَر، وبُكاءَ عُمَرَ من أبي بَكرٍ".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(9/ 309): "أسانيدُهَا كلُّها حَسَنةٌ"، وهو كما قال. وحسَّنَ إسنادَهُ الذَّهَبِيُّ في "العُلُوِّ" (ص: 71).
• سادسًا: حديثُ ابن عُمرَ رضي الله عنهما.
وقد مرَّ الكلامُ عن بعض طرقِه في أوَّل البحث.
وله طريقٌ آخَرُ عنه ..
أخرَجَهُ النَّسائِيُّ (4/ 100 - 101)، والحكيمُ التِّرمِذِيُّ في "نوادر الأُصُول"(ج 1/ ق 15/ 2)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(10/ 364)، والبَزَّارُ (ج 2/ ق 13/ 2)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسَط"(1707)، وفي "الكبير"(ج 6/ رقم 5333)، وأبو الشَّيخ في "الطَّبَقات"(777)، وأبو نُعَيمٍ في "معرفة الصَّحَابة"(3111) من طريق ابن إِدرِيسَ، عن عُبَيدِ الله بن عُمرَ، عن نافِعٍ، عن ابن عُمرَ مرفُوعًا:"هذا الذي تحرَّك له العرشُ، وفُتِحَت له أبوابُ السَّماء، وشَهِدَهُ سبعُونَ ألفَ مَلَكٍ من الملائكة، لقد ضُمَّ ضَمَّةً، ثُمَّ فُرِّجَ عنه".
قال البَوارُ: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمَهُ يُروَى بهذا اللَّفظ إلَّا عن ابن إدريس، عن عُبَيدِ الله".
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عُبَيدِ الله إلَّا ابنُ إدريسَ".
كذا قالَ! وقد تابَعَه داوُدُ بنُ عبدِ الرَّحمن العَطَّارُ، ثنا عُبيدُ الله بنُ عُمَر، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"لَقَد هَبَطَ يومَ مات سَعدُ بنُ مُعَاذٍ سَبعُونَ ألفَ مَلَكٍ إلى الأرضِ لَم يهبطوا قبل ذلك، ولَقَد ضَمَّةُ القَبرُ ضَمَّةً"، ثمَّ بكى نافعٌ.
أخرَجَهُ البَزَّارُ (ج 2/ ق 14/ 1 - 2)، وقال:"وهذا الحديثُ لا نَعلَمُ رواهُ عن عُبَيدِ الله، عن ابن عُمَر، إلَّا داوُدُ العَطَّارُ. ورواهُ غيرُهُ عن عُبيدِ الله، عن نافعٍ مُرسَلًا" كذا قال! وقد تعقَّبتُ البزَّارَ والطَّبَرانيَّ في هذا.
وانظُر "تنبيه الهاجِد"(950).
ثُمَّ رواهُ البزَّارُ من طريق سُكَينِ بن عبدِ الله بن عبدِ الرَّحمنِ بن زَيدِ بن الخَطَّاب، عن نافعٍ به.
• سابعًا: حديثُ مُعَيقِيبَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5341) من طريق عَمْرِو بن مَالِكٍ العَنبَرِيِّ، ثنا الوليدُ بن مُسلِمٍ، ثنا الأَوزَاعِيُّ، عن يحيَى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سَلَمَة، عن مُعَيقِيبَ مرفُوعًا، فذَكَرهُ.
ورَوَى الخطيبُ في "تاريخه"(9/ 49) بسَنَدِه عن عبدِ الله بن عليِّ بن المَدِينِيِّ، قال:"قلتُ لأبي: حديثٌ رواهُ الوليدُ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيَى، عن أبي سَلَمَة [فذكَرَهُ]. فقال: هذا الحديثُ كَذِبٌ موضُوعٌ".
• قلتُ: وَيظهَرُ لي أنَّ عليَّ بنَ المَدِينِيَّ حَكَمَ بوَضعِ الحديثِ لأنَّ الرَّاوي عن الوَليدِ بن مُسلِمٍ هو سُليمانُ بنُ أحمدَ بن مُحَمَّدٍ الجُرَشِيُّ، وقد
كذَّبَهُ يحيَى، وقال صالحُ بنُ مُحَمَّدٍ:"كان يُتَّهَمُ في الحديث" وكذَّبَهُ، وضَّعَفَهُ النَّسائيُّ، واتَّهمَهُ ابنُ عَدِيٍّ بسرقة الحديث.
لكن تابَعَهُ عَمرُو بنُ مالكٍ العَنبَرِيُّ، كما تقدَّم. وقد ضعَّفَهُ أبو حاتِمٍ وأبو زُرعَة وغيرُهما.
ولعلَّ العِلَّة هي الوليد بن مُسلِمٍ؛ فقد كان يُدَلِّسُ، ولم يُصرِّح في كُلِّ طبقات السَّنَد.
لكنَّه تُوبِع ..
فأخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 20/ رقم 829) من طريق يحيَى بن يَعلَى، عن أبيه، عن غَيلَانَ بن جَريرٍ، عن أبي عبدِ الله، عن يحيَى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن مُعَيقيبَ، مرفُوعًا به.
• قلتُ: وقولُه: "غَيلانُ بنُ جَريرٍ، عن أبي عبدِ الله" أظنُّهُ خطأً، وصوابُهُ فيما أرى:"عن غيلانَ بن جرير أبي عبدِ الله"، وهي كُنيةُ غَيلانَ. ولم أَرَ يحيَى بنَ أبي كثيرٍ في شُيوخ غَيلانَ، وليس بشرطٍ؛ لأنَّ الذي فات المِزِّيَّ كثيرٌ. وغيلانُ قد رَوَى عمَّن هو أعلى طبَقَةً من يحيَى بن أبي كثيرٍ.
فلو صَحَّ ما حرَّرتُهُ هنا لكانت مُتابَعَةً جيِّدةً لرواية الوَلِيد، ولكنِّي لم أَقِف على تَصريحِ يحيَى بن أبي كثيرٍ بالسَّمَاع. فاللهُ أعلمُ.
• ثامنًا: حديثُ أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أحمدُ في "المُسنَد"(6/ 456)، وفي "الفَضائل"(1500)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 434)، وابنُ أبي شَيبَةَ في "المُصنَّف" (12/
143 -
144، و 14/ 19، 415)، وابنُ خُزيمَةَ في "التَّوحيد"(237)، وابنُ أبي عاصِمٍ في "السُّنَّة"(559)، والدَّارِمِيُّ في "الرَّدِّ على المِرِيسِيِّ" (ص: 180 - 181)، ومُحمَّدُ بنُ عُثمانَ بن أبي شَيبَة في "كتاب العرش"(50)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4170)، والحاكمُ (3/ 206)، والطَّبرَانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5344، وج 24/ 467) من طريق إسماعيلَ بن أبي خالدٍ، عن إسحاقَ بن راشدٍ، عن امرأةٍ من الأنصارِ يُقالُ لها: أسماءُ بنتُ يزيدَ بن السَّكَنِ، قالت: لمَّا تُوفِّيَ سعدُ بنُ مُعاذٍ صاحت أمُّهُ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَلا يَرقَأُ دَمعُكِ، ويَذهَبُ حُزنُك بأنَّ ابنَكِ أوَّلُ من ضَحَكَ اللهُ لهُ، واهتَزَّ لهُ العَرشُ؟ ".
قال ابنُ خُزَيمَة: "لستُ أَعرِفُ إسحاقَ بنَ راشدٍ هذا، ولا أظُنُّهُ الجزَرِيَّ، أخو النُّعمانَ بن راشدٍ".
وقال شيخُنا الألبانيُّ في "ظِلال الجَنَّة": "إسنادُهُ ضعيفٌ. رجالُهُ كلُّهم ثقاتٌ غيرُ إسحاقَ بن راشدٍ، فإنَّهُ مجهولٌ، لا يُعرَف، وهو غيرُ الجَزَرِيِّ؛ فإنَّهُ أقدَمُ طَبقَةً منه".
وقال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد"، ووافَقَهُ الذَّهبيُّ!! وليس كما قالا؛ لما تقدَّم.
والمُدهِشُ أن الذَّهَبيَّ صحَّحَ الإسنادَ هنا، في حين أنَّهُ قال في "السِّيَر"(1/ 294)، وفي "العُلُوِّ" (ص: 70): "هذا مُرسَلٌ".
والذي حمَلَ الذَّهَبيَّ على الحُكمِ بالإرسال أن "أسماء" التي وَقَعَت في السَّنَد عندَهُ هي: "أسماءُ بنتُ قَيسٍ"، ولذلك قال في "العُلُوِّ": "أسماءُ
تابِعِيَّةٌ. وهذا مُرسَلٌ".
والحقُّ أن أسماءَ هي بنتُ يزيدَ بن السَّكَن، وهي صحابيَّةٌ معرُوفَةٌ.
وقد جعَلَ أحمدُ والطَّبرَانِيُّ وغيرُهما الحديثَ في مُسنَد "أسماءَ بنت يزيدَ".
واللهُ تعالى أعلَمُ.
• تاسعًا: حديثُ رُمَيثَةَ رضي الله عنها.
أخرَجَهُ أحمدُ (6/ 329)، والتِّرمذِيُّ في "الشَّمائل"(17)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحَاد والمَثانِي"(ق 374/ 2)، والبُخارِيُّ في "التَّاريخ"(1/ 173)، وابنُ الأثير في "أُسد الغَابَة"(5/ 459)، وابنُ سَعدٍ (3/ 430)، والطَّبَرانيُّ في "الكَبير"(ج 24/ رقم 703)، وقي "الأوسَط"(ج 2/ ق 64/ 1)، والطَّحَاوِيُّ في "المشكل"(4175)، وابنُ مَندَهْ في "التَّوحيد"(827) من طريق يُوسُف بن المَاجِشُّون، عن أبيه، عن عاصمِ بن عُمَر بن قَتادَةَ، عن جَدَّتِه رُمَيثَةَ، قالت: سمعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ولو أشاءُ أن أُقبِّلَ الخاتَمَ الذي بين كَتِفَيه لقُربِى مِنهُ لفعلتُ - وهو يقُولُ لسعدِ بن مُعاذٍ يومَ ماتَ: "اهتزَّ عرشُ الرَّحمن".
قال الطَّبَرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن رُمَيثَةَ إلَّا بهذا الإسناد.
تفرَّد به: يُوسُفُ المَاجِشُّونَ".
قال شيخُنا الألبانيُّ في "ظِلال الجَنَّة"(1/ 248): "فيه يُوسُف بنُ المَاجِشُّونَ، عن أبيه. ولم أَعرِفهُما".
• قلتُ: ما زلتُ أتعَجَّبُ من هذا الوَهمِ، وكيفَ وقَع للشَّيخ - حفظه الله -؟! فإنَّ يُوسُفَ ابن المَاجِشُّونَ هو يُوسُف بنُ يعقُوبَ بن أبي سَلَمَة المَاجِشُّونُ،
وهُو من رجال الشَّيخَين. وأبُوهُ يعقُوبُ بنُ أبي سلَمة مِن رجال مُسلِمٍ، وروايَتُهُ عن عاصمِ بن عُمَر بن قتادَةَ ثابتةٌ في "التَّهذيب".
وقال الذَّهَبيُّ في "السِّيَر"(1/ 293): "إسنادُهُ صالحٌ"!! وكذا قال في "العُلُوِّ"(ص: 71) وزاد: "صحَّحَهُ ابنُ مندَهْ".
ولعلَّ الذي دَفَعَ الشَّيخَ إلى عدم التَّفتيش هو قَولُ الذَّهبِيِّ الذي يُشعِر أن في بعضِ رِجالِ السَّنَد جهالةً أو ضعفًا.
وعلى كُلِّ حالٍ، فالسَّندُ حَسَنٌ. واللهُ أعلَمُ.
• عاشرًا: حديثُ سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(2/ 2/ 291) مُعلَّقًا، ووصَلَهُ البَزَّارُ في "مُسنَده" (30 - مُسنَد سعدٍ) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ مَعمَرٍ، قال: نا يعقُوبُ بنُ مُحَمَّدٍ، قال: نا صالحُ بنُ محمَّدُ بن صالحٍ، قال: نا أبي، عن سعدِ بن إبراهيمَ، عن عامرِ بن سعدٍ، عن أبيه، قال: لمَّا مرَّت جنازةُ سعدِ بن مُعاذٍ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لقد اهتَزَّ له العَرشُ".
هكذا رواهُ البَزَّارُ مختَصَرًا.
وأخرَجَهُ الطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4174) قال: حدَّثَنا أبُو أُميَّةَ، قال: حدَّثنا يعقُوبُ بنُ مُحمَّدِ بن عيسَى الزُّهرِيُّ، قال: حدَّثَنا صالحُ بن مُحمَّد بن صالحٍ التَّمَّارُ، ومَعنُ بنُ عيسى، وعبدُ العزيز بنُ عِمرانَ، عن مُحمَّد بن صالحٍ، عن سَعدِ بن إبراهيمَ، عن عَامِرِ بن سعدٍ، عن أبيهِ، أن عُمرَ قال لأمِّ سعدِ بن معاذٍ وهي تبكي عليه: اُنظُرِي ما تقُولينَ يا أمَّ سعدٍ! فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دعها يا عُمَرُ! كُلُّ نائِحةٍ مُكذَّبَةٌ إلَّا أُمَّ سَعدٍ، ما
قالت مِن خَيرٍ فَلَن تَكذِبَ" ثُمَّ احتُمِلَ، فَوُضعَ في قبرِه، فتَغيَّرَ لونُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال المُسلِمُونَ: يا رسُولَ الله! إن كِدتَ لتَقطَعُنا - يعنونَ: في السُّرعةِ -! قال: "خَشِيتُ أن تَسبِقَنا الملائكةُ إلى غَسلِه كما سَبَقَتنَا إلى غَسلِ حَنظَلةَ بن أبي عامرٍ"، قالوا: يا رسُول الله! رأينَا لَونَكَ قد تغيَّر حينَ قَعَدتَ على القَبرِ. قال: "ضُّمَّ سَعدٌ في القَبر ضَمَّةً، ولو أُعفِيَ منها أَحَدٌ، أُعفيَ منها سَعدٌ"، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "نَزَلَ الأرضَ سَبعُونَ ألفَ مَلَكٍ لِشُهودِ سعدٍ، ما نَزَلُوها قطُّ، واستَبشَرَ به جميعُ أهلِ السَّماء، واهتزَّ له العَرشُ".
قال صالحٌ - يعني ابنَ مُحَمَّدٍ -، قال أبي: قال رجُلٌ لسعدِ بن إبراهيم: إنَّ العَرشَ تدعُوهُ العربُ السَّريرَ، وإنَّما يعنِي سَريرَ سَعدِ بن مُعاذٍ. قال سعدٌ: ما بَلَغَ سريرُ سَعدِ بن مُعاذٍ أن يَذكُرَهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأخرَجَهُ ابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 429) قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ عُمرَ، قال: حدَّثَني مُحمَّدُ بن صالحٍ بهذا الإسناد، وفيه: قال: فانتَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمُّ سعدٍ تَبكِي، وهي تقُولُ:
ويلُ أمِّ سَعدٍ سَعدَا
جَلَادَةً وجِدَّا
فقال عُمرُ:
…
والباقي نحوَه إلى قوله: "
…
فلن تكذبَ".
وشيخُ ابن سَعدٍ هو الوَاقِدِيُّ، وهو مترُوكٌ. لكنَّه مُتَابَعٌ كما رأيتَ.
قال البزَّارُ: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمُه يُروَى عن سعدٍ إلَّا مِن هذا الوجهِ بهذا الإسناد".
(1)
وسعدُ بن إبراهيم يعترضُ هنا على تفسير "العرش" هنا بـ"النَّعش".
وأخرَجَهُ الدَّارَقُطنيُّ في "الأَفراد"(ق 55/ 2) وقال: "تفرَّد به مُحمَّد بنُ صالحٍ، عن سعدِ بن إبراهيمَ، عن عامرٍ".
وقال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(9/ 309): "رواهُ البَزَّارُ. وفيه يعقُوبُ بنُ مُحَمَّدٍ الزُّهرِيُّ، وقد ضعَّفَهُ الجُمهُور، ووُثِّق على ضعفِهِ. وصالحُ بنُ مُحمَّد بن صالحٍ التَّمَّارُ لم أَعرِفهُ. وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ".
• قلتُ: أمَّا صالحُ بنُ مُحَمَّدٍ فقد ترجَمَهُ البُخاريُّ في "الكبير"(2/ 2/ 29)، ولم يَذكُر فيه جَرحًا ولا تعديلًا، ولكنَّهُ أشارَ إلى هذه الرِّواية، وأعلَّها بالمُخالَفة. فيَظهَرُ أن الهَيثميَّ رحمه الله لم يُفَتِّش في "تاريخ البُخارِيِّ".
ولحديثِ مُحمَّد بن صالحٍ الفائتِ شاهدٌ مِن حديثِ محمُودِ بن لَبِيدٍ، قال: لمَّا أُصِيب أَكحَلُ سعدٍ يومَ الخَندَقِ فثَقُلَ، حوَّلُوهُ عندَ امرأةٍ يُقالُ لها رُفَيدَةُ، وكانت تُداوِي الجَرحَى، فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا مرَّ به يقولُ:"كيفَ أَمسَيتَ؟ "، وإذا أَصبَحَ قال:"كيفَ أصبَحتَ" فيُخبِرُهُ، حتَّى كانت اللَّيلةُ التي نقلَهُ قَومُهُ فيها، فثَقُل، فاحتَمَلُوه إلى بني عبدِ الأَشهَل إلى منازِلهِم، وجاء رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كما كان يَسأل عَنهُ، وقالُوا: قد انطَلَقُوا به. فخَرَج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وخَرَجنَا مَعَهُ، فأَسرَعَ المَشيَ حتَّى تَقَطَّعَت شُسُوعُ نِعَالِنا، وسَقَطَت أَردِيَتُنا عن أَعنَاقِنا، فشَكَا ذلك إليه أصحابُهُ: يا رسُولَ الله! أَتعَبتَنَا في المَشي! فقال: "إنِّي أخافُ أَن تَسبِقَنا الملائِكَة إليه، فتغَسِّلَهَ كما غَسَّلَت حَنظَلَةَ"، فانتهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى البَيتِ وهو يُغَسَّل، وأُمُّهُ تبكيه وهي تقُولُ:
ويلُ أمِّ سعدٍ سعدَا
حَزَامَةً وَجِدَّا
فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ نائحةٍ تَكذِبُ إلَّا أمَّ سَعدٍ"، ثُمَّ خَرَج به، - قال: - يقول له القومُ أو مَن شاء اللهُ منهم: يا رسُولَ الله! ما حَمَلْنَا ميِّتًا أخفَّ علينا مِن سَعدٍ! فقال: "ما يَمنَعُكُم مِن أن يَخِفَّ عَلَيكُم وَقَد هَبَطَ مِنَ الملائكَةِ كَذَا وَكَذَا - قَد سَمَّى عِدَّة كثيرةً لَم أَحفَظهَا - لم يَهبِطُوا قطُّ قبلَ يومِهِم، قد حملوهُ معكُم".
أخرَجَهُ ابنُ سَعدٍ (3/ 427) قال: أخبَرَنا الفضلُ بنُ دُكينٍ، قال: أخبَرَنا عبدُ الرَّحمن بنُ سليمانَ بن الغَسِيل، عن عاصمِ بن عُمرَ بن قتادةَ، عن مَحمُودِ بن لَبيدٍ بهذا.
وأخرَجهُ البُخارِيُّ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 1/ 402) قال: قال لنا أبو نُعَيمٍ - وهو الفَضلُ بنُ دُكَينٍ - بهذا الإسناد مختصَرًا جدًّا.
وهذا إسنادٌ جيِّدٌ. ومحمُودُ بنُ لَبيدٍ اختلَفَ أهلُ العِلمِ في صُحبَتهِ، فذهبَ أكثرُهُم إلى أنَّه صحابيٌّ، كأحمدَ والبُخارِيِّ والتِّرمِذِيِّ وغيرِهِم، وعارَضَ في ذلكَ أبو حاتِمٍ ومُسلِمٌ.
قال ابنُ عبد البَرِّ في "الاستيعاب"(3/ 435): "قولُ البُخارِيِّ أولَى، وقد ذَكَرنَا من الأحاديثِ ما يَشهدُ لهُ، وهُو أولى بأن يُذكَرَ في الصَّحابةِ من محمُودِ بن الرَّبيع؛ فإنَّه أَسَنُّ منهُ. وذَكَره مُسلم في الطَّبقةِ الثَّانية منهم فلم يَصنَع شيئًا، ولا عَلِمَ مِنهُ ما عَلِمَ غيرُهُ. وكان محمُودُ بن لَبيدٍ أحدَ العُلماء".
وقال الحافظُ في "التَّهذيب": "على مُقتَضَى قولِ الوَاقِدِيِّ في سِنِّهِ
يكونُ له يومَ ماتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشرَةَ سَنَةً، وهذا يُقَوِّي قولَ من أثبَتَ الصُّحبَةَ".
ومن الغَرائبِ أن يقُولَ البَزَّارُ (384 - البحر الزَّخَّار): "لا نَعلَمُ سمِعَ محمُودُ بنُ لَبيدٍ من عُثمانَ، وإن كان قدِيمًا" كذا قال!
وأخرَجَهُ العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 425) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ زكريَّا، حدَّثَنا شيبانُ - يعني ابنَ فَرُّوخٍ -، حدَّثَنا يحيَى بنُ كثيرٍ أبو النَّضر، أخبَرَنِي يحيَي بنُ أبي كَثيرٍ، عن أبي حَمزَة، عن إبراهيمَ، عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"اهتزَّ العَرشُ لموتِ سَعدِ بن مُعَاذٍ، حتَّى تَخَلَّعَت أَعوَادُهُ". قال سعدٌ: وذاك أوَّلُ ما سَمِعنَا أن للعَرشِ أعوادًا.
• قلتُ: وفي إسنادِهِ يحيَى بنُ كَثيرٍ، وهو مُنكَرُ الحديث.
* حادي عَشَر: حديثُ مُجَمِّعِ بن جَارِيَةَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أبو الحَسَن الحَمَّامِيُّ في "الأربَعينَ من الفوائد"(ق 168/ 2 - تخريجُ ابن أبي الفَوَارِس) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ كامِلٍ القاضِي، قال: حدَّثَنا أبو قِلابةَ عبدُ المَلِكِ بنُ مُحَمَّدٍ، قال: حدَّثَنا عُمرُ بنُ أيُّوبَ الغِفارِيُّ، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ - بنُ مَعْنٍ الغِفَاريُّ، قال: حدَّثني مُجَمِّعُ بنُ يعقُوبَ، عن أبيه، عن عبدِ الرَّحمنِ بن يزيدَ، عن عَمِّه مُجَمِّعِ بن جَارِيةَ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ ماتَ سعدُ بنُ مُعاذٍ: "اهتزَّ لهُ عَرشُ الرَّحمَن. - قال: - وَنَزَلَت سَبعُونَ ألفًا من الملاِئكَةِ. - قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم -: كما وَجَدتُ مَقعَدًا في البَقيعِ حتَّى قبَضَ جِبرِيلُ جَنَاحَهُ، فَأَقعَدَنِي".
قال ابنُ أبي الفَوارِس: "غريبٌ من حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بن يزيدَ بن جَارِيَةَ، عن عمِّه مُجَمِّعٍ. لا أعلَمُ حدَّثَ به إلَّا مُجمِّعُ بنُ يعقُوبَ عن أبيه".
• قلتُ: وهذا حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا بهذا السِّياقِ؛ وعُمرُ بن أيُّوبَ الغِفاريُّ أحدُ الهَلكَى، كان ممَّن يَضَعُ الحديثَ، كما قال الدَّارَقُطنيُّ والحاكمُ وغيرُهما.
• ثاني عشر: حديثُ أبي هُريرَة رضي الله عنه.
أخرَجَهُ العُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 425) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن زكريَّا، حدَّثَنا شَيبانُ - يعني ابنَ فَرُّوخٍ -، حدَّثَنا يحيَي بنُ كَثيرٍ أبو النَّضرِ، عن مُحمَّدِ بن عَمرٍو، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"اهتزَّ العَرشُ لموتِ سَعدِ بن مُعَاذٍ".
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ؛ وعلَّتُهُ أبو النَّضر. وقد مرَّ ذِكرُ حالِهِ قريبًا.
وهناك مراسِيلُ أيضًا في الباب:
كمُرسَل الحَسَنِ عند: سعيد بن مَنصُورٍ (2962)، والحَكِيمِ التِّرمِذِيِّ في "نوادر الأُصول"(ج 1/ ق 16/ 1)، وأبو الشَّيخ في "الطَّبَقات"(2/ 313)، وابنُ سعدٍ (3/ 434) ..
ومُرسَلِ يزيدَ بن الأَصَمِّ عند: ابن سعدٍ (3/ 435) ..
ومُرسَلِ أُميَّةَ بن عبدِ الله عند: مُحمَّدِ بن عُثمانَ بن أبي شيبَة في "العرش"(52).
وبالجُملَة فالحديثُ، كما قال الذَّهَبِيُّ في "العُلُوِّ":"فهذا مُتواتِرٌ أَشهَدُ بأنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَهُ" ا. هـ.
• قلتُ: وأنا أَشهَدُ بذلك أيضًا ..
ورَضِي اللهُ عن سعدٍ.
18 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن كَتَمَ عِلمًا مِمَّا يَنفَعُ اللهُ بِهِ فِي أَمرِ النَّاسِ، أَمرِ الدِّينِ، أَلجَمَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ".
• قُلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ، دُون قوله:"ممَّا ينفَع الله به في أمر النَّاس، أمرِ الدِّين".
أخرجه ابنُ ماجهْ (265)، وأبُو نُعيمٍ في "المُستخرَج"(ج 1/ ق 2/ 2 - 3/ 1)، من طريق عبد الله بن عاصمٍ، ثنا مُحمَّد بن دابٍ، عن صفوان بن سلَيمٍ، عن عبد الرَّحمن بن أبِي سعيدٍ الخُدريِّ، عن أبيه، مرفوعًا، فذكره.
وهذا سندٌ ساقطٌ؛ ومُحمَّد بن دابٍ كذَّبه ابن حِبَّانَ، وخلفٌ الأحمرُ، وقال:"يَضَعُ الحديث"، وبه أعلَّه أبُو زُرعةَ الرَّازيُّ، كما في "علل الحديث"(2818) لابن أبِي حاتم.
ثُمَّ اعلَم! أن الحديث ثابتٌ بلفظ: "مَن كتَم علمًا أَلجمه الله بلجامٍ مِن نارٍ"، رواه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من الصَّحابة، وأَمثَلُهَا حديثُ أبِي هُريرة، وحديثُ عبد الله بن عمرٍو، رضي الله عنهم. وقد ذَكَرتُ أحاديثَهم كلَّها مع تخريجِهَا في "سدِّ الحاجة بتقريب سُنَن ابن ماجَهْ"، وسيُطبَع الجزءُ الأوَّل قريبًا، إن شاء الله تعالى.
19 -
سُئلتُ عن حديث: قِيلَ: "يَا رَسُولَ الله! مَتَى نَترُكُ الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ؟ "، قَالَ:"إِذَا ظَهَرَ فِيكُم مَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبلَكُم"، قلنَا:"يَا رَسُولَ الله! وَمَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبلَنَا؟ "، قَالَ:"المُلكُ فِي صِغَارِكُم، وَالفَاحِشَةَ فِي كِبَارِكُم، وَالعِلمَ فِي رَذَالَتِكُم".
وقد قرأ لبعض طلبة العلم أن أبا حاتمٍ الرَّازيَّ أعلَّ هذا الحديثَ، ولكنَّه إِعلالٌ مردودٌ. وخُلاصةُ بحثه أن مكحولًا، وهو أحدُ رواة الحديث، رواه على وجهين، وهذا لا يضرُّ.
• قُلتُ: هذا حديثٌ حسَنٌ.
أخرجه الطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4/ 314)، والطَّبرانيُّ في "مُسنَد الشَّاميِّين"(1547)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(5/ 185)، وابن عساكرَ في "تاريخ دمشق"(ج 4/ ل 184)، من طريق الهيثم بن حُميدٍ، عن حفص بن غَيلانَ، عن مكحولٍ، عن أنسٍ، فذكره.
قال أبُو نُعيمٍ: "غريبٌ من حديث مكحولٍ، لم نَكتُبه إلَّا مِن هذا الوجه".
• قُلتُ: رواه عن الهيثم بن حُميدٍ اثنان من أصحابه: الحكمُ بن مُوسى، ومُحمَّدُ بنُ عائذٍ.
وتابعهما زيدُ بن يحيى بن عبيدٍ الخُزاعيُّ، فرواه عن الهَيثم، عن حفصٍ، عن مكحولٍ، عن أنسٍ به.
أخرجه ابنُ ماجَهْ (4015) قال: حدَّثنا العبَّاسُ بن الوليدِ الدِّمشقيُّ، ثنا زَيد بن يحيى، فذكره.
وقد خُولِف العباس ..
خالفهُ أحمدُ بن حَنْبلٍ، فأخرجه في "مُسنَده"(3/ 187)، ومن طريقه ابنُ عساكرَ في "تاريخ دمشق" (ج 6/ ل 684) قال: حدَّثنا زَيد بن يحيى، قال: نا أبُو سعيدٍ، نا مكحولٌ، عن أنسٍ، فذكره.
وأبو سعيدٍ هذا هو الشَّاميُّ، صاحبُ مكحولٍ. وقد رَوَى عن مكحولٍ، عن وَاثِلة بن الأسقع حديثين - وهما عند ابن ماجَهْ (750، 1525) -.
وهو مجهولٌ، كذا قال الدَّارقُطنيُّ في "السُّنن"(2/ 57)، والذَّهبيُّ، والعَسْقلانيُّ.
وقد اختُلِف في إسناده على وجهٍ آخرَ ..
فرواه ابن أبِي حاتمٍ في "العلل"(ج 2/ رقم 2745)، عن أبيه، قال: حدَّثني العبَّاسُ بن الوليد، قال: حدَّثنِي أبِي، قال: حدَّثنا أبُو مُطيعٍ مُعاويةُ بن يحيى، عن زَيد بن واقدٍ، عن مكحولٍ، عن كَثِير بن مُرَّة، عن رجُلٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث.
قال أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ: "فكان هذا أشبَهَ من ذاك".
وهذا الاختلافُ لا يَضُرُّ بصحَّة الحديث، إن شاء الله تعالى.
واللهُ أعلَمُ.
20 - سُئلتُ: هل صحَّ شيءٌ في أمر ماشطة فِرعَوْن، فإنَّنا نسمع الخُطباء يذكرون في ذلك قصةً؟
• قُلتُ: أمَّا ماشطةُ فِرعَوْنَ، فلا أعلم فيها شيئًا صحيحًا يدخلُ في المرفوع.
فقد أخرج أحمدُ في "مُسنَده"(1/ 309 - 310)، وأبو يعلَى (ج 4/ رقم 2517)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 12279، 12280)، وفي "الأوسط" - كما في "المَجمَع"(1/ 65) -، والبزَّارُ (ج 1/ رقم 54)، والحاكم (2/ 496 - 497)، والبَيْهقيُّ في "الدَّلائل"(2/ 363) من طرقٍ عن حمَّاد بن سلَمة، عن عطاءِ بن السَّائب، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا كانت اللَّيلةُ الَّتي أُسِري بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طيِّبةٌ، فقُلت: يا جِبريلُ! ما هذه الرَّائحةُ؟ فقالَ: هذه رائِحةُ ماشطةِ ابنةِ فِرعَوْن وأولادِها. - قال: - قُلتُ: وما شأنُها؟ قال: بينما هي تُمشِّطُ ابنة فِرعَوْنَ ذات يومٍ، إِذ سقطت المِدْرَى من يديها، فقالت: بسم الله!. فقالت لها ابنةُ فِرعَوْن: أبِي؟ قالت: لا، ولكن ربِّي وربُّ أبيك اللهُ. قالت: أُخبرُهُ بذلك؟ قالت: نعم. فأخبَرَته، فدعاهَا، فقال: يا فُلانةُ! وإنَّ لكِ ربًّا غيري؟! قالت: نعم! ربِّي وربُّك اللهُ. فأَمَرَ ببقرةٍ من نُحاسٍ فأُحمِيَت،
ثم أَمَرَ بها أن تُلقَى هي وأولادُها، قالت: إنَّ لي إليك حاجةٌ. قال: وما حاجَتُك؟ قالت: أُحبُّ أن تجمع عظامِي وعِظامَ وَلَدِي في ثَوبٍ واحدٍ، وتَدفِنَنَا. قال: ذلك لك عَلَينا مِنَ الحقِّ. - قال: - فأمر بأولادها، فأُلقُوا بين يَدَيها واحدًا واحدًا، إلى أنْ انتَهَى ذلك إلى صبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقَاعَسَت من أجلِهِ، قال: يا أُمَّهُ! اقتحمي! فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرةِ. فاقتحمت". - قال: - قال ابنُ عبَّاسٍ: "تكلَّم أربعةٌ صغارٌ: عيسى ابنُ مريم عليها السلام، وصاحبُ جُرَيْجٍ، وشاهدُ يُوسُف، وابنُ ماشطةِ امرأةِ فِرعَوْن".
قال الحاكم: "صحيحُ الإسنادِ"، ووافقه الذَّهبيُّ!
وعَزَاه السِّيُوطيُّ في "الدُّرِّ المنثُورِ"(4/ 150) للنَّسائيِّ، وابنِ مَردَوَيهِ، وقال:"بسندٍ صحيحٍ" كذا قال!
وقال ابنُ كثيرٍ في "تفسيره"(3/ 15): "إسنادٌ لا بأس به"!
• قلتُ: وفي كلِّ ذلك نظرٌ؛ لأنَّ عطاء بن السَّائب كانَ اختَلَطَ، وحمَّاد بن سَلَمة كان ممَّن سمِع منه قبل الاختلاط وبعده، فَلَم يتميَّز حديثُهُ، فوَجَبَ التَّوقُّف فيه.
وقد رَوَى العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 399) بسندٍ صحيحٍ عن وُهيبٍ، قال: "قَدِم علينا عطاءُ بن السَّائب، فقُلتُ: كم حَمَلت عن عُبيدة؟ قال: أربعين حديثًا. قال عليٌّ: وليس يَروِى عن عُبيدةَ حرفًا واحدًا. فقُلتُ: فَعَلام يُحملُ هذا؟! قال: علَى الاختلاط، إِنَّهُ اختَلَط. قال عليُّ بن المدينيِّ: قُلت ليحيَى - يعني القطَّان -، وكان أبُو عَوَانة حَمَل
عن عطاء بن السَّائب قبل أن يختلطَ، فقالَ: كان لا يَفصِل هذا من هذا، وكذلك حمَّاد بن سَلَمة" ا. هـ.
• قُلتُ: ونَقَل الحافظُ ابن حَجَرٍ في "التَّهذيب"(7/ 206 - 207) هذه الفَقرة عن العُقيليِّ، ثُمَّ قال:"فاستَفَدنا من هذ القصَّةِ أن رِوَاية وُهيبٍ، وحمَّادٍ، وأبي عَوَانة عنه في جُملةِ ما يَدخُلُ في الاختلاط" ا. هـ. فهذا هُو التَّحقيقُ في المسألة، فلا يَنبغِي ردُّه إلَّا ببُرهانٍ.
وله شاهدٌ من حديثِ أُبَيِّ بن كعبٍ مرفوعًا بنحوِهِ، وفي سياقِهِ زيادةٌ.
أخرجَهُ ابنُ ماجَهْ (4030)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 5/ ل 641 - 642) من طريقَيْن عن الوليد بن مُسلِمٍ، ثنا سعيدُ بنُ بُشيرٍ، عن قتادة، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن أُبيِّ بن كعبٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ليلَةَ أُسرِي به، وجَدَ ريحًا طيِّبة، فقال:"يا جبريلُ! ما هذه الرِّيحُ الطَّيِّبةُ؟ "، قال: "هذه ريحُ قبر الماشِطةِ وابنَيها وزَوجِها. - قال: - وأنَّ الخَضِرَ كان مِن أشرافِ بني إسرائِيلَ، وكان ممرُّهُ براهِبٍ في صَومَعَتِهِ، فيطَّلِعُ عليه الرَّاهبُ، فيُعلِّمُهُ الإسلامَ، فلمَّا بلغَ الخضرُ زوَّجَهُ أبُوه امرأةً، فعلَّمَها الخضِرُ، وأخذَ عليها أن لا تُعلِمَهُ أحدًا، وكان لا يَقرَبُ النِّساءَ، فطلَّقَها، ثُمَّ زوَّجه أبوه أُخرَى، فعلَّمَها، وأخذَ عليها أن لا تُعلِمَهُ أحدًا، فكَتَمَت إحداهُما وأفشَت عليه الأُخرَى، فانطَلَق هاربًا حتَّى أتى جزيرةً في البَحر، فأقبَلَ رجُلان يَحتَطِبانِ، فرأياهُ، فكَتَمَ أحدُهُما وأفشَى الآخَرُ، وقال: قد رأيتُ الخَضِرَ. فقيل: ومَن رآهُ معكَ؟ قال: فلان. فسُئِل، فكَتَمَ، وكان في دينِهِم أن مَن كَذَبَ قُتِلَ. - قال: - فتزوَّجَ
المَرأةَ الكاتمةَ، فبينما هي تمَشُطُ ابنةَ فرعونَ، إذ سقط المُشطُ. فقالت: تَعِس فرعونُ! فأخبرَت أباها، وكان للمرأةِ ابنان وزوجٌ، فأرسلَ إليهِم، فراوَدَ المرَأةَ وزَوجَها أن يرجِعا عن دينهما، فأبَيَا. فقال: إنِّي قاتِلُكُما. فقالا: إحسانًا منك إلينا، إن قَتَلتنا أن تَجعَلَنا في بيتٍ، ففعل". فلمَّا أُسري بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ ريحًا طيِّبةً، فسأل جبريلَ، فأخبَرَهُ.
• قُلتُ: وهذا سياقٌ مُنكَرٌ؛ والوليدُ بن مُسلِمٍ كان يُدلِّس تَدليسَ التَّسويَةِ، ولم يُصرِّح في جميع الإسنادِ. وسعيدُ بن بُشيرٍ ضعيفٌ، خصوصًا في قَتادة، وهذه الرِّوايةُ من هذا القَبِيلِ.
وخُلاصةُ القولِ أن الحديثَ لا يَصحُّ مرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم.
واللهُ أعلمُ.
21 -
سُئلتُ عن حديث: "اتَّقُوا بَيتًا يُقَالُ لَهُ الحَمَّامُ"، فَقَالُوا:"يَا رَسُولَ الله! إِنَّهُ يَذهَبُ بِالدَّرَنِ، وَيَنفَعُ المَرِيضَ؟ "، قال:"فَمَن دَخَلَهُ فَليَستَتِر".
وقال سائلُه: إن كان صحيحًا، فهل لا يجوز أن أَدخُل حمَّامَ بيتِي؟!
• قُلتُ: هذا حديثٌ منكَرٌ، والصَّواب فيه الإرسال.
فأخرَجَه البزَّارُ (ج 1/ رقم 319)، والبيهقيُّ (7/ 309) من طريق يُوسُفَ بن موسَى، ثنا يَعلَى بن عُبيدٍ، ثنا سُفيان، عن ابن طاوُوسَ، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: "احذَروا بيتًا
…
الخ".
قال البزَّار: "وهذا رواه النَّاسُ عن طاوُوسٍ مُرسَلًا، ولا نَعلَمُ أحدًا وصله إلا يُوسفُ، عن يَعلَى، عن الثَّوريِّ".
ويَعلَى بنُ عُبيدٍ مُتكلَّمٌ في خُصوص روايته عن الثَّوريِّ.
وقد خالَفَهُ أبُو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكينٍ، وهو ثقةٌ ثَبتٌ، فرواه عن سُفيان، عن ابن طاوُوس، عن أبِيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، مُرسَلًا.
قال البَيْهقيُّ: "رواهُ الجُمهُور، عن الثَّوريِّ، علَى الإرسال. وكذلك رَواهُ أيُّوبُ السَّختِيَانيُّ، وسُفيانُ بنُ عُيينةَ، ورَوحُ بنُ القاسم، وغيرُهُم، عن ابن طاوُوسٍ، مُرسلًا".
وكذلك رجَّح أبُو حاتمٍ الإرسالَ - كما في "عللِ وَلدِه"(2209) -.
وأخرجه الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 10932)، والحاكمُ (4/ 288) من طريق عبد العزيز بن يحيَى الحرَّانيِّ، ثنا مُحمَّد بن سَلَمة، عن مُحمَّد بن إسحاقَ، عن ابن طاووسٍ. وعن أيوبَ السَّختِيانيِّ، عن طَاوُوسَ، عن ابن عبَّاسٍ، مرفُوعًا: "اتَّقُوا بيتًا
…
الخ".
وقال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط مُسلِمٍ"، ووافقه الذَّهبيُّ! وليس كما قالا؛ ومُحمَّدُ بنُ إسحاق لم يَحتجَّ به مُسلمٌ، ثُمَّ هو مُدلِّسٌ، وقد عنعنه، وقد خالَفَهُ الفُحُولُ، فأَرسلُوه كما تقدَّم.
وعبدُ العزيزِ بنُ يحيى الحرَّانيُّ، وإن كان ثقةً، فهو لَيسَ مِن رجالِ مُسلِمٍ. واللهُ أعلَمُ.
أمَّا توهُّم السَّائل أن الحمَّام في الحديثِ هو الحمَّاماتُ الَّتي في الدُّور الآنَ، فليس كذلك؛ فإنَّ الحمَّامات لَم تكُن آنذاك في البُيوت، بل كانَت فيما يُشبِه الآن الميادينَ العامَّةَ.
واللهُ أعلمُ.
22 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قَتَلَ عُصفُورًا بِعيرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ عَنهُ يَومَ القِيَامَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أحمدُ (2/ 166، 197)، وأَسَدُ السُّنَّة في "الزُّهد"(104 - بتحقيقي)، ويعقوبُ بنُ سُفيان في "تاريخه"(2/ 208) من طريق حمَّاد بن سَلَمة، عن عَمرِو بن دينارٍ، عن صُهيبٍ الحَذَّاءِ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصِ مرفُوعًا به.
وقد تُوبِع حمَّادُ بن سلَمة ..
تابعه سُفيان بنُ عُيَينة فرَوَاه عن عمرِو بن دِينارٍ، لكنَّه قال:"صُهيبٌ مولَى عبدِ الله بن عَامرٍ".
أخرجه النَّسَائيُّ (7/ 206 - 207، 239)، والشَّافعيُّ في "مُسنَده"(1766)، والحُمَيديُّ في "المُسنَد"(587)، والطَّيالسِيُّ (2279)، وعبدُ الرَّزَّاق في "المصنَّف"(رقم 8414)، والفَسَوِيُّ في "تاريخه"(2/ 208، 703)، والطَّحاوِيُّ في "المشكل"(1/ 372)، والحاكِم (4/ 233)، والبَغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(11/ 225).
قال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد"، ووافقه الذَّهبيُّ. وليسَ كما قالَا؛ لِمَا يأتي.
زاد الحُميدِيُّ في روايته: "فقيل لسُفيَانَ: فإنَّ حمَّاد بن زَيدٍ يقولُ فيه: أخبرنَا عمرٌو، عن صُهيبٍ الحَذَّاء؟ فقال سُفيانُ: ما سمعتُ عَمرًا قال قطُّ: صُهيبٌ الحَذَّاء، ما قال إلَّا: صُهيبٌ مولَى عبد الله بن عَامِرٍ". ووقَعَت هذه المراجَعة أيضًا عند الفَسَوِيِّ في "تاريخه"، لكنَّه قال:"حمَّاد"، ولم يَنسِبْهُ. ولم أَقِف على هذه الرِّواية لحمَّاد بن زَيدٍ. لكنَّ الذي وَقَفتُ عليه من روايتِهِ عند الفَسَوِيِّ (2/ 208)، قال: حدَّثنا سُليمان بن حربٍ، ثنا حمَّاد بن زَيدٍ، عن عمرِو بن دِينارٍ، عن عبد الله بن عمرٍو، فذكره، فلم يَذكُر "صُهيبًا". فلا أَدرِى، أَسقَطَ من الإسناد أم لا؟
ولَو ثَبَتَ أنَّ حمَّاد بن زَيدٍ يروِيهِ مثلَ روايةِ حمَّادِ بن سلَمة لكانَ مُرجِّحًا قويًّا لروايتِهِ.
وقَد وجدتُ لسُفيانَ بن عُيَينة مُتابِعًا.
تابعه شُعبةُ بن الحجَّاجِ فرواه عن عمرِو بن دينارٍ بسندِهِ سواءٌ.
أخرجه أحمدُ (2/ 166، 210)، والطَّيالسِيُّ (2279).
ويُمكنُ الجمعُ بينَ رِوَايتِهِما وروايةِ حمَّادٍ، بأنَّ صُهيبًا الحَذَّاء هو مولى ابن عامرٍ، كما ذكر ابنُ حِبَّانَ وغيرُه.
وخالفَهُم أَبَانُ بن صالحٍ، فرواه عن عمرِو بن دِينارٍ، عن عمرِو بن الشَّريدِ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا لَهَا مِن قتلِ عُصفُورةٍ! ".
فصار من مُسنَد الشَّريد بن سُويدٍ الثَّقفيِّ.
أخرجَهُ الطَّحاويُّ في "المُشكِل"(1/ 372) قال: حدَّثنا أبُو أُمَيَّةَ، حدَّثنا خالدُ بن يزيدَ الكاهليُّ، حدَّثنا أبُو بكرٍ بنُ عيَّاشٍ، عن أَبَان بن صالحٍ بهذا.
وفي آخِرِهِ: قال أبُو بكرٍ - يعني: ابنَ عيَّاشٍ -: فما فوقَهُ، فما دونَهُ، إلَّا عجَّ إلى الله يوم القِيامَةِ: يا ربِّ! فُلان قتلني! فلا هو انتَفَعَ بي، ولا هو تَرَكَنِي أعيشُ.
ولكن أخرجَهُ الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 7/ رقم 7246) مِن طريق يَعقُوب بن سُفيان، ثنا خالدُ بن يزيدَ الكاهليُّ، ثنا أبُو بكرٍ بن عيَّاشٍ، عن أَبَان بن صالحٍ، عن ابن دِينارٍ، عن عمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه، مرفُوعًا به.
كذا وقع في رواية الطَّبرانيِّ: "ابنُ دينارٍ"، بغيرِ تعيينٍ. والمَحفُوظُ في حديث الشَّريد بن سُويدٍ أن الَّذي يروِيهِ هو: صالحُ بنُ دِينارٍ، عن عمرِو بن الشَّريدِ، كما يأتي إن شاء اللهُ.
فلَستُ أدرِي: مَن الواهمُ في رواية الطَّحاويِّ؟ فلَعَلَّه - إن سلِمَ من التَّصحِيف - أَن يكُونَ مِن شيخِ الطَّحاوِيِّ، وهُو أبُو أُمَيَّةَ الطَّرسُوسِيُّ؛ ففي حفظِهِ مقالٌ.
وروايةُ ابن عُيينةَ ومَن مَعَهُ أَرجَحُ مِن غيرِ شكٍّ، ولكنِّي أُرَجِّح أنَّه وقع خطأٌ من النَّاسخِ أو الطَّابع، والكِتابُ مَلآنٌ بالأخطَاء الفاحشَةِ.
غَيرَ أن سَنَدَ هذا الحديث ضعيفٌ؛ وعلَّتُهُ: صهيبٌ مولَى ابن عامرٍ، فلَم يروِ عنهُ إلَّا عمرُو بنُ دينارٍ.
قال الحافظُ في "التَّلخيص"(4/ 154): "وَأَعَلَّهُ ابنُ القطَّان بصهيبٍ مولى ابن عامرٍ الرَّاوِي عن عبدِ الله، فقالَ: لَا يُعرَف حالُه".
وترجمَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ"(2/ 2/ 316)، ولم يَذكُرْه إلَّا برواية عمرٍو.
وقال الذهبيُّ في "الضُّعفاءِ": "لا يُعرَف".
ولكنَّهُ قال في "الميزان"(2/ 321): "وعنه عمرُو بنُ دينارٍ فقَط، وبَعضُهم قوَّاهُ"، ولعلَّهُ يقصِد ابنَ حِبَّانَ، فقَد ذكرَهُ في "الثِّقات"(4/ 381).
أمَّا حديثُ الشَّريد بن سُوَيدٍ ..
فأخرجه النَّسَائي (7/ 239)، والبُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(2/ 2/ 277 - 278)، وأحمدُ (4/ 389)، وابنُ حِبَّانَ (1071)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 7/ رقم 7245)، والدُّولابيُّ في "الكنَى"(1/ 175)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(5/ 1737) من طريق عامرٍ الأحولِ، عن صالح بن دينارٍ، عن عمرِو بن الشَّريد، عن أبيه، فذكره.
وسنَدُه ضعيفٌ أيضًا؛ وصالحُ بن دينارٍ: ذكرُوا أنَّه لم يَروِ عنه إلَّا عامر الأحولُ، وقالَ الحافظُ:"مقبولٌ"، يعني عند المُتابَعة.
وعامرُ بن عبد الوَاحِدِ الأحول: فيه مقالٌ مِن قِبَلِ حفظه.
وأخرجه عبدُ الرَّزَّاق (ج 4/ رقم 8413) عن معمرٍ، عن قتادة، مُرسَلًا، أو مُعضَلًا.
وله شاهدٌ من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(3/ 1047)، من طريق عيسى بن عبد الوَاحِدِ السُّلَميِّ، عن زيادِ بن المُنذِر، عن الحسَن، عن أنسٍ، مرفُوعًا:"مَن قَتَلَ غصفُورًا عَبَثًا جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ صُرَاخٌ عِندَ العَرشِ".
وأخرجَهُ القُضَاعيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(524) عن السَّرِيِّ بن عبد الله السُّلميِّ، عن أبي الجَارُود - وهو زيادُ بن المُنذِر - بِهِ.
ولعلَّه "عيسى" أو "السَّريُّ"، أحدُهُما مُصحَّفٌ عن الآخرِ. وقد أَلمحَ لذلك شيخُنا الألبانيُّ - حفظه الله - في "غاية المرام"(ص 48).
والسَّند ضعيفٌ جدًّا؛ وزيادُ بن المُنذِر كذَّبهُ ابنُ مَعِينٍ.
والسَّريُّ: قال الذَّهبيُّ: "لا يُعرَف، وأخبارُهُ نكِرَةٌ".
واللهُ أعلمُ.
23 -
سُئلتُ عن حديث: "يُؤتَى بِالصِّرَاطِ، حَدُّهُ كَحَدِّ المُوسَى،
فَتَقُولُ الملاِئكَةُ: يَا رَبَّنَا! مَن يُجِيزُ عَلَى هَذَا؟! فَيَقُولُ: مَن شِئتُ مِن خَلقِي. - قَالَ: - فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا! مَا عَبَدنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ! ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه الحاكمُ (4/ 586) من طريق هُدْبَةَ بن خالدٍ، ثنا حمَّادُ بنُ سلَمة، عن ثابتٍ البُنَانيِّ، عن أبي عُثمان النَّهديِّ، عن سَلمان الفارسيِّ، مرفُوعًا فذكره.
قال الحاكِمُ: "صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ"، ووافقه الذَّهبيُّ، وهو كما قالَا.
ولكن خُولِف هُدْبَةُ في رفعه ..
خالفه أَسَدُ بن مُوسَى، والحسنُ بن مُوسَى، ومعاذُ بن مَهديٍّ، فروَوْه عن حمَّاد بن سَلَمة بسنده سواءٌ موقُوفًا على سَلمانَ.
أخرجَهَ أَسَدُ السُّنَّة في "الزُّهد"(43، 66)، وابنُ أبِي شَيبَة (13/ 178)، والآجُرِّيُّ في "الشَّريعة"(382).
فإِن كان لابُدَّ مِن التَّرجيحِ، فرِوايَةُ الجماعةِ أقوَى، ولَكِن لا مُنافَاةَ عِندِي بَينَ رِوايَةِ الوَقفِ والرَّفعِ؛ فإنَّ هذَا كثيرٌ في الرِّواياتِ،
لاسِيَّما ورِوَايةُ الوَقفِ لهَا حُكمُ الرَّفع، كما لا يَخفَى؛ إِذ لَا مجالَ لِلاجتِهادِ في مِثلِ هذ الأُمورِ، الَّتِي لا تُعرَف إلَّا عن طريقِ الرُّسلِ.
واللهُ أعلَمُ.
24 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ يَومَ القِيَامَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي جَعَلتُ نَسَبًا، وَجَعَلتُم نَسَبًا، فَقُلتُ: "أَكرَمُكُم أَتقَاكُم"، وَأَنتُم تَقُولُونَ: "فُلَانُ بنُ فُلَانٍ أَكرَمُ مِن فُلَانٍ"، وَأَنَا اليَومَ أَرفَعُ نسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُم، أَينَ المُتَّقُونَ؟ ".
• قُلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجَهُ الحاكمُ (2/ 463 - 464)، والبَيهقِيُّ في "شُعَب الإيمان"(4775) من طريق مُحمَّد بن الحسَن بن زَبَالةَ، حدَّثَتنِي أُمُّ سَلَمة بنت العلاء بن عبد الرَّحمن بن يَعقُوب، عن أبِيهَا، عن جَدِّها، عن أبِي هُريرَة، مرفُوعًا فذكره.
قالَ الحاكِمُ: "هذا حديثٌ عالٍ، غَويبُ الإسناد والمَتنِ، ولَم يُخَرِّجاه"، فقال الذَّهبيُّ:"المخزُومِيُّ ابنُ زَبَالَةَ ساقطٌ".
وقال البَيهقِيُّ: "المحفوظُ الموقُوفُ".
وهذا الموقُوفُ الَّذي أَشارَ إِليه البَيهقِيُّ:
أخرجَهُ أَسَدُ السُّنَّة في "الزُّهد"(79)، والحارثُ بنُ أبي أُسَامة في "مُسنَده" - كما في "المطالب العالية"(2673) -، والطَّبرانيُّ في "الأوسط"(ج 1/ 275/ 1)، وفي "الصَّغير"(642)، والحاكِمُ (2/ 464)، والبَيهقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 9/ رقم 4776)، وفي "الزُّهد"(759) من طريق طَلحَة بن عمرٍو، عن عطاءِ بن أبِي رباحٍ، عن أبِي هُريرَة موقُوفًا عليه.
وسنَدُه واهٍ؛ وطلحةُ بنُ عمرٍو متروكُ الحديثِ.
وبه أعلَّهُ الهَيثمِيُّ في "المَجمَع"(8/ 84).
وأمَّا قولُ البَيهقيِّ: "المحفُوظُ هو المَوقُوفُ"، فَلَرُبَّما أرَادَ أن الأَشبَه هُو الموقُوفُ، لا أنَّهُ محفوظٌ اصطلاحًا، إلَّا أَن يكُون لَهُ طريقٌ آخرُ غيرُ هذَا. واللهُ أعلَمُ.
وجُملَةُ القولِ أنَّهُ لا يصحُّ مرفُوعًا، ولا موقُوفًا.
واللهُ المُوَفِّقُ، سبحانَهُ.
25 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُن يَمسَحُ وَجهَهُ بِالمِندِيلِ بَعدَ الوُضُوءِ، وَلَا أَبُو بَكرٍ، وَلَا عُمَرُ.
وعلى ذلك: هل تنشيفُ ماءِ الوُضوءِ حرامٌ؟
• قلتُ: أخرجه ابنُ شاهين في "النَّاسخ والمنسوخ"(ق 35/ 2) من طريق يونس بن بُكَير، عن سعيد بن مَيْسرة، عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَكُن يَمسَح وجهه بالمنديلِ بعد الوُضوء، ولا أبُو بَكرٍ، ولا عُمَرُ، ولا عليٌّ، ولا ابنُ مَسعُودٍ.
• قُلتُ: وهذا سندٌ ساقطٌ؛ وسعيد بن مَيْسرة كذَّبَهُ يحيى القطَّان، وقال الحاكم:"رَوَى عن أنسٍ موضوعاتٍ"، وكذا قال ابن حِبَّانَ.
لكن في معناه ما أخرجه الشَّيخان وغيرُهما، من حديث مَيمُونة رضي الله عنها، في صِفَة غُسل الجنابة، قالت:"ثُمَّ أتيتُهُ بالمِنديل، فَرَدَّه"، وهذا لفظ مُسلِمٍ.
وفي لفظٍ للبخاريِّ: "فناولتُهُ ثوبًا، فلم يَأخُذه".
وليس في هذا دليلٌ على كراهة التَّنشيف؛ لأنَّها واقعة حالٍ، يتطرَّقُ إليها الاحتمالُ، فيجوزُ أن يكون عَدَمُ الأخذِ يتعلَّقُ بأمرٍ آخرَ، لا يتعلَّق بكراهة التَّنشيف، بل لأمرٍ يتعلَّقُ بالخِرقةِ، أو لكونه كان مُستعجِلًا، أو لغير ذلك، قاله الحافظ في "الفتح"(1/ 363).
وأخرج أبُو داود (245)، وأحمد (6/ 336)، والإسماعيليُّ، وأبو عَوَانة في "المُستخرَج" عن الأعمشِ، أنَّهُ سأل إبراهيم النَّخَعيَّ عن ردِّ المِنديلِ، فقال:"كانوا لا يَرَوْن بالمنديل بأسًا، ولكن كانُوا يَكرَهُون العادة".
وقال التَّيمِيُّ: "في هذا الحديث دليلٌ على أنَّهُ كان يتَنَشَّف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل"، وهو فهمٌ حسنٌ.
وهناك جوابٌ آخرُ، وهو: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه مُسلِمٌ (244/ 32) وغيرُهُ من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه: "إذا توضَّأَ العبدُ المُسلِمُ - أو: المؤمنُ -، فغَسَل وجهَه، خرج من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء - أو: مع آخرِ قَطْرِ الماءِ -
…
الحديث"، فلعل تركُه التَّنشيفَ لمُراعاة ذلك. وإذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المُبرَّأُ من الدَّنَس، المَغفُورُ ذنبُه كلُّه، يفعلُ ذلك، فمن باب أولى نفعلُه نحنُ، وهو إنَّما فعله لنتَأَسَّى به.
وتُعُقِّب هذا الجَوابُ، بأنَّ ميمونة رضي الله عنها لمَّا أعطته المنديل، لم يأخذه وجعل ينفض يده بالماء، وهذا داخلٌ في باب الإزالة، فهو يَستَوِي معَ التَّنشيفِ.
وهذا التَّعقُّب لا يَخفَى ضعفُه؛ لأن نفضَ اليدِ لا يَمنَع قَطْرَ الماء وانفصالَه عن العُضو.
وفي المسألة بسطٌ.
وحاصل الجواب، أنَّ التَّنشيف جائزٌ.
وأخرج ابن المُنذِر في "الأوسط"(1/ 415)، والأثرمُ في "سُنَنِه"
(ق 5/ 2) بسندٍ صحيحٍ عن أنس بن مالكٍ أنَّهُ كان يَمسَحُ وجهَهُ بالمنديل بعد الوُضوء.
ورَوَى ابنُ المُنذِر نحوَه عن عُثمان بن عَفَّان، والحسينِ بن عليٍّ، وبشير بن أبي مَسعُودٍ.
ورَخَّص فيه الحسنُ، وابنُ سيرينَ، وعَلقَمَةُ، والأسودُ، ومسروقٌ.
وهو قولُ الثَّوريِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، وأهلِ الرَّأي.
أمَّا حديثُ ميمونة السَّابقُ ذِكرُه:
فقال ابنُ المُنذِر (1/ 419): "وهذا الخَبَرُ لا يُوجِب حظرَ ذلك، ولا المَنعَ منه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه، مع أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد كان يَدَعُ الشَّيء لئَلَّا يَشُقَّ على أُمَّته" ا. هـ.
واللهُ أعلَمُ.
26 -
سُئلتُ عن: لفظةِ "وأبِيهِ" في الحديث الذي يرويه مُسلمٌ وفيه: "أَفلَحَ وَأَبِيهِ! إِن صَدَقَ": هل هي شاذَّةٌ؛ لأنَّه حلِفٌ بغير الله؟
• قلتُ: أمَّا لفظةُ "وأبيه" فليست شاذَّةً.
وبيانُ ذلك:
أنَّ حديثَ طلحةَ بنِ عُبيد الله هذا، رواه أبُو سُهيلٍ نافعُ بنُ مالكٍ، عن أبيه، عن طلحةَ بنِ عُبيد الله، ورواه عن أبي سُهيلٍ اثنان:
الأوَّلُ: هو الإمام مالكٌ. واتَّفق كلُّ أصحاب مالكٍ في روايةِ هذا الحديث عنه بلفظ: "أفلح، إن صدق"، فلم يَذكُر "وأبيه".
الثَّاني: هو إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، وهو ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، وهو الذي وقعت في روايته لفظة "وأبيه". وقد رواها عنه، بإثباتها:
يحيى بنُ أيُّوب، وقُتَيبةُ بنُ سعيدٍ، عند مُسلمٍ في "صحيحه" ..
ويحيى بنُ حسَّانَ، عند الدَّارميِّ في "سُنَنه"(1/ 309) ..
وعليُّ بنُ حُجْر، عند ابن خُزَيمة (1/ 158) ..
وسُليمانُ بنُ داوُدَ العَتَكيُّ، عند أبي داود في "سُنَنه"(392، 3252) ..
وداوُدُ بنُ رُشيدٍ، عند الهيثم بن كُلَيْبٍ في "مُسنَده"(ق / 38/ 1)، والبَيهقيِّ (2/ 466، و 4/ 201) ..
وعاصمُ بن عليٍّ، عِند ابن بِشرَانَ في "الأمَالِي"(ق 119/ 1 - 2)، والبَيهقِيِّ، وأبي نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(رقم 390).
وفي رواية دَاوُدَ بنِ رُشيدٍ، عند البَيهَقِيِّ، قال:"أَفلَحَ وأبيه! إن صَدَقَ. دَخَل الجَنَّة، والله! إن صَدَق"، ولم يَذكُر الهَيثَمُ لفظَهُ، بل أحال على حديث مالكٍ.
وروايةُ عاصم بن عليٍّ عِند ابنِ بِشرَانَ، وفي الموضِعِ الثَّاني عند البَيهَقِيِّ مِثلُ روايةِ دَاوُد بن رُشيدٍ.
ورواها عن إسماعيلَ بنِ جعفرٍ، بدونها: عليُّ بن حُجْرٍ، عند النَّسائيِّ (4/ 120 - 121). وقُتيبةُ بنُ سَعِيدٍ، عند البُخاريِّ (4/ 102 - 12/ 330 فتح). وقد سَبَق أنْ ذَكرنا أنَّ قُتيبة وعليَّ بن حُجرٍ قد رَوَياها، فيُشبِهُ أن تَكُون الرِّوايةُ بدون هذا الحرف مُختصرَةً، فتُرَدُّ هذه الرِّواية إلى الرِّواية التي فيها الزِّيادَةُ.
وإسماعيلُ بنُ جَعفرٍ من أَوْثق النَّاس وأثبتِهِم، فلا يتهيَّأ الحُكم علَى روايتِه بالشُّذُوذ، لا سِيَّما وهذَا الحرفُ ليس فِيه مُخالَفةٌ من جهةِ أنَّه حَلِفٌ بغير الله؛ لأنَّ العُلماء حَمَلوا ذلك علَى أنَّها كلمةٌ جَرَت بها العادَةُ، ولم يَقصِد بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الحَلِفَ، وحاشَاهُ.
ومِثلُه ما: أخرجه البُخاريُّ (7/ 95)، وأحمدُ (1/ 8) وغيرُهما عن عُقبة بنِ الحارِثِ، قال: إنِّي لَمَعَ أبي بكرٍ، حين مرَّ هو وعليُّ بن أبي طالبٍ علَى الحَسَنِ وَهُو يَلعَبُ مع الصِّبيانِ، فحمله أبُو بكرٍ على عاتقِهِ، وهو يقولُ:"بأبِي! شَبِيهٌ بالنَّبيِّ، ليس شبيهًا بعليٍّ! ".
فالباء في قوله "بأبي" هي باءُ القَسَم
(1)
، فهل كان أبُو بكرٍ رضي الله عنه يَحلِف بأبيه حين حَمَل الحسنَ؟
وأخرج أحمدُ (6/ 283)، وابنُ عساكرَ في "تاريخه"(39 - ترجمة الحسن) عن ابن أبي مُلَيكة، قال: كانت فَاطِمة تُنَقِّزُ [أي: تُرَقِّص] الحَسنَ بنَ عليٍّ، وتقولُ:"بأبي! شبيهٌ بالنَّبيِّ، ليس شبيهًا بعليٍّ".
ولكن في سندِهِ زَمعةُ بنُ صالحٍ، وعندي أنَّه وَهِمَ في روايته هكذا، والصَّوابُ ما رَوَاه الثِّقاتُ عن ابنِ أبي مُلَيكة، عن عُقبَة بن الحارث، بالسَّندِ السَّابق، الذي أخرجه البُخاريُّ وغيره.
وخُلاصَةُ البحثِ ..
أنَّ الشُّذوذ مُنتَفٍ، ولا أعلَمُ أنَّ أحدًا من السَّالِفين ادَّعى هذه الدَّعوَى. واللهُ أعلَمُ.
• قلتُ: وبَعدَ كِتابةِ ما تَقَدَّم بسنَوَاتٍ طويلةٍ، تُقارِبُ سبعَ عَشرَةَ سنةً، وَقفتُ على كلامٍ لابنِ عبدِ البَرِّ، يُنكِرُ هذه اللَّفظَةَ، فقال في "التَّمهيد" (12/ 653 - شُرُوح المُوطَّإِ):"والحَلِفُ بالمخلُوقاتِ كُلِّهَا في حُكمِ الحَلِف بالآباءِ، لا يَجُوزُ شيءٌ مِن ذلكَ. فإن احتَجَّ مُحتَجٌّ بحديثٍ يُروَى عن إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، عن أبي سُهيلٍ نافعِ بنِ مالك بن أبي عامِرٍ، عن أبيه، عن طَلحَة بنِ عُبيد الله، في قِصَّة الأَعرَابِيِّ النَّجْدِيِّ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَفلَحَ وأبيه! إِن صَدَقَ". قيل له: هذه لفظةٌ غيرُ مَحفُوظَةٍ في هذا الحديثِ، مِن حديث من يُحتَجُّ به. وقد رَوَى هذا الحديثَ مالكٌ وغيرُهُ،
(1)
ثمَّ وقع في نفسي أنَّها باء التَّفدِيَةِ، ومعناه: أفديه بأبي. والله أعلم.
عن أبي سُهيلٍ، لم يَقُولُوا ذلك فيه. وقد رُوِي عن إسماعيلَ بنِ جَعفرٍ هذا الحديثَ، وفيه:"أَفلَحَ والله! إِن صَدَقَ"، أو:"دَخَلَ الجَنَّة، والله! إن صَدَقَ"، وهذا أَولَى مِن رِوايةِ مَن رَوَى "وأبيه"؛ لأنَّهَا لفظةٌ مُنكَرَةٌ، تَرُدُّهَا الآثارُ الصِّحاحُ. وبالله التَّوفِيقُ" انتهَى.
وقال في موضعٍ آخرَ (6/ 244): "هذا حديثٌ صَحِيحٌ، لم يُختَلَف في إِسنادِهِ، ولا في مَتنِهِ. إلَّا أنَّ إسماعيلَ بنَ جَعفرٍ رواه عن أبي سُهيلٍ نافعِ بنِ مالكِ بنِ أبي عَامِرٍ، عن أبيه، عن طَلحَة بنِ عُبيد الله، أنَّ أعرابِيًّا جاء إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذَكَرَ معناه سَوَاءً، وقال في آخرِهِ: "أفلح وأبيه! إِن صَدَقَ"، أو: "دَخَلَ الجَنَّة، وأبيه! إن صَدَقَ"، وهذِهِ لَفظَةٌ، إن صَحَّت، فهي مَنسُوخَةٌ؛ لِنَهيِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عن الحَلِفْ بالآباءِ، وبِغَيرِ الله" انتهَى.
• قلتُ: دَعوَى النَّسخ هذه ذَكَرَهَا بعضُ العُلماء، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُؤمَرُ بالشَّيءِ المأذُونِ فيه من قِبَلِ الله تعالى، ثُمَّ يُؤمَرُ بخلافِهِ. وقد يَكُونُ الحُكمُ مسكُوتًا عنه، ثُمَّ يَرِدُ تحرِيمٌ أو إباحَةٌ. فلَعَلَّ الحَلِفَ بالآباءِ -وكان مُنتَشِرًا في الجاهليَّةِ بحُكمِ نَعرَةِ العَصَبِيَّةِ-كان مسكُوتًا عنه، حتَّى صَارَت كَلِمَةً دارِجَةً على اللِّسانِ، ثُمَّ جاء التَّحرِيمُ بعدُ؛ لأنَّ الحَلِفَ معناه تَعظِيمُ المحلُوفِ بِهِ، وهذا لا يَكُونُ إلَّا لله تعالَى. وهذا مِثلُ تَحرِيمِ الخَمرِ، وأمرُهُ معرُوفٌ. وكان مِن شَأنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن تَنزِلَ عليه الأحكامُ تِبَاعًا، كما في حديث عِياضِ بنِ حِمَارٍ المُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه، والذي أخرجه مُسلِمٌ (2865/ 63)، قال: إنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذاتَ يومٍ في خُطبَتِه:
"أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أن أُعَلِّمَكم ما جَهِلتُم، ممَّا عَلَّمَنِي يومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلتُهُ عبدًا حَلَالٌ. وإِنِّي خَلَقتُ عبادي حُنَفَاءَ كُلَّهم. وإنَّهم أَتَتهُم الشَّيَاطِينُ، فَاجتَالَتهُم عن دِينِهم، وحرَّمَت عَلَيهِم ما أَحلَلتُ لهم، وَأَمَرَتهم أن يُشرِكُوا بي ما لم أُنزِل به سُلطانًا
…
الحديث".
فهو يَقُولُ هنا: "ممَّا عَلَّمَنِي في يومي هذا"، أي: ممَّا لَا تَعلَمُونَهُ، كُلَّه، أو بَعضَهُ، أو حقِيقَتَهُ.
ومِن هذا البَابِ ما: رَوَاهُ طُفَيلُ بنُ سَخبَرَةَ، أخُو عائشة لِأُمِّهَا، أنَّه رَأَى فيما يَرَى النَّائِمُ كأنَّهُ مَرَّ على رَهطٍ من اليَهُودِ، فقال:"مَن أَنتُم؟ "، قالوا:"نَحنُ اليَهُودُ"، قال:"إِنَّكُم أنتم القومُ، لَولَا أنَّكُم تَزعُمُون أنَّ عُزيرًا ابنُ الله"، فقالت اليهودُ:"وأَنتُم القومُ، لولا أنَّكُم تقُولُون: ما شاء الله وشاء مُحمَّدٌ". ثُمَّ مَرَّ برَهطٍ من النَّصارَى، فقال:"من أنتُم؟ "، قالوا:"نحن النَّصَارَى"، فقال:"إنكُم أَنتُم القومُ، لولا أنَّكم تقُولُون: المسيحُ ابنُ الله"، قالوا:"وأنتُمُ القَومُ، لولا أنَّكُم تقُولُون: ما شاء اللهُ وما شاء مُحمَّدٌ". فلمَّا أصبَحَ، أخبَرَ بها مَن أخبَرَ، ثُمَّ أتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبَرَه، فقال:"هل أَخبَرتَ بها أَحَدًا؟ "، قال:"نعم". فلمَّا صَلَّوا، خَطَبَهُم، فحَمِد الله، وأَثنَى عليه، ثُمَّ قال:"إنَّ طُفَيلًا رأَى رُؤيَا، فأخبَرَ بها مَن أَخبَرَ مِنكُم، وإنَّكُم كُنتُم تقولُونَ كلمةً كان يَمنَعُنِي الحياءُ مِنكُم أن أَنهَاكُم عنها.-قال:- لا تَقُولُوا: ما شاء اللّهُ وما شاء مُحمَّدٌ".
وهذا حديثٌ وقَعَ في إسناده اختلافٌ، بيَّنتُهُ في "تَسلِيَةِ الكَظِيمِ بتَخرِيج أحاديثِ تفسير القُرآنِ العَظِيمِ".
وقد سلَكَ العُلماءُ مَسلَكًا آخرَ في الجَمعِ بَينَ هذا الحَدِيثِ والأحاديثِ المانِعَةِ من الحَلِفِ بغير الله. فقالُوا: لَيسَ المقصُودُ بهذه اللَّفظةِ حَقِيقةُ الحَلِف، وَإِن خَرَجت بصُورَتِه، بل كانَت كَلمةً دارِجَةً على اللِّسان، مثلُ كَلمةِ:"ثَكِلَتكَ أُمُّكَ"، والتي كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقُولُها لبعض الصَّحَابة، ولا يَقصِدُ بها حَقِيقَةَ الدُّعاء بالثُّكْلِ، ولم يَكُن معهُودًا مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهُو أَحسَنُ النَّاس خُلُقًا على الإطلاق، أَن يُوَاجِهَ أحدًا بِما يَكرَهُ، قولًا أو فِعلًا، إلَّا لمُقتَضًى شَرعِيٍّ، فكيف يسألُهُ مُعاذُ بن جَبَلٍ سُؤالًا استفهامِيًّا، لِيَعلَم الحُكمَ الشَّرعِيَّ، فيقُولُ له:"ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ! "؟
وهذا الجوابُ عن لَفظَةِ "وأبيه" في الحديث هي عِندِي أَجوَدُ مِن دعوَى النَّسخ؛ لأنَّ هذه الدَّعوَى لا تَثبُتُ إلَّا بِبَيَانِ التَّاريخ، وهو مَعدُومٌ هُنا.
فالصَّحِيحُ: إِن كَانَ هُناكَ سبِيلٌ للجَمعِ بينَ الآثارِ التي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ دُون رُكُوبِ مَركَبِ التَّكَلُّفِ والتَّعَسُّفِ، وَجَب أن نَفعلَ ذلك؛ صيانةً للنُّصُوص الصَّحيحَةِ من الإِهمَالِ. وقد كان ابنُ عبد البَرِّ مِن أَبرَز العُلماء في هذا الباب، وكم مِن حَدِيثٍ ردَّ فيه دَعَوى الشُّذوذ، أو النَّكَارَة، بوجهٍ مِن وُجُوه الجَمع المعرُوفَةِ.
ومثال ذلك
…
ما رواه حَمَّادُ بنُ زَيدٍ، عن ثابتٍ، عن أَنَسٍ، قال: دَعَاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بماءٍ، فأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ، فجَعَلَ القومُ يَتوضَّئُون، فحَزَرْتُ ما بين السِّتِّين إلى الثَّمانِين، -قال:- فجَعَلتُ أَنظُرُ إلى الماء، يَنبُعُ مِن بين أَصابِعِه.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ (1/ 304 - فتح)، ومُسلِمٌ (15/ 38 - نَوَوِيٌّ)، وأحمدُ (3/ 147)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(1/ 178)، وابن خُزَيمَة (ج 1/ رقم 124)، والفِريَابِيُّ في "الدَّلائل"(ق 6/ 2)، وأبو يَعلَى (ج 6/ رقم 3329)، وابنُ حِبَّان (ج 8/ رقم 6512)، والدِّينَوْرِيُّ في "المُجالَسَة"(3082)، والبَيهَقِيُّ (1/ 30)، وفي "الدَّلَائل"(4/ 122، 123)، وفي "الاعتقاد"(273، 274)، والبَغَوِيُّ (2/ 25) من طُرُقٍ عن حمَّاد بنِ زيدٍ، عن ثابتٍ بهذا.
وقد رواه عن حَمَّادٍ جماعةٌ مِن أصحابه، مِنهُم: مُسَدَّدُ بنُ مُسَرهَدٍ، وأبو الرَّبيعْ الزَّهرَانِيُّ سُليمانُ بنُ داوُدَ، وسُليمانُ بنُ حَربٍ، ويُونُس بنُ مُحمَّدٍ المُؤدِّبُ، وعَفَّان بنُ مُسلِمٍ، ومُحمَّد بنُ عُبيد بن حِسَابٍ، كُلُّهم قالُوا في رِوايَتِهم:"بقَدَحٍ رَحْرَاحٍ".
وتَابَعَهُم أحمدُ بنُ عَبدَةَ، عند ابن خُزَيمَةَ
…
لكنَّه خالَفَهم في هذا الحرف، فقال:"بَقَدَحِ زُجَاجٍ".
وبَوَّبَ عليه ابنُ خُزَيمَةَ بقوله: "بابُ إباحة الوُضُوءِ مِن أواني الزُّجَاجِ، ضِدَّ قَولِ بعضِ المُتَصَوِّفَةِ، الذي يَتَوَهَّمُ أنَّ اتِّخاذَ أواني الزُّجاجِ مِنَ الإِسرَافِ؛ إذ الخَزَفُ أَصلَبُ، وأَبقَى من الزُّجَاج". ثُمَّ ذَكَر ابنُ خُزيمَةَ أنَّ غيرَ واحدٍ رَوَاهُ عن حمَّاد بن زَيدٍ بلفظِ: "رَحْرَاحٍ"، ثُمَّ قال:"والرَّحْرَاحُ إنَّما يكونُ الوَاسِعَ من أَوانِي الزُّجاج، لا العَمِيقَ مِنهُ". فوَفَّقَ بين الرِّوَايَتَين.
لكن قال الحافظُ في "الفَتح"(1/ 304): "وصَرَّح جَمعٌ من الحُذَّاق
بأنَّ أحمدَ بنَ عَبدَةَ صَحَّفَهَا. ويُقَوِّي ذلك أَنَّهُ أَتَى في روايتِه بقَولِهِ: "أَحسِبُهُ"، فدَلَّ على أنَّهُ لم يُتقِنهُ. فإِن كان ضَبَطَهَا فلا مُنافَاةَ بين رِوَايتِه ورِواية الجَمَاعة؛ لاحتمال أَن يَكُونُوا وَصَفُوا هيَئَتَهُ، وذَكَرَ هو جِنسَه" ا. هـ. وهذا ما صَنَعَهُ ابنُ خُزَيمَةَ رحمه الله.
• قلتُ: فحاصِلُ البَحثِ، أنَّهُ يُمكِنُ حملُ رواية إِسماعِيلَ بنِ جَعفرٍ على وجهٍ مَقبُولٍ، وهذا أَولَى مِن تَغلِيطِهِ. والله أعلَمُ.
ورُبَّما قال بعضُ النَّاس: إِنَّ البُخارِيَّ حَذَفَ هذه اللَّفظَةَ عَمدًا من رِواية قُتَيبَةَ، كما هي عادَتُهُ في مِثلِ ذلك؟
والجَوَابُ: أنَّنِي لَم أَرَ أحدًا تَعَرَّض لذلك. فلا يُقبَلُ هذا القولُ حَتَّى يَقُومَ دليلٌ على أنَّ هذا الحرفَ حَذَفَهُ البُخارِيُّ عَمدًا. وسأُبَيِّنُ هذا في كتابي "كُسوَةُ العَارِي بِبَيَانِ عِلَّةِ الحَذفِ عِند البُخارِيِّ"، إن شاء الله تعالَى. وكُنتُ جَمَعتُ مادَّتَهُ مُنذُ زَمَنٍ بعيدٍ، وبدأتُ الآن في تَرتِيبِهَا، وبيانِ عِلَّةِ الحَذفِ. وأسألُ اللهَ الإِعانَةَ على إِتمامِهِ، إنَّه وليُّ ذلك ومولاه.
27 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن صَلَّى رَكعَتَينِ في لَيلَةِ الجُمُعَةِ، وَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، وَإِذَا زُلزِلَت خَمسِينَ مَرَّةً، أَمَّنَهُ اللهُ عز وجل مِن عَذَابِ القَبرِ، وَمِن أَهوَالِ يَومِ القِيَامَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ.
أخرجه الوزير أبُو القاسم عيسى بنُ عليِّ بن الجَرَّاح، في "الثَّاني من حديثه"(ق 8/ 2 - 9/ 1) من طريق ثابتِ بن حَمَّادٍ، عن المُختار بن فُلفُلٍ، عن أنسٍ مرفُوعًا به.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وثابتُ بنُ حمَّادٍ تركه الأَزدِيُّ، وضعَّفَهُ الدَّارَقُطنِيُّ جدًّا، وأحاديثُهُ التي ساقها ابن عديٍّ في "الكامل"(2/ 98) تدُلُّ على أنَّهُ واهٍ.
وقد رواه عن ثابت بن حمَّادٍ: عبدُ الله بن داود الواسطيُّ وهو مِثلُه، أو دُونه بقليلٍ، فالحَملُ على أحدِهِما.
وَأَمَّا معنى الحديثِ فباطلٌ، يُعلَم ذلك بأدنى تدبُّرٍ.
واللهُ أعلَمُ.
28 -
سُئلتُ عن الحديثين: "مَن نَامَ عَن وِترِهِ، فَلْيَقضِهِ إِذَا أَصبَحَ"، و "مَن أَدرَكَ الصُّبحَ فَلَا وِترَ لَهُ"، وكيف الجَمْعُ، مع أنَّ ظاهرَيْهما التَّعارضُ؟
• قلتُ: أمَّا أحاديثُ قضاءِ الوِتر بعد الصُّبح، والنَّهيِ عن ذلك، فيَحتاجُ الأَمرُ إلى الفَصلِ في صِحَّة الحديث قبل تأويله، كما عليه جَمَاعةُ العُلماء.
أمَّا حديثُ: "من نام عن وِتره، فليقضه إذأ أصبح"، فإِنَّه حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه التِّرمذيُّ (465)، وابنُ ماجَهْ (1188)، وأحمد (3/ 44)، وابنُ نصرٍ في "قيام اللَّيل"(138)، وابنُ شاهين في "النَّاسخ والمنسوخ"(ق 65/ 2) من طريقِ عبدِ الرَّحمنِ بن زيدِ بن أَسلَم، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ مرفُوعًا به.
وهذا سندٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وعبد الرَّحمن بنُ زيدٍ واهٍ، وقد خالفه أخُوهُ عبدُ الله، وهو أَوْثَق منه، فرواه عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا.
أخرجَهُ التِّرمذيُّ (466)، ورجَّحه علَى رواية عبد الرَّحمن.
لكن لم يتفرَّد به عبدُ الرَّحمن.
فتابعه مُحمَّد بن مُطرِّفٍ، فرواه عن زيد بن أَسلَم، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ فذَكَره مرفُوعًا.
أخرجه أبُو داود (1431)، والدَّارقُطنيُّ (2/ 22)، والحاكمُ (1/ 302)، والبيهقيُّ (2/ 480).
قال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط الشَّيخين"، ووافقه الذَّهَبيُّ، وفيه نَظَرٌ؛ فقد رواه عِند الحاكم عُثمانُ بن سعيد بن كثيرٍ، عن مُحمَّد بن مُطرِّفٍ.
وعُثمان بن سعيد لم يُخَرِّج له الشَّيخان شيئًا. فالإسناد صحيحٌ.
أمَّا الحديث الآخر: "مَن أدرك الصُّبح ولم يُوتِر، فلا وِترَ له".
فأخرجه ابنُ خُزَيمة (1092)، وابنُ حِبَّانَ (674)، والحاكمُ (1/ 302)، والبيهقيُّ (2/ 478) من طريق قتادة، عن أبي نَضرَة، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ مرفُوعًا به.
قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط مُسلِمٍ"، ووافقه الذَّهبيُّ.
ولكن أعلَّهُ البيهقيُّ بقوله: "ورِوَاية يحيى بن أبي كثيرٍ كأنَّها أشبَهُ؛ فقد رُوِّيْنا عن أبي سعيدٍ في قضاءِ الوِتر".
• قُلتُ: يُشيرُ البَيْهقيُّ، إلى ما أخرجه مُسلِمٌ (754)، وأبُو عَوانة (2/ 309)، والنَّسائيُّ (3/ 231)، وابنُ ماجَهْ (1189)، والدَّارميُّ (1/ 372)، وأحمدُ (3/ 13، 35، 37، 71)، وابنُ أبي شَيبةَ (2/ 288)، والطَّيالسِيُّ (2163)، وابن خُزيمة (1089)، وعبدُ الرَّزَّاق (4589)، وابنُ نصرٍ في "قيام اللَّيل"(138)، والحاكمُ (1/ 301)، والبيهقيُّ (2/ 478)، وأبو نُعيم في "الحلية"(9/ 61) من طُرُقٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي نَضرَة، عن أبي سعيدٍ مرفُوعًا:"أَوتِرُوا قَبل أَن تُصبِحُوا".
ولكن، لا مُنافَاة عِندِي بينَ الرِّوايَتَين؛ وهما حديثان مُستَقِلَّان، لا حديثٌ واحدٌ حتَّى يُعِلَّ أحدُهما الآخرَ -وتفصيلُ هذَا في موضعٍ آخر، وفي الباب أحاديثُ أُخرَى كثيرةٌ-، ولا تَعارُض بين الحديثَين؛ لأنَّ الحديثَ الآذِنَ بقضاءِ الوِترِ خاصٌّ بِمَن نَسِيَه، أو نام عنه وكان ينوى أن يُصلِّيَه ففاتَهُ قَصدُه بالعُذر. والحديثُ الآخَرُ المانِعُ من قضاءِ الوِتر خاصٌّ بمَن تَرَكه همَلًا وكسلًا، فهذَا يُعاقَب بأن يُحرَم مِن قضائه، وإِحرازِ فضيلتِهِ وأجرِهِ.
واللهُ سبحانه وتعالى أعلَمُ.
29 -
سُئلتُ عن صِحَّة ومعنى حديث: "إِنَّ الوَلَاءَ لَيسَ بِمُتَحَوِّلٍ وَلَا بِمُنتَقِلٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه البزَّارُ (ج 2/ رقم 1321)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 10/ رقم 10684)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 181 - 182)، والوزيرُ أبُو القاسم ابنُ الجرَّاح في "الثَّاني من حديثه"(رقم 8 - بتحقيقي)، ومن طريقه الذَّهبيُّ في "السِّير"(14/ 531) من طريق المُغِيرة بن جَميل الكِنديِّ، قال: حدَّثني سُليمانُ بنُ عليِّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ، قال: حدَّثني أبي، عن جَدِّي مرفُوعًا فذكره.
قال البزَّارُ: "لا نَعلَمُه يُروَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الإسناد، من هذا الوجه. والمُغِيرةُ بنُ جَميلٍ ليس بمعرُوفٍ في الحديثِ".
وقال العُقيليُّ في تَرجمةِ المُغِيرة: "كُوفيٌّ، مُنكَر الحديث، ولا يُعرَف -يعني هذا الحديثَ- إلَّا به".
وقال عبدُ الحقِّ الأشبيليُّ: "المُغِيرة مجهولٌ"، وأَقرَّه ابنُ القطَّان في "الوهم والإيهام".
وترجمه ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(4/ 1/ 219)، ونَقَل عن أبيه:"مجهولٌ".
ولكن، يَشهَدُ له ما أخرجَهُ الشَّافعيُّ (2/ 72 - 73)، والحاكمُ (4/ 341)، والبيهَقيُّ (10/ 292) عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"الوَلَاءُ لُحمةٌ كلُحمة النَّسَب، لا يُباع ولا يُوهَب".
وقد أعلَّهُ أبُو بكرٍ مُحمَّد بن زيادٍ النَّيسابُوريُّ، فقال:"هذا خطأٌ؛ لأنَّ الثِّقاتِ لم يَروُوه هكذا، وإنما رواه الحَسَنُ مُرسَلًا".
• قلتُ: ورِوايةُ الحَسَن هذه، أخرجها ابنُ أبي شَيبة في "المصنَّف"(6/ 123)، والبَيهقِيُّ (10/ 292).
وأخرج عبدُ الرزَّاق (ج 9/، رقم 16149)، وابنُ أبي شَيبةَ (6/ 122)، وسعيدُ بنُ مَنصُورٍ في "سُنَنه"(284) من طريق داودَ بن أبي هندٍ، عن سعيد بن المُسيَّب، قال:"الوَلاءُ كالنَّسَب، لا يُباع ولا يُوهَب"، وكذلك قال ابنُ سِيرينَ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، وطاوُوسٌ، والشَّعبيُّ، وآخرون. وانفصل شيخُنا أبُو عبد الرَّحمن الألبانيُّ -حفظه الله- على صِحَّة المرفُوع منه، في بحثٍ له في "إرواء الغليل"(6/ 109 - 114).
ويَشهَدُ له حديثُ ابن عُمَر، قال:"نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الوَلاء، وعن هِبَته"، أخرجه الشَّيخانِ، وغيرُهما.
وقد خرَّجتُهُ في "غوثِ المَكدُود بتخريج مُنتَقى ابن الجارُود"(رقم 978).
أمًّا المعنى ..
فالولاءُ، مأخوذٌ من الولاية، وهي أن يتولَّى المُعتِق تربيتَه والقيامَ بأمره، فمِثلُ هذا قائمٌ مقامَ النَّسَب،، فلا يجوز أن يُباع أو يُوهَب، ونقل ابنُ بطَّالٍ الإجماعَ عليه. واللهُ أعلَمُ.
30 -
سُئلتُ عن حديث: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعليِّ بن أبي طالبٍ: "أُمِرتُ بِتَزوِيجِكَ مِنَ السَّمَاءِ"، وأنه قال مثلَه لعائشة؟
• قلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ كَذِبٌ.
أخرجه ابنُ شاهينَ في "فضائل فاطمةَ"(38) من طريق مُحمَّدِ بن يُونسَ، ثنا أبُو زيدٍ الأنصاريُّ، ثنا قيس بنُ بنُ الرَّبيعِ، عن الأعمشِ، عن عَبَايةَ، عن أبي أيُّوبَ الأَنصَارِيِّ مرفُوعًا به.
وهذا سَندٌ ساقطٌ؛ ومُحمَّدُ بنُ يونسَ هو الكُدَيمِيُّ، اتَّهَمَه غيرُ واحدٍ بوضعِ الحديثِ. وأَطلَق فيه الكذبَ: أبُو داود، وموسى بنُ هارون، والقاسمُ المطرِّزُ.
قال الذَّهبيُّ في "الميزان"(4/ 74): "وأمَّا إسماعيلُ الخَطْبِيُّ، فقال بجهلٍ: كان ثقةً".
وقيسُ بن الرَّبيعِ، فيه ضَعفٌ مِن قِبَل حفظِه.
والأعمشُ مُدلِّسٌ، وقد عنعنه.
وله شاهدٌ من حديث ابنِ مسعُودٍ رضي الله عنه ..
أخرجه الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 10 /رقم 10305) من طريق إسماعيلَ ابن موسى السُّدِّيِّ،، ثنا بِشرُ بن الوَليد، ثنا عبدُ النُّور بنُ عبد الله المِسْمَعِيُّ، عن شُعبَة، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، عن إبراهيم، عن مسروقٍ،
عن ابن مسعودٍ مرفُوعًا: "إِنَّ اللّهَ أَمَرني أن أُزَوِّج فاطمةَ مِن عليٍّ رضي الله عنهما".
ومِن طريق عبدِ النُّور بنِ عبد الله هذا:
أخرجَهُ العُقيليُّ في "الضُّعفاء"-وسَقَط من المطبوعة-، ومن طريقه ابنُ الجَوْزيِّ في "الموضوعات"(1/ 415) وذكر حديثًا طويلًا.
قال ابنُ الجَوزِيِّ: "وَضَعه عبدُ النُّور، وكذا في كتاب العُقيليِّ، فقال العُقيليُّ: وكان يَضَع الحديث".
وقال الحافظُ في "اللِّسان": "لَفظُ العُقيليِّ: لا يُقِيمُ الحديثَ، وليس من أَهلِه. والحديثُ موضوعٌ، لا أَصْل له".
وذَهَلَ الهَيثميُّ رحمه الله-عن هذا البَحثِ، فقال في "مجَمَع الزَّوائد" (9/ 204):"رجالُه ثقاتٌ"!!، ولعَلَّ الذي حَمَله على ذلك أنَّهُ رأَى ابنَ حِبَّانَ قد ذكره في "الثِّقات"، فلَم يَنشَط ليُراجِع "ضعفاء العُقيليِّ" أو "ميزان الذَّهبيِّ" على الأقلِّ.
أمَّا ذِكرُ ابنِ حِبَّانَ إيَّاه في "الثِّقات"، فقد اعتذر عنه الحافظ، فقال في "اللِّسان":"وكأنَّ ابنَ حِبَّانَ ما اطَّلَع على هذا الحديثِ الذي له عن شُعبة، فإنَّهُ موضوعٌ، ورجالُه مِن شُعبة فصاعدًا رجالُ الصَّحيح، فيُنظَر مَن دُونَ عبدِ النُّور" ا. هـ.
فقد حَكَم على الحديثِ بالوضع العُقيليُّ، وابن الجوزيِّ، والذَّهبيُّ، والحافظُ، والسِّيوطيُّ في "اللَّآلئ".
ومع اعتراف السِّيوطيِّ بوضعِهِ، فقد ذَكَره في "الجامع الصَّغير"، مع اشتراطه في خُطبتِه أن يصُونَه عمَّا تفرَّد به وضَّاعٌ أو مَتروكٌ!!
وفي الباب أحاديثُ أُخرَى ساقطةٌ، والمقامُ لا يَحتمِل البسطَ.
واللهُ أعلَمُ.
أمَّا فيما يتعلَّقُ بعائشةَ رضي الله عنها، فلعلَّ السَّائل قَرَأ الحديثَ بالمعنَى، فإِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تَزوَّج عائشة بأمرٍ مِنَ الله عز وجل.
فأخرج البُخاريُّ (12/ 352)، ومُسلِمٌ (2483) وغيرُهُما عن عائشةَ مرفُوعًا:"أُرِيتُكِ في المنام مرَّتَين، إذا رجلٌ يحمِلُكِ في سَرَقَةِ حريرٍ، فيقُول: هذه امرأتُكَ. فأكشِفُها، فإذا هي أنتِ، فأقُولُ: إن يَكُن هذَا مِن عندِ اللهِ يُمضِه".
31 -
سُئلتُ عن: هيئة الخُرور من الرُّكوع إلى السُّجود أتكون بتقديم اليدين أم الرُّكبتين؟
• قلتُ: الصَّوابُ هو أن يَضَع الرَّجُلُ يَدَيه على الأرض قَبلَ رُكبتيه. وعُمدَتُنا في ترجيح ذلك، هو حديث أبي هُرَيرة مرفُوعًا:"إذا سَجَد أحدُكم فلا يَبرُكْ كما يَبرُكُ البعيرُ، ولْيَضَع يدَيهِ قَبلَ رُكبتيه".
أخرجه البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(1/ 1/ 139)، وأبو داوُد (840)، والنَّسائيُّ (2/ 207)، وأحمدُ (2/ 381) وغيرُهُم مِن طُرُقٍ، عن الدَّراوَردِيِّ، ثنا مُحمَّدُ بن عبد الله بن حَسَنٍ، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة.
وهذا سندٌ صحيحٌ.
وأَعلَّه جماعةٌ من أهل العِلم بما لا يَثبُت علَى النَّقد، وليس ها هنا موضعُ بسطِ حُجَج الفريقَين، والمحاكمةِ بينهما على وجه الإنصاف، لكنَّنِي سأذكُرُ أقوَى علَّةٍ أُعِلَّ بها الحديثُ، وهي قولُ الإمام البُخاريِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:"مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ الحسنِ: لا يُتابَع عليه، ولا أدري أَسَمِع من أبي الزِّناد أم لا؟ ".
فالجواب: أنَّ الإمام رحمه الله لم يَنفِ السَّماع، إنَّما نفَى عِلمَه به، فحينئذٍ نقولُ: إنَّ أبا الزِّنادِ كان عالِمَ المدينة في وقته، وشُهرَةُ ذلك لا تحتاج إلى إثباتٍ،
ومُحمَّدُ بنُ عبد الله بن الحسنِ مدنيٌّ هو الآخر، وقد وثَّقه النَّسائيُّ وابنُ حِبَّانَ، ولا يُعرَفُ بتدليسٍ قطُّ، وكان له من العُمر قُرابةَ الأربعين عامًا يوم مات أبُو الزِّناد سنةَ 130 هـ. وبهذه القرائن يَقطَع المرءُ بثُبُوت اللِّقاء.
وقد أصرَّ بعضُهم في نقاشٍ لي معه، بعد هذا بعدم السَّمَاع، فقُلتُ له: أَفَمَا التَقَيا في المسجد النَّبويِّ قطُّ، حيث كانت حَلَقات العُلماء؟ أَفَمَا التَقَيا في صلاةٍ قطُّ في هذا المسجد المُبارَك، ولا حتَّى في صلاة الجُمعة؟ فَسَكَت، وأظنُّه لوُضوح الإلزام.
أمَّا التَّفرُّد، فإنَّ مُطلَقَ التَّفرُّدِ ليس بعلَّةٍ، لا سيَّما إذا لم يَغمِز المُتفرِّدَ أحدٌ بضعفٍ، ومُناقشةُ هذا الأمرِ وحدَه يطولُ جدًّا.
وقد ذكرُوا أيضًا، أنَّ الدَّارَقطنيَّ قال:"إنَّ الدَّرَاوَرديَّ -واسمُه: عبدُ العزيز بنُ مُحمَّدٍ- تفرَّد به، عن مُحمَّد بن عبد الله بن الحَسَنِ".
والجوابُ: أنَّ هذا ليس بعلَّةٍ. ولم يتفرَّد. الدَّراوَرديُّ إلَّا بالتَّفصيل، وإلَّا.، فقد تابَعَه عبدُ الله بنُ نافع الصَّائغُ، فرَوَاه عن مُحمَّد بن عبدِ الله، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"يَعمَدُ أحدُكم في صلاتِه، فيبرُكُ كما يَبرُكُ الجملُ".
أخرجه أبُو داودُ (841)، والنَّسائيُّ (2/ 207)، والتِّرمذيُّ (269)، والبَيهقِيُّ (2/ 100).
قال: التِّرمذيُّ: "حديثُ أبي هُريرةَ غَريبٌ، لا نعرفُه من حديث أبي الزِّناد إلَّا مِن هذا الوَجه".
• قُلتُ: لعلَّ مقصودَ التِّرمذيِّ أي بهذا اللَّفظ، وإلَّا فحديثُ الصَّائغِ،
يلتقِي إجمالُه مع حديثِ الدَّرَاوَرديِّ. وعبدُ الله بن نافعٍ الصَّائغُ صدوقٌ، في حِفظه بعضُ المقال، وكتابُهُ صحيحٌ. وروايتُهُ، وإن كانت مُجمَلةً، إلَّا أنَّ تفصيلَها يعودُ إلى روايةِ الدَّرَاوَرديِّ كما قلتُ.
وعامَّةُ المعارِضِين لهذا الحُكمِ، القائلينَ بتقدِيم الرُّكبتين قَبلَ اليَدين، مَع ضعفِ حديثِ وائلِ بنِ حُجرٍ وجميعِ شواهِدِه، لا يَعرِفون كيفَ يبرُكُ البعيرُ، حتَّى قال بعضُ الباحثين في "جُزءٍ له" حولَ هذا الحديثِ:"وبرُوكُ البعير معروفٌ عند الجميع، وهو أنَّهُ يُقدِّم يديه في البُروك قَبل رِجلَيه، فإذا قَدَّم المُصلِّي يديه على رُكبتيه في السُّجُود فقد شابَهَ البعيرَ في بُروكِهِ شاءَ أم أبَى" كذا قال هذا الفاضلُ!
ونتساءلُ: كيف يُقدِّم البعيرُ يَديه قبلَ رُكبتيه؟! ويداه موضُوعَتان علَى الأرضِ دائمًا؛ إذ هو يَمشِي على أربعٍ، فلَو كانَت يداهُ مرفوعَتَان عن الأرضِ مثل الإنسان لَسَاغَ هذا القولُ، وهذا القولُ بَدَهِيٌّ جدًّا، اضطُرِرتُ إلى تسطيرِهِ اضطرارًا، رفعًا للمُغالَطة. وحينئذٍ، فالصَّوابُ أن يُقال: إنَّ أوَّلَ ما يصلُ إلى الأرض منَ البعيرِ إذا أرادَ أن يَبرُك: رُكبتاه وليس يديه.
ولأنَّ هذا القولَ مُلزِمٌ، أرادُوا أن يَتخلَّصُوا منه، فقالُوا:"رُكبةُ البعيرِ ليست في يدِهِ"!
إِذَنْ، فقد سلَّمُوا أنَّ البعير يَبرُك على ركبتيه، ولكنَّها ليستَ في يده، هكذا قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله، وقال:"وقولُهُم: "رُكبة البَعير في يدِهِ" كلامٌ لا يُعقَلُ، ولا يعرفُهُ أهلُ اللُّغة"، وتَبِعَهُ كلُّ من تكلَّم في هذا الباب.
ونحنُ نُحكِّم بيننا وبينكُم أهلَ اللُّغةِ، ونَذكُرُ من الأحاديثِ الصَّحيحةِ ما يَقنَعُ به كلُّ مُنصِفٍ.
* أمَّا أهلُ اللُّغَة ..
فقالَ ابنُ سِيْدَهْ في "المُحكَم والمحيطِ الأعظَم"(7/ 16): "وكُلُّ ذي أربعٍ رُكبتاهُ في يديه، وعُرقوبَاه في رِجلَيه".
وقال الأزهريُّ في "تهذيب اللُّغة"(10/ 216): "ورُكبةُ البعير في يده. ورُكبَتَا البَعيرِ: المِفصَلَان اللَّذان يَلِيَان البطنَ إذا بَرَكَ، أمَّا المِفصَلَان النَّاتِئَان مِن خَلفٍ فهُما العُرقُوبان".
وقال ابنُ مَنظُورٍ في "لسان العرب"(14/ 236): "ورُكبَةُ البعير في يَدِه".
وتتابَعَت كُتبُ "المعاجمِ" علَى ذلكَ، وفيما ذكرتُه كفايةٌ.
فمناطُ الأمرِ حينئذٍ هو "الرُّكبةُ"، وليس لـ "اليدِ"-أي: يد البعير- دخلٌ بالبحث أصلًا.
* أمَّا الأحاديثُ الصحيحةُ ..
فمنها ما: أخرجه البُخاريُّ في "صحيحه"(7/ 239)، وأحمدُ (4/ 176) في قصة سُراقةَ بنِ مالكٍ، حين تَبع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ في الهجرة، وفيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا على سُراقةَ، قال سُراقةُ: "
…
وَسَاخَت يدا فَرَسِي في الأرض، حتَّى بَلَغَتَا الرُّكبتين".
وهذا نصٌّ نفيسٌ في غاية الوُضُوح، أنَّ رُكبَةَ البعير في يده، فإذا أراد المُصلِّي أن يُخالِف البعيرَ فلا ينزلُ على رُكبتَيْه؛ إذ البعيرُ إنَّما ينزلُ على رُكبته.
ومن الأدلَّة على أنَّ النُّزول على الرُّكبة يُسمَّى "بُروكًا"، ما:
أخرجه مُسلِمٌ (125/ 199) وغيرُهُ من حديث أبي هُريرَة، قال: لمَّا نَزَلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، -قال:- فاشتَدَّ ذلك على أصحاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتَوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَب، فقالُوا: .. الحديث.
ومن الأدلَّة أيضًا، ما:
أخرجه الشَّيخانِ عن أنسٍ، قال: خرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين زَاغَت الشَّمسُ
…
الحديث، وفيه: ثُمَّ أَكثَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَقُول: "سَلُوني! "، فَبَرَكَ عُمَر على رُكبتَيه، فقال:"رضِينَا بالله ربًّا! "
…
الحديث.
• قلتُ: فقد تبيَّن بحمد الله تعالَى، بما لا يَدَعُ مجالًا للتَّوقُّفِ أو الشَّكِّ أنَّ رُكبَةَ البعير في يده، وأنَّ البُرُوكَ يكونُ على الرُّكبَة. ونحنُ ومخالفُونَا في هذه المسألة مُتَّفِقُون على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بُرُوكِ البعيرِ، ثُمَّ اختلَفنَا كيف يَبرُك البعيرُ. فلو تَقَاوَمت الأحاديثُ الواردةُ في هذا الباب وتساقطت لِضَعفِهَا، ولم يبق بأيدينا، نحن ولا مُخالِفِينَا، أدلَّةُ مرفُوعَةٌ، لكان هذا الوجهُ كافيًا في إِثباتِ قَولِنَا، وتَوهِينِ قولِ مُخالِفِينَا. ولله الحمدُ والمِنَّةُ.
وقد أَفَضتُ في بيان هذِهِ المسألة في جُزءٍ مُفرَدٍ، سمَّيتُه:"نهي الصُّحبة عن النُّزول بالرُّكبة"، وهو مَطبوعٌ.
• قلتُ: وبعد كتابة ما تقدَّم باثنَي عشر عامًا، طُبع حديثًا كتابُ "المُداوِي
لعلل الجامع الصَّغير وشَرحَي المُنَاوِي" لأبي الفيض الغُمارِيِّ، فرأيتُه علَّق على كلامٍ للمُنَاوِيِّ، قال فيه: "وأعلَّه البُخارِيُّ، والتِرمِذِيُّ، والدَّارَقُطنِيًّ بمحمَّدِ بن عبد الله بن حسنٍ، وغيرِه".
فعقَّب الغُمَارِيُّ قائلًا: "وأمَّا تعليلُ البُخارِيِّ، والتِّرمذيِّ، والدَّارَقُطنِيِّ للحديث بمحمَّد بن عبد الله بن حسنٍ، فالتِّرمذِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ تابعان ومُقلِّدان للبُخارِيِّ. وما قاله البُخاريُّ مردودٌ عليه، وعِبارتُه في "التَّاريخ الكبير" (1/ 139 - رقم 418): "مُحمَّد بن عبد الله، ويقال ابنُ حسنٍ. حدَّثَني مُحمَّدُ بنُ عُبيد الله، ثنا عبدُ العزيز بنُ مُحمَّدٍ، عن مُحمَّد بن عبد الله، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة، رفعه:"إذا سَجَد فليَضَع يديه قبل رُكبتَيه". لا يُتابَع عليه، ولا أدري: سَمِع من أبي الزِّناد أم لا". وزاد الدَّارَقُطنِيُّ، فادَّعَى أنَّ عبدَ العزيز الدَّرَاوَردِيَّ تَفرَّد به عنه. وكلُّ ذلك باطلٌ؛ فإنَّ عبدَ الله بنَ نافعٍ قد تابع عبدَ العزيز على رِوايته عن مُحمَّد بن عبد الله بن حسنٍ، كما تقدَّم، عند أبي داوُدَ، والنَّسائِيِّ. ومِن ذلك الطَّريق خرَّجه التِّرمِذِيُّ أيضًا. ومُحمَّدُ ابنُ عبدِ الله بن حسنٍ لم ينفَرِد به، بل تابَعَه عبدُ الله بنُ سعيدٍ المَقبُرِيُّ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة، كما ذكره التِّرمِذِيُّ. وَهَبْ أنَّه لم يُتابِعه أحدٌ، فماذا يضُرُّه؟! وكم خرَّج البُخارِيُّ في "صحيحه" لأفرادٍ لم يُتابِعهم أحدٌ، وكأنَّه رحمه الله لا يَخلُو من رائحة نَصَبٍ ونُفورٍ عن أهل البيت الكِرام، كما يَدُلُّ عليه تجنُّبُه الرِّوايةَ عن أئمَّتِهم في "صحيحه"، مع روايته عن أعدائهم! بل عمَّن تَشهَدُ الآثارُ والنُّصوصُ بانسلاخهم من الإيمان جُملةً
واحدةً، لا سيَّما ومُحمَّدٌ، النَّفسُ الزَّكيَّةُ رضي الله عنه، راوي هذا الحديث، قد كان خَرَج على بني العَبَّاس، خُلفاءِ عصرِ البُخارِيِّ وحُكَّامِه، وأُولي الأمر فيه، وهم أعداءُ بني عليٍّ، وذُريَّةِ الزَّهراء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-. فللَّه الأمر من قبل ومن بعد. أمَّا زَعمُ أنَّ رُكبتَي البعير في يده، فأوَّل من تولَّى كِبرَ ذلك الباطلِ، على ما أظُنُّ، هو الطَّحاوِيُّ، في "مُشكِل الآثار"، فإنَّه عقد للإشكال الوَارِد في هذا الحديث بابًا منه، فقال: "حدَّثَنا صالحُ بنُ عبد الرَّحمن ابن عمرو بن الحارث الأنصاريُّ، ثنا سعيدُ بن منصُورٍ، ثنا عبدُ العزيز ابنُ مُحمَّدٍ الدَّرَاوَردِيُّ
…
-بسنده ومتنه، ثُمَّ قال:- فقال قائلٌ: هذا الكلامُ مستحيلٌ؛ لأنَّه نهاه إذا سجد أن يَبرُكَ كما يَبرُكُ البعيرُ، والبعيرُ إنَّما يبرُك بيديه، ثُمَّ أَتبَع ذلك بأن قال: ولكن ليضع يديه قبل ركبتيه، فكان ما في هذا الحديث، ممَّا نهاه عنه في أوَّله، قد أمَرَه به في آخرِه"، فتأمَّلْنا ما قال، فوجدناه مُحالًا، ووجَدنَا ما رُوي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مستقيمًا، لا إحالةَ فيه؛ وذلك أنَّ البعيرَ ركبتاه في يديه، وكذلك كلُّ ذي أربعٍ من الحيوان، وبنو آدم بخلاف ذلك؛ لأنَّ رُكبتَهم في أرجُلِهم، لا في أيديهم" ا. هـ.
ولم يَفعَل الطَّحاوِيُّ شيئًا، إلَّا أنَّهُ زادَ في الطِّين بِلَّةً، والإشكالُ في الحديث بحاله؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يَفعلَ الرَّجلُ كما يَفعلُ البعيرُ، والبعيرُ يَبرُك فيُقدِّم يديه، سواءٌ كانت فيهما رُكبتاه، أو كانتا في رجليه، فمَن قدَّم يده في السُّجود فقد فعل كفِعلِ البعير، وهو مَنهيٌّ عنه. وآخِرُ الحديث يَأمرُه بتقديم يديه. فالإشكال بعينه موجودٌ، سِوى أنَّه لم يَكُن
مضافًا إليها هذه السَّخَافة، في دعوى أنَّ رُكبة ذَوِي الأربع كلِّها في يدها، لا في رِجلها. والذي يقتضيه النَّظَرُ، ويقبَلُه العقلُ هو أنَّ الحديثَ انقلب على الدَّرَاوَردِيِّ، بتفرُّدِه بتلك الزِّيادة فيه، عن مُحمَّدِ بن عبد الله بن حسنٍ؛ لأنَّ عبدَ الله بنَ نافعٍ الصَّائغَ رواه عنه بدونها، فثَبَتَ أنَّها من الدَّرَاوَردِيِّ، وهو وإن كان من رجال الصَّحيح، إلَّا أنَّه يَهِمُ إذا حدَّث مِن حفظِه، كما قال أحمدُ بنُ حنبلٍ، وزاد أنَّه:"ليس بشيءٍ، وإذا حدَّث مِن حفظِه جاء بالبواطيل"، قلتُ: وهذا منها. وقال أبو حاتمٍ: "لا يُحتَجُّ به". وقال أبو زُرعة: "سيِّءُ الحِفظ". ولمَّا ذكره الذَّهَبِيُّ في "الميزان"، قال:"هو صدوقٌ، من عُلماء المدينة، وغيرُهُ أقوى منه". وقال أحمد أيضًا: "كان يقرأُ من كُتُبِ النَّاس فيُخطِئ، وربَّما قلَبَ حديثَ عبدِ الله ابن عُمَر فيرويه عن عُبيد الله بن عُمر". وقال النَّسَائِيُّ: "ليس بالقويِّ". وقال ابنُ سعدٍ: "ثقةٌ كثيرُ الحديث يَغلَطُ"، ولذا لم يُخرِّج له البُخارِيُّ إلَّا مقرُونًا بغيره. وفيه كلامٌ أكثرُ من هذا. فلم يبق شكٌّ، في أنَّ الوهمَ في هذه اللَّفظةِ الباطلةِ منه، لا سيَّما وقد رَوى الحديثَ ثقةٌ آخرُ، عن شيخه، فلم يأتِ بها. وبهذا تَعلَمْ تَحَامُلَ البُخارِيِّ رحمه الله على أهل البيتِ؛ فإنَّه أعلَّ الحديث بالنَّفسِ الزَّكيَّة، البريءِ من الحديث، وسَكَت عن تعليلِه بالدَّرَاوَردِيِّ، المُتفرِّدِ عنه بتلك الزِّيادة" انتهى كلامه.
• قلتُ: والجوابُ عن هذا "الخَطَلِ" من عَشَرَةِ وُجوهٍ:
* الأوَّلُ: أنَّ المُنَاوِيَّ أخطأ عندما قال إنَّ البُخاريَّ، والتِّرمِذِيَّ أعلَّاه بمُحمَّد بن عبد الله بن حَسنٍ؛ لأنَّ هذا يعني أنَّهُما ضعَّفَاه، أو تَكَلَّما فيه.
ومن الغرائب أنَّ الغُمَارِيَّ، مع حِرصِه على تعقُّب المُنَاوِيِّ في الذَّرَّة ومِثقالِ الذَّرة، لم يتعقَّبهُ في هذا؛ حتَّى يتسَنَّى له أن يَغمِز البُخارِيَّ، كما رأيتَ في كلامِه. والأغربُ من هذا، أنَّه نَقَلَ كلامَ البُخَارِيِّ بنصِّه من كتاب "التَّاريخ الكبير"، إذ قال:"لا يُتابَع عليه، ولا أدري: سمع من أبي الزِّناد، أم لا"، فالبُخارِيُّ أعلَّ الحديثَ بعِلَّتين: الأولى: أنَّ مُحمَّدَ ابنَ عبدِ الله بنِ حَسَنٍ لم يُتابَعْ عليه، والثَّانية: توقُّفُه في صِحَّة سماعه من أبي الزِّناد. إذن، فألمسألة مُتعلِّقَةٌ بالرِّواية.
أمَّا الرَّاوي، فإنَّ رِوايتَه لا تَخرُج عن ثلاثة أنواعٍ: إمَّا أن يُتابَعَ، وإمَّا أن يُخالَفَ، وإمَّا أن يتفرَّدَ. وكلامُنَا هنا عن النَّوع الثَّالث، وهو التَّفرُّدُ. فحُكْمُ العُلماء أنَّ المتفرِّد إذا كان ضابطًا حافظًا، وتفرَّدَ عن شيخٍ، أنَّ تفرُّدَه مقبولٌ، ما لم يَقُم دليلٌ على وَهَمِهِ. ومُحمَّدُ بنُ عبد الله بن حسنٍ وثَّقَه النَّسائيُّ، وابنُ حِبَّان، ولا نعلم أحدًا جَرَحَه فيما يتعلَّقُ بالرِّواية، ولكنَّه كان مُقِلًّا، ولم يَجرَحهُ البُخاريُّ، ولا التِّرمِذِيُّ، ولا الدَّارَقُطنِيُّ، فما معنى قولِ هذا المُعتَدِي على الأئمَّةِ، الواقفِ على عتبات الرَّفضِ: إنَّ البُخاريَّ متحاملٌ على أهل البيت، ويُرَى منه "رائحةُ نَصَبٍ"؟!
* الثَّاني: سلَّمنا أنَّه جَرَحه، فهل يقول عاقلٌ: إنَّ هذا من العداء لأهل البَيت؟! وهل كلُّ من انتسب من المُتأخِّرين، على توالي القرون، لأهل البَيت من الثِّقاتِ العُدولِ، أم فيهم ضعفاءُ ومتروكون، بل وكذَّابُون؟! وعلى هذا، يُرَدُّ على كُلِّ الأئمة أقوالُهم في الرُّواة، فإذا جَرَح أحدٌ النُّقَّادِ راويًا ينتمي إلى مذهبٍ ما، قيل له: أنت مُتحامِلٌ عليه، كما
فعل الحنفيَّة مع المُحدِّثين، لمَّا جَرَحوا أبا حنيفة، ورَمَوهُ بسوء الحِفظ.
* الثَّالثُ: أنَّه أساء الأدبَ في خطابِه الأئمَّةَ، فهو يَزعُم أنَّ التِّرمِذِيَّ، والدَّارَقُطنِيَّ قلدا البُخارِيَّ في حُكمه، وهو يُكَرِّر هذا القولَ السَّاقطَ في جميع كُتُبه تقريبًا، وبكثرةٍ ملحوظةٍ في كتابه "المُداوِي" خاصَّةً. والرَّجُل كان يَدَّعي الاجتهادَ -ولا أدري إن كان المُطلَقَ أم لا؟! -، وكان يُحارِب التَّقليدَ حربًا لا هَوَادَةَ فيها، حتَّى أنَّه كان إذا تناول هذه المسألةَ حصل له ما يُشبِه الهَذَيَانِ إذا تكلَّم. وهو معذورٌ في أصل المسألة؛ لأنَّه وجد أنَّ رَانَ التَّقليدِ قد ضَرَبَ بِجِرَانِهِ على أُمَّتِنا من قرونَ طويلةٍ، ووجد عُلماءَ كبارًا كانوا يتجَلَّدُون حقَّ الجَلَادة في اتِّباع الأئمَّة، مع أنَّ دليلَ المُخالِف ظاهرُ الرُّجحان، لكنَّه يتمَحَّلُ في تأويله، ثُمَّ جاء بَعدَهُم عُلماءُ، لكنَّهم ليسوا كبارًا، بل يُشبِهُون أهل زمانهم، فتَعَبَّدُوا بالتَّقليد، وأنَّه لا يجُوزُ لأحدٍ أن يُخالِف إمامَه، وفَرَّعُوا مسائلَ على ذلك، وأنَّ الحَنَفيَّ مَثَلًا، أو غيرَه مِن مُتَّبِعِي المذاهب، إذا خالف مذهَبَهُ في مسألةٍ، إلى خِلَافِها في مذهبٍ آخرَ لرُجحان الدَّليل، هل يَبقَى حَنَفِيًّا أم لا؟ وتَجِدُ هذا الكلامَ في الكُتُب التي تُعنَى بالفتوى وأحكامها، في سلسِلَةٍ طويلةٍ من التَّفريعات، بعضُها مُثيرٌ للغَيظِ حقًّا. وجد الغُماريُّ القِصَّةَ هكذا، فانبَرَى يُحارِبهُا -وهو عَصَبيُّ المِزاج بطبعِهِ-، فتَفَوَّه بكلامٍ جارحٍ جدًّا، مَسَّ به علماءَ كبارًا، لمُجرَّد أنَّه فَهِم من كلامِهم ما يُخالِف فَهمَهُ. وخُذ هذه المسألةَ التي نُناقِشُها الآن مثلًا على ذلك. فهو يَدَّعِي أنَّ التِّرمِذيَّ، والدَّارَقُطنِيَّ قلَّدَا البُخارِيَّ في حُكمِه على مُحمَّد بن عبد الله بن حَسَنٍ، مع أنَّ البُخارِيَّ، ومعه الإمامان، لم يَحكُمَا عليه، إنَّما
حَكَما على رِوايته، كما مرَّ في الوجه الأوَّلِ. وقد اتَّفَق أهلُ العِلم جميعًا على أنَّ هؤلاء الأئمَّةَ من كبار المُجتَهِدِين، وأنَّهم إذا اتَّفَقُوا على كلمةٍ في راوٍ فهذا يعني أنَّ كُلَّ إمامٍ سَبَرَ مَروِيَّاتِ هذا الرَّاوِي، على عادَتِهم في ذلك، ثُمَّ خَرَج بهذا الحُكمِ عليه. ولا يَعنِي هذا أنَّهُم كانوا يَحكُمون على الرُّواة دُون النَّظَرِ إلى ما قاله أهلُ العلم السَّابِقِينَ عليهم فيه، بل كانُوا يَنقُلُون كلامَهم، موافقين لَهُم عليه، لا مُقلِّدين، مثلما يَفعَلُ الغُمارِيُّ وغيرُه إذا تَبَنَّوْا حُكمًا على راوٍ ما، أو حُكمًا فِقهيًّا، فهو مسبوقٌ إلى القول الذي انتَحَلَهُ قَطعًا، فلو قُلتَ له: أنتَ مُقلِّدٌ في هذا الحُكم لأنك مسبوقٌ، لأَنكَرَ عليكَ غايةَ الإنكار، وقال: أنا وافقتُهُم في هذا بعد بحثٍ وتَحَرٍّ، ولا يستطيعُ أن يقول غيرَ ذلك، وإلَّا رَمَى نفسَه بالتَّقليد. وقد تقدَّم ما يَدُلُّ على الذي سيحصُل لك إذا رمَيتَه بهذا!
نعم! قد يُقلِّد العالمُ غيرَه من أَهلِ الاجتهادِ إذا لم يَكُن له رأيٌ في المسألةِ، لكنَّهُ يكونُ بصيرًا عادةً بما يختارُهُ من قولِ من سَبَقُوه، وإن لم يكن له رأيٌ خاصٌّ. ولكن، تبقى هذه المسألةُ من النَّادِر الذي لا يُقاسُ عليه. والمسائلُ المتعلِّقة بالاجتهادِ والتَّقليدِ كثيرةٌ مُتشعِّبةٌ، وفيها تفصيلٌ كثيرٌ، والحقُّ وَسَطٌ دائمًا بين طَرَفي نقيضٍ.
فهذه الدَّعوى الباطلةُ: أنَّ المُتأخِّرَ لا بُدَّ أن يُقلِّد المتقدِّم إذا وافقه في القول، لا تَنطَبِقُ على الأئمَّة القُدامَى، فهم أهلُ الاجتهادِ حقًّا. فجَرَّهُ عدمُ التزام العدلِ أن يُسَوِّي بين أهل الاجتهاد من المتقدِّمين، وأهلِ التَّقليدِ من المُتأخِّرين.
ثُمَّ ماذا يقولُ هذا المُعتَدِي على الأئمَّة فيما فَعلَهُ الدَّارَقُطنِيُّ مثلًا في كتابَيه "الإلزامات" و "التَّتَبُّع"، من إلزام الشَّيخين، وتعقُّبِهِما في أحاديثَ في "صحيحَيهما". وأنا أخشى لو كان حيًّا أن يَقُولَ: تعقَّبَهُما للشُّهرة، وإلَّا لو صَوَّبَ صَنِيعَهُ لنَقَضَ قولَه: إنَّه مُقَلِّدٌ للبُخاريِّ، أو لغيرِه ممَّن سَبَقُوه.
وقد رأيتُهُ رَدَّ كلامًا للنَّسائِيِّ، وأبي حاتمٍ، وأبي زُرعَة وغيرِهم، بعبارَةٍ خَشِنَةٍ؛ لأنَّ ابنَ مَعِينٍ، وأحمدَ سَبَقُوا إلى جرحِ راوٍ، وافَقَهُمَا عليه هؤُلاء الأئمةُ، وقال: هُم مُقَلِّدُون لَهُما. وإنَّما أُتِيَ مِن كَونِهِ لا يَعرِف أقدارَ الأَئِمَّة المُتقَدِّمِين، وليس عِندَهُ خَبرٌ بسِعَةِ عِلمِهم، وهذا رُبَّما يُشِير إلى ما عِندَه مِن بَأْوٍ، وإِنَّما "يَعرِف الفضلَ لأهل الفَضلِ ذَوُو الفَضلِ".
فهذا الرَّجُل غريبٌ جدًّا في أطواره، لا يُراعِي لأحدٍ يُخالِفه حُرمةً، ونادرًا ما يَعتَرِفُ لمخالِفِه بالفضلِ في شيءٍ إذا غَضِب عَلَيه. نعوذُ بالله من الخُذلَان.
* الرَّابع: قولُه عن تَفَرُّد مُحمَّدِ بنِ عبد الله بن حَسَنٍ: "وهَبْ أنَّه لم يُتابِعه أحدٌ، فماذا يضُرُّه؟! وكم خرَّج البُخارِيُّ في "صحيحه" لأفرادٍ لم يُتابِعهم أحدٌ" ا. هـ.
فَهذا القولُ يُنبِيْكَ عن عِلمِ الغُمارِيِّ. فهل يقولُ عالمٌ: إنَّ الرُّواةَ على دَرَجةٍ واحدةٍ من الضَّبط والإِتقانِ، بحيثُ يُقبَلُ تفرُّدُ كلِّ ثِقةٍ، ولو قَبِل تفرُّدَ بعضِ الرُّواة، ورَدَّ البعضَ الآخرَ عُدَّ متناقضًا؟!
فالبُخارِيُّ مثلًا إذا قَبِلَ تفرُّدَ راوٍ، وأَدخله في "كتاب الصَّحيح"، فلا بُدَّ أن يكون الحديثُ محفوظًا عنده، وهو محفوظٌ عند سائر العُلماء الذين جاءُوا بعدَه، وقَرَؤُوا "صحيحه"؛ إذْ لم يتعقَّبُوه في هذا. فهل نُسَوِّي بين
تَفرُّدِ الرَّاوي في أحد "الصَّحيحين"، وبين وُجود الحديث في كتابٍ آخرَ لإمامٍ لم يَدَّع الصِّحَّة في كتابه كالشَّيخين، أمثالِ أصحابِ السُّنَن، وغيرِهم؟! وكَم من أحاديثَ رَدَّها البُخاريُّ ومُسلِمٌ وغيرُهما لأئمَّةٍ كبارٍ، كمالكٍ، والسُّفيانَينِ، والحَمَّادَين، ومَعمَرٍ، وغيرِهم من الثِّقات، وقالوا: وَهِمَ فيه فلانٌ، مع أنَّه من جِبال الحِفظ. فهل يعني أنَّ البُخاريَّ إذا خرَّج رواياتٍ لرواةٍ انفَرَدُوا بأحاديثَ، أَن أُلزِمَهُ بأن يَقبَل تفرُّدَ كُلِّ راوٍ ثقةٍ، وإلَّا عُدَّ مُتناقِضًا؟!
أمَّا كلامُهُ عن "نَصَب" البُخارِيِّ، وأنَّه يَروِي عن "أعداء" أهل البَيتِ، في الوقت الذي تَجَنَّب الرِّواية عن أكابِرِهم، فلا نُسَوِّدُ وجه القِرطَاسِ بالرَّدِّ عليه، إذ المِدادُ أغلى مِن أَن نُهدِرَهُ في رَدِّ هذا الهَذَيَان، بل الكَذِبِ الصُّرَاحِ على البُخارِيِّ، والأَمرُ كما قال الله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، وكما قال أبو العَتاهِيةِ:
إِلَى دَيَّانِ يَومِ الدِّينِ نَمضِي
…
وَعِندَ الله تَجتَمِعُ الخُصُومُ
* الخامس. أنَّه دفع تعليلَ البُخَارِيَّ بتفرُّد مُحمَّد بن عبد الله، فقال:"لم ينفرد به؛ فتابعه عبدُ الله بن سعيدٍ المَقبُرِيُّ، عن أبيه، عن أبي هُريرَةَ".
وأنا مُضطرٌّ هنا أن أَذكُر ما يعرفه صبيان المُتعلِّمين، أنَّ هذه ليست متابعةً. ومُحمَّدُ بنُ عبد الله بن حسنٍ إنَّما يرويه عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة. بينما عبدُ الله بنُ سعيدٍ يرويه عن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن أبي هُريرَة. فهذان إسنادان مُختَلِفان عن أبي هُريرَة. فحتَّى يتمَّ ردُّ تعليلِ البُخَارِيِّ، لا بدَّ أن تكون المتابَعةُ لمُحمَّدٍ تامَّةً، فيرويه عبدُ الله بنُ
سعيدٍ -مَثَلًا-، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة، فأين المُتابَعةُ إذن؟!
سلَّمنا أنَّه تابعه متابَعةً تامَّةً، فلم يَقُل لنا الغُمارِيُّ ما حالُ عبدِ الله بنِ سعيدٍ المَقبُرِيِّ؟! فاسمع ما قاله الأئمَّة فيه.
قال يحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ: "جلستُ إلى عبد الله بن سعيد بن أبي سعيدٍ مجلِسًا، فعرَفتُ فيه الكَذِبَ". وقال أحمدُ: "مُنكَر الحديث، متروكُ الحديث"، وكذلك قال عَمرُو بنُ عليٍّ. وقال ابنُ مَعِينٍ:"ضعيفٌ، ليس بشيءٍ، لا يُكتَب حديثُه". وقال البُخاريُّ: "تَرَكوه". وقال النِّسَائِيُّ: "ليس بثقةٍ". وقال أبو زُرعة الرَّازِيُّ: "ضعيفُ الحديث، لا يُوقَفُ منه على شيءٍ". وقال الحاكمُ أبو أحمدَ: "ذاهبُ الحديث". وقال ابنُ عَدِيِّ: "عامَّةُ ما يرويه الضَّعفُ عليه بيِّنٌ". وقال ابنُ حِبَّان: "كان مِمَّن يقلبُ الأخبارَ، ويَهِمُ في الآثارِ، حتَّى يسبقَ إلى قلبِ من يسمَعُها أنَّه كان المُتَعَمِّدَ لها".
فلِمَ ذَكَر الغُمارِيُّ هذه المُتابَعة، ولم يُبَيِّن حال راويها: أهو مِمَّن تنفع متابعتُه أم لا؟!
* السَّادس: قولُه: "والذي يَقتَضِيهِ النَّظَرُ، ويقبَلُهُ العقلُ هو أنَّ الحديثَ انقَلَبَ على الدَّرَاوَردِيِّ؛ بتفرُّدِهِ بتلك الزِّيادَةِ".
فهذا القولُ مِمَّا يُتَفكَّهُ به، وهو مردودٌ بداهةً؛ إذ ليس عليه ثَمَّةَ دليلٌ، وحَسبُك أنَّ أحدًا لم يتفوَّه به، مع كثرة من تَكلَّم في هذه المسألة، وهذا بحقِّ الدَّرَاوَردِيِّ.
والغُمَارِيُّ أخذ هذه الدَّعوَى من ابنِ القَيِّم، لكن ابن القَيِّم احتاط لِنَفسِهِ في العِبارة، وعبارتُهُ في "الزَّاد" (1/ 226):"وكان يَقَعُ لي أنَّ حديثَ أبي هُرَيرَةَ كما ذكَرنَا، ممَّا انقَلَبَ على بعض الرُّواةِ متنُه وأصلُه، ولعله: "ولْيَضَع رُكبَتَيهِ قبل يَدَيهِ"، كما انقَلَبَ على بعضهم حديثُ ابنِ عُمَر: "إِنَّ بِلالًا يُؤَذِّنُ بليل، فكُلُوا واشرَبُوا حتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أُمِّ مكتومٍ"، فقال: "
…
ابنَ أُمِّ مَكتُومٍ يُؤَذِّنُ بليلٍ، فكُلُوا واشرَبُوا حتَّى يُؤذِّنَ بِلالٌ". وكما انقَلَب على بعضِهم حديثُ: "لا يزَال يُلقَى في النَّارِ، فتقُولُ: هَل مِن مَزِيدٍ
…
-إلى أن قال:- وَأَمَّا الجَنَّةُ فَيُنشِئُ اللهُ لها خَلقًا يُسكِنُهُم إيَّاهَا"، فقال: "وَأَمَّا النَّارُ، فيُنشِئُ اللهُ لها خلقًا يُسكِنُهم إِيَّاها"، حتَّى رأيتُ أبا بكرٍ ابنَ أبي شَيبَة قد رواه كذلك، فقال ابنُ أبي شَيبَة: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن فُضيلٍ، عن عبد الله بن سَعِيدٍ، عن جَدِّه، عن أبي هُريرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: إذا سَجَدَ أحدُكم، فليبدأ برُكبتَيه قَبل يَديه، وَلا يَبرُك كَبُرُوكِ الفَحلِ" انتهَى.
• قلتُ: هذا كلامُ ابنِ القَيِّم رحمه الله، وفيه نَظَرٌ عريضٌ؛ لأنَّ الأحاديثَ التي ذَكَرَهَا قام الدَّليلُ على أنَّها ممَّا انقَلَب على الرَّاوِي -مع أنَّ حديث أذانِ بلالٍ عارَضَ في دَعوَى القَلبِ فيه الحافظُ في "الفتح"، ورَدَّ على ابن عبد البَرِّ وغيرِهِ هذه الدَّعوَى-. ومِثلُهُ ممَّا لَم يَذكُرهُ ابنُ القَيِّم حديثُ مُسلِمٍ:"ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بشمالِهِ، حتَّى لا تَعلَمَ يمينُهُ ما أَنفَقَت شمالُهُ"، وهذا مقلوبٌ -كما حرَّرتُهُ في الحديث رقم (142) من هذا الكتاب-. فليس معنى أنَّ أحاديثَ قُلِبَت على بعض الرُّواةِ أن يكون حديثُنا مِن هذا الضَّرْب. بَيْدَ أنَّ ابنَ القَيِّم استدلَّ على انقلاب الحديثِ
على رَاوِيهِ بما رواه عبدُ الله بنُ سعيدٍ المَقبُرِيُّ، عن جَدِّه، عن أبي هُريرَة، مرفُوعًا:"إذا سَجَدَ أحدُكُم فليبدأ برُكبَتَيهِ قبل يديه، ولا يَبرُك كَبُرُوك الفَحلِ". ولا يَجُوزُ أن يُستَدَلَّ بمِثل هذا؛ لأنَّ عبدَ الله بنَ سعيدٍ سَاقِطُ الحديثِ، متروكٌ -كما مَرَّ ذِكرُه في الوجه السَّابق-. فلا تَثبُت دعوى ابنِ القَيِّم، ولذلك رَدَّ عليه مُلَّا عَلِي القَارِي في "مَرقَاة المفاتيح" (1/ 552) بقوله:"ودَعوَى ابنِ القَيِّم أنَّ حديث أبي هُريرَة انقلبَ متنُه على راويه فيه نَظَرٌ؛ إذ لو فُتِح هذا البابُ لم يَبقَ اعتمادٌ على رِوايةِ راوٍ، مع كونِها صحيحةً" انتهى.
* السَّابع: قوله: "أمَّا زَعمُ أنَّ رُكبتي البعير في يده، فأوَّلُ من تولَّى كِبرَ ذلك الباطلِ، على ما أظنُّ، هو الطَّحاوِيُّ
…
" انتهى.
فهذا هو الظَّنُّ الباطلُ بعينه، والظَّنُّ أَكذَبُ الحديث. وقد سَرَدتُ لك فيما مضى جملةً من الأحاديث الصَّحيحة، أوَّلُها فيه نصٌّ صريحٌ قاطعٌ من سُراقة بن مالكٍ، لمَّا قال:"وساخت يدا فَرَسِي في الأرض، حتَّى بلغَتَا الرُّكبتين"، فدلَّ على أنَّ رُكبة البعير في يده، وأحاديثَ أُخرى صحيحةً دلَّت على أن البُروكَ إنَّما يكون على الرُّكبة. ولا يجوز، لا شرعًا، ولا لغةً، أن يقول قائلٌ: بَرَك فلانٌ على يديه، إلَّا إذا كان أعجميَّ الفَهم. وقد نصَّ سائرُ علماء اللُّغة في "معاجمهم"، على أنَّ رُكبةَ كلِّ ذي أربعٍ في يديه، وعُرقوباه في رجليه، ولم يُخالِف في هذا أحدٌ نعلمُهُ.
ومن الطَّريف قولُ الغُمَارِيِّ: "والبعير يَبرُكُ، فيُقدِّم يديه، سواءٌ كانت فيهما رُكبتاه، أو كانتا في رجليه".
ولم يقُل أحدٌ من بني آدم نعلمُهُ: إنَّ الرُّكبةَ يُمكنُ أن تكون في رِجلَي البعير الخَلفِيَّتَين، إنَّما يُسمِّيها النَّاس "عُرقُوبًا". وإنَّما سُمِّيت الرُّكبةُ رُكبةً لأنَّ صاحبَها يَركَبُها، ويَعتَمِدُ عليها إذا نزل.
* الثَّامن: قولُه "هذه السَّخافة، في دَعوَى أنَّ رُكبة ذَوِي الأربع كلِّها في يدها
…
الخ".
أقولُ: قد ذكرتُ لك قَبلَ ذلك من قال بأنَّ رُكبة ذوي الأربع في يديها، وأنَّهم كلُّ علماء اللُّغة، وهم فضلاءُ أجِلَّاءُ، من أصحاب النَّظَر الصَّحيح، بخلاف من يَخبِطُ خَبطَ عشواء، ويَركَبُ في دعواه الظَّلماء، وقد عَرَفنا من هو السَّخيفُ حقًّا!!
* التَّاسع: وهو أنَّه ذكر كلامَ العُلماءِ في الدَّرَاوَردِيِّ، ونَقَل القَدْحَ فيه، ثُمَّ قال: "وفيه كلامٌ أكثرُ من هذا. فلم يبق شكٌّ، في أنَّ الوَهَمَ في هذه اللَّفظة الباطلة منه، لا سيَّما وقد رَوى الحديثَ ثقةٌ آخرُ عن شيخِه، فلم يأتِ بها. وبهذا، تَعلَم تَحامُل البُخارِيِّ
…
الخ".
• قلتُ: لقد عدَّ العُلماءُ من ضُروب الخيانة العِلمية أن يَذكُر المرءُ الجرحَ في الرَّاوي دون التَّعديل، وهذا المُعترِض ذَكَر أقوالَ العُلماء الذين جَرَحوا الدَّرَاوَردِيَّ، فنقل قولَ النَّسائِيِّ:"ليس بالقويِّ"، وترك قولَه الآخرَ:"ليس به بأسٌ، وحديثُه عن عُبيد الله بن عُمر مُنكَرٌ". ولم يَنقُل قولَ ابنِ مَعِينٍ رأسًا، وقد قال فيه:"ثقةٌ حُجَّةٌ"، وقال مرَّةً:"ليس به بأسٌ"، وسُئل: فسُليمانُ بنُ بلالٍ أحبُّ إليك، أو الدَّرَاوَردِيُّ؟ فقال:"سُليمانُ. وكلاهما ثقةٌ". ووثَّقَه العِجِليُّ، وابنُ حِبَّان، وقال: "كان
يُخطئ". وقال ابنُ المَدِينِيِّ: "ثِقةٌ ثَبتٌ". وبدأ الذَّهَبيُّ ترجمَتَهُ في "الميزان" بقوله: "صدوقٌ. غَيرُهُ أقوى منه"، ثُمَّ عَلَّم بما ما يَدُلُّ على أنَّ الرَّاجِح في أمره التَّقوِيَةُ.
ثُمَّ قولُهُ: "غيرُهُ أقوى مِنهُ" لا تَدلُّ على الجرح، إلَّا عِندَ من يُعرَف عنه أنَّها جَرحٌ كالبَرْدِيجِيِّ مثلًا.
* العاشرُ: قولُ الغُمارِيِّ: "وقد رَوَى الحديثَ ثقةٌ آخرُ، عن شيخه، فلم يأت بها".
فهذا الثِّقةُ الآخَرُ هو عبدُ الله بنُ نافعٍ الصَّائغُ، وقد وثَّقَه ابن مَعِينٍ، والنَّسائِيُّ في روايةٍ. وقال أبو زُرعَة، والنَّسائِيُّ:"ليس به بأسٌ". وقال أحمدُ: "لم يَكُن في الحديث بذاك". وقال أبو حاتمٍ: "ليس بالحافظ، وهو ليِّنٌ في حِفظِه، وكتابُهُ أَصحُّ"، وكذلك قال ابنُ حِبَّانَ.
وقال البُخارِيُّ: "في حفظه شيءٌ، يُعرَف حفظُه ويُنكَر، وكتابُهُ أصحُّ". فهل مِثلُ هذا يُقال فيه "ثقةٌ"، هكذا بإطلاقٍ، كأن ليس فيه نَوعُ جَرحٍ؟! ولستُ أسعى ببحثي هذا أن لا أعتدَّ بروايته، كلَّا، لكنِّي قصدتُ الرَّدَّ على الغُمارِيِّ في تَجَنِّيهِ على العُلماء، وله مِن أمثال هذا كَثِيرٌ. على أنَّ رواية عبدِ الله بنِ نافعٍ المُجمَلةَ ستُرَدُّ حتمًا إلى روايةِ عبد العزيز الدَّرَاوَردِيِّ المُفصَّلةِ، كما سبق وأشرتُ إليه.
ولعلَّ الدَّهشةَ تَعقِد لسانَك، وتَحتَوِي جَنَانَك، عندما تراه يَتكَلَّم عن الدَّرَاوَردِيِّ، فجَعَل يسوقُ قولَ الجَارِحِين، ويُكثِّر عَدَدَهم، ليدلُّك على أنَّ روايتَه مُنكَرةٌ، فهلَّا اكتفَى بواحدٍ مُتقدِّمٍ جَرَحَهُ، إذ -على مذهبه
الذي أَشَرنَا إليه في الوجه الثَّالث- أنَّ المُتأخِّرَ يُقَلِّد المُتقدِّم؟! لكنَّه لمَّا احتاج إلى الطَّعن فيه جَمَعَ جَرَامِيزَهُ، ليُرِي القارئَ أنَّ الرَّجُل لا تُقبَل روايتُه. وهكذا تكون "الأمانة" عند الغُماريِّ.
وصَدَق أبو الطَّيِّب، إذ قال:
وَمَن جَهِلَت نَفسُهُ قَدرَهَا
…
رَأَى غَيرُهُ مِنهُ مَا لَا يَرَى
ووالله! لو تَفَرَّغتُ لكتابه هذا، وحَاكَمتُهُ إلى القواعد الِعلميَّة التي أَسَّسَها عُلماؤُنا، لكان كِتابُه "فضيحةً"، ولو كان عندي من الوَقتِ سَعَةٌ لوَضَعتُ على كتابه كتابًا يُساوِيه في مُجَلَّداته، وسَمَّيتُه "الكاوي على المُداوِي"، وكما يُقال: آخر الطِّبِّ الكَيُّ! فليَقُم بهذا أحدُ تلاميذنا النَّابهين. والحُكم لله العَليِّ الكبيرِ.
وقد فصَّلتُ الكلامَ عن هذه المسألةِ تفصيلًا، ورددتُ على كلِّ مَن كتب فيها، في كتابِي "نهي الصُّحبة عن النُّزول بالرُّكبة"، في طَبعَتِه الجديدة، التي سأدفَعُها إلى المطبعة قريبًا، إن شاء الله تعالى.
32 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن حَجَّ هَذَا البَيتَ، فَلَم يَرفُثْ، وَلَم يَفسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ وَلَدَتهُ أُمُّهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه البُخاريُّ (3/ 302، 304)، ومُسلمٌ (1350)، من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه.
33 -
سُئلتُ عن حديث: صلاة حِفظ القُرآن.
• قلتُ: هذا حديث مُنكَرٌ باطلٌ.
يرويه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، وعِكرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّه قال: بينما نَحنُ عِندَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ جاءَهُ عليُّ بن أبي طالِبٍ، فقال:"بِأَبِي أنتَ وأُمِّي! تَفَلَّت هذا القُرآنُ مِن صَدري، فما أَجِدُنِي أَقدِرُ عَلَيه"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا الحَسَن! أَفَلَا أُعلِّمُك كَلِماتٍ، يَنفَعُك اللهُ بِهِنَّ، ويَنفَعُ بهنَّ مَن علَّمْتَه، ويُثبِّتُ ما تَعَلَّمتَ في صَدرِك؟ "، قال:"أَجَل، يا رسُولَ الله! فعلِّمْنِي"، قال:"إذَا كانَ ليلةُ الجُمُعةِ، فإن استطَعتَ أَن تَقُومَ في ثُلُث اللَّيل الآخِرِ؛ فإنَّها سَاعَةٌ مَشهُودةٌ، والدُّعاء فِيهَا مُستَجَابٌ، وقد قال أَخِي يعقُوبُ لبَنِيهِ: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]، يقُولُ: حتَّى تَأتِي لَيلةُ الجُمُعة، فإن لم تَستَطِع فقُم فِي وَسَطِها، فإن لم تَستَطِع فقُم في أوَّلها. فَصَلِّ أربعَ رَكْعاتٍ، تَقرَأُ في الرَّكعة الأُولَى بـ "فاتِحَةِ الكِتابِ" وسُورَةِ "يس"، وفي الرَّكعة الثَّانيَة بـ "فاتِحَةِ الكِتاب" وبـ "حم الدُّخَان"، وفي الرَّكعة الثَّالِثَة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "آلم * تَنزِيلُ السَّجدة"، وفي الرَّكعَة الرَّابِعةِ بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "تَبارَكَ المفصَّل". فإذا فَرَغتَ من التَّشهُّد، فاحمَدِ اللهَ، وأَحسِن الثَّنَاءَ على الله، وصَلِّ عليَّ وأَحسِن، وعَلَى سائِرِ النَّبِيِّين، واستَغفِر للمُؤمِنِين والمُؤمِنَات، ولإخَوانِك الذين سَبَقوك بالإِيمانِ، ثُمَّ
قُل في آخِرِ ذلِك: اللَّهُمَّ! ارحَمنِي بِتَركِ المَعَاصِي أبدًا ما أَبقَيتَنِي، وارحَمنِي أن أَتكلَّف ما لا يَعنِينِي، وارزُقنِي حُسنَ النَّظَر فيما يُرضِيك عَنِّي، اللَّهُمَّ! بَدِيعَ السَّمَاوات والأَرضِ، ذَا الجَلال والإِكرام، والعِزَّةِ التي لا تُرَامُ، أَسأَلُكَ يا اللهُ! يا رَحمَنُ! بجَلَالِكَ ونُورِ وَجهِك، أن تُلزِمَ قَلبِي حِفظَ كِتابِك كما عَلَّمتَنِي، وارزُقنِي أن أَتلُوَهُ على النَّحو الذي يُرضِيكَ عَنِّي، اللَّهُمَّ! بدِيعَ السَّمَاوات والأَرضِ، ذَا الجَلالِ والإِكرَام، والعِزَّةِ التي لا تُرَامُ، أسألُكَ يا اللهُ! يا رَحمَنُ! بجَلالِكَ ونُورِ وَجهِك، أن تُنَوِّر بِكِتَابِك بَصَرِي، وأن تُطلِقَ بِهِ لِسَانِي، وأن تُفَرِّج به عن قَلبِي، وأن تَشرَحَ به صَدرِي، وأن تَغسِلَ به بَدَنِي؛ فإِنَّه لا يُعِينُنِي على الحَقِّ غيرُك، ولا يُؤتِيهِ إلَّا أَنتَ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بالله العِليِّ العَظيمِ. يا أبا الحَسَن! فَافعَل ذلك ثَلَاث جُمَعٍ، أو خَمسًا، أو سَبعًا تُجَبْ بإِذن الله، والذي بَعَثَنِي بالحَقِّ! ما أَخطأَ مُؤمِنًا قَطُّ"، -قال عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ:- فوالله! ما لَبِث عليٌّ إلَّا خَمسًا، أو سَبعًا، حتَّى جَاءَ عليٌّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في مِثلِ ذلك المَجلِسِ، فقال: "يا رَسُولَ الله! إنِّي كُنتُ فيما خَلَا لا آخُذ إلَّا أربعَ آياتٍ، أو نَحوَهُن، وإذا قَرأتُهُنَّ على نَفسِي تَفَلَّتنَ، وأنا أَتَعَلَّمُ اليومَ أربَعِين آيةً وَنَحوَها، وإذا قَرأتُها على نَفسِي فكأنَّما كِتابُ الله بَين عَينَيَّ، ولقد كُنتُ أَسمَعُ الحديثَ، فإذا رَدَّدتُهُ تَفَلَّت، وأنا اليَومَ أَسمَعُ الأحاديثَ، فإذا تَحَدَّثتُ بها لم أَخرِم مِنهَا حَرفًا"، فقال له رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِند ذلك: "مُؤمِنٌ، ورَبِّ الكَعبةِ! يا أبا الحَسَن! ".
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (3570)، قال: حدَّثَنا أَحمَدُ بن الحَسَن ..
وابنُ أبي عاصِمٍ في "الدُّعَاء" -كما في "النُّكَت الظِّراف"(5/ 91) -،
ومِن طَرِيقِه الشَّجَرِيِّ في "الأَمَالِي"(1/ 113 - 114) قال: حدَّثَنا مُحمَّد ابن الحُسَين الرَّازِيُّ -وكان صَدُوقًا- ..
وعُثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّارِمِيُّ -كما في "النُّكُت"(5/ 91) -، ومِن طَرِيقِهِ الحَاكِمُ (1/ 316 - 317)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغِيبِ"(1270) عن عُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِمِيِّ ..
والحاكمُ أيضًا، وابنُ مَردَوَيهِ -كما في "النُّكَت"(5/ 91) -، والبَيهَقِيُّ في "الصِّفات"(673) عن أبي عبدِ الله البُوْشنْجِيِّ مُحمَّد بن إبراهيمَ العَبْدِيِّ ..
قالوا: ثنا سُليمانُ بنُ عبد الرَّحمن، قال: حدَّثَنا الوَلِيدُ بنُ مُسلِمٍ، قال: حدَّثَنا ابنُ جُرَيجٍ بهذا.
قال التِّرمِذِيُّ: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريبٌ. لا نَعرِفُهُ إلَّا مِن حديث الوليد بن مُسلِمٍ".
ووَقَعَ في "أطراف المِزِّيِّ" أنَّهُ قال: "حديثٌ غريبٌ". وهذا هو اللَّائِقُ بحال الحديث.
وتُوبع سُليمانُ بنُ عبد الرَّحمن ..
تابعه هِشامُ بنُ عَمَّارٍ، ثنا الوَلِيدُ بنُ مُسلِمٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، بهذا الإسناد بطُولِهِ.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "الأَفراد"، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعَات" (2 - 138 - 139) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بنُ الحَسَن بنِ مُحمَّدٍ المُقرِئُ، قال: حدَّثَنا الفَضلُ بنُ مُحمَّدٍ العَطَّارُ، قال: حدَّثَنا هِشامُ بنُ عَمَّارٍ بهذا.
قال الدَّارَقُطنِيُّ: "تفرَّدَ به هِشامٌ، عن الوليدِ".
كذا قال! ورِوَايَةُ التِّرمِذِيِّ ترُدُّ عليه.
• قلتُ: فقد رأيتَ -أَرَاكَ اللهُ الخَيرَ- أنَّهُ رواهُ عن الوَلِيدِ بنِ مُسلِمٍ اثنان:
* أوَّلُهما: سُليمانُ بنُ عبدِ الرَّحمن ابنُ بنتِ شُرَحبِيلَ، أحدُ الثِّقَات. والخَلَلُ في روايته يأتي من جِهَتَين:
الأُولَى: إذا رَوَى عن الضُّعَفَاء والمَجَاهِيل، وكان مِن أَروَى النَّاس عَنهُم، كما قال أبُو حَاتِمٍ. ومن كَثُر هذا مِنهُ دلَّ على قِلَّة تمَيِيزٍ، كما قال أبو حاتِمٍ:"وهو عِندِي في حدِّ لَو أَنَّ رجُلًا وَضَعَ له حدِيثًا لم يَفهَم، وكان لا يُميِّز".
الثَّانِيَةُ: قال يعقُوبُ بن سُفيانَ في "تاريخه"(2/ 406): "كان سُليمانُ صحيحَ الحديثِ، إلَّا أنَّهُ كان يُحوِّل، فإن وَقَعَ فيه شَيءٌ فَمِن التَّنَفُّل" انتهَى. وهذا أيضًا، مع أنَّهُ أَخَفُّ مِن قول أبي حاتِمٍ، إلَّا أنَّهُ يدُلُّ على عَجَلَةٍ، وقِلَّةِ مُبَالاةٍ. ولستُ أسعَى بهذا إلى تَضعِيفِهِ، إنَّما لِأُبيِّن كيف وَقَعَ له الوَهَمُ في هذا الحديثِ.
وقد عَلَّق الشَّيخُ العَلَّامةُ عبدُ الرَّحمن بنُ يَحيَى المُعَلِّمِيُّ على قَولِ يعقُوبَ ابنِ سُفيانَ، في حاشِيَتِهِ على "الفوائد المجمُوعَة"(ص 43) للشَّوْكَانِيِّ، فقال:"يَعنِي: أنَّ أُصُولَ كُتُبِهِ كانت صَحِيحةً، ولكنَّهُ كان يَنتَقِي مِنها أحاديثَ يَكتُبُهَا في أَجزاءَ، ثُمَّ يُحدِّث عن تِلكَ الأَجزَاءِ، فقَد يَقَعُ له خَطأٌ عِند التَّحوِيلِ، فيَقَعُ في بعضِ الأَحَادِيث في الجُزءِ خَطَأٌ، فيُحدِّث بِهِ. وَأَحسبُ بَلِيَّةَ هذا الخَبَر مِن ذاك، كأَنَّهُ كان في أَصلِ سُليمانَ خبرًا آخرَ، فيه: "حدَّثَنا الوَلِيدُ، حدَّثنا ابنُ جُرَيجٍ"، وعِندَهُ هذا الخَبَرُ بسَنَدٍ آخرَ إلى ابن جُرَيجٍ،
فانتَقَلَ نظَرُه عِند النَّقلِ مِن سَنَدِ الخَبَر الأَوَّل، إلى سَنَد الخبر الثَّانِي، فتَرَكَّبَ هذا الجُزءُ على ذاك السَّنَدِ، وكأنَّ هذا إنَّما اتَّفِق له أَخِيرًا، فلَم يَسمَع الحفاظُ الأَثبَاتُ كالبُخارِيِّ، وأبي زُرعَةَ، وأبي حاتِمٍ هذا الجُزءَ منه، ولو سَمِعَهُ أحدُهُم لنَبَّهَهُ، ليُراجِع الأصلَ" انتهَى.
وهذا الكَلَامُ النَّفِيسُ يؤَيِّدُه قولُ الذَّهَبِيِّ في "الميزان"(2/ 214): "فلعَلَّ سُليمانَ شُبِّه له، وأُدخِلَ عليه، كما قال فيه أبو حاتِمٍ: لو أنَّ رجُلًا وَضَعَ لَهُ حديثًا لم يَفهَم" انتهَى.
• قلتُ: وكان سُليمانُ مِنَ الحُفَّاظ المَشهُورِين بِسِعَةِ مَروِيَّاتِهم، وقد قال الجُوْزْجَانِيُّ:"كُنَّا عند سُليمانَ بنِ عبدِ الرَّحمن، فلَمْ يَأذَن لنَا أيَّامًا، فلمَّا دَخَلنَا عليه، قال: بَلَغَنِي وُرُودُ هذا الغُلام الرَّازِيِّ -يعني: أبا زُرعَةَ-، فدَرَستُ لِلِقَائِهِ ثَلاثَمِئَةِ ألفَ حديثٍ"، وهذا العَدَدُ مع ضخَامَتِهِ، فليس كُلَّ مُحفُوظِهِ. فإذا كان مُكثِرًا هكذا، وهُو مع ذلك مِن أَروَى النَّاس عن الضُّعَفَاء والمَجَاهِيل، فدُخُولُ الخَلَل في رواياته مُتَحَقِّقٌ، لا مَحَالَةَ. أمَّا خَطَؤُهُ في نفسه فكما يُخطِئُ النَّاسُ، كما قال أبو داوُد.
* أمَّا رِوايَةُ هشام بن عمَّارٍ، فقد مَرَّ بنا أنَّ الفَضلَ بن مُحمَّدٍ العَطَّارَ رواها عن هشامٍ، عن الوَلِيدِ بن مُسلِمٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، وعِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُ جماعَةٌ، فرَوَوهُ عن هشامِ بنِ عمَّارٍ، قال: ثنا مُحمَّدُ بنُ إبراهِيمَ القُرَشِيُّ، حدَّثَنِي أبو صالحٍ، وعِكرِمةُ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: قال عليُّ ابنُ أيي طالبٍ: "يا رسُولَ الله! القُرآنُ يَنفَلِتُ مِن صَدرِي"، فقال النَّبيُّ
-صلى الله عليه وسلم: "أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ، يَنفَعُك اللهُ بِهِنَّ، ويَنفَعُ مَن علَّمتَه؟ "، قال:"نَعَم! بأبي أنتَ وأُمِّي! "، قال:"صَلِّ ليلةَ الجُمُعةِ أَربَعَ رَكْعاتٍ، تَقرَأُ في الرَّكعة الأُولَى بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و"يس"، وفي الثَّانيَة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و"حمَ الدُّخَان"، وفي الثَّالثة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "آلم* تَنزيلُ السَّجدة"، وفي الرَّابعةِ بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "تَبَارَكَ المفصَّل". فإذا فرَغتَ مِن التَّشهُّدِ، فاحمدِ اللهَ، واثنِ عليه، وصَلِّ على النَّبِيِّين، واستَغفِر للمُؤمِنِين، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ! ارحَمنِي بِتَركِ المَعَاصِي أبَدًا ما أَبقَيتَنِي، وارحَمنِي مِن أَن أَتَكَلَّف ما يَعنِينِي، وارزُقنِي حُسنَ النَّظَر فيما يُرضِيك عَنِّي، اللَّهُمَّ! بَدِيعَ السَّماوات والأرضِ، ذا الجَلالِ والإِكرامِ، والعِزَّة التي لا تُرَامُ، أسأَلُكَ يا اللهُ! يا رحمنُ! بجَلَالِك ونُورِ وَجهِك، أن تُلزِم قَلبِي حُبَّ كِتابِك كما علَّمتَنِي، وارزُقنِي أن أَتلُوَهُ على النَّحو الذي يُرضِيك عَنِّي، وأَسأَلُك أن تُنَوِّر بالكِتابِ بَصَرِي، وتُطلِقَ به لِسَانِي، وتُفَرِّجَ به عن قَلبِي، وتَشرَحَ به صَدرِي، وتَستَعملَ بِهِ بَدَنِي، وتُقَوِّينِي على ذَلِك، وتُعِينَنِي عليه؛ فإنَّهُ لا يُعِينُنِي على الخير غيرُك، ولا يُوفِّقُ له إلَّا أنتَ. فَافعَل ذلك ثلاثَ جُمَعٍ، أو خَمسًا، أو سَبعًا، تَحفَظُهُ بإذن الله، وما أَخطَأَ مُؤمنًا قَطُّ"، فأتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بسَبعِ جُمَعِ، فأخبَرَهُ بِحِفظِهِ القُرآنَ والحديثَ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مُؤمِنٌ، وربًّ الكَعبَةِ! عَلِّم أبا حَسن، عَلِّم أبا حَسنٍ".
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 12036)، وفي "الدُّعاء" (1333) قال: حدَثَنا الحُسَين بن إسحاقَ التُّسْتَرِيُّ ..
وابنُ السُّنِّيِّ في "اليوم واللَّيلة"(579) قال: أخبَرَنَا عبدُ الله بن مُحمَّد ابن مُسلِمٍ، ومُحَمَّد بن خُرَيم بن مَروَانَ ..
والعُقَيليُّ في "الضُّعَفَاء"(5122) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ داوُد القُوْمَسِيُّ .. قالُوا: ثنا هشامُ بن عمَّارٍ بهذا.
ورِوايةُ الجَمَاعَةِ عن هِشامٍ أَولَى مِن رِوايَةِ الفَضلِ بن مُحمَّدٍ العَطَّارِ، لا سِيَّمَا وهذا اتَّهَمَهُ الدَّارَقُطنِيُّ بوَضعِ الحديثِ، وهو مِن مَشَايخ ابنِ عَدِيٍّ، وقد عَقَدَ له تَرجَمةً في "الكامل"(6/ 2043)، قال فيها:"حدَّثَنا بأحَادِيثَ، لم نَكتُبهَا عن غَيرِه. ووَصَل أحاديثَ. وسَرَق أحاديثَ. وزَادَ في المُتُون".
فالغريبُ أن يُعَصِّب ابنُ الجَوزِيِّ جِنايَةَ هذا الإسنادِ بشَيخِ الدَّارَقُطنِيِّ وَحدِهِ -وهو الرَّاوِي عن الفَضلِ-، فقال في "الموضُوعَاتِ":"أنا لا أَتِّهِمُ به إلَّا النَّقَّاشَ شيخَ الدَّارَقُطنِيِّ؛ قال طلحةُ بنُ مُحمَّد بن جَعفَرٍ: كان النَّقَّاشُ يَكذِبُ، وقال البَرقَانِيُّ: كُلُّ حديثِهِ مُنكَرٌ، وقال الخطيب: أحاديثُهُ مَنَاكِيرُ بأسانيدَ مشهُورَةٍ" انتهَى.
فرَدَّ عليه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ -كما في "اللَّآلئ المصنُوعَةِ"(2/ 67) - قائلًا: "هذا الكَلَامُ تَهَافُتٌ؛ والنَّقَّاشُ بريءٌ مِن عُهدَتِهِ؛ فإنَّ التِّرمِذِيَّ أخرَجَهُ في "جامِعِهِ"، مِن طريق الوَلِيدِ به" انتهَى.
• قلتُ: إنَّمَا تَبرَأُ عُهدَةُ النَّقَّاش إذا تابَعَهُ أحدٌ مُتابَعَةً تامَّةً. والصَّوَابُ في رواية هشَام بنِ عمَّارٍ، أنَّهُ يَروِيهِ عن مُحمَّد بن إبراهيمَ القُرَشِيِّ، عن أبي صَالِحٍ، وعِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وهذا الإسنادُ ضعِيفٌ جدًّا؛ ومُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ هذا تَرجَمَهُ العُقَيليُّ في
مَوضِع الحديث، وقال:"مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ، عن أبي صالحٍ: مَجهُولان جَمِيعًا بالنَّقل. والحديثُ غيرُ محفُوظٍ"، ثُمَّ خَتَمَ التَّرجَمةَ بقوله:"ليس يَرجِعُ مِن هذا الحديثِ إلى صِحَّةٍ، وكِلَا الحديثَينِ ليس لَهُ أصلٌ، ولا يُتابَعُ عَلَيهِ".
• قلتُ: كذا ذَهَب العُقَيليُّ إلى أنَّ أبا صالحٍ هذا مجهولٌ، وخالَف في ذلك ابنُ الجَوزِيِّ، فقال في "الموضُوعات" (2/ 458 - الطَّبعة الجديدة) عقب الحديثِ:"وأبُو صالحٍ لا نعلمُهُ إلَّا إسحاقُ بن نَجِيحٍ، وهو مترُوكٌ"، وأقرَّهُ السِّيوطيُّ في "اللّآليء"(2/ 66)، وهو ليس عندي كما قال ابنُ الجَوزِيِّ رحمه الله، بل هو عندي أبُو صالحٍ مولَى أُمِّ هانئٍ، واسمهُ: باذَانُ، أو: باذَامُ؛ فقد ذَكَرُوا أنَّه يَروِي عن عِكرمَة، وهو أعلَى طبقَةً من إسحاقَ بنِ نَجِيحٍ المَلطِيِّ. فالصَّحيح عِندي أنَّهُ مولى أُمِّ هانئٍ، وهو ضعيفٌ جدًّا، وقلَّ مَن رَضِيهُ. واللهُ تعالى أعلَمُ.
ولمَّا صحَّحَه الحاكمُ على شرطِ الشَّيخينِ، تعقَّبَهُ الذَّهبيُّ بقوله:"هذا حديثٌ مُنكَرٌ شاذٌّ، أخافُ لا يكون مَوضُوعًا، فقد حيَّرَنِي والله جَودةُ إسنادِهِ! "، ثمَّ ذكر الذَّهبيُّ سند الحاكِم، وقال:"ذَكَره الوليدُ مُصرِّحًا بقوله: "ثنا ابنُ جُريجٍ"، فقد حدَّث به سُليمانُ قطعًا، وهو ثَبتٌ".
وقال الذَّهبيُّ في "الميزان"(2/ 213 - 214)، في ترجمة:"سُليمانَ ابنِ عبد الرَّحمن"، وذَكَر هذا الحديثَ، قال:"وهُو مع نظافةِ سَنَدِه، حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا، في نفسِي مِنهُ شيءٌ، فاللهُ أعلَم، فلعلَّ سليمانَ شُبِّهَ له، كما قال فيه أبُو حاتمٍ: لو أنَّ رجُلًا وَضَع له حديثًا لم يَفهَم".
وقال المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(2/ 361): "طُرقُ وأسانيدُ هذا الحديث جيِّدةٌ، ومتنُه غريبٌ جدًّا" ا. هـ.
ولمَّا نَقَلَ ابنُ كثيرٍ في "فضائل القُرآن"(ص 291) تَحسِين التِّرمذيِّ، أردَفَهُ بقولِهِ:"كذا قال" يعني أنَّه يُنكِره عليه.
وقال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "لسان الميزان": "لعلَّ الوليدَ دلَّسَهُ عن ابن جُرَيجٍ، فقد ذَكَر ابنُ أبِي حاتمٍ في ترجمة: "مُحمَّدِ بنِ إبراهيم القُرَشيِّ" أنَّه روى عنه الوَلِيدُ بنُ مُسلمٍ، وهِشامُ بنُ عمَّارٍ" ا. هـ.
• قلتُ: وهذا الحديثُ مُنكَرٌ، وليس إسنادُهُ نظيفًا كما قال الذَّهبيُّ، ولا جيِّدًا كما قال المُنذِريُّ؛ فإنَّ الوليدَ بنَ مُسلِم دلَّسه ولم يُصرِّح بالتَّحديث إلَّا في شيخه حسبُ. والمعروفُ أنَّ مُدلِّسَ التَّسويةِ يلزَمُه التَّصريحُ بالتَّحديثِ في كُلِّ طبقات السَّنَد، وقد صرَّح بذلك جماعَةٌ مِن المُحقِّقين، مِنهُم الحافظُ في "الفتح"(2/ 318)، في حديثٍ آخرَ رواه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، فقال:"وقد صَرَّح بالتَّحديث في جميع الإسناد". فقول الذَّهبيِّ: "إنَّ الوليد صَرَّح بالتَّحديث" لا يَخفَى ما فيه؛ فإنَّ الوليدَ لا يُدَلِّسُ تَدلِيسَ الإسنادِ حسب حتَّى يُقال فيه ذلك.
وقد رأيتُ أبا حاتِمٍ الرَّازِيَّ سُئل عن حديثٍ -كما في "عِلَل وَلدِه"(1871، 2394) -، رواه بقيَّةُ بن الوليد، قال: حدَّثَنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ، وساق حديثًا. قال أبو حاتمٍ:"وكان بقيَّةُ يُدَلِّسُ، فظنُّوا هؤُلاء أنَّهُ يقولُ في كلِّ حديثٍ: حدَّثَنا، ولا يفتَقِدُون الخَبَر منه" ا. هـ.
ومَعنَى كلامِ أبي حاتمٍ -عندي- أنَّ علَّةَ الخَبَر هي مِن عَنعَنة بقيَّة بن الوليد؛ لأنَّهُ كان يُدَلِّسُ تدليسَ التَّسويةِ، فلا يقُولَنَّ أحدٌ: إنَّه صرَّح بالتَّحديث من ابن جُريجٍ، بل لا بُدَّ أن يُصَرِّح بالتَّحديث من فوق ابن جُريجٍ فصاعدًا، وهذا معنى قولِه:"لا يفتَقِدُون الخبر منه".
ونَقَلَ كلامَ أبي حاتمٍ هذا: الذَّهَبِيُّ في "الميزان"(4/ 298)، في ترجَمة:"هشام بن خالدٍ الأَزرَقِ"، ثُمَّ قال: "مِن ثقات الدَّمَاشقَة، ولكن يَرُوجُ عليه
…
-ثُمَّ قال، مُعقِّبًا على قول أبي حاتمٍ في تدليس بقيَّة:-هذا القولُ ينقُله إلى حديث حِفظِ القُرآن، فهو باطلٌ، وقد قال فيه: حدَّثَنا" انتهى.
• قلتُ: وأنا لم أَفهَم كلامَ الذَّهَبِيِّ. ولا أعلَمُ أنَّ بقيَّةَ روَى حديث حفظِ القرآن الذي نحن بصَدَدِ الكلام عنه، إنَّما رواه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، كما مَرَّ بك، وهو -أعني الوليدَ- يُدَلِّسُ تدليسَ التَّسويةِ كبقيَّةَ. فهل أراد الذَّهبيُّ أن يقُول: علَّةُ الخبرِ الذي رواه بقيَّةُ عن ابنِ جُريجٍ، مثلُ عِلَّة الخبرِ الذي رواه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ عن ابنِ جُريجٍ؟ فكلاهما صَرَّح بالتَّحديث من ابنِ جُريجٍ، وهذا لا يَكفِي، حتَّى يُصَرِّح بالتَّحديث في جميع الإسناد. هل أراد الذَّهَبيُّ هذا المعنَى؟! إن كان أرادَهُ فهذا يَرُدُّ قولَه المُتَقَدِّمَ آنفًا:"الوليدُ بنُ مُسلِمٍ صرَّح بالتَّحديث". وإن كان مرادُهُ غيرَ ذلك، فإنِّي لم أفهمه. والله أعلمُ.
ثُمَّ ابنُ جُريجٍ مدلِّسٌ أيضًا، وقد عنعنه من جميعِ طُرُقه، وتدليسُهُ قبيحٌ، كما قال الدَّارَقُطنِيُّ، فقد يكونُ أَسقَطَ مِن الإسناد مُتَّهَمًا أو نحوَه، فتكون البَلِيَّةُ من ذاك السَّاقطِ.
وقد قال الحافظُ في "اللِّسان"(6/ 472): "رواه التِّرمِذِيُّ مِن طريق الوليد، عن ابن جُرَيجٍ، ليس بينَهُمَا واسطَةٌ. فلعلَّ الوليدَ دَلَّسَةَ عن ابن جُرَيجٍ، فقد ذَكَرَ ابنُ أبي حاتمٍ في ترجَمَةِ: "مُحمَّد بن إبراهيم" أنَّهُ رَوَى عنهُ الوليدُ ابنُ مُسلِمٍ، وهشامُ بنُ عمَّارٍ" انتهَى.
• قلتُ: وهذا التَّرَجِّي من الحافظِ فيه نَظَرٌ؛ لأنَّهُ ثبَتَ أنَّ الوليدَ بنَ مُسلِمٍ صرَّحَ بالتَّحديث مِن ابن جُرَيجٍ. نعم! يكونُ الكلامُ مقبُولًا لو كان ابنُ جُريجٍ هو الذي يروِيهِ عن مُحمَّدِ بنِ إبراهيمَ، فنقُولُ حينئِذٍ: إنَّ الوليدَ دلَّسَهُ؛ لأنَّهُ كان يُدَلِّسُ تدليسَ التَّسوِيَةِ، ويكُونُ مِن فوقِ شيخِ الوَلِيدِ.
وبالجُملَةِ: فالحديثُ باطِلٌ. والحمدُ لله تعالَى.
ووجدتُ للحديثِ طرِيقًا أخرَى عن ابن عبَّاسٍ، بسِيَاقٍ آخرَ ..
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الدُّعاء"(1334) قال: حدَّثَنَا يحيى بنُ أيُّوبَ العَلَّافُ المِصرِيُّ، ثنا أبو الطَّاهِرِ ابنُ السَّرحِ، ثنا أبو مُحمَّدٍ مُوسى بنُ عبدِ الرَّحمنِ الصَّنعَانِيُّ المُفَسِّرُ، حدَّثَنِي ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال. (ح) وحدَّثَنا
(1)
مُقاتِلُ بن حَيَّانَ، عن مُجاهِدٍ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "مَن سَرَّهُ أن يُوعِيهِ اللهُ عز وجل حِفظَ القُرآن وحِفظَ أصنافِ العلمِ فَليَكتُب هذا الدُّعَاءَ في إِناءٍ نَظِيفٍ، أو في صَحْفَةِ قَوارِيرَ، بعَسَلٍ، وزَعفَران، وماءِ مطَرٍ،
(1)
قال مُحقِّق كتاب "الدُّعاء" في هذا الموضع: "هكذا جاء مُنقطِعًا، ومقاتِلُ بن حَيَّان قطعًا ليسَ شيخَ الطَّبَرانيِّ" كذا قال! ظَنَّ أنَّ القائَلَ بعد حرف التَّحويلِ (ح): "حدَّثَنا مقاتل بن حيَّان" هو الطَبَرانيُّ، وليسَ كذلك، بل القائلُ هو مُوسَى بنُ عبد الرَّحمن الصَّنعَانِيُّ. والله أعلم.
ويَشرَبه على الرِّيقِ، وليَصُم ثلاثةَ أيَّامٍ، وليَكُن إفطارُهُ عليه؛ فإنَّهُ يَحفَظُها إن شاء اللهُ عز وجل، ويَدعُو به في أَدبَارِ صَلَواتِه المكتُوبَةِ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أسأَلُكَ بأنَّكَ مسؤُولٌ، لم يُسأَلْ مِثلُكَ، ولا يَسأَل، أَسألُكَ بحقِّ مُحمَّدٍ رسُولِك ونبِيِّك، وإبراهيمَ خَلِيلِكَ وصفِيِّك، ومُوسَى كلِيمِكَ ونجِيِّك، وعيسى كلِمَتِك ورُوحِك، وأسألُكَ بصُحُف إبراهيمَ، وتَورَاةِ مُوسَى، وزَبُور داوُدَ، وإنجِيلِ عِيسَى، وفُرقَانِ مُحمَّدٍ، وأسأُلُكَ بكُلِّ وحيٍ أوحَيتَهُ، وبكُلِّ حقٍّ قضَيتَهُ، وبكُلِّ سائلٍ أعطَيتَهُ، وأسأَلُكَ بأسمائِكَ التي دَعَاكَ بها أَنبِيَاؤُكَ فاستُجِيبَ لهم، وأسأَلُكَ باسمِكِ المخزُونِ المكنُونِ الطُّهرِ الطَاهِرِ المُطَهَّرِ المُبارَك المُقَدَّس الحَيِّ القَيُّومِ ذِي الجلال والإِكرَام، وأَسأَلُك باسمِكَ الواحِدِ الأَحَدِ الصَّمَدِ الفَردِ الوِترِ، الذي ملَأَ الأَركانَ كُلَّها، والذي مِن أركَانِكَ كُلِّها، وأسأَلُكَ باسمِكَ الذي وَضعتَهُ على السَّمَاوَاتِ فقامَت، وأسأَلُك باسمِكَ الذي وضعتَهُ على الأرَضِين فاستَقَرَّت، وأسأَلُكَ باسمِكَ الذي وضعتَهُ على الجِبَالِ فرَسَت، وأسأَلُكَ باسمِكَ الذي وضعتَهُ على اللَّيلِ فأَظلَم، وأسأَلُكَ باسمِكَ الذي وَضَعتَهُ على النَّهَار فَاستَنَارَ، وأسأَلُكَ باسمِكَ الذي يَحيَى به العِظامُ وهي رَمِيمٌ، وأسألُكَ بكتابك المُنزَّلِ بالحَقِّ، ونُورك التَّامِّ: أن تَرزُقَنِي حِفظَ القُرآن، وحِفظَ أصناف العِلمِ، وتُثَبِّتَهَا في قَلبِي، وأن تَستَعمِلَ بها بَدَنِي، في لَيلي ونَهَارِي، أبدًا ما أَبقَيتَنِي، يا أَرحَمَ الرَّاحِمِين! ".
وهذا حديثٌ باطلٌ، مُنكَرٌ جِدًّا؛ وآفتُهُ مُوسَى بنُ عبدِ الرَّحمنِ هذا: أَحَدُ التَّلفَى. قال ابنُ حِبَّان: "دَجَّالٌ. وَضَعَ على ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ،
عن ابن عبَّاسٍ كِتابًا في التَّفسِيرِ". وقال ابنُ عَدِيٍّ: "مُنكَرُ الحديث"، وساق له أحاديثَ بَواطِيلَ.
(تَنبِيهٌ)
ذَكَرَ بعضُ المُعاصِرِينَ في كتابٍ لَهُ سمَّاهُ "هَديَ النَّبِيِّ"(ص 239)، هذا الحديثَ -أعني: حديثَ الوَلِيدِ بنِ مُسلِمٍ-، وقال:"فإنَّا نُرجِّحُ القَولَ بِضَعفِ الحديثِ، ونَرفُضُ القَولَ بأنَّهُ موضُوعٌ رَفضًا بَاتًّا. فالحَدِيثُ، وإن كان ضَعِيفًا، فإِنَّنَا نَرَى أنَّهُ لا مَانِع من العَمَل بِهِ".
• قلتُ: مُصِيبَةُ هؤُلاء أنَّهُم لم يُمَارِسُوا عِلمَ الحديثِ، ولم يُعَانُوا النَّظَر في كُتُب الأَئِمَّة الماضِينَ. وأَكثَرُ هؤُلاءِ على طرِيقَةِ المُتسَاهِلِين من المُتأَخِّرِين، أَمثَالِ السِّيُوطِيِّ وغَيرِهِ في دَعوَى رَدِّ أنَّ الحَدِيثَ مَكذُوبٌ؛ لأنَّهُ لا يُوجَدُ في إسنادِهِ وَضَّاعٌ، أو كَذَّابٌ. فتَرَى السِّيُوطِيَّ رحمه الله في كتابه "اللَّاَلئ المصنُوعَة" يرُدُّ كثِيرًا على ابنِ الجَوزِيِّ في حُكمِهِ على الحديثِ بالوَضعِ، فيقُولُ:"ليس بموضُوعٍ؛ وفُلانٌ رَوَى له ابنُ مَاجَهْ"، فإذا رَجَعتَ إلى ترجمَةِ هذا الرَّاوِي وجَدتَهُ ساقِطًا عن حدِّ الاعتِبَارِ بحدِيثِهِ، وأَجمَعَ العُلماءُ على تَركِهِ. فهُو يُرِيدُ أن يَقُولَ: الحديثُ ضعيفٌ جِدًّا، ولكنَّهُ ليسَ موضُوعًا إِذ أنَّهُ في غالب أمرِهِ، يَستَلزِمُ وُجُودَ كذَّابٍ في الإسناد حتَّى يَحكُمَ عليه بالوَضعِ. وهذا ليسَ بلَازِمٍ؛ فالرَّاوِي المُغَفَّلُ قد يُلَقَّنُ بالحديث المكذُوبِ، ولِغَفلَتِهِ يَروِيهِ. وسأُعطِيكَ نمَاذِجَ من تَصَرُّفِ عالِمٍ من أَكبَرِ عُلَمَاءِ الحديثِ في زَمَانِهِ -أَلَا وهو أبُو حاتِمٍ الرَّازِيُّ- حَكَمَ على الحديثِ بأنَّهُ موضُوعٌ، أو مَكذُوبٌ، أو مُفتَعَلٌ، مع أنَّ رَاوِيهِ مجَهُولٌ،
أو سَيِّءُ الحِفظِ، بَل وَقَد يَكُونُ ثِقةً، أو ما يُقَارِبُهُ، ويَحكُمُ على حديثِهِ بالوَضعُ.
فهاك بعضُ أمثِلَةٍ، من كِتابِ "عِلَل الحَدِيث" لابنِ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ رحمه الله عَلَيهِمَا- ..
1 -
قال (رقم 104): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ ابنُ لَهيعَةَ، عن عُقَيْلٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عُروَةَ، عن أُسامَةَ بنِ زيدٍ، عن أبِيهِ، عن النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّ جِبرِيلَ عليه السلام أتَاهُ، فأَرَاهُ الوُضُوءَ، فلمَّا فَرَغَ نَضَحَ فَرجَهُ.
قال أبي: هذا حدِيثٌ كَذِبٌ باطِلٌ".
2 -
وقال (رقم 180): "وسَأَلتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ بقِيَّةُ، عن أبي سُفيان الأَنمَارِيِّ، عن يَحيَي بنِ سعِيدٍ الأَنصَارِيِّ، عن سعِيدِ بنِ المُسيّبِ، عن عُثمانَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ تَوضَّأَ، وخلَّلَ لحِيَتَهُ.
فقال: هذا حدِيثٌ موضُوعٌ. وأبُو سُفيانَ الأَنمَارِيُّ مجهُولٌ".
3 -
وقال (رقم 196): "قال أبُو مُحمَّدٍ: سمِعتُ أبي يقُولُ: كَتبتُ عن ثابِتِ بنِ مُوسى، عن شَرِيكٍ، عن الأَعمَشِ، عن أبي سُفيَانَ، عن جابِرٍ، عن النَّبِيِّ -صلي الله عليه وسلم-، قال: "مَن صَلَّى بِاللَّيلِ حَسُن وَجهُهُ بِالنَّهارِ".
قال أبي: فذَكَرتُهُ لابنِ نُمَيرٍ، فقال: الشَّيخُ لا بَأسَ بِهِ، والحدِيثُ مُنكَرٌ.
قال أبى: الحدِيثُ موضُوعٌ".
4 -
وقال (رقم 892): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ بِشرُ بنُ المُنذِرِ الرَّمِليُّ، عن مُحمَّدِ بنِ مُسلِمٍ الطَائِفِيُّ، عن عَمرِو بنِ دِينارٍ، عن جابِرِ بنِ عَبد الله، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "العُمرةُ إِلى العُمرةِ كفَّارةٌ لما بينَهُما،
والحجُّ المَبرُورُ ليس لهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجنَّة"، قيل: "وما بِرُّهُ، يا رسُول الله؟ "، قال: "إِطعامُ الطَّعام، وطِيبُ الكلام".
فسمِعتُ أبي يقُولُ: هذا حدِيثٌ مُنكَرٌ، شِبهُ الموضُوعِ. وبِشرُ بنُ المُنذِرِ كان صَدُوقًا".
5 -
وقال (رقم 1160): "وسمِعتُ أبي وحدَّثَنا: عن هِشامِ بنِ عمَّارٍ، قال: حدَّثَنا إِسماعِيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن سُهيلِ بنِ أبي صَالِحٍ، عن أبيه، عن أبي قَتَادَةَ، عن جابِرٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "مَن سَرَّهُ أن يُنْجِيهُ الله مِن كُرَب يومِ القِيامةِ، وأن يُظِلَّهُ تحت ظِلِّ العَرشِ، فليُنظِر مُعسِرًا".
قال أبي: هذا حدِيثٌ باطِلٌ كَذِبٌ، قد أُدخِلَ على هِشامٍ".
6 -
وقال (رقم 1165): "وسألتُ أبي عن حَدِيثٍ رواهُ عبدُ الكَرِيمِ ابنُ عَبدِ الكَرِيمِ النَّاجِيُّ، عن الحسَنِ بنِ مُسلِمٍ، عن الحُسَينِ بنِ واقِدٍ، عن ابنِ بُرَيدَةَ، عن أبِيهِ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "مَن حَبَسَ العِنَبَ أيَّام القِطافِ لِيبِيع مِن يَهُودِيٍّ، أو نَصرَانِيٍّ، كان لهُ مِن الله مَقتٌ".
قال أبي: هذا حدِيثٌ كَذِبٌ باطِلٌ.
قُلتُ: تعرِفُ عَبدَ الكرِيمِ هذا؟ قال: لا.
قُلتُ: فتعرِفُ الحَسَنَ بن مُسلِمٍ؟ قال: لا، ولكِن تدُلُّ رِوايتُهُم على الكَذِب".
7 -
وقال (رقم 1205): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ كثِيرُ بنُ هِشامٍ، عن جعفرِ بنِ بُرقَانَ، عن الزُّهرِيِّ، عن سالِمٍ، عن أبِيهِ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ نَهَى أن يَجلِس الرَّجُلُ على مائِدةٍ يُشرَبُ عليها الخَمرُ، وأن
تُنكَح المرأةُ على عَمَّتِها.
قال أبي: هذانِ الحدِيثانِ خطَأٌ، يروِيهِ عن جَعفَرٍ، عن رجُلٍ، عن الزُّهرِيِّ هكذا، وليس هذا مِن صحِيحِ حدِيثِ الزُّهرِيِّ
…
-ثُمَّ قال:- وأمَّا قِصَّةُ المائِدةِ فهُو مُفتَعَلٌ، ليس مِن حدِيثِ الثِّقَات".
8 -
وقال (رقم 1252): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ عُبَيدُ بنُ إِسحاق، عن سِنان بنِ هارُون، عن حُميدٍ، عن أنَس، قال: قالت أُمُّ حبِيبة: "يا رسُول الله! المرأةُ مِنَّا يكُونُ لها زَوجانِ في الدُّنيا، ثُمَّ تمُوتُ، فتدخُلُ الجَنَّة هي وزَوجَاهَا، لأيِّهما تكُونُ: لِلأوَّلِ، أو لِلآخِرِ؟ "، قال: "تَخَيَّرُ أحسنَهُما خُلُقًا كان معها فِي الدُّنيَا، فيكُونُ زوجَها فِي الجنّةِ"، قالت أُمُّ حبِيبةَ: "ذَهَبَ حُسنُ الخُلُقِ بِخيرِ الدُّنيا والآخِرةِ".
قال أبي: هذا حدِيثٌ موضُوعٌ، لا أصل لهُ. وسِنانُ عِندنا مستُورٌ".
9 -
وقال (رقم 1296): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ مُحمَّدُ بنُ المُصَفَّى، عن الوليدِ بنِ مُسلِمٍ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّ الله عز وجل وَضَعَ عن أُمَّتِي الخطأَ، والنِّسيانَ، وما استُكرِهُوا عليه". ورَوَى ابنُ مُصفَّى عن الولِيدِ بنِ مُسلِمٍ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، مِثلَهُ. وعنِ الولِيدِ، عن مالِكٍ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، مِثلَهُ. وعنِ الولِيدِ، عن ابنِ لِهيعَةَ، عن مُوسى ابنِ وَردَانَ، عن عُقبة بنِ عامِرٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِثلَ ذلِك.
قال أبي: هذِهِ أحادِيثُ مُنكَرَةٌ، كأنَّها موضُوعَةٌ.
وقال أبي: لم يَسمَع الأَوزَاعِيُّ هذا الحدِيثَ، من عطاءٍ، إنَّهُ سمِعهُ مِن رجُلٍ لم يُسمِّه، أَتوهَّمُ أنّهُ عَبدُ الله بنُ عامِرٍ، أو إِسماعِيلُ بنُ مُسلِمٍ، ولا يصِحُّ هذا الحدِيثُ، ولا يَثبُتُ إِسنادُهُ".
10 -
وقال (رقم 1484): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ عَبدُ الله بنُ المُطَّلِبِ العِجِليُّ، عن الحَسَنِ بنِ ذَكوَانَ، عن يَحيَى بنِ أبي كثِيرٍ، عن أبي سلَمَة، عن أبي هُريرَة، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أهلَ البيتِ ليقِلُّ طعامُهُم، فتَستَنِيرُ بُيُوتُهُم".
قال أبي: هذا حدِيثٌ كذِبٌ. وعبدُ الله بنُ المُطَّلِبِ مجهُولٌ".
11 -
وقال (رقم 1543): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ حدَّثَنا بِهِ عمّارُ ابنُ خالِدٍ الوَاسِطِيُّ، عن شَيخٍ مِن أَهلِ البَصرَةِ يُكْنَّى أبا الفَضلِ الأَشجَّ، عن جعفرِ بنِ مُحمَّدٍ، عن أبِيهِ، قال: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أَكَلِ الطِّينِ، وقال: "مَن أَكَلَ الطِّينَ، فقد أعان على قتلِ نفسِهِ".
فسمِعتُهُ يقُولُ: هذا حدِيثٌ كَذِبٌ. والشَّيخُ لا أعرِفُهُ".
12 -
وقال (رقم 1627): "وسألتُ أبي عن حدِيثٍ رواهُ أبُو عَقيلٍ ابنُ حاجِبٍ، عن عَبدِ الرَّزَّاقِ، عن سعِيدِ بنِ قمَاذِينَ، عن عُثمانَ بنِ أبي سُليمانَ، عن سعِيدِ بنِ مُحمَّدِ بنِ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، عن عَبدِ الله بنِ حَبَشِيٍّ، قال: سمِعتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقُولُ: "لا تَطرُقُوا الطَّير فِي أَوكَارِها؛ فإِنَّ اللَّيلَ أَمَانٌ لها".
قال أبي: يُقالُ: إِنَّ هذا الحدِيثَ مِمَّا أُدخِل على عَبدِ الرَّزَّاقِ. وهُو حدِيثٌ موضُوعٌ".
13 -
وقال (رقم 1846): "وَسَأَلتُ أبي عن حَدِيثٍ رَوَاهُ المُسَيَّبُ ابنُ وَاضِحٍ، عن بَقِيَّةَ، عن سَعِيدِ بنِ بَشِيرٍ، عن قَتَادَةَ، عن مُوَرِّقٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لكُلِّ عبدٍ رِزقُهُ مِنَ الدُّنيَا، هو يأتيه لا مَحالةَ، فَمَن رَضِيَهُ بُورِكَ له فيه، وَوَسِعَهُ، ومن لم يَرض به لم يُبَارَك له فيه، ولم يَسَعْهُ".
قَالَ أبي: هذا حَدِيثٌ مُنكَرٌ جِدًّا، كأنَّهُ موضُوعٌ. لا نَعرِفُ لموَرِّقٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ حديثًا مُسنَدًا".
14 -
وقال (رقم 1852): "وَسأَلتُ أبي عن حديث مُحَمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ السَّاوِيِّ، عن نَوفَلِ بنِ سُليمانَ الهُنَائِيِّ، عن عُبيدِ الله بنِ عُمَر العُمَرِيِّ، عن نَافعٍ، عن ابنَ عُمرَ، قال: وَقَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِعُسْفَانَ، فَقال: "لَقَد مَرَّ بهذه القَريةِ سبعون نَبِيًّا، ثِيابُهُم العَبَاءُ، وَنِعَالهُمُ الخُوصُ".
فسَمِعتُ أبي يَقُولُ: هذا حَدِيثٌ موضُوعٌ بهذا الإسناد، ونَوفَلُ بنُ سُليمانَ هذا ضعيفُ الحدِيث".
15 -
وقال (رقم 1871، 2394): "وَسَمِعتُ أبي رَوَى عن هِشَامِ ابنِ خَالِدٍ الأزرقِ، قال: حدَّثَنا بَقِيَّةُ بنُ الوليدِ، قال: حدَّثَنا ابنُ جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ مِن سَقَمٍ، أَو ذَهَابِ مالٍ، فاحتَسَب، ولم يَشْكُ إلى النَّاسِ، كان حَقًّا على الله أَن يَغفِرَ له".
قال أبي: هذا حَدِيثٌ موضُوعٌ، لا أَصلَ له. وكان بَقِيَّةُ يُدَلِّسُ، فظَنُّوا هؤلاء أنَّه يقول في كُلِّ حَدِيثٍ:"حدَّثَنا"، ولا يَفتَقِدُون الخَبَرَ منه".
16 -
وقال (رقم 1945): "وسمِعتُ أبي وحدَّثَنا عن يَحيَى بن عُثمان ابن صالحٍ المِصرِيِّ، عن أبيه، عن ابنِ لِهَيعَةَ، عن أبي عُشَّانَةَ حَيِّ بن يُؤمِن، عن عُقبَةَ بن عامِرٍ الجُهَنِيِّ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان فيكم مُوسَى وعصَيتُمُوني دخَلتُم النَّارَ".
قال أبي: هذا حَدِيثٌ كَذِبٌ. قال أَبُو مُحمَّدٍ: أَبُو عُشَّانَةَ ثِقَةٌ".
17 -
وقال (رقم 1966): "وسألتُ أبي عن حَدِيثٍ رواهُ ابنُ أبي أُوَيسٍ، قال: حدَّثَني أبي، عن عُمَر بنِ شَيبَةَ بنِ أبي كَثِيرٍ مَولى أَشجَعَ، وَثَورِ بن يزيدَ، وخالِهِ مُوسَى بنِ مَيسَرَةَ الدَّيْلِيَّيْنِ وغيرِهِ، عن نُعَيمٍ المُجْمِرِ، وعن سعيد بن أبي سَعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن أبي هُريرَة، رفَعُوا الحدِيثَ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يعودُ الإِسلامُ كما بَدَأَ، -أي: أنَّهُ بدأَ غَرِيبًا وسيَعُودُ غَرِيبًا-، فطُوبَى للغُرَبَاءِ"، فقيل: "يا رسُولَ الله! ومَن الغُربَاءُ؟ "، قال: "الذين يَصلُحُونَ إذا فَسَدَ النَّاسُ".
قال أبي: عُمَر بنُ شَيبَةَ مجَهُولٌ. وهذا حَدِيثٌ مَوضُوعٌ".
• قلتُ: فهذه نَمَاذِجُ من صنيعِ أبي حَاتِمٍ، وليس في سَنَدِ حديثٍ مِنهَا كذَّابٌ، أو وَضَّاعٌ، بل بعضُهُم ثِقاتٌ، مثلُ عبدِ الرَّزَّاق، وأبي عُشَّانَةَ، ومِنهُم صادِقُونَ سَيِّئُو الحِفظِ، ومِنهُم المَجاهِيلُ.
ثُمَّ قولُه: "إنَّهُ حديثٌ ضعيفٌ يُعمَلُ به"، بَنَاهُ على قولِ بعضِ أهلِ العِلمِ:"يُعمَلُ بالضَّعِيف في فضَائِلِ الأَعمَالِ". والعُلماءُ الذين نَصُّوا على ذلك يَشتَرِطُون ألَّا يَشتَدَّ ضَعفُهُ، ولا يَعرِفُ هذا إلَّا أهلُ الحديثِ وَحدهم، فخَرَجَ بهذا القَيدِ سائِرُ أهل الفُنُون الأُخرَى، مِمَّن
لم يَتَعَانَوْا عِلمَ الحَدِيثِ، مِثلُ الفُقهاءِ، وأهلِ التَّفسِيرِ، والعَرَبِيَّةِ، فَضلًا عن غَيرِهِم.
والكَلامُ في المسألة طَوِيلُ الذَّيل. وقد تَكَلَّمتُ عنها في عِدَّة مَوَاضِعَ مِن كُتُبِي. والله المُوَفِّقُ. وانظُر ما يأتي برقم (115) إن شاء الله.
وبالجُملة، فالحديثُ لا يَصِحُّ سندًا، ولا متنًا.
والله أَعلَمُ.
34 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ اللّهَ عز وجل وَكَّلَ بِعَبدِهِ المُؤمِنِ مَلَكَينِ يَكتُبَانِ عَمَلَهُ، فَإِذَا مَاتَ قالا: يَا رَبِّ! وَكَّلتَنَا بِعَبدِكَ المُؤمِنِ نكتُبُ عَمَلَهُ، وَقَد قَبَضتَهُ، فَأْذَن لَنَا أَن نَصعَدَ إِلَى السَّمَاءِ. قال: سَمَائِي مَملُوءَةٌ مِن مَلَائِكَتِي يُسَبِّحُونَ. قالا: ائذَن لَنَا أَن نَسكُنَ الأَرضَ. قال: أَرضِي مَملُوءَةٌ مِن خَلقِي يُسَبِّحُونِي، وَلَكِنْ قُوْمَا عَلَى قَبرِ عَبدِي، فَسَبِّحَانِي، وَهَلِّلَانِي، وَكَبِّرَانِي، وَاحمَدَانِي إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وَاكتُبَا ذَلِكَ لِعَبدِي".
وذكر السَّائل أنَّه قرأ هذا الحديث في "مُختَصر مِنهاجُ القاصِدين".
• قلتُ: هذا الحديثُ باطلٌ، ويُشبِه أن يكون موضُوعًا.
أخرجه إِسحاقُ بنُ رَاهَوَيهِ في "مُسنَدِه" -كما في "نصب الرَّاية"(1/ 434) -، وأحمدُ بنُ مَنِيعٍ في "مُسنَده" -كما في "المطالب العالية"(ق 98/ 2) -، وأبُو الشَّيخ في "كتاب العَظَمة"(503)، والبَيهقيُّ في "الشُّعَب" -كما في "الدُّرِّ المنثور"(6/ 105) -، وابنُ الجوزيِّ في "الموضوعات"(3/ 229) من طريق عُثمانَ بنِ مَطَرٍ، عن ثابتٍ البُنَانِيِّ، عن أنسٍ رَفَعه.
قال ابنُ الجوزيِّ: "هذا حديثٌ لا يَصِحُّ، وقَد اتَّفَقُوا على تضعيف عُثمانَ بنِ مَطَرٍ".
قلتُ: وعُثمانُ بنُ مَطرٍ، ضعَّفَهُ ابنُ المَدِينيِّ جِدًّا، وابنُ معِينٍ، وأبو زُرعةَ الرَّازيُّ، وأبو حاتمٍ، وقال:"مُنكَر الحديث"، وأبو داوُد، والنَّسائيُّ، وقال النَّسائيُّ أيضًا:"ليس بثقةٍ"، وقال البُخاريُّ:"عنده غرائبُ"، وهذه الصِّيغة من البُخاريِّ تُفيد الضَّعفَ الشَّديد، وقال مرَّةً أُخرَى:"مُنكَر الحديث"، وكذلك أبُو أحمَدَ الحاكمُ، وقال ابنُ حِبَّانَ:"كان مِمَّن يَروِي الموضُوعاتِ عن الأَثباتِ، لا يَحِلُّ الاحتجاجُ به". والكلام فيه طويلُ الذَّيل. وتَفَرُّد مثلِه عن ثابتٍ فيه دلالةٌ على سُقوط حديثِهِ.
وقد ذَكَر السِّيوطيُّ في "اللَّاَلئ المصنُوعة في الأحاديث الموضُوعة"(2/ 432 - 433) شَواهدَ لهذا الحديثِ، عن أبي بكرٍ، وأبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنهما لا يخلو سَنَدُ أحدِها من مُتَّهَمٍ أو كَذَّابٍ.
فالحديث لا يَصِحُّ من أيِّ وجهٍ من هذِهِ الوُجوه.
واللهُ سبحانه وتعالى أَعلمُ.
35 -
سُئلتُ عن حديث: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُم صُنَّاعَكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(6/ 2266)، والخطيبُ في "تلخيص المتشابه"(392/ 1) من طريق مُحمَّدِ بنِ مُجيبٍ، عن جعفر بن مُحمَّدٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليِّ بن أبِي طالبٍ، قال: مَرَرتُ مع أميرِ المؤمنين عثمانَ على مسجدٍ، فرأَي فيه خيَّاطًا، فأمر بإخراجه، فقلتُ: يا أمير المُؤمنين! إنَّه يقُمُّ -أي: يكنُس- المسجدَ أحيانًا، ويَرُشُّه، ويُغلق أبوابَهُ. فقال: يا أبا الحسن! سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جَنِّبوا مساجدكم صُنَّاعكم".
ووقع في "التَّلخيص الحبير" للحافظ (3/ 67): "صبيانكم" بدل: "صُنَّاعكم"، وهو تصحيفٌ.
وهذا سندٌ ساقطٌ؛ ومُحمَّد بن مُجيبٍ تالفٌ البتَّةَ، كذَّبه ابنُ مَعِينٍ، وقال أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ:"ذاهبُ الحديث".
36 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ لِلمُقِيمِ بِالإِسكَندَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِن غَيرِ رِيَاءٍ كمَن عَبَدَ اللهَ عز وجل سبعِينَ أَلفَ سَنَةً، مَا بَينَ الرُّومِ وَالعَرَبِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ بُطلانه قي غاية الظُّهور.
فأخرجه الدَّارقُطنيُّ في "الأفراد"، ومن طريقه ابنُ الجَوزيِّ في "الواهيات" (1/ 305 - 306) قال: نا أحمدُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيم المَلحَمِيُّ، قال: نا الوليد بن العبَّاس بن مُسافرٍ الخَولانيُّ، قال: نا أبُو صالحٍ عبدُ الله بنُ صالحٍ، قال: حدَّثَني خالدُ بن حُميدٍ، عن سعيدِ بن أبي عَرُوبَةَ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن أبي هُريرة، أنَّهُ سألَهُ فقالَ: مِن أين جِئتَ؟ قال: مِن الإسكندريَّة. فقال: إِنِّي سمعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:
…
فذَكَره.
قال الدَّارَقطنيُّ: "هذا مُنكَرٌ بهذا الإسناد، لم نكتُبه إلَّا عن هذا الشَّيخ".
وقال ابنُ الجَوزِيِّ: "الوليدُ قد ضعَّفه الدَّارقُطنيُّ. وأبو صالحٍ، قال فيه أحمد: ليسَ بشيءٍ".
• قُلتُ: أمَّا شيخُ الدَّارقطنيِّ -أحمدُ بنُ إسحاقَ-، فترجمَهُ الخطيبُ في "تاريخ بغداد"(4/ 34)، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
والوليدُ، ضعَّفه الدَّارقُطنيُّ، وأبُو عُمَرَ الكِندِيُّ المِصريُّ.
وأبُو صالحٍ كاتِبُ اللَّيث، صدوقٌ، في حفظِهِ مقالٌ مَعرُوفٌ.
ولَم أَظفَر بما يُثبِت روايةَ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبة، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ. فليُحَرَّر.
وقد رواه أبُو الشَّيخ مِن وجهٍ آخرَ ..
قال الحافظُ -كما في "تنزيه الشَّرِيعة"(2/ 57) -: "رجالُهُ مشهورُون بالثِّقةِ، إلَّا الوزيرَ بنَ مُحمَّدٍ، وإبراهيمَ بنَ حربٍ، وجابرًا الجُعفيَّ. ولا أَعرِف الوزيرَ بنَ مُحمَّدٍ، ولا أَظُنُّ الآفةَ إلَّا مِنهُ" ا. هـ.
والحديثُ جَزَمَ الذَّهبيُّ ببُطلانه في "تلخيص الواهيات"، وهو حقِيقٌ بذلك.
واللهُ أعلَمُ.
37 -
سُئلتُ عن حديثٍ: قالت عائشةُ: "مَا رَأَيتُ عَورَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ، وَلَا رَآه مِنِّي".
• قلتُ: هذا الحديثُ منكَرٌ.
أخرجه ابنُ المُقرِي في "المُعجَم"(ق 63/ 1)، وابنُ عديٍّ في "الكامل" (2/ 479) قالا: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ زِياد بن خالد بنِ أبي زِيادٍ ..
والطَّبرانيُّ في "الأوسط"(2197)، وفي "الصَّغير"(1/ 53)، وعنه أبُو نُعيمٍ في "الحِلية" (8/ 247) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ زكريَّا بنُ شَاذانَ البَصرِيُّ ..
وابن عَدِيٍّ أيضًا (2/ 479)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 100) عن عبدِ الله بن مُحمَّد بن يُونُسَ السِّمْنَانِيِّ ..
والخطيبُ (4/ 225) عن عبدِ الله بنِ أبي سُفيانَ ..
قالُوا: ثنا بَرَكةُ بنُ مُحمَّدٍ الحَلَبيُّ، ثنا يوسفُ بنُ أسباطَ، ثنا الثَّوريُّ، عن مُحمَّدِ بنِ جُحادةَ، عن قتادةَ، عن أَنَسٍ، عن عائشةَ، قالت: "ما رأيتُ عَورة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
الخ".
وقال أبو نُعيمٍ: "وهذا من مَفَارِيد يُوسُفَ، عن الثَّورِيِّ، عن مُحمَّدٍ".
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِه عن الثَّوريِّ إلَّا يُوسفُ بنُ أسباطٍ، تفرَّد به بركةُ بنُ مُحمَّدٍ".
• قلتُ: ولا بَرَكَةَ فيهِ، فإنَّهُ كذَّابٌ.
قال الدَّارقُطنيُّ في "العلل"(ج 5/ ق 20/ 1): "يرويه بركةُ بن مُحمَّدٍ الحلبيُّ، وهو متروكٌ، وهذا يَضعُ الحديثَ على الثَّوريِّ، وعلى غيرِهِ. ولا يَصحُّ هذا، لا عن الثَّوريِّ، ولا عن مُحمَّدِ بنِ جُحَادَةَ، ولا عَرَفناه" ا. هـ، وقال في "سُنَنه" (409):"وبركةُ يضعُ الحديثَ".
وقال ابنُ حِبَّان: "كان يَسرِق الحديثَ، ورُبَّما قَلَبَهُ".
وقال الذَّهَبِيُّ: "مُتَّهَمٌ بالكَذب".
ولم يتفرَّد به بَرَكَةُ ..
فتابَعَهُ عبدُ الله بنُ حَسَنٍ (؟)، قال: ثنا يُوسُفُ بنُ أسباطَ، ثنا الثَّورِيُّ بهذا.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد"(ج 83/ ق 6/ 2) قال: حدَّثَنا عليُّ ابنُ عبدِ الله، ثنا أبُو طالبٍ عبدُ الله بنُ أحمدَ، ثنا عبدُ الله بنُ حَسَنٍ بهذا.
وقال أبو نُعيمٍ: "ورواه غيرُهُ -يعني: غيرَ شَاذَانَ البَصرِيِّ-، عن بَرَكَة، عن يُوسُفَ، عن حمَّادٍ، عن مُحمَّد بن جُحَادةَ".
• قلتُ: وهذا الذي أشار إليه أبو نُعيمٍ: أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ (2/ 479)، والخطيبُ (4/ 225) عن عبد الله بن عبد الرَّحمن الزُّهرِيِّ، قالا: حدَّثَنا أحمدُ بنُ عبد الله بن سَابُورَ، ثنا بَرَكَة بن مُحمَّدٍ، ثنا يُوسُفُ بنُ أسباطَ، عن حمَّاد بن سَلَمة، عن مُحمَّد بن جُحادة،
…
فذَكَرَهُ. فقلتُ له -القائل: ابنُ سابورَ-: "إنَّما هو عن الثَّورِيِّ، عن ابن جُحادة. فأبَى، وقال: سَمَاعِي وسَمَاعُ المَعمَرِ من بَرَكة هكذا، وهكذا في أصلي".
قال ابنُ عَدِيّ: "وابنُ سابورَ هذا أخطأ، حيثُ جَعَل مكان الثَّورِيِّ حمَّادَ بن سَلَمة، والصَّوَابُ ما حدَّثَنَاه عبدُ الله بنُ مُحمَّد بن يُونُس، وعبدُ الله ابنُ زياد بنِ خالدٍ. ولم يَروِ هذا الحديثَ بهذا الإسناد غيرُ بَرَكَة" انتهَى.
وقال الخطيبُ: "لا أعلم رواه عن بَرَكَة هذا غيرَ ابنِ سابُورَ. والمحفوظُ عن بَرَكَة:
…
-وساق الإسنادَ إلى الثَّورِيِّ-".
• قلتُ: ولستُ أَدرِي مُستَنَد ابنِ عَدِيٍّ في تغليطِ شيخِهِ ابن سَابُورَ، فإنَّه ثِقَةٌ كما قال الدَّارَقُطنِيُّ، ونَقَلَ توثيقَه حمزةُ بنُ يُوسُف السَّهمِيُّ في "سؤالاته"(155)، وعنه الخطيبُ.
وقال الذَّهَبِيُّ في "السِّيَر"(14/ 462): "الشَّيخُ الإمام الثِّقَةُ المُحَدِّث". وقال في "الميزان"(1/ 621)، في ترجمة حَنظَلَة بن أبي سفيان:"ساق له ابنُ عَدِيِّ حديثًا مُنكَرًا، ولعلَّهُ وَقَعَ الخللُ فيه من الرُّواة إليه، فقال: حدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن سَابُورَ، ثنا الفضل بن الصَّبَّاح، ثنا إسحاقُ الرَّازِيُّ، عن حَنظَلَة، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَر، مرفُوعًا: "اغسِلُوا قتلاكم". رواتُهُ ثقاتٌ، ونَكَارَتُهُ بَيِّنَةٌ".
فتعقَّبَهُ الحافظُ في "اللِّسان"(1/ 198)، قائلًا:"وليس بين ابنِ عَدِيٍّ وحَنظَلَةَ إلَّا أحمدُ والفضلُ. فأمَّا الفضلُ فوَثَّقَهُ يحيى بنُ مَعِينٍ، وغيرُه، وهو من شُيُوخ التِّرمذِيِّ. وأمَّا أحمدُ بنُ عبد الله أبو مَطَرٍ العَسقَلَانِيُّ، قال أبو عبد الله ابنُ مَندَهْ: في أحاديثِهِ مَنَاكيرُ. وكذلك في سؤالات الحاكم للدَّارَقُطنِيِّ" انتهَى.
• قلتُ: هكذا وقعت التَّرجَمةُ في "اللِّسان". وآخرُ الكلام عندي مُقحَمٌ،
والصَّواب أنَّ أحمدَ بنَ عبد الله أبو مَطَرٍ تَرجَمَةٌ أُخرَى
(1)
؛ وأحمدُ بنُ عبد الله ابن سَابُورَ شيخُ ابن عَدِيٍّ لا يُكنَى بأبي مَطَرٍ. وإنَّما نَبَّهتُ على هذا حتَّى لا يَظُن ظانٌّ أن قولَ الدَّارَقُطنِيِّ وابنِ مَندَهْ إنَّما هو في ابن سَابُورَ، وكأنَّه سقَطَ شيءٌ من كلام الحافظِ وهو يَرُدُّ على الذَّهَبِيِّ.
وعلى كُلِّ حالٍ، فتَعصِيبُ جناية هذا الوهم يَنبَغِي أن تكون في رَقَبَة بَرَكَة بن مُحمَّدٍ؛ لأنَّ ابن سَابُورَ حَكَى مُراجَعَتَه لبَرَكة في جَعلِ حمادِ بنِ سَلَمةَ مكان الثَّورِيِّ، فَرَفَضَ بَرَكَةُ أن يَرجِع، وقال:"هو هكذا في أَصِلي"، وقد تَقَدَّم أنَّ بَرَكَةَ بنَ مُحمَّدٍ يكذبُ. فإذا كان الأمرُ كذلك، فلِمَ يُلصَق الخطأُ بابن سَابُورَ؟!
وله طريقٌ آخرُ ..
أخرَجَهُ أبُو الشَّيخ في "الأخلاق"(ص 251 - 252) من طريق مُحمَّد ابن القاسم الأَسَدِيِّ، نا كاملٌ أبُو العَلَاء، عن أبي صالحٍ -أُرَاهُ-، عن ابن عَبَّاسٍ، قال: قالت عائشةُ رضي الله عنه: "ما أَتَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحدًا من نسائه إلَّا مُتَقَنِّعًا، يُرخِي الثَّوبَ على رأسه. وما رأيتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رآه مِنِّي".
وهذا إسنادٌ ساقطٌ؛ ومُحمَّد بن القاسم الأَسَدِيُّ، كذَّبَهُ أحمدُ، وأبو داوُد، وابنُ حِبَّان، والدَّارقُطنِيُّ، ونقل البُخاريُّ، عن أحمدَ، قال:"رَمَينَا حديثَه". أمَّا توثيقُ ابنِ مَعِينٍ له فَغيرُ مُعتَبَرٍ؛ فإنَّ الرُّواة كانُوا يخافون
(1)
ولكنِّي لم أجده في "سؤالات الحاكم للدَّارقطنيِّ" في النُّسخة المطبوعة.
منه
(1)
، فقد يَكُون أحدُهم ممَّن يخلِطُ عمدًا، ولكنَّه استَقبَل ابنَ مَعينٍ بأحاديثَ مُستقيمَةٍ، فإذَا وَجَدنَا مِمَّن أدَرَكه ابنُ مَعِينٍ من الرُّواة مَن وثَّقَه ابن مَعِينٍ، وكذَّبه الأَكَثرُون، أو طَعَنُوا فيه طعنًا شديدًا، فالظَّاهِر أنَّه مِن هذا الضَّرْب، فإِنَّما يزيدُهُ توثيقُ ابنِ مَعِينٍ وَهَنًا؛ لدلالتِه علَى أنَّهُ كانَ يَتَعمَّد، كما قال الشَّيخُ العلَّامةُ عبدُ الرَّحمن بن يحيَى المُعلِّمِيُّ رحمه الله.
وله طريق آخر ..
أخرجه أحمدُ (6/ 63)، والتِّرمِذِيُّ في "الشَّمائل"(352)، وابنُ ماجَهْ (662، 1922) من طريق وَكِيعٍ، عن سُفيان الثَّورِيِّ، عن منصُورٍ، عن مُوسَى بن عبد الله بن يزيدَ الخَطْمِيِّ، عن مولًى لعائشة، عن عائشة، قالت:"ما نَظَرتُ -أو: ما رأيتُ -فَرْجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ".
(1)
يدلُّ على ذلك، ما حكاه العبَّاس بن إسحاق الصَّوَّاف: سمعتُ هارون بن معروفٍ يقول: قَدِم علينا بعض الشُّيوخ من الشَّام، فكنتُ أوَّل من بكَّر عليه، فدخلتُ عليه، فسألتُه أن يملي عليَّ شيئا، فأخذ الكتابَ يُمِلي عليَّ، فإذا بإنسانٍ يدقُّ الباب، فقال الشَّيخ:"من هذا؟ "، قال:"أحمد بن حنبل"، فأذن له الشَّيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرَّك. فإذا بآخر يدقُّ الباب، فقال الشَّيخ:"من هذا؟ "، قال:"أحمد الدَّورَقِيُّ"، فأذن له، والشَّيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرَّك. فإذا بآخر يدقُّ الباب، فقال الشَّيخ:"من هذا؟ "، قال:"عبد الله بن الرُّوميِّ"، فأذن له، والشَّيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرَّك. فإذا بآخر يدقُّ الباب، فقال الشَّيخ:"من هذا؟ "، قال:"أبو خيثمة زُهير بن حرب"، فأذن له، والشَّيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرَّك. فإذا بآخر يدقُّ الباب، فقال الشَّيخ:"من هذا؟ "، قال:"يحيى بن معين"، -قال:- فرأيت الشَّيخ ارتعدت يدُه، ثم سقط الكتابُ من يده!
رواه ابن عديٍّ في "الكامل"(1/ 131 - 132)، ومن طريقه الخطيبُ في "تاريخه"(14/ 181)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" (ج 18/ ق 197) قال: حدَّثنا يحيى بن زكريَّا بن حيَّوَيْه، ثنا العبَّاس بن إسحاق بهذا.
ونَقَلَ ابن ماجَهْ عن شيخه ابنِ أبي شَيبَة، قال:"كان أبو نُعيمٍ يقول: عن مولاةٍ لعائشة".
وأبو نُعيمٍ هو الفضل بن دُكَينٍ. وروايته أخرَجَهَا إسحاقُ بنُ رَاهَويهِ في "مُسنَده"(ج 4/ ق 120/ 2) قال: أخبَرَنا المُلَائِيُّ، نا سُفيان به.
وأخرجه ابنُ سَعدٍ في "الطَّبَقات"(1/ 383 - 384) قال: أخبَرَنا وَكِيعُ بنُ الجرَّاح، والفضلُ بنُ دُكَينٍ، عن سُفيانَ به.
والمُلَائِيُّ هو أبو نُعيمٍ.
ولكنَّه لم يتفرَّد به ..
فتابعه عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ، فرواه عن سُفيان، مثلَ أبي نُعيمٍ.
أخرجه أحمدُ (6/ 190).
وهذا الوجهُ عن سُفيانَ الثَّورِيِّ أولى من رِوايةِ يُوسُفَ بنِ أسباطَ المُتقدِّمةِ عنه؛ للعِلَّة المُتقَدِّمة.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ لجهالة مولاة عائشة.
وقد ثَبَت ما يُعارِض هذه الرِّوايةَ، كما يأتِي.
وأخرَجَ عبدُ الرَّزَّاق (ج 6/ رقم 10471)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير"(ج 9/ رقم 8318) عن يحيى بن العلاء، عن ابن أَنعُمٍ، أنَّ سعدَ بنَ مسعودٍ الكِنْدِيَّ قال: أَتَى عُثمانُ بنُ مظعُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسُولَ الله! إنِّي لأستحَيِي أن تَرَى أهلي عَورَتِي"، قال:"وقد جَعَلَكَ اللهُ لهم لِباسًا، وجَعَلَهُم لك لِباسًا؟! "، قال:"أَكرَهُ ذلك"، قال:"فإِنَّهم يَرَونَه مِنِّي، وأَرَاه منهم"، قال:"أنتَ يا رسُولَ الله؟! "، قال:
"أنا"، قال:"أنتَ؟! فمَن بَعدَكَ إذًا؟! "، -قال:- فلمَّا أَدبَر عثمانُ قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ابنَ مظعُون لَحَيِيٌّ سِتِّيرٌ".
قال الهَيثَمِيُّ: "فيه يحيى بنُ العَلَاء، وهو متروكٌ" ا. هـ، وكذَّبَهُ أحمد، وغيرُه.
• قلتُ: لم يتفرَّد به ..
فتابعه مُحمَّدُ بنُ يزيدَ الوَاسِطِيُّ، ويعلى بنُ عُبَيدٍ الطَّنَافِسِيُّ، قالا: أخبَرَنا الإِفرِيقِيُّ، عن سعدِ بنِ مسعُودٍ، وعُمارةَ بنِ غُرابٍ اليَحصُبِيِّ، أن عُثمانَ بن مظعُون أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
أخرجه ابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 394) عنهما.
والإِفرِيقِيُّ هو عبدُ الرحمن بنُ زياد بن أَنعُمٍ، مُختلَفٌ فيه، فمِنهُم من مشَّاهُ، والأكثَرُون على تضعيفه.
وسعدُ بن مسعُودٍ الكِندِيُّ وثَّقَهُ ابنُ حِبَّان (4/ 297)، وترجَمَهُ البُخاريُّ في "الكبير"(2/ 2/ 64)، وابنُ أبي حَاتِمٍ (2/ 1/ 94 - 95)، ورَوَى عن ضِمام بن إِسماعيلَ، قال:"كان عُمَرُ بنُ عبد العزيز بَعَث سعدَ بنَ مسعودٍ يُفَقِّهُهُم، ويُعَلِّمُهم دِينَهم"، فهذا يَدُلُّ على تقوية سعدٍ. ولكنه مُنقَطِعٌ، فإنَّهُ لم يُدرِك عُثمانَ بنَ مَظعُونٍ، إذ أنَّه تُوفيِّ في حياةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
ومثلُهُ عُمارةُ بنُ غُرابٍ.
وعُمارةُ هذا تَرجَمَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح"(3/ 1/ 368)، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تَعدِيلًا. ولكنَّهُ مُتابَعٌ، كما هو ظَاهِرٌ.
وأخرَجَهُ الحارث بنُ أبي أُسامَةَ في "مُسنَده"(492 - زوائده)، قال:
حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ أبي إِسماعيلَ، ثنا إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ، عن عبد الرَّحمن الإِفرِيقِيِّ، عن سعد بن مَسعُودٍ الكِندِيِّ، أنَّ عُثمانَ بنَ مَظُعون، فذَكَرَه.
وشَيخُ الحارِث مُنكَر الحديث.
واعلم! أنَّه لا يَصِحُّ حديثٌ في مَنع الرَّجُلِ أن يَرَى عورة امرأتِهِ، ولا العَكس. وكُلُّ ما وَرَدَ في هذا فبَاطِلٌ. بل ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَكسُ ذَلكَ، فقَالَ:"احفظ عَورَتك، إلَّا من زَوجَتِك، أو ما مَلكَت يمينُك".
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الغُسل"(1/ 385) معلَّقًا، ووَصَلَهُ أبو داوُد (4017)، والنَّسَائِيُّ في "عِشرة النِّساء"(8972 - الكبرَى)، والتِّرمِذِيُّ (2794)، وابنُ مَاجَهْ (1920)، وأحمدُ (5/ 3، 4)، وابنُ المُنذِر في "الأوسط"(ج 1/ رقم 256)، والرُّوْيَانِيُّ في "مُسنَده"(ج 27/ ق 163/ 2 - 166/ 2)، والمُخلِّصُ في "الفوائد"(ج 11/ ق 237/ 2)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(2/ 156)، والحاكمُ (4/ 180)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج / 19 رقم 989 - 995)، والبَيهَقِيُّ في "السُّنَن"(1/ 199، و 2/ 225، و 7/ 94)، وفي "الآداب"(رقم 855)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 121)، والخطيبُ (3/ 261)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(1102)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(13/ 5) من حديث بَهزِ بن حَكيمٍ، عن أبيه، عن جَدِّه مُعاويةَ بنِ حَيدَةَ، قال:"يا رسُولَ الله! عوراتُنا، ما نأتي منها وما نَذَرُ؟ "، قال:"احفظ عورَتك، إلَّا من زَوجَتِك، أو ما ملكت يمينُك"، -قال:- قُلتُ: "يا رسُولَ الله! إذا كان القومُ بعضُهمُ في بعضٍ؟ "، قال:"إن استطعتَ أن لا يَرَينها أحدٌ فلا يَرَينَّها"، -قال:- قلتُ:
"يا رسُول الله! إذا كان أحدُنا خاليًا؟ "، قال:"اللهُ أحقُّ أن يُستَحيَا منه من النَّاس"، واللَّفظُ لأبي داوُد. واقتَصَر بعضُ المُخَرِّجين على بَعضِه.
وأخرَج الشَّيخانِ، واللَّفظُ لمُسلِمٍ، عن عائشةَ، قالَت:"كُنتُ أَغتَسِل أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن إناءٍ بيني وبينه واحدٍ، تَختَلِفُ أيدينا فيه، فيُبَادِرُنِي، حتَّى أقول: دع لي! دع لي! " قالَت: وَهُما جُنُبان.
قال الحافظُ في "الفتح"(1/ 364): "استَدَلَّ به الدَّاوُدِيُّ على جوازِ نَظَرِ الرَّجل إلى عورة امرأتِهِ، وعكسِه. ويُؤيِّدُه: ما رَوَاه ابنُ حِبَّانَ من طريق سُليمانَ بنِ مُوسَى، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجل يَنظُر إلى فَرْجِ امرأتِهِ، فقال: سأَلتُ عطاءً، فقال: سَأَلتُ عائشةَ، فذَكَرت هذا الحديثَ بمعناه. وهو نَصٌّ في المَسأَلة. والله أعلم" ا. هـ.
قال ابنُ حزمٍ في "المُحلَّى"(10/ 33): "وحَلَالٌ للرَّجل أَن يَنظُر إلى فَرجِ امرأتِهِ، زوجتِهِ، أو أَمَتِه التي يَحِلُّ له وَطْؤُها، وكذلك لَهُمُا أن يَنظُرا إلى فرجِهِ، لا كراهية في ذلك أَصلًا؛ بُرهان ذلك، الأخبارُ المشهورَةُ عن عائِشةَ، وأُمِّ سَلَمة، ومَيمُونةَ، أُمهاتِ المُؤمِنِينَ رضي الله عنهن كُنَّ يَغتَسِلن مع رسُول الله صلى الله عليه وسلم من الجَنابةِ مِم إناءٍ واحدٍ. وفي خَبَر مَيمُونَةَ، بَيَانُ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان بِغَيرِ مِئزَرٍ، لأنَّ في خبرها أنَّه عليه الصلاة والسلام أَدخَل يده في الإناء، ثُمَّ أفرَغَ على فَرجِه، وغَسَل بشِمالِهِ، فَبَطل بعدَ هذَا أَن يُلتَفَت إلى رأيِ أحدٍ. ومن العَجَب أَن يُبِيحَ بَعضُ المُتكلِّفين مِن أهلِ الجهلِ وطءَ الفَرج، وَيمنعَ مِنَ النَّظر إليه!! وَيكفِي مِن هذا، قَولُ الله عز وجل:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6]، أَمَر-عز وجل-
بِحِفظِ الفَرْج، إلَّا على الزَّوجة ومِلكِ اليَمِين، فلا مَلامَةَ في ذلك، وهذا عُمومٌ في رُؤيتِهِ، ولَمسِهِ ومُخالَطَته. وما نَعلَمُ للمُخالِف تعلّقًا إلَّا بأثرٍ سخيفٍ، عن امرأةٍ مَجهولة، عن أُمِّ المُؤمِنين:"ما رَأيتُ فَرْج رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وآخرَ في غاية السُّقوطِ: عن أبي بَكرٍ بنِ عَيَّاشٍ، وزُهير بنِ مُحمَّدٍ، كلاهما عن عبدِ المَلِك بن أبي سُليمان العَرْزَمِيِّ. وهؤلاء ثَلَاثُ الأَثَافِي، والدِّيارُ البَلَاقِعُ، وأحدُهم كان يَكفِي في سُقوط الحديث" انتهَى.
• قلتُ: هوَّل ابنُ حزمٍ على عادته في الجَرح؛ فأبو بَكرٍ بنُ عيَّاشٍ ثقةٌ في نَفسِه، ولكن ساء حِفظُه لما كَبِر. وكتابُه صحيحٌ. وزُهيرُ بنُ مُحمَّدٍ فضُعِّفَ بسبب روايةِ أهل الشَّام عنه، فكَثِيرٌ منها مَنَاكِيرُ. وأمَّا عبدُ المَلِك ابنُ أبي سُليمان فهو أقواهم، وإنَّمَا نَقَم عليه شُعبةُ حديثَ الشُّفعَةِ، وما أحسنَ ما قاله الخطيبُ في "تاريخه" (10/ 395):"وقد أساء شُعبَةُ في اختياره، حيثُ حدَّثَ عن عُبيد الله العَرْزَمِيِّ، وترك التَّحدِيثَ عن عبد المَلِك بنِ أبي سُليمان؛ لأنَّ مُحمَّدَ بنَ عُبيد الله لم يَختَلِف الأئمَّةُ من أهل الأَثَر في ذَهَاب حديثِه، وسُقوط رِوايَتِه، وأمَّا عبدُ المَلِك فثناؤُهُم عليه مُستَفِيضٌ، وحُسنُ ذِكرِهم له مَشهُورٌ" انتهَى.
فهل يَلتَئِمُ هذا مع قَول ابنِ حَزمٍ: إنَّ واحدًا مِنهُم يكفي لسقوط الحديث، وأنَّهم "ثَلَاثُ الأَثَافِي، والدِّيَارُ البَلَاقِع"؟!
فالله تعالى يَتَجَاوَزُ عنَّا وعنه.
• قلتُ: وعلي النَّقِيضِ تمامًا مِن صنيع ابن حَزمٍ، تَرَى قولَ أبي الفَيضِ الغُمَارِيِّ في "المُداوِي"(2/ 287 - 288).
فقد ذَكَر السِّيُوطِيُّ في "الجامع الصَّغِير" حديثَ: "إنَّ اللهَ جَعَلَهَا لكَ لِباسًا، وجَعَلَكَ لها لِباسًا، وأَهِلي يَرَونَ عَورَتي، وأنا أَرَى ذلك مِنهُم". فتَعَقَّبَ الغُمَارِيُّ المُنَاوِيَّ من وُجُوهٍ، الذي يعنينا مِن كلامِهِ الوجهُ الأَوَّلُ، فقال:"أنَّ هذا الحديثَ منُكَرٌ باطلٌ؛ لمُخالَفَتِهِ الصَّحيحَ مِن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثَّابِتَ المعرُوفَ مِن هَديِهَ وَأَمرِهِ. والصَّحِيحُ عن عائشة رضي الله عنها قولهُا: "مَا رَأيتُ ذلك منه، ولا رآه مِنِّي". وفي سِياقِ الحديثِ مِن أَصلِهِ نَكَارَةٌ، وهو: سعدُ بنُ مسعُودٍ اللَّيثِيُّ، قال: أَتَى عُثمانُ بنُ مَظعُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنِّي أَستَحِي أن يَرَى أهلي عَورَتِي"، قال: "وَلِمَ، وقد جَعَلك اللهُ لُهنَّ لِباسًا، وجَعَلهم لك لِباسًا؟! "، قال: "أَكرَهُ ذلك"، قال: "فإِنَّهم يَرَونه مِنِّي، وأَرَاه منهم"، قال: "أنت رسولُ الله! "، قال: "أنا"، قال: "أنتَ! فمَن بَعدَك إذَنْ؟! "، فلمَّا أَدبَرَ عُثمانُ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ابنَ مَظعُون لحَيِيٌّ سِتِّيرٌ". ففي هذا السِّياقِ، ومُراجَعَةِ ابنِ مَظعُون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بذلك التعبيرِ الغَرِيبِ، ما يدُلُّ على نَكَارَتِه وبُطلانِهِ، قَبل مخُالَفتِهِ للثَّابِت من سُنَّتِه صلى الله عليه وسلم، فكيف وفي سَنَدِه عند ابنِ سعدٍ عبدُ الرَّحمن بنُ زيادٍ الإِفرِيقِيُّ، رَاوِى الغرائبِ والمُنكَراتِ، والمُدلِّسُ عن الكَذَّابين، والرَّاوِي عن المجهولين. وفي سَنَدِه عند الطَّبَرَانِيِّ يحيى بنُ العَلَاء، وهو كَذَّابٌ، يَضَعُ الحديثَ، كما قال أحمدُ بنُ حَنبَلٍ. فكيف يُقبَل ما رواه مثلُ هؤلاء في مُعارَضَةِ الصَّحيح مِن سُنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهَديِهِ؟! " انتهَى.
هكذا قال! وهو مُحِقٌّ في إنكارِهِ حَدِيثَ عُثمانَ بنِ مَظعُون. ولكنَّه زَعَم
صِحَة إنكارِ عَائشةَ ثلاث مرَّاتٍ، وقد تَبَيَّن لك مِن البَحثِ أنَّهُ لا يَصِحُّ بِجَلَاءٍ. واللهُ أعلَمُ.
ثُمَّ قولُهُ: "وفي سَنَدِه عند ابنِ سعدٍ الإِفرِيقِيُّ
…
وفي سَنَدِه عند الطَّبَرَانِيِّ يحيى بنُ العَلَاء، وهو كَذَّابٌ، يَضَعُ الحديث
…
الخ".
أقولُ: هذا تَكثِيرٌ لِلعِلَلِ، وإلَّا فالحديث يَدُورُ على الإِفرِيقِيِّ، عند ابنِ سعدٍ والطَّبَرَانِيِّ. أمَّا يحيى بنُ العَلَاء، فقد تُوبع، كما مَرَّ ذِكرُهُ.
واللهُ أعلمُ.
38 - سُئلتُ: هل هناك حديثٌ يَنهَى عن إغماض العين في الصَّلاة؟
• قلتُ: نعم هناك حديثٌ يَنهَى، لكنَّه ضعيفٌ.
أخرجه الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 10956)، وفي "الأوسط"(ج 3/ رقم 2239)، وفي "الصَّغير"(1/ 17)، وابنُ عديِّ في "الكامل"(6/ 2362) مِن طريق أبي خَيثَمَة مُصعَب بن سعيدٍ، قال: ثنا مُوسَى ابنُ أَعْيَنَ، عن ليثٍ، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"إِذَا قام أحدُكم في الصَّلاة، فلَا يُغمِض عَينَيه".
قال الطَّبرانيُّ: "لا يُروى هذَا الحديثُ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذَا الإسنادِ، لم يَروِهِ عن مُوسَى إلَّا مصعبٌ". وكذلك قال ابن عديٍّ.
وهذا الإسنادُ معلٌّ بعِلَّتين:
الأولى: "ليثُ بن أبي سُليمٍ"، فعامَّةُ النُّقاد على تضعيفِهِ؛ لاختلاطه.
الثَّانية: "مُصعب بن سعيدٍ"، قال صالحٌ جزرةُ الحافظُ:"شيخٌ ضريرٌ، لا يَدرِي ما يقولُ". وقال ابن عديٍّ: "يُحدِّثُ عن الثِّقاتِ بالمناكيرَ، ويُصحِّفُ علَيهِم، والضَّعفُ على حديثِهِ بيِّنٌ".
أمَّا ابنُ حِبَّانَ، فذَكَرَهُ في "الثِّقات"(9/ 175)، وقال:"رُبَّما أَخطَأَ. يُعتَبَرُ حديثُه إذا رَوَى عن الثِّقات، وبَيَّنَ السَّمَاع في خَبرِه؛ لأنَّه كان مُدَلِّسًا. وقد كُفَّ في آخرِ عُمرِه".
وقد قال الذَّهَبِيُّ في "الميزان"(4/ 120)، وساق له هذا الحديثَ وغيرَه:"ما هذه إلَّا مَنَاكِيرُ وبلايا".
وأعلَّه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(2/ 83) بِـ "لَيثِ بن أبي سلَيمٍ"، وأنَّه مُدَلِّسٌ، وقد عَنعَنَهُ! كذا قال! ولم أَجِد أحدًا اتَّهَمَهُ بالتَّدليس، فلا أَدرِي مِن أين جاء بها الهَيثَمِيُّ؟! والحقُّ أنَّ الهَيثَمِيَّ مُضطَرِبٌ جدًّا في شأن لَيثٍ، فكثيرًا ما يقُولُ:"ثقةٌ، لكنَّه مُدَلِّسٌ"، والمُطالِع لترجمة ليثٍ يَقطَعُ بأنَّه ضعيفٌ، وأحيانًا يُصَرِّح الهَيثَمِيُّ بهذا أيضًا. وانظُر هذه المَواضِعَ في "مجَمَع الزَّوائد": 1/ 83، 131، و 2/ 264، و 3/ 22، 75، 225، 229، 273، و 4/ 215، و 5/ 50، و 6/ 254، 279، و 10/ 94، 142، 180، 249،364.
وقال ابنُ القيِّم في "زاد المعاد"(1/ 294): "وقد اختَلف الفُقهاء في كراهَتِهِ -يعني: تغميضَ العينين في الصَّلاة-، فكرِهَهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُه، وقالُوا: هذا فِعلُ اليهودِ. وأباحه جماعةٌ ولَم يَكرَهُوهُ، وقالوا: قَد يكونُ أقربَ إلي تحصيلِ الخُشوعِ، الَّذي هُو رُوحُ الصَّلاة وسِرُّها، ومقصُودُها. والصَّواب أَن يُقال: إن كانَ تَفتِيحُ العَينَينِ لا يُخِلُّ بالخُشوع فهو أَفضَلُ، وإن كان يَحُول بينه وبين الخُشوعِ لِمَا في قِبلتِهِ مِنَ الزَّخرفَةِ والتَّزويقِ أو غيرِهِ ممَّا يُشوِّش عليه قلبَه، فهُنالك لا يُكرَهُ التَّغميضُ قطعًا، والقَولُ باستحبابِهِ في هذا الحال أقربُ إلى أُصولِ الشَّرع ومقاصدِهِ من القول بالكراهة" ا. هـ.
39 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّهُ سيَكُونُ بَعدِي قَوْمٌ سِفْلَتُهُم مُؤَذِّنُوهُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجَهُ البزَّارُ (ج 1 / رقم 357) قال: حَدَّثنا أحمد بن منصور بن سيَّارٍ، ثنا عَتَّاب بن زيادٍ، ثنا أبُو حمزة السُّكَّريُّ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرةَ مرفُوعًا:"الإمام ضامنٌ، والمُؤَذِّن مُؤتَمنٌ. اللَّهُمَّ! أَرشِد الأئمةَ، واغفِر لِلمُؤذِّنين"، قالُوا:"يا رسول الله! لقد تَرَكتَنَا نتنافسُ في الأذان بعدك"، قال: " إِنَّهُ سيكونُ قومٌ
…
الخ".
وأخرجه أبُو عُثمان البَحِيرِيُّ في "الفوائد"(ج 2/ ق 5/ 2) من طريق مُحمَّد بن عمرو بن مَوجَةَ، ثنا عَبدانُ، ثنا أبُو حمزةَ السُّكَّريُّ بسنده سواءٌ.
قال البزَّارُ: "وقد رَوَى صدرَه عن الأعمش جماعةٌ، على اضطرابهم فيه وفي إسنادِه، وتفرَّد بآخرِهِ أبُو حمزةَ، ولم يُتابَع عليه".
ووافق البزَّارَ على هذا الحكمِ جماعةٌ من العُلماء، مِنهُم ابن عبد البَرِّ، فقال في "التَّمهيد" (22/ 15):"وهذا الحديث انفرد به أبُو حمزة هذا، وليس بالقويِّ".
وقال الخَلِيليُّ في "الإرشاد"(3/ 884 - 885): "وهذه اللَّفظة لا تُروَى إلَّا من رواية أبي حمزة، ورُبَّما هذا مِن قولِ بعض الرُّواة، ولا يَصحُّ هذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجملتُه أنَّه ثقةٌ مأمونٌ -يعني: أبا حمزة-".
وكذلك قال الدَّارقُطنيُّ في "العلل"(ج 3/ ق 177/ 1)، وقالَ:"ليس هذا اللَّفظُ محفوظًا".
وقال ابنُ عديٍّ في "الكامل"(5/ 1897) في ترجمة عيسَى بنِ عبدِ الله العَسقَلانِيِّ؛ قال: "وهذه الزَّيادةُ: "فقال رجلٌ لقد تركتَنَا تنافسُ الأذان بعدك" لا يُعرَفُ إلَّا لأبي حمزَةَ السُّكَّريِّ، عن الأعمش".
• قلتُ: كذا، تَتابع العُلماءُ على هذا القول، مع أنَّ أبا حمزةَ لم يَتفرَّد بها، فقد تابَعَه عمرُو بنُ عبد الغفَّار، ومُحمَّدُ بنُ عُبيدٍ، قالا: ثنا الأعمشُ، بسندِهِ سواءٌ بتمامه.
أخرجه البَيهقيُّ في "الكُبرَى"(1/ 430)، وفي "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 2801)، واختصر الزِّيادة في "الشُّعَب".
ولكنْ عمرُو بن عبد الغفَّار متروكٌ، تَرَكه أبُو حاتمٍ، واتَّهمه ابن عديٍّ بوضع الحديث، فمتابَعَتُه هي والعدمُ سواءٌ.
ومُحمَّد بن عُبيدٍ الطَّنافسيُّ ثقةٌ، لكن قال أحمدُ:"كان يُخطِئُ، ولا يَرجِعُ عن خَطئِه".
وأبو حمزة السُّكَريُّ اسمُه مُحمَّدُ بن ميمون، وهو أحدُ الفُحُول، ولكِنَّهُ تغيَّر في آخر عُمرِهِ كما قال النَّسائيُّ. فتَضعِيفُ ابنِ عبد البَرِّ له مُطلَقًا مردُودٌ.
والرَّاوي عنه عَتَّابُ بنُ زيادٍ ثقةٌ، ولكن لا أدري سَمِعَ منه في التَّغيُّرِ أم قبلَه؟
وتابعهم يَحيَى ين عيسى، قال: ثنا الأعمشُ، بسنده سواءٌ مع الزِّيادة.
أخرجَهُ ابنُ عديٍّ (5/ 1897) من طريق عِيسَى بنِ عبد الله بن سُليمان القُرشيِّ العَسقلَانيِّ، قال: ثنا يحيى بن عيسى به.
قال ابنُ عديٍّ: "وعيسى بن عبد الله ضعيفٌ، يسرِقُ الحديث، والضَّعفُ على حديثه بيِّنٌ، وهذه الزِّيادةُ لا تُعرَفُ إلَّا لأبي حمزَة السُّكَّريِّ، عن الأعمشِ، وقد جاء بها عيسى بنُ سليمانَ هذا، عن يحيى بن عِيسَى، عن الأعمش" ا. هـ.
ويعنِي ابنُ عديِّ أنَّ عيسى سَرَقَهُ. ويحيى بن عيسى ضعيفٌ أيضًا. قال ابن عديٍّ: "عامَّةُ رواياتِهِ ممَّا لا يُتابَعُ عليه".
ورجَّح ابنُ القطَّان، والذَّهبيُّ أنَّ هذه الزِّيادةَ وهمٌ من البزَّار، فقد ذَكَرَها الذَّهبيُّ في ترجمةِ البزَّارِ من "الميزان"، وقال:"هذه زيادةٌ مُنكَرةٌ، قال الدَّارقُطنيُّ: ليست بمحفُوظِهِ" ا. هـ.
• قلتُ: كذا نقل الذَّهبيُّ إِعلالَ الدَّارقُطنيِّ، مع أنَّ الدَّارقُطنيَّ لمَّا ذَكَرَ هذِهِ الزِّيادة عصَّبَها بأبي حمزة السُّكَّريِّ، وليس بالبزَّار. وهاك كلامُهُ كاملًا في "العلل"(ج 3/ ق 177/ 1)، قال رحمه الله:"ورواهُ أبُو حمزةَ السُّكَّريُّ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرةَ، وزاد فِيهِ ألفاظًا لم يأت بها غيرُهُ وهي: "فقال رجلٌ: يا رسولَ الله! تَركتَنا نتنافسُ في الأذان
…
"، ولَيسَت هذه الألفاظُ محفوظةً" ا. هـ.
وقد ردَّ الحافظ في "اللِّسان"(1/ 238) على ابن القَطَّان والذَّهبيِّ معًا، فقال:"لم يَتفَرَّد أبُو بكرٍ البزَّاز بهذه الزِّيادةِ، فقد رَوَاها أبُو الشَّيخِ في "كتاب الأذان" له، عن إسحاق بن أحمد بن مُحمَّد بن عليِّ بن الحَسَن بن
شقيقٍ، سمعتُ أبي، يقولُ: أنا أبُو حمزةَ، فذكره. وأثبت ابنُ عديٍّ هذه الزِّيادة أنَّها من حديثِ أبي حَمزة السُّكَّريِّ، فبَرِئَ البزَّارُ من عُهدَتِها" ا. هـ.
• قلتُ: كذا وقع في "اللِّسان": "إسحاق بن أحمد بن مُحمَّد
…
"، ولعلَّ الصَّواب: "إسحاق بن أحمد، عن مُحمَّد بن عليٍّ
…
"
(1)
. ومُحمَّد بن عليِّ بن الحسَن بن شقيقٍ وأبُوه من رجال "التَّهذيب". وإسحاق بن أحمد، مِن شُيوخ أبي الشَّيخ الأصبهانيِّ، يَروِي عنه رُسْتَهْ وطَبَقَتُهُ.
وأخرجه أبو الشَّيخ في "الطَّبقات"(428)، والبيهقيُّ في "سُنَنه"، والخطيبُ في "تاريخه"(4/ 387 - 388)، وابنُ عساكر (ج 14/ ق 369/ 1) من طُرُق عن عبد الله بن عُثمان، ثنا أبُو حمزة السُّكَّريُّ، فذكره.
ولم تَقَع هذه الزِّيادةُ في رِواية الخطيب، ويبدو لي أنَّهُ اختصرها.
فهذا يَدُلُّ على أن البزَّار بريءٌ من هذا الوَهَم. واللهُ أعلَمُ.
فالعِلَّةُ عندي هي مُخالَفةُ أبي حمزةَ السُّكَّريِّ ومَن معه للجَمِّ الغفير مِن أصحاب الأَعمَش؛ فقد رَوَوْا هذا الحديثّ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرة مرفُوعًا بغير هذه الزِّيادة. فمِن هؤُلاء:
"شُعبةُ، والثَّوريُّ، وابنُ عُيَيْنةَ، ومَعمَرُ بنُ راشدٍ، وأبو الأحوصِ، وأبو مُعاوية، وزائدةُ بنُ قُدامة، وحفصُ بنُ غِيَاثٍ، وأبُو عَوانةَ الوضَّاحُ اليَشكُرِيُّ، والأوزاعيُّ، وعيسى بنُ يُونُسَ، وجريرُ بنُ عبدِ الحميد،
(1)
ثمَّ راجعتُ مخطوطة "اللِّسان" المحفوظة في "مكتبة أحمد الثَّالث"(ج 1/ ق 75/ 2)، فوجدته كذلك؛ فللَّه الحمد.
وفُضيلُ بنُ عِياضٍ، وسُهيلُ بنُ أبي صالحِ، وشَريكٌ النَّخَعِيُّ، وهُشيمُ ابنُ بَشيرٍ، وصَدَقةُ بنُ أبي عِمران، وأبو الأَشهَب جعفرُ بنُ حَيَّان، وقيسُ ابنُ الرَّبيع، وحمزةُ بنُ حبيبٍ الزَّيَّات، وسلَّامُ بنُ أبي مُطيعٍ، وحَبَّانُ بنُ عليٍّ، وآخَرون".
أَخرَجَهُ أبو داوُدَ في "المسائِل"(ص 293)، والتِّرمِذِيُّ (207)، وأحمدُ (2/ 284، 424، 461، 472)، والشَّافِعِيُّ في "المُسنَد"(56)، وفي "الأُمِّ"(1/ 159)، والطَّيَالِسِيُّ (2404)، والحُمَيدِيُّ (999)، وعبدُ الرَّزَّاق (1/ 477)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد ابنِ الجَعْدِ"(ج 2/ رقم 2209)، وابنُ خُزَيمَةَ (3/ 15 - 16)، والبَزَّارُ في "مُسنَده"(ج 2/ ق 216/ 2)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 52، 53)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 1 / ق 7/ 1 - 173/ 2 - 264/ 2، وج 2/ ق 21/ 2 - 243/ 1)، وفي "الصَّغير"(1/ 107، 214، و 2/ 13)، وأبو الشَّيخ في "ذِكر رِواية الأَقرَان"(ق 3/ 1)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 87، و 8/ 118)، وفي "أخبار أَصبَهَانَ"(2/ 232)، والبَيهَقِيُّ (1/ 430، و 3/ 127)، والخطيبُ في "تاريخه"(4/ 301، 387، و 9/ 413، و 11/ 306)، وابنُ الدُّبَيثِيِّ في "ذيل تاريخ بغداد"(1/ 195، 196)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 279)، والبَحِيرِيُّ في "الفوائد"(ج 2/ ق 5/ 2 - 9/ 2)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 2/ ل 87)، والخَطَّابِيُّ في "الغريب"(1/ 636)، والذَّهَبِيُّ في "مُعجَم شُيوخه الكبير"(ق 141/ 1 - 2) من طُرُقِ عن الأعمش.
وخالَفَ جميعَ من تقدَّمَ ابنُ نُميرٍ، قال: ثنا الأعمشُ، قال: حُدِّثتُ عن أبي صالحٍ -ولا أُراني إلَّا قد سَمِعتُه منه-، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرجه أبو داوُد (518)، وأحمدُ (2/ 382)، وابنُ خُزَيمَةَ (ج 3/ رقم 1529).
قال ابنُ خُزَيمَةَ: "أَفسَد ابنُ نُميرٍ الخَبَرَ"!
وأخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 53)، وأبو موسى المَدِينِيُّ في "اللَّطائف"(ج 8/ ق 108/ 1) من طريق شُجاعِ بنِ الوَلِيد، عن الأعمشِ مِثلَه.
وأخرَجَهُ البَزَّارُ (ج 2/ ق 216/ 2) من طريق شُجاعٍ، وابنِ نُمَيرٍ معًا، عن الأعمش به.
وتابَعَهُمَا مُحمَّدُ بنُ فُضيلٍ، قال: حدَّثَنا الأعمشُ، عن رجُلٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أبو داوُد (517)، وأحمدُ (2/ 232)، والبَيهَقِيُّ (1/ 430).
فأعلَّ جماعةٌ من فُحُول العُلَماء حديثَ الأعمش، عن أبي صالحٍ، بمِثلِ هذه الأسانيد التي وَقَع فيه الواسطةُ بين الأعمش وأبي صالحٍ، وقالُوا: إنَّ الأعمشَ لم يَسمَع هذا الحديثَ مِن أبي صالحٍ، وإنَّما دَلَّسه.
قال الإمام أَحمدُ: "ليس لِحَديث الأعمش أصلٌ"! نقله عنه أبو داوُد في "المسائل"(ص 293).
وقال ابنُ مَعِينٍ في "التَّاريخ"(ق 76/ 2): "قال سُفيانُ الثَّورِيُّ: لم يَسمَع الأعمشُ هذا الحديثَ مِن أبي صالحٍ".
ورَوَى أبو مُوسَى المَدِينِيُّ في "اللَّطائف"(ج 8/ ق 108/ 1) بسَنَده إلى عليِّ بن المَدِينِيِّ، قال: سمعتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقولُ: قال سُفيانُ الثَّورِيُّ: حديثُ "الأعمش عن أبي صالحٍ: الإمام ضامنٌ" لا أُراه سَمِعَهُ من أبي صالحٍ".
وقال ابنُ المَدِينِيِّ: "لم يَسمَعهُ الأعمشُ مِن أبي صالحٍ بيقينٍ! لأنَّه يقول فيه: نُبِّئتُ عن أبي صالح". وكذا أعلَّه البَيهقِيُّ بذات العبارة.
• قلتُ: فالجوابُ الصَّحِيحُ أنَّ الأعمشَ لَمَّا رَوَى الحديث بصيغة "نُبِّئتُ" أَردَفَها بقوله: "ولا أُرَانِي إلَّا قد سَمِعتُه منه"، فهذا ترجيحٌ منه للسَّمَاع. وقد رواه عنه، عن أبي صالحٍ: شُعبةُ بن الحَجَّاج، وهو لا يَحمِلُ عن الأعمش ما دَلَّس فيه، كما هو معلومٌ. وهذا القدرُ كافٍ في دَفعِ هذه العِلَّةِ مِن أساسِها.
فكيف وقد ثَبَت السَّمَاع "بيقينٍ"!!
فقال الطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"، بعد رواية شُجاع بن الوليد الماضيةِ:"لكنَّ هُشَيمًا، وهو فَوقَهُ -أي: فوق شُجاعٍ في الضَّبط-، قد قال فيه: عن الأعمش، قال: ثنا أبُو صالحٍ"، وأَخرَجَ هو هذه الطَّريقَ (3/ 52).
وقال الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(3/ 177/ 1): "وقال إبراهيمُ بنُ حُميدٍ الرُّؤَاسِيُّ، عن الأعمش، عن رَجُلٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة. قال الأعمشُ: وقد سمِعتُه من أبي صالحٍ. وقال هُشيمٌ: عن الأعمش، ثنا أبو صالحٍ، عن أبي هُريرَة".
وقد تُوبِع الأعمشُ.
تابعه سُهيلُ بنُ أبي صالحٍ، فرواه عن أبيه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا فذَكَرَهُ بمثلِه.
أخرجه ابنُ خُزَيمَةَ (3/ 16)، وابنُ حِبَّان (363)، وابنُ أبي شَيبَة (1/ 224)، وأحمدُ (2/ 419)، والشَافِعِيُّ في "مُسنَده"(ص 33)، والنِّعَالِيُّ في "جُزء من حَدِيثِه"(ق 66/ 2)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(4/ 1611)، والخطيبُ في "تاريخه"(6/ 167)، وأبو مُوسَى المَدِينِيُّ في "اللَّطائف"(ج 8/ ق 108/ 1).
وقد رواه عن سُهيلٍ جماعةٌ، منهم:"عبدُ الرَّحمن بنُ إسحاقَ، ومُحمَّد ابنُ عمَّارٍ، وشُعبةُ، وإبراهيمُ بنُ مُحمَّد بنِ أبي يَحيىَ، وعبدُ العَزِيز بنُ مُحمَّدٍ الدَّرَاوَردِيُّ".
وتابَعَهُم رَوحُ بنُ القَاسِم فرواه عن سُهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة به.
أخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 52) قال: ثنا ابنُ أبي دَاوُد، ثنا أُمَيَّةُ بن بِسطامَ، ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، ثنا رَوحُ بنُ القاسم بهذا.
وقد خُولِف ابنُ أبي داوُد.
خالَفَهُ مُعاذُ بن المُثَنَّى، وعبدُ الله بن أيُّوبَ القِرَبِيُّ، قالا: حدَّثَنا أُمَيَّةُ ابنُ بِسطَامَ، حدَّثَنا يزيدُ بن زُرَيعٍ، ثنا رَوحُ بن القاسم، عن سُهيل بن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة موفُوعًا.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 1 / ق 264/ 2، و 2/ 141/ 1)، وفي "الصَّغير"(1/ 214)، ومِن طريقه الخطيبُ في "تاريخه"(9/ 413)، لكن سقط ذكر "الأعمش" عنده، والصَّوابُ إثباتُهُ.
• قلتُ: كِدتُ أظُنُّ أنَّ الأعمش سَقَط من السَّنَد في "المُشكِل"؛ لأنَّ النُّسخة كثِيرَةُ السَّقط، لولا أنَّ البَزَّارَ قال في "مُسنَده" (ج 2/ ق 216/ 2):"ورواه رَوحُ بن القاسم، عن سُهيل، عن أبيه".
وابنُ أبي داوُد ثِقَةٌ، وكذلك مُعاذ بن المُثَنَّى. ولكنَّ عبدَ الله بنَ أيُّوبَ متروكٌ، كما قال الدَّارَقُطنِيُّ.
فأمَّا رِواية سُهيلٍ، عن أبيه ..
فقال الحافظُ في "التَّلخيص"(1/ 209): "قال ابنُ عبد الهَادِي: أخرَجَ مُسلِمٌ بهذا الإسناد نحوًا مِن أَربعة عَشَر حديثًا".
ولكن أعلَّ ابنُ المَدِينِيِّ هذه المُتابَعَةَ أيضًا، بقوله:"لم يَسمَع سُهيلٌ هذا الحديثَ من أبيه، ولكن سَمِعَه من الأعمش".
ونَقَل البيهقيُّ مِثلَ هذا عن الإمام أحمد.
• قلتُ: فيُشِيرُ الإمامان إلى ما رواه رَوحُ بن القاسم، فيما تَقَدَّم.
وقد تابع ابنَ القَاسِم عليه: الدَّرَاوَردِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ جعفر بن أبي كَثِيرٍ القَارِي، وعبدُ العزيز بنُ أبي حازمٍ، جميعًا عن سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرَجَهُ ابن خُزَيمَةَ (ج 3/ رقم 1528)، والبَزَّارُ (ج 2/ ق 216/ 2)، وابنُ المُقرِي في "مُعجَمه"(ج 6/ ق 111/ 2)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 52)، وأبو الشَّيخ في "ذِكر رِواية الأَقرَان"(ق 2/ 2)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 83)، وأبو مُوسَى المَدِينِيُّ في "اللَّطائف"(ج 1/ ق 6/ 1، وج 5 / ق 60/ 1)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 2800)،
وفي "السُّنن"(1/ 430).
ولكن، يُجَابُ عنه بأنَّ سُهيلًا ثِقَةٌ، من رجال مُسلِمٍ وإن كان أصابَتهُ عِلًّةٌ في آخِر حياتِهِ فَنَسِيَ بعضَ حديثِهِ، إلَّا أنَّه كان مُختصًّا بأبيه. وغيرُ مُستبعَدٍ أن يكون سَمِعَهُ من الأعمش، وسَمِعَهُ من أبيه. ثُمَّ إنِّي لم أر أحدًا اتَّهَمَهُ بالتَّدليس، وهذا يَنفِي التَّخَوُّفَ من عَنعَنَتِه. ثُمَّ فوق ذلك: ما الدَّليل على أنَّه لم يَسمَع هذا الحديثَ مِن أبيه؟ أَلِمُجَرَّد روايته الحديثَ مرَّةً عن الأعمش، عن أبيه، ومرَّةً عن أبيه؟! فهَذِهِ أمارة انقطاعٍ، وليست دليلًا، ومثلُ هذا يَقعُ كثيرًا في أحاديث "الصَّحيحين"، فَضلًا عن غيرِهما.
وقد تُوبِع الأعمشُ، وسهيلٌ على هذا الوجه ..
1 -
فرواه أبُو إسحاق السَّبِيعِيُّ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرجه أحمدُ (2/ 377 - 378، 514)، وابنُ خُزَيمَةَ (3/ 16)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 53)، وأبو عَمرٍو السَّمَرقَندِيُّ في "الفوائد المنتقاة الحِسَان"(ق 72/ 2)، والبَزَّارُ (ج 2/ ق 204/ 1)، وابنُ الأَعرَابِيِّ في "مُعجَمه"(ج 6/ ق 107/ 1)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 1/ ق 208/ 1)، وفي "الصَّغير"(1/ 265)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(1/ 341) من طُرُقٍ عن مُوسَى بن داوُد، عن زُهير بن مُعاوية، عن أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ به.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن أبي إسحاق إلَّا زُهيرٌ، ولا
رواه عن زُهيرٍ إلَّا مُوسى بن داوُد الضَّبِّيُّ".
• قلتُ: زُهير بن مُعاوِيَةَ، ومُوسَى بن داوُد كلاهما من الثِّقات الرُّفَعاء. ولكن، عِلَّةُ هذا الإسناد عِندِي هي أنَّ زُهيرًا كان مِمَّن سَمِع من أبي إسحاق في الاختلاط، كما قال أبو زُرعَة الرَّازِيُّ وغيرُه. ثُمَّ هو مُدَلِّسٌ، ولم يُصَرِّح بتحديثٍ.
قال البَزَّارُ: "وهذا الحديثُ إنَّما يُعرَف من حديث الأعمش، ولا أَحسِبُ أبا إسحاقَ سَمِعَهُ من أبي صالحٍ".
أمَّا الشَّيخُ أبو الأشبال رحمه الله، فقال في "شرح التِّرمِذِيِّ" (1/ 406):"إسنادُهُ لا مَطعَنَ فيه"! كذا قال! ولا يَخفَى ما فيه.
2 -
ويرويه مُحمَّدُ بنُ جُحَادَةَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 2/ ق 309/ 2)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(1/ 128 - 129) من طريق المُنذِر بن الوليد، ثنا أبي، ثنا الحَسَنُ بنُ أبي جعفرٍ، عن مُحمَّد بن جُحَادة فذَكَرَه.
وهذا سندٌ واهٍ؛ والحَسَنُ بنُ أبي جعفرٍ ضَعَّفَه ابنُ المَدِينِيِّ جِدًّا، وأحمدُ، والنَّسَائيُّ. وقال البُخارِيُّ، والفَلَّاسُ:"مُنكَر الحديث"، وزاد الفَلَّاس:"صَدوقٌ". وقال ابنُ مَعِينٍ: "ليس بشيءٍ". فهذا الضَّعفُ ناشئٌ من شِدَّةِ غفلته عن ضبط الحديث.
3 -
ويرويه أبو الهيثمِ الطَّائِيُّ، عن أبي صالحٍ به.
أخرَجَهُ بَحشَلٌ في "تاريخ واسط"(ص 112).
وأبو الهَيثَمِ رجلٌ من أهل الشَّام، لا أعرِفُهُ.
• قلتُ: هكذا رواه الجماعةُ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَةَ.
وخالَفَهُم مُحمَّدُ بنُ أبي صالحٍ، فرواه عن أبيه، عن عائشة مرفُوعًا فذَكَرَه. فجَعَله من:"مُسنَد عائشة".
أخرجه إسحاقُ بنُ رَاهَويهِ في "مُسنَده"(ج 4/ ق 132/ 2)، والبُخارِيُّ في "التَّاريخ الكبير"(1/ 1/ 78)، وأبو داوُد في "المسائل"(ص 293)، وأحمدُ (6/ 65)، وأبو يَعلَى (ج 8/ رقم 4562)، وابنُ خُزَيمَةَ (3/ 16)، وابنُ حِبَّان (362، 363)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3/ 53)، وأبو مُحمَّدٍ الفَاكِهِيُّ في "حديثه"(ج 1 / ق 8/ 1)، والبَيهَقِيُّ (1/ 431)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 194)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(1/ 435) من طريق نافع بن سُليمان، قال: حَدَّثني مُحمَّدُ بنُ أبي صالحِ.
قال ابن خُزَيمَةَ: "الأعمشُ أَحفَظُ من مِئتَينِ مِثلِ مُحمَّدِ بنِ أبي صالحٍ". ومقصودُ ابنِ خُزَيمَةَ رحمه الله أنَّ الأعمش رَوَى هذا الحديثَ عن أبي صالحٍ، فجَعَلَهُ من:"مُسنَد أبي هُريرَة"، بينما مُحمَّد بن أبي صالحٍ لمَّا رواه عن أبيه جَعَلَه من:"مُسنَد عائشة"، والأعمشُ في الذِّرْوَةِ في الحِفظ، ومُخَالِفُه لا يُعرَف أصلًا، فضلًا عن أن يكون له حِفظٌ.
ولكن، علَّق الشَّيخُ العلَّامةُ ذَهَبِيُّ العَصِر المُعَلِّمِيُّ اليَمانِيُّ على كلام ابن خُزَيمَة، فقال في تعليقه على "مُوضِح الأوهام" (1/ 269):
"ولا رَيبَ أنَّ الأعمشَ في نَفسِه إمامٌ حَافِظٌ مُتقِنٌ، لا يُذكَرُ بجنبِهِ مِثلُ مُحمَّدٍ هذا. ولكن، هناك أمرٌ يَظهَرُ أنَّه خَفِيَ على أبي حاتمٍ، وأبي زُرعَةَ، وابنِ خُزَيمَةَ. ذلك، أنَّ الأعمشَ -مع رواية جماعةٍ الحديثَ عنه، عن
أبي صالح، بدون تَصرِيحٍ بالسَّماع- قال مرَّةً:"سمعتُ أبا صالحٍ، أو بَلَغَنِي عنه"، ورواه الأعمشُ مرَّةً، عن رجُلٍ، عن أبي صالحِ. ذَكَر هذين البُخارِيُّ. وقال مرَّةً:"حُدِّثتُ عن أبي صالحٍ". ذَكَرَهُ التًّرمِذِيُّ. فتبيَّنَ أنَّ الأعمشَ جَزَم مرَّتَين بأنَّه سَمِعَهُ من آخرَ، عن أبي صالحٍ، وتشكَّكَ مرَّةً، وكان الغالِبُ يرويه عن أبي صالحٍ، بدون تصريحٍ بالسَّمَاع. والأعمشُ معرُوفٌ بالتَّدليس فيما يتحَقَّقُ عدمَ سماعِه، فما بالُك بما يشُكّ فيه؟ وإذا كان الأمرُ كذلك فلا مَعنَى للمُوازَنَة بين الأعمش ومُحمَّد بنِ أبي صالحٍ، وإنَّما الصَّوابُ المُوازَنَةُ بين رواية الأعمش، عن رجُلٍ لا يُدرَى مَن هُو، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة، وبين رواية نافع ابن سُليمان ذاكَ الحديثَ، عن مُحمَّد بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن عائشة
…
[ثُمَّ قال:] فأمَّا حُكمُ الحديثِ، فلو صَرَّح الأعمشُ بسماعِهِ من أبي صالحٍ ولم يَأتِ عنه ما يُخالِفُ ذلك لكان صحيحًا، ولكن قد جَاءَ عنه ما عَرَفتَ، فلا يَكُون الحديثُ صحيحًا، ولا حَسَنًا. وكذلك، على قول الجُمهور، لا يكونُ صحيحًا مِن الوجه الآخر؛ لجهالة مُحمَّد بن أبي صالحٍ" ا. هـ.
كذا، انفَصَلَ الشَّيخُ رحمه الله على تضعيف الرِّوايَتَينِ معًا، وفي كلامه نَظَرٌ بخُصوص رواية الأعمش؛ ذلك أنَّ الأَعمَشَ قد ثَبَتَ تصريحُهُ بالسَّماع، كما مَرَّ ذِكرُه. فلو جاءت رِوايةٌ أُخرَى عن الأعمش، فيها "بَلَغَنِي"، أو "نُبِّئتُ"، ونحو ذلك من صِيَغ الانقطاع، فماذا يَضِيرُ سماعُه في الرِّواية الأُخرَى؟ فمن المُحتَمَل أن يكون الأعمشُ سَمِع الحديثَ من رَجُلٍ، عن أبي صالحٍ، ثُمَّ لَقِي أبا صالحٍ، وسأَلَهُ عن الحديث، فأخَذَهُ مُشافَهَةً،
فحَدَّث به على السَّماع بعد ذلك، ومِثلُ هذا كثيرٌ ووفِيرٌ، حتَّى في رِواية من عُرِف بالتَّدليس. والله أعلَمُ.
وأعلَّ ابنُ الجَوزِيِّ رحمه الله حديث عائشة بقوله: "ليس في أولاد أبي صالحٍ من اسمُهُ مُحمَّدٌ"!
وسبَقَهُ إلى هذا الإنكارِ ابنُ عَدِيٍّ، غير أنَّهُ ساق أقوالًا ..
فقال في "الكامل"(6/ 2240): "ومُحمَّدُ بنُ أبي صالحٍ يَروِي عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "الإمام ضامنٌ". فهذا الحديثُ لا يَصِحُّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ أهل مِصرَ رَوَوهُ عن مُحمَّد بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن عائشة. ورواه سُهيلُ بنُ أبي صالحٍ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة. فالذي صَحَّحَ هذا الحديثَ جَعَلَ مُحمَّدَ بن أبي صالحٍ أخًا لسُهيل بن أبي صالحٍ، فقال: قد اتَّفَقَ سُهيلٌ ومُحمَّدٌ ابنا أبي صالِحٍ جميعًا، عن أبيهِمَا، فقال مُحمَّدٌ: عن عائشة، وقال سُهيلٌ: عن أبي هُريرَة. والذي لم يُصَحِّح هذا الحديث قال: من أين جُعِلَ مُحمَّدُ بنُ أبي صالحٍ أخًا لسُهيل بن أبي صالحٍ، وليس في وَلَدِ أبي صالحٍ من اسمُهُ مُحمَّدٌ؟ إنَّما هو سُهيلٌ، وعَبَّادٌ، وعَبدُ الله، ويحيَى، وصالحٌ بَنُو أبي صالحٍ، ليس فيهم مُحمَّدٌ"ا. هـ.
ومِثلُ هذا البحث مُتعقَّبٌ بما ذَكَرُه أبو داوُد في "كتاب الإِخوَةِ"، وكذا أبو زُرعَة الدِّمَشقِيُّ، وجَزَمَ به ابنُ الصَّلَاح في "المُقَدِّمة"(337). وفي "عِلَل الحديث"(ج 1 / رقم 217) لابن أبي حاتمٍ، قال: "سمِعتُ أبي، وذَكَر سُهيلَ بنَ أبي صالحٍ، وعَبَّادَ بنَ أبي صالحٍ، فقال: هما أَخَوَانِ،
ولا أَعلَمُ لهما أخًا، إلَّا ما رواه حَيْوَةُ بنُ شُريحٍ، عن نافع بن سُليمانَ، عن مُحمَّد بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن عائشةَ، مرفُوعًا
…
-الحديث-، -قال:- والأعمشُ يَروِي هذا الحديثَ عن أبي هُريرَة. قلتُ: فأيُّهُما أصحُّ؟ قال: حديثُ الأعمش؛ ونافعُ بنُ سُليمان ليس بقويٍّ. قلتُ: فمُحمَّد بنُ أبي صالحٍ أخو سُهيلٍ وعبَّادٍ؟ قال: كذا يَروُونَهُ" ا. هـ.
وقال الشَّيخُ أبو الأشبال في "شرح التِّرمِذِيِّ"(1/ 404): "والرَّاجِحُ عِندِي أنَّ مُحمَّد بنَ أبي صالحٍ كان موجُودًا؛ فقد رَوَى في "التَّهذيب" أنَّه رَوَى عَنهُ هُشيمٌ أيضًا. فلم يَنفَرِد نافعُ بنُ سُليمان بالرِّوايَةِ عَنهُ. ولعلَّهُ كان غَيرَ مَشهُورٍ في الرُّوَاةِ، فلذلك خَفِيَ أَمرُهُ على بعض العُلَماء. وقد نَقَلَ في "التَّهذيب" أنَّ ابنَ حِبَّان ذَكَرَهُ في "الثِّقات"، وقال: "يُخطِئُ"، ونَقَلَ فيه، وفي "التَّلخيص" أنَّ ابنَ حِبَّانَ أَخرَجَ حديثَهُ هذا في "صَحِيحِه". ووقُوعُ الخطإِ مِن الرَّاوِي في بَعض رواياتِهِ لا يَمنَعُ إصابَتَهُ فيما لم يُخالِفهُ فيه غيرُهُ، وأَولَى أن يُصِيبَ فيما وَافَق غيرَه فيه" ا. هـ.
• قلتُ: وهذا كلامٌ جَيِّدٌ، ويُضافُ إليه أنَّ مَن عَرَفَ حُجَّةٌ على مَن لم يَعرِف، والمُثبِتُ مُقدَّمٌ على النَّافي.
وقد اختَلَف العُلماء في أيِّهما الرَّاجِحُ: أهو حديثُ أبي هُريرَة، أم حَدِيثُ عائشة؟
فرَجَّحَ البُخارِيُّ حديثَ عائشة، كما نَقَل التِّرمِذِيُّ عنه ..
ورَجَّحَ أبو زُرعَةَ، وابنُ خُزَيمَةَ حديثَ أَبِي هُريرَة -وهو الرَّاجِحُ عِندي-، وصَوَّبَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(ج 5/ ق 94/ 2) ..
أمَّا ابنُ حِبَّان، فمال إلى صِحَّة الرِّوايَتَينِ، فقال في "صحيحه":"سَمِع هذا الخبرَ أبُو صالح السِّمَّانُ من عائشة، حَسب ما ذَكَرنَاه. وسَمِعَهُ من أبي هُريرَة. فمرَّةً حدَّث به عن عائشة، وأخرَى عن أبي هُريرَة" ا. هـ.
وكما قُلتُ: إنَّ الرَّاجِحَ حديثُ أبي هُريرَة؛ لقُوَّة طريقه.
وقد رواه عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيرَةَ جمعٌ، بخلاف حديثِ عائشة.
ولِلحَدِيثِ طريقٌ آخرُ عن أبي هُريرَة.
أخرَجَهُ ابنُ الأَعرَابِيِّ في "مُعجَمه"(ج 7/ ق 141/ 1) قال: نا الحَسَن ابن مُكرِم، نا أبو مَنصُورٍ الحَارِثُ بن مَنصُورٍ الوَاسطِيُّ، نا عُمَرُ بنُ قيسٍ أخو حُميد بن قَيسٍ المَكِّيُّ، عن عطاءٍ، عن أبي هُريرَة، مرفُوعًا:"الإمامُ ضامنٌ لصلاة القَومِ".
وسَنَدُهُ واهٍ جدًّا؛ وعُمَرُ بنُ قيسٍ المَكِّيُّ تَرَكَهُ أحمدُ، والفَلَّاسُ، والنَّسَائِيُّ، وأبو داوُد، وأبو حاتمٍ، وغَيرُهم. وقال أحمدُ:"ليس يَسوِي حديثُهُ شيئًا. لم يَكُن حديثُهُ بصحيحٍ. أحاديثُهُ بَوَاطِيلُ".
والكلام فيه طويلٌ.
وللحديث شواهدُ، ذَكَرتُها في "جُنَّة المُرتَاب"(ص 264 - 270).
40 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قَرَأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
…
الآية} [آل عمران: 18]، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا أَشهَدُ بِمَا شَهِدَ اللهُ بِهِ، وَأَستَودِعُ اللهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَهِيَ لِي عِندَهُ وَدِيعَةٌ. جِيءَ بِهِ يَومِ القِيَامَةِ، فَقِيلَ: عَبدِي هَذَا عَهِدَ إِلَيَّ عَهدًا، وَأَنَا أَحَقُّ مَن أَوفى بِالعَهدِ، أَدخلُوا عَبدِي الجَنَّةَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ.
أخرجه أبو الشَّيخ في "كتاب الثَّوَاب" -كما في "إتحاف السَّادة"(5/ 133)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 325) مِن طريق عمَّار بن عُمَر بن المُختار، قال: ثنا أَبِي، قال: حدَّثَني غالبٌ القَطَّان، عن الأعمش، عن أبِي وائلٍ، عن ابن مَسعُودٍ مرفُوعًا بهذا اللَّفظ.
وأخرجَهُ الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 10/ رقم 10453)، وابن عديٍّ في "الكامل"(5/ 1693 - 1694)، وابنُ عبد البَرِّ في "الجامع"(1/ 99)، والخطيبُ في "تاريخ بغداد"(7/ 193، 194)، وأبُو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 187)، والبيهقيُّ في "الشُّعَب" -كما في "الدُّرِّ المنثور"(2/ 12) - مِن طريق عمَّار بن عُمَر بن المُختار، عن أبيه، قال: حدَّثَنِي غالبٌ القَطَّانُ، قال: أَتَيتُ الكُوفة في تجارةٍ، فنَزَلتُ قريبًا من الأعمشِ، فكُنتُ أَختَلِفُ إليه، فلمَّا كان ذاتَ ليلةٍ أرَدتُ أن أنحَدِر إلى البصرة، قام
يتهجَّد من اللَّيل، فمرَّ بهذه الآيةِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
…
} [آل عمران: 18]، قالَهَا مرارًا، قُلتُ: لقد سَمِع فيها شيئًا. فغدَوتُ إليه، فودَّعتُه، ثُمَّ قُلتُ: إنِّي سمِعتُك تُردِّدُها اللَّيلةَ. قال: وما بَلَغَك ما فيها؟ -قال:- قلتُ: وأنا عِندَك منذُ سَنةٍ لم تُحدِّثني بها. قال: والله! لا أُحدِّثُك بها سنةً. فكَتَبتُ ذلك اليومَ على بابِهِ، فلمَّا مضت سنَةٌ، قلتُ: يا أبا مُحمَّد! قد تمَّت السَّنةُ. فقال: حدَّثَنِي أبو وائلٍ، عن ابن مَسعُودٍ مرفُوعًا: "يُجاء بصاحِبِها يوم القِيامة، فَيقُول الله عز وجل: عَبدِي عَهِدَ إِلَيَّ عَهدًا
…
الحديث".
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وعمَّارُ بن عُمَر، قال العُقيليُّ، بعد أن أَورَد هذا الحديثَ في ترجمته:"لا يُتَابَع على حديثه، ولا يُعرَفُ إلَّا به".
وقال الذَّهَبيُّ في "الميزان"(3/ 166): "فيه كلامٌ".
وضعَّفه البَيهقِيُّ.
وأبُوه شَرٌّ منه، قال الذَّهَبيُّ، بعد أن أورَد له هذا الحديث:"والآفَةُ فيه من عُمَر؛ فإنَّهُ مُتَّهمٌ بوضع الحديثِ، قال ابنُ خُطَّافٍ: عُمَرُ مُتَّهَمٌ بالوضع. وصرَّح ابنُ عديٍّ في أوَّل ترجَمَته أنَّه يَروِي البواطيلَ. وقال البَيهقيُّ: عمَّارٌ وعُمَرُ ضعيفانِ، ولَم يأتِ به غيرُهما" ا. هـ.
[تنبيهٌ]
عزَا السِّيوطيُّ هذا الحديثَ في "الدُّرِّ المنثور"(2/ 12) للطَّبرانيِّ في "الأوسط"، ولم أَجِدهُ فيه، فليُحَرَّر.
41 -
سُئلتُ عن حديث: "الوَلِيمَةُ حَقٌّ، فَمَن لَم يَجِب فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن دَخَلَ عَلَى غَيرِ دَعوَةٍ، دَخَلَ سَارِقًا، وَخَرَجَ مُغِيرًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ بهذا التَّمَام.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3741)، والبَزَّارُ (2/ 77)، وابنُ حِبَّان في "المجروحين"(1/ 293 - 294)، وأبو بكرٍ الشَّافعيُّ في "الغَيلَانِيَّات"(ق 93/ 1)، والبَيهقيُّ (7/ 265)، والخطيبُ في "التَّطفيل" (ص: 75) مِن طريق دُرُستِ بن زيادٍ، عن أبان بن طارقٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا فذَكَره. وزاد البزَّار: "
…
وَأَكلَ حَرَامًا".
قال أبو داوُد: "أبانُ بن طارقٍ مجهولٌ".
ولمَّا أخرج ابنُ عديٍّ في "الكامل"(1/ 380 - 381) هذا الحديث في ترجمة أبان، قال:"وأبانُ بن طارقٍ هذا لا يُعرَفُ إلَّا بهذا الحديث، وهذا الحديثُ معروفٌ به، وله غيرُ هذا الحديث، لعلَّهُ حديثين أو ثلاثةً، وليس له أَنكَرُ من هذا الحديثِ".
أمَّا قولُهُ: "فمن لم يُجِب الدَّعوةَ فقد عصَى اللهَ ورَسُولَه" فصحيحٌ ثابتٌ، أخرَجَهُ الشَّيخان من حديث الأعرج، عن أبي هُريرَةَ موقُوفًا:"شرُّ الطَّعام طعامُ الوليمة؛ يُدعَى إليها الأغنياءُ، ويُترَك المساكينُ. فمن لم يأتِ الدَّعوة فقد عصَى اللهَ ورَسُولَه".
وفي لفظٍ: "بئس الطَّعامُ طعامُ الوليمةِ
…
".
وقولُهُ: "فمن لم يأتِ الدَّعوةَ
…
" له حُكمُ الرَّفع.
وقد رواهُ مالكٌ، ومَعمَرٌ، وسُفيانُ، عن الزُّهرِيِّ، عن الأعرَج، عن أبي هُريرَة كذلك.
واختَلَفَ الرُّواةُ عن سُفيانَ في رفعِهِ ووقفِهِ.
والرَّفعُ في رواية سُفيانَ صحيحٌ.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ من رواية سُفيانَ، قال: سمعتُ زيادَ بنَ سعدٍ، يقُولُ: سمعتُ ثابتًا الأعرج يُحدِّثُ، عن أبي هُريرةَ مرفُوعًا فذَكَرَهُ.
[لطيفَةٌ]
أخرَجَ الخطيبُ في "التَّطفيل"(ص 138 - 139) عن نصر بنِ عليٍّ أبي عمرٍو الجَهضَمِيِّ، قال: كان لي جارٌ طُفَيليُّ، وكان من أحسَنِ النَّاس مَنظَرًا، وأعذبِهِم منطِقًا، وأطيَبِهِم رائحةً، وأجَملِهِم لباسًا، فكان مِن شأنِهِ أنِّي إذا دُعيتُ إلى مَدعاةٍ تَبعَنِي، فيُكرِمُهُ النَّاسُ من أجلِي، ويظنُّون أنَّه صاحبٌ لي. فاتَّفَق يومًا أنًّ جعفَرَ بنَ القاسمِ الهاشميَّ أميرَ البَصرةِ أراد أن يَختِنَ بعضَ أولادِهِ، فقلتُ في نفسي: كأنِّي برسول الأمير قد جاء، وكأنِّي بهذا الرُّجل قد تبعني، والله! لئن تبعنِي لأفضحنَّهُ. فأنا على ذلك إذ جاء رسولُهُ يدعُونِي، فما زِدتُ على أن لبستُ ثيابِي وخرجتُ، وإذا أنا بالطُّفَيليِّ واقفٌ على باب دارِهِ قد سبقني بالتَّأهُّبِ، فتقدَّمتُ وتَبِعَنِي، فلمَّا دخلنا دار الأميرِ جَلَسنا ساعةً ودُعي بالطَّعام، وحَضَرت الموائدُ، وكان كلُّ جماعةٍ على مائدةٍ لكثرة النَّاس، فقدمتُ إلي مائدةٍ والطُّفيليُّ
معي، فلمَّا مدَّ يدَهُ وَشَرَعَ لتناوُل الطَّعام قلتُ: أخبَرَنا دُرُستُ بنُ زيادٍ، عن أبانَ بنِ طارقٍ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمرَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من دَخَلَ دارَ قومٍ بغير إذنِهِم، فأكَلَ طعامَهُم، دَخَلَ سارِقًا وخَرَجَ مُغِيرًا". فلمَّا سمع ذلك قال: أَنِفتُ لك والله يا أبا عمرٍو من هذا الكلام! فإنَّه ما مِن أحدٍ من الجَماعة إلَّا وهو يظُنُّ أنَّك تُعَرِّضُ به دون صاحبه، أوَلَا تستحيِي أن تتكلَّمَ بهذا الكلامِ على مائِدِةِ سيِّدِ مَن أطعَمَ الطَّعام، وتِبخَلُ بطعام غيرِك على مَن سواك! ثُمَّ لا تستحيِي أن تُحدِّثَ عن دُرُستِ ابن زيادٍ -وهو ضعيفٌ-، عن أبانَ بنِ طارقٍ -وهو مترُوكُ الحديثِ- وتحكمُ برفعه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمُسلِمون على خِلافِه؛ لأنَّ حُكم السَّارق القطعِ، وحُكمُ المُغيرِ أن يُعزَّرَ على ما يراه الإمامُ، وأين أنتَ عن حديثٍ حدَّثَناه أبو عاصمٍ النَّبيلُ، عن ابنِ جُريجٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "طعامُ الواحدِ يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنينِ يكفي الأربعةَ، وطعامُ الأربعةِ يكفي الثَّمانيةَ"وهذا إسنادٌ صحيحٌ ومتنٌ صحيحٌ. -قال نصرُ بن عليٍّ:- فأفحَمَنِي فلم يحضُرني له جوابٌ، فلمَّا خرجنا من المَوضِع للانصِراف، فارَقَنِي من جانب الطَّريق إلى الجانب الآخَر بعد أن كان يمشِي ورائي، وسمعتُهُ يقولُ:
ومن ظنَّ ممَّن يُلاقِي الحُروبَ
…
بأن لا يُصابَ، فقد ظنَّ عجزَا!
42 -
سُئلتُ عن حديث: "الأَكلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ موضُوعٌ.
أخرجه الطَّبرانيُّ في "الكبير"(8/ 298)، والعُقيليُّ (3/ 191)، وابنُ عديٍّ (2/ 512)، وأبو بكرٍ الشَّافعيُّ في "الغَيلَانِيَّات"(92/ 2)، وابنُ الجوزيِّ في "الموضوعات"(3/ 37) من حديث أبي أُمَامَة.
وفي إسنادِهِ كذَّابٌ.
وعند ابن عديٍّ من وجهٍ آخرَ لا يَصحُّ.
وله شاهدٌ عن أبي هُريرَة، أخرجَهُ ابنُ عديٍّ أيضًا.
وهُو باطِلٌ أيضًا.
والحديثُ لا يَثبُت مِن جميع طُرُقه.
قال العُقيليُّ: "لَا يَثبُت في هذا البابِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم".
وعارَضَهُ السَّخاويُّ في "المقاصد"، بحديث ابنِ عُمَر، قال:"كُنَّا نأكُلُ على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحن نَمشِي، ونَشرَبُ وَنحنُ قيامٌ".
أخرجَهَ التِّرمذيُّ وصحَّحَهُ، وابنُ ماجَهْ، وابنُ حِبَّان.
43 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّن قَرَأَ القُرآنَ مَنكُوسًا، قَالَ:"ذَلِكَ مَنكُوسُ القَلبِ".
• قلتُ: هذا الحديثُ لا أَعلَمُ له أصلًا في المرفُوعِ، إنَّما صحَّ ذلك عن ابن مَسعُودٍ.
أخرجه عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 4/ رقم 7947)، وابنُ أبي شَيبة (10/ 564)، وأبُو عُبيدٍ في "فضائل القُرآن"(ص 56) من طريق الثَّوريِّ، وأبي مُعاوِية، كلاهُمَا عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعُودٍ، أنَّ رَجُلًا جاءَهُ، فقالَ:"يا أبا عبد الرَّحمن! أَرَأَيتَ رجُلًا يَقرَأُ القُرآن منكُوسًا؟ "، قال:"ذَلك مَنكُوس القَلب"، وسَنَدُه صحيحٌ.
44 -
سُئلتُ عن حديث: "أَنتُم تُوْفُونَ سَبعِينَ أُمَّةً، أَنتُم خَيرُهَا، وَأَكرَمُهَا عَلَى اللهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرَجَه التِّرمِذِيُّ (3001)، وابنُ ماجَهْ (4287، 4288)، والدَّارِمِيُّ (2/ 221)، وأحمدُ (5/ 3، 5) وعبدُ الرَّزَّاق في "تفسيره"(1/ 45، 130)، وعبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(409)، وابنُ المُبارَك في "مُسنَده"(106)، ونُعيمُ بن حمَّادٍ في "زوائد الزُّهد"(382)، وابنُ جَريرٍ في "تفسيره"(1/ 209، و 4/ 30)، والرُّويَانِيُّ في "مُسنَده"(ج 27/ ق 164/ 2)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكَبير"(ج 19/ رقم 1012، 1023، 1024، 1025)، وابنُ أبي حاتِمٍ في "تفسيره"(1156 - آل عمران)، والحاكمُ (4/ 84)، والبَيهَقِيُّ (9/ 5)، وابن عساكر في "تاريخه"(ج 4/ ق 443)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعاتِ"(1/ 30)، والبَغَوِيُّ في "تفسيره"(2/ 90) من طرُقٍ عن بَهزِ بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جَدِّه مرفُوعًا به.
وهذا حديثٌ طويل السِّياق، ويأتي إن شاء اللهُ تعالى.
وقد فرَّقَه أصحابُ الكُتُب ..
فأخرَجَهُ أبُو داوُد (2143، 2144)، والنَّسائِيُّ (5/ 4 - 5، و 82 - 83)، والتِّرمِذِيُّ (2192، 2424، 3143)، وابنُ ماجَهْ (234، 2536)، وأحمدُ (5/ 3)، وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(20115)، والحُسينُ
المَروَزِيُّ في "زوائد الزُّهد"(987)، وأسدُ بن مُوسَى في "الزُّهد"(ق 12/ 2)، وابنُ نَصرٍ في "تعظيم قدر الصَّلاة"(401، 402)، وابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 386 - 387)، والطَّبرَانِيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 999، 1000، ص 1001، 1002)، وابنُ عبد البَرِّ في "الاستيعاب"(1/ 323) من طرقٍ عِن بهز بن حكيمٍ بهذا الإسناد.
ولم يُورِدهُ أحدٌ تامًّا، بل اقتصر كلُّ مُخرِّجٍ على بعضه.
وعزاه السِّيُوطِيُّ في "الدُّرِّ"(2/ 64) لابن المُنذِر وابن مَردَوَيهِ.
ورواه عن بَهزٍ جماعةٌ من أصحابه، منهم: سُفيانُ الثَّورِيُّ، وابنُ المُبارَك، وحمَّادُ بنُ سلَمة، ومَعمَرُ بنُ راشدٍ، وهَوذةُ بنُ خَلِيفَة، ويزيدُ بنُ هارُون، وابنُ عُلَيَّة، وأبو أُسامَة حمَّادُ بنُ أسامةَ، والنَّضرُ بنُ شُمَيلٍ، وابنُ شَوذَبٍ، وعَدِيُّ بنُ الفَضل، وعُثمانُ بن عُمَر، ويحيى بنُ سعيدٍ، ويزيدُ بنُ زُريعٍ. قال التِّرمِذِيُّ:"هذا حديثٌ حسنٌ"، وهو كما قال.
وقال الحاكمُ: "صحيحٌ الإسناد"، ووافقه الذَّهَبِيُّ.
وقد تُوبِع بهزُ بن حكيمٍ ..
تابَعَهُ الجُرَيرِيُّ، عن حكيم بن مُعاوِية، عن أبيه مرفُوعًا فذَكَره.
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 3)، وعبدُ بن حُميدٍ (411)، والطَّبَرَانِيُّ (ج 19/ - 1030)، والرُّوَيانِيُّ (27/ 165/ 1)، والحاكمُ (4/ 84).
وأخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمَثانِي"(1476)، وفي "الأوائل"(52)، وابنُ أبي داوُد في "البَعث"(52 - بتحقيقي)، وابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 387)، والحاكمُ (2/ 439 - 440)، والطَّبَرانِيُّ في "الكَبير"
(ج 19/ رقم 1031) من هذا الوجه ببعضِهِ.
ورواه عن الجُرَيرِيِّ: يزيدُ بن هارُون، وحمَّادُ بن سلَمَة.
وأخرَجَهُ أحمدُ (4/ 446 - 447) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ الحارثِ، حدَّثَني شِبلُ بنُ عبَّادٍ. وابنُ أبي بُكيرٍ - يعني: يحيى بنَ أبي بُكيرٍ -، ثنا شبلُ بنُ عبَّادٍ المعني، قال: سمعتُ أبا قَزَعَةَ يُحدِّث عَمْرَو بن دينارِ، عن حكيمِ بن مُعاوِية البَهزِيِّ، عن أبيه، أَنَّه قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي حَلَفتُ هكذا - ونَشَر أصابع يَدَيه - حتَّى تُخبِرَني ما الذي بعثَك الله تبارك وتعالى به.
قال: "بَعثَني اللهُ تبارك وتعالى بالإِسلام"، قال: وما الإِسلامُ؟ قال: "شَهادَةُ أن لا إله إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وتُقيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤتي الزَّكاة، أخَوَان نَصِيرَانِ. لا يقبلُ اللهُ - جلَّ وعزَّ - مِن أحدٍ توبةَ أشرَكَ بعد إِسلامِهِ". قال: قُلتُ: يا رسُول الله! ما حَقُّ زَوجِ أَحَدِنا عليه؟ قال: "تُطعِمُهَا إذا أكلتَ، وتَكسُوهَا إذا اكتَسَيتَ، ولا تَضرِب الوَجهَ، ولا تُقَبِّح، ولا تَهجُر إلَّا في البَيتَ"، ثُمَّ قال:"هاهُنا تُحشَرون، هاهُنا تُحشَرُون - ثلاثًا -، رُكبانًا ومُشاةً وعلى وُجُوهِكم، تُوْفُونَ يوم القيامة سَبعُين أُمَّة. أَنتُم آخِرُ الأُمم وأكرَمُها على الله تبارك وتعالى، تأتُونَ يوم القِيامة وعلى أَفوَاهِكُم الفِدَامُ، أوّل ما يُعرِبُ عن أحدِكُم فَخِذهُ".
قال ابنُ أبي بُكيرٍ: فأَشَارَ بيده إلى الشَّام فقال: "إلى هاهُنا تُحشَرون". وأخرَجَهُ الطَّبرَانِيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 1038) قال: حدَّثَنا الحُسَين بنُ إسحاقَ التُّستَرِيُّ، ثنا عُثمانُ بنُ أبي شَيتة، ثنا يحيَى بنُ أبي بُكَيرٍ بسَنَده سواء، مِن أوَّل قوله:"ما حقُّ زوجَةِ أحدِنَا عليه؟ "، إلى قولِه:"فخذه".
وأخرَجَهُ أبُو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(6076) من طريق الحارثِ بن أبي أُسامَة، ثنا يحيَى بنُ أبي بُكَيرٍ، بهذا من أوَّله حتى قولِه:"بعد إِسلامِهِ".
وهذا سَنَدٌ حَسَنٌ؛ وشِبلُ بن عبَّادٍ وثَّقَه ابنُ مَعِينٍ، وأبو داوُدَ، والفَسَوِيُّ، وابنُ حِبَّان، والدَّارَقُطنِيُّ. وفَضَّلَهُ أبو حاتِمٍ على وَرقَاءَ بن عُمَر.
وأبو قزعةَ، هو: سُويد بن حُجَيرٍ. ثقةٌ أيضًا.
(تنبيهٌ)
وقع في "المُسنَد": "أبو قَزَعَة يُحدِّث عن عَمْرِو بن دينارٍ"، ولَفظَةُ "عن" مُقحَمَةٌ لا مَعنَى لها. والله أعلم.
وأخرَجَهُ أبو داوُد (2142)، وأحمدُ (5/ 2، 3)، وابنُ نَصرٍ في "تعظيم قدر الصَّلَاة"(403)، وابنُ حِبَّان (160)، والحاكمُ (2/ 187 - 188، 440)، والطَّبَرانيُّ في "الكَبير"(ج 19/ رقم 1034، 1035، 1036)، والبَيهقِيُّ (7/ 305) من طريق حمَّاد بن سَلَمة ..
وأخرَجَهُ النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(9180)، وابنُ نَصرٍ في "تعظيم قدر الصَّلَاة"(404)، وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابَة"(3/ 71)، والطَّبرانِيُّ في "الكَبير"(ج 19/ رقم 1037) عن حجَّاجٍ البَاهِليِّ ..
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (1850)، وأحمدُ (4/ 447)، وابنُ حِبَّان (4175)، والطَّبَرانِيُّ في "الكَبير"(ج 19/ رقم 1039)، والبيهَقِيُّ (7/ 295)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابَة"(6077) من طريق شُعبَة بن الحجَّاج ..
ثلاثَتُهم عن أبي قَزَعَة، عن حكِيمِ بن مُعاوِية، عن أبيه مرفوعًا مُفَرَّقًا.
ومحلُّ الشَّاهد عند الطَّبَرانِيِّ (1036).
وفي الباب عَن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، قال: قَامَ فِينَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد العَصر، فصلَّى العَصرَ يومَئذٍ بنَهارٍ، فما ترَكَ شيئًا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ إِلَّا ذَكَرَه في مَقامه ذلك، حَفِظَ مَن حَفِظَ، ونسي مَن نَسِي، ثُمَّ قال:"أَلا إِنَّ هذه الدُّنيا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ، وإِنَّ الله مُستَخلِفُكُم فيها فنَاظِرٌ كيف تَعمَلُون. أَلا فاتَّقُوا الدُّنيا واتَّقُوا النِّساء"، وذَكَرَ أن لكُلِّ غادرٍ لواءً يوم القيامة بقَدرِ غَدرَتهِ في الدُّنيا، ولا غَدْرَ أكثرُ من غدرِ أمير العَامَّةِ، يُغرَزُ لِوَاؤُهُ عند إسْتِهِ، قال:"ولا يَمْنَعَنَّ أحدًا مِنكُم إن رأي مُنْكرًا أن يُغَيِّرَهُ هَيتةُ النَّاسِ"، فبَكى أبُو سعيدٍ الخُدرِيِّ، وقال:"قد رأينَاهُ فمَنَعَنَا هيبةُ النَّاس أَن نَتكَلَّم فِيهِ". ثُمَّ قال: "وإنَّ بني آدَمَ خُلِقُوا على طبقاتٍ شتَّى، فمِنهُم من يُولَد مؤمنًا، ويحيَى مؤمنًا، ويمُوتُ كافرًا. ومِنهُم من يُولَد كافرًا، ويحيَى كافرًا، ويمُوتُ مؤمنًا". قال: وذَكَر الغَضَب: "فمِنكُم من يكُونُ سريعَ الغَضَبِ، سَرِيعَ الفَيءِ، وإحداهُمَا بالأُخرى. ومنكُم من يكُونُ بطِيءَ الغَضَبِ، بَطِيءَ الفَيءِ، فإحداهما بالأُخرى. وخِيَارُكم من يكُونُ بطِيءَ الغَضَبِ، سَرِيعَ الفَيءِ. وشِرَارُكم من يكونُ سريعَ الغَضَب، بطيءَ الفَيءِ"، وقال:"اتَّقُوا الغَضَب فإنَّهُ جمرةٌ على قلب ابن آدَمَ، ألا ترَونَ إلى انتِفَاخِ أَودَاجِهِ وحُمرَةُ عَينَيهِ، فمَن أَحَسَّ ذلك فليَضطَحع، وليَتَلَبَّدْ بالأَرضِ"، قال: وذكر الدَّينَ، فقال: "مِنكُم مَن يَكُون حَسَنَ القَضاءِ، وإذا كان له، أَفحَشَ في الطَّلَب، فإِحداهُمَا
بالأُخرَى. ومِنكُم من يكُونُ سيِّءَ القَضَاء، وإن كان له أَجمَلَ في الطَّلَب، فإحدَاهُمَا بالأخرَى. وخِيارُكُم من إذا كان عليه الدَّينُ، أَحسَنَ القضاءَ، وإذا كان له، أَجمَلَ في الطَّلَب. وشِرَارُكُم مَن إذا كان عليه الدَّين، أساءَ القَضاءَ، وإن كان لَهُ أَفحَشَ في الطَّلَب"، حتَّى إذا كانت الشَّمسُ على رأس النَّخل وأطراف الحِيطَانِ فقال: "أَمَا إنَّهُ لم يَبقَ من الدُّنيا فيما مَضَى منها إلَّا كما بَقِي مِن يومِكُم هذا. أَلا وإِنَّ هذه الأُمَّةَ تُوفي سبعين أُمَّةً هي آخِرُها وأكَرمُهَا على الله عز وجل".
أخرَجَهُ البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 239 - 241) من طريق أبي الصَّلت، أخبَرَنا حمَّادُ بن زيدٍ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن أبي نَضرَة، عن أبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ. وقال:"هذا حديثٌ حَسَنٌ".
ثُمَّ أخرَجَهُ في "تفسيره"(2/ 90 - 91)، بمَحلِّ الشَّاهد حسبُ
• قُلتُ: وهذا سندٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وأبو الصَّلت هو: عبدُ السَّلام بن صالحٍ الهَرَوِيُّ: تالفٌ. لكنَّهُ لم يتفرَّد به ..
فتابَعَهُ: عِمرانُ بن مُوسَى، وخالدُ بن خِدَاشٍ، نا حمَّادُ بن زيدٍ، بسَنَده سواء، ولم يَذكُر الشَّاهدَ.
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (2191).
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (2873، 4000، 4007)،، وابنُ أبي الدُّنيا في "ذَمِّ الدُّنيا"(60) مِن هذا الوجه مُختصَرًا.
ورواه مَعمَرُ بنُ راشدٍ، عن عليِّ بن زيدٍ، بسَنَده سواء بطوله، وفيه الشَّاهدُ.
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق (ج 11/ رقم 20720)، وعنه أحمدُ (3/ 61).
وتابَعَهُ حمَّادُ بنُ سَلَمة، نا عليُّ بنُ زيدٍ به مُطوَّلًا، دُون الشَّاهد.
أخرَجَهُ أحمدُ (3/ 19)، والطَّيالِسِيُّ (2156)، وأبو يَعلَى في "المُسنَد"(ج 2/ رقم 1101)، والحاكمُ (4/ 505 - 506)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج / 14 رقم 7936).
وأخرَجَهُ أحمدُ (3/ 7، 70)، والخرَائِطِيُّ في "مَساوِئ الأَخلاق"(318)، من هذا الوجه مُختصَرًا.
وتابَعَهُ أيضًا سُفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن عليّ بن زيدٍ، مثلَ رواية حمَّاد بن سَلَمَة.
أخرَجَهُ الحُمَيدِيُّ في "مُسنَدِه"(752).
قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ تفرَّد به بهذه السِّياقة عليُّ بنُ زيد بن جُدعانَ القُرَشِيُّ، عن أبي نَضرَةَ. والشَّيخَانِ رضي الله عنهما لم يحتَجَّا بعليِّ بن زيدٍ". وقال الذَّهَبِيُّ في "تلخيص المُستدرَك": "ابن جُدعانَ صالحُ الحديثِ".
• قلتُ: قلتُ: لاسيَّما إذا رَوَى عنه حمَّادُ بنُ سلَمَةَ كما هنا. ذكر ذلك أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ في غير موضعٍ من "العلل"، وهذا يُحتَمَلُ لعليِّ بن زيدٍ إذا لم يتفرَّد. ولا أعلَمُ أحدًا تابَعَهُ على هذا السِّياق، والذين رَوَوهُ عن أبي نَضرَة - ذَكَرُوا بعضَهُ. وأكثَرُ فقرات الحدِيثِ لها شواهدُ عدَّةٌ.
والله أعلم.
45 -
سُئلتُ عن حديث: "لِكُلِّ شَيءٍ حِليَة، وَحِليَةُ القُرآنِ الصَّوتُ الحَسَنُ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه عبدُ الرَّزَّاق (2/ 484)، والبزَّارُ (2335)، وابنُ عديٍّ (4/ 1452)، والقُشَيرِيُّ في "الرِّسالة"(2/ 640) مِن طريق عبد الله بن مُحرَّرٍ، عن قتادة، عن أَنَسٍ.
قال البزَّارُ: "تفرَّد به عبدُ الله بن المُحرَّر، وهو ضَعيف الحديث"، وبه أعلَّهُ شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في "الاستقامة"(1/ 290)، والهيثميُّ في "المجمع"(7/ 171).
وله طُرُقٌ أُخرَى، ذَكَرتُ بعضَها في تَحقيقِي لكتابِ "فضائل القُرآن"(ص 277) لابن كَثيرٍ، فرَاجِعْه.
46 -
سُئلتُ عن: قول المُنذِرِيِّ في "التَّرغيب والتَّرهِيب"(209/ 2)، ما نَصُّه:(قال:) وإِنِّي سَمِعتُه يَقُولُ - يعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: "مَرَرتُ لَيلَةَ أُسرِيَ بِي بِأَقوَامٍ تُقرَضُ شِفَاهُهُم بِمَقَارِيضَ مِن نَارٍ، قلتُ: مَن هَؤُلَاءِ يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ، الذين يَقُولُونَ مَا لَا يَفعَلُونَ".
رواه البُخارِيُّ ومُسلِم، واللَّفظُ له. ورواه ابنُ أبي الدُّنيا، وابن حِبَّان، والبَيهَقِيُّ، مِن حديث أنسٍ. وزاد ابنُ أبي الدُّنيا، والبَيهَقِيُّ، في رِوايةٍ لهُما:"وَيَقرَءُونَ كتَابَ الله، وَلَا يَعمَلُونَ بِهِ". فقولُ المُنذِرِيِّ: "قال:
…
"، لا أَعلَمُ قصدَه. ومِن مُسنَد أيِّ صَحابِيٍّ هذا الحديثُ؟ ثُمَّ إِنِّي لم أَجِدهُ في البُخَارِيِّ، ومُسلِمٍ، لا مِن حديثٌ أَنَسٍ، ولا غَيرِه. وهل الحديثُ صحيحٌ؟
• قلتُ: قلتُ: بيان هذا من وُجُوهٍ ..
• الأوَّل: قولُ المُنذِرِيِّ رحمه الله: "قال: وإنِّي سمِعتُه
…
الخ"، معناه أن أُسامَة بنَ زيدٍ رضي الله عنه راوي الحديثِ السَّابِقِ هو نَفسُ راوي هذا الحديث. وليس كَذَلكَ.
قال شيخُنَا أبُو عبدِ الرَّحمن الأَلبَانِيُّ - حفظه الله - في "صحيحٌ التَّرغيب"(1/ 125): "وهذا وَهَمٌ فاحِشٌ، وسبُبُه - فيما أَرَى - اعتمادُ المُؤلِّف رحمه الله على حِفظِه، وإملاؤُهُ أحاديثَ الكتاب مِن ذاكرته، دون أن يَرجِع في ذلك إلى أُصُولِه؛ فإنَّ هذا الحديثَ الذي جَعَلَهُ مِن مُسنَد أُسامَةَ بن زيدٍ، همْا وهناك، ليس مِن حديثهِ مُطلَقًا، لا في "الصَّحِيحَين"، ولا في غيرِهِما، وإنَّما هو حديثٌ آخرُ، لا صِلَةَ له بالأوَّل، يرويه أنَسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه" انتهَى.
• الثَّاني: قولُهُ: "رواه البُخارِيُّ، ومُسلِم"، يَقصِدُ المُنذِرِيُّ بهذا العزوِ الحديثَ السَّابِقَ على هذا، وهو: عن أُسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه، أنَّه سَمِع رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"يُجَاءُ بالرَّجُل يوم القِيامَةِ، فيُلقَى في النَّار، فتَندَلِقُ أقتابُهُ، فيَدُورُهَا كَما يَدُورُ الحمارُ بِرَحَاه، فيجتمعُ أهلُ النَّار عليه، فيَقُولُونَ: يا فلانُ! ما شأنُك؟! ألَستَ كُنتَ تأمُرُ بالعروف، وتَنهَى عن المُنكَر؟ فيقولُ: كنتُ آمرُكُم بالمعرُوفِ، ولا آتِيهِ، وأنهَاكُم عن الشَّرِّ، وآتيه".
ومع أنَّ المُنذِرِيَّ قال: "واللَّفظُ للبُخارِيِّ"، فإنَّهُ لم يَأتِ بِلفظِ البُخارِيِّ كما جاءَ فِي "صحيحه"، بل بَدَّل بعضَ الكَلِمات، ونَقَصَ حُروفًا.
فقد أخَرَجَ البُخارِيُّ هذا الحديثَ في مَوضِعَينِ مِن "صحيحه" ..
أوَّلهما - وهو الذي عَنَاهُ المُنذِرِيُّ -: فإنَّه رواه في "بدء الخلْق"(6/ 331)، مِن طريق ابن عُيَينَةَ، عن الأعمشِ، عن أبي وائِلٍ، قال: قِيل لأُسامَةَ: لو أَتَيتَ فُلانًا فكلَّمتَهُ؟ قال: إنَّكُم لتَرَونَ أَنِّي لا أُكَلِّمُه إلَّا أُسمِعُكُم، إِنِّي أُكلِّمه في السِّرِّ، دُونَ أن أفتَحَ بابًا لا أَكُونُ أوَّلَ مَن فتحَهُ، ولا أَقُولُ
لِرَجُلٍ - إنْ كان عَليَّ أَمِيرًا - إنَّه خيرُ النَّاسِ، بعدَ شيءٍ سَمِعتُه مِن رسُول الله صلى الله عليه وسلم. قالُوا: وما سَمِعتَه يقولُ؟ قال: سَمِعتُه يقولُ: "يجاءُ بالرَّجُل يوم القِيَامَةِ، فيُلقَى في النَّارِ، فتَندَلِقُ أقتابُه في النَّارِ، فيَدُورُ كلما يَدُورُ الحِمارُ برَحَاهُ، فيَجتَمِعُ أهلُ النَّار عليه، فيَقُولُون: أَيْ فُلانُ! ما شأنُك؟! أليس كلنتَ تأمُرُنا بالمعرُوفِ وتنهانا عن المُنكَر؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمَعرُوفِ، ولا آتِيهِ، وأنهاكُم عن المُنكَر، وآتِيهِ".
ثانِيهما: أَخرَجَهُ في "كتاب الفِتَن"(13/ 48) من طريق شُعبَةَ، عن سُليمانَ: سمعتُ أبا وائلٍ، قال: قِيلَ لأُسامَةَ: ألا تُكَلِّم هذا؟ قال: قد كَلَّمتُه ما دُونَ أن أَفتَحَ بابًا أَكُونُ أوَّلَ من يَفتَحُهُ، وما أنا بالذي أقولُ لرَجُلٍ بعد أن يَكُونَ أميرًا عَلَى رَجُلَينِ أنت خَيرٌ، بعدما سمعتُ من رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، يقولُ:"يجاءُ برجُلٍ، فيُطرَحُ في النَّار، فيَطحَنُ فيها كَطَحنِ الِحَمارِ بِرَحَاهُ، فيُطِيفُ به أهلُ النَّار، فيَقُولُون: أَيْ فُلانُ! ألستَ كنتَ تَأمُرُ بالمعرُوفِ، وتنهَى عن المُنكَر؟ فيقولُ: إنِّي كُنتُ آمرُ بالمعرُوفِ، ولا أَفعَلُه، وأنهَى عن المُنكَر، وأفعَلُه".
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ (2989/ 51)، وأبو عَوَانَةَ في "الرِّقاق" - كما في "إتحاف المَهَرَة"(1/ 320) -، وأحمدُ (5/ 205، 207، 209)، والحُمَيدِيُّ (547)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد أُسامةَ بن زيدٍ"(53، 54)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 1/ رقم 395، 402)، والبَيهَقِيُّ في "الكُبرَى"(10/ 94 - 95)، وفي "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 7568)، والخَطِيبُ في "اقتضاء العِلمِ العَملَ"(47)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 351 - 352)،
وابنُ جَمَاعَةَ في "مَشيَخَته"(1/ 245 - 246) من هذا الوجه.
وتُوبع الأعمشُ ..
تابعه مَنصُورُ بن المُعتَمِر، عن أبي وائلٍ بهذا.
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 209).
وتابَعَهُ أيضًا عاصمُ بن بَهدَلَةَ.
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 206)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد أُسامةَ"(52) مِن طريق حمَّاد بن زَيدٍ، عن عَاصمِ بن بَهدَلَةَ.
وسَنَدُهُ حَسَنٌ.
وتابَعَهُم أيضًا حَبِيبُ بنُ أبي ثابتٍ، عن أبي وَائلٍ نحوَهُ.
أخرَجَهُ أبو نُعَيمٍ في "الحِليَةِ"(4/ 112) مِن طريق ابن خُزَيمَةَ، قال: ثنا أبو غَسَّانَ مَالِكُ بن الجلِيلِ الأَزدِيُّ، ثنا ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن شُعبةَ، عن حَبِيبِ بن أبي ثابتٍ به.
قال أبو نُعيمٍ: "غَرِيبٌ مِن حديثٌ شُعبةَ، عن حَبيبٍ. مَشهُورٌ مِن حديثٌ الأعمشِ وغيرِهِ، عن شَقِيقٍ".
• قلتُ: قلتُ: وهذا سَنَدٌ قوِيٌّ، وأبو غَسَّانَ وثَّقَهُ ابنُ حِبَّان، وقال النَّسَائِيُّ، ومَسلَمَةُ بنُ قاسم:"لا بأس به".
• الوجه الثَّالِث: أن حديثَ أَنسٍ صحيحٌ، ولَهُ عَنهُ طُرُقٌ:
يرويه عليُّ بنُ زيدِ بن جُدعَانَ، عن أنَسٍ مرفُوعًا، وفيه:"قُلتُ: مَن هؤلاء يا جِبرِيلُ؟ قال: خُطباءُ أُمَّتِك، الذين يَأمُرُونَ النَّاس بِالبِرِّ، وَينسَونَ أنفُسَهُم، وهُم يَتلُونَ الكِتابَ، أفلا يَعقِلُون؟! ".
أخرَجَهُ أحمدُ (3/ 120، 185، 321، 239 - 240)، وفي "الزُّهد"(45)، ووَكِيعٌ (297)، وابنُ المُبارَك (819)، كلاهما في "الزُّهد"، والطَّيَالِسِيُّ (2060)، وابنُ أبي شَيبَةَ (14/ 308)، وعَبدُ بنُ حُمَيدٍ (1222)، والبَزَّارُ (ج 4/ رقم 3321)، وابنُ أبي الدُّنيَا في "الصَّمت"(509)، وابنُ مَردَوَيِه في "تفسيره" - كما في "ابن كَثِيرٍ"(1/ 122) -، والخطيبُ في "تَارِيخه"(6/ ص 199، 200)، وفي "المُوضِح"(2/ 175) من طُرُقٍ عن حَمَّاد بن سَلَمَةَ، عن عليِّ بن زَيدٍ به.
• قلتُ: وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ، لكنَّهُ مُقارِبٌ.
وحمَّادُ بنُ سَلَمَةَ كان مِن أَثبَتِ النَّاس في حديثٌ عليّ بن زَيدٍ، كما قال أبو حاتمٍ، وأبو زُرعَةَ، وغيرُهُما.
ولكن، خَالَفَهُ عُمَرُ بن قَيسٍ، فرواه عن عليّ بن زَيدٍ، عن ثُمامَةَ، عن أنَسٍ مرفُوعًا به.
فزَادَ: "ثُمامَةَ" في الإسناد.
أخرَجَهُ ابنُ مَردَوَيهِ في "تَفسِيره" - كما في "ابن كَثِيرٍ"(1/ 122) - مِن طريق إِسحَاقَ بن إبراهيم التُّستَرِيِّ، حدَّثَنا مَكِّيُّ بنُ إبراهيم، حدَّثَنا عُمَرُ بنُ قيسٍ.
ورِوايةُ حمَّادٍ أرجَحُ؛ لِمَا قدَّمنَاهُ.
وقد توبِع عليُّ بن زيدٍ في روايته عن ثُمامَةَ، عن أنَسٍ ..
تابَعَهُ مالِكُ بن دينارٍ، عن تمامَةَ، بسَنَدِه سواء.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَبَ"(ج 4/ رقم 1637)، والخطيبُ في "الاقتضاء"
(111)
مِن طريق صَدَقَةَ بن مُوسَى، والحسَنِ بن أبي جَعفَرٍ، قالا: حدَّثَنا مالِكُ بنُ دينارٍ، عن ثُمامَةَ بن عبد الله، عن أنَسٍ.
وصَدَقَةُ، والحَسَنُ ضعيفان.
لكن، تابَعَهُمَا المُغِيرَةُ بن حَبيبٍ، عن مالِكِ بن دينارٍ، عن ثُمامَةَ، عن أنَسٍ.
أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيره"(476)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 249) مِن طريق حجَّاج بن يُوسُفَ الشَّاعِرِ، ثنا سَهلُ بن حمَّادٍ أبو عَتَّابٍ، قال: حدَّثَنِي هِشَام الدَّسْتُوَائِيُّ، عن المُغِيرَة بن حَبِيبٍ به.
وسَهلُ بنُ حمَّادٍ لا بأس به، صَدُوق.
ولكن، خالَفَهُ يزيدُ بنُ زُرَيعٍ - وهو ثِقَةٌ ثَبتٌ حافظٌ -، فرواه عن هِشامٍ الدَّستُوَائِيِّ، عن المُغِيرة بن حَبيبٍ، عن مالِكِ بن دينارٍ، عن أنَسٍ به.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى (ج 7/ رقم 4160)، وابنُ حِبَّان (ج 10/ رقم 53)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 1 ق 2/ 165)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(2/ 386، و 6/ 248 - 249)، كُلُّهم من طريق مُحمَّدِ بن المِنهَال، ثنا يزيدُ بنُ زُرَيع بهذا الإسناد.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن المُغِيرة، عن مالِكٍ، إلَّا هِشَام".
وقال أبو نُعَيمٍ: "تَفَرَّد به يزيدُ بن زُرَيعٍ، عن هِشامٍ".
• قلتُ: وهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ، كما مرَّ، فرِوَايَتُهُ أولَى. لكن في السَّنَد المُغِيرةُ بنُ حبيبٍ، ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في "الثّقَات"(7/ 466)، وقال:"يُغرِبُ". وتَرجَمَهُ ابن أبي حاتمٍ (4/ 1/ 220 - 221)، ولم يَحْكِ فِيهِ جَرحًا ولا
تَعدِيلًا. وقال الأَزدِيُّ: "مُنكَر الحديث".
لكنَّهُ تُوبِع.
تابعه إبراهيمُ بن أَدهَم، ثنا مالِكُ بن دِينارٍ به.
أخرَجَهُ أبو نُعَيم في "الحِليَةِ"(8/ 43 - 44) من طريق مُحمَّد بن مُصَفَّى، حدَّثَنا بَقِيَّة، حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ أَدهَمَ، حدَّثَنا مالِكُ بنُ دِينارٍ، عن أنَسٍ.
قال أبو نُعيمٍ: "مَشهُورٌ من حديث مالِكٍ، عن أنَسٍ. غَرِيبٌ مِن حديثٌ إبراهيمَ، عنه".
• قلتُ: وهذا سَنَدٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وابنُ مُصَفَّى، وبَقِيَّةُ صَرَّحَا بالتَّحديث.
وله طريقٌ آخرُ عن أنَسٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 1/ رقم 413)، وعنه الضِّيَاءُ في "المُختارَة"(ق 127/ 2) من طريق عبد الله بن جَعفَرٍ الرَّقِّيِّ، قال: حدَّثَنا عِيسَى بنُ يُونُسَ، عن سُليمَانَ التَّيمِيِّ، عن أنَسٍ مرفُوعًا بنَحوِهِ.
قال: "ولم يَروِ هذا الحديثَ عن سُليمَانَ، إلَّا عِيسَى بنُ يُونُس".
• قلتُ: كذا! ولم يتفَرَّد به عِيسَى بنُ يُونُسَ، كما يأتي ذِكرُهُ إن شاء الله تعالى.
وعبدُ الله بنُ جعفرٍ الرَّقِّيُّ صَدُوقٌ، إلَّا أنَّه كان تَغَيَّرَ، ولم يَكُن اختلاطُهُ فاحشًا، كما قال ابنُ حِبَّان.
ورواه عبدُ الله بنُ المُبارَك، عن سُليمانَ التَّيمِيِّ، عن أنَسٍ.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 172 - 173) مِن طريق مُحمَّد بن
عَلُّوْيَةَ المِصِّيصِيِّ، ثنا يُوسُف بنُ سعيدِ بن مُسلمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ مُوسَى، ثنا ابن المُبارَك به.
قال أبو نُعيمٍ: "مَشهُورٌ مِن حديثٌ أنَسٍ، رواه عَنهُ عِدَّةٌ. وحديث سليمانَ عَزيزٌ".
• قلتُ: وهذا سَنَدٌ جَيِّدٌ.
ومُحمَّدُ بن عَلُّوْيَةَ هو أبو عبد الله التَّيمِيُّ الفَقِيهُ الجُرجَانِيُّ. تَرجَمَهُ السَّهمِيُّ في "تاريخ جُرجَانَ"(ص 389)، وهو مِن مشايخ الإِسمَاعِيليِّ، رَوَى عنه حديثًا في "مُعجَمه"(ق 37/ 2). وكان مِن أَئِمَّة الشَّافِعيَّة في عَصرِه، كما قال السَّمعَانِيُّ في "الأنساب"(4/ 235)، وتَفَقَّه على المزنِيِّ، ورَوَى عنه أبو حامِدٍ بنُ الشَّرقِيِّ.
ويُوسُفُ بنُ سعيدِ بن مُسلمٍ ثِقَةٌ، من شُيوخ النَّسَائِيِّ.
وعبدُ الله بنُ مُوسَى. كذا وقع في "الحِلية"، وصوابُه عِندِي عُبَيدُ الله، وهُو من شُيوخ يُوسُفَ بن سعيدٍ، وهو ثِقَةٌ.
وبَقِيَّةُ رجال الإسناد أَئِمَّةٌ معرُوفُونَ.
وتابَعَهُ مُعتَمِرُ بنُ سُليمانَ، عن أبيه، عن أنَسٍ به.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى. (ج 7/ رقم 4069)، وعنه الضِّياءُ في "المُختارَة"(ق 127/ 2) حدَّثَنا إسحاقُ بنُ أبي إسرائيلَ، ثنا مُعتَمِرُ بنُ سُليمانَ به.
ونَقَلَ الضِّياءُ عن الدَّارَقُطنِي قولَهُ: "تفرَّدَ به مُعتَمِرٌ، عن أبيه" كذا! وليس كما قال؛ وقد مَرَّت بك المُتابَعاتُ. وقد تعقَّبَهُ الضِّياءُ بقوله: "بَانَ بِرِوَايَةِ عيسى - يعني: ابنَ يُونُسَ - أنَّه لم يَتَفرَّد به مُعتَمِرٌ".
وهذا سَنَدٌ جَيِّدٌ، وإسحاق بن أبي إِسرَائِيلَ ثقةٌ.
وله طريقٌ آخرُ عن أنَسٍ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا في "الصَّمت"(570 - بتحقيقي)، والبَزَّارُ (3322 - زوائده) مِن طريق جَعفَرِ بن سُلَيمَانَ، عن عُمَرَ بن نَبهَانَ، عن قَتَادة، عن أنَسٍ مرفُوعًا.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُ رواه عن أنَسٍ، عن قَتادَةَ، إلَّا عُمَرُ بنُ نَبهَانَ، ولا رواه إلَّا جَعفَر".
• قلتُ: وابنُ نَبهَانَ ضعَّفَهُ أبو حاتِمٍ، وابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، وابنُ حِبَّان، وغيرُهُم. وقال ابنُ مَعِينٍ في روايةٍ أُخرَى:"صالحٌ".
وأخرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"، وعنه أبو نُعَيمٍ في "الحِليَة"(2/ 7)، مِن طريق زَيدِ بن الحَرِيشِ [ووقع في الحِلية: يَزِيدُ، وهو تصحيفٌ]، ثنا عبدُ الله بن خِرَاشٍ، عن العَوَّام بن حَوشَبٍ، عن المُسَيَّبِ بن رَافِعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"مَن دَعَا النَّاس إلى قولٍ أو عَمَلٍ، ولم يَعمَل هُو به، لم يَزَل في سَخَطٍ من الله حتَّى يَكُفَّ، أو يَعمَلَ بما قالَ أو دَعَا إِلَيهِ".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(7/ 276): "فيه عبدُ الله بنُ خِرَاشٍ، وثَّقَهُ ابنُ حِبَّان، وقال: "يُخطِئُ"، وضعَّفَه الجُمهورُ. وبقيَّة رجالِهِ ثقاتٌ".
• قلتُ: وسَنَدُهُ واهٍ جِدًّا؛ وعبدُ الله بن خِرَاشٍ رماه مُحمَّدُ بن عَمَّارٍ المَوصِليُّ بالكَذِب. وقال السَّاجِيُّ: "ضعيفُ الحديث جِدًّا. ليس بشيءٍ. كان يَضَعُ الحديثَ". وقال البُخارِيُّ: "مُنكَرُ الحديث". وقال النَّسَائِيُّ: "ليس بثِقةٍ". وقال الحافظُ في "التَّقريب": "ضعيفٌ"، وهو تَسَاهُلٌ،
وكان حَقُّهُ أن يقولَ: ضعيف جدًّا، لاسِيَّما وقد ذَكَرَ كلمةَ ابن عمَّارٍ، ولم يَتعَقَّبهُ. والله أعلم.
أمَّا قَولُ الهَيثَمِيِّ: "وبقيَّةُ رجاله ثِقاتٌ" فمتعقَّبٌ بأنَّ زيدَ بن الحَرِيشِ الأَهوَازِيَّ قال ابنُ القَطَّانِ: "مجهولُ الحال". وذكرَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"، وقال:"يُخطِئُ".
(تنبيهٌ)
لحديث أُسامَةَ بن زيدٍ الفائتِ شاهدٌ عن أبي أُمَامَةَ، رضي الله عن الجميع.
أخرَجَهُ أبو القاسم الأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغِيبِ"(2136) من طَرِيقِ ابن أبي عَاصِمٍ، قال: حدَّثَنا الحسَن بن عليٍّ، حدَّثَنا خَازِمُ بنُ خزَيمَةَ، ثنا عُثمانُ بنُ عَمرٍو القُرَشِيُّ، عن مَكحُولٍ، عن أبي أُمامَة رضي الله عنه مرفُوعًا:"يُجاءُ بالعالِم السُّوءِ يوم القِيَامَةِ، فيُقذَفُ في جهنَّمَ، فيَدُورُ بِقُصْبِهِ - قلت: وما قُصْبُهُ؟ قال: أمعاؤُه - كما يدورُ الحِمارُ بالرَّحَى، فيُقالُ: يا وَيلَهُ! بما لاقَيتَ هذا، وإنَّما اهتَدَينَا بك؟! قال: كُنتُ أُخَالِفُكُم إلى ما أنهاكم عنه".
• قلتُ: وسَنَدُهُ ضعيفٌ؛ وخَازِمُ بنُ خُزيمة قال السُّلَيَمانِيُّ: "فيه نَظَر".
وضعَّفَهُ السِّيُوطِيُّ في "الدُّرِّ المَنثُورِ"(1/ 65).
وانظُر الحديثَ رقمَ (363).
47 -
سُئلتُ عن: مَن خرَّج هذا الحديثَ غير الإمام البُخاريِّ، مع ذِكر الكُتب التي شرحته. وهذا الحديث يروِيه ابنُ عبَّاسٍ، قال:"طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَاستَلَمَ الرُّكنَ بِالمِحجَنِ".
• قلتُ: أخرج هذا الحديثَ أيضًا مُسلِمٌ (1272)، وأبُو داوُد (1877)، والنَّسائيُّ (5/ 233)، وابنُ ماجَهْ (2948)، وابن خُزَيمة (4/ 240)، وابن الجارُود في "المُنتَقَى"(463)، والبيهقيُّ (5/ 99) من طريق يُونُسَ بن يزيدَ، عن الزُّهريِّ، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاسٍ.
وتابعه ابنُ أبي ذِئبٍ، عن الزُّهريِّ به.
أخرجه الشَّافعيُّ (2/ 44)، ومِن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(7/ 116).
ولَهُ طُرُقٌ أُخرَى، عن ابن عبَّاسٍ، عند التِّرمذيِّ (865)، وقال:"حَسَنٌ صحيحٌ"، وأحمدَ (1/ 214 - 215، 237، 248، 304)، وغيرِهُم.
ويُرجَعُ إلى شُروح بعضِ الكُتُب التي ذكَرتُها، مثل "شرح مُسلمٍ" للنَّوويِّ، وكذلك شرحُ أبي عبد الله الأُبِّيِّ له. وأمَّا أبو داوُد، فيُرجَج إلى
شُروحه مثل "معالم السُّنَن" للخطَّابيِّ، و "عون المعبود"، و "بذل المجهود"، و "المَنهَل العذب المورود" وتتمَّتُه. وأمَّا التِرمذيُّ، فيُرجَع إلى شُروحه مِثل "عارضَة الأَحوَذِي"، و "تُحفَة الأَحوذي"، و "معارف السُّنَن"، و "الكوكب الدُّرِّيِّ".
واللهُ الموَفِّق.
48 -
سُئلتُ عن حديث: "ثَلَاثةٌ، يَدعُونَ الله فَلَا يُستَجَابُ لَهُم: رَجُلٌ كَانَ تَحتَهُ امرَأَةٌ سَيِّئَةُ الخُلُقِ فَلَم يُطَلِّقهَا، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَلَم يُشهِد عَلَيهِ، وَرَجُل أتَى سَفِيهًا مَالَهُ، وَقَد قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُعَلٌّ بالوقف، وفي بعضه نَكَارَةٌ.
فقد أخرجه الحاكِمُ (2/ 302)، والبيهقيُّ في "الكُبرَى"(10/ 146)، وفي "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 8041) مِن طريق مُعاذِ بن مُعاذٍ العَنبَرِيِّ، ثنا شُعبة، عن فِراسٍ، عن الشَّعبيِّ، عن أبي بُردَة، عن أبي مُوسَى الأشعريِّ مرفُوعًا فذَكَرَه.
قال الحاكِمُ: "صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولَم يُخرِّجاه؛ لتوقِيفِ أصحابِ شُعبةَ هذا الحديثِ على أبي مُوسَى الأشعريِّ"، ووافقَهُ الذَّهَبيُّ.
وقَد تُوبع معاذٌ العَنبَرِيُّ عليه ..
تابعه عَمرُو بن حَكَّامٍ، قال: ثنا شُعبة بسَنَدِه سواءٌ.
أخرَجَهُ الطَّحاويُّ في "المُشكِل"(3/ 216)، وأبو نُعيمٍ في "مسانيد فِراس بن يَحيَى"(ق 93/ 1).
وابنُ حَكَّامٍ مُنكَرُ الحديث.
وتابعه داوُد بنُ إبراهيمَ الواسِطيُّ، ثنا شُعبة بسَنَدِه سواءٌ، لكن خالفه
في مَتنِه، فقال:"ثَلاثٌ، يَدعُون الله فلا يَستجيبُ لهم: رجلٌ تَحته امرأةُ سوءٍ فلا يُطلِّقُها، ورجلٌ له جارُ سوءٍ فلا يَتحوَّلُ عَنهُ، ورجلٌ له غريمُ سوءٍ فأعطاهُ البعضَ فلَم يأخُذهُ فذَهَبَ الكُلُّ".
أخرجه أبو نُعيمٍ أيضًا (ق 93/ 1) قال: حدَّثَنا سُليمانُ بنُ أحمد، ثنا مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ الرَّازيُّ، ثنا أبو بكرٍ بنُ أبي الأَسْود، ثنا داوُد بنُ إبراهيم الوَاسِطيُّ به.
وهذا سَنَدٌ رجالُهُ ثقاتٌ، ومُحمَّدُ بن جعفرٍ، شيخُ الطَّبرانيِّ، ترجَمَهُ الخطيبُ في "تاريخ بغداد" (2/ 128) وقال:"ما عَلِمتُ إلَّا خيرًا". وأبو بكرٍ بنُ أبي الأسْوَد، هو عبدُ الله بن مُحمَّد بن أبي الأَسْود، وهُو ثِقةٌ. وداوُدُ بنُ إبراهيمَ الوَاسطيُّ، وثَّقَهُ الطَّيالسِيُّ، كُما في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ - 407) لابن أبي حاتمٍ.
ثُمَّ استدركتُ، فقُلتُ: وداوُدُ هذا، ليس الذي وَثَّقه الطَّيَالِسِيُّ، بل هو داوُد بنُ إبراهيم، قاضي قَزْوِينَ، وهو متروكٌ. أمَّا الوَاسِطِيُّ، فإنَّه يَروِي عن حبيب بن سالمٍ، مولى النُّعمانَ بن بَشِيرٍ، وهذا لم يَلْحَقهُ مَن رَوَى عن شُعبة، بل في تلاميذه مَن يُعَدُّ من شُيوخ شُعبة، فهي متابَعةٌ واهيةٌ، مع المُخالَفة في بعض المتن، كما أشرتُ آنفًا. والحمد لله.
ولكن، خُولِف هؤلاء الثَّلاثة ..
خالفَهُم مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ غُندَر، فرواه عن شُعبَةَ بسَنَدِه، لكنَّه أَوقَفَهُ.
أخرجه الطَّبَرِيُّ في "تفسيره"(4/ 165).
وغُندَرٌ مِن أَثبَتِ النَّاس في شُعبةَ؛ فقد لَازَمَهُ عشرين سنةً، قال
ابنُ المبارك: "إذا اختلف النَّاسُ في حديثٌ شعبةَ، فكِتاب غُندَرٍ حَكَمٌ بينهم".
وتابَعه يَحيَى القطَّانُ، عن شُعبَةَ فأوقفه.
أخرجَهُ ابنُ أبي شَيبة (4/ 309).
وذَكَرَ أبُو نُعيمٍ أن رَوحَ بنَ عُبادةَ رواه أيضًا موقُوفًا.
وأخرجه أبو نُعيم أيضًا، من طريق عُثمان بن عُمَر، وابنِ حَكَّامٍ، قالَا: ثنا شُعبةُ، عن فِراسٍ، عن الشَّعبيِّ، عن أبي بُردةَ، عن أبي مُوسَى.
رَفَعَهُ عمرُو بن حَكَّام.
فقَولُ أبي نُعيمٍ: "رفَعَهُ عمرُو بن حَكَّامٍ"، يَعنِي أن عُثمانَ بن عُمَر أوقَفَهُ، فيكُونُ الذين أوقَفُوا الحديثَ على شُعبةَ أربَعةٌ هم: غُندَر، ويحيى القطَّانُ، ورَوحُ بنُ عُبادة، وعُثمانُ بنُ عُمَر بن فارسٍ، وهُم يَتَرَجَّحُون على الَّذين رَفَعُوا - الحديثَ، فهم أَعلَى مِنهُم ضبطًا وإِتقَانًا، خصُوصًا في حديثِ شُعبةَ، بل ليس فيهم من يُرفَع له رأسٌ، إلَّا معاذٌ العَنْبَرِيُّ، وقد خالفه من ذَكَرتُ.
والفَقرة الأُولَى من الحديث فيها نَكَارةٌ عِندِي.
لما رواه أبو داوُد (142)، وأحمدُ (4/ 211)، وابنُ حِبَّان (159)، والحاكمُ (4/ 110)، والبيهقيُّ (7/ 303)، والبَغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(1/ 415 - 416) من حديث عاصم بن لَقِيطِ بن صَبْرَةَ، عن أبيه، وساق حديثًا طويلًا، فيه: قُلتُ: يا رسول الله! إنَّ لي امرأةً، في لسانِهَا شيءٌ - يعني: البذاءة -. قال: "طَلِّقهَا"، قُلت: إنَّ لي منها ولدًا ولهَا صحبةٌ؟ قال: "فَمُرهَا، -يقول:- عِظهَا، فَإِن يكُ فيها خيرٌ فستَقبَلُ، ولَا تضرِبَنَّ
ظعينَتَك كضرب أُمَيَّتِك".
وأَخرَجَ أصحابُ السُّنَنِ بعضَ فقراته.
فهذا الحديثُ يدلُّ على جوازِ أن يُمسِك الرَّجلُ المرأةَ سيِّئةَ الخُلُق، سليطةَ اللِّسان، إلَّا لو حمَلنَا الحديث على غيرِ الضرُورة أو الحاجَةِ، وفيه بُعدٌ؛ لأنَّ المرء عادةً لا يُمسِك المرأة وهو كارِهٌ إلَّا لمعنًى.
واللهُ أعلَمُ.
49 -
سُئلتُ عن حديث: "أَحَبُّ الطَّعامِ إِلَى الله مَا كثُرَت عَلَيهِ الأَيدِي".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أبُو يَعلَى (ج 4/ رقم 2045)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(ج 2/ ق 161/ 1)، وابنُ عدي في "الكامل"، (5/ 1983)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 96)، والوزيرُ ابنُ الجرَّاح في "الأمالي"(18 - بتحقيقي)، ومن طريقه الذَّهَبيُّ في "السِّير"(15/ 9) من طريق خَلَّاد بن أَسلَم، ثنا ابنُ أبي روَّادٍ، عن ابن جُريجٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ مرفُوعًا.
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن ابن جُريجٍ، إلَّا عبدُ المجيد".
وقال ابنُ عدي بعد أن ساقَ أحاديثَ أُخرى: "وكُلُّ هذه الأحاديثُ غير محفوظةٍ".
وعزاهُ المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(3/ 134) لأبي الشَّيخ في "كتاب الثَّواب"، وقال:"ولكنْ في هذا الحديث نَكَارَةٌ".
أمَّا الحافظُ العِراقيُّ، فقال في "تخريج الإحياء" - كما في "إتحاف السَّادة" (7/ 115) -:"إسنادُهُ حَسَنٌ!! " كذا قال! ولم يَلتَفِت إلى عَنعنةِ ابن جُريجٍ وأبي الزُّبَير!
وعزاه الزَّبِيْدِيُّ في "الإتحاف"(4/ 217) للضِّياء في "المختارة"، وقال:"إسنادُهُ حَسَنٌ" كذا! وإذا انضمَّ إنكارُ ابن عديٍّ والمُنذريِّ له، مع عنعنة ابن جُريجٍ وأبي الزُّبير، فكيف يَتَأتَّى الحكمُ عليه بالحُسْنِ؟!
وله شاهدٌ من حديث أبي هُريرة مرفُوعًا مثله.
أخرجه أبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 81) من طريق مِقدام بن داوُد المِصريِّ، حدَّثنا النَّضرُ بنُ عبد الجبَّار، ثنا ابنُ لَهِيعَة، عن عطاءٍ، عن أبي هُريرة.
وسندُه ضعيفٌ؛ لضعف المِقدامِ، وسُوءِ حِفظ ابن لِهيعَة، وتدليسِهِ.
وله شاهدٌ من حديث أنسٍ مرفُوعًا: "إنَّ الله يُحبُّ كثرةَ الأيدِي في الطَّعام".
أخرجه الدُّولابيُّ في "الكُنَى"(1/ 188) قال: حدَّثنا أبُو بكرٍ مُصعبُ بنُ عبدِ الله بن مُصعبٍ الواسطى، قال: حدَّثنا يزيدُ بن هارونَ، قال: أبنا عَنبَسَةُ بنُ سعيدٍ القطَّانُ، قال: أبنا سلَمَةُ بنُ سالمٍ، قال: لا أحسبُهُ إلَّا عن أنسٍ.
وسنَدُه واهٍ، وعَنبَسَةُ، تَرَكَهُ الفلَّاسُ، وضعَّفَه أبُو حاتمٍ، والعُقيليُّ، وغيرُهما.
وقد رأيتُ بعضَ الباحثين في كتابٍ لَهُ، قوَّى حديثَ التّرجمة بحديثِ وحشيِّ بن حربٍ، أن رجُلًا قال: يا رسول الله! إنَّا كلُ ولا نشبعُ؟ قال: "فلعلَّكم تأكلون مُتفرِّقين؟ اجتَمِعُوا على طعامِكُم، واذكُرُوا اسمَ اللهِ تعالى عليه، يُبارَكُ لكُم فيه".
قال: وهو حديثٌ حَسَنٌ.
قلتُ: وفي بحثه نَظَرٌ، من وجهين ..
الأوَّل: أن هذا الحديثَ لا يَشهَدُ لحديث التَّرجمة من حيث المعنَى؛ ففي حديثٌ التَّرجمة: "أَحَبُّ الطعام"، وهذا القَدرُ غيرُ موجُودٍ في حديثٌ وَحشِيٍّ. ثُمَّ في حديثٌ وَحشيٍّ ذِكرُ البَرَكة بالاجتماع، ولا يُوجَدُ في حديثٌ التَّرجمةِ.
الثَّاني: أن هذا الحديثَ ليس بحَسَنٍ؛ فقد أخرجَهُ أبُو داودَ (3764)، وابنُ ماجَهْ (3286)، وأحمدُ (3/ 551)، وابنُ حِبَانَ (1345)، والحاكمُ (2/ 103)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(ج 1/ ق 49/ 2)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 368)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 355) من طُرُقٍ عن الوليد بن مُسلِمٍ، ثنا وَحشِيُّ بنُ حَربٍ، عن أبيه، عن جدِّه وَحشِيِّ بن حَربٍ فذكره.
وَسَكَتَ عنه الحاكمُ، والذَّهَبيُّ.
أمَّا العِراقيُّ، فحسَّنَهُ في "تخريج الإحياء"(2/ 4)
كذا قال! ووَحشِيُّ بنُ حربِ بن وَحشيٍّ، قال صالحٌ جزرةُ:"لا يُشتغل به ولا بأبيه".
وأبوهُ حربٌ مجهولٌ، قال الذَّهَبيُّ:"ما رَوَى عنه سوى ابنُهُ وحشيٌّ".
ولذلك قال ابنُ عبد البرِّ: "إسنادٌ ضعيفٌ"، نقله عنه الزَّبِيديُّ في "إتحاف السَّادة"(5/ 217).
50 -
سئلتُ عن حديث: "مِن تَمَامِ صَلَاةِ أَحَدِكُم إِذَا لَم يَكُن نَعلَاهُ فِي رِجلَيهِ، أَن يَخلَعَهَا بَينَ رِجلَيهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجه الوزيرُ ابنُ الجرَّاح في "الأمالي"(55)، وابنُ المُقرِي في "مُعجَمه"(ج 2/ ق 27/ 1) من طريق ابن أبي فُديكٍ، قال: أخبَرَني إبراهيمُ بنُ الفضل المَخزُوميُّ، عن المقبُرِيِّ، عن أبي هُريرة مرفُوعًا.
ووقع عند ابن المُقرِي: "أن يضَعَهُما بين يديه".
وعزاه في "كنز العُمَّال"(7/ 536) للدَّيلمِيِّ، بهذا اللَّفظ.
وهذا سنَدٌ واهٍ جدًّا؛ وإبراهيمُ بنُ الفضل، مُتَّفَقٌ على تضعيفِهِ.
وله طريقٌ آخر ..
أخرجَه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(1/ 303) من طريق عبد الله بن الجرَّاح، ثنا أبُو يَحيَى التَّيمِيُّ، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرة مرفُوعًا:"مِن تَمَامِ صلاتكم، أن يَضَع الرَّجُل نعليه بين يديه".
وأبو يحيى التَّيميُّ، هو إسماعيلُ بن إبراهيم الكُوفيُّ، ضعَّفه النَّسائِيُّ، وابن نُميرٍ، وزاد:"جدًّا".
51 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن تَطيَّبَ، وَلَم يَكُن بِالطِّبِّ مَعرُوفًا، فَأَصَابَ نَفْسًا كما دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أبُو داوُد (4586)، والنَّسائيُّ (8/ 52، 53)، وابنُ ماجَهْ (3466)، والدَّارَقطنيُّ (3/ 195، 196، و 4/ 215، 216)، والحاكِمُ (4/ 212)، وابنُ عدي في "الكامل"(5/ 115)، والبَيهقيُّ (8/ 141)، وأبو نُعيمٍ في "الطبِّ"(ق 14/ 2) من طُرقٍ عن الوليد بن مُسلِمٍ، نا ابنُ جُريجٍ، عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه مرفُوعًا.
قال أبُو داوُد: "وهذا لم يرِوِه إلَّا الوليدُ، ولا نَدرِي هو صحيحٌ أم لا؟ ".
وقال الدَّارَقُطنيُّ: "لم يُسنِده عن ابن جُريجٍ غيرُ الوليد بن مُسلِمٍ، وغيرُهُ يرويه عن ابن جُريجٍ، عن عمرو بن شُعيبٍ، مُرسَلًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ".
• قلتُ: رواه عن الوليد بن مُسلمٍ مُسنَدًا هكذا جماعةٌ، منهم: نصرُ بنُ عاصمٍ الأَنطَاكِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ الصَّبَّاح بن سُفيان، وعمرُو بنُ عثمان بن سعيدٍ، ومُحمَّدُ بنُ مصفَّى، وهشامُ بنُ عمَّارٍ، وراشدُ بنُ سعيدٍ الرَّمليُّ، ومُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن بن سهمٍ، ودُحيمٌ، وعيسى بنُ أبي عِمران الرَّمليُّ.
وخالفهم محمودُ بنُ خالدٍ، فرواه عن الوليد بن مُسلِمٍ، عن ابن جُريجٍ، عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن جَدِّه مرفُوعًا، ولم يَذكُر شُعيبًا في الإسناد.
ذكره ابنُ عديٍّ، والبَيهقيُّ.
قال ابنُ عديٍّ: "رواه محَمُودُ بنُ خالدٍ، عن الوليدِ بن مُسلِمٍ، عن ابن جُريجٍ، عن عمرِو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، مثل ما قال هشامٌ ودُحَيمٌ، ولم يَذكُر أباه. ذكره أبُو عبد الرَّحمن النَّسائيُّ عن محمودٍ، وجَعَله من جَودةِ إسنادِهِ" ا. هـ، كذا قال ابن عديٍّ.
وقد رواه النَّسائيُّ هكذا (8/ 53): "أخَبَرني محمودُ بنُ خالدٍ، قال: حدَّثَنا الوليدُ، عن ابن جُريجٍ، عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدَّه، مثلَه سواءٌ"، وهو يَعنِي مثلَ روايةِ عمرِو بن عُثمانَ وابنِ مصفَّى، عن الوليدِ بن مُسلِمٍ، وقد ذَكَرَا السَّند موصُولًا.
فقولُهُ: "مثلَه سواء" يعنِي سَنَدًا ومتنًا. ولكن، يَظهرُ لي أن النَّسائيَّ عَنَى بقوله:"مثله سواء" المَتنَ دُون السَّنَد، بدليل ما نَقَلُوا عنه.
ومثل هذا يَقَعُ لعُلَماء الحَدِيث، حِين يُنبِّهون على الرِّواية المُرسلة بعد الموصُولة، فيَذكُرُونها موصُولةً، ثُمَّ يقولون: هي مُرسلة، فيُفهم ذلك مِن نقدِهِم. فكأنَّه قال: "
…
عمرُو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، ولم يَذكُر أباه"، لِتَستحضِرَ معه علَّة السَّنَد. واللهُ أَعلمُ.
لكن النَّقدُ يقتضِي أن تَكُون روايةُ الجماعةِ عن الوليدِ أصحَّ من رواية محمودِ بن خالدٍ عنه، لولا ما ذَكَره الدَّارَقُطنيُّ، أن الوليدَ بن مُسلِمٍ خُولف فيه.
وهذا السَّنَدُ، فضلًا عن المخالَفة، ضعيفٌ؛ فإنَّ الوليدَ بنَ مُسلِمٍ كان يُدلِّسُ تدليسَ التَّسويةِ، فيلزَمُهُ أن يُصَرِّح في كُلِّ طبقات السَّنَد، وقد عَنعَن في سائِرِها، إلَّا عن شيخِهِ ابن جُريجٍ، فصرَّحَ بالتَّحديث، وهذا لا يَكفِي، كما هو مَعرُوفٌ.
ثُمَّ إنَّ ابنَ جُريجٍ أيضًا مُدلِّسٌ، وقد عنعن في سائِرِ الطُّرُق التي وقفتُ عليها، وقد وَصَفَ الدَّارقُطنيُّ تدليسَه بـ "القُبْح"؛ لأنَّه كان يُدلِّسُ عن الكذَّابين، ثُمَّ يُسقِطُهُم، فلعلَّه أَخذَهُ من كذَّابٍ، أو مَترُوكٍ، ثُمَّ دلَّسَه.
لكن، أخرجه أبُو داوُد (4587) من طريق عبد العزيز بن عُمَر بن عبد العزيز، قال: حدَّثني بعضُ الوَفد الذين قَدِموا على أبي، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما طبيبٍ تطبَّب على قومٍ لا يُعرَف منه تطبُّبٌ قبل ذلك، فأَعنَتَ، فهو ضامنٌ"، قال عبدُ العزيز:"أَمَا إنه ليس بالنّعت، إنَّما هو قطعُ العُروق، والبَطُّ، والكيُّ".
وهذا مُرسَلٌ، وهو لا يُقوِّي حديثَ عبدِ الله بن عمرٍو السابقَ؛ لشِدَّة ضعفِهِ على ما بيَّنَّا.
واللهُ أعلمُ.
52 -
سُئلتُ عن حديث: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَهَمَّهُ الأَمرُ، رَفَعَ رَأسهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:"سبحَانَ الله العَظِيمِ! "، وَإِذَا اجتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ قَالَ:"يَا حَيُّ! يا قَيُّومُ! ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجه التِّرمذيُّ (3436) من طُرُقٍ عن ابن أبي فُديكٍ، قال: أخبَرَني إبراهيمُ بنُ الفضلِ، عن المَقبُرِيِّ، عن أبي هُريرة فذكره.
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ".
• قلتُ: هكذا وقع في النُّسخة المطبوعة.
ووقع في "تُحفَة الأشراف"(9/ 467)، وفي "تُحفَة الأَحوَذِي" (9/ 396):"حديثٌ غريبٌ"، وكذلك استغرَبَهُ البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(5/ 123)، وأظنُّه نقلَ حُكمَ التِّرمِذِيِّ دُون أن يُشِيرَ إليه كما يفعَلُه كثيرًا.
وهو اللَّائق؛ لأنَّ السَّنَد واهٍ جدًّا؛ وإبراهيمُ بنُ الفَضل المَخزُومِيُّ، ضعيفٌ بالاتِّفاق، وترَكَهُ جماعةٌ من النُّقَّاد، منهم: النَّسائيُّ، والدَّارَقُطنيُّ، والأزديُّ، في آخَرِين.
وأخرَجَ أبو يَعلَى في "مُسنَده"(6546)، وعنه ابنُ السُّنِّيِّ في "اليوم واللَّيلة"(340)، وابنُ الجرَّاح في "الأمالي"(126) شطرَهُ الأوَّلَ.
وأخرَجَ ابنُ الجرَّاح (41)، والبَيهقيُّ في "الدَّعَوات"(198) شطرَهُ الثَّانِي.
ولشَطرِه الثَّاني شاهدٌ من حديثِ أنَسٍ رضي الله عنه بنَحوِهِ.
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (3524)، وابن السُّنِّيِّ (339) بسندٍ ضعيفٍ جدًّا، فيه يزيد بن أبان الرَّقَاشِيُّ، وهو ساقطٌ.
وشاهدٌ آخرُ عن ابن مسعُودٍ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ الحاكمُ (1/ 509)، والبَيهَقِيُّ في "الدَّعَوات"(170) بسَنَدٍ واهٍ، فيه عبدُ الرَّحمن بنُ إسحاقَ الوَاسِطِيُّ، وبه أَعَلَّهُ الذَّهَبِيُّ في "تلخيص المستدرَك"، وأضاف عِلَّةً أُخرَى، وهي أن عبدَ الرَّحمن بنَ عبدِ الله بن مسعُودٍ لم يَسمَع من أبيه، وكنتُ ناقشتُ هذه العِلَّة في تخريجي على "الأَربَعُون الصُّغرَى" للبَيهَقِيِّ.
والله أعلم.
53 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله يُؤَيِّدُ هَدا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
يرويه أبو هُريرَةَ رضي الله عنه قال: شهِدنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ خيبَرَ، فقال - يعنِي لرجُلٍ يُدعَى بالإسلام -:"هذا مِن أهلِ النَّار"، فلمَّا حضرْنا القتالَ قاتلَ الرَّجُلُ قتالًا شديدًا، فأصابتهُ جِراحَةٌ، فقيل:"يا رسُول الله الرُّجُلُ الذي قلتَ له: إنَّه من أهل النَّار، فإنَّه قاتل اليومَ قتالًا شديدًا، وقد ماتَ"، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إلى النَّار! "، فكاد بعضُ النَّاس أن يرتابَ، فبينما هُم كذلك إذ قيل:"فإنَّه لم يَمُت، ولكن به جِراحٌ شديدٌ"، فلمَّا كان من اللَّيل لم يَصبِر على الجِراح فقتل نفسَهُ، فأُخبِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اللهُ أكبرُ! أشهدُ أنِّي عبدُ الله ورسُولُهُ! "، ثُمَّ أمر بلالًا فنادَى في النَّاس:"إنَّه لا يدخُلُ الجنّة إلَّا نفسٌ مُسلِمةٌ، وإنَّ الله يُؤيِّدُ هذا الدِّين بالرَّجُل الفاجِر".
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 5/ رقم 9573)، ومن طريقه البُخارِيُّ في "الجهاد"(6/ 179)، وفي "القَدَر"(11/ 498 - 499)، ومُسلِمٌ في "الإيمان"(111/ 178)، وأبُو عَوانَةَ (1/ 46)، وأحمدُ (2/ 309)، وابنُ حِبَان (4519)، وابنُ مَندَهْ في "الإيمان" (163،
443)، والبيهَقِيُّ (9/ 36)، والقُضاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(1097) عن مَعمَر بن راشدٍ ..
وأخرَجَهُ البُخارِيُّ في "الجهاد"(6/ 179)، وفي "المَغازِي"(7/ 471)، والنَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(8884)، والدَّارِمِيُّ (2/ 158)، وأحمدُ (2/ 310)، وابنُ مَندَهْ في "الإيمان"(164)، والبيهَقِيُّ (8/ 197)، وفي "الدَّلائل"(4/ 253)، والقُضاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(1097) عن شُعيب بن أبي حمزة ..
والبُخارِيُّ في "المَغازِي"(7/ 471) مُعلَّقًا، ووَصَلَهُ النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(8883)، وابنُ مَندَهْ (643) عن يُونُسَ بن يزيدَ ..
ثلاثتُهُم عن الزُّهريِّ، عن سعيد بن المُسيَّب - زاد يُونُسُ: وعبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعبٍ -، عن أبي هُريرة.
ووقع في بعض طُرُق الحديث: "يوم حُنينٍ" بدل "يوم خيبر"، وهو غلطٌ.
وهو عند بعضِهِم مُختَصَرٌ بآخِرِه.
وله شواهدُ عن جماعةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم.
والله أعلم.
54 -
سئلتُ عن حديث: "قَالَ رَبُّكُم عز وجل: لَو أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي، لأَسقَيتُهُمُ المطر بِاللَّيلِ، وَلأَطْلَعتُ عَلَيهِمُ الشَّمسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمَا أَسمَعتُهُم صَوتَ الرَّعدِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أحمدُ (2/ 359)، والطَّيالسيُّ (2586)، وابنُ الأعرابيِّ في "مُعجَمه"(ج 6/ ق 110/ 2)، والبزَّارُ (ج 1/ رقم 664)، والحاكمُ (4/ 256)، والبَيْهقيُّ في "الزُّهد"(713) من طريق صَدَقة بن مُوسَى الدَّقِيقِيِّ، عن مُحمَّدِ بن واسعٍ، عن شُتَيرٍ - ويُقال: سمَيرُ - ابن نهارٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا به، وفي آخرِه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "جَدِّدُوا إيمانَكم"، قالُوا: يا رسول الله! وكيف نُجَدِّدُ إيمانَنَا؟ قال: "جَدِّدُوا إيمانَكم بقولِ: لا إله إلَّا الله".
وأخرجَهُ ابنُ عديٍّ في "الكامل"(4/ 1394)، وأبو نُعيمٍ في "الحلية"(2/ 357) من هذا الوَجهِ بآخرِهِ فقط.
قال البزَّارُ: "لا نعلَمُه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا بهذا الإسناد".
وقال أُبو نُعيمٍ: "غريبٌ مِن حديثٌ مُحمَّدِ بن واسعٍ. تفرَّد به عَنهُ صَدَقةُ بن مُوسَى، ويُعرَف بالدَّقيقِيِّ، بصريٌّ مشهورٌ".
• قلتُ: وسَنَدُهُ ضعيفٌ، وصَدَقَةُ صاحب الدَّقيقِيِّ، ضعَّفه ابنُ مَعِينٍ، والنَّسائيُّ وغيرُهُما.
وشُتَيرُ بنُ نهارٍ - ويُقال: سُمَيرُ -، قال الذهَبيُّ:"نَكِرةٌ"، وساقَ لَهُ في "الميزان" هذا الحديث من مَنَاكيرِه، فما أبعدَ قول الحاكم:"صحيحٌ الإسناد"، وقد ردَّه الذَّهَبيُّ بقوله:"صدقةُ ضعَّفُوه".
وقريبٌ مِن قول الحاكم قولُ المُنذِرِيِّ في "التَّرغيب"(2/ 415): "إسنادُهُ حَسَنٌ"، وكذلك قولُ عليٍّ القارِي في "الأربعين" (32):"إسنادُهُ صحيحٌ".
والحديثُ ضعَّفَه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(2/ 211)، فقال:"مدارُهُ على صدقةَ بن مُوسى الدَّقيقيِّ، ضعَّفَهُ ابنُ مَعِينٍ وغيرُه. وقال مُسلِمُ بن إبراهيم: حدَّثَنا صدَقَةُ الدَّقيقِيُّ، وكان صَدُوقًا" ا. هـ، لكِنَّهُ سَهَا، فقَالَ في (10/ 82):"رجالُهُ ثِقاتٌ"!! بل قال في (1/ 52): "رواه أحمدُ، وإسنادُه جيِّدٌ، وفيه سُمَيرُ بنُ نهارٍ، وثَّقَهُ ابنُ حِبَّان"!!
55 -
سُئلتُ عن الحديث القدسيِّ: "مَن عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدوَةٍ عَلَى مَغفِرَةِ الذُّنُوبِ، غَفَرتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي، مَا لَم يُشرِك بِي شَيئًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَه عَبْدُ بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(602)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11615)، والبَيهقِيُّ في "الأسماء والصِّفات"(1/ 211 - 212)، والبَغَوِيُّ (14/ 388) من طريق إبراهيمَ بن الحَكَم بن أبان، حدَّثَنِي أبِي، عن عِكرِمة، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا.
قال مُلَّا عليٌّ القارِي في "الأربعين"(29): "إسنادُهُ صحيحٌ"!! وهذَا عجيبٌ جدًّا؛ فالسَّنَدُ في غايَةِ الوَهَاء! وإبراهيمُ بنُ الحكَم تركُوه، وقلَّ مَن مشَّاهُ، كما قال الذَّهبيُّ. وقد تركه النَّسائيُّ وغيرُهُ، وقال البُخاريُّ:"سَكَتُوا عنه"، وهو جَرحٌ شديدٌ عنده. وقال أحمدُ:"في سبيلِ اللهِ دَرَاهِمُ أَنفَقنَاهَا إلى عدنٍ، إلى إبراهيمَ بن الحَكَم". وقالَ ابنُ عديٍّ: "بلاؤُهُ ممَّا ذَكَرُوه، أنَّهُ كان يُوصلُ المراسيلَ عن أبيه. وعامَّةُ ما يروِيهِ لا يُتابَعُ عليه".
لكنَّه لَم يتَفَرَّد به ..
فتابعه حفصُ بنُ عُمَر العَدَنيُّ، ثنا الحَكَمُ بنُ أَبَان به.
أخرَجَه الحاكمُ (4/ 262)، وابنُ عَديٍّ في "الكامل"(2/ 793)، واللَّالَكَائيُّ في "أصول الاعتقاد"(1990).
قال الحاكِمُ: "هذا حديثٌ صحيحٌ الإسناد"! فرَدَّهُ الذَّهَبيُّ بقولِهِ: "العَدَنيُّ واهٍ".
وحفصٌ هذَا ليَّنَهُ أبُو حاتمٍ، وقال النَّسائيُّ:"ليس بثقةٍ"، وتَرَكه الدَّارَقُطنيُّ - كما في "العلل"(1/ 245) -، وقال العُقيليُّ:"يُحدِّث بالأباطيل".
وقال ابنُ عَدِيٍّ في ترجَمَةِ حفصِ بن عُمَر، وساقَ أحاديثَ أُخرَى مع هذا الحديث:"وهذ الأحاديثُ عن الحَكَمِ بن أبانٍ يَروِيهَا، عن حفصِ بن عُمَر العَدَنِيِّ. والحكَمُ بنُ أَبَانَ، وإن كان فيه لِينٌ، فإنَّ حَفصًا هذا أَليَنُ مِنهُ بكثيرٍ. والبَلَاءُ من حَفصٍ، لا من الحكَم".
فالحديثُ ضعيفٌ جدًّا بهذا السَّنَد.
أمَّا شَيخُنا أبُو عبد الرَّحمن الألبانيُّ - حفظه الله - فحسَّنَه، كما في "صحيحٌ الجامع"، وفيه نَظَرٌ.
واللهُ أعلَمُ.
56 -
سُئلتُ عن حديث: "تُنصَبُ المَوازينُ يوم القيامة، فيُؤتَى بأهل الصَّلاة، وأهل الصَّدقة، وأهل الحَجِّ، فيُؤتَوْن بالمَوازين، ويُؤتَى بأهل البَلاء، فلا يُنصَبُ لهم ميزانٌ، ولا يُنشَرُ لهم ديوانٌ، ويُصَبُّ الأجرُ عليهم صبًّا بغير حسابٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ أسدُ السُّنَّة في كتاب "الزُّهد"(70) قال: أخبَرَنا بكرُ بنُ خُنيسٍ، عن ضِرار بن عمرٍو، عن يزيدَ الرَّقَاشِيِّ، عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَه.
وهذا إسنادٌ ظُلُماتٌ بعضُها فوق بعضٍ؛ وبَكرُ بنُ خُنيسٍ ليس بالقويِّ.
وضِرارُ بنُ عَمرٍو متروكٌ. ويزيدُ الرَّقَاشِيُّ مثلُهُ.
والحديثُ عزاه السِّيُوطِيُّ في "الدُّرِّ المنثور"(5/ 323) لابن مَردَوَيه بسياقٍ أطول.
ورأيتُهُ في تفسير القُرطُبيِّ (15/ 241) يقول: وقال قتادةُ: لا والله! ما هناك مِكيالٌ ولا ميزانٌ؛ حدَّثَنِي أنسٌ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
…
وساق الحديثَ.
ولا أدري ما هذا، فإنَّني لم أقف على هذا الوجه، ولا أدري من أين جاء به القُرطُبيُّ، وأظُنُّهُ وقع سقطٌ في الكتاب؛ لأنَّ ابنَ جريرٍ أخرج في "تفسيره" قول قتادة: لا والله! ما هناكم مِكيالٌ ولا ميزانٌ، ولم يذكُر أنسًا.
57 -
سُئلت عن حديث: "أَيُّما مُؤمِنٍ يَعطَسُ ثَلَاثَ عَطسَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، إِلَّا كَانَ الإِيمَانُ ثَابِتًا فِي قَلبِهِ".
• قلتُ: هذا الحديث رواه الدَّيلَمِيُّ - كما في "كنز العُمَّال"(9/ 233) -، عن أنَسٍ، أن عُثمانَ بنَ عَفَّانَ عَطَسَ عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال له:"أَلا أُبَشِّرُك؟ "، قال: بَلَى، بأبي أنت وأُمِّي! فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هذا جِبريلُ يُخبِرُني، عن الله: أَيُّما مؤمنٍ يعطس
…
الحديث".
وعِندِي أنَّه حديثٌ باطِلٌ، ومفارِيدُ الدَّيلميِّ كذلك، كما هو معروفٌ عند العُلَماء.
واللهُ أعلَمُ.
58 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قَرَأَ سُورَةَ الوَاقِعَةَ كُلَّ لَيلَةٍ، لَم تُصِبة فَاقَةٌ أَبَدًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه الحارثُ بنُ أبي أُسامة في "مُسنَده"(178)، وابنُ السُّنِّيِّ في "اليوم واللَّيلة"(674)، وابنُ لَالٍ في "حديثه"(116/ 1)، وابنُ بِشرانَ في "الأمالي"(20/ 38/ 1)، والبَيهقيُّ في "الشُّعب"(2498، 2499، 2500)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(151) من طريق أبي شُجاعٍ، عن أبي طَيبة، عن ابن مَسعُودٍ مرفُوعًا فذكره.
قال شيخُنا أبُو عبد الرَّحمن الألبانيُّ - حفظه الله - في "الضَّعيفة"(289): "وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ. قال الذَّهبيُّ: أبُو شُجاعٍ نَكِرةٌ، لا يُعرَف عن أبي طَيبة - ومن أبُو طَيبة؟! -، عن ابن مَسعُودٍ بهذا الحديث مرفُوعًا"، وقد أشار بهذا الكلام إلى أن أبا طَيبَة نَكِرةٌ لا يُعرَف، وصَرَّح في ترجمته بأنَّهُ مجهولٌ، ثُمَّ ذَكَر ما وقع في الحديث من اضطراب.
وثَمَّ شواهدُ أُخرى ذكرها الشَّيخُ، وحكم عليها بالوضع (290، 291)، فرَاجِع بحثَهُ هُناك.
59 -
سُئلتُ عن حديث: "لَيسَ الإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِن مَا وَقَرَ فِي القَلب وَصَدَّقَتهُ الأَعمَالُ. وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ! لَا يَدخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلا بِعَمَلٍ يُتقِنُهُ"، قالُوا: يا رسُولَ الله! ما يُتقِنُه؟ قال: "يُحكِمُهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(6/ 2290)، واللَّالَكَائِيُّ في "شرح الاعتقاد"(1561) من طريق مُحمَّدِ بن عبد الرَّحمن بن بُحَيرِ بن رَيْسَان، قال: ثنا أبي، قال: حدَّثَنِي مالكٌ، حدَّثَني أبُو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرة مرفُوعًا.
قال ابنُ عديٍّ: "باطلٌ عن مالكٍ. ومُحمَّدُ بنُ عبدْ الرَّحمن، مِن أهل اليَمَن، روى عن الثِّقاتِ بالمناكير، وعن أبيه، وعن مالكٍ بالبواطيل".
وله شاهدٌ من حديث أنسٍ مرفُوعًا: "ليس الإيمانُ بالتَّمنِّي، ولا بِالتَّحَلِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلب، وصدَّقهُ الفعلُ. العِلمُ عِلْمان: عِلمٌ باللِّسان، وعِلمٌ بالقلب، فعلمُ القلب العِلمُ النَّافع، وعِلمُ اللِّسان حُجَّةُ الله على ابن آدمَ".
أخرجه ابنُ بِشرانَ في "الأمالي"(ج 22/ ق 248/ 1)، وابنُ النَّجَّار في "ذيل التَّاريخ"(2/ 48)، وأبُو عبد الرَّحمن السُّلمِيُّ في "الأربعين"(7)، وابنُ مَردَوَيهِ، ومن طريقه ابنُ الجوزِيِّ في "الواهيات"(1/ 73)،
والعَسكَرِيُّ في "الأمثال" - كما في "تخريج الأربَعِين"(ق 3/ 2) للسَّخاوِيِّ -، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(2112) مِن طريق عبد السَّلام بن صالحٍ، ثنا يوسُفُ بنُ عطيَّة، ثنا قتادةُ، عن الحَسَن، عن أنسٍ مرفُوعًا.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وعبدُ السَّلام بنُ صالحٍ: هو أبُو الصَّلت الهَرَوِيُّ، وهو تالفٌ البتَّة، وتوثيق ابن مَعِينٍ له مردُودٌ، في مُقابِل الجرح المُفسَّر الصَّادرِ من سائر الأَئِمَّة، فقد كذَّبه بعضُهم، وترَكَهُ آخَرُون، حتَّى قال الجُوْزْجَانِيُّ:"هو أكذَبُ من رَوْثِ حمار الدَّجَّال"، وكذَّبَهُ العُقيليُّ، وقال أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ:"لم يَكُن عِندِي بصَدُوقٍ"، وهذا يَلتَقِي مع حكم العقيليِّ، والكلامُ فيه طويلُ الذَّيل.
وقال الشَّيخ العَلَّامةُ عبد الرَّحمن بن يحيَى المُعلِّمِيُّ رحمه الله في تعليقه علي "الفوائد المجموعة"(ص: 293) للشَّوكانيِّ، مُبيِّنًا حالَ أبي الصَّلت: "وأبو الصَّلتِ فيما يَظهَرُ لي كان داهِيَةً: من جِهَةٍ خَدَمَ عليَّ الرِّضا بنَ مُوسَى بن جَعفَر بن مُحمَّد بن عليِّ بن الحُسَين بن عليِّ بن أبي طالبٍ، وتظاهَر بالتَّشيُّعِ، ورواية الأخبار التي تَدخُلُ في التَّشيُّعِ. ومن جِهَةٍ كان وجِيهًا عند بَنِي العَبَّاس. ومن جِهَةٍ تقرَّب إلي أهل السُّنَّة برَدِّه على الجهمِيَّةِ، واستطاع أن يتجَمَّل لابنِ مَعِينٍ حتَّى أحسَنَ الظَّنَّ به ووثَّقَهُ. وأحسَبُهُ كان مُخلِصًا لبني العبَّاس، وتظاهَرَ بالتَّشيُّعِ لأهلِ البَيتِ مَكرًا منه لكي يُصدَّقَ فيما يَروِيهِ عَنهُم، فرَوَى عن عليِّ بنِ مُوسَى عن آبائه المَوضُوعَاتِ الفاحشةَ، كما تَرَى بعضَها في ترجمةِ عليِّ بن مُوسَى من التَّهذيب، وغَرَضُهُ من ذلك حَطُّ دَرَجَةِ عَلِيِّ بن مُوسَى وأهلِ بَيتِه عند
النَّاس. وأتعجَّبُ من الحافظ ابن حَجَرٍ، يَذكُرُ في ترجمة عليّ بن مُوسَى من "التَّهذيب" تلك البَلَايَا، وأنَّهُ تفرَّد بها عنه أبو الصَّلتِ، ثُمَّ يقُولُ في ترجمة عليٍّ من "التَّقريب":"صدُوقٌ. والخَلَلُ ممَّن رَوَى عنه"، والذي رَوَى عنه هو أبو الصَّلت. ومع ذلك يقُولُ في ترجمة أبي الصَّلت من "التَّقريب":"صدُوقٌ، له مَنَاكِيرُ، وكان يتشيَّعُ، وأفرَطَ العُقَيليُّ فقال: كذَّابٌ". ولم ينفَرِد" العُقيليُّ، فقد قال أبو حاتِمٍ: "لم يَكُن بصدُوقٍ"، وقال ابنُ عَدِيٍّ: "له أحاديثُ مناكِيرُ في فضل أهلِ البَيتِ، وهو مُتَّهَمٌ فِيها"، وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "رَوَى حديثَ: "الإيمانُ إقرارُ القَولِ" وهو مُتَّهمٌ بوَضعِه"، وقال مُحمَّدُ بنُ طاهرٍ: "كذَّابٌ"." انتهَى.
ويوسُفُ بن عطيَّة: هو البصرِيُّ الصفَّارُ، وهو مُجمَعٌ على ضعفه، فقد تَرَكه النَّسائيُّ، وقال البُخاريُّ:"مُنكَر الحديث".
وقد خُولِف قتادةُ في إسناده ..
خالفه أبُو بِشرٍ الحَلَبيُّ، فرَوَاه عن الحَسَنِ قال:"ليس الإيمانُ بالتَّحَلِّي، ولا بالتَّمَنِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلب، وصدَّقَتهُ الأعمالُ. مَن قال حَسَنًا، وغَمِل غيرَ صالحٍ، ردَّهُ اللهُ على قوله، ومَن قال حَسَنًا وعمل صالحًا، رفَعَهُ العَمَلُ؛ ذلك بأنَّ الله تعالى يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ".
أخرجَه البَيهقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 1/ رقم 65)، والخطيبُ في "الاقتضاء"(56) من طريق عُبيد الله بن مُوسَى، ثنا أبُو بِشرٍ الحَلَبيُّ به.
وهذا لا يَصحُّ أيضًا؛ وأبو بِشرٍ الحلبيُّ مجهولٌ.
ولكن له طريق آخر ..
أخرجه ابنُ أبي شَيبة في "الإيمان"(93)، وعبدُ الله بنُ أحمدَ في "زوائد الزُّهد"(ص 263)، مِن طريق جَعفرِ بن سُليمان، قال: نا زكريَّا، قال: سَمِعتُ الحَسَنَ يقولُ: "إنَّ الإِيمانَ ليس بالتَّحلِّي، ولا بالتَّمنِّي، إنَّما الإيمانُ ما وَقَرَ في القلب، وصدَّقَه العملُ".
وفي "الزُّهد": "
…
عن الحَسَن، قال: كان يُقال
…
".
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ فإنَّ زكريَّا هو ابنُ حكيمٍ الحَبَطِيُّ البَصرِيُّ، وهو هالكٌ، كما قال ابنُ المَدينيِّ. وقال النَّسائيُّ:"ليس بثِقَةٍ"، وكذا قال ابنُ مَعِينٍ. فلا يَصِحُّ أيضًا عن الحَسَن.
لكن نَقَلَ المُناوِيُّ في "فيض القدير"(5/ 356)، عن العَلَائِيِّ، قال:"حديثٌ مُنكَرٌ، تفرَّد به عبدُ السَّلام بنُ صالحٍ العابدُ، قال النَّسائيُّ: "مترُوكٌ"، وقال ابن عديٍّ: "مجُمَعٌ على ضعفه"، وقد رُوي معناه بسَنَدٍ جيِّدٍ، عن الحَسَن من قوله، وهو الصَّحيح" ا. هـ، كذا! ورُبَّما توَهَّم العَلَائيُّ أن زكريَّا هو ابنُ أبي زائدةَ أو نحوه. واللهُ أعلَمُ.
أمَّا الشَّطر الثَّاني من حديث أنسٍ مرفوعًا: "العلم عِلمان
…
الخ".
فله شاهدٌ من حديث جابرٍ رضي الله عنه مرفُوعًا بتمامه.
أخرَجَهُ الخطيبُ في "تاريخه"(4/ 346)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(89) من طريق أبي سعيدٍ الأَشَجِّ عبدِ الله بن سعيدٍ، قال: ثنا يحيَى بنُ يمانَ، عن هشامِ بن حسَّانَ، عن الحَسَن، عن جابرٍ مرفُوعًا.
• قلتُ: وهذا أحدُ وُجُوه الاختلاف على الحَسَن في إسناده، ولا يُسمَّى في الحقيقة شاهدًا إلَّا من جهة الشَّكل فقط.
وهذا الوَجهُ مُنكَرٌ؛ ويحيى بنُ يمانَ ليس بحُجَّةٍ، فمِن عَجَبٍ أن يقُول المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب" (1/ 103):"إسنادُهُ حَسَنٌ"، وكذلك العِرَاقِيُّ قال في "تخريج الإِحيَاء" (1/ 59):"إسنادُهُ جيِّدٌ، وأعلَّهُ ابنُ الجَوزِيِّ"!!
والحَقُّ مع ابن الجوزِيِّ في إعلالِهِ قَطعًا؛ لأنَّ يحيى بنَ يمانَ - مع ضَعفِ حِفظِه - خالَفَهُ جماعةٌ من الثِّقات، فرَوَوهُ عن هشامِ بن حسَّانَ، عن الحَسَن، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَة في "زُهد المُصنَّف"(13/ 235) قال: حدَّثَنا ابنُ نُمَيرٍ ..
والحُسَينُ المَروَزِيُّ في "زوائِدِهِ على زُهد ابن المُبارَك"(1161) قال: نا عبَّادُ بنُ العوَّام ..
وابنُ عبدِ البَرِّ في "جامع العلم"(1150) عن أبي معاويةَ الضَّرير مُحمَّدِ بن خازمٍ ..
قالُوا: ثنا هشامُ بنُ حسَّانَ بهذا.
وتابَعَهُمَا فُضَيلُ بنُ عياضٍ، فرواه عن هشام بن حسَّان بهذا الإسناد مُرسَلًا.
أخرَجَهُ الدَّارِمِيُّ في "المُقدِّمة"(1/ 86) قال: أخبَرَنا عاصمُ بن يُوسُف ..
والحكيمُ التِّرمِذِيُّ في "نوادر الأُصُول"(ج 2/ ق 5/ 1) قال: ثنا حَفصُ بنُ عُمَر العابدُ ..
قالا: ثنا فُضَيلُ بنُ عياضٍ بهذا الإسناد.
قال المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(1/ 103)، والعِراقِيُّ في "تخريج الإحياء" (1/ 59):"مُرسَلٌ صحيحٌ الإسناد".
ورَوَاهُ مَكِّيُّ بنُ إبراهيمَ، قال: ثنا هشامُ بنُ حسَّان، عن الحَسَن البَصرِيِّ قولَه.
أخرَجَهُ الدَّارِمِيُّ أيضًا (1/ 86). وسَنَدُه صحيحٌ.
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "شُعَب الإيمان"(1686 - طبع الهند)، من قَول الفُضَيل بن عياضٍ، بسَنَدٍ جيِّدٍ عنه.
فالصَّحيح في هذا أنَّهُ صحيحٌ من مُرسَل الحسَن ومِن قوله.
وهذا فيما يتعلَّقُ بالفَقرَة الثَّانية: "العِلمُ علمان
…
الخ".
والله أعلم.
(تنبيهٌ)
وبَعدَ كتابة ما تقدَّم بأربعةَ عشَرَ عامًا، وقفتُ على كتاب "المُداوِي لعِلَل الجَامِع الصَّغير وشَرحَي المُناوِي" لأبي الفَيضِ الغُمَارِيِّ - وهو ممَّا طُبع حديثًا - فوجدتُهُ يرُدُّ على المُناوِيِّ إعلالَهُ الحديثَ بعبدِ السَّلام بن صالحٍ العابِدِ، فقال (5/ 331):"ثُمَّ إنَّ عبدَ السَّلام بنَ صالحٍ ليس هو علَّةُ الحديث، ولا هُو مُجمَعٌ على ضَعفِه، بل وَثَّقَهُ إمامُ أهل الفَنِّ وغيرُهُ، ومَن تَكلَّم فيه إِنَّما تكلَّمَ لأَجلِ التَّشَيُّع، على عادَتِهم مع شيعَة أهلِ البَيتِ" انتهَى.
وقال في موضعٍ آخَرَ من "المُداوِي"(1/ 207) بعد أن ذَكَر قولَ ابن حِبَّان فيه: "يَروِي في فَضَائِلِ عليٍّ العَجَائِبَ. لا يُحتَج به إذا انفرد"، فقال الغُمارِيُّ:"وهذا الرَّجُلُ ممَّن ظَلَمَهُ أهلُ الجَرح والتَّعديل، لأجل تَشَيُّعِهِ لأهل البَيت، وقد وثَّقهُ أهلُ التَّحقيق منهم كما بيَّنتُهُ في فتح المَلِك العَليِّ" انتهى.
• قلتُ: فرَجَعتُ إلى "فتح المَلِك العَليِّ" فوجَدتُهُ يقُولُ بعد كلامٍ (ص 9 - وما بعدَهَا): "فلم يَبقَ محلًّا للنَّظَر إلَّا أبو الصَّلت وعليه يدُورُ مِحوَرُ الكلام على هذا الحديث، وهو عدلٌ ثقةٌ صدوقٌ مرضِيٌّ معروفٌ بطَلَب الحديثِ والاعتناء به، رَحَل في طَلَبِه إلى البَصرَة والكُوفَة والحِجازِ واليَمَنِ والعِراقِ، ودَخَل بغدادَ فحدَّث بها. رَوَى عنهُ أحمدُ بنُ منصُورٍ الرَّمَادِيُّ الحافظُ صاحبُ المُسنَد"، وذَكَرَ آخَرين، ثُمَّ نَقَل توثيقَ ابن مَعِينٍ وأبي سعيدٍ الهَرَوِيِّ وأبي داوُد، واستدل بأنَّه ثقةٌ عند عبدِ الله بن أحمدَ بن حَنبلٍ وأَبيهِ بأنَّ أحمدَ ما كانَ يأذَنُ لابنِهِ أن يَروِيَ عن أحدٍ إلَّا إذا كان ثِقَةً عِندَهُ، ثُمَّ قال: "إِنَّهم صَحَّحُوا لرِجَالٍ تُكُلِّم فيهم بأشَدَّ ممَّا تُكَلِّم به في عبدِ السَّلام بن صالح، ورُمُوْا بأَسوَأَ ممَّا رُمِي به من الكَذِب وسُوءِ العَقِيدَةِ، ممَّا يَجِبُ معه أن يكُونَ حديثُهُ أصحَّ من حديثِهِم، فقَد صَحَّحُوا لرِجَالٍ كذَّابِينَ مُتَّهَمِين بالوضع، وفيهم مَن أقرَّ على نفسه بذلك ..
فصحَّحَ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ لإسماعيلَ بن أبي أُوَيسٍ ..
قال أحمدُ بن أبي يحيَى عن ابن مَعينٍ: "يَسرِقُ الحديثَ". وقال إِبراهيمُ بن الجُنَيدِ عن ابن مَعِينٍ: "يَخلِطُ ويَكذِبُ. ليس بشَيءٍ". وقال
النَّسائِيُّ: "ضعيفٌ"، وقال في موضعٍ آخرَ:"غيرُ ثقةٍ"، ولم يُخرِّج له. وقال ابنُ مَعِينٍ:"رَوَى عن خالِهِ - يعني مالكًا - أحاديثَ غَرائبَ لا يُتابعُه عليها أحدٌ". وقال النَّضرُ بنُ سَلَمةَ المَروَزِيُّ: "كَذَّابٌ، كان يُحَدِّثُ عن مالكٍ بمسائلَ ابن وهبٍ". وذَكَرَهُ العُقَيليُّ في "الضُّعَفاء"، ونقل عن ابن مَعِينٍ أنَّه قال:"لا يَسوِي فِلسَينِ". وقال الأَزدِيُّ: "حدَّثنا سَيفُ بنُ مُحمَّدٍ، أن ابنَ أبي أُوَيسٍ كان يَضَعُ الحديث". وقال سَلَمَةُ بن شَبيبٍ: "سمعتُ إسماعيلَ بنَ أبي أُوَيسٍ يقولُ: رُبَّما كنتُ أَضَعُ الحديثَ لأهل المَدِينَةِ إذا اختَلَفُوا في شيءٍ فيما بَينَهُم".
وصحَّحَ البُخارِيُّ لأُسَيد بن زيدٍ الجَمَّالِ ..
قال ابنُ مَعِينٍ: "كذَّابٌ. أتَيتُه ببغدادَ فسمِعتُه يُحدِّثُ بأحاديثَ كَذِبٍ". وقال النَّسائِيُّ: "مترُوكٌ". وقال ابنُ حِبَّان: "يَروِي عن الثِّقات المناكيرَ، ويَسرِقُ الحديثَ". وقال ابنُ عَدِيٍّ: "يتبيَّنُ على روايَته الضَّعفُ، وعامَّةُ ما يَروِيهِ لا يُتابَعُ عليه". وقال أبو حاتِمٍ: "يتكلَّمُون فيه". وقال الدَّارقُطنيُّ: "ضعيفُ الحديث". وقال ابن مَاكُولَا: "ضَعَّفوه". وقال الخطيبُ: "كان غيرَ مَرضِيٍّ في الرِّواية". وقال البَزَّارُ: "حدَّث بأحاديثَ لم يُتابَع عليها، وقد احتُمِل حديثُهُ مع شيعَةٍ شديدةٍ فيه". وقال السَّاجِيُّ: "سمعتُ أحمدَ بن يحيَى الصُّوفيَّ يُحدِّثُ عنه بمناكيرَ".
وصحَّح البُخاريُّ للحَسَن بن مُدرِكٍ السُّدُوسِيِّ ..
قال فيه أبو داوُد: "كذَّابٌ، كان يأخُذُ أحاديثَ فهدِ بن عَوفٍ فيُلقِيها علي يَحيَى بن حمَادٍ".
وصحَّحَ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ لأحمدَ بن عيسى بن حسَّانَ المِصِريِّ ..
قال أبو داوُد: "كان ابنُ مَعِينٍ يَحلِفُ أنَّه كذَّاب". وقال أبو حاتِمٍ: "تكلَّم النَّاسُ فيه". وقال سعيدُ بن عَمرٍو البَرذَعِيُّ: "أَنكَرَ أبُو زُرعةَ على مُسلِمٍ روايتَهُ عنه في "الصَّحيح"، وقال: ما رأيتُ أهلَ مِصرَ يَشُكُّونَ في أنَّه - وأشار إلى لسانه، يعني أنَّه يَكذِبُ - ".
وصحَّح البُخارِيُّ للحَسَنِ بن ذَكوانَ ..
قال ابنُ مَعينٍ: "صاحبُ الأَوَابِد. مُنكَرُ الحديث". وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: "أحاديثُهُ أباطيلُ". وضعَّفَهُ أبو حاتِمٍ والنَّسائِيُّ وابنُ المَدِينِيِّ والسَّاجِيُّ، وآخَرُون.
وصحَّح أيضًا لنُعيمِ بن حمَّادٍ ..
قال الدُّولَابِيُّ: "كان يَضَعُ الحديث". وقال الأَزدِيُّ: "قالوا كان يَضَعُ الحديث في تقوية السُّنَّة". وحَكَمَ ابنُ الجَوزِيِّ بوضَعِ أحاديثَ كثيرةٍ أعلَّهَا بنُعيمٍ، ويكاد يَجزِمُ من يعتبر حديثه بذلك لكَثرَةِ ما فيه من المناكير. وقد قال الحافظُ السِّيوطِيُّ في "ذيل الموضُوعاتِ":"أَتعَبَنَا نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ من كثرَة ما يأتي بهذه الطَّامَّاتِ".
وصحَّح أيصًا لعِكرِمَةَ مولى ابن عبَّاسٍ ..
وقد كذَّبَهُ جماعةٌ من الأئمَّةِ، وبيَّنُوا أدِلَّةَ ذلك، بل نُقِل عنه الاعترافُ بالكذبِ في مسألةٍ أو مَسأَلتَين، هذا مع البِدعَةِ الشَّدِيدَة التي كانت فيه.
وصحَّحَ مُسلِمٌ لأفلحَ بن سعيدٍ ..
اتَّهَمَهُ ابنُ حِبَّان بالوَضعِ، بل بوَضِع الحديثِ الذي أخرَجَهُ مُسلِمٌ عنه.
وصحَّح أيضًا لقَطَنِ بن نُسَيرٍ ..
قال ابنُ عَدِيٍّ: "يَسرِقُ الأحاديثَ". وأتَّهَمَه أبو زُرعَة والقَوَارِيرِيُّ وابنُ عَدِيٍّ بوضع حديثٍ.
وصحَّحَ البُخارِيُّ لحرِيزِ بن عُثمانَ ..
وقد وَصَلَ في البِدعَةِ إلى حَدٍّ مُفَسِّقٍ بالإجماعِ أو مُكَفِّرٍ على رأى البَعضِ.
وكذلك صحَّح لعِمرَانَ بن حِطَّان، وهو مِثلُه.
وصحَّحَ مالكٌ ومُسلِمٌ لعبدِ الكَريم بن أبي المُخارِقِ ..
وهو مُجمَعٌ علي ضَعفِه كما قال ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُه.
وصحَّحَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ لإبراهيمَ بن أبي يحيَى ..
وقال غيرُهُ: "إنَّه كذَّابٌ". وقال أحمدُ: "ترَكُوا حديثَهُ، قَدَرِيٌّ مُعتَزِلِيٌّ، يَروِي أحاديثَ ليس لها أَصلٌ". وقال البُخارِيُّ: "ترَكَهُ ابنُ المُبارَك والنَّاسُ". وقال عبَّاسٌ عن ابن مَعِينٍ: "كذَّابٌ رَافِضِيٌّ". وقال ابنُ المَدِيني: "كذَّابٌ، وكان يقُولُ بالقَدَر". وقال النَّسَائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ وجماعَةٌ: "مترُوكٌ". وأطلق النَّسائِيُّ أنَّهُ كان يضَعُ الحديثَ. وقال إبراهيمُ بنُ سعدٍ: "كُنَّا نُسَمِّيه وهو يَطلُب الحديثَ: خُرافةً". وقال مُحمَّد بنُ سُحنُونَ: "لا أعلَمُ بين الأَئِمَّة اختلافًا في إِبطال الحُجَّة به"، ومَعَ هذا كُلِّه قال الحافظُ في "التَّلخيص":"كم من أصلٍ أصَّلَه الشَّافعيُّ لا يُوجَدُ إلَّا من رواية إبراهيم" ا. هـ.
فأين ما قيل في عبدِ السَّلام بن صالحٍ ممَّا قيل في هؤُلاء؟ فإنَّ جَرحَهُ لا
يُذكَرُ بالنِّسبة لجَرحِهم، ومَعَ ذلك حَكَمُوا بصحَّة أحادِيثِهم، وذلك يُوجِبُ أن يَكُونَ حديثُهُ أصحَّ وأرفَعَ بدرجاتٍ من أحاديثهم" انتهَى كلامُهُ.
• قلتُ: وهذا الكلامُ عليه مُؤاخَذاتٌ كثيرةٌ، استوفَيتُ النَّظَر فيها في "الزَّنَدُ الوَارِي في الرَّد على الغُمارِي"، فأنا أَنقُل هنا خُلاصة الرَّدِّ عليه، لتعرِفَ ما ارتَكَبَهُ الغُمارِيُّ من المُجازَفة وقِلَّةِ الإنصاف.
أمَّا كلامُهُ في أبي الصَّلتِ وأنَّه ثقةٌ صدوقٌ عدلٌ رِضًى، فهاك كلامُ العُلماء فيه ..
قال يحيَى بنُ مَعِينٍ: "ثقةٌ صدُوقٌ، إلَّا أنَّه يتشيَّعُ"، وسُئل عن حديثِهِ الذي يرويه عن أبي مُعاوِيَة، عن الأَعمَش، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"أنا مَدِينةُ العِلمِ وعليٌّ بابُها، فمَن أرادَ العِلمَ فلْيَأتِ بَابَهُ"، قال القاسم بنُ عبد الرَّحمن الأَنبَارِيُّ: سألتُ يحيَى بنَ مَعِينٍ عن هذا الحديث، فقال:"هو صحيحٌ". قال الخطيبُ في "تاريخ بغداد"(11/ 50): "أراد أنَّهُ صحيحٌ مِن حديث أبي مُعاوِيَة، وليس بباطلٍ، إذ قَد رواه غيرُ واحدٍ عنه".
وقال إبراهيمُ بنُ عبدِ الله بن الجُنيْد: سألتُ يحيَى بنَ مَعِينٍ عن أبي الصَّلت الهَرَوِيِّ، فقال:"قد سمعَ، وما أعرِفُه بالكَذِب"، قلتُ:"فحديث الأعمش عن مُجاهِدٍ، عن ابن عبَّاسٍ؟ "، فقال:"ما سمعتُ به قطُّ، وما بلغني إلَّا عنه".
وقال مرَّةً أُخرَى: سمعتُ يَحيَى وذَكَرَ أبا الصَّلتَ الهَروِيَّ، فقال: "لم
يَكُن أبو الصَّلت عندنا من أهل الكَذِب، وهذه الأحاديثُ التي يرويها ما نعرِفُها".
وقال عبدُ الخالق بنُ منصُورٍ: سألتُ يحيَى بنَ مَعينٍ عن أبي الصَّلتِ، فقال:"ما أعرفُهُ"، فقلتُ:"إنَّه يَروِي حديثَ الأعمَشِ، عن مُجاهِدٍ، عن ابن عبَّاسٍ: أنا مَدِينةُ العِلمِ وعليٌّ بابُها"، فقال:"ما هذا الحديثُ بشيءٍ".
قال الخطيبُ: "أحسِبُ عبدَ الخَالِق سألَ يحيى عن حالِ أبي الصَّلتِ قدِيمًا، ولم يَكُن يحيى إذ ذاك يَعرِفُه ثُمَّ عَرَفه بعدُ، فأجاب إبراهيمَ بنَ الجُنَيد عن حالِهِ. وأمَّا حديثُ الأعمش فإنَّ أبا الصَّلتِ كان يروِيهِ عنه، فأنكَرَهُ أحمدُ بن حنبَلٍ ويحيى بنُ مَعِينٍ من حديث أبي مُعاوِية، ثمَّ بَحَثَ يحيَى عنه فوجد غيرَ أبي الصَّلتِ قد رواه عن أبي مُعاوية".
• قلتُ: فهذا توثيقُ ابن معينٍ، ومع توثيقِهِ فقد رَدَّ الحديثَ ووهَّاه.
أمَّا توثيقُهُ ..
فقد ردَّهُ الذَّهبيُّ في "السِّيَر"(11/ 447) بقوله: "جُبِلَت القُلوبُ على حُبِّ من أحسَن إليها، وكان هذا بارًّا بيحيَى، ونحن نَسمَعُ مِن يحيَى دائمًا ونحتجُّ بقوله في الرِّجال، ما لم يتبرهَن لنا وَهَنُ رجلٍ انفَرَد بتقوِيَتِهِ، أو قُوَّةُ من وهَّاهُ" انتهَى.
فبيَّن لنا الذَّهبيُّ العلَّةَ في توثيق ابن مَعِينٍ - مع تشدُّدِه - لأبي الصَّلتِ، وهي إحسانُهُ إلى يحيى، وحُسنُ ظَنِّ يحيى فيه، لاسيَّما وكان أبو الصَّلتِ موصُوفًا بالزُّهد والعِبادة، وابنُ مَعِينٍ في نهاية الأمرِ بَشَرٌ ولا ندَّعِي أنَّه
حابَى أبا الصَّلتِ، ولكنَّه أحسَنَ الظَّنَّ به. وكأنَّ الذَّهبيَّ أراد أن يَدفَعَ دعوَى المُحابَاةِ بآخِر كلامِهِ، فيقُولُ:"نحنُ نَسمَعُ من يحيى، ونتَّبعُ كلامَه في الرُّواة، إلَّا أن يَظهَرَ لنا أن يحيى خُدِع فيه"، وهذا حقٌّ، فقد يَخفَى أمرُ الرَّاوي السَّاقِطِ على النَّاقدِ الفَطِنِ من أمثال ابن مَعِينٍ، كما حدَثَ له مع مُحمَّدِ بن القَاسم الأَسَدِيِّ، فقد سُئل عنه ابنُ مَعِينٍ، فقال:"ثقةٌ، وقد كَتبتُ عنه"، مع أن سائرَ العُلماء ما بَينَ مُكذِّبٍ له، وتاركٍ. وكذلك مُحمَّدُ بنُ حُمَيدٍ الرَّازِيُّ، وثَّقَه أحمدُ وابنُ مَعِينٍ، وأسقَطَهُ سائرُ عُلماءِ الرَّيِّ، وهُم من أهل بلده، وهم أَعلَمُ به، وقد قال أبُو عليٍّ النَّيسابُورِيُّ لابن خُزَيمَة:"لو حدَّث الأستاذُ عن مُحمَّدِ بن حُميدٍ فإنَّ أحمدَ وابنَ مَعينٍ أحسنا الثَّناء عليه؟ "، فقال ابنُ خُزَيمَة:"إنَّهما لم يعرفاه كما عَرَفناه، ولو عرَفا ما عرَفناه لم يُحدِّثا عنه"، وقد ثبت رُجُوعُ أحمدَ ويحيى عن هذا التَّوثيق بعدُ.
فليس بغريبٍ أن يَخفَى أمرُ بعض الرُّواة المجرُوحين على بعض النُّقَّاد، حتَّى ولو كان في منزلة ابن مَعِينٍ.
أمَّا زعمُ الغُماريِّ أن أحمدَ وابنَه عبدَ الله وثَّقَاهُ، فإنَّه بَنَى هذا على نُصوصٍ وَرَدت أن عبدَ الله بنَ أحمدَ لم يَكُن يكتُبُ عن رجُلٍ إلَّا إذا رَضِيَهُ أبُوه، ولن يَرضَى أحمدُ بداهةً إلَّا عن رجُلٍ ثقةٍ.
فالجوابُ من وَجهَين ..
• الأوَّل: أن هذه النُّصوص التي أورَدَها الحافظُ في "تعجيل المَنفَعة" من أن عبدَ الله بنَ أحمد لم يَكُن يكتُبُ عن رجُلٍ إلَّا بإذن أبِيه ورضاهُ،
فإنَّما ذلك بسبَبِ فِتنَةِ خَلقِ القُرآن، وأنَّ أحمدَ لم يكُن يُحدِّث عن رجلٍ تلبَّس بهذه الفِتنةِ وأجاب فيها، حتَّى ولو كان من أَجَلِّ الثِّقات، ومَوقِفُه من عليّ بن المَدينِيِّ وابنِ مَعِينٍ وغيرِهمَا معروفٌ. فالأَمرُ لا يتعلَّقُ إذن بثقة الرَّاوي من عدمه، بل إنَّ الإمامَ أحمدَ رَوَى عن بعض المَترُوكِين مثلِ عامرِ بن صالحٍ، ومُحمَّدِ بن القاسِمِ الأَسَدِيِّ، وعُمَرَ بن هارُونَ البَلْخِيِّ، ورَوَى عن ضُعَفاءَ ومجاهِيلَ، فكيف يَسَعُهُ أن يَروِي عن هؤُلاء ولا يَسَعُ عبدَ الله بنَ أحمدَ أن يروِي عن نَظَائِرهم.
• الوجه الثَّاني:
أن أحمد ضَعَّف أبا الصَّلتِ الهَرَوِيَّ نَصًّا، ونصَّ على هذا الحديثِ خُصُوصًا وأنَّه مُنكَرٌ ..
قال أبو بَكرٍ المَروَزِيُّ: سُئِل أبُو عبد الله عن أبي الصَّلتِ، فقال:"رَوَى أحاديثَ مناكيرَ"، قيل له:"رَوَى حديثَ مُجاهِدٍ، عن عليٍّ: أنا مدينةُ العِلمِ، وعليٌّ بابُها"، قال:"ما سَمِعنا بهذا"، قِيل له:"هذا الذي يُنكَر عليه؟ "، قال:"غيرُ هذا، أمَّا هذا فما سمِعنا به، روَى عن عبد الرَّزَّاق واحدًا لا نعرِفُها ولم نسمَعها"، قيل لأبي عبدِ الله:"قد كان عند عبدِ الرَّزَّاق مِن هذه الأحاديثِ الرَّديئة؟ "، قال:"لم أسمع منها شيئًا".
فهذا كلامُ أحمَدَ.
أمَّا كلامُ عبدِ الله بن أحمد في أبي الصَّلتِ، فقد قال العُقَيليُّ في "الضُّعَفاء" (3/ 70 - 71): "حدَّثني عبدُ الله بنُ أحمدَ بن حنبلٍ، قال: حدَّثَنا عبدُ السَّلام بنُ صالحٍ أبو الصَّلتِ الهَرَوِيُّ، قال: حدَّثَنا شريكٌ، عن
سِماكٍ، عن عِكرِمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَرَج العبدُ من دار الشِّرك قبلَ سَيِّدِه فهو حُرٌّ، وإن خَرَج بعد سَيِّده رُدَّ إليه. وإذا خَرَجت المرأةُ قبل زَوجِها تزوَّجت مَن شاءت، وإن خَرَجت من بعدِهِ رُدَّت إليه".
قال عبدُ الله بنُ أحمدَ: قال لنا عبدُ السَّلام بنُ صالحٍ: قال لي عليُّ بن حكْيمٍ: أنا سمعتُهُ من شريكٍ هكذا.
قال عبدُ الله بنُ أحمدَ: ولم نَرَ هذا عند عليِّ بن حكيمٍ، ولا عند غيرِهِ، ولا نحفَظُه من حديثِ شريكٍ. وأبو الصَّلتِ غيرُ مُستقيمِ الأَمرِ".
أمَّا توثيقُ أبي داوُد له، فقد نَقَل الحافظُ في "تهذيبه" (6/ 322) قال:"قال الآجُرِّيُّ، عن أبي داوُد: كان ضابطًا، ورأيتُ ابنَ مَعينٍ عنده"، فهذا النَّقلُ سَبقُ نَظَرٍ أو قَلَمٍ من الحافظ، إنَّما قال أبو داوُد هذا في عبد السَّلام بن مُطَهَّرٍ أبي ظَفَرٍ، وهو موجُودٌ في "سُؤالَات الآجُرِّيِّ لأبي داوُد"(رقم 1350)، وذَكَر فيه أيضًا (804) قال:"سمعتُ أبا داوُد يقُولُ: رأيتُ يحيَى بن مَعِينٍ يكتُبُ عند أبي ظَفَرٍ، يكتُبُ عنه عن رجُلٍ، عن أبي بكرٍ الهُذَلِيِّ".
أمَّا قولُ أبي داوُد في أبي الصَّلتِ، فنقله مُغلُطَايُ في "إكمال تهذيب الكمال"(8/ 274) عن الآجُرِّيِّ، عن أبي داوُد، قال:"كان فيه نظرٌ".
ولم أجد هذا القولَ في النُّسخَة المطبُوعَة من "سؤالات الآجُرِّيِّ". والله أعلمُ.
وأمَّا توثيقُ أبي سعيدٍ الهَرَوِيِّ، فقد نَقَل الحافظُ في "تهذيبه" (6/
321) عن الدَّارقُطنيِّ، قال:"قال لي دَعلَجُ، أنَّه سمع أبا سعيدٍ الهَرَوِيَّ وقيل له: ما تقول في أبي الصَّلت؟ قال: نعم! ابنُ الهَيصَم ثقةٌ. قال: إنَّما سألتُك عن عبدِ السَّلام؟ فقال: نعم ثقةٌ! ولم يَزِد على هذا".
ونقل الغُمارِيُّ النَّصَّ من "تهذيب ابن حَجَرٍ"، وقد وقع فيه تحريفٌ أَفسَدَ المعنَى.
وقد رَوَى الخطيبُ في "تاريخه"(11/ 51) هذا النَّصَّ عن أبي بَكرٍ البَرقَانِيِّ، عن الدَّارقُطنيِّ، أنَّه قال عن أبي الصَّلتِ:"كان رافضيًّا خبيثًا، قال لي دَعلَجُ: أنَّه سمع أبا سَعيدٍ الهَرَوِيَّ الزَّاهدَ، وقيل له: ما تقُولُ في عبد السَّلام بن صالحٍ؟ فقال: نُعيمُ بن الهَيصَمِ ثقةٌ. فقيل: إنَّما سألتُ عن عبد السَّلام؟ فقال: نُعيمٌ ثقةٌ. ولم يَزِد على هذا".
• قلتُ: فهذا هو النَّصُّ الصَّحيحُ، وهو قاضٍ بجَرح عبدِ السَّلام. سلَّمنا أنَّه وثَّقَهُ، فأبُو سعيدٍ ليس معرُوفًا في النُّقَّاد الذين يُعَوَّلُ على ما كلامِهم حتَّى يقابَل بكلام أساطين المُحَدِّثين المَشهُورِين بنَقد الرِّوايات والكَلامِ في الرُّواةِ.
فلم يَسْلَم لَكَ توثيقٌ عمَّن ذكرتَ إلَّا ابنَ مَعينٍ وقد تقدَّم ذِكرُ الحامِل له على ذلك في كلام الذَّهَبِيِّ. ولو سَلَّمنا ثقتَهُ، فقد أَنكَرَ ابنُ مَعينٍ الحديثَ الذي ألَّفتَ الجُزءَ لتقويته.
فاسمَع كلامَ بقيَّة النُّقَّاد في عبد السَّلامِ بن صالحٍ أبي الصَّلتِ ..
قال زكريَّا بنُ يحيَى السَّاجِيُّ: "يُحدِّث بمناكيرَ. هو عندهم ضعيفٌ" ..
وقال النَّسائيُّ: "ليس بثقةٍ" ..
وقال عبدُ الرَّحمن بنُ أبي حاتمٍ: "سألتُ أبي عنه، فقال: لم يَكُن عِندِي بصدُوقٍ، وهو ضعيفٌ. ولم يُحَدِّثني عنه" ..
وأمَّا أبو زُرعَةَ فأَمَرَ أن يُضرَب على حديث أبي الصَّلتِ، وقال:"لا أُحَدِّثُ عنه ولا أَرضَاهُ" ..
وقال إبراهيمُ بنُ يعقُوبَ الجُوْزْجَانِيُّ: "كان أبو الصَّلتِ الهَرَوِيُّ زائغًا عن الحَقِّ، مائِلًا عن القَصدِ، سمعتُ مَن حدَّثَني عن بعض الأئمَّةِ أنَّه قال فيه: هو أَكذَبُ من رَوْثِ حمار الدَّجَّال، وكان قديمًا مُتَلوِّثًا في الأقذار" ..
وقال أبو أحمدَ بنُ عَدِيٍّ: "له أحاديثُ مَناكيرُ في فضل أهل البيت، وهو مُتَّهَمٌ فيها" ..
وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "كان رافضيًّا خبيثًا"، وقال مَرَّةً:"ليس بالقوِيِّ"، وقال أيضًا:"ورَوَى عن جعفَرِ بن مُحمَّدٍ الحديثَ، عن أبائه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: "الإيمانُ إقرار بالقَول، وعَمَلٌ بالجوارح
…
الحديث"، وهو مُتَّهَمٌ بوضعه، لم يُحدِّث به إلَّا مَن سرَقَهُ منه، فهو الابتداء في هذا الحديثِ" ..
قال أبُو بَكرٍ البَرقَانِيُّ: "وحَكَى لنا أبو الحَسَن أنَّه سُمِع يقولُ: كَلُبٌ للعَلَوِيَّة خيرٌ من جميع بني أُميَّة، فقيل: فيهم عُثمانُ؟ فقال: فِيهُم عُثمانُ" ..
قال العُقيليُّ: "رافضيٌّ خبيثٌ"، وقال مَرَّةً:"كذَّابٌ" ..
وقال ابن حِبَّان: "يَروِي عن حمَّادِ بن زيدٍ وأهلِ العِراقِ العَجائِبَ في فَضلِ عليٍّ وأهل بَيتِه، لا يَجُوزُ الاحتجاجُ به إذا انفَرَدَ" ..
وقال الحاكمُ والنَّقَّاشُ وأبو نُعيمٍ: "رَوَى مناكيرَ" ..
وقال مُحمَّدُ بنُ طاهرٍ: "كذابٌ" ..
وأخطَأَ مُغلُطَايُ عندما نقَلَ توثيقَ العِجليِّ له، والذي في "ثقات العِجليِّ"(1099)، قال:"عبد السَّلام بنُ صالحٍ، بصريٌّ ثقةٌ"، وهذا قطعًا ليس أبا الصَّلت الهَرَوِيَّ، إنَّما هو آخَرُ أعلَى طبَقَةً من أبي الصَّلتِ، يَروِي عنه يزيدُ بنُ هارُون وغيرُه. والله أعلمُ.
• قلتُ: وبعدَ هذا الذي ذكرتُهُ لك هل يُمكِنُ أن يُقال: أن عُلماء الجَرح والتَّعديلِ ظَلَمُوا هذا الرَّجُل. لمُجرَّد أنَّه يتشيَّعُ لأهل البَيتِ وقد وَثَّقَ العُلماءُ المئاتِ من الرُّواة الشِّيعة؟!
إنَّ مَن يَعتقدُ هذا لَقليلُ الحظِّ من التَّوفيق. والله المُستَعان.
ومن غَرَائب الغُمارِيِّ ومُغالَطَاتِه أنَّه يَزعُم أن البُخارِيَّ ومُسلِمًا صحَّحا أحاديثَ لِرواةٍ تُكُلِّم فيهم بأشدَّ ممَّا تُكُلِّم في عبدِ السَّلام بن صالحٍ، وذَكَرَ جماعةً من هؤُلاء الرُّواة، وبعضَ أقوال أهل العِلمِ فيهم، وزَعَم أنَّهما صحَّحا لرُواةٍ كذَّابين مُتَّهَمِين بالوضع، فذَكَر منهم: إسماعيلَ بنَ أبي أُوَيسٍ، وأحمدَ بنَ عيسى بن حسَّانَ المِصرِيَّ - صَحَّحا له -، وأُسيدَ بنَ زيدٍ الجَمَّالَ، والحسَنَ بنَ مدركٍ السُّدُوسِيَّ، والحَسَنَ بنَ ذَكوانَ، ونُعيمَ بنَ حمَّادٍ، وعِكرِمَةَ مولى ابن عبَّاسٍ، وحَريزَ بنَ عُثمانَ، وعِمرانَ بن حِطَّان - هؤلاء صحَّحَ لهم البُخاريَّ -، وأفلحَ بنَ سعيدٍ، وقَطَنَ بنَ نُسَيرٍ، وعبدَ الكريم بنَ أبي المُخارِقِ - وهؤلاء صحَّح لهم مُسلمٌ -، وهؤلاء جميعًا عند الغُمارِيِّ أسوأُ حالًا من عبدِ السَّلام بن صالحٍ، ومع ذلك
صحَّح لهم الشَّيخانِ كما مرَّ بك.
وهذا القولُ لا يشكُّ عالمٌ بالحديث أنَّه مُجازَفةٌ، وأنَّه لم يُبْنَ على دراسةٍ علميَّةٍ صحيحةٍ، وأنا لا أستطيعُ أن أستَوفِيَ الرَّدَّ عليه في هذه العُجالة، بل محِلُّهُ "الزَّنَد الواري". لكن راجِع كلامَ الحافظ في "مُقدِّمة الفتح" في الذَّبِّ عن رُواة البُخارِيِّ منهم.
ولكن ليس في هؤلاء جميعًا من كان يَكذِبُ، يمعني: يَفتَعِلُ الحديثَ أو يَضعُهُ بحمد الله تعالى. والله المُستَعان.
لكنَّنِي أُرِيدُ أن أُبَيِّن خطأ الغُمارِيِّ في دعواه أن مُسلِمًا صحَّح لعبدِ الكَريم بن أبي المُخارِقِ ..
فإنَّ مُسلمًا لم يَروِ له شيئًا أصلًا، لكنَّ الغُمارِيَّ اغترَّ بما رآه في "تهذيب ابن حَجَرٍ" وأنَّه ذكر عَلامَة (م) التي تدلُّ على أن مُسلِمًا أخرَجَ له. وليتَهُ قَرَأَ التّرجَمة كُلَّها، ولو فَعَل لم يَقَع في هذا الخَطَإِ، فقد قال الحافظُ في "تهذيبه" (6/ 378):"وأمَّا مُسلِمٌ فقال المُؤلِّفُ - يعني: المِزِّيَّ -: رَوَى له في المُتابَعات، وهذا الإطلاقُ يَقتَضِي أنَّه رَوَى له عِدَّة أحاديثَ، وليس كذلك. ليس له في كتابه سِوَى موضِعٍ واحدٍ. وقد قيل: إنَّه ليس هو أبا أُميَّة، وإنَّما هو الجَزَرِيُّ، وقد قال الحافظُ أبو مُحمَّدٍ المُنذِرِيُّ: لم يُخرِّج له مُسلِمٌ شيئًا، أصلًا ولا مُتابَعَةً ولا غيرَها، وإنَّما أخرج لعبدِ الكَريم الجَزَرِيِّ" انتَهَى.
• قلتُ: أخرَجَ للجَزَرِيِّ أقلَّ من عَشَرَة أحاديثَ، أمَّا الحديثُ الواحدُ الذي أشار إليه الحافظُ في "مُسلمٍ"، وقيل إنَّه لعبدِ الكَرِيم بن أبي المُخارِقِ،
فقد أخرَجَهُ في "كتاب الحَجِّ"(1201/ 83)، قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ أبي عُمَر، حدَّثَنا سفيانُ، عن ابن أبي نَجِيحٍ، وأيُّوبَ، وحُميدٍ، وعبدِ الكَرِيم، عن مُجاهدٍ، عن ابن أبي لَيلى، عن كعب بن عُجرَة رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو بالحُدَيبِيَةِ، قبل أن يَدخُل مَكَّة، وهو مُحرِمٌ، وهو يُوقِدُ تحت قِدرٍ، والقُمَّلُ يتهافَتُ على وجهه، فقال:"أَيُؤذِيكَ هوامُّكَ هذه؟ "، قال:"نعم"، قال:"فَاحلِق رأسَكَ، وأَطعِم فَرَقًا بين سِتَّةِ مساكينَ - والفَرَقُ ثلاثة آصُعٍ -، أو صُم ثلاثة أيَّامٍ، أو انسُك نَسِيكَةً".
قال ابن أبي نَجِيحٍ: "أو اذبح شاةً".
وعبدُ الكَريم في هذا الإسنادِ هو الجَزَرِيُّ، كما صرَّح به المِزِّيُّ في "تُحفَة الأَشرَاف" (7/ 544 - طبع بشَّار). ولو سلَّمنا أنَّه ابنُ أبي المُخارِقِ فلا يجُوزُ أن يُقالَ:"صحَّح له مُسلِمٌ"؛ لأنَّه قَرَنَهُ بابنِ أبي نَجِيحٍ وأيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ وحُمَيدٍ الطَّويلِ. فالمُعَوَّل على رواية هؤُلاء، أمَّا إطلاقُ أن مُسلِمًا صحَّح له، فهذا يَعنِي أنَّه احتَّج به، وقد عَلِمتَ أنَّه باطلٌ.
واللهُ أعلمُ.
60 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن عَدَلَ بِبُزَاقِهِ عَنِ المَسجِدِ إِجلَالا لله، وَأَمَاطَ عَنهُ الأَذَى، وَلَم يَمحُ اسمًا مِن أَسَماءِ الله بِبُزَاقٍ، كَانَ مِن ضَنَائِنِ عِبَادِ اللهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجه أبُو القاسم الخُتُلِّيُّ إسحاقُ بنُ إبراهيمِ بن مُحَمَّدٍ في "كتاب الدِّيباج"(ج 3/ ق 32/ 2 - 33/ 1) قال: حدَّثنا حاجبُ بنُ الوليد، حدَّثنا عبدُ الله بنُ ضِرارٍ، حدَّثنا أبي، عن قتادة، عن أنسٍ مرفُوعا.
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وعبدُ الله بنُ ضِرارٍ، وأبُوه ضِرارُ بنُ عمرٍو المَلْطِيُّ واهيان.
واللهُ أعلَمُ.
61 -
سُئلتُ عن حديث: كَانَ يَبعَثُ إِلَى المَطَاهِرِ، فَيُؤتَى بِالمَاءِ، فَيَشْرُبهُ؛ يَرجُو بَرَكَةَ أَيدِي المُسلِمِينَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله! الوُضُوءُ مِن جَرٍّ جَدِيدٍ أَحَبُّ إِلَيكَ، أَم مِنَ المَطَاهِرِ؟ قَالَ:"لَا، بَل مِنَ المَطَاهِرِ؛ إِنَّ دِينَ اللهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط"(ج 1/ ق 46/ 1)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(2/ 783)، وأبو نُعيمٍ في "الحلية"(8/ 203) مِن طريق مُحْرِزِ بن عونٍ، ثنا حسَّانُ بنُ إبراهيم الكَرْمَانِيُّ، عن عبدِ العزيز بن أبي روَّادٍ، عن نافع، عن ابن عُمَر فذكره.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عبد العزيز إلَّا حسَّانُ".
وقال أبُو نُعيمٍ: "غريبٌ. تفرَّد به حَسَّانُ بنُ إِبراهيم، لم نَكتُبه إلَّا من حديث محُرِزٍ".
قلتُ: تفرَّد حسَّانُ بنُ إبراهيم بوصلِهِ.
وقد خُولِفَ في ذلك ..
فخالَفَهُ وكيعُ بنُ الجرَّاح، فرواه عن عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ، عن مُحمَّد بن واسعٍ الأزديِّ، قال: جاء رجُل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
فذَكَرَهُ نحوَهُ.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(2/ 783) قال: حدَّثَنَاهُ ابنُ صاعدٍ، ثنا القاسِمُ بن يزيَد الوزَّانُ، ثنا وكيعٌ.
وحَسَّانُ بنُ إبراهيم لا يُقارَن بوكيعٍ جلالةً، وحِفظًا، وإتقانًا. وكان حسَّانُ صاحبَ ما غرائبَ، ووَهَمٍ في الأسانيد.
وقد تُوبِع وكيعٌ على إرساله ..
تابعه خلَّادُ بنُ يَحيَى، فرواه عن عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ، عن مُحمَّد بن واسعٍ مُرسَلًا.
ذكره أبُو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 203).
وخلَّادٌ صدوقٌ، من كبار شُيوخ البُخاريِّ، وفي حفظِهِ مقالٌ خفيفٌ.
أمَّا آخرُه: "إنَّ دين الله الحَنِيفيَّةَ السَّمحةَ"، فوَرَد عن جماعةٍ من الصَّحابة، منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وأبو أُمَامة، وعائشةُ، وأبُو هُريرة، وجابرُ بن عبد الله رضي الله عنهم.
• أوَّلًا: حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ في "صحيحه"(1/ 93 - فتح) مُعلَّقًا، ووَصَلَهُ في "الأدب المُفرَد"(287)، وأحمدُ (1/ 236)، وعَبدُ بن حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(569)، والبَزَّارُ (ج 1/ رقم 78)، وأبو إسحاق الحَربِيُّ في "الغريب"(1/ 291)، وأبو بَكرٍ الكِلَابَاذِيُّ في "المعاني والأخبار"(ق 168/ 1)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11571، 11572)، وفي "الأَوسَط"(ج 2/ رقم 1010)، والضِّيَاءُ المَقدِسِيُّ في "المُختارَة"(ج 64/ ق 370/ 1)، والحافظُ في "التَّغلِيق"(2/ 41) من طُرُقٍ عن مُحمَّدِ بن إسحاق، عن داوُدَ بن الحُصَين، عن عِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: سُئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أيِّ الأديان أحبُّ إلى الله عز وجل؟ قال: "الحَنِيفيَّةُ السَّمحَةُ".
قال الحافظ في "الفتح"(1/ 94): "إسنادُهُ حَسَنٌ"!
• قلتُ: كذا قال! والسَّنَدُ ضعيفٌ من وَجهَين:
الأوَّل: قال ابنُ المَدِينِيِّ: "ما رَوَى داوُدُ بنُ الحُصَين، عن عِكرِمة: فمُنكَرٌ"، وهذا الحديثُ من رِوَايَتِهِ عنه.
وقد قال الحافظ في "التَّقريب" في تَرجَمَةِ داوُد: "ثِقَةٌ، إلَّا في حديث عِكرِمَةَ"! فما بالُهُ يُحَسِّنُ حديثَهُ هنا؟!
الثَّاني: أن مُحمَّد بنَ إسحاقَ مُدَلِّسٌ، وقد عَنعَنَهُ. وقد أقرَّ الحافظُ بذلك، فقال في "التَّغليق" (2/ 41):"لَم أَرَهُ - يعني: مِن حديثِ ابن إِسحاقَ - إلَّا مُعَنعَنًا". وسَبَقَهُ إلى ذلك شَيخَاهُ العِرَاقِيُّ في "المُغنِي"(4/ 151)، والهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(1/ 50).
أمَّا الشَّيخُ أبو الأشبال أحمدُ شاكر رحمه الله، فقال في "شرح المُسنَد" (2107):"إسنادُهُ صحيحٌ"!!
وهو خطأٌ، لا إِشكَالَ فيه، وأظنُّ الشَّيخَ لَم يَستَحضِر كلامَ ابن المَدِينِيِّ السَّابِقَ؛ لأنِّي رأيتُهُ يُصَحِّحُ حديثَ دَاوُدَ بن الحُصَين، عن عِكرِمِةَ، في تخريجِهِ على "المُسنَد". وانظُر الأرقامَ: 1876، 2366، 2382، 2387. وحَسَّنَه في الأرقام: 2728، 2729. وإنَّمَا حَسَّنَهُ الشَّيخ رحمه الله لأمرٍ آخرَ في السَّنَد
(1)
، بِخِلَافِ رواية داوُد، عن عِكرِمَة. وأخشى أن يَكُون الشَّيخُ طالَع كلامَ ابن المَدِينِيِّ السَّابقَ، وأَغضَى الطَّرَف عنه؛ لأنَّهُ لم يَقنَع به! وقد فَعَلَ ذلك في مَوَاضِعَ.
(1)
وهو أنَّه من رواية إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ضعيفٌ بلا ريبٍ، ومع ذلك فالشَّيخ يُحسِّن حديثَه!! رحمه الله وغفر لنا وله.
أمَّا تدليسُ ابن إِسحاقَ فإنَّ أبا الأشبال كان يُشَكِّكُ في ثُبُوتِهِ، إِنْ لم أَقُل إنَّهُ كان يَنفِيهِ؛ فقد قال في "شرح المُسنَد" (2/ 49):"ومُحمَّدُ بنُ إسحاق ثِقَةٌ، وزَعَمَ بعضُهُم أنَّه مُدَلِّسٌ، وقد ارتَفَعَت هذه الشُّبهَة - إِن وُجِدَت - بتصريحه في الإسناد بالتَّحديث".
وقال في موضعٍ آخرَ مِنهُ (9/ 38): "فابنُ إِسحَاق صرَّحَ هُنَا بالتَّحديث مِن نَافِعٍ، فزالت شُبهَةُ التَّدلِيس، إن كان لَهَا أصلٌ".
وقال في تعليقه على "المُحَلَّى"(4/ 71): "وابن إِسحَاق
…
وقد صرَّح بسماعه مِن نَافِعٍ، فارتَفَعَت شُبهةُ التَّدليس، إن ثَبَتَ أنَّه مُدَلِّسٌ".
• قلتُ: فهذه نُصُوصٌ مِن كلامِ الشَّيخ، ينفي فيها، أو يَكَادُ، تَدلِيسَ ابن إِسحاقَ. وقد صحَّحَ له أحاديثَ كَثِيرَةً رواها بالعَنعَنَةِ في "المُسنَد"، وانظر مثلًا الأرقامَ: 1875، 2041، 2042، 2314، 2389، 2884، 6437.
هذا، مع أن ابنَ إسحاقَ مِنَ المَشهُورِين بالتَّدليس ..
قال الإِمامُ أحمدُ: "كان ابنُ إسحاق يُدَلِّسُ"، قيل له:"فإذا قال: أخبَرَنِي، وحدَّثَنِي، فهو ثقةٌ؟ "، قال:"يقولُ: أخبَرَنِي، ويُخالِفُ! ".
وهذا قولٌ شديدٌ من الإِمَام.
وقد اتَّهَمَهُ أيضًا بالتَّدليس: ابنُ نُمَيرٍ، وابنُ خُزَيمَةَ، والبَيهَقِيُّ. وعامَّةُ المُتَأَخِّرِينَ: كالحَازِمِيِّ، وابنِ الجَوزِيِّ، وابنِ الصَّلَاح، والمُنذِرِيِّ، والذَّهَبِيِّ، والمِزِّيِّ، وابنِ تَيمِيَةَ، وابنِ القَيِّمِ، والعِرَاقِيِّ، وابنِ حَجَرٍ، في آخرين يطُولُ الأمرُ بذِكرِهِم.
فكيف يُقالُ عن تُهمَةِ التَّدليس "إِن كانَ لها أَصلٌ"؟!!
• ثانيًا: حديثُ أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 266)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7868) من طريق مُعَان بن رِفَاعَةَ، حدَّثَنِي عليُّ بنُ يزيدَ، عن القاسمِ، عن أبي أُمَامَةَ، قال: خَرَجنَا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ من سَرَايَاهُ، فمرَّ رجلٌ بغارٍ فيه شيءٌ من ماءٍ، فجَذَبَتْهُ نفسُه أن يُقِيمَ في ذلك الغارِ، فَيَقُوتُ ما فيه من ماءٍ، ويُصِيبُ ممَّا حولَهُ من البَقلِ، ويتَخَلَّى مِن الدُّنيا، ثُمَّ قال: لو أَنِي أتيتُ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلك لَهُ، فإِن أَذِنَ لِي فعلتُ، وإلَّا لم أفعل. فأتاه، فقال: يا نَبِيَّ الله! إنِّي مَرَرتُ بغارٍ فيه ما يَقُوتُنِي من الماء والبَقلِ، فحدَّثَتنِي نَفسِي بأن أُقِيمَ، وأتخلَّى مِنَ الدُّنيا. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لم أُبعَث باليهُودِيَّةِ ولا النَّصرانيَّةِ، ولكِنِّي بُعِثتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمحةِ. والذي نفسي بيَدِهِ! لَغَدَاةُ أو رَوحَةٌ في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيَا وما فيها، ولَمُقَامُ أَحدِكم في الصَّفِّ خيرٌ من صلاتِهِ سَتِّين سنةً".
قال العِرَاقِيُّ في "المُغنِي"(4/ 151): "سَنَدُه ضعيفٌ"!! وكان الأَولَى أن يَقُولَ: "ضعيفٌ جِدًّا"؛ لأنَّ عليَّ بنَ يزيدَ الأَلهَانِيَّ مَترُوكٌ. وتَسَامَحَ الهَيثَمِيُّ في حَقِّهِ، فقال:"ضعيفٌ"، كما في "المَجمَع"(5/ 279)، بل تَسَامَحَ أكثرَ، فقال في موضعٍ آخرَ منه (3/ 56):"فيه كلامٌ"! مع أنَّهُ ضَعَّفَهُ جدًّا، في أوَّل كتابه (1/ 20)، وهو الصَّوابُ.
والقاسمُ صاحبُ أبي أُمَامَةَ فصَدُوقٌ، في حِفظِه مَقالٌ خفيفٌ.
ومُعَانُ بن رِفَاعَةَ ليِّنُ الحديث، كما في "التَّقريب".
ولكنِّي وجدتُ لبعضه طريقًا آخرَ بدُون القِصَّة ..
أخرَجَهُ الرُّويَانِيُّ في "مُسنَده"(ج 30/ ق 221/ 1) من طريق هِشامِ بن عمارٍ، نا الوليدُ، نا عُفَيرُ بنُ مَعدَانَ، نا سُليمُ بن عامرٍ، عن أبي أُمامَةَ مرفُوعًا:"إنِّي بُعِثتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمحَةِ، ولم أُبعَث بالرَّهبَانِيَّة البِدعَةِ، فكُلُوا اللَّحمَ، وائتُوا النِّساءَ، وصُومُوا وأَفطِرُوا، وقُومُوا ونَامُوا، فإِنِّي بذلك أُمِرتُ".
• قلتُ: وسَنَدُهُ ضعيفٌ، أو واهٍ؛ وعُفَيرُ بن مَعدانَ ضَعيفٌ، وضعَّفَهُ بعضُهم جِدًّا. وقال أبو حاتمٍ:"ضعيفُ الحَدِيثِ. يُكثِر الرِّوايَةَ عن سُليم بن عامرٍ، عن أبي أُمَامَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ما لا أَصلَ له. لا يُشتَغَلُ بروايته".
• ثالثًا: حديثُ عائِشَةَ رضي الله عنها.
أخرَجَهُ أحمدُ (6/ 116، 233) قال: حدَّثَنا سُليمانُ بن داوُد، أنا ابنُ أبي الزِّناد، عن أبي الزِّنَادِ، قال: قال لي عُروةُ: إنَّ عائشةَ قالت: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: "لِتَعلَم يهودُ أن في دِينِنَا فُسحَةً. إنِّي أُرسِلتُ بحنِيفِيَّةٍ سمحةٍ".
قال الحافظُ في "التَّغليق"(2/ 43): "وهذا إسنادٌ حَسَنٌ". وكذا قال السَّخَاوِيُّ في "المقاصد"(214)، وتَبِعَهُ العَجلُونِيُّ في "كَشف الخَفَا"(1/ 52)، والزُرقَانِيُّ في "مُختَصر المقاصد".
• قلتُ: وهو كما قالُوا. ورجالُ الإسناد ثِقاتٌ، وليس فيهم من يُنظَر في حالِهِ، سِوَى عبدِ الرَّحمن بن أبي الزِّنَاد، وكان حِفظُه قد تَغَيَّر قليلًا لَمَّا دَخَل بغدادَ. والله أعلَمُ.
• رابعًا: حديثُ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأَوسَط"(ج 2/ ق 163/ 2)، وابنُ عدِيٍّ في "الكامل"(4/ 1506)، وأبو نُعَيمٍ في "أخبار أَصبَهان"(1/ 336) من طُرُقٍ عن سلَمَةَ بن شَبِيبٍ، قال: نا عبدُ الله بنُ إبراهِيمَ الغِفَارِيُّ، ثنا حُرُّ بنُ عبد الله الحَذَّاءُ، عن صَفوانَ بن سُلَيم، عن سُليمانَ بن يسَارٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"أَحَبُّ الدِّينِ إلى الله الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ".
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن صَفوَانَ بن سُليمٍ إلَّا حُرُّ بنُ عبدِ الله. تَفَرَّد به عبد الله بن إبراهيم" ا. هـ.
• قلتُ: وهو مُنكَرُ الحديث، كما قال أبو داوُد، والسَّاجِيُّ، بل نَسَبَهُ ابنُ حِبَّان إلى الوَضعِ. وبه أَعَلَّهُ الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(1/ 60).
ونَقَلَ ابنُ عَدِيٍّ عَقِبَهُ، عن سَلَمَةَ بن شَبِيبٍ، قال. قال لي أبُو زُرعَةَ:"ما سَمِعتُ هذا الحديثَ في الدُّنيا مِن أَحدٍ غَيرِك"، وهو دالٌّ على غَرَابَتِه. وحُرُّ بنُ عبد الله لم أَقِف لَهُ على تَرجَمَةٍ، ولم يُشِر إليه ابنُ مَاكُولَا في "الإكمال"(2/ 92 - 93)، فلَعَلَّهُ تَصحَّف. والله أعلم.
وأخرَجَ أبو نُعيمٍ في "أخبار أَصبَهَان"(2/ 245) من طريق مُحمَّد بن حُميدٍ، ثنا جَرِيرٌ، عن الأعمشِ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة، قال: بَلَغَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن قَومًا حَرَّمُوا الطِّيْبَ واللَّحمَ والنِّساءَ، مِنهُم عُثمانُ بن مَظعُونٍ، وعبدُ الله بنُ مسعُودٍ، وأرادوا أن يَستَخصُوا، فَقامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَوعَدَ ذلك الوَعِيدَ، حتَّى أَوعَدَ القتلَ [!!]، وقال: "إِنِّي لم أُبعَث بالرَّهبانِيَّةِ
…
الحديث".
وسَنَدُهُ واهٍ؛ لأجل مُحمَّدِ بن حُمَيدٍ الرَّازِيِّ.
وقولُهُ: "حتَّى أَوعَدَ القَتلَ" مُنكَرٌ جِدًّا.
والله أعلم.
62 -
سُئلتُ عن حديث: كَان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرمِي الجَمرَةَ يَومَ
النَّحرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعدَ ذَلِكَ فَبَعدَ زَوَالِ الشَّمسِ.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه البُخاريُّ (3/ 579) مُعلَّقًا، ووَصَلَه مُسلِمٌ (1299)، وأبو داوُد (1971)، والنَّسائيُّ (5/ 270)، والتِّرمذيُّ (894)، وابنُ ماجَة (3053)، والدَّارميُّ (1/ 288)، وإسحاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ في "المُسنَد" - كما في "الفتح"(3/ 580) -، وابنُ خُزَيمة (4/ 277)، وابنُ الجارُود في "المُنتقَى"(474)، والطَّحاوِيُّ في "شرح المعاني"(2/ 220)، وأحمدُ (3/ 224)، والبَيهقِيُّ (5/ 31)، والبَغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(7/ 223) من طُرُقٍ عن ابن جُريجٍ، قال: أخبَرَني أبُو الزُّبير، أنَّه سَمِعَ جابرَ بنَ عبد الله فذَكَره.
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
سُئلتُ عن حديثين
…
63 - عن عُمَر بن الخطَّاب، قال: إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً، يَكتُبُونَ أَعمَالَ بَنِي آدَمَ، فَيَأتُونَ رَبَّهُم عز وجل، فَيَقُومُونَ بَينَ يَدَيهِ، وَيَنشُرُونَ صُحُفَهُم،
فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: "أَلقِ تِلكَ الصَّحِيفَةَ، أَثبِت تِلكَ الصَّحِيفَةَ"، فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُمِرُوا أَن يُلقُوا الصَّحِيفَةَ:"شَهِدنَا مَعَهُم خَيرًا، وَرَأَينَاهُ؟ "، قال:"إِنَّهُم أَرَادُوا بِهِ غَيرَ وَجهِي".
64 -
عَن ابن عُمَر، قال: إِنَّ فِي بَعضِ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيٍّ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:"ابنَ آدَمَ! أَخلُقُكَ وَتَعبُدُ غَيرِي؟! وَأَرزُقُكَ وَتَشكُرُ غَيرِي؟! ابنَ آدَمَ! أَدعُوكَ وَتَفِرُّ مِنِّي؟! ابنَ آدَمَ! أَذكُرُكَ وَتَنسَانِي؟! ابنَ آدَمَ! اتَّقِ الله، وَنَم حَيثُ شِئتَ".
• قلتُ: أمَّا الحديثُ الأوَّلُ، فَلَم أَقِف على سَنَدِه، وعزاه في "كنز العُمَّال"(ج 2/ رقم 8836) لـ "رُسْتَه" - بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَسكِينِ السِّينِ، وَفَتح التَّاء -.
وكذلِكَ الحديثُ الثَّاني، عزاه في "الإتحافات السَّنِيَّة"(498) لأحمدَ بن فارسٍ في "أماليه"، والخَلِيليِّ.
ويَغلُبُ على ظنِّي عَدَمُ ثبوتِهما؛ ومفارِيدُ هذه الكُتبِ مناكيرُ في الغالب. واللهُ أعلَمُ.
65 -
سُئلت عن حديث: "المُؤمِنُ مِن أَخِيهِ بِمَنزِلَةِ اليَدَينِ، لَا غِنًى لِأَحدِهِمَا عَنِ الأُخرَى".
• قلتُ: أخرجه ابنُ وَهب في "الجامع"(ق 45/ 2) قال: أخبَرَني ابنُ لَهِيعَة، عن مُحمَّد بن زيد بن المُهاجِر، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذكره.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ؛ لإعضاله.
واللهُ أعلَمُ.
66 - سُئلتُ: هل صحَّ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في مُعاويةَ بن أبي سُفيان: "لَا أَشبَعَ اللهُ بَطنَهُ"؟
• قلتُ: نعم!
فقد أَخرج مُسلِمٌ (16/ 155 - 156 - شرح النَّوَويِّ)، وأحمدُ (1/ 240، 291، 335، 338)، والطَّيالسيُّ (2746)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 299) من طريق أبي حَمزَة القصَّابِ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: كُنتُ ألعَبُ مع الصِّبيان، فجاء رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتوَارَيتُ خلف بابٍ، - قال: - فجاءَ فحَطَأَنِي حَطْأَةً، وقالَ:"اذهب! وادعُ لي مُعاويةَ"، - قال: - فجِئتُ، فقُلتُ:"هُو يأكل"، - قال: - ثُمَّ قال لي: "اذهب! فادعُ لي مُعاوية"، - قال: - فجِئتُ، فقُلتُ:"هُو يأكل"، فقال:"لا أَشبَعَ اللهُ بطنَه".
قال الحافظ الذَّهبيُّ في "تَذكِرة الحُفَّاظ"(2/ 699): "لعلَّ هذِهِ مَنقبَةٌ لمُعاوية".
• قلتُ: ووَجهُ الاستدلالُ بهذا الحديثِ على فَضل مُعاوِية رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأُمِّ سُليمٍ: "أَوَمَا عَلِمتِ ما شارَطتُ عَلَيه رَبِّي؟ قُلتُ: اللَّهُمَّ! إِنَّما أنا بشَرٌ، فأيُّ المُسلمين لعنتُهُ، أو سَبَبتُه، فاجعله لَهُ زكاةً وأجرًا"، وهذا ما فَهِمه أئمَّةُ السَّلَف، كمُسلمٍ، والذَّهبيِّ وغيرِهما.
67 -
سُئلتُ عن حديث: "سَتُفتَحُ عَلَيكُمُ الآفَاقُ، وَسَتُفتَحُ عَلَيكُم مَدِينَةٌ، يُقَالُ لَهَا: قَزْوِينُ، مَن رَابَطَ فِيهَا أَربَعِينَ يَومًا، أَو أَربَعِينَ لَيلَةً، كَانَ لَهُ فِي الجَنَّةِ عَمُودٌ مِن ذَهَبٍ، عَلَيهِ زَبَرْجَدَةٌ خَضرَاءُ، عَلَيهَا قُبَّةٌ مِن يَاقُوتَةٍ حَمرَاءَ، لَهَا سَبعُونَ أَلفِ مِصرَاعٍ مِن ذَهَبٍ، عَلَى كُلِّ مِصَرَاعٍ زَوجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ، وبُطلانُه ظاهرٌ.
فأخرجَهُ ابنُ ماجَهْ (2780)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(2/ 55) من طريق داوُد بن المُحَبَّرِ، أنبأنا الرَّبيعُ بنُ صُبَيحٍ، عن يزيد بن أبان، عن أنسٍ مرفُوعًا.
وهذا سَنَدٌ ساقِطٌ البتَّة؛ وداوُد بن المُحَبَّرِ كذَّابٌ.
والرَّبيعُ بن صُبَيحٍ مَشَّى أحمدُ أمرَه، وضعَّفه ابنُ مَعِينٍ، والنَّسائيُّ، وابن حِبَّانَ.
ويزيدُ بنُ أبان تَرَكَهُ النَّسائيُّ، وغيرُه، وقال شُعبة:"لأَن أزني، أَحَبُّ إليَّ من أن أُحَدِّث عن يزيدَ الرَّقَاشِيِّ"، وقال أحمَدُ:"مُنكَرُ الحديث".
وقال ابنُ الجَوزيِّ: "والعَجَبُ من ابن ماجَة، مع عِلمه، كيف استحلَّ أن يذكُر هذا في كتاب "السُّنَن"، ولا يَتكلَّم عليه؟!
أتُراه ما سَمِع في "الصَّحيحين"، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"مَن روَى عنِّي حديثًا يَرَى أَنَّهُ كذبٌ، فهُو أَحَدُ الكذَّابين"؟ أَمَا عَلِم أن العوامَّ يقُولُون: "لولا أن هذا صحيحٌ ما ذَكَرَهُ مِثلُ هذا العالم"، فيعمَلُونَ بمُقتَضَاه
…
ولكن، غَلَبَ الهوَى بالعصبيَّةِ للبلَد والوَطَن" ا. هـ.
• قُلتُ: بل نُبرِّئُ ابنَ ماجَهْ، إِن شاءَ اللهُ، أَن يسكُتَ عن الكَذِب، وتغلبَهُ العصبيَّةُ لبلده قزوينَ. ولعلَّه رأَى أنَّهُ من الضَّعيف لا الموضُوعِ، وإِن كان قَد تساهَل على أيِّ حالٍ، في إيراد مِثل هذا، كما قالَ الذَّهبيُّ في "الميزان" (2/ 20):"فلقد شَانَ ابنُ ماجَهْ سُنَنَه بإدخالِ هذا الحديث الموضوع فيها".
وقال الحافظ في "التَّهذيب"(3/ 200): "حديثٌ مُنكَرٌ".
لكن يَبقَى على كلام ابن الجَوزيِّ مُؤاخَذَتان ..
الأولى: قولُه: "أتُراه ما سمع في الصَّحيحين". فهذا الحديثُ ما رَوَاهُ البُخاريُّ قطُّ، وأخرجه مُسلِمٌ في "مُقدِّمة صحيحه"، فلا يَكُون على شرطِهِ. فلا ينبغي أن يُعزَى للصَّحيحين، إلَّا لمُسلِمٍ مُقيَّدًا.
الثَّانية: قولُه: "أَمَا علم أن العوام
…
الخ". فنَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ يا إمامُ! فأغلَبُ كُتُبك، لا سيَّما ما كان منها في الوعظ، تعُجُّ بالأحاديث الضَّعيفةِ والموضُوعة! وكَم تكبَّدنا مِنَ الجَهد، ما لا يَعلَمُه إلَّا الله، مع بعض الخُطَباء، في إقناعِهِم أن هذا الحديث باطلٌ، فيقولُ: "ذَكَرَهُ ابنُ الجوزيِّ في "تلبيس إبليس"، وهُو من عُلماء الحَديثِ"!
فلله الأمرُ مِن قَبلُ ومِن بَعدُ.
68 -
سُئلتُ عن أحاديث: مسحِ الوجهِ باليدِ بعد الدُّعاء، وذَكَر السَّائلُ أن جِدالًا حادًّا وقع بين طائفتين من الشَّبابِ، فمِن قائلٍ:"إنَّهُ جائزٌ"، ومِن قائلٍ:"إنه بِدعةٌ"، واحتجَّ القائِلُون بالبِدعيَّةِ بقولِ سُلطان العُلَماءِ العزِّ بن عبد السَّلَام:"إنَّهُ لا يفعلُهُ إلَّا الجُهَّالُ"، فنَرجُو تحقيقَ المقام، واستِيفاءَ الكلامِ لشفاء الصُّدور.
• قلتُ: استيفاءُ الكلام لتحقيق المَقام يَحتَاج إلى بَسطِ حُجج الفريقين، ثُمَّ المحاكمةِ بينهما على وجه الإنصاف، والموضعُ هاهنا لا يَسمَحُ بذلك، ولكنَّنِي سأُجمِلُ البحثَ، من غير إخلالٍ بالمقصود، إن شاء اللهُ تعالَى.
• أمَّا الأحاديثُ ..
فقد وَرَد مسحُ الوجه بعد الدُّعاء، من حديث ابن عبَّاسٍ، وعُمَرَ بن الخطَّاب، والسَّائبِ بن خَلَّادٍ، ويزيدَ بن سعيدٍ الكِنديِّ رضي الله عنهم.
1 -
أمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ ..
فأخرجَهُ ابن ماجَه (1181 - 3866)، وعَبدُ بن حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(716)، وابنُ نصرٍ في "قيام اللَّيل"(141)، وابنُ حِبَّانَ في "المجروحين"(1/ 268)، والحاكِمُ (1/ 536)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(5/ 204)، وابنُ الجَوزيِّ في "الواهيات"(2/ 840) من طريق
صالح بن حَسَّان، عن مُحمَّد بن كعبٍ القُرَظيِّ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"إذا دَعَوتَ الله، فادعُ بباطن كفَّيك، ولا تَدعُ بظهُورِهما، فإذا فَرَغت، فامسح بهما وجهَك".
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وصالِحُ بن حَسَّان، قال البُخاريُّ:"مُنكَر الحديث"، ولخَّص الحافِظُ حالَهُ، فقال في "التَّقريب":"مَترُوكٌ"، لذلك، سُئل أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ عن هذا الحديث، فقال - كما في "عِلل الحديث" (2/ 351) -:"هذا حديثٌ مُنكَرٌ".
ولم يتَفرَّد به صالحٌ ..
فتابَعَهُ رجلٌ مجهولٌ، عن مُحمَّدِ بن كعبٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا، وساق حديثًا فيه: "
…
سَلُوا الله ببُطون أَكُفِّكُم، ولا تسأَلُوه بظهورِها، فإِذَا فرَغتُم، فامسحوا بها وجُوهَكم".
أخرجه أبُو داوُد (1485)، والبَيهقيُّ في "الكُبرَى"(2/ 212)، وفي "الدَّعَوات الكبير"(ق 39/ 1) مِن طريق عبد المَلِك بن مُحمَّد بن أَيمَن، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، عمَّن حدَّثه، عن مُحمَّد بن كعبٍ.
قال أبُو داوُد: "رُوِيَ هذا الحديثُ مِن غيرِ وَجهٍ، عن مُحمَّد بن كعبٍ، كُلُّها واهيةٌ، وهذا الطَّريق أَمثَلُها، وهُو ضعيفٌ أيضًا".
• قلتُ: ولَهُ عِلَّتان:
الأُولَى: ضَعفُ عبد الملك بن مُحمَّدٍ.
والثَّانية: جَهالَةُ الرَّاوِي عن كعبٍ.
وتابَع هذا المجهولَ: عِيسَى بنُ ميمونَ، عن مُحمَّد بن كعبٍ به.
أخرجَهُ ابنُ نَصرٍ في "قيام اللَّيل"(ص 141)، وقال:"عيسى بن ميمون ليس هو مِمَّن يُحتَجُّ بحديثه".
2 -
أمَّا حديثُ عُمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه ..
فأخرجَهُ التِّرمذيُّ (3386)، وعَبدُ بن حُميدٍ في "المُنتَخَب"(39)، والبَزَّارُ (129)، وأبُو الفضل الجوهريُّ في "حديثه"(ج 5/ ق 97/ 1)، والطَّبرانيُّ في "الأوسط"(ج 2/ ق 142/ 1)، وفي "الدُّعَاء"(212)، والحاكِمُ (1/ 536)، والنَّقَّاشُ في "فوائد العِرَاقِيِّين"(27)، والسِّلَفِيُّ في "مُعجَم السَّفَرِ"(680)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(1406)، وابنُ عساكر في "تاريخ دِمَشق"(22/ 35) مِن طريق حمَّاد بن عيسَى، ثنا حَنظَلَةُ بنُ أبي سفيان، عن سالِمٍ، عن أبيه، عن عُمَر بن الخطَّاب، قال:"كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا مدَّ يديه في الدُّعاءِ، لا يَرُدُّهما حتَّى يَمسَح بهما وَجهه".
ورواه عن حمَّاد بن عيسى هكذا: عَبدُ بنُ حُميدٍ، ومُحمَّدُ بنُ المُثنَّى، وإبراهيمُ بنُ يعقوبَ الدَّورَقِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ بكَّارٍ العيشِيُّ، ونصرُ بنُ عليٍّ، ومُحمَّدُ بنُ مُوسى الحَرَشِيُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحُلوانِيُّ، وإسماعيلُ بنُ
مُحمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، في آخَرين.
وخالَفَهم مُعَلَّى بنُ مهديٍّ المَوصِليُّ، قال: نا حمَّادُ بنُ عيسى الجُهَنِيُّ،
ثنا حَنظَلَةُ بنُ أبي سُفيان، عن سالم بن عبدِ الله بن عُمَر، عن أبيه رضي الله عنه،
قال: "ما مَدَّ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يده في دُعاءٍ قطُّ فقبَضَهُما حتَّى يمسح بهما
وجهَه".
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الدُّعاء"(213) قال: حدَّثَنا عليُّ بن عبد العَزِيز،
قال: ثنا مُعَلَّى بنُ مَهدِيٍّ بهذا.
وقال: لم يُجاوِز به المُعلَّى: ابنَ عُمَر.
• قلتُ: ووَهِمَ فيه. ومُعَلَّى صاحبُ مَناكير.
قال البَزَّار. "وهذا الحديثُ إنَّما رواه عن حنظَلَةَ: حمَّادُ بن عيسى،
وهو ليِّنُ الحديث. وإنَّمَا ضُعِّف حديثُه بهذا الحديث، ولم نَجِد بُدًّا من
إخراجِه، إذ كان لا يُروَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا من هذا الوجه، أو مِن وجهٍ
دُونَه".
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ غريبٌ، لا نَعرِفُه إلَّا مِن حديث حمَّادِ بن عيسَى، وهو قليلُ الحديثِ، وقد حدَّث عنه النَّاسُ".
وقال الطَّبرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ، عن عُمَرَ إلَّا بهذا الإِسنادِ، تفرَّد به حمَّادُ بنُ عِيسَى".
• قلتُ: وهُو ضعيفٌ، ضعَّفَهُ أحمدُ، وأبو حاتمٍ، والدَّارقُطنيُّ، وغيرُهم، وقال ابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ:"يَروِي أحاديثَ موضُوعةً، عن ابن جُريجٍ، وغيرِه"، ولذلك قالَ الذَّهبيُّ في "سِيَر النُّبلاء" (16/ 67):"أَخرَجَهُ الحاكِمُ في "مُستدرَكه"، فلم يُصِب؛ وحمَّادٌ ضعيفٌ"، وقال العِراقيُّ في "المغني" (1/ 305):"سكَتَ عليه الحاكِمُ، وهو ضعيفٌ".
3 -
أمَّا حديث السَّائب بن خلَّادٍ ..
فأخرجَهُ الطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 7/ رقم 6625) مِن طريق عمرِو
ابن خالدٍ الحرَّانيِّ، ثنا ابنُ لَهِيعَة، قال: سمِعتُ حفصَ بنَ هاشمِ بن عُتبةَ بن أبي وقَّاصٍ يَذكُر، أن خلَّادَ بنَ السَّائبِ حدَّثه، عن أبِيهِ، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذَا دَعَا رفع راحتَيهِ إلَى وجهه.
قال الهَيثمِيُّ في "المَجمَع"(10/ 169): "فيه حَفصُ بن هاشم بن عُتبةَ، وهُو مجهولٌ".
واضطرب ابنُ لَهِيعة في سَنَده ومتنه ..
فرواه يحيَى بنُ إسحاق، عنه، عن حَبَّانَ بن واسعٍ، عن خلَّاد بن السَّائب الأنصاريِّ، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا دَعَا جَعَل باطِنَ كفَّيه إلى وجهِهِ.
أخرجَهُ أحمدُ (4/ 56). فلَم يَذكُر "السَّائبَ بنَ خلَّادٍ" في إسناده.
وأخرَجَهُ ابنُ أبي عاصِمٍ في "الآحاد والمَثَانِي"(2590)، عن ابن أبي مَريَمَ.
ورواه أحمدُ أيضًا، عن يحيى بن إسحاقَ، بسياقٍ آخرَ.
ورَوَاهُ سعيدُ بنُ الحَكَم بن أبي مَريَمَ، قال: نا ابنُ لَهِيعَةَ، عن حَبَّانَ بن واسِعٍ، عن حفصِ بن هَاشِمِ بن عُتبَةَ، أن خلَّادَ بنَ السَّائِبِ حدَّثَهُ، عن أبيه، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا جَعَلَ راحتيه إلى وَجهِه.
فجَعَلَهُ من مُسنَد السَّائِب.
أخرَجَهُ ابنُ أبي عاصِمٍ في "الآحاد والمثاني"(2590) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عَوفٍ، نا ابنُ أبي مَريَمَ، بهذَا.
ورواهُ قُتيبةُ بنُ سعيدٍ، قال: ثنا ابنُ لَهِيعة، عن حفص بن هاشمِ بن عُتبة بن أبِي وقَّاصٍ، عن السَّائبِ بن يزيدَ، عن أبيه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان
إذا دَعَا فرَفَعَ يديه، مَسَحَ وجهه بيديه.
أخرجَهُ أحمدُ (4/ 221)، وأبُو داوُد (1492)، ومِن طرِيقِهِ البَيهَقِيُّ في "الدَّعَوَات"(184)، والفِريابيُّ في "كتاب الذِّكر" - كما في "النُّكَت الظِّرَاف"(9/ 106 - 107) للحافِظِ -، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 631)، وأبو نُعيمٍ في "مَعرِفة الصَّحابَة"(6614) من طريق قُتَيبة.
فصار الحديثُ مِن: "مُسنَد يزيدَ بن سعيدٍ الكِنديِّ".
قال عبدُ الله بنُ أحمدَ عَقِبَ الحديثِ: "وقد خَالَفُوا قُتيبَةَ في إسنادِ هذا الحديثِ، وأحسِبُ قُتَيبة وَهِم فيه؛ يقولُونَ: خلَّاد بن السَّائِب، عن أبيه".
وقال الحافظُ في تَرجَمَةِ حفص بن هَاشِمٍ من "التَّهذِيب": "أَظُنُّ الغَلَطَ فيه من ابن لَهِيعَةَ؛ لأنَّ يَحيَى بنَ إِسحاقَ السَّيْلَحِينِيَّ من قُدَمَاء أَصحَابِهِ، وقد حَفِظَ عنه حَبَّانُ بنُ وَاسِعٍ. وأمَّا حَفصُ بنُ هاشِمٍ فليس له ذِكرٌ في شيءٍ مِن كُتُب التَّواريخ، ولا ذَكَرَ أحدٌ أن لابنِ عُتبَةَ ابنًا يُسَمَّى حفصًا" انتهَى.
والحديثُ مُضطربٌ، وضعيفٌ مِن كُلِّ وجُوهِهِ.
وقال الحافِظُ فِي "أمالي الأذكار": "فيه ابن لَهِيعة، وشيخُهُ مجهولٌ".
فالصواب، أنَّهُ لا يَصِحُّ حديث إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البَابِ.
وتَسَامَحَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، فقال في "بُلوغ المرام" (ص 284):
"مَجمُوع هذه الأحاديث يَقضِي بأنَّهُ حديثٌ حَسَنٌ".
• أمَّا مذاهِبُ العُلماء في ذلك ..
فقال ابنُ نَصرٍ في "قيام اللَّيل": "ورَأَيتُ إسحاقَ يَستَحسِنُ العَمَل
بهذه الأحاديث. وأمَّا أحمدُ بن حَنبَلٍ، فحدَّثَني أبُو داوُد، قال:"سمعتُ أحمدَ، وسُئل عن الرَّجلِ يَمسَحُ وجهه بيديه إذا فرغ في الوتر؟ فقال: "لم أسمع فيه شيئًا"، ورأيتُ أحمدَ لا يفعلُهُ. وسُئل مالكٌ عن الرَّجُلِ يَمسَحُ بكفيَّه وجهَهُ عند الدُّعاء؟ فأنكَرَ ذلكَ، وقال: "ما عَلِمتُ". وسُئل "عبدُ الله - يعني: ابنَ المُبارَك - عن الرَّجل يَبسُط يديه، فيَدعُو، ثُمَّ يَمسَحُ بهما وجهَه؟ فقال:"كَرِهَ ذلك سُفيانُ" - يعنِي: الثَّوريَّ - " ا. هـ.
وكذلك، أنكَرهُ البيهقيُّ في "رِسالته إلى أبي مُحمَّدٍ الجُوينيِّ"(2/ 286 - مجموعة الرسَّائل المُنيريَّةِ)، ولم يُثبِت حديثًا واحدًا فيها.
• قُلتُ: وأقوى ما رأيتُهُ في هذا الباب، ما أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الأدب المُفرَد"(906)، من طريق مُحمَّدِ بن فُليحٍ، قال: أخبَرَني أبي، عن أبي نُعيمٍ - وهو وهبٌ -، قال: رأيتُ ابنَ عُمَر، وابنَ الزُّبير يدعُوَان، يُدِيرَانِ بالرَّاحتين على الوجه.
وحسَّن إسنادَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "أمالي الأذكار".
وسَنَدُه مُحَتَمِلٌ للتَّحسين، وإلى الضَّعف ما هو.
ومُحمَّدُ بنُ فُليحٍ، وأبُوه فيهِمَا مقالٌ معرُوفٌ.
فالصَّوابُ في هذا الباب: ما ذَهَب إليه الثَّوريُّ، وابنُ المُبارَك، ومالِكٌ، وأحمدُ بنُ حَنبلٍ: مِن كراهِيَةِ ذلك.
واللهُ أعلَمُ.
69 -
سُئلتُ عن حديث: "كما تكونوا يُوَلَّى عَليكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ ابنُ جُمَيعٍ في "مُعجَمه"(ص 149/ 104)، والقُضاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(577) من طريق الكَرْمَانِيِّ بن عَمْرٍو، ثنا المُبارَك بن فَضالةَ، عن الحَسَن البصريِّ، عن أبي بَكْرة مرفُوعًا فذَكَرَه.
قال ابنُ طاهرٍ في "كلامه على أحاديث الشِّهاب" - كما في "تخريج أحاديث الكشَّاف"(189)، للزَّيلَعِيِّ -:"هذا حديثٌ رواه أحمدُ بنُ إبراهيمِ بن عُثمان بن المُثَنَّى، عن الكَرْمَانِيِّ بن عَمْرٍو، عن المُبارَك بن فَضالةَ. والمُبارَكُ بنُ فَضالة، وإن ذُكِر بشئٍ من الضَّعف، فإنَّ العُهدة على من رواه عنهُم؛ فإنَّ فيهم جهالةً".
وقال الحافظ في "الكافي الشَّافِ"(1/ 351): "في إسناده إلى مُبارَك مجاهيلُ" ا. هـ.
والحَسَنُ البصريُّ لم يُصرِّح بالتَّحديث من أبي بَكْرة.
ولكن له وجهٌ آخرُ ..
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 7391) من طريق يحيى بن هاشمٍ، نا يُونُسُ بنُ أبي إسحاق، عن أبيه، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "كما تَكُونُوا يُؤَمَّرُ عليكم".
قال البَيهَقِيُّ: "هذا مُنقطِعٌ، ورَاوِيه يحيى بنُ هاشمٍ ضعيفٌ".
• قلتُ: وسَنَدُه في غاية الوهاء؛ فمع كونه مُعضَلًا، فإنَّ يحيى بن هاشمٍ السِّمسارَ ليس ضعيفًا فحسبُ، فقد كذَّبه ابن مَعِينٍ، وقال ابن عَدِيٍّ:"كان ببغداد، يَضَعُ الحديث، ويسرِقُه"، وكذَّبه كذلك صالحٌ جَزَرةُ، وتَرَكَه النَّسَائِيُّ، وقال ابنُ حِبَّان:"كان ممَّن يَضَعُ الحديثَ على الثِّقات، ويَروِي عن الأثبات الأشياء المُعضَلات، لا يحلُّ كتابة حديثه، إلَّا على جِهة التعجُّب لأهل الصِّناعة، ولا الرِّوايةُ بحالٍ".
وقد اختُلِف في إسناده ..
فرواه الدَّيْلَمِيُّ من طريق يحيى بن هاشمٍ هذا، عن يُونُسَ بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جَدِّه، عن أبي بَكْرة مرفُوعًا.
وهذا لا يصحُّ أيضًا؛ لأنَّ مدارَه على يحيى بن هاشمٍ.
واللهُ أعلَمُ.
70 -
سُئلتُ عن حديث: "كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقبَل الهديَّةَ، ويُكافِئُ عليها".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ البُخاريُّ (5/ 210)، وأبو داوُد (3536)، والتِّرمِذِيُّ في "سُنَنه"(1953)، وفي "الشَّمائل"(350)، وأحمدُ (6/ 90)، وابنُ أبي الدُّنيا في "مكارم الأخلاق"(ص 87)، وعَبدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب من المُسنَد"(1503)، وأبو الطَّاهر المُخلِّصُ في "الفوائد"(ج 9/ ق 208/ 1)، وأبو بكرٍ الشَّافِعِيُّ في "الغَيلَانِيَّات"(ج 4/ ق 101/ 2)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(ج 2/ ق 208/ 1)، وأبو الشَّيخ في "الأخلاق"(252)، وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(2/ 12 - 13)، والبَيهَقِيُّ (6/ 180)، والخطيبُ في "التَّاريخ"(4/ 223)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(2447)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(6/ 105) من طرقٍ عن عِيسَى بن يُونُس، عن هشام بن عُروَة، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقبَلُ الهديَّة، ويُثِيبُ عليها.
قال البُخاريُّ عَقِبَه: "لم يَذكُر وكيعٌ ومُحاضِرٌ: عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة"، ويَقصِدُ البُخاريُّ أن عيسى بنَ يُونُس خُولِف في وصلِه، فرواه وكيعٌ، ومُحاضِر بن المُورِّع مُرسَلًا.
وكذلك قال غيرُ واحدٍ من العُلماء ..
فقال ابنُ مَعِينٍ - كما في "تاريخ الدُّورِيِّ"(4/ 28) -: "النَّاس يُحَدِّثُون به مُرسلًا".
وقال أبو داوُد: "تَفرَّد بوصله عيسى بنُ يُونُس، وهو عند النَّاس مُرسَلٌ"، وكذلك قال البزَّار.
وصرَّح الطَّبَرانيُّ أن عيسى بنَ يُونُس تفرَّد بوصلِه.
ولم يُجِب الحافظُ في "الفتح" عن هذا الإعلال بشئٍ في موضع الحديث.
والجواب عنه: أن عيسى بنَ يُونُس ثقةٌ حُجَّةٌ، لم يَختلِف أحدٌ فيه، وقد صحَّحَه التِّرمِذِيُّ أيضًا.
وفي هذا الحديث دليلٌ على وهاء ما تمسَّك به بعضُ الطَّلَبة، أنَّه كُلَّما خالف الجماعةَ الواحدُ رجَّحُوا روايةَ الجماعةِ، وهذا ليس بلازمٍ؛ فإنَّ الأمر يدُورُ مع القرائن، وإن كان أكثرُ تَصَرُّف العُلماء على ترجيح رواية الجماعة، ولكنَّهُم قد يُرَجِّحُون روايةَ الواحد على الجماعةِ، كما فَعَل البُخاريُّ هنا ..
وكما فعل التِّرمِذِيُّ في حديثِ "المُسيء صلاتَه"، فقد رواه يحيى بنُ سعيدٍ القَطَّان، عن عُبيد الله بن عُمَر، قال حدَّثَني سعيدُ بنُ أبي سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة.
وخالَفَهُ أنَسُ بنُ عِياضٍ، وعبدُ الله بن نُميرٍ، وأبو أُسامة حمَّادُ بنُ أُسامة، وعيسى بنُ يُونُس، وعبدُ الرَّحيم بنُ سُليمان، وعُقبةُ بنُ خالدٍ، فرَوَوْه جميعًا عن عُبيد الله بن عُمَر، عن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن أبي هُريرَة،
ولم يَذكُرُوا والد سعيدٍ المَقبُرِيِّ.
وأخرج الشَّيخَان الوجهين جميعًا.
فقال التِّرمذِيُّ: "رواية يحيى بن سعيدٍ، عن عُبيد الله بن عُمَر أصحُّ"، وقد رأيتَ من خالَفَه.
وبالجُملة، فالحديث الشَّاذُّ ليس له حدٌّ قاطعٌ لا يُتجاوَزُ، وإن كان هئاك قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ يرجَع إليها، فقد تَتَخلَّفُ والعُمدَة في ذلك على كثرة النَّظَر، ومُلاحَظةِ تصرُّفِ العُلماء الحُذَّاقِ، مع إِدمان الطَّلَب، وَجَودَة القَرِيحة.
والكلامُ في الشُّدوذِ أشدُّ من المشي على حدِّ المُوسَى، فلا يَنقَضِي عَجَبِي، والأمرُ كذلك، كيف كثُر "الغِلمانُ المُحَقِّقُون"، الذين أَعَلُّوا جُملةً وافرةً من أحاديث "الصَّحيحين" بالشُّذوذ، فضلًا عن غيرِهما، ويَا لَيتَهُم إِذ أَعَلُّوا سُبِقوا، ولِكنَّهم ما سُبِقوا إلى ذلك من الحُفَّاظ والنُّقَّاد، وليت لَهُم من التَّحصيل، وطُول العُمر، وشهادة العُلماء لهم بالأهليَّة، ما يُعِينُهم على ذلك، فالُحكمُ لله العليِّ الكبير.
71 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن لم يَرْعَوِ عِند الشَّيْب، ولم يَستَحِ من العَيْب، ولم يَخشَ الله بالغَيْب، فليس لله فيه حاجةٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ ابنُ جُميعٍ في "مُعجَمه"(ص 375)، ومن طريقه الذَّهَبِيُّ في "الميزان"(4/ 462)، قال: حدَّثَنا يُوسُفُ بنُ إسحاق بحَلَب، ثنا مُحمَّدُ بنُ حمَّادٍ الطِّهْرَانِيُّ، ثنا عبدُ الرَّزَّاق، أنبأنا مَعمَرٌ، عن ابن طاوُوسٍ، عن أبيه، عن جابرٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
قال الذَّهَبِيُّ في ترجمة يُوسُفَ هذا: "عن مُحمَّد بن حمَّادٍ الطِّهرَانِيِّ بخَبَرٍ باطلٍ
…
- ثُمَّ رواه، وقال: - الآفةُ من يُوسُف، فإنَّ الباقين ثقاتٌ".
72 -
سُئلتُ عن حديث: "لا يَبِيتَنَّ رَجلٌ عند امرأةٍ ثَيِّبٍ، إلَّا أن يكون ناكِحًا، أو ذا مَحرَمٍ".
وقال السَّائل: هل يُفهَم منه أنَّه يجوز المبيتُ عند البِكر، لأنَّه قيَّد النَّهي بثُيُوبَة المرأة؟
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (2171/ 19)، والبَيهَقِيُّ (7/ 98)، وأبو الحُسين الدَّقَّاقُ في "الفوائد المُنتَقَاة"(ق 140/ 1)، والطُّيُورِيُّ في "الطُّيُورِيَّات"(ق 181/ 1)، والخطيبُ في "تاريخه"(8/ 109)، وابنُ جُميعٍ في "مُعجَمه" (ص 295، من طُرُقٍ عن هُشيمٍ، ثنا أبو الزُّبير، عن جابرٍ مرفُوعًا، فذَكَرَه بلفظ:"امرأةٍ ثيِّبٍ".
وأخرَجَهُ أبو يَعلَى (1848)، وعنه ابنُ حِبَّان (5587)، والبَيهَقِيُّ (7/ 98) قال: حدَّثَنا أبو خَيثَمَة زُهيرُ بنُ حربٍ، - زاد البَيهَقِيُّ: وعمرٌو النَّاقدُ، قالا: -، ثنا هُشيمٌ به، بلفظ:"امرأةٍ في بيتٍ".
ولم يقع عند البَيهَقِيِّ: "في بيتٍ".
وأخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "عِشرة النِّساء"(5/ 386 - الكُبرى)، ومن طريقه ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(1/ 227)، وابنُ أبي شيبة (4/ 409)، عن هُشيمٍ، بلفظ:"امرأةٍ"، هكذا بلا قيدٍ.
قال العُلماء: إنما خَصَّ الثَّيِّبَ، لكونها التي يُدخَل إليها غالبًا، وأمَّا البِكر فمصُونَةٌ، مُتَصَوِّنَةٌ في العادة، مُجانِبةٌ للرِّجال أشدَّ المُجانَبة، فلم يَحتَج إلى ذِكرِها، ولأنَّه من باب التَّنبيه، لأنَّه إذا نَهَى عن الثَّيِّب، التي يَتَساهل النَّاسُ في الدُّخول عليها في العادة، فالبِكر أولَى. فالكلامُ إذن خَرَجَ مَخرَج الغالب، فلا يكون له مفهومٌ، وهذا كقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فلا يُقال:"يحلُّ أكلُه ضِعفًا واحدًا".
ومثلِ قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، فلا يُقال:"إذا لم يُرِدن تحصُّنًا يَجُوزُ إكراهُهُنَّ على البِغاء". وكقولِه تعالى في آية المُحرَّمات من النِّساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فقولُه تعالى:{فِي حُجُورِكُمْ} قيدٌ خرج مَخرَج الغالِب؛ وذلك أن المرأة المُطلَّقة، أو التي مات زوجُها، عادةً ما تأخذُ ابنتها مِن زوجها إلى بيت زوجها الثَّاني، فتكونُ في حِجرِ الزَّوج، فلا يُقال:"إذا لم تَكُن في حِجرِه يجوز له أن يتزوَّجَها"؛ لأنَّها مُحرَّمةٌ عليه، سواءٌ كانت في حِجرِه أو لا، وهذا ما ذَهَب إليه سائرُ أهل العِلم، إلَّا طائفةً قليلةً مِنهُم. وكقولِه صلى الله عليه وسلم:"لا تصومُ المرأةُ وزوجُها شاهدٌ، إلَّا بإذنه"، فقوله:"شاهدٌ" قيدٌ خرج مَخرَج الغالِب؛ لأنَّه قد يَحتاجُ إلى ما يَحتاجُهُ الرَّجلُ، أمَّا في حال سَفَرِه، فتنتفَي حاجَتُه، فلا يُقال:"يجوز لها أن تصوم وهو مسافرٌ، رغم أنفه"؛ فلو أنَّه أَمَرَها أن تُفطِر حال سَفَرِه، لوَجَب عليها الفِطرُ، ولكنَّ الكلام خرج مَخرَج الغالب. والأمثلةُ على ذلك تطولُ.
والحمدُ لله على التَّوفيق.
73 -
سُئلتُ عن حديث: "إنَّ الإيمان سِربَالٌ، يُسَربِلُه اللهُ من يشاءُ، فإذا زَنَى العبدُ نُزِع منه سِربَالُ الإيمان، فإن تاب رُدَّ عليه".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ ابنُ نَصرٍ في "كتاب الصَّلاة"(538)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 10/ رقم 4981) من طريق عَمْرو بن عبد الغَفَّار، ثنا العَوَّامُ بنُ حَوْشبٍ، حدَّثَني عليُّ بنُ مُدرِكٍ، عن أبي زُرعة، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا فذَكَرَه.
وسَنَده ضعيفٌ جدًّا؛ وعَمْرُو بنُ عبد الغَفَّار تَرَكَه أبو حاتمٍ، وقال ابنُ عَدِيٍّ:"اتُّهِم بوضع الحديث"، وقال العُقيليُّ وغيرُه:"مُنكَر الحديث".
ويُغنِي عنه:
ما أخرَجَهُ أبو داوُد (4690)، وابنُ نَصرٍ (536)، وابنُ مَندَهْ في "الإيمان"(519) من طريق سعيد بن أبي مَريَم، أنا نافعُ بنُ يزيد، قال: حدَّثَني ابنُ الهَادِ، أن سعيدَ بنَ أبي سعيدٍ المَقبُرِيَّ حدَّثَه، أنَّه سَمِع أبا هُريرَة مرفُوعًا:"إذا زنى الرَّجلُ خرج منه الإيمانُ، وكان عليه كالظُّلَّة، فإذا انقَلَع رجع إليه الإيمانُ".
وسَنَده صحيحٌ.
وأخرَجَ ابنُ نَصرٍ (539)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(4982) من طريق ابن أبي مريم، نا يحيى بنُ أيُّوب، قال: حدَّثَني ابنُ عَجلان، أن القعقاعَ أخبَرَه، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة، وسُئل عن قوله:"لا يزني الزَّاني وهو مؤمنٌ": فأين يكون الإيمانُ منه؟ قال أبو هُريرَة: "سيكون عليه هكذا - وقال بكفِّه -، فإن نَزَع وتاب رَجَع إليه الإيمانُ".
وهو موقوفٌ جيِّدُ الإسناد.
واللهُ أعلَمُ.
74 -
سُئلتُ عن حديثٍ - عزاه السَّائلُ للحاكم في "المُستدرَك" -: "اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ: أَن يُطَاعَ، فَلَا يُعصَى، وَيُشكَرَ، فَلَا يُكَفَرُ، وَيُذكَرَ، فَلَا يُنسَى".
• قلتُ: لعلَّ القارئَ نقل هذا العَزوَ إلى الحاكم مِن "تفسير ابن كثيرٍ"، فإنَّه قال (2/ 72):"وكذا رواه الحاكِمُ في "مُستدرَكه"، من حديث مِسعرٍ، عن زُبَيدٍ، عن مُرَّة، عن ابن مَسعُودٍ مرفُوعًا فذكره".
ولم أر أحدًا نَسبَه إلى الحاكم مرفُوعًا، بل ذكَرَه الزَّيْلعيُّ في "تخريج أحاديث الكَشَّاف"(ق 38/ 1)، والسِّيوطيُّ في "الدُّرِّ المنثور"(2/ 59)، ونسبَاهُ إلى الحاكم موقُوفًا. وقد أخرجه الحاكم كذلك (2/ 294).
وقد ذَكَر ابنُ كثيرٍ أن ابنَ مَردَوَيْهِ رواه مِن طريق يُونسَ بن عبد الأعلى، عن ابن وهبٍ، عن الثَّوريِّ، عن زُبَيدٍ اليَامِيِّ، عن مُرَّة بن شُرَاحِيلَ، عن ابن مَسعُودٍ مرفُوعًا.
• قلتُ: وتُوبِع الثَّوريُّ على رفعه ..
تابعه مُحمَّدُ بنُ طلحة، فرواه عن زُبَيدٍ، عن مُرَّة، عن ابن مسعُودٍ مرفُوعًا.
أخرجه أبُو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 238 - 239).
والصَّواب في هذا الحديث الوَقفُ، ولا يَصحُّ مرفُوعًا.
وبيانُه: أن روايةَ ابن مَردَوَيْه التي رواها عن ابن وهبٍ، عن الثَّوريِّ، فلا أَعلَمُ سَنَدَ ابن مَردَوَيْه إلى يونُسَ بن عبد الأعلى. ولعلَّ فيها علةً.
وإِنْ سلَّمنا أن السَّنَد إلى يونُسَ صحيحٌ، فقد خُولِف ابنُ وهبٍ في سَنَده ..
خالفه عبدُ الرَّحمن بنُ مَهديٍّ، ومُحمَّدُ بنُ يُوسُف الفِريابيُّ، وعبد الرَّزَّاق، فرَوَوْه عن الثَّوريِّ، عن زُبَيدٍ، عن ابن مَسعُودٍ قولَه.
أخرجَهُ عبُد الرَّزَّاق في "تفسيره"(1/ 129)، ومِن طريقه ابنُ جَريرٍ (7536)، وابنُ أبي حاتمٍ (1079) في "تفسيرَيهما"، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 9/ رقم 8502).
وتُوبِع الثَّوريُّ على وقفه ..
تابعه: شُعبَةُ، ومِسعرُ بنُ كِدَامٍ، وجَريرُ بنُ حازمٍ، وليثُ بنُ أبي سُليمٍ، والمَسعُوديُّ، كلُّهم يرويه عن زُبَيدٍ الياميِّ، عن مُرَّة، عن ابن مَسعُودٍ قولَه.
أخرجه ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(22)، وابنُ أبي حاتمٍ (1079)، وابنُ جَرير (7537، 7538، 7539، 7540، 7541، 7542)، والحاكمُ (2/ 294)، وأبُو جعفرٍ النَّحَّاسُ في "النَّاسخ والمنسوخ"(299)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 9/ رقم 8501).
وأيضًا، فهؤلاء جميعًا خالَفُوا مُحمَّدَ بنَ طلحة، الذي رواه عن زُبَيدٍ مرفُوعًا، كما قَدَّمتُ.
ومُحمَّدُ بنُ طلحة، ضَعَّفه ابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، وليَّنَه النَّسائيُّ، وقال ابنُ حِبَّانَ:"يُخطِئُ"، فلا تُقاوِمُ روايتُه روايةَ هؤلاء الفُحُول.
وصحَّح الحاكِمُ الرِّوايةَ الموقُوفَة على شرط الشَّيخينِ، ووافَقَهُ الذَّهبيُّ.
وقال ابنُ كثيرٍ في "تفسيره"(2/ 71): "وهذا إسنادٌ صحيحٌ موقُوفٌ".
واللهُ أعلَمُ.
75 -
وسَألنِي سائلٌ عن حديثٍ، قرأه في مجلَّة "اللِّواء الإسلاميِّ"، تحت عُنوان:"تنظيم النَّسل"، وهو حديثُ:"جَهدُ البَلَاءِ: كثرَةُ العِيَالِ، مَع قِلَّةِ الشَّيءِ"، وقال الكاتِبُ: رَوَاهُ الحاكِمُ في "المُستدرَك".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ مَكذُوبٌ.
ولم يروِهِ الحاكم في "المُستدرَك"، بل في "تاريخ نيسابُور"، كما في "كشف الخفاء"(1/ 335).
ورأيتُهُ موقُوفًا على عُمَر بن الخطَّاب ..
فقد أخرجه ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب "العيال"(443) مِن طريق إسماعيلَ بن عَيَّاشٍ، عن حسَّان بن عبد الله، عن إياسِ بن مُعاوية، عن عُمَر فذَكَرَه.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ لانقطاعِهِ، فإنَّ إياسَ بنَ مُعاوية لم يَلحَق عُمَرَ رضي الله عنه.
76 - سُئلتُ: هل صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَهَى عَن صلاة الصِّبيانِ في الصَّفِّ الأوَّل؟
• قلت: لا أعلم في هذا الباب نهيًا صحيحًا.
والذي أَعلَمُه، هو ما رواه ابنُ أبي الدُّنيا في "كتاب العيال"(298) من طريق أبي مُعاوية، حدَّثَنا الأَحوَصُ بنُ حكيمٍ، عن راشدِ بن سعدٍ، قال: نَهَي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقامَ الصِّبيانُ في الصَّفِّ الأوَّل.
لكنَّه حديثٌ ضعيفٌ؛ لإرساله.
وفي معناه: ما أخرجه أبُو داوُد (663) من طريق شهر بن حَوْشبٍ، عن عبد الرَّحمن بن غُنْمٍ، قال: قال أبُو مالكٍ الأشعريُّ: أَلَا أُحدِّثُكم بصلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأَقَامَ الصَّلاة، فصفَّ الرِّجال، وصَفَّ الغِلمان خَلْفهم، ثُمَّ صلَّى بهم، فذَكَرَ صَلاتَهُ ....
وشهرُ بنُ حَوشَبٍ مُقارِبُ الحال.
واللهُ أعلَمُ.
77 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ لِلمَرأَةِ فِي حَملِهَا، إِلَى وَضعِهَا، إِلَى فِصَالِهَا مِنَ الأَجرِ كَالمُتشَحِّطِ فِي سَبِيلِ الله، فَإِن هَلَكَت فِيَما بَينَ ذَلِكَ، فَلَهَا أَجرُ شَهِيدٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه عَبْدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب"(801)، وابنُ أبي الدُّنيا في "كتاب العيال"(387)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(4/ 298) من طريق ابن المُبارَك، ثنا قَيسُ بنُ الرَّبيع، عن أبي هاشمٍ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا فذَكَرَه.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ لضعف قَيسِ بن الرَّبيعِ.
وَوَقَعَ الشَّكُّ في رفعه عِندَ ابن أبي الدُّنيا، ولعلَّه من قيسٍ. واللهُ أعلَمُ.
• قلتُ: وهو مُعَلٌّ بالوقف.
أخرَجَه عبدُ بنُ حميدٍ في "المُنتخَب"(801) قال: حدَّثَنا يَعمَرُ بنُ بِشرٍ ..
وابنُ أبي الدُّنيا في "كتاب العيال"(387) قال: حدَّثَنا أحمُد بنُ جميلٍ المَروَزِيُّ ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(4/ 298) عن حبَّان بن مُوسَى ..
قالوا: ثنا ابنُ المُبارَك، ثنا قيسُ بنُ الرَّبيع، عن أبي هاشِمٍ، عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابن عُمر، أُراه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
هكذا وَقَعَ الشَّكُّ في رَفعِه.
وكذلك رواه إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الصِّينِيُّ، قال: ثنا قيسُ بنُ الرَّبيع، بهذا على الشَّكِّ.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ (4/ 298) قال: حدَّثَنا سُليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عُثمانَ بن أبي شَيبَة، ثنا إبراهيمُ بن إسحاقَ بهذا، وقال:"غريبٌ من حديث سعيدٍ. تفرَّد به قيسٌ. وحدَّث به عبدُ الله بنُ المُبارَك عن قيسٍ".
• قلتُ: وهذا سنَدٌ ضعيفٌ؛ لضعف قيسِ بن الرَّبيع، مع الشَّكِّ في رفعه.
ورجَّح الدَّارقُطنِيُّ في "العِلل"(ج 4/ ق 123/ 1) وَقفَهُ.
والله أَعلَمُ.
78 -
سُئلت عن حديث: "وَسِّطُوا الإِمَامَ، وَسُدُّوا الخَلَلَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُقارِبٌ بآخِرِه.
أخرجه أبُو داوُد (2/ 375 - عون)، ومن طريقِهِ البَيهقِيُّ (3/ 104)، والطَّبرانيُّ في "الأوسط"(ج 1/ ق 271/ 2) من طريقِ يَحيَى بن بَشِيرِ بن خلَّادٍ، عن أُمِّه، أنَّها دَخَلت على مُحمَّد بن كعبٍ القُرَظيِّ، فسَمِعَتهُ يقول: حدَّثَني أبُو هُريرَة مرفُوعًا.
وقال الطَّبرانيُّ: "الثُّلَمَ" بدل "الخلل"، وزاد:"لا يتخلَّلُها الشَّيطانُ، وضَعُوا نعالَكُم بين أقدامكم".
قال الطَّبرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن أبي هُريرَة إلَّا بهذا الإسنادِ. تَفرَّد به يَحيَى بنُ بَشيرٍ".
• قلتُ: أمَّا يحيَى، فقال ابنُ القطَّان:"مجهولٌ".
وأُمُّه، اسمُها "أَمَةُ الواحِدِ بنتُ يامينَ" مجَهُولةٌ أيضًا. واللهُ أعلَمُ.
ولقوله: "سُدُّوا الخَلَلَ" شاهدٌ من حديث أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا: "ألا أدُلُّكُم على ما يكَفِّرُ اللهُ به الخَطايا ويَزِيدُ به الحَسَناتِ"، قالوا: بلى. قال: "إسباغُ الوُضُوء على المَكارِه، وكَثرَةُ الخُطى إلى المَساجد، وانتظارُ الصَّلاةِ بعد الصَّلاة. إنَّ الملائِكة تقولُ: اللَّهُم اغفِر له! اللَّهُمَّ ارحَمه". فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قُمتُم إلى الصَّلاة فعدِّلُوا صُفُوفُكم وأقيمُوها، وسُدُّوا الخَلَلَ، فإنِّي أراكُم من وراء ظَهرِي. فإذا قال إمامُكُم: الله أكبرُ،
فقولوا: اللهُ أكبرُ، وإذا رَكَعَ فاركَعُوا، وإذا قال: سمع اللهُ لمن حَمِدَه، فقولوا: ربَّنا لك الحمدُ"، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ صُفُوف الرِّجال مُقدَّمُها، وشرُّها مؤَخَّرُها، وخيرُ صُفوف النِّساء مُؤَخَّرُها، وشرُّها مُقدَّمُها".
أخرَجَهُ البزَّارُ (531 - كشف) قال: حدَّثَنا عمرُو بنُ عليٍّ، ثنا أبُو عامِرٍ، عن زُهَير بن مُحَمَّدٍ، عن عبدِ الله بن مُحمَّدِ بن عَقيلٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّبِ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا.
وأخرَجَهُ أحمدُ (3/ 3) قال: حدَّثَنا أبُو عامِرٍ العَقَدِيُّ. .
والحارثُ بنُ أبي أُسامَةَ في "مُسنَده"(153 - زوائده)، وأبُو يَعلَى (1355)، والبيهَقِيُّ (2/ 16) عن يَحيَى بن أبي بُكَيرٍ. .
قالا: ثنا زُهَير بنُ مُحمَّدٍ، بهذا الإسناد بتمامه، غير أنَّه قال:"وسُدُّوا الفُرَجَ" بدل "الخَلَلَ".
وأخرَجَه ابنُ ماجَهْ (427، 776، 877) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ - وهذا في "المُصنَّف"(1/ 7، و 2/ 385) -، قال: حدَّثَنا يحيَى بنُ أبي بُكَيرٍ. .
وابنُ خُزَيمةَ (177) عن أبي عامِير العَقَدِيِّ. .
والدَّارِمِيُّ (1/ 143) قال: حدَّثَنا مُوسَى بنُ مسعودٍ. .
قالُوا: ثنا زُهَيرُ بنُ مُحَمَّدٍ، بهذا الإسناد ببعضِهِ.
وتُوبع زُهَيرٌ. .
تابَعَهُ عُبيدُ الله بنُ عَمرٍو الرَّقِّيُّ، عن ابن عُقَيلٍ بهذا الإسناد.
أخَرجَه الدَّارِمِيُّ (1/ 143) مُختصَرًا، وعبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(984) بتَمامِه، قالا: ثنا زكرِيَّا بنُ عَدِيٍّ، ثنا عُبيدُ الله بنُ عَمرٍو الرَّقِّيُّ، عن عبد الله بن مُحمَّد بن عَقيلٍ بهذا.
وسَنَدُ صالحٌ.
قال البزَّارُ: "إنَّما يُعرَفُ من حديث عبدِ الله بن مُحمَّدِ بن عَقيلٍ. ورواه سُفيانُ عن غيرِهِ".
• قلتُ: وحديثُ سُفيانَ هذا:
أخرَجَه ابنُ خُزَيمةَ (177، 357، 1562، 1577، 1693، 1694)، وأبُو يَعلَى (1102)، والبزَّارُ (352 - كشف)، والعُقَيليُّ في "الضُّعَفاء"(2/ 223)، وابنُ حِبَّانَ (402)، والحاكمُ (1/ 191 - 192)، والبيهَقِيُّ (2/ 16) من طرقٍ عن أبي عاصمٍ النَّبيلِ، ثنا سُفيانُ الثَّورِيُّ، عن عبد الله بن أبي بَكرٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّب، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكُم على شيءٍ يُكفِّرُ الخطايا، وَيزِيدُ في الحَسَنَات؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إسباغُ الوُضوء - أو: الطُّهور - في المَكَارِه، وكَثرةُ الخُطى إلى هذا المَسجِد، والصَّلاةُ بعد الصَّلاة. وما مِن أحَدٍ يَخرُجُ من بيتِهِ مُتَطَهِّرًا حتَّى يأتي المسجدَ فيُصَلِّي مع المُسلمين، أو مع الإمام، ثُمَّ ينتظِرُ الصَّلاة التي بعدَهَا، إلا قالت الملائكةُ: اللَّهُم اغفر له! اللَّهُمَّ ارحَمه! فإذا قُمتُم إلى الصَّلاة فاعدِلُوا صُفُوفَكم، وسُدُّوا الفُرَجَ. فإذا كبَّر الإمامُ فكَبِّرُوا، فإنِّي أراكم من ورائي، وإذا قال: سمع اللهُ لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمدُ. وخَيرُ صُفوف الرِّجال المُقدَّمُ، وشرُّ صُفوف الرِّجال
المُؤَخَّرُ، وخيرُ صُفوف النِّساء المُؤخَّرُ، وشرُّ صُفوف النِّساء المُقدَّمُ.
يا مَعشَر النِّساء! إذا سَجَدَ الرِّجال فاحفَظنَ أبصارَكُنَّ من عورات الرِّجال".
وهذا لفظ ابن حِبَّان، أورَدتُهُ بتمامِهِ لمحلِّ الشَّاهد.
وهو مُختصَرٌ عند غيره.
قال ابنُ خُزَيمةَ: "هذا الخبرُ لم يروه عن سفيانَ غيرُ أبي عاصِمٍ. فإن كان أبُو عاصِمٍ حَفِظَهُ فهذا إسنادٌ غريبٌ. . . والمشهورُ في هذا المَتن: عبدُ الله بنُ محمَّد بن عَقِيلٍ، عن سعيد بن المُسيَّب، عن أبي سعيدٍ. لا: عن عبد الله بن أبي بَكرٍ".
وقال أبُو حاتِمٍ - كما في "العلل"(54) لولَدِه -: "هذا وَهَمٌ. إنَّما هو: الثَّورِيُّ، عن ابن عَقِيلٍ. وليس لعبد الله بن أبي بكرٍ معنًى. رَوَى هذا الحديثَ عن ابن عَقيلٍ: زُهَيرٌ، وعُبيدُ الله بنُ عَمرٍو".
وسَبَقَهُ الإمامُ أحمدُ إلى ذلك. .
فقال العُقَيليُّ في "الضُّعفاء": "حدَّثَنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، قال: قلتُ لأبي: تَحفَظُ عن سُفيانَ، عن عبدِ الله بن أبي بَكرٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّب، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكُم على شيءٍ يُكَفِّرُ الخَطايا ويَزِيدُ في الحَسَنات؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إسباغُ الوُضُوءِ عند المَكارِهِ"؟ فقال أبي: هذا باطِلٌ؛ ليس هذا من حديثِ عبد الله بن أبي بَكرٍ، إنَّما هذا مِن حديث ابن عَقِيلٍ. وأنكَرَهُ أبي أشدَّ الإنكار".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد" - كما في "أطراف الغرائب"(4684) -:
"غريبٌ من حديث سعيد بن المُسيَّب، عن أبي سعيدٍ. لم يروه عنه غيرُ عبدِ الله بن مُحمَّدِ بن عَقِيلٍ. وكذلك رواه الثَّورِيِّ، عن ابن عَقيلٍ هذا. ورواه أبُو عاصِمٍ النَّبيلُ، عن الثَّورِيِّ، عن عبدِ الله بن أبي بَكرٍ، عن سعيدِ بن المُسيَّب. ولم يُتابَع عليه. وتفرَّد به أبُو عاصمٍ، عن الثَّورِيِّ".
أمَّا الحاكمُ فقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخَين، ولم يُخرِّجاه.
وهو غريبٌ من حديثِ الثَّورِيِّ؛ فإنِّي سمعتُ أبا عليٍّ الحافظَ يقولُ: تفرَّد به أبُو عاصمٍ النَّبيلُ، عن الثَّورِيِّ".
• قلتُ: هكذا تتابَعَت كلماتُ النُّقَّاد الكبارُ، وهم القومُ لا يَشقَى بهم جليسُهُم. ولكنَّ البزَّارَ قال كلمةً أَراها حلًّا لهذا الإعلال، فإنَّه قال بعد رواية الحديثِ:"لا نَعلَمُ رواه عن الثَّورِيِّ إلَّا أبُو عاصِمٍ. وأظُنُّ عبدَ الله بن أبي بَكرٍ هو عبدُ الله بنُ مُحمَّد بن عَقيلٍ".
ومَعنَى هذا أن كُنيةَ مُحمَّدِ بن عقيلٍ هي "أبُو بَكرٍ". وقد صرَّح العُلماءُ أن الثَّورِيَّ يرويه أيضًا عن عبد الله بن مُحمَّد بن عَقيلٍ، فما المانِعُ أن يكونَ الثَّورِيُّ نَسَبَهُ إلى كُنيَة أبيه، ويكونُ دَلَّسَهُ؟!
وله شاهدٌ من حديث أبي أُمامَةَ رضي الله عنه.
أخرَجَه أحمدُ (5/ 262) واللفظُ له، قال: حدَّثَنا هاشمُ - يعني ابنَ القاسمِ -. .
وأبُو يَعلَى في "مُسنَده" - كما في "إتحاف الخِيَرة"(1764) للبُوصِيرِيِّ -، عن مُحْرِزِ بن عَونٍ. .
والطَّبرانِيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7727) عن أحمدَ بن إبراهيم المَوصِليِّ. .
وفي "مُسنَد الشَّامِيِّين"(1587) عن سُوَيد بن سعيدٍ. .
قال أربَعَتُهُم: ثنا فَرَجُ بنُ فَضالَة، عن لُقمانَ بن عامِرٍ، عن أبي أُمامَة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله وملائِكَتَهُ يُصلُّون على الصَّفِّ الأوَّل"، قالوا: يا رسولَ الله! وعلى الثَّاني؟ قال: "وعلى الثَّاني". وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفكم، وحاذُوا بين مَنَاكِبِكُم، ولِينُوا في أيدِي إخوانِكُم، وسُدُّوا الخَللَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَدخُلُ فيما بينَكُم بمَنِزلَةِ الحَذِفِ" يعني: أولادَ الضَّأن الصِّغارَ.
وهو عند الباقين ببعض اختصارٍ، مع وُجود محلِّ الشَّاهد.
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ لضعف فَرج بن فَضالَة.
وفي الباب أحاديثُ صحيحةٌ في سَدِّ الخَلَلِ وتَسويةِ الصُّفوف، ولكِنِّي حرصتُ على تَخريجِ لفظِ الحديثِ المَسؤولِ عنه. والله المُوَفِّق.
وفي "صحيح البُخارِيِّ"(7/ 60) في قِصَّة مَقتَل عُمر، وفيه: وكان إذا مَرَّ بين الصَّفَّين قال: "استَوُوا"، حتَّى إذا لم يَرَ فيه خَلَلًا تقدَّم فكبَّر. . . الحديث.
79 -
وسأَلَنِي سائل، فقال: هل ثَبَتَ أن عُثمانَ بنَ عفَّان صَلَّى بالقُرآن في ركعةٍ؟ فَقَد حَدَث جدلٌ بيني وبين بعض أساتذة جامعة الأزهر، فأنكر أشدَّ الإنكار أَن يَحدُث مثلُ هذا، وقال: لم يَصِحَّ إسنادٌ لهذا الكلام، وليس له شواهدُ. فنَرجُو مِنكُم أن تَفصِلُوا في هذا الأمر، وأن تَتكَرَّمُوا علينا بذكر أسانيد هذا الكلام.
• قلتُ: قد صحَّ هذا الأَثَرُ عن عُثمان رضي الله عنه.
وهاك تحقيق المقام:
أخرجه أبُو عُبيد في "فضائل القُرآن"(ص 90)، وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 3/ رقم 4653)، ومِن طريقِهِ ابن المُنذِر في "الأوسط"(5/ 1708) من طريقِ ابن جُريجٍ، أخبَرَنِي ابنُ خُصَيفَةَ، عن السَّائب بن يزيدَ، أن رَجُلًا سأل عبدَ الرَّحمن بن عُثمانَ التَّيميَّ عن صلاة طلحةَ بن عُبيد الله، قال: إِن شِئتَ، أخبَرتُك بصلاة عُثمان بن عَفَّان؟ قال: نَعَم! قال: قُلتُ: لأَغلِبَنَّ اللَّيلة على الحِجر - يُريد المَقام -، - قال: - فلمَّا قُمتُ، إذا رجلٌ يُزاحِمُني مُتقنِّعًا، - قال: - فَنَظَرتُ، فإذا هو عُثمان، فتأخَّرتُ عنه، فصَلَّى، فإذا هو يَسجُدُ سجود القُرآن، حتى إذا قلتُ: هذا هُو أذانُ الفَجرِ، أَوتَرَ بركعةٍ لَم يُصَلِّ غيرَها، ثُمَّ انطلق.
وأخرَجَهُ مُحمَّدُ بن نصرٍ في "كتاب الوِتر"(ص 286) مُختَصرًا.
وهذا سَنَدٌ صحيحٌ، كما قالَ الحافظُ ابنُ كَثيرٍ في "فضائل القُرآن"(ص 257 - بتحقيقي).
وَقَد أورَدَها ابن كَثيرٍ مُستدِلًّا بها على ختم القُرآن في ركعةٍ، وليس في الرِّوايةِ ما يَدُلُّ على ذلك، بل فيها عكسُه، فظاهرٌ منها أنَّهُ صلَّى أكثرَ مِن ركعةٍ، لكِنَّهُ أَوتَرَ بواحدةٍ، فهذا يَصلُح دليلًا في الرَّدِّ على مَن كَرِهَ الوِتر بواحدةٍ. ولو أنَّهُ ذَكَر رواية ابنَ المُنكَدِرِ، عن عبد الرَّحمن بن عُثمان التَّيميِّ، لكان أولَى من هذه الرِّواية في مَقام الاحتجاج.
فأخرج ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(1276)، والطَّحاويُّ في "شرح المعاني"(1/ 294)، والبَيهَقيُّ (3/ 25) من طريق فُلَيح بن سُليمانَ، عن مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن عبد الرَّحمن بن عُثمان التَّيميِّ، قال: قُلتُ: لأَغلِبَنَّ اللَّيلةَ على المَقام. فسَبَقتُ إليه، فبينَا أنا قائمٌ أُصلِّي، إذ وَضَع رجلٌ يده على ظَهْري، فنظرتُ، فإذا هو عُثمانُ بنُ عَفَّانَ - رَحمَةُ اللهِ عَلَيهِ -، وهُو خليفةٌ، فتنحَّيتُ عنه، فَقَام، فما بَرِح قائمًا، حتَّى فَرَغ من القُرآن في ركعةٍ، لَم يَزِد عليها، فلمَّا انصرفَ، قُلتُ:"يا أَميرَ المُؤمنينَ! إِنَّما صلَّيتَ ركعةً"، قال:"أَجَل؛ هي وِتري".
فهذ الرِّوايةُ صريحةٌ في الدِّلالة علَى التَّرجمةِ، وسَنَدُها جيِّدٌ.
وفُليحُ بنُ سُليمان، في حِفظِه مقالٌ، لكنَّه لم يتفرَّد بالحديث. .
فرواه مُحمَّدُ بنُ عمرٍو، عن مُحمَّدِ بن إبراهيم، عن عبد الرَّحمن بن عُثمانَ، قال: قُمتُ خلفَ المَقام، وأنَا أُريدُ أن لا يَغلِبَنِي أحدٌ عليه تلك
اللَّيلة، فإذا رجلٌ يغمِزُني، فلَم ألتَفِتْ، فنَظَرتُ، فإذا هُو عُثمانُ بنُ عَفَّان، فتنحَّيتُ، فتقدَّمَ فقَرَأَ القُرآنَ في ركعةٍ، ثُمَّ انصرَفَ.
أخرجه ابنُ أبي شَيبة (1/ 368، 2/ 502 - 503)، وابنُ سعدٍ (3/ 75 - 76)، والبَيهقِيُّ (3/ 24 - 25)، وفي "الشُّعَب"، (ج 5/ رقم 1993).
وسَنَده حسنٌ.
وله طريق آخرُ ..
أخرجَهُ أبُو عُبيدٍ (ص 90 - 91)، وابنُ أبي شَيبة (1/ 367، 2/ 502)، وابنُ سعدٍ (3/ 75، 76)، وعُمرُ بنُ شَبَّة في "تاريخ المدينة"(4/ 1272)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 1/ رقم 130)، وأبُو نُعيمٍ في "الحلية"(1/ 57) من طُرُقٍ عن ابن سِيرينَ، قال: قالَت نائِلةُ بنت الفَرافِصَةَ الكَلبِيَّةُ، حين دَخَلُوا على عُثمان ليقتُلُوه، فقالت:"إِن تَقتُلُوه أَو تَدَعُوه، فَقَد كان يُحيِي اللَّيلَ بركعةٍ، يَجمَعُ فيها القُرآن".
ورواه عن ابن سيرين جماعةٌ، منهم: هشامٌ الدَّستُوائيُّ، وعاصمٌ الأحولُ، وأبُو هلالٍ مُحمَّدُ بنُ سُليمٍ الرَّاسبيُّ، وقرةُ بنُ خالدٍ، وسلَّامُ بنُ مِسكينٍ، ويزيدُ بنُ إبراهيم.
وأخرجَهُ ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(1277) مِن طريق عاصم بن سُليمان الأحولِ، عن ابن سِيرِينَ، وزاد: وكان تميمٌ الدَّاريُّ يقرَأُ القُرآنَ في ركعةٍ.
وأخرج هذه الزِّيادةَ: أبُو عُبيدٍ (ص 91)، وابنُ أبي شيبة (2/ 502)، والطَّحاويُّ في "الشَّرح"(1/ 348)، والبيهقيُّ في "الكبرَى"(3/ 25)،
وفي "الشُّعَب"(ج 5/ رقم 1994).
بَقِيَت طُرُقٌ أُخرَى.
فأخرج ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(1275) قال: أخبَرَنا ابنُ لهِيعَة، قال: حدَّثَني بُكيرُ بنُ الأشجِّ، عن سُليمانَ بن يسارٍ، أن عُثمانَ بنَ عَفَّانَ قام بعدَ العشاء، فقَرَأَ القُرآنَ كُلَّه في ركعة، لم يُصَلِّ قبلَهَا ولا بَعدَهَا.
وسَنَدُه جيِّدٌ، لولا الانقطاعُ بينَ سُليمانَ بن يَسارٍ وعُثمان رضي الله عنه.
وأخرج عُمَرُ بنُ شَبَّة في "تاريخ المدينة"(4/ 1272) قال: حدَّثَنا خَلَفُ بنُ الوليد، حدَّثَنا الأشجعيُّ، عن مِسَعرٍ، قال: بَلَغَنِي أن امرأة عُثمانَ رضي الله عنه قالت: "إِن تَقتُلُوه أو تَدَعُوه، فإنَّهُ كان يَختِمُ القُرآن في ليلةٍ، في ركعة".
وضعفُهُ ظاهرٌ، وقد تقدَّم موصولًا.
وأخرج ابنُ سعدٍ (3/ 76) قال: أخبَرَنَا يُوسُفُ بنُ الغَرْقِ، قال: أخبَرَنَا خالدُ بنُ بُكيرٍ، عن عطاءِ بن أبي رباحٍ، أن عُثمانَ بن عفَّان صلَّى بالنَّاس، ثُمَّ قام خلف المقام، فجَمَعَ كتابَ الله في ركعةٍ، كانت مرَّةً، فسُمِّيَت "البُتَيرَاءَ".
وسَنَدُه واهٍ؛ ويُوسُفُ بنُ الغَرْقِ أقرَبُ إلى الوَهَاء.
وعطاءٌ، عن عُثمانَ: مُنقَطعٌ.
80 -
سُئلتُ أن أُفَصِّل القول في حديث: "ازْهَد فِي الدُّنيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازهَد فِيَما عِندَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجَهُ ابنُ ماجَهْ (4102)، وابنُ حِبَّانَ في "روضة العُقلاء"(ص 141)، والحاكِمُ (4/ 313)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 5972)، والمَحامِليُّ في "مجلسين من الأمالي"(140/ 2)، وأبو الشَّيخ في "التَّاريخ"(183)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(2/ 11)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(3/ 902)، والخِلَعِيُّ في "الخِلَعِيَّات"(ج 18/ ق 191/ 1)، وابنُ الجوزيِّ في "الواهيات"(2/ 323) من طريق ابن سَمعُون. - وهذا في "الأمالي"(2/ 157/ 1) -، والرُّويانيُّ في "مُسنَده"(ج 28/ ق 184/ 2)، والبَيهَقيُّ في "الشُّعَب"(10522)، وأبُو نُعيمٍ في "الحلية"(3/ 552 - 553، 7/ 136)، وفي "أخبار أصبهان"(2/ 244، 245)، والقُضاعيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(643) من طُرُقٍ عن خالد بن عمرٍو، عن سُفيان الثَّوريِّ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ السَّاعديِّ، قال: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال:"يا رسُولَ الله! دُلَّنِي على عملٍ، إذا أنا عَمِلتُه أَحَبَّنِي اللهُ، وأحبَّنِي النَّاس"، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. . . فذَكَرَه.
قال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد".
وقد نُوزِع في ذلك.
قال الذَّهَبيُّ في "تلخيص المُستدرَك": "خالدٌ وضَّاعٌ".
وقال السَّخَاويُّ في "المقاصد"(رقم 96): "ليس كذلك؛ فخالدٌ مُجمَعٌ على تركِهِ، بل نُسِبَ إلى الوَضعِ".
وقد سُئل الإمامُ أحمدُ رحمه الله عن هذا الحديث، كما في "المُنتخَب من العلل"(ج 10/ ق 294/ 1) للخلَّال، فقال:"لا إله إلا الله! - تَعَجُّبًا منه، ثم قال: - مَن رَوَى هذَا، أو: عَمَّن هذا؟ قلتُ: خالدُ بنُ عمرٍو. . . فقالَ، وهَتَك خالدَ بنَ عمرٍو، ثُمَّ سَكَت" ا. هـ.
لكن لم يتَفرَّد به خالدٌ، فقد تُوبع. .
قال العُقيليُّ: "وليس لَهُ من حديث الثَّوريِّ أصلٌ، وقد تابعه مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ الصَّنعانيُّ، ولعلَّهُ أخذَهُ عَنهُ ودلَّسه، لأنَّ المشهورَ به خالدٌ هذا".
ورواية مُحمَّد بن كَثيرٍ هذِهِ: أخرَجَهَا ابنُ عديٍّ في "الكامل"(3/ 902)، والأصبهانيُّ في "التَّرغيب"(1472)، والخِلَعيُّ في "الفوائد"(18/ 167/ 1)، - كما في "الصَّحيحة"(2/ 662) -، والبيهقيُّ في "الشُّعَب"(10523)، وابنُ جُمَيعٍ في "مُعجَمه"(ص 312)، وابن مُكرِمٍ في "الفوائد"(ج 2/ ق 431/ 1 - 2).
قال ابن عديٍّ: "لا أدري ما أقول في رواية ابن كَثيرٍ، عن الثَّوريِّ هذا الحديثِ! فإنَّ ابنَ كَثيرٍ ثقةٌ، وهذا الحديثُ عن الثَّوريِّ مُنكَرٌ"، ونقله عنه البَيهقيُّ في "الشُّعَب"(10524).
لكن تعقَّبه شيخُنا بقوله: "قولُه: "ابنُ كَثيرٍ ثقةٌ" فيه نَظرٌ؛ فقد ضعَّفه جماعةٌ من الأئمة، مِنهُم الإمامُ أحمدُ، كما رواه عنه ابنُ عديٍّ نفسُه من
ترجمته من "الكامل"، ثُمَّ خَتَمها بقولِه:"له أحاديثُ مِمَّا لا يُتابِعُه أحدٌ، فكيف يكون مثلُه عنده ثقةً؟! "، فالظَّاهرُ أنَّهُ اشتَبه عليه بمُحمَّد بن كَثيرٍ العبْديِّ، فإنَّه ثقةٌ، من رجالِ الشَّيخين" ا. هـ.
وفي "علل الحديث"(2/ 107) قال ابن أبي حاتم: "سأَلتُ أَبِي، عن حديثٍ رواه عليُّ بنُ ميمونَ الرَّقِّيُّ، عن مُحمَّدِ بن كَثيرٍ، عن سُفيان. . . فذكره، فقال أبي: "هذا حديثٌ باطلٌ"، يعني بهذا الإسناد" ا. هـ.
وقد تُوبع مُحمَّد بن كَثيرٍ.
تابعه أبُو قتادة عبدُ الله بنُ واقدٍ الحرَّانيُّ، قال: ثنا سُفيانُ الثَّوريُّ به.
أخرجه البَيهقيُّ في "الشُّعَب"(10525)، ومُحمَّدُ بنُ عبد الواحد المقدسيُّ في "المنتَقَى من حديث أبي عليٍّ الأُوقِيِّ"(3/ 2)، كما في "الصَّحيحة".
قال شيخُنا حفظه الله -: "لَكِن أبُو قتادة - وهو عبدُ الله بنُ واقدٍ الحرَّانيُّ -، قال الحافظُ: "متروكٌ، وكان أحمدُ يُثنِي عليه، وقال: لعلَّه كَبِر واختلطَ، وكان يُدلِّسُ"، قُلْتُ - القائلُ شيخُنا -: فيُحتمل احتمالًا قويًّا أن يكون تلقَّاه عن خالد بن عمرٍو، ثُمَّ دلَّسَهُ عنه، كما قال ابنُ عديٍّ في متابعة ابن كثيرٍ" ا. هـ.
قال ابنُ عديٍّ: "وقد رُوِي عن زافرٍ، عن مُحمَّدِ بن عُيَيْنة - أخي سُفيانَ بن عُيَيْنة -، عن أبي حازمٍ، عن سهلٍ. ورُوِي أيضًا من حديث زافرٍ، عن مُحمَّد بن عُيينة، عن أبي حازمٍ، عن ابن عُمَر".
قال شيخُنا حفظه الله -: "وزافر - وهو ابنُ سُليمان - صَدُوقٌ، كثيرُ
الأوهامِ. ونحوُه مُحمَّدُ بنُ عُيَينة، فإنَّه صَدُوقٌ له أوهامٌ، كما في "التَّقريب".
وقد اضطرب أحدُهُما في إسناده، فمرةً جَعله من "مُسنَد سهلٍ"، وأُخرَى من "مُسنَد ابن عُمَر"، والأوَّل أَولَى؛ لموافقته للمتابَعات السَّابِقة" ا. هـ.
• قلتُ: وهذا التَّرجِيحُ شكليٌّ محضٌ، كما هو ظاهرٌ، لا يُفهم منه أنَّ الشَّيخ يُقوِّي حديثَ سهلٍ.
وكذلك رواه مِهرَانُ بنُ أبي عُمَر، عن الثَّورِيِّ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ الحازِمِيُّ في "الفَيصَل في مُشتبَه النِّسبَة"(ق 62/ 2) من طريق مُحمَّد بن حُميدٍ الرَّازِيِّ، قال: حدَّثنا مِهرانُ بنُ أبي عُمَر، قال: ثنا سُفيانُ الثَّوريُّ بهذا.
قال الحازِمِيُّ: "هذا غريبٌ من هذا الوَجه. ومِهرانُ بنُ أبي عُمَر صاحبُ مَفارِيد". وقد رأيتَ أنَّه تُوبع.
والرَّاوي عنه واهٍ.
وله شاهدٌ عن ابن عُمَر رضي الله عنهما. .
أخرجه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(3/ 162/ 2) عن مُحمَّد بن أحمد بن العَلَسِ، حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ عبد الله بن أبي أُوَيسٍ، حدَّثنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر به.
قال شيخُنا - حفظه الله -: "وهذا إسنادٌ رجالُهُ رجالُ الشَّيخين، غير ابن العَلَسِ هذا، فلم أعرفْهُ".
• قلتُ: رضي الله عنك! إنَّما هو أحمدُ بنُ مُحمَّدِ بن المُغَلِّسِ الكذَّابُ!
ووقع تصحيفٌ في اسمه، قال الحافظ في "اللِّسان" (1/ 272):"ومن مناكيره روايتُه عن بِشرٍ الحافيِّ، عن إسماعيل بن أبي أُوَيسٍ، عن مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر رضي الله عنهما رَفَعَهُ: "ازهد في الدُّنيا يُحبُّك اللهُ. . . الحديث". رواه ابنُ عساكر في "تاريخه" عن الدِّينَورِيِّ، عن القَزوِينيِّ، حدَّثَنا يُوسفُ بنُ عُمَر القوَّاسُ، عن مُحمَّدِ بن أحمدَ بن الحَسَن، ثنا أَحمَدُ بنُ المُغَلِّسِ، فذكر قِصَّةً هذا فيها. وهذا الحديثُ بهذا الإسناد باطلٌ، وإنَّما يُعرَفُ من حديث سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ بإسنادٍ ضعيفٍ، ذَكَرتُه في غير هذا المكان" ا. هـ.
فلَرُبَّمَا اشتَبه على شيخنا، أو وقع سقطٌ في الإسناد. فالله أعلمُ.
وله شاهدٌ من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه. .
أخرجه أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 41) من طريق أبي أحمد إبراهيم بن مُحمَّد بن أحمد الهَمْدانيِّ، ثنا أبو حفصٍ عُمَرُ بنُ إبراهيم المُستَمِلي، ثنا أبو عُبيدة بنُ أبي السَّفَر، ثنا احسنُ بنُ الرَّبيعِ، ثنا المُفضَّلُ بنُ يونُس، ثنا إبراهيمُ بنُ أدهم، عن مَنصُورٍ، عن مُجاهدٍ، عن أنسٍ، أن رجُلًا أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"دُلَّني على عملٍ إذا أنا عَمِلتُه أحبَّني الله عز وجل، وأحبَّني النَّاس عليه؟ "، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ازهد في الدُّنيا يحبُّك اللهُ، وأمَّا النَّاس فانبِذ إليهم هذَا يُحبُّوك".
قال أبو نُعيمٍ: "ذِكرُ أنسٍ في هذا الحديث وَهَم من عُمَرَ، أو أبي أحمدَ؛ فقد رواه الأثباتُ عن الحسن بن الرَّبيع، فلم يجاوِزُوا فيه مُجاهدًا".
ثُمَّ رواه من طريق أحمدَ بن إبراهيم الدَّورَقِيِّ، ثنا الحسَنُ بنُ الرَّبيع
أبو عليٍّ البَجَليُّ، ثنا المُفضَّلُ بنُ يُونُس، عن إبراهيمَ بن أَدهَم، عن منصُورٍ، عن مُجاهدٍ، أنَّ رجُلًا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسُول الله! دُلَّني على عملٍ يُحبُّني اللهُ تعالى عليه، ويحبُّني النَّاسُ عليه؟ "، فقال:"أمَّا ما يحبُّك اللهُ عليه فالزُّهدُ في الدُّنيا، وأمَّا ما يحبُّك النَّاسُ عليه فانبِذْ إليهم هذا القِثَّاءَ".
قال الحسنُ: قال المفضَّلُ: لم يُسنِد لنا إبراهيمُ بنُ أَدهَم حديثًا غير هذا، وقال:"فانظُر ما كان في يَدَيك من هذا الحُطامِ، فانبِذهُ إليهم، فإنَّهم سيُحبُّونك".
قال أبُو نُعيمٍ: "وهو حديثُ منصُورٍ ومُجاهِدٍ. عزيزٌ".
قال شيخُنا: "إسنادُهُ جيِّدٌ".
فالصَّواب في حديث الباب الإرسال، لذلك فهُو ضعيفٌ.
لكن، قال شيخُنا:"قد تقدَّم حديثُ سُفيانَ من طُرُقٍ عنه، وهي وإن كانت ضعيفةً، ولكِنَّها لَيسَت شديدةَ الضَّعفِ، باستثناء رواية خالدِ بن عمرٍو الوَضَّاع، فهي لذلك صالحةُ الاعتبار، فالحديثُ قويٌّ بها، ويَزدَادُ قوَّةً بهذا الشَّاهد المُرسَل؛ فإنَّ رجالَهُ كلَّهم ثقاتٌ" ا. هـ.
• قلتُ: رضي الله عنك! فقد سَبَقَ أن ذَكَرتَ أن مُحمَّد بن كَثيرٍ، وأبا قَتادة، وكلاهما مُدلِّسٌ، يُحتمَل أن يكونا أخذاه من خالدِ بن عمرٍو ودلَّسَاهُ، فحينئذٍ لا يجوزُ الاحتجاجُ جهذه الطُّرقِ، ولا يُقالُ:"يُقوِّي بعضُها بعضًا"؛ إذ مَدارُها على ذلك الكذَّاب.
يبقى حديثُ ابنِ عُمَر، وفيه كذَّابٌ آخرُ.
فالحقُّ أن الحديثَ ساقِطٌ عن حدِّ الاعتبار، ولا يصحُّ فيه إلَّا الإرسالُ.
وقد قال المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(4/ 157): "وقد حسَّن بعضُ مشايخِنَا إسنادَه. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّه من رواية خالد بن عمرٍو القُرشيِّ الأُمويِّ، عن سُفيان الثَّوريِّ، عن أبي حازمٍ، عن سهلٍ. وخالدٌ هذا قد تُرِكَ واتُّهِمَ، ولم أَرَ من وَثَّقه، لكن على هذا الحديث لامِعَةٌ من أنوار النُّبوَّة، ولا يمنَعُ كونُ راويه ضعيفًا أن يَكُونَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قالَهُ. وقد تابَعَهُ علَيه مُحمَّدُ بنُ كَثير الصَّنعانيُّ، عن سُفيانَ. ومحُمدٌ هذا قد وُثِّق، على ضعفه، وهو أصلحُ حالًا من خالدٍ. والله أعلم" ا. هـ.
• قلتُ: فكأنَّ المُنذِريَّ رحمه الله مَشَّى الحديثَ لأمرين:
الأول: "لا يمنع كونُ راويه ضعيفًا أن لا يكون النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قالَهُ".
الثاني: أنَّهُ "تابعه مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ، وهو أصلحُ حالًا".
والجوابُ من وجهين أيضًا:
الأول: أن العُمدة في حُكمِنا على الرِّاوية بالثُّبوت من عَدَمِه، هي العِلمُ بأحوال الرُّواة. واحتِمالُ أن يَصدُق الكاذبُ، أو يُصيبَ الواهمُ، احتمالٌ لم ينشأ من دليلٍ يُرجَع إليه، فلا يُعوَّلُ عليه.
الئَّانِي: أن العُقيليَّ قد جَزَم أنَّه ليس له عن الثَّوريِّ أصلٌ، وقال:"لعلَّ مُحمَّدَ بنَ كَثيرٍ دلَّسهُ عن خالدِ بن عمرٍو"، فلا يَكُونُ متابِعًا له. والتِبَاسُ هذا الأمرِ، لعلَّهُ الذي دَفع بعض الحُفَّاظ إلى تحسين الحديث، فقد حسَّنَهُ النَّوَويُّ في "الأذكار"، والعِراقيُّ في "أماليه" - كما في "الفُتوحات الرَّبَّانية"(7/ 337) -، وهو ظاهِرُ قولِ السَّخاوِيِّ في "المقاصد"،
ونقل ابنُ عَلَّانَ في "الفتوحات"(7/ 338)، عن ابن حَجَرٍ الهَيتمِيِّ الفقيهِ أنَّه قال:"يُجابُ بأنَّ ذلك الرَّاوِي - يعني خالدًا - ذَكَره ابنُ حِبَّانَ في "كتاب الثِّقات"، ولو سُلِّم أنَّهُ ضعيفٌ، فلَم يَنفَرِد به، بل رَوَاهُ آخرُون غيرُه، فالتَّحسينُ إنَّما جاء مِن ذلك. ولو قِيلَ: إنَّ هؤُلاء كلَّهم ضعفاءُ، إِذ غايةُ الأمر أنَّه حَسَنٌ لغيره لا لذاته، وكِلَاهُما يُحتَجُّ به، بل بعضُ رواته هؤلاء وثَّقه كثيرُون من الحُفَّاظ" ا. هـ.
• قلتُ: وليس فيما قاله شيءٌ من التَّحقيق، فهُو بالرَّدِّ حقيقٌ! والعجيب، أنَّه بدأ المقالة بتوثيقِهِ:"ولو سُلِّم أنَّه ضعيفٌ، فلم يَنفَرِد به"، مع أنَّه يعلم أن الحُفَّاظ أسقطوه، والواحدُ منهم أَثبَتُ من ابن حِبَّانَ، فكيف بهم مُجتمعين!
وسامح الله ابنَ حِبَّانَ يُدخِلُ مثلَ هذا في كتاب "الثِّقات"، ويَشِحُّ على بقيَّةَ بن الوليد، فلا يَذكُرُه فيه!!
واتَّفَقَ العُلماءُ على إِسقاطِ خالدِ بن عمرٍو، مِنهُم: أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ، والبُخاريُّ، وأبُو زُرعَة، والنَّسائِيُّ، وأبُو داوُد، والسَّاجيُّ، وصالحٌ جزَرةُ، وأبو حاتمٍ، وآخرُون.
بل إنَّ ابنَ حِبَّانَ - الذي تعلَّق الهيتميُّ بتوثيقه - ذَكَرَ خالدًا في "المجروحين"(1/ 283)، وقال:"كان مِمَّن ينفَرِد عن الثِّقاتِ بالموضُوعات. لا يحلُّ الاحتجاجُ بخبَره. تَرَكه يحيى بنُ مَعينٍ" ا. هـ.
وأغلَبُ المتأخِّرين، مِمَّن لم يتعانَ النَّقد الحديثيَّ، يَظُنُّ أن مُجرَّد تعدُّد الطُّرُق يُقوِّي الحديثَ، كما فعل الهيتَمِيُّ، غيرَ ناظرٍ إلى قَدر الضَّعف،
وهل هو شديدٌ أم خفيفٌ. وكم من أحاديثَ ضعيفةٍ، بل موضُوعةٍ صُحِّحَت أو حُسِّنت بسبب الغفلة عن اصطلاح أهل الحديث. فلا قُوَّة إلَّا بالله.
فيَظهَرُ من التَّحقيق، أنَّهُ لا حُجَّة لمن قوَّى الحديثَ، تصحيحًا أو تحسينًا، ونقل ابنُ عَلَّانَ في "الفتوحات"(7/ 337)، عن الحافظ قولَهُ:"حديثُ سهلٍ لا يَصحُّ، ولا يُطلَق على إسناده أنَّه حَسَنٌ" ا. هـ.
وهذا الذي ذكرتُهُ هو خُلاصهُ التَّحقِيقِ في هذا الحديث، والمَقامُ يَحتَمِلُ البَسطَ.
واللهُ تعالى أعلمُ.
81 -
سُئلتُ عن حديث: "عَلَيكُم بِخِضَابِ السَّوَادِ، فَإِنَّهُ أَرعَبُ لَكُم فِى صُدُورِ عَدُوِّكُم، وَأَرغَبُ لَكُم فِى صُدُورِ نِسَائِكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه ابنُ ماجَهْ (3625) عن عُمَر بن الخَطَّاب بن زكريَّا الرَّاسبِيِّ. .
وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 2/ ق 536) عن سعيد بن عبد الجبار. .
ونَجمُ الدِّين النَّسَفيُّ في "أخبار سمَرقند"(ص 329) عن عُبيد الله بن عمرٍو. .
ثلاثتُهم قالُوا: حدَّثنا دَفَّاعُ بن دَغْفَلٍ السُّدوسِيُّ، عن عبد الحميد بن صَيفِيٍّ، عن أبيه، عن جدِّه صُهيبٍ الخيرِ فذكرَهُ مرفُوعًا.
ولفظُ ابن ماجَهْ: "إِنَّ أَحسَنَ مَا اختَضَبتُم بِهِ لهَذَا السَّوَادُ؛ أَرغَبُ لِنِسَائِكِم فِيكُم، وَأَهيَبُ لَكُم فِي صُدُورِ عَدُوِّكُم".
ونَقَلَ الشَّيخُ مُحمَّد فُؤاد عبد الباقِي، عن البُوصيريِّ، أنَّهُ قال في "الزَّوائد":"إسنادُهُ حَسَنٌ"، وَلَم أجد هذا الكلام في "الزَّوائِد"(156/ 3). ولو ثَبَت أنَّه فيه، وسقَطَ من النُّسخة، فهُو خطأٌ، لأنَّ أبا حاتمٍ
الرَّازيَّ ضعَّفَ دَفَّاع بن دَغفَلٍ - كما في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ 445) -، واعتمد تضعِيفَه الحافظُ في "التَّقريب".
ثُمَّ إِنَّ متن هذا الحديث مُنكَرٌ. .
فأخرج مُسلِمٌ (14/ 79 - شرح النَّوَويِّ)، وأصحابُ السُّنَن إلَّا التِّرمذيُّ، من حديث جابرٍ رضي الله عنه، قال: أُتِي بأبي قُحافة - وهو والد أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنهما - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، كأنَّ رأسَهُ ثُغامةٌ بيضاءُ، فقال:"غَيِّرُوه، وَجنِّبُوه السَّواد"، وهذا لفظ مُسلِمٍ.
وأخرجَهُ أحمدُ (3/ 160) من حديث أنسٍ بنحوِهِ.
وسَنَدُه صحيحٌ، كما قال الحافِظ في "الإصابة"(7/ 238).
وفي الباب عن غيرِهِما.
ففي هذه الأحاديث النَّهيُ عن الصَّبغ بالسَّوَاد، وهي أصحُّ.
واللهُ أعلمُ.
82 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذَا أَكَلتُمُ الفِجلَ، فَأَرَدتُم أَن لَا تَجِدُوا رِيحَهُ، فَاذكُرُونِي عِندَ أَوَّلِ قَضمَةٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ، ظاهرُ البُطلان لِكُلِّ من شمَّ رائحة الحديث، ولو مَرَّةً في حياته!
ورأيتهُ في "أخبار سمرقند"(ص 302 - 303) بسندٍ ضعيفٍ جدًّا، عن ابن مَسعُود.
83 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا تُوضَعُ النَّوَاصِي إِلَّا فِي حَجٍّ، أَو عُمرَةٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه البزَّارُ (1134)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 70)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(6/ 2214)، والخطيبُ (3/ 239)، والطَّبرانيُّ في "الأوسط"(9475) من طريق مُحمَّدِ بن سُليمان بن مَسمُولٍ، حدَّثَني عُمَرُ بنُ مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن أبيه، عن جابرٍ مرفُوعًا فذكره.
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عُمَرَ بن مُحمَّد بن المنكدر، إلَّا مُحمَّدُ بنُ سُليمان بن مَسمُولٍ".
وقال البزَّارُ: "لا نَعلَمُه عن جابرٍ إلَّا بهذا الإسناد. وعُمَرُ حدَّث بأحاديث عن كتابٍ، فوقع في النَّفس مِنهُ تُهمَةٌ، وإلَّا فأصلُ الحديث معروفٌ" ا. هـ.
• قلتُ: ومُحمَّدُ بنُ سُليمان بن مسمولٍ ضعيفٌ، وفيه توثيقٌ ليِّنٌ.
وقد خالَفَهُ نافعُ بنُ مُحَمَّدٍ، فرواه عن عُمَو بن مُحمَّد بن المنكدر، عن أبيه قال:"لا تُوضَعُ النَّواصِي إلَّا في حجٍّ، أو عُمرةٍ"، يعني الحلْقَ.
أخرجَهُ العُقيليُّ (4/ 70) من طريق سُفيان، حدَّثَنا رجُلٌ يُقال له: نافعُ بنُ مُحمَّدٍ فذكره.
قال العُقيليُّ: "وهذا أَولَى"، وهو يَعنِي أنَّه بقول مُحمَّدِ بن المُنكدِر أشبَهُ مِنهُ مرفُوعًا.
وقد وَقَفتُ على طريقٍ آخرَ للحديث المرفُوعِ. .
فأخرجه الرَّامَهَرمُزِيُّ في "المُحدِّث الفاصل"(604) من طريق أحمدَ بن سُليمان بن هاشمٍ، ثنا مُحمَّدُ بنُ إسماعيل بن الأشجِّ، قال: سألتُ يُوسُفَ بنَ مُحمَّد بن المُنكَدِريِّ، قُلتُ: أَأَخبَرَكَ أبُوك أن جابرًا حدَّثه، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذَكَرَه.
وسندُهُ ضعيفٌ؛ ويُوسُفُ بنُ مُحمَّد بن المُنكَدِر ترَكَهُ النَّسائيُّ، والدُّولابيُّ، وضَعَّفه أبو داوُد، وأبُو حاتمٍ، والعُقيليُّ، وابنُ حِبَّانَ.
ومشَّاهُ أبُو زُرعة، وابنُ عديٍّ.
وله شاهدٌ من حديث ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا: "لا تُوضَعُ النَّواصِي إلَّا لله في حجٍّ، أو عُمرةٍ".
أخرجه بَحشَلُ في "تاريخ واسط"(ص 254 - 255) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ سهل بن عُبيد الله، قال: ثنا سَعيدُ بنُ سالمٍ، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا.
وعليُّ بنُ سهلٍ لم أَجِد له ترجمةً.
وابنُ جُريجٍ مُدلِّسٌ، ولَم يُصرِّح بتحديثٍ.
لكنَّهُ لم يتفَرَّد به. .
فتابعه عبدُ الملك بنُ جَريرٍ، قال: حدَّثَنِي عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ، مرفُوعًا مثلَهُ، وزادَ:". . . فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمُثلَةٌ".
أخرجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية" (8/ 139، من طريق عُمَر بن بِشرٍ المكيِّ، ثنا فُضيلُ بنُ عِياضٍ، قال: سمعتُ عبدَ الملك بن جَريرٍ.
• قلتُ: كذا وقع في "الحلية": "عبدُ الملك بنُ جَريرٍ"، ولم أجِدْهُ، فكأنَّ صوابَهُ:"عبدُ الملك بنُ جُريجٍ"، ولم أَجِد مَن نصَّ علَى رِوايةِ الفُضيلِ عَنهُ، وإِن كان روايتُهُ عنه مقبولَةً؛ لأنَّهُ من طَبَقة الآخِذين عن ابن جُريجٍ، فإن صحَّ ذلك، فتكونُ المُتابَعة من الفُضيلِ لسعيدِ بن سالمٍ.
ولكِن قالَ أبُو نُعيمٍ عَقِبَ الرِّواية: "غريبٌ مِن حديث الفُضَيل، لَم نَكتُبه إلَّا مِن هذا الوجه".
84 -
سُئلتُ عن حديث: "عُرِضَت عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى القَذَاة وَالبَعرَة يُخرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسجِدِ، وَعُرِضَت عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَم أَرَ ذَنبًا أَكبَرَ مِن آيَةٍ أَو سُورَةٍ مِن كِتَابِ الله، أُوتِيهَا رَجُلٌ، فَنَسِيَهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أبو داوُد (461)، والتِّرمذيُّ (2916)، وابنُ خُزَيمة (ج 2/ رقم 1297)، وأبُو يَعلَى (ج 7/ رقم 4265)، والبَيهقيُّ في "الكُبرَى"(2/ 440)، وفي "الشُّعَب"(1814)، والخطِيبُ في "الجامع"(1/ 109)، والبَغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 364)، وابنُ الجَوزيِّ في "الواهيات"(1/ 109) من طريق عبد المجيد بن أبي رَوَّادٍ، عن ابن جُريجٍ، عن المُطَّلِبِ بن عبد الله، عن أنسٍ مرفُوعًا.
قال التِّرمذيُّ: "غريبٌ". واستغربه أيضًا البُخاريُّ، وأعلَّه بالانقطاع بين المُطَّلِب وأنسٍ. وأعَلَّه الدَّارَقُطنيُّ بالانقطاع بين ابن جُريجٍ والمُطَّلِب.
وقَد اختُلِف فيه على عبد المجيد، وعلى ابن جُريجٍ معًا.
وأقوى الوُجوه عِندي: ما رَواهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنِّف"(ج 3/ رقم 5977)، وعنه الطَّبرانيُّ، والخطيبُ في "الجامع"(1/ 108) عن ابن جُريجٍ، عن رَجُلٍ، عن أَنَسٍ.
والحديثُ على أيِّ وجهٍ كان لا يَصِحُّ. واللهُ أَعلَمُ.
85 -
سُئلتُ عن حديث: "أَعرِبُوا القُرآنَ، وَالتَمِسُوا عرَائِبَهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(10/ 456)، وأبُو يَعلَى (ج 11/ رقم 6560)، والحاكِمُ (2/ 439)، وعنه البَيهقيُّ في "الشُّعَب"(ج 5/ رقم 2093، 2094، 2095)، وأحمدُ بن مَنِيعٍ في "مُسنَده" - كما في "المطالب العالية"(3/ 298)، والخَطيبُ في "تاريخه"(8/ 77 - 78)، وابنُ الأَنبَارِيِّ في "الوقف والابتداء"(ص 5) مِن طُرُقٍ عن عبد الله بن سعيدٍ المَقبُريِّ، عن جَدِّه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وعبدُ الله بنُ سعيدٍ مَترُوكٌ، وبِهِ أعلَّ الحديثَ الهَيثَميُّ في "مَجمَع الزَّوائد"(7/ 163).
أمَّا الحاكِمُ فَصحَّحَه، فردَّه الذَّهَبيُّ بقوله:"بل أُجمِعَ على ضعفِهِ".
واللهُ أعلَمُ.
86 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الَّذَي لَيسَ فِي جَوفِهِ شَيءٌ مِنَ القُرآنِ كَالبَيتِ الخَرِبِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه التِّرمذيُّ (2913) وصحَّحَه، وأحمدُ (1/ 223)، والدَّارِميُّ (2/ 308)، والحاكِمُ (1/ 554) وصحَّحَه، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(12619)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(6/ 2082)، والسَّهمِيُّ في "تاريخ جُرجَانَ"(ص 412)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(1793)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(4/ 443) مِن طُرُقٍ عن جَرير بن عبد الحميد، عن قابوسَ بن أبي ظَبيانَ، عن أبيه، عن ابن عباسٍ مرفُوعًا.
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ لأجل قابوسَ هذا، فقد ليَّنَه النَّسائيُّ، وقال أبو حاتمٍ:"لا يُحتَجُّ به"، وقال ابنُ حِبَّانَ:"رديءُ الحفظ. ينفَرِدُ عن أبيه بما لا أَصلَ لَهُ، فرُبَّمَا رفَع المُرسَل، وأَسنَد الموقُوفَ"، وكان ابنُ مَعينٍ شديدَ الحَطِّ علَيهِ، وقد وثَّقَهُ في روايةٍ، ولمَّا صَحَّح الحاكِمُ إسنادَه، ردَّه الذَّهَبيُّ، بقوله:"قابوسٌ: لينٌ".
87 -
سُئلتُ عن حديث: "الآيَتَانِ مِن آخَرَ سُورَةِ البَقَرَةِ: مَن قَرَأَ بِهِما فِي لَيلَتِهِ كفَتَاهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه البُخاريُّ (9/ 55، 87)، ومُسلِمٌ (807/ 255)، وأبُو داوُد (1397)، والنَّسَائيُّ في "اليوم واللَّيلة"(718 - 720)، والتِّرمذِيُّ (2881)، وابنُ ماجَهْ (1369)، والدَّارِمِيُّ (1/ 349، و 2/ 450)، وأحمدُ (4/ 122) من طُرُقٍ عن منصُور بن المُعتَمر، والأعمشِ، عن إبراهيم، عن عَلقَمة، وعبدِ الرَّحمن بن يزيدَ، عن أبي مسعُودٍ الأنصاريِّ مرفُوعًا.
88 -
سُئلتُ عن الحديث القُدسيِّ: "مُرُوا بِالمَعرُوفِ، وَانهَوْا عَنِ المُنكَرِ، مِن قَبلِ أَن تَدعُونِي فَلَا أُجِيبُكُم، وَتَسأَلُونِي فَلَا أُعطِيكُم، وَتَستَنصِرُونَنِي فَلَا أَنصُرُكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه أحمدُ (6/ 159)، والبزَّارُ (3304، 3305)، وابنُ حِبَّانَ (1841) من طريق عمرِو بن عُثمان، عن عاصمِ بن عُمَر بن عُثمان، عن عُروة، عن عائشة، قالَت: دَخَلَ عليَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَعرَفتُ في وجهِهِ أَنْ قد حفَزَهُ شيءٌ، فتوضَّأَ، ثُمَّ خرَج فلَم يُكَلِّم أحدًا، فدَنَوتُ من الحُجُرات، فسَمِعتُه يقولُ: "يَا أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله عز وجل يقولُ:
…
"فذكَرَه.
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (4004) مِن هذا الوَجهِ، ولكِنَّهُ جَعَلَ الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس عن اللهِ عز وجل.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ وعاصمُ بن عُمَر ليس بمعرُوفٍ، كما قال الذَّهَبيُّ.
وبه أعل الحديثَ الهَيثميُّ في "المَجمَع"(7/ 266).
وقال العِراقِيُّ في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 304): "في إسنادِهِ لِيْنٌ".
واللهُ أعلمُ.
89 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن تَرَكَ الصَّفَّ الأَوَّلَ مَخَافَةَ أَن يُؤذِيَ أَحَدًا، أَضعَفَ اللهُ لَهُ أَجرَ الصَّفِّ الأَوَّلِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرجه الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(537) مِن طريق الوَلِيد بن الفضل العَنَزِيِّ، نا نُوحُ بنُ أبي مريمَ، عن زيدٍ العَمِّيِّ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا فذكره.
قال الطَّبرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن ابن عبَّاسٍ، إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّدَ به الوليدُ بن الفضل" ا. هـ.
• قُلتُ: والوليدُ، ترجَمَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(4/ 2/ 13)، ونَقَلَ عن أبيه، قال:"مجهولٌ".
وترجمه ابن حِبَّانَ في "المجروحين"(3/ 82): "شيخٌ يَروِي المناكيرَ، التي لا يَشكُّ مَن تبحَّر في هذ الصِّناعة أنَّها موضُوعةٌ. لا يَجُوز الاحتجاج به بحالٍ إذا انفرَد" ا. هـ.
ولم يتفرَّد بِهِ كما قال الطَّبَرانيُّ. .
بل تابعه أَصرَمُ بن حَوشَبٍ، ثنا نُوحُ بنُ أبي مَريمَ به، بلفظ:"مَن ترَكَ الصَّفَّ الأوَّل مخافة أن يُؤذِيَ مُسلمًا، فقام في الصَّفِّ الثَّاني أو الثَّالِث، ضاعَف اللهُ له أجرَ الصَّفِّ الأوَّل".
أخرَجَهُ ابنُ عديٍّ في "الكامل"(7/ 2507).
وهذه المُتابَعةُ كسرابٍ بِقيعةٍ؛ وأَصرَمُ بنُ حَوشَبٍ، أَصرَمٌ مِنَ الخَيرِ والفَضلِ، فقد كان كذَّابًا خبيثًا، كما قال ابنُ مَعِينٍ. وقال ابنُ حِبَّانَ:"كان يَضَعُ الحديث على الثِّقاتِ". وتَرَكَهُ البُخاريُّ، ومُسلِمٌ، والنَّسَائيُّ.
وأيضًا، في إسنادِهِ نُوحُ بن أبي مَريمَ، وكان يُلقَّب بـ "الجامع"؛ لأنَّهُ جَمَعَ عُلُومًا كثيرةً، لكنَّهُ كان يَضَعُ الحديثَ، وَيكذِبُ على رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وهُو الذي وَضَع الأحاديث في فضائلِ سُوَر القُرآن، فلمَّا سُئل عن ذلك، قال:"رَأيتُ النَّاسَ شُغِلوا بفقه أبي حَنيفة، ومغازِي ابن إسحاق عن قِراءَةِ القُرآن، فوَضَعتُ هذه الأحادِيثَ، حِسبَةً لله تعالى"! فما أشدَّ غفلَتَهُ! إذ يتَقرَّبُ إلى الله تعالى بالكذِبِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد صَدَوا ابن حِبَّانَ، إذ قال فيه:"جَمَعَ كُلَّ شيءٍ، إلَّا الصِّدقَ".
وفي الإسنادِ أيضًا: زَيدٌ العمِّيُّ، وهو ضعيفٌ.
وقد رَوَى ابن حِبَّانَ هذا الحديث في "المجروحين"(3/ 48 - 49) من طريق أصرمَ بن حوشبٍ بسنده سواءٌ، ثُمَّ قال:"وأصرَمُ بن حَوشبٍ، وزيدٌ العمِّيُّ قد تبرَّأنا مِن عُهدَتهِما". فالسَّنَد في غاية السُّقُوط.
ثُمَّ معناه مُنكَرٌ؛ لأنَّه يُخالِف الأحاديث الصَّحيحةَ، التي تُرَغِّب في الصَّفِّ الأوَّلِ، حتَّى لَو وَصَلَ الأمرُ إلَى إجراءِ القُرعة: مَن يظفَرُ بالفُرجَةِ في الصَّفِّ الأوَّل؟
فأخرج البُخاريُّ (2/ 208)، عن أبي هُريرة مرفُوعًا:"ولَو يعلَمُون ما في الصَّفِّ المُقدَّم لاستَهَمُوا".
قال الحافِظُ في "الفتح": "والصَّفُّ المُقدَّمُ: هو الذي لا يَتقَدَّمُه إلَّا الإمامُ".
وهُو عند مُسلِمٍ (439)، ولفظِه:"لو يَعلَمُون ما في الصَّفِّ المُقدَّم، لكانَت قُرعَةً".
وأخرج مُسلِمٌ (440) وغيرُه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"خَيرُ صُفُوفِ الرِّجال أوَّلهُا. . . الحديث".
وأخرج مُسلِم (438/ 130)، والنَّسَائيُّ (2/ 83)، وابنُ خُزَيمة (156) عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، قال: رَأَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخُّرًا، فقال لَهُم:"تَقدَّمُوا، فأْتَمُّوا بِي، ولْيَأتَمَّ بِكُم مَن بعدكم، لا يزال قومٌ يتأخَّرُون، حتَّى يُؤخِّرَهم الله".
وبوَّب عليه ابنُ خُزَيمة بقوله: "بابُ التَّغليظِ في التَّخلُّف عن الصَّفِّ الأوَّل".
والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ.
واللهُ أعلَمُ.
90 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ لِلصَّلَاةِ المَكتُوبَةِ عِندَ الله وَزنًا، مَن انتَقَصَ مِنهَا شَيئًا، حُوسِبَ بِهِ فِيهَا عَلَى مَا انتَقَصَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ.
أخرجَهُ الأصبهانيُّ في "التَّرغيب"(1892) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي إسناده أبو بكرٍ بنُ عبد الله بن أبي سَبرَةَ، وهو هالكٌ البتَّة. قال أحمد:"كان يَضَعُ الحديث"، وكذلك قال ابنُ حِبَّانَ، وابنُ عديٍّ، وتركه النَّسَائيُّ، وقال البُخاريُّ:"مُنكَرُ الحديث"، وهو جرحٌ شديدٌ عِندَه.
والحديثُ ضعَّفه المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(رقم 742)، فصدَّرَهُ بقوله:"رُوِيَ"، كما هو مُصطَلُحه في كتابه، وكان حقُّه أن يُحذَف من الكتاب؛ فأمثال هذه الأحاديث لا خيرَ فيها، ولا فائدةَ مِن نشرها.
واللهُ أعلَمُ.
91 -
سُئلتُ عن صِحَّة ومعنى حديث: "مَن غسَّلَ وَاغتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابتكرَ، وَمَشَى وَلَم يَركَب، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ، فَاستَمَعَ وَلَم يَلغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطوَةٍ عَمَلُ سنَةٍ، أَجرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجَهُ أبو داوُد (2/ 10 - 11)، والنَّسَائيُّ في "المُجتَبَى"(3/ 95 - 96)، وفي "كتاب الجُمعة"(31)، والتُّرمذيُّ (3/ 3 - 4) وقال:"حديثٌ حَسَنٌ"، وابنُ ماجَهْ (1/ 377 - 378)، والدَّارِميُّ (1/ 302)، وأحمدُ في "المُسنَد"(4/ 8، 9، 10، 104) وآخَرُون، مِن حديث أَوسِ بن أبي أَوسٍ رضي الله عنه.
وصحَّحه ابنُ خُزَيمة (3/ 128 - 129)، وابنُ حِبَّانَ (599)، والحاكمُ (1/ 281 - 282).
أمَّا معناه. .
فقال ابنُ خُزيمة: "معناه: جَامَع فأوجَبَ الغُسلَ على زوجته أو أَمَتِه، واغتَسَل هُوَ". فقوله: "غَسَّلَ" بتشديد السِّين.
وقال الخطَّابي في "معالم السُّنَن"(1/ 108): "قولُهُ: "غَسَّلَ وَاغتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابتكَرَ"، اختَلَف النَّاس في معناهُما، فمِنهُم مَن ذَهَب إلى أنَّهُ مِنَ الكَلَام المُتظاهِر الذي يُراد به التَّوكيد، ولَم تَقعِ المُخالَفة بين
المعنيين؛ لاختلاف اللَّفظَين. وقال: أَلَا تَراه يقُولُ في هذا الحديث: "وَمَشَى وَلَم يَركَب" ومعناهُما واحدٌ. وإلى هذا ذهب الأَثرمُ صاحبُ أحمدَ.
وقال بعضُهم: قولُه: "غَسَّلَ" معناه: غَسلُ الرَّأس خاصَّةً؛ وذلك لأنَّ العرب لهُم لِمَمٌ وَشُعُورٌ، وفي غسلها مَؤُونة، فأفرد ذكرَ غسل الرَّأس من أجل ذلك. وإلى هذا ذَهَب مكحولٌ. وقولُه:"وَاغتَسَلَ" معناهُ: غَسَلَ سائرَ الجسَد.
وزعم بعضُهم أن قوله: "غَسَّلَ" معناه: أصاب أهلَه قبل خُروجه إلى الجُمعة؛ ليكُون أملَكَ لنفسه، وأحفظَ في طريقِهِ لبَصرِه. قال: ومِن هذا قولُ العَرَب: "فَحْلٌ غُسَلَةٌ" إذا كان كثيرَ الضِّراب.
وقولُه: "بَكَّرَ وَابتكَرَ"، زعم بعضُهم أن معنَى "بَكَّرَ": أدرك باكُورَة الخُطبة، وهي أوَّلهُا. ومعنى "ابتكَرَ": قدَّم في الوَقتِ.
وقال ابنُ الأنباريِّ: "معنى "بَكَّرَ": تصدقَّ قبل خُروجِه"، وتأوَّل في ذلك ما رُوِي في الحديث، من قوله:"بَاكِرُوا بالصَّدَقة؛ فإنَّ البلاء لا يتخطَّاها" انتهى كلامُ الخطَّابيِّ.
والحديثُ الذي ذَكرَه ابنُ الأنباريِّ، أخرجه البيهقيُّ في "شُعَب الإيمان" (3353). وفي إسناده بِشرُ بن عُبيدٍ: مُنكَرُ الحديث جدًّا.
ورجَّح المُنذريُّ في "التَّرغيب"(1286) أنَّه موقُوفٌ على أنسٍ. واللهُ أعلَمُ.
وأخرجه الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5643)، وفي إسناده عيسى بن عبد الله: متروكٌ، واتُّهم بالوضعِ.
92 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن جَمَعَ مَالًا حَرَامًا، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ، لَم يَكُن لَهُ فِيهِ أَجرٌ، وَكانَ إِصرُهُ عَلَيهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرجه ابنُ خُزَيمة (2471)، وابنُ حِبَّانَ (797)، والحاكِمُ (1/ 390)، وابنُ الجارودِ (336)، والبَيهقيُّ (4/ 84) مِن طريق عمرِو بن الحارِث، حدَّثَني دَرَّاجٌ أبو السَّمح، عن ابن حُجَيرةَ، عن أبي هُريرة مرفُوعًا:"إِذَا أدَّيت زكاة مالِك، فقد قضيتَ ما عَلَيك فيه، ومن جَمَع مالًا حرامًا. . . الحديث".
وأخرج أوَّلَه: التِّرمذيُّ (618)، وابنُ ماجَهْ (1788)، والبَغَويُّ في "شرح السُّنَّة"(6/ 67).
وقال التِّرمذيُّ: "حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ".
وضعَّف إسنادَهُ الحافِظ في "التَّخليص"(2/ 160).
أمَّا الحاكِمُ فقال: "صحيحُ الإسناد"، كذا نقلَهُ المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(1114)، والذي رأيتُهُ في "المُستَدرَك" أنَّه قال:"شاهِدٌ صحيحٌ من حديث المصريِّين".
والصَّوابُ عندي أن هذا الإسنادَ حسنٌ؛ ودَرَّاجٌ صدُوقٌ متماسِكٌ، وإنَّما وقَعَت المناكيرُ في روايته عَن أبي الهَيثَم، وليس هذا مِنها. واللهُ أعلَمُ.
93 -
سُئلتُ عن حديث: إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى قَبرٍ، فَأَشَارَ إِلَيهِ، وَقَالَ:"رَكعَتَانِ، أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِ هَذَا القَبرِ مِن دُنيَاكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(925) قال: حدَّثَنا أحمدُ، قال: نا حَفصُ بنُ عبد الله الحُلوانيُّ، قال: نا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، عن أبي مالكٍ الأشجعيِّ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرٍ. . . وذَكَرَه.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن أبي مالكٍ، إلَّا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، تفرَّد به حفصُ بنُ عبد الله".
• قُلتُ: وهو صَدُوقٌ، كما قال أبو حاتمٍ.
وشيخُ الطَّبَرانيُّ هو أحمد بن يحيى الحُلوانيُّ: ثقةٌ، وانظر "تاريخ بغداد"(5/ 212).
وبقيَّةُ رجالِه مشاهيرُ، من رجال "التَّهذيب".
وقال المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(556): "إسنادُهُ حَسَنٌ".
وقال الهيثميُّ في "المَجمَع"(2/ 249): "رجالُهُ ثقاتٌ".
94 - سُئلتُ: هَل ثَبَت أن أحدًا من الأئمة السِّتَّة رَوَوْا عن بعضِهم في كُتُبهم المشهورةِ المتداوَلة؟ أو في غيرِها؟
• قلتُ: نعم!
أمَّا التِّرمذيُّ. .
فرَوَى في "سُنَنه" حديثًا واحِدًا عن الإمام مُسلِمٍ. .
وذلك في "كتاب الصِّيام" رقم (687) قال: حدَّثَنَا مُسلِمُ بنُ حجَّاجٍ، حدَّثنا يحيى بنُ يحيى، حدَّثنا أبُو مُعاوِية، عن مُحمَّد بن عمرٍو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُريرَة، مرفُوعًا:"أَحصُوا هِلالَ شَعبانَ لرمضان".
أمَّا النَّسائيُّ. .
فوقَعَ في رواية ابن السُّنِّيِّ عنه، أنَّهُ رَوَى عن البُخاريِّ. .
وذلك في "كتاب الصِّيام"(4/ 125)، قال: أخبَرَنَا مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ البُخاريُّ، قال: حدَّثَني حفصُ بنُ عُمَر بن الحارث، ثنا حمَّادٌ، ثنا مَعمَر، والنُّعمانُ بنُ راشدٍ، عن الزُّهريِّ، عن عُروَة، عن عائِشَة قالَت: ما لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن لَعنَةٍ تُذكرُ. كان إِذَا كان قريبَ عَهدٍ بجبريل عليه السلام يُدارِسُه، كان أَجوَد بالخير مِنَ الرِّيح المُرسَلة.
قال في "الأطراف": "كذا رَوَاهُ أبُو بكرٍ بنُ السُّنِّيِّ، عن النَّسائِيُّ، عن مُحمَّد بن إِسماعِيل" فحسب، ولَم يَذكُر فيه البُخاريَّ. وفي نُسخةٍ:"هو أبُو بكرٍ الطَّبرانيُّ".
ولَم أَجِد روايةً في "المُجتَبَى" عن البُخاريِّ قطُّ. وأَعتَقِد أنَّ ذِكرَ البُخاريِّ في هذا المَوضعِ غلَطٌ.
وقد وقَفتُ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 2/ 412) للبُخاريِّ على ترجمةِ: "يُونُسَ بن راشدٍ الحَرَّانيِّ"، فقال البُخاريُّ:"قال أحمدُ بنُ شُعيبٍ: كان راعيًا"، فعلَّق على ذلك الشيخُ العَلَّامَةُ ذَهَبِيُّ العَصرِ عبدُ الرَّحمن المُعلِّميُّ رحمه الله قائلًا:"في نُسخةٍ: سعيدٌ [يعني: بدل شعيبٍ]، فإن صحَّ هذَا فالظَّاهرُ أنَّهُ أحمدُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ. وإن صحَّ الأوَّلُ فالظَّاهر أنَّهُ النَّسائيُّ صاحبُ "السُّنَن". ويُوافِقُه قولُ ابن حَجَرٍ في "تهذيب التَّهذيب": قال البُخارِيُّ: كان مُرجِئًا، وقال النَّسائيُّ: كان راعيةً، وكأنَّهُ إنَّما أَخذَ من هذا الكتابِ؛ فإنِّي لَم أرَ يُونُس في "الضُّعفاء والمتروكين" للنَّسائيِّ. وقد يُستَبعَدُ هذا، بأنَّ البُخارِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالىَ - ألَّف هذا الكتاب قديمًا، وعَرَضَهُ على إسحاق بن راهَوَيْه، فإِن كانَ قد لَقِيَهُ النَّسَائيُّ في ذلك الوَقتِ فيكونُ سِنُّ النَّسَائيِّ حينئذٍ دُونَ العِشرين، وقد يَبعُد أن يَعتَمِد عليه البُخاريُّ في مِثلِ هذا. لكن قد يقالُ: لعلَّ البُخاريَّ أَلحَقَ هذِه العِبارَةَ في أواخرِ عُمره، فإنَّهُ كان يَزِيدُ في "التَّاريخ"، وكانت وفاةُ البُخاريِّ وعُمر النَّسائِيِّ نحو أربعين. واللهُ أعلَمُ" انتَهَى كلامُهُ.
وأمَّا روايةُ النَّسائي عَن أبي داوُد، صاحبِ "السُّنَن". .
فقد نَظَر فيها الذَّهَبيُّ في "السِّيَر"(13/ 207)، فقال:"وقد رَوَى النَّسائِيُّ في "سُنَنه" مواضِعَ يقولُ: حدَّثَنا أبو داوُد، حدَّثَنا سُليمانُ بن حَربٍ، وحدَّثَنا النُّفيليُّ، وحدَّثَنا عبدُ العزيز بن يحيى المدنيُّ، وعليُّ بنُ
المدينيِّ، وعمرُو بنُ عَونٍ، ومُسلِمُ بن إبراهيم، وأبو الوليد. فالظَّاهِرُ أن أبا داوُد في كُلِّ الأماكن هُو السِّجِستَانيُّ؛ فإنَّهُ معروفٌ بالرِّواية عن السَّبعة. لكن، شارَكَهُ أبو داوُد سُليمان بنُ سيفٍ الحرَّانيُّ في الرِّواية عن بعضِهم. والنَّسائِيُّ فمُكثِرٌ عن الحرَّانيِّ. وقَد رَوَى النَّسائيُّ في كتاب "الكُنَى"، عن سُليمانَ بن الأشعث، ولم يَكْنِه. وذَكَر الحافظُ ابنُ عساكر في "النُّبُلِ"[ص 132] أنَّ النَّسائيَّ يَروِي عن أبي داوُد السِّجستَانيِّ". انتهى. واللهُ أعلَمُ.
95 -
سُئلتُ عن حديث: "سَلمَانُ مِنَّا آلِ البَيتِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرجه البزَّارُ في "مُسنَده"(ج 2/ ق 58/ 1)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(4/ 82 - 83، و 7/ 319)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 6040)، والطَّبَريُّ في "تفسيره"(21/ 85)، وأبُو الشَّيخ في "طبقات المُحدِّثين"(6)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهانَ"(1/ 54)، والحاكمُ (3/ 598)، والبيهقيُّ في "دلائل النُّبوَّة"(3/ 418) من طريق كَثير بن عبد الله المُزَنيِّ، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندقَ عام الأحزاب، حتَّى بلغ المِدَادَ، فقَطَعَ لكُلِّ عشرةٍ أربعين ذراعًا، فاحتجَّ المهاجِرون والأنصارُ في سَلمانَ الفارسيِّ، وكان رجُلًا قويًّا، فقال المُهاجِرون:"سَلمانُ مِنَّا! "، وقالت الأنصار:"سَلمانُ مِنَّا! "، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم:"سَلمانُ مِنَّا آلِ البيت".
قال الهيثميُّ (6/ 130): "فيه كَثيرُ بنُ عبد الله المُزنيُّ، وقد ضعَّفَه الجُمهورُ، وحَسَّن التِّرمذيُّ حديثَه، وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ" ا. هـ.
• قلتُ: رَحِمَ الله الهيثميَّ؛ فحالُ كَثير بن عبد الله لا تَحتاجُ لذكر تحسين التِّرمذيِّ له؛ فإنَّ التِّرمذيَّ يُحسِّن حديثَ الضَّعيف في المُتابَعات والشَّواهِد، فيُحتَملُ أن يكون قَصدُهُ كذلك. وأحيانًا يُحسِّن حديثَ الضَّعيف ولو تَفرَّدَ، بل قد يُصحِّحُه؛ ولذلك وصفَهُ بعضُ العُلماء
بالتَّساهل. وقد روى التِّرمذيُّ لكَثير بن عبد الله حديثَ: "الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين" وحسَّنه، فردَّهُ الذَّهَبيُّ بقوله:"فَلِذَا، لا يَعتمِد العلماءُ على تحسين التِّرمذيِّ"، يعني لتساهُلِه.
وكَثيرٌ هذا ضعيفٌ جدًّا، بل نَسَبه الشَّافعيُّ وأبو داوُد إلى الكَذِب، وترَكَهُ آخَرُون، ولمَّا سكَت عليه الحاكِمُ، تعقَّبَهُ الذَّهبيُّ في "تلخيص المُستدرَك" بقوله:"سندُهُ ضعيفٌ"، والصَّواب أن يُقال: ضعيفٌ جدًّا.
وله شاهدٌ من حديث الحُسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما مرفُوعًا مثله.
أخرجه البزَّارُ، وأبو يَعلَى في "مُسنَده"، ومِن طريقه أبو الشَّيخ في "الطَّبقات"(5) مِنْ طريق النَّضر بن حُميدٍ، عن سعدٍ الإِسكافِ، عن أبي جعفرٍ مُحمَّد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جَدِّه الحُسين بن عليٍّ.
وسنَدُه ساقطٌ البتَّة؛ والنَّضرُ بنُ حُميدٍ ترَكه أبو حاتمٍ، وقال البُخاريُّ:"مُنكَر الحديث".
وسعدٌ الإسكافُ ترَكَه النَّسائيُّ، والدَّارَقُطنيُّ، بل قال ابن حِبَّانَ:"كان يَضَعُ الحديث على الفور"، نسأل الله السَّلامة، ولذلك قال ابنُ مَعِينٍ:"لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يروي عنه".
96 -
سُئلتُ عن: قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جَبَلٍ، لمَّا أرسله إلى اليمن:"الحَمدُ للهِ! الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرضِي رَسُولَ اللهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه أبو داوُد (3592، 3593)، والتِّرمذيُّ (1327، 1328)، والدَّرامِيُّ (1/ 60)، وأحمدُ (5/ 230، 236، 242)، والطَّيَالسيُّ (559)، وعبدُ بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(124)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(2/ 347، 584)، والعُقيليُّ في "الضُّعَفاء"(1/ 215)، والخطيبُ في "الفقيه والمُتفقِّه"(1/ 188، 189)، وابنُ عبد البَرِّ في "جامع العلم"(2/ 69)، والبَيهقِيُّ في "السُّنَن الكبير"(10/ 114)، وفي "المعرفة"(1/ 174 - 173)، وابنُ حزمٍ في "الإِحكام"(6/ 26، 35، و 7/ 111، 112) من طُرُقٍ عن شُعبة، قال: حدَّثَني أبو عَونٍ، عن الحارثِ بن عمرٍو ابن أخي المُغيرة بن شُعبة، عن أُناسٍ من أصحاب مُعاذٍ، عن مُعاذٍ، فذكرَه.
وقد تَكَلَّم العُلماءُ الكبارُ في هذا الحديث، وضَعَّفُوه. وأنا أجتَزِئُ بكلامِهِم هُنَا؛ لأنَّ المَقام لا يَسمَحُ بالبَسط.
فقال البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(1/ 2/ 277): "الحارثُ بنُ عمرٍو ابن أخي المُغيرة بن شعبةَ الثَّقفيُّ، عن أصحاب مُعاذٍ، عن مُعاذٍ، روى عنهُ أبُو عَوْنٍ، ولا يَصحُّ، ولا يُعرَف إلَّا بهذا. مُرسَلٌ".
وقال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ لا نَعرِفُه إلَّا من هذا الوجه، وليس إسنادُه عِندي بمُتَّصلٍ".
وقال الدَّارَقُطنيُّ في "العِلل": "رواه شُعبةُ، عن أبي عَوْنٍ هكذا، وأرسَلَهُ ابنُ مَهديٍّ، وجماعَاتٌ عَنهُ، والمُرسَلُ أصحُّ".
وقال ابنُ حزمٍ: "هذا حديثٌ ساقطٌ، لم يروِهِ أحدٌ مِن غير هذا الطَّريق، وأوَّلُ سقُوطِه أنه عن قومٍ مجهولين لم يُسَمُّوا، فلا حُجَّة فيمن لا يُعرَف من هو؟ وفيه الحارِثُ بن عمرٍو، وهو مجهولٌ لا يُعرَف مَن هو؟ ولم يأت هذا الحديثُ قطُّ مِن غير طريقِهِ"، كذا قال ابنُ حزمٍ.
وقد وَرد مِن طريقٍ آخر عند ابن ماجَهْ (55)، ولَكن في إسناده مُحمَّدُ بنُ سعيدٍ المصلوبُ، وهو كذَّابٌ.
وقال ابنُ طاهرٍ، في تصنيفٍ مُفرَدٍ له في هذا الحديث:"اعلم! أنَّنِي فَحصتُ عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصِّغار، وسألتُ عنه مَن لقيتُهُ مِن أهل العِلم بالنَّقل، فلم أَجِد غيرَ طريقين، إحداهُما: شُعبةُ، والأُخرَى: عن مُحمَّد بن جابرٍ، عن أشعثَ بن أبي الشَّعثاءِ، عن رجُلٍ من ثَقيفٍ، عن مُعاذٍ. وكلاهُمَا لا يَصِحُّ".
قال: "وأَقبَحُ ما رأيتُ فيه، قولُ إمام الحرَمين في كتاب "أصول الفقه": "والعُمدَةُ في هذا الباب على حديث مُعاذٍ"!، - قال: - وهذه
زَلَّةٌ منه، ولو كان عالِمًا بالنَّقل لما ارتكب هذه الجهالة".
قال الحافِظُ ابن حَجَرٍ تعقيبًا على ابن طاهرٍ: "قُلتُ: أساء الأدبَ على إمامِ الحَرَمين، وكان يُمكِنُه أن يُعبِّر بألينَ من هذه العِبارة، مع أن كلام إمام الحَرَمين أشدُّ ممَّا نَقَلَهُ عنه، فإنَّهُ قالَ: والحديثُ مُدوَّنٌ في "الصِّحاح"، مُتَّفَقٌ على صحَّته، لا يتطرَّقُ إليه التَّأويلُ"!! انتهى.
وقال ابنُ الجَوزيِّ في "الواهيات"(1264): "هذا حديثٌ لا يَصحُّ، وإن كان الفُقهاءُ كلهم يذكُرونه في كُتُبهم ويَعتَمِدون عليه، ولَعَمرِي! وإِن كان معناه صحيحًا، إنَّما ثبوتُه لا يُعرَف؛ لأنَّ الحارثَ بنَ عمرٍو مجهولٌ، وأصحابُ معاذٍ من أهل حمصَ لا يُعرَفُون، وما هذا طريقُهُ فلا وَجهَ لثُبوته" ا. هـ.
وقال عبدُ الحقِّ الأَشبِيليُّ: "لا يُسنَد، ولا يُوجَد من وجهٍ صحيحٍ".
وكذلك أعلَّه العُقيليُّ في "الضُّعفاء".
وقد حاوَلَ بعضُ العُلماء تقويتَهُ بما لا يَنهَضُ في سُوقِ المُناظَرة.
وقد أفاضَ شيخُنا الألبانيُّ - حفظه الله - في تضعيفِه، والرَّدِّ على من قوَّاه، في بحثٍ مُمتعٍ له في "سلسلة الأحاديث الضَّعيفة"(رقم 881)، فراجِعهُ غيرَ مأمُورٍ.
97 -
سُئلتُ عن حديث: "لَولا الأمَلُ مَما أَرضَعَت أُمٌ وَلَدًا، وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرجه الخطيبُ في "تاريخه"(2/ 52)، ومن طريقه ابنُ الجَوزيِّ في "العِلل المتناهِيَة"(1363) من طريق مُحمَّدِ بن إسماعيل بن هارون الرَّازيِّ، نا أبو نُعيمٍ، ثنا الأعمَشُ، عن حُميدٍ، عن أنسٍ مرفُوعًا:"إِنَّما الأملُ رحمةٌ من الله لأُمَّتي، لولا الأَملُ. . . الحديث".
قال الخطيبُ: "هذا الحديثُ باطلٌ بهذا الإسناد، لا أَعلمُ جاء به إلَّا مُحمَّدُ بنُ إسماعيل الرَّازيُّ، وكان غيرَ ثِقةٍ" ا. هـ.
98 -
سُئلتُ عن حديثٍ: ذَكَرَه ابنُ كَثيرٍ في "تفسيره" في سُورة "مُحمَّدٍ"، عن أبي مَسعُودٍ عُقبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خُطبَةً، فحَمِدَ الله تَعَالَى، وَأَثنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مِنكُم مُنَافِقِينَ، فَمَن سَمَّيتُ فَليَقُم"، ثُمَّ قال:"قُم يَا فُلَانُ، قُم يَا فُلَانُ"، حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ فِيكُم - أو: مِنكُم - مُنَافِقِينَ، فَاتَّقُوا الله"، - قال: - فَمَرَّ عُمَرُ رضي الله عنه بِرَجُلٍ مِمَّن سُمِّي، مُقَنَّع، قَد كَانَ يَعرِفُهُ، فَقَالَ:"مَا لَكَ؟ "، فَحَدَّثَهُ بِمَا قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ:"بُعدًا لَكَ سَائِرَ اليَومِ! ".
• قلتُ: هذا الحديثُ أخرجه البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 1/ 23)، والطَّبرانيُّ في "الكبير"(ج 17/ رقم 687)، والبَيهقيُّ في "الدَّلائل"(6/ 286) مِن طريق أبي نُعيمٍ الفضلِ بن دُكَينٍ، ثنا سُفيان الثَّوريُّ، عن سَلَمةَ بن كُهَيلٍ، عن رجلٍ، عن أبيه - قال سُفيان: أُراه عياضَ بنَ عياضٍ -، عن أبي مَسعُودٍ فذكره.
• قلتُ: كذا شَكَّ في شيخ سَلَمةَ بن كُهَيلٍ.
وقد رَوَاه وكيعُ بنُ الجرَّاح وأبُو حُذيفة معًا، عن الثَّوريِّ، عن سَلَمة، عن عياضِ بن عياضٍ، عن أبيه، عن أبي مَسعُودٍ به.
أخرجَهُ أحمدُ (5/ 273)، والبَيهقِيُّ في "الدَّلائل"(6/ 286).
قال الهَيثمِيُّ في "المَجمَع"(1/ 112): "فِيهِ عِياضُ بنُ عياضٍ، عن أبيه، ولم أَرَ مَن ترجَمَهُما" كذا قال!
وعياضُ بنُ عياضٍ، ترجمه ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(3/ 1/ 409)، وقال:"رَوَى عن أبيه، عن أبي مَسعُودٍ الأنصاريِّ، رَوَى عن سَلَمة بن كُهَيلٍ، ومُوسَى بن قيسٍ الحضرميِّ"، ولَم يَزِد على ذلك.
وأَمَّا أبُوه، فهُو عياضُ بنُ عياضٍ أيضًا، فترَجمَهُ ابنُ حِبَّانَ في "الثِّقات"(5/ 267)، وقال:"عياضُ بنُ عياضٍ، يَروِي عن أبي مَسعُودٍ. روى عنه الثَّوريُّ، وابنُه عياضُ بنُ عياضِ بن عياضٍ".
فالسَّنَد ضعيفٌ؛ لجهالَةِ عياضِ بن عياضٍ، وأبيه.
واللهُ أعلَمُ.
99 -
سُئلتُ عن حديث: "تَعَلَّمُوا اليَقِينَ، فَإِنِّي أتعلَّمُهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجَةَ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 95) مِن طريق مُوسى بن عبد الرَّحمن الأَنطَاكِيِّ، ثنا بَقِيَّةُ بنُ الوليد، عن العبَّاس بن الأخنَسِ، عن أبي خالدٍ الرَّحْبَيِّ، عن ثَورِ بن يزيدَ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"تَعَلَّمُوا اليَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا القُرآنَ، حَتَّى تَعرِفُوهُ، فَإِنِّي أتعَلَّمُهُ".
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا؛ لإعضاله، فإنَّ ثورَ بنَ يزيد بينه وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اثنان في الغالب.
ثُمَّ، بقيَّةُ بنُ الوليد يُدلِّسُ تدليس التَّسويةِ.
والعبَّاسُ بنُ الأخنسِ مجهولٌ، كما قال الذَّهَبيُّ.
وقد أخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب "اليَقين"(رقم 7) من طريق مُحمَّد بن وهبٍ الدِّمشقيِّ، نا بَقيَّةُ، عن العبَّاسِ بن الأخنس، عن ثور بن يزيد، عن خالدِ بن مَعدانَ مِن قولِهِ.
وهو أَشبَهُ من الوجه الأوَّل، وإِن كان لا يصِحُّ أيضًا؛ لِمَا تَقدَّم ذِكرُه.
واللّهُ أعلَمُ.
100 -
سُئلتُ عن حديث: "التَّدبِيرُ نِصفُ المَعِيشَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ.
أخرجه القُضاعيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(32) من حديثِ عليِّ بن أبي طالِبٍ.
والدَّيلمِيُّ في "مُسنَد الفِردَوْس" مِن حديث أنسٍ.
والطَّبَرانيُّ في "مكارم الأخلاق"(140)، والبَيهقِيُّ في "شُعَب الإيمان"، والعَسكرِيُّ في "الأمثال"، والقُضاعيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(33) مِن حديث ابن عُمَر مرفُوعًا، بلفظ:"الاقتصادُ في النَّفَقة نِصفُ العَيش".
وَكلُّها أحاديثُ ضعيفةٌ، ساقطةٌ عن حدِّ الاعتبار بها.
وسُئِلَ أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ - كما في "علل الحديث"(2/ 284) -، عن حديث ابن عُمَر، فَقال:"هَذَا حديث باطلٌ؛ ومخَيسٌ وحفصٌ مجهُولان".
ومَخيسٌ هو ابن تميمٍ، وحفصٌ هو ابنُ عُمَر.
101 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن حَجَّ وَلَم يَزُرنِي فَقَد جَفَانِي".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ.
أخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "المجروحين"(3/ 73)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(7/ 2480)، والدَّارَقُطنيُّ في "العلل" - كما في "الدُّرِّ المنثور"(1/ 237) - مِن طريق النُّعمانِ بن شِبْلٍ، حدَّثَنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا فذَكَره.
وهذا حديثٌ موضُوعٌ، كما قال الذَّهَبيُّ في "الميزان"(4/ 265)؛ وآفَتُه النُّعمانُ بنُ شِبْلٍ، فقد قال مُوسَى بنُ هارونَ الحمَّالُ:"كان مُتَّهَمًا"، وقال ابنُ حِبَّانَ:"يأتي عن الثِّقاتِ بالطَّامَّات، وعن الأثبات بالمقلُوبات".
وَحَكَمَ شيخُنا الألبانيُّ على هذا الحديثِ بالوضع في "الضَّعيفة"(رقم 45)، ثُمَّ قال:"ومِمَّا يَدُلُّ على وضعِهِ، أن جَفَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الذُّنوب الكبائرِ، إن لم يَكُن كفرًا. وعليه فَمَن تَرَكَ زيارَتَه صلى الله عليه وسلم يكُونُ مُرتَكِبًا لذنبٍ كبيرٍ، وذلك يستلزِمُ أن الزِّيارة واجبةٌ كالحجِّ، وهذا مِمَّا لا يقولُه مُسلِمٌ؛ ذلك لأنَّ زيارَتَهُ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت من القُرُبات، فإنَّها لا تتجاوَزُ عند العُلَماء حُدُود المُستَحَبَّات، فكَيفَ يكونُ تارِكُها مُجافيًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومُعرِضًا عَنهُ؟! ".
102 -
سُئلتُ عن حديث: "الشَّبَابُ شُعبَةٌ مِنَ الجُنُونِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه الخرائِطيُّ في "اعتلال القُلوب"(ق 38/ 1 - 2) من طريق مُحمَّدِ بن عُبيدٍ المَدَنيِّ، وعبدِ العزيز بن عبد اللّه، عن عبدِ اللّه بن نافعٍ، عن عبدِ اللّه بن مُصْعَب بن خالد بن يزيد بن خالدٍ الجُهنيِّ، عن أبيه، عن جَدِّه زيدِ بن خالدٍ مرفُوعًا:"الشَّبابُ شُعبةٌ من الجنون، والنِّساءُ حُبَالَةُ الشَّيطان".
وأخرجه الأصبهانيُّ في "التَّرغيب"(1226) من طريق الزُّبَير بن بَكَّارٍ، وإبراهيمَ بن سلَّامٍ المَدينيِّ، كلاهُما عن عبدِ اللّه بن نافعٍ، قال: حدَّثَنا عبدُ اللّه بنُ مصعَبٍ، عن أبيه، عن جدِّهِ رضي الله عنه، قال: تلقَّفتُ هذه الخُطبةَ من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتبوكَ، سمعتُهُ يقولُ: "أمَّا بعدُ! فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللّه، وأوثقَ العُرى كلمةُ التَّقوى، وخيرَ المِلَلِ ملَّةُ إبراهيمَ - صلوات الله عليه -، وخيرَ السُّنَن سُنَّةُ محمَّدٍ، وأشرفَ الحديث ذكرُ اللّه، وأحسنَ القصصِ هذا القُرآنُ، وخيرَ الأُمور عزائِمُها، وشرَّ الأمُور مُحدَثاتُها، وأحسَنَ الهديِ هديُ الأنبياء، وأشرفَ الموتِ قتلُ الشُّهداء، وأعمى الضَّلالة ضلالةٌ بعد الهُدى، وخيرَ العملِ ما نفع، وخيرَ الهدي ما اتُّبِع، وشرَّ العَمَى عمَى القلب، واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلَى، وما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى، وشرَّ المعذِرة عند حُضور الموتِ، وشرَّ
النَّدامة ندامةُ يومِ القيامة، ومن النَّاس مَن لا يأتي الجُمعةَ إلَّا نزرًا، ومنهم مَن لا يذكُرُ اللّهَ إلَّا هُجرًا، ومن أعظمِ الخطايا اللسانُ الكَذُوبُ، وخيرَ الغِنَى غنَى النَّفسِ، وخيرَ الزَّاد التَّقوى، ورأسَ الحِكمة مخافةُ اللّه، وخيرَ ما أُلقي في القلب اليقينُ، والارتيابَ من الكُفر، والنِّياحةَ من عمل الجاهليَّة، والغُلُولَ من جَمر جهنَّمَ، والخمرَ جِماعُ الإثمِ، والنِّساءَ حبائِلُ الشَّيطان، والشَّبابَ شُعبةٌ من الجُنون، وشرَّ المكاسبِ كسبُ الرَّبا، وشرَّ المال أكلُ مال اليتيم، والسَّعيدَ من وُعِظَ بغيرهِ، والشَّقيَّ من شقي في بطن أُمِّه، وإنَّما يصيرُ أحُدُكم إلى موضع أربعةِ أذرُعٍ، والأمرَ إلى الآخرة، ومِلاكَ الأمر خواتمه، وشرَّ الرَّوايا روايا الكذب، وكلَّ ما هو آتٍ قريبٌ، وسبابُ المسلم فسوقٌ وقتالَهُ كفرٌ، وأكلَ لحمِهِ من معصية اللّه، وحُرمةَ مالِهِ كحُرمةِ دمه، ومَن تألَّى على اللّه يُكذِّبُهُ اللّه، ومن يغفر يغفرُ اللّه له، ومن يرحمْ يرحمُهُ اللّه، ومن يَعْف يَعْفُ اللّهُ عنه، ومن يكظم الغيظَ يأجُرُه اللّه، ومن يصبر على الرَّزيَّةِ يعوِّضُهُ اللّه. اللهمَّ! اغفر لأمَّتِي، اللهمَّ! اغفر لأمَّتِي - ثلاثًا - ".
قال الذَّهَبيُّ في "الميزان"(2/ 506) في تَرجمة عبد اللّه بن مُصْعبٍ: "عن أبيه، عن جَدِّه، فرَفَعَ خُطبةً مُنكَرةً، وفِيهِم جهالةٌ".
وعزاه الحافظُ في "اللِّسان"(4888)، وابنُ قُطْلُوْبُغَا في "من رَوَى عن أبيه عن جَدِّه"(ص 374) للدَّارَقُطنيِّ في "سنَنه"، والحكيمِ التِّرمذيِّ في "نوادر الأصول".
وقال الحافظُ: "وقد جَهَّل ابنُ القَطَّان عبدَ اللّه بنَ مُصعبٍ وأبَاهُ".
وأخرجَهُ البَيهقيُّ في "دلائل النُّبوَّة"(5/ 241 - 242) من طريق أبي أُميَّة الطَّرَسُوسِيِّ مُحمَّدِ بن إبراهيم، قال: حدَّثَنا يعقوبُ بنُ محمَّدٍ بن عيسى الزُّهريُّ، قال: حدَّثنَا عبدُ العزيز بنُ عِمرانَ، قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ مُصعَب بن منظور بن جميل بن سِنانَ، قال: أخبَرَنا أبي، قال: سمعتُ عقبَةَ بنَ عامرٍ الجُهنِيَّ يقولُ: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوكَ، فاستَرقَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كان منها على ليلةٍ فلم يستيقظ حتَّى كانت الشَّمسُ قِيدَ رُمحٍ، قال:"أَلَم أقُل لك يا بلالُ! اكلأ لنا الفَجرَ؟ "، فقال: يا رسُول اللّه! ذَهَب بي النَّومُ، فذهب بي الذي ذهب بك. فانتَقَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المَنزل غيرَ بعيدٍ، ثُمَّ صلَّى، ثمَّ هَدَرَ بقيَّة يومه وليلته، فأصبَحَ بتبُوكَ، فحمدَ الله تعالى، وأثنَى عليه بما هو أهلُهُ، ثُمَّ قال: "أيُّها النَّاسُ! أمَّا بعدُ!
…
" وساق الحديثَ بطوله.
وعزاه ابنُ كثيرٍ في "البداية والنِّهاية"(5/ 14) للبيهقيِّ، وقال:"هذا حديثٌ غريبٌ، وفيه نَكَارَةٌ، وفي إسناده ضعفٌ".
والصَّواب أن إسنادَهُ ضعيفٌ جدًّا؛ وفيه عبدُ العزيز بن عمران، وهو متروكٌ.
والأشبَهُ أن يكُون موقوفًا ..
فقد رَوَى أحمدُ في "الزُّهد"(ص 141) قال: حدَّثنا هاشم، حدَّثَنا حَرِيزٌ - هو ابنُ عثمان -، عن عبد الرَّحمن بن أبي عَوفٍ، قال: قال أبُو الدَّرداء: "الرَّيبُ من الكُفر، والنَّوحُ عملُ الجاهليَّة، والشِّعرُ مزاميرُ إبليس، والغُلولُ جمرٌ من جَهَنَّم، والخمرُ جِماعُ كلِّ إثمٍ،
والشَّبابُ شُعبةٌ من الجُنون، والنِّساءُ حُبالةُ الشَّيطان
…
"، وساق كلامًا.
وهذا سَنَدٌ صحيحٌ، لو سَلِم من الانقطاع بين ابن أبي عَوفٍ الجُرَشِيِّ، وأبي الدَّرداء.
واللهُ أعلمُ.
103 -
سُئلتُ عن حديث: "تَوَصؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارِ، وَغَلَت بِهِ المَرَاجِلُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ بهذا التَّمام.
أخرَجَهُ الدُّولابِيُّ في "الكُنَى"(1/ 35) من طريق عليّ بن بحرِ بن بَريٍّ، ثنا الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، ثنا الوليدُ بنُ سُليمان بن أبي السَّائب، أنَّه سَمِع أبا فِراسٍ الشَّعْبَانيَّ، يقُول: إِنهم كانُوا غُزاةَ القُسطنطينيَّة زَمَنَ مُعاويَة، وعلينا يزيدُ بنُ شَجَرة، فبينما نحن عِندَه، إذ مرَّ أبو سعدٍ الخيرُ صاحبُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا سَعدٍ! أنتَ الذي تقولُ: لا بأس أن يقرأ الجُنُب القُرآن؟ فقال أبو سعدٍ: أنا الذي أقولُ: إن الجُنُب إذا تَوضَّأَ وُضوءَه للصَّلاة، فلا بأس أن يَقرأ الآيةَ والآيتَينِ، وايمُ اللّه! إِنَّكم لتَصنَعُون ما هو أشدُّ عليكم من ذلك. قالُوا: وما هُو؟ قال: تأكُلون مِمَّا مَسَّت النَّارُ، ثُمَّ تُصلُّون، ولا تَتَوضَؤُون، وأنا سمِعتُ رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم! يقولُ:"تَوَضؤُوا ممَّا مسَّت النَّارُ، وغَلَت به المَراجلُ".
وأخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثانِي"(2210)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 776) مِن طريق دُحيمٍ، ثنا الوليدُ بنُ مُسلِمٍ بسندِهِ سواءٌ، دُون القِصَّة.
لكن، وَقَعَ في السَّنَد "فِراسٌ" بدل "أبي فِراس".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمع"(1/ 249): "فِيه فراسٌ الشَّعبانيُّ، وهو مجهولٌ".
وقال الحافِظ في "اللِّسان": "ما رَوَى عنه سِوَى الوَلِيدُ بنُ سليمان بن أبي السَّائب"، وسَبَقَهُ الذَّهَبيُّ في "الأصل".
أما شطرُ الحديث الأَوَّل: "توضَّؤُوا ممَّا مَسَّت النَّار"، فصحيحٌ.
أخرجَهُ مُسلِمٌ، من حديث زيد بن ثابتٍ، وأبي هُريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
لكِنَّه منسوخٌ، كما هُو مُقَرَّرٌ في موضعه.
واللهُ أعلَمُ.
104 -
سُئلتُ عن حديث: "الأمَرُ المُفظِعُ، وَالحَملُ المُضلِعُ، وَالشَّرُّ الَّذِي لَا يَنقَطِعُ: إِظهَارُ البِدَعِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ.
أخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(2414)، وفي "السُّنَّة"(36)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 3/ رقم 3194)، وابنُ الجَوزيِّ في "الموضوعات"(1/ 268 - 269) من طريق بَقيَّةَ بن الوليد، ثنا عيسى بنُ إبراهيم، عن مُوسَى بن أبي حبيبٍ، عن الحكَم بن عُميرٍ الثُّمَالِيِّ، مرفُوعًا فذكره.
قال ابنُ الجوزيِّ: "لا يصحُّ. قال الحاكمُ: عيسى: واهي الحديث بمرَّةٍ".
وعيسى هذا قال البُخاريُّ والنَّسائيُّ: "مُنكَر الحديث"، وترَكَهُ النَّسائِيُّ أيضًا، وأبو حاتمٍ.
ومُوسَى بن أبي حَبيبٍ ضعَّفه أبو حاتمٍ.
وبَقِيَّةُ بن الوليد مُدلِّسٌ، ولم يُصرِّح إلَّا في شيخِه.
فالسَّنَدُ ساقطٌ.
وقال شيخُنا أبو عبد الرَّحمن الألبانيُّ في "الضَّعيفة"(756): "ضعيفٌ جدًّا"، وعزاه إلى ابن بَطَّة في "الإبانة"(1/ 73/ 1 - 2).
105 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ العَالِمَ يُلقَى فِي النَّارِ، وَيَدُورُ حَولَ إمعَائِهِ مِثلَ الحِمَارِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرجه البُخاريُّ (6/ 331، و 13/ 48)، ومُسلمٌ (8989/ 51)، وأحمدُ (5/ 205، 207، 209) وغيرُهُم من طُرُقٍ عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، قال: قيل لأُسامة بن زيدٍ: لو أتيتَ فلانًا، فكلَّمتَه؟ قال: إِنَّكُم لَتَرَونَ أَنِّي لا أُكلِّمُه إلَّا أُسمِعُكُم! إِنِّي أُكلِّمُه في السِّرِّ دُون أن أفتح بابًا، لا أكونُ أوَّلَ من فَتَحه، ولا أقولُ لرجُلٍ - إن كان عَلَيَّ أميرًا - إِنَّه خيرُ النَّاسِ، بعدَ شيءٍ سمعتُهُ من رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم. قالُوا: وما سَمِعتَه يقول؟ قال: سَمِعتُه يقول: "يُجاء بالرَّجُل يوم القِيامة، فيُلقَى في النَّارِ، فتَندَلِقُ به أقتابُه، فيَدُورُ بها في النَّار، كما يدُورُ الحِمارُ برَحَاهُ، فيطيفُ به أهلُ النَّار، فيقُولُون: يا فُلان! ما أَصابَكَ؟! أَلم تَكُن تأمُرُنا بالمعروف، وتنهانا عن المُنكَر؟! فيقول: كُنتُ آمرُكم بالمعرُوف ولا آتيه، وأنهاكُم عن المُنكَر وآتيه".
106 -
سُئلتُ عن حديث: "خَيرُ النَّاسِ أَنفَعُهُم لِلنَّاسِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجَهُ الطَّبرانِيُّ في "الأوسط"(5787)، والبيهقيُّ في "الشُّعَب"(ج 13/ رقم 7252)، والقُضاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(129) مِن طريق عليّ بن بَهرَامَ، ثنا عبدُ الملِك بنُ أبي كَريمة، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ مرفُوعًا:"المُؤمِنُ يَألَفُ ويُؤلفُ، ولا خير فيمن لا يَألَف ولا يُؤلف، وخيرُ النَّاس أنفَعُهم للنَّاس".
قال الطَّبرانِيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن ابن جُريجٍ إلَّا عبدُ الملِك بنُ أبي كريمة، تفرَّد به عليُّ بنُ بهرَامَ" كذا قال!
ولم يتفرَّد به ابنُ أبي كريمة ..
فتابعه عمرُو بنُ بكرٍ السَّكْسَكْيُّ، عن ابن جُريجٍ بسنده سواء.
أخرجه ابن حِبَّانَ في "المجروحين"(2/ 79)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 2/ ق 420/ 2).
ولكنها مُتابَعةٌ ساقطةٌ؛ وعمرُو بنُ بكرٍ قال فيه ابنُ حِبَّانَ: "يَروِي عن إبراهيم بن أبي عَبْلة وابنِ جُريجٍ وغيرهما من الثِّقات الأوابدَ والطَّامَّات، التي لا يَشكُّ مَنْ هذا الشَّأنُ صناعَتُه أنَّها معمولةٌ أو مقلوبةٌ. لا يَحلُّ الاحتجاجُ به".
وَأَمَّا عليُّ بنُ بهرامَ وعبدُ الملِك بنُ أبي كريمة، الواقعان في سنَد الطَّبرانيِّ، فقال الهَيثميُّ في "مجَمَع الزَّوائد" (8/ 87):"لم أعرِفهُما" كذا قال! وهو عجيبٌ ..
فأمَّا عبد الملِك بن أبي كريمة، فهو من رجال التَّهذيب (18/ 395).
وأمَّا عليُّ بنُ بَهرامَ، فترَجمهُ الخطيبُ في "تاريخه"(11/ 353 - 354)، ولم يَذكُر فيه شيئًا.
ثم ابن جُريجٍ مُدلِّسٌ، ولم يُصرِّح بتحديثٍ.
ثُمَّ رأيتُ له شاهدًا من حديث ابن عُمَر، قال: جاءَ رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسول اللّه! مَن خَيرُ النَّاس؟ "، فقال: "أَنفعُ النَّاس للنَّاس
…
"، وساق حديثًا.
أخرجه ابنُ عساكر (ج 11/ ق 886).
وسَنَدُه ضعيفٌ أو واهٍ؛ وفيه عليُّ بنُ جعفرِ بن عبد الله الرَّازيُّ شيخ تمَّامٍ الرَّازيِّ، لا يُعرَف شيءٌ من حالِهِ، ولم يَذكُر ابنُ عساكر في ترجمته جرحًا ولا تعديلًا.
وكذلك شيخُه أبو القاسم عامرُ بنُ جُريجٍ الدِّمشقيُّ.
وإبراهيمُ بنُ عبد الحميد الجُرَشِيُّ، لعلَّه المُترجَم في "الجرح والتَّعديل"(1/ 1/ 113)، فإِن يَكُنهُ، فهو لا بَأسَ به، وإِلَّا، فلا أعرِفهُ.
وبَكرُ بنُ خُنَيسٍ ضعَّفه النَّسائِيُّ، وعمرُو بنُ عليٍّ، ويعقوبُ بنُ شَيبةَ، وقال ابنُ مَعِينٍ في رواية:"ليس بشيءٍ"، وتَرَكَه الدَّارَقُطنيُّ، وابنُ خِراشٍ، وأحمدُ بنُ صالحٍ المِصريُّ. ولكن، قال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ:
"لا يَبلُغ التَّرك" - كما في "الجرح والتَّعديل"(1/ 1/ 384) -، وقال الحافظُ في "التَّقريب":"صَدوقٌ، له أغلاطٌ"، وهذا تَسَامُحٌ مِنهُ، فكان ينبغي له أن يُصرِّح بضعفِهِ، كما فَعَل في "الفتح"(9/ 243).
وله مُتَابَعاتُ أُخرى لا يُعتدُّ بها.
أما أوَّلُ الحديث، وهو: "المُؤمِن يألَفُ
…
الخ"، فثابِتٌ.
واللهُ أعلَم.
107 -
سُئلتُ عن حديث: "مَلعُونٌ مَن حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَو حَلَّفَ بِهِ".
• قلتُ: هذا الحديثُ لا أعلمُ له أصلًا، ولَم أَقِف له على إسنادٍ.
ورأيتُ العَجلُونيَّ ذَكَرَه في "كشف الخفاء"(2/ 216) وسَكَت عَنهُ، ولم يَعزُه لأحدٍ، ولم يَتكلَّم عليه بشيءٍ.
فاللهُ أعلَمُ.
108 -
سُئلتُ عن حديث: "المُؤذِّنُونَ أَطوَلُ النَّاسِ أَعنَاقًا يَومَ القِيَامَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (14)، وابنُ ماجَهْ (725)، وأحمدُ (4/ 95، 98)، وأبُو يعلَى (7384)، وابنُ حِبَّانَ (1667)، والطَّحاوِيُّ في "المشكِل"(1/ 8)، وابنُ أبي شَيبة (1/ 225)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 736)، والبَيهقِيُّ في "سُنَنه الكبير"(1/ 432)، وفي "شعَب الإيمان"(ج 6/ رقم 2789)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 277) مِن حديث مُعاوِية بن أبي سُفيانَ رضي الله عنهما.
109 -
سُئلتُ عن حديث: "الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحظُورَاتِ".
• قلتُ: هذا ليس بحديثٍ، إنَّما هو قاعدةٌ فِقهيَّةٌ.
واللهُ أعلَمُ.
وأصلُ هذه القاعدةِ في نُصوص القُرآن والسُّنَّة أتَى في مواضعَ كثيرةٍ.
• فمن القُرآن ..
قوُلهُ تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقَال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
وقَال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
إلى غير ذلك من نُصوصِ القُرآن المَجيدِ.
• أمَّا السُّنَّة ..
كقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعِمرانَ بن حُصين: "صلِّ قائمًا، فإن لم تسقطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ"، وما يجري في معنى هذا الحديث.
110 -
سُئلتُ عن صحَّة ومعنى حديث: "جَمَعَ اللهُ شَملَكُما، وَبَارَكَ لَكُما فِي شَبْرِكُمَا".
• قلتُ: هذا الحديثُ لا أَعلَمُ له أصلًا بهذا السِّياق.
ورأيتُه في كتاب "الأضداد"(ص 279) لابن الأنباريِّ، قال: "يُحكَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ لَمَّا أَدخَلَ فاطمةَ على عليٍّ - رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِمَا -، قالَ:
…
"، فذَكَره.
هكذا ذَكَرَهُ بِلا إِسنادٍ.
وذكرَهُ ابنُ الأثير في "النِّهاية"(2/ 440)، مادَّة "شَبْر".
و "الشَّبْرُ" - يعني: بتشديد الشِّين المُعجَمة المفتوحَة، وسُكون الباء المُوحَّدة -، قال ابنُ الأثير:"الشَّبْرُ في الأصل: العَطَاءُ، يُقال: شَبَرَهُ شَبرًا، إذا أَعطَاه. ثُم كُنِّي به عن النِّكاح؛ لأنَّ فيه عطاءً".
وقال ابنُ الأنباريِّ نحوَهُ.
111 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ اللّهَ تَعَالَى تجلَّى لجَبَلِ الطُّورِ لِتَوَاضُعِهِ".
• قلتُ: هذا الحديث لا أصل له في المرفُوع، فيما أعلمُ، وإِنَّما وَرَد هذا في كلام نوفٍ البكاليِّ.
فأخرجه عبد اللّه بن أحمد في "زوائد الزُّهد"(ص 66)، ومِن طريقه أبو نُعيمٍ في "الحلية" (6/ 49) قال: حدَّثَني مُحمَّد بن عُبيد بن حسابٍ ..
وأخرجه أبُو الشَّيخ في كتاب "العَظَمة"(1178/ 4) مِن طريق مُحمَّد بن عبد الله الرَّقَاشِيِّ ..
قالا: ثنا جعفَرُ بن سُليمان الضُّبَعيُّ، قال: حدَّثَنا أبو عِمران الجَونيُّ، عن نوفٍ البكاليِّ، قال:"أَوحَى الله إلى الجِبال: "إِنِّي نازلٌ على جبلٍ مِنكُم"، فتشمَّخَت الجبالُ كلُّها، إلَّا جبلُ الطُّور، وقال: "أَرضَى بما قَسَمَ اللّه لِي". قال: فكان عليه الأمر".
وسَنَدُه جيِّد، والظَّاهر أن نوفًا البكاليَّ أخذ هذِهِ من الإسرائيليَّات.
ونوفٌ هذا كان رَبِيبَ كعب الأحبار.
وأخرَجَه أبُو بكرٍ الواسطيُّ في "فضائل البيت المقدَّس"(85) قال: حدَّثَنا عُمرُ بنُ الفضل، نا أبي، نا الوليدُ بنُ حمَّادٍ، نا إبراهيمُ بنُ مُحَمَّدٍ، نا زُهَيرٌ، نا ابنُ أعيَنَ، عن هشامٍ الدَّستُوائِيِّ، عن أبي عِمرانَ، قال:
أوحَى اللهُ - جلَّ ثناؤُهُ - إلى الجِبال: "إنِّي نازلٌ على جبلٍ منكم"، فتطاوَلَت الجبالُ وتواضع طُورُ سَيْناءَ، وقال:"إنْ قُدِّر شيءٌ فسيصيبُني"، فأوحَى الله عز وجل:"إنِّي نازلٌ عليك؛ لتواضُعِكَ لي ورضاكَ بقدَرِي".
وهذا مُنكَرٌ عن هشامٍ الدَّستُوائِيِّ؛ عُمرُ وأبُوه مجهولان، وذكر الذهبيُّ في "الميزان" في ترجمة:"محمَّد بن مخَلَدٍ" حديثًا خرَّجه من كتاب أبي بكرٍ الواسطيِّ، وقال:"بإسنادٍ مُظلمٍ"، وهذا يدُلُّ على جَهالَة عُمر بن الفضل وأبيه.
والوليدُ بن حمَّادٍ ترجمه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(66/ 88 - 90)، ولم يذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وذكره الذَّهبيُّ في "السِّيَر"(14/ 78 - 79)، وقال: "الحافظ أبو العبَّاس الرَّملي، مؤلِّف فضائل بيت المقدس
…
وكان ربَّانيًّا، ولا أعلم فيه مَغمَزًا، وله أُسوةُ غيره في رواية الواهيات" كذا قال! وقد ضعَّفه أبُو يعلى الخَلِيليُّ في "الإرشاد" (ص:407).
واللهُ أعلمُ.
112 -
سُئلتُ عن الحديث القدسيِّ: "مَما وَسِعَنِي سَمائِي، وَلَا أَرضِي، وَلَكِن وَسِعَنِي قَلبُ عَبدِي المُؤمِنِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطِلٌ، ومُنكَرٌ من القول.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة: "هُو مذكُور في الإسرائيليَّات، وليس له إسنادٌ معرُوفٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ".
وقال مرَّةً: "موضُوعٌ".
وقال العِراقيُّ في "تخريج أحاديث الإحياء"(3/ 15): "لم أَرَ له أصلًا".
وسَبقه الزَّركشيُّ، وتلاه الحافظُ ابن حَجَرٍ، والسَّخاويُّ في "المقاصد"(ص 373)، وقال:"ورأيتُ بخطِّ الزَّركشيِّ: سمِعتُ بعضَ أهلِ العِلم يقولُ: حديثٌ باطِلٌ، وهُو من وضع الملاحدة" ا. هـ.
113 -
سُئلتُ عن حديث: "لَعَنَ اللهُ العَقرَبَ، لَا تَدَعُ نَبِيًّا، وَلَا مُصَلِّيًا إِلَّا لَدَغَتهُ".
• قلتُ: هذا حديث ضعيف.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5890)، وفي "الصَّغير"(2/ 23)، والبَيهقِيُّ في "الشُّعَب"(2341)، وأَبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهانَ"(2/ 223)، وأَبُو مُحَمَّدٍ الخلَّالُ في "فضائل سُورة الإخلاص"(رقم 56) مِن طريق إسماعيل بن مُوسَى السُّدِّيِّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ فُضيلٍ، عن مُطرِّفِ بن طَرِيفٍ، عن المنهال بن عمرٍو، عن مُحمَّد بن الحَنفِيَّة، عن عليّ بن أبي طالبٍ، فذَكَرَه.
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن مُطرِّفٍ إلَّا ابنُ فُضيل، تفرَّد به إسماعيلُ بن مُوسَى" كذا قال!
ولم يتفرَّد به ابنُ فُضيلٍ ..
فتابَعَهُ عبدُ الرَّحيم بنُ سُليمان، فرواه عن مُطرِّفٍ، عن المِنهال، عن مُحمَّد بن الحَنَفِيَّة، عن عليٍّ فذَكَرَ مثله.
أخرَجَه البَيهَقيُّ في "الشُّعَب"(ج 5/ رقم 2340) مِن طريق أبي بكرٍ بن أبي شَيبة، ثنا عبدُ الرَّحيم.
وهذا التَّعقُّبُ على الطَّبَرانيِّ، يتمُّ إذا ثَبَت أن الإسناد عِند البَيهقِيِّ موصُولٌ بذكر علي بن أبي طالبٍ.
فقد أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(7/ 398 - 399، و 10/ 418 - 419) قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّحيم بنُ سليمان بسنده سواءٌ مثلَه.
ووضع المُحقِّق: "عن عليٍّ" بين مَعقُوفَتين، ثُمَّ ذَكَر أنَّه زَادَهُ؛ لأنَّ صاحب "كنز العُمَّال" عزا الحديثَ إلى ابن أبي شَيبة عن عليٍّ.
وهذا تَصرُّفٌ خطأ، لا يجوزُ ارتكابُه لهذا السَّبَب، وشَرحُ ذلك يطولُ.
فالذي عِندي أن رِوايَةَ عبد الرَّحيم بن سُليمان، عن مُطرِّفٍ مُرسلةٌ.
يَدُلُّ عليه نقدُ الطَّبَرانيِّ.
ورأيتُه في "عِلل الدَّارَقُطنيِّ"(4/ 123)، فقال:"أسَنَده إسماعيلُ ابنُ بنتِ السُّدِّيّ، عن مُحمَّد بن فُضيلٍ، عن مُطرِّفٍ، عن المنهال بن عمرٍو، عن ابن الحنفيَّةِ، عن عليٍّ. وخالَفَهُ مُوسى بنُ أَعيَنَ، وأسباطُ بنُ مُحَمَّدٍ، وغيرُهما، فرَوَوْهُ عن مُطرِّفٍ، عن المنهال، عن ابن الحَنَفِيَّةِ، مُرسَلًا. وكذلك رَوَاهُ حمزةُ الزَّيَّاتُ، عن المنهال، عن ابن الحَنَفِيَّةِ، مُرسَلًا. وهُو أَشبَهُ بالصَّواب" انتهى كلامُ الدَّارقُطنيِّ.
وقَد رجَّح المُرسَلَ؛ لأنَّ الرِّواية الموصُولة فِيها إسماعيل بنُ مُوسى ابن بنت السُّدِّيِّ، وفي حفظِهِ مقال معرُوفٌ، وقد تَفرَّد بوَصلِه، كما قال الطَّبَرانِيُّ، ويُشير إليه نَقدُ الدَّارقُطنيِّ.
وقد خُولِف مُطرِّفُ بنُ طَريفٍ ..
خالَفَهُ الحَسَنُ بنُ عُمارةَ، فرواه عن المنهال بن عَمرٍو، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مَسعُودٍ، عن أبيه
…
فذَكَرَ مِثلَه.
أخرجه ابنُ عدِيِّ في "الكامل"(2/ 704).
وسنَدُهُ ساقطٌ؛ والحَسَنُ بنُ عُمارَةَ تالفٌ البتَّة، اتَّهَمَهُ شُعبة بوضع الحديث، وترَكَهُ أحمدُ، والنَّسائِيُّ، وغيرُهُما.
وأبو عُبيدة لم يَسمَع مِن أبيه.
وجُملَةُ القول: أن الحديثَ ضعيفٌ، وليس بحَسَنٍ، كما قال الهَيثمِيُّ في "المَجمَع"(5/ 111).
114 -
سُئلت عن حديث: "أَهلُ مَكَّةَ أَدرَى بِشِعَابِهَا".
• قلتُ: هذا الحديث لا أَصلَ له، ولَيسَ بحديثٍ.
ومِثلُه: "صَاحِبُ البيتِ أدرَى بالذي فِيه".
أورَدَهُ العَجلُونيُّ في "كشف الخفاء"(2/ 19)، وبيَّض له.
115 -
سُئلتُ عن حديث: "سَبعَةٌ، لَا يَنظُرُ اللهُ عز وجل إِلَيهِم يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِم، وَلَا يَجمَعُهُم مَعَ العَالَمِينَ، وَيُدخِلُهُم النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ، إِلَّا أَن يَتُوبُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، فَمَن تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ: النَّاكحُ يَدَهُ، وَالفَاعِلُ، وَالمَفعُولُ بِهِ، وَمُدمِنُ الخَمرِ، وَالضَّارِبُ أَبُوَيهِ حَتَّى يَستَغِيثَا، وَالمُؤذِي جِيرَانَهُ حَتَّى يَلعَنُوا، وَالنَّاكحُ حَلِيلَةَ جَارِهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ الحَسَنُ بنُ عَرَفةَ في "جُزئِهِ"(41)، ومِن طريقِهِ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 10/ رقم 5087)، والأَزدِيُّ في "الضُّعَفاء"، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات" - كما في "التَّلخيص الحَبِير" (5/ 2386) - قال: حدَّثَني عليُّ بنُ ثابتٍ الجَزَريُّ، عن مَسلَمةَ بن جعفرٍ، عن حَسَّان بن حُميدٍ، عن أنسٍ مرفُوعًا.
قال الذَّهبيُّ في "الميزان"(4/ 108) في ترجمة مَسلَمَة هذا: "عن حسَّان بن حُميدٍ، عن أنسٍ، في سبِّ النَّاكح يدَه. يُجهَّلُ هو وشيخُه. قال الأزديُّ: ضعيفٌ".
وذَكَرهُ الحافظُ ابنُ كَثيرٍ في "تفسيره"(5/ 458)، في سُورة "المؤمنون"، وقال:"هذا حديثٌ غريبٌ، وإسنادُه فيه مَن لا يُعرَف لجهالَته".
وضعَّفَهُ الحافظُ في "التَّلخِيص"(5/ 2386).
وقال ابنُ الجَوزِيِّ: "هذا حديثٌ لَا يَصِحُّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ولا حسَّانُ يُعرَف ولا مَسلَمَةُ".
قال البَيهَقِيُّ عقِب تخريجِهِ الحديثَ: "تَفرَّد به هكذا مَسلَمَةُ بنُ جعفرٍ هذا. قال البُخارِيُّ في "التَّاريخ": قال قتيبَةُ: عن حُميدٍ - هو الرَّاسبِيُّ -، عن مَسلَمَةَ بن جعفرٍ، عن حسَّانَ بن حُميدٍ، عن أنَسِ بن مالِكٍ، قال: يجيءُ النَّاكِحُ يدَهُ يومَ القِيامة ويدُهُ حُبلَى" انتهَى.
فهذا التَّعلِيقُ إشارةٌ إلى الاضطراب في مَتنِهِ وإسنادِهِ.
وهو لا يَصِحُّ مرفُوعًا، ولا موقُوفًا.
ولفظُ الموقُوفِ مُنكَرٌ جِدًّا.
وله شاهدٌ من حديث عبدِ الله بن عَمرِو بن العاص مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ - كما في "التَّلخيص"(5/ 2386) -، والفِريَابِيُّ، ومِن طريقِهِ ابنُ بِشرَانَ في "الأمالي"(479)، وأبو اللَّيثِ السَّمَرقَندِيُّ في "تَنبِيه الغَافِلين"(169) مِن طريق قُتَيبَةَ بن سعيدٍ، ثنا عبدُ الله بنُ لَهِيعَةَ، عن عبد الرَّحمن بن زِيَادِ بن أَنعُمَ الإِفرِيقِيِّ، عن أبي عبدِ الرَّحمن الحُبُليِّ، عن عبدِ الله بن عَمرٍو مرفُوعًا:"سبعةٌ لا يَنظر اللهُ عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يُزَكِّيهم، ويقول: ادخُلُوا النَّار مع الدَّاخِلين: الفاعلُ والمفعُولُ به، والنَّاكِحُ يدَهُ، وناكحُ البَهِيمَة، وناكحُ المرأةِ في دُبُرِها، وجامعٌ بين المرأة وابنَتِها، والزَّانِي بحَلِيلَةِ جارِه، والمُؤذِي لجِارِهِ حتَّى يَلعَنَه - وعند أبي اللَّيث: حتَّى يَلعنَهُ النَّاسُ - ".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جِدًّا.
وابنُ لهِيعَةَ احترَقَت كُتبُه، وصَرَّح أحمدُ أن قُتيبَةَ هو آخرُ مَن سَمِعَ مِن ابن لَهيعَةَ، وهذا يَعنِي أنَّه سَمِع منه في الاختلاط.
وقد صَرَّح قُتيبَة بالسَّماعِ مِن ابن لهَيعَةَ؛ لأنَّهم ذَكَرُوا أن قُتيبَة كان يَنتَخِبُ أحاديثَ لابن لِهَيعَةَ بروايةِ عبدِ الله بن المُبارَك، ومِن ثَمَّ صَرَّح بعضُهم أن قُتيبَةَ قديمُ السَّمَاع من ابن لَهيعَةَ - مِنهُم الذَّهَبِيُّ، فيما أظنُّ -، وفيه نَظَرٌ، كما رأيتَ.
والإِفرِيقِيُّ ضَعَّفَهُ أكثرُ النُّقَّاد، وتَرَكَهُ بعضُهم، ومَشَّاه البُخَارِيُّ، واختَلَفَ فيه رأيُ يحيى القَطَّانِ، وقال ابنُ عَدِيٍّ:"عامَّةُ حديثِهِ لا يُتابَعُ عليه" انتهى، ولا أَعلَمُ أحدًا تابَعَهُ على هذا الحديث.
ومِن الغَرائِبِ أن أبا الفَضل الغُمَارِيَّ في "الاستقصاء" لم يَتَعَرَّض للإِفرِيقِيِّ بأدنى ذِكرٍ؛ وقد أَهمَلَه تمامًا حتَّى يَجِدَ سبيلًا لتَقوِيَةِ حديثِ أنَسٍ المُنكَرِ.
لكن وَقَعَ له وَهَمٌ غريبٌ أثناء ذِكرِه لحدثنا عبدِ الله بن عمرٍ رضي الله عنهما، فإنَّه قال:"ثُمَّ وَقفتُ على طريقٍ آخرَ، عن عبدِ الله بن عمرٍو، أحببتُ أن أَذكُرَه: رَوَى أبو اللَّيث السَّمَرقَندِيُّ في كتاب "تَنبِيه الغافِلِين" بإسنادِهِ، مِن طريقِ عليِّ بن مُحَمَّدٍ الوَرَّاقِ، حدَّثَنا ابنُ أَنعُمَ - هو عبدُ الرَّحمن بنُ زِياد بن أَنعُمَ -
…
[ثُمَّ قال:] إسنادُهُ ضعيفٌ؛ لجهَالَة عليِّ بن محمَّدٍ الوَرَّاقِ. لكن، بانضِمامِهِ إلى الطَّريقَينِ السَّابِقَين يَكتَسِبُ قُوَّةً. ولا يَضُرُّ اختلافُ لفظَي
الحديث في تَعدَادِ السَّبعة؛ حيثُ ذُكِرَ في أحدِهما ما لم يُذكَر في الآخَر" انتهى كلامُهُ.
• قلتُ: ولعلَّهُ تَعَجَّلَ النَّظَرَ في الإسناد، أو وَقَعَ في نُسخَتِه سقطٌ؛ فإنَّ الإسنادَ في "تَنبِيه الغَافِلين" (169) هكذا: حدَّثَنا الفَقِيهُ أبو جَعفَرٍ، قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، حدَّثَنا قُتيتةُ بنُ سعِيدٍ، عن ابن لَهيعةَ، عن ابن أَنعُمَ
…
الخ.
ففي كلامِهِ أنَّهُ جَعَل الرَّاوِي عن ابن أَنعُمَ هو عليَّ بنَ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقَ، فلذلك حَكَم عليه بالجَهالَة، والرَّاوي عن ابن أَنعُمَ هو ابن لَهِيعَةَ، فسَقَط مِن الإسناد وحتَّى الإِفرِيقِيِّ: أربعةٌ من الرُّواةِ.
وعليُّ بنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ شيخُ شيخِ أبي اللَّيث السَّمَرقَندِيُّ هو عِندِي أبو الحسَن الثَّقَفِيُّ، المعروفُ بـ "ابن لُؤلُؤٍ". وهو مُترجَمٌ في "تاريخ بَغدَادَ"(12/ 89 - 90)، وقال: "سَمِعَ أبا جَعفَرٍ الفِريَابِيَّ، وإبراهيمَ بن هَاشمٍ البَغوِيَّ
…
- وعدَّد جماعةً -"، ونَقَل عن الأَزهَرِيِّ أنَّه وَثَّقَه، وعن البَرقَانِيِّ قال: "صَدُوقٌ"، وعابُوا عليه أنَّه كان سَيِّءَ النَّقل حين كان يعمل بالوَرَاقَةِ - يعني: نَسخَ الكُتب -.
وبَيْن الوَرَّاقِ وقُتيبَةَ شيخٌ واحدٌ؛ فلذلك رَجَّحتُ أن عليَّ بنَ مُحمَّدٍ الوَرَّاقَ هو ابنُ لُؤلُؤٍ.
أمَّا شيخُهُ مُحمَّدُ بن بَشَّارٍ فلم أَعرِفهُ، وأظُنُّه تَصَحَّفَ عَن أَحمدَ بن بَشَّارٍ. فإِنْ يَكُنهُ، فلعَلَّهُ أَحمدُ بنُ عبد الرَّحمَن بن بَشَّارٍ، أحدُ الرُّواة عن قُتيبَة بن سعيدٍ، ولكِنِّي لم أَجِد له تَرجَمةً.
ولكنَّهُ مُتابَعٌ مِن قِبَل الفِريَابِيِّ، عند ابن بِشرَانَ. والله أعلَمُ.
ثمَّ بدا لي شيءٌ، وهو قَولُ الغُمارِيِّ عن طريق عَليِّ بن مُحَمَّدٍ الوَرَّاقِ: "لكن بِانضِمَامِه إلى الطَّرِيقَينِ السَّابِقَين يَكتَسِبُ قُوَّةً
…
"، فإنَّه جَعَل عَليَّ بن مُحَمَّدٍ الوَرَّاقَ مُتابِعًا لابن لِهَيعَةَ، وقد بَيَّنَّا أنَّه وَقَع سَقْطٌ في الإسناد.
ثُمَّ الاختلافُ في لفظ الحَدِيثِ يَدُلُّ على اضطرِابِهِ، وإن ادَّعَى الغُمَارِيُّ أن هذا الاختلافَ في لَفظِهِ لا يَضُرُّ، ولا سِيَّما مَعَ وَهَاءِ الأسانيد. واللهُ أعلَمُ.
ومِن آفة الاختصارِ أن الحافِظَ ضَعَّفَ هذا الحديثَ بابنِ لهَيعَةَ وَحدَهُ، كما في "التَّلخيص"، فاغتَرَّ بذلك أبو الفَضلِ الغُمَارِيُّ، فذَهَبَ يُقَوِّي الحديثَ بأوجُهٍ من الجواب، فقال في "الاستقصاء لأَدِلَّةِ تحريمِ الاستِمنَاء" - وهو كتابٌ جيِّدٌ -، قال (ص 36):
"الوجه الثَّاني: أن هذا الحديثَ لَهُ طريقٌ آخرُ. فقد ذَكَرَ الحافظُ في "التَّلخِيص" أن أبا الشَّيخِ، وجَعفَرًا الفِريَابِيَّ روياه مِن طريق أبي عَبدِ الرَّحمن الحُبُليِّ، عن عبدِ الله بن عَمرٍو. وفيه ابنُ لهِيعَةَ، وهو حَسَنُ الحديث في المُتابَعَاتِ، كما قال الحافظُ الهَيثَمِيُّ في غيرِ موضعٍ مِن "مجَمَع الزَّوائِد"، بل حَسَّن له أحاديثَ تَفَرَّد بها. ولو شِئنَا أن نَغلُوَ كما غَلَا بعضُ المُعاصِرين، حيثُ ادَّعَى أن ابنَ لَهيعَةَ "ثِقَةٌ ثَبْتٌ حُجَّةٌ"، لقُلنَا إنَّ الحديثَ مِن هذا الطَّرِيق على شَرطِ الصَّحيح. لكن يَمنَعُنَا من ذلك ما في ابن لهَيعَةَ مِنَ الكَلَامِ عِند أهلِ الحدِيث، وإن لم يُتَّهَم بفسقٍ ولا كَذِبٍ، وأَكثر ما ضُعِّفَ به اختلاطُهُ بعد احتراق كُتُبِه. أمَّا هو فَصَدُوقٌ. وقد
بَيَّن حالَهُ شقيقُنَا الحافظُ أبو الفَيضِ في "إِبراز الوَهمِ المَكنُون"، وذَكَرَ أن عَمَلَ المُحَدِّثين استَقرَّ على تَحسِينِ أحاديثِهِ. فبانضِمَامُ هذين الطَّرِيقَينِ يَكُونُ الحديثُ مِن قَبِيلِ الحسَنِ لغَيرهِ، وهو حُجَّةٌ بلا نزاعٍ" انتهَى.
• قلتُ: وفي بحثِهِ نَظَرٌ من وُجُوهٍ:
* الأوَّل: اتِّكَاؤُهُ على صَنِيعِ الهَيثَمِيِّ فِي "المَجمَع"، وأنَّه حَسَّن أحاديثَ لابن لَهيعَةَ انفَرَد بها. ويَعلَمُ القاصِي والدَّانِي مِن أَهلِ الحدِيث أن الهَيثَمِيَّ لَم يَكُن مِن فُرسَانِ هَذَا المَيدَانِ، وهو كَثيرُ الاضطراب في الحُكم على الرُّوَاة، لاسِيَّما ابن لَهيعَةَ؛ فهو تَارَةً يُحَسِّنُ حَدِيثَه، وتارةً يقُولُ:"مُختَلَفٌ فيه"، وتارةً يقولُ:"فيه ضَعفٌ، وقد وُثِّقَ"، إلى آخر هذه العِبَارات.
وهاك بَعضُ عِبَارات الهَيثَمِيِّ في "المَجمَع" بشأن ابن لَهِيعَةَ:
1 -
"حديثُهُ حَسَنٌ، وفيه ضَعفٌ".
4/ 196، 326، و 5/ 134، 158، 169، 197، 277، 317، 330، و 6/ 258، 271، و 7/ 100.
2 -
"فيه ضَعفٌ".
1/ 332، و 2/ 82، و 4/ 120، 165، و 6/ 320، و 7/ 308، 318، و 8/ 19، و 9/ 34، و 10/ 67.
3 -
"حديثُهُ حَسَنٌ".
3/ 257، 298، و 4/ 18، 31، 84، 213، 263، 265، 306، 329، و 5/ 25، 27، 54، 137، 283.
4 -
"ضعيفٌ".
1/ 121، 135، 164، 187، 190، 195، 197، 220، 233، 278، و 4/ 133، و 9/ 161، 168.
5 -
"فيه كلامٌ".
2/ 23، 33، 68، 111، 141، 142، 157، 216، 259، 275، 291، 303، 318، 325، 330، و 3/ 35، 46، 91، 181، 325.
6 -
"فيه لِينٌ".
7/ 291، 318، و 8/ 23.
7 -
"لَيِّنُ الحَدِيثِ".
3/ 26، و 4/ 131، و 6/ 65، و 7/ 205، و 8/ 27/ 408.
8 -
"رجاله وُثِّقوا، وفيهم ضَعفٌ".
7/ 326.
9 -
"رجالُهُ رجال الصَّحيح، غير ابن لِهيعَةَ، وقد وُثِّقَ، على ضَعفِهِ".
10/ 296.
10 -
"فيه كلامٌ، وحديثُهُ حَسَنٌ".
3/ 143، 149، و 4/ 80، 103.
11 -
"رجالُهُ رِجالُ الصَّحِيح".
5/ 31، و 10/ 222.
12 -
"مختلَفٌ في الاحتجاج به".
2/ 166.
13 -
"إسنادُهُ حَسَنٌ".
4/ 57، و 6/ 261، و 8/ 55، و 10/ 71، 237.
14 -
"فيه ابن لَهِيعَةَ، وبقيَّةُ رجالِهِ ثِقاتٌ".
1/ 91، و 4/ 177، و 5/ 160، 276، 284.
15 -
"رجالُهُ ثِقاثٌ".
5/ 188، و 7/ 261، و 10/ 60.
16 -
"فيه ضَعفٌ، وقد يُحسَّن حديثُهُ".
7/ 87.
17 -
"قد احتَجَّ به غيرُ وَاحِدٌ".
1/ 16.
18 -
"بقيَّةُ رجالِهِ حديثُهُم حَسَنٌ أو صَحِيحٌ".
6/ 242.
• قلتُ: فهذِهِ هي ألفاظ الهَيثَمِيِّ على ابن لَهيعَةَ وَحدَهُ، والاضطرابُ فيها ظاهرٌ.
• الثَّاني: قولُهُ: "ولو شئنَا أن نَغلُوَ كما غَلَا بعضُ المُعاصِرِين
…
أن هذا الحديثَ على شرط الصَّحيحِ".
وهو يُعَرِّضُ هنا بالشَّيخ أبي الأشبال أَحمدَ شاكرٍ، فإنَّهُ كان يَذهَبُ هذا المَذهبَ، وأنَّ ابن لَهيعَةَ ثِقَةٌ ثَبتٌ، وهذا مِمَّا لم يُوَافِقهُ عليه أحدٌ؛ لأنَّهُ يُطَوِّحُ بكلام الجَارِحِين، وهُم كَثْرَةٌ من الأثمَّةِ، وجَرحُهُم مُفَسَّرٌ، لا يُمكِنُ تَجاهُلُه. لكنَّ أبا الفَضل الغُماريَّ صَرَّح فِي كِتابٍ آخرَ له أن
أبا الأشبال إِنَّما وَثَّق ابنَ لَهِيعَةَ بدافعِ النَّزعَةِ العَصَبِيَّةِ، لأنَّ كِلَيهِمَا مِصرِيُّ. وحَاشَا أبا الأَشبَالِ أن يَكُونَ هذا دَافِعُه، ولكنَّ الغُماريَّ يَلمِزُ أبا الأَشبَالِ للاختلاف في المَنهَجِ، فهذا سَلَفِيٌّ أثَرِيٌّ، والغُماريُّ خَلَفِيٌّ صُوفيٌّ غَارِقٌ في البِدَعِ. هذه واحدةٌ.
والثَّانية: أن الغُماريَّ يقُولُ: "ولو سَلَّمنَا أن ابنَ لهِيعَةَ ثِقَةٌ حُجَّةٌ لكان هذا الطَّرِيقُ على شرط الصَّحِيح"! و "شَرطُ الصَّحيحِ" يُطلِقُه العُلماء على "الصَّحِيحَينِ" أو أحدِهِمَا. ولم يحتجَّ البُخارِيُّ بابن لهَيعَةَ، إنَّما قَرَنَهُ بِغَيرِهِ، دُون أن يُسَمِّيَهُ، وقد فَعَل هذا قليلًا جِدًّا.
فمن ذلك، ما أَخرَجَه في "كتاب التَّفسير"(8/ 262)، عند تَفسِير قولِهِ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، وفي "كتاب الفِتَن"(13/ 37)، قال: "حدَّثَنا عبدُ الله بنُ يَزِيدَ المُقرِئُ، حدَّثَنا حَيْوَةُ، وغيرُه، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمن أبو الأَسوَدِ
…
" وساق إسنادَهُ.
قال الحافظُ: "قولُهُ: "وغيره" هو ابنُ لهِيعَةَ. أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ" ا. هـ.
• قلتُ: أخرَجَهُ في "الأوسط"(8638) عن عبدِ الله بن صالحٍ، قال: حدَّثَنِي اللَّيثُ، عن أبي الأَسود، بهذا.
وقال: "لم يَروِهِ عن أبي الأَسوَد إلا اللَّيثُ، وابنُ لهِيعَةَ" كذا قال!
وتعقَّبتُهُ في "تنبيه الهَاجِد"(289).
ومِن ذلك، ما أخرَجَهُ في "كتاب الاعتصام" (13/ 282) قال: "حدَّثَنا سعيد بن تَلِيدٍ، حدَّثَنِي ابنُ وهب، حدَّثَني عبدُ الرَّحمن بن شُرَيحٍ، وغيرُه، عن أبي الأسود
…
" وساق إسنادَهُ لحديث: "إنَّ الله لا يَنزِعُ
العِلمَ
…
".
قال الحافظُ: "قولُهُ: "وغيره" هو ابنُ لهَيعَةَ؛ أَبهَمَهُ البُخارِيُّ لضَعفِه، وجَعَل الاعتمادَ على رواية عبدِ الرَّحمن" انتهَى.
أمَّا مُسلِمٌ، فإنَّهُ لَم يَروِ لابن لهَيعَةَ في "صَحِيحِه" شيئًا، فيما أَعلَمُ غيرَ حَدِيثَينِ، صرَّح باسمِهِ في أحدِهِمَا، وأَبهَمَهُ في الآخَر.
أمَّا الحَدِيثُ الذي صَرَّح باسمه فيه، فأخرَجَهُ في "كتاب المَساجِد"(624/ 197)، قال:"حدَّثَنا عَمرُو بنُ سوَّادٍ العَامِرِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ سَلَمَة المُرَادِيُّ، وأحمدُ بنُ عِيسَى - وألفاظُهُم مُتقارِبَةٌ، قال عَمرٌو: أخبَرَنَا، وقال الآخَران: حدَّثَنا - ابنُ وَهبٍ، أخبَرَني عَمرُو بنُ الحارِث، عن يَزِيدَ بن أبي حَبيبٍ، أن مُوسَى بنَ سعدٍ الأَنصَارِيَّ حدَّثَه، عن حَفصِ بن عُبيدِ الله، عن أَنَس بن مالِكٍ، أنَّه قال: صلَّى لنا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم العَصَر، فلمَّا انصَرَفَ أتاه رَجُلٌ مِن بَنِي سَلَمَة، فقال: "يا رسولَ اللّه! إنَّا نُريدُ أن نَنحَرَ جَزُورًا لنا، ونَحنُ نُحِبُّ أن تَحضُرَها"، قال: "نعم! "، فانطَلَق، وانطَلَقنَا مَعَهُ، فوَجَدنَا الجَزُورَ لم تُنحَر، فنُحِرَت، ثُمَّ قُطِّعَت، ثُمَّ طُبِخ مِنها، ثُمَّ أَكَلنَا قبل أن تَغِيبَ الشَّمسُ.
وقال المُرَادِيُّ: حدَّثَنا ابنُ وهبٍ، عن ابن لهِيعَةَ، وعَمرِو بن الحارِث، في هذا الحديث".
فقد رأيتَ أنَّه قَرَنَه بعمرِو بن الحارث.
أمَّا الحديثُ الثَّاني الذي أَبهَمَهُ فيه، فأخرَجَه في "كتاب النِّكاح"(1414/ 56)، قال: "حدَّثَنِي أبو الطَّاهِر، أخبَرَنا عبدُ الله بنُ وهبٍ،
عن اللَّيث، وغيرِه، عن يَزِيدَ بن أبي حَبِيبٍ، عن عبدِ الرَّحمن بن شُمَاسَةَ، أنَّه سَمِع عُقبَةَ بنَ عامرٍ على المِنبَر يقُولُ: إنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: المُؤمِنُ أخُو المُؤمِنِ، فلا يَحِلُّ للمُؤمنِ أن يَبتاعَ على بيع أخيه، ولا يَخطُبَ على خِطبَة أخيه، حتَّى يَذَرَ".
وقولُه: "وغيره" هو ابنُ لِهَيعَةَ، كما في "سُنَن البَيهَقِيِّ"(5/ 346).
• قلتُ: فهذا كُلُّ ما لابن لهَيعَةَ تقريبًا في "الصَّحِيحَينِ". وكُلُّ حديثه في المُتابَعات، وهي لَيسَت مِن شرط "الصَّحيح"، فأيُّ صحيحٍ عَنَى الغُماريُّ بكلامه؟!
ولو قَصَد غيرَ "الصَّحِيحَينِ" أو أحدِهما لكان غَلَطًا بيِّنًا، لم يَقُل به أحدٌ مِن أهل العِلم، فإنَّهُم إذا قَصَدُوا غيرَ "الصَّحِيحَينِ" قَيَّدُوا الحُكم، فيقولون: على شَرط صحيح ابن حِبَّان، أو ابن خُزَيمَةَ، مثلًا، مع أن هذا غيرُ معهُودٍ منهم. والله أعلَمُ.
• الوجه الثَّالث: ما نَقَلَه عن شقيقِهِ أبي الفيض: "أن عَمَل المُحَدِّثين استَقَرَّ على تحسين حديثِهِ"، فهذه دعوَى يُستدَلُّ لها، لا بها؛ ولا زال المُتَأَخِّرُون من العُلماء يُكثِرُون من تضعيف حديث ابن لِهَيعَةَ. ثُمَّ لو سَلَّمنَا بهذه الدَّعوى، فإنَّ رِواية الرَّاوِي لا تَخرُجُ عن ثلاثة أنواعٍ: إمَّا أن يُتابَعَ، وإمَّا أن يُخالَفَ، وإمَّا أن يتفرَّدَ، فعن أيِّ هذه الأنواع يتحدَّثُ الغُماريُّ؟! فهل إذا خُولِفَ ابنُ لهَيعَةَ، أو تَفَرَّدَ، يُحَسَّنُ حديثُه هكذا بإطلاقٍ؟!
• الوجه الرَّابعُ: قولُه: "يكونُ الحديثُ مِن قَبِيلِ الحَسَنِ لغيرِهِ، وهو
حُجَّة بلا نزاع "كذا قال! والنِّزاعُ في حُجِّتةِ الحَسَن لغير قائمٌ، نازَعَ فيه أبو الحَسَن بنُ القَطَّان، وأيَّدَهُ الحافظُ.
وفي المسألة تفصيلٌ، ليس هاهنا مَوضِعُ بَسطِهِ.
ثُمَّ قال الغُماريُّ (ص 36 - 39):
"الوَجهُ الثَّالِثُ: ولو سَلَّمنَا أن الحديثَ لَم يَرتَقِ بمجموع الطَّرِيقَينِ إلَى درجة الحَسَنِ، فهو معمولٌ به أيضًا. وقولهم: "الحديثُ الضَّعِيفُ لا يُعمَل به في الأَحكَامِ" هو مِمَّا خالَف فيه عَمَلُ العُلَمَاءِ قَولَهُ؛ ذلك أَنَّهُم استَدَلُّوا في كتُبِهم بكثيرٍ مِنَ الأحاديث الضَّعِيفَةِ. فقد سَرَدَ شقِيقُنَا الحافظُ أبو الفَيضِ رحمه الله في كتابه "المُثْنَوْنِيِّ والبَتَّار" جُملَةً من الأحاديث الضَّعيفَةِ التي أَخَذَ بها المالكيَّةُ، ثُمَّ قال بعد سَردِهَا، ما نَصُّهُ: "على أن الاحتجاجَ بالحدِيثِ الضَّعيفِ في الأحكام ليس خاصًّا بالمالكيَّةِ، بل كُلُّ الأَئِمَّةِ يَحتَجُّون به. ولذلك كان قولهم:"الضَّعِيفُ لا يُعمَل به في الأحكام" قولًا ليس على إطلاقِهِ، كما يَفهَمُهُ جُلُّ النَّاس أو كُلُّهم؛ لأنَّك إذا نَظَرتَ في أحاديثِ الأحكامِ التي أَخَذَ بها الأَئِمَّةُ، على الاجتماع والانفراد، تَجِدُ فيها مِنَ الضَّعِيفِ ما لَعَلَّهُ يَبلُغُ نِصفَها أو يَزِيدُ، ورُبَّما وَجَدتَ المُنكَرَ، والسَّاقِطَ القريبَ مِن المَوضُوع. إلَّا أن بَعضَها قالُوا فيه:"تُلُقِّيَ بِالقَبُول"، وبَعضَها قالُوا:"انعَقَد الإجماعُ على مَضمُونِهِ"، وبَعضَها قالُوا:"وَافَقَه القِياسُ"، وبَقِيَ منها ما لم يَجدُوا له دِعَامَةً، فاحتَجُّوا به على عِلَّاته وانفِرَادِهِ، غيرَ نَاظِرِينَ إلى ما أَصَّلُوهُ مِن أن الضَّعيفَ لا يُعمَل به في الأحكام، كما هو الوَاجِبُ، لأنَّ ما وَرَد عن
الشَّارع صلى الله عليه وسلم، وإِن كان ضَعِيفَ السَّنَد، لا يُعدَلُ عنه إلى غَيرِه، والقَولُ قَولُه. والضَّعِيفُ غيرُ مَقطُوعٍ بعدم نِسبَتِه إليه، ما لم يَكُن واهيًا، أو مُعارَضًا بأصلٍ أَقوَى منه. فلَسنَا نَعِيبُ الاحتجاجَ به، عِندَ عَدَمِ وُرُودِ غيرِه، بل نرَى التَّمَسُّكَ به هو الأَولَى والوَاجبَ. وإِنَّما نَعِيبُ الاضطرابَ في شأنه، وهو تَركُهُ عِندَ المُدافَعةِ والاستِهجَانِ، والعَملُ به عِندَ المُوَافَقَةِ والاستِحسَانِ
…
- إلى أن قَالَ: - فكَم مِن حَدِيثٍ ضَعِيفٍ احتَجَّ به الإمامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه في كُتُبِهِ، بل سَأَلهُ أصحابُهُ أن يُمِليَ لَهُم ما صحَّ مِن السُّنَنِ، فامتَنَعَ وأجاب بأنَّ الصَّحِيحَ من السُّنَنِ قَلِيلٌ. كما أنَّه احتَجَّ برجالٍ اشتُهِرُوا بالضَّعفِ عِندَ غَيرِه، وبلَغَهُ الجَرحُ فِيهِم، فلَم يَكُن ذلك مانِعًا له من الاحتِجَاجِ بِخَبَرِهِم. وكذلك مَالِكٌ، احتَجَّ بالمَرَاسِيلِ والبَلَاغَاتِ، وبرجالٍ مُتَّفَقٍ على ضَعفِهم عند أَهلِ الحَدِيثِ. وهكذا بَقِيَّةُ الأَئِمَّةِ، ما مِنهُم أَحَد إلَّا وقد اضطرَّ إلى الأخذ به في كثيرٍ مِن الأَحكامِ، وصَرَّح بعضُهُم بأنَّهُ أَقوَى عِندَهُ من الرَّأي، ومُقدَّمٌ على القِياسِ - قلتُ: هذا مَذهَبُ أحمدَ وأبي دَاوُد. ثُمَّ قال: - بل قَدَّمَهُ أبو حَنِيفَةَ على القِياس في مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ. وأقربُ طريقٍ يُوصِلُكَ إلى التَّحَقُّقِ بهذا، ما يَذكُرُه التِّرمِذِيُّ في "السُّنَنِ" عَقِبَ أحاديثَ يَنُصُّ على ضَعفِهَا وغَرَابَتِهَا، ثُمَّ يقول: وعليه العَمَلُ عند أهل العِلمِ" ا. هـ كلامُهُ. قلتُ: وقد رأيتُ كِتابًا يُسَمَّى "المِعيَار" لأَحَدِ حُفَّاظِ المِئَةِ الثَّامِنة، رتَّبَهُ على الأبواب الفِقيَّة، وذَكَر في كُلِّ بابٍ مِنهُ الأحاديثَ الضَّعِيفَةَ التي أَخَذَ بها الأَئِمَّةُ الأربعةُ، مُجتَمِعِينَ ومُنفَرِدِينَ. وهو مُفِيدٌ في بابه، نَقيسٌ جِدًّا، وَقَفتُ
على نُسخَةٍ مخطُوطَةٍ منه، قريبةٍ مِن زَمَنِ المُؤلِّف، ولعلَّهُ الحافظُ ابنُ المُلَقِّن.
إذا تَقَرَّرَ هذا، فالحَدِيثُ الذي أَورَدنَاهُ ليس بأقلَّ شأنًا مِنَ الأحاديثِ التي احتَجَّ بها الأَئِمَّةُ، وهي ضعيفةٌ. بل لعلَّهُ أَحسَنُ حالًا من كثيرٍ منها؛ لأنَّ ضَعفَهُ خفيفٌ، ولأنَّه مُؤَيَّدٌ بالأدلَّةِ التي أَورَدنَاهَا قَبلَهُ، إذ قد تَضَافَرَت كُلُّها على تحريم الاستمناء" انتهَى كلامُهُ.
• قُلتُ: وهذا الكلامُ فيه حقٌّ وباطلٌ، وبيانُ ما فيه من الخَبْط يحتاجُ إلى مصنَّفٍ مستقِلٍّ، فاكتَفي في هذه العُجالةِ بذِكر بعض النُّكَت المتعَلِّقَة بكلامهما معًا.
وقولُهُ: إنَّ العُلماءَ خالَفُوا ما أصَّلوُهُ في كتُبهِم من أنَّهم لا يحتجُّونَ بالضَّعيفِ من الحديث في الأحكام، وأنَّهم عَمَليًّا خَالَفوا ذلك، فلا يكادُ يمرُّ بابٌ من الفقه إلَّا وتَجدُهُم يحتجُّون بالضَّعيف.
فأقولُ: إنْ قَصَدَ متأخِّري الفُقَهاءِ، فهذا حقٌّ؛ فإنَّ كثيرًا منهم لا عنايةَ لهُ بالحَديث، ورُبَّما وَجَدتَ بعضَهُم ألَّفَ في علومِ الحديث مؤلَّفاتٍ، ومع ذلك فهو عاجزٌ عن معرفَة الصَّحيح من غيرِهِ؛ لأنَّ مثل هذا يحتاجُ إلى دِربةٍ وزمانٍ طويلٍ يَهدِي صاحبَهُ إلى ذَوق المُحدِّثين.
وأكثرُ المتأخِّرين من الفُقهاء لم يَلتَفِت إلى ذلك، فكَم من أحاديثَ اتَّفَق أهلُ الحديث على نَكارَتِها، انتزَعَ الفُقهاءُ منها حَلالًا وحَرامًا، وخَصَّصُوا بها الأحاديثَ الصَّحيحةَ، وقيَّدُوا مُطلَقَها، وادَّعَوا نَسخَها، ومَن طالع كُتبَ الفقهِ المُطوَّلَةَ في سائر المذاهب عَلِمَ ذلك.
وقَد وُفِّق الإمامُ الخَطَّابيُّ رحمه الله في شرح هذه المِحنَةِ أيَّمَا توفيقٍ، فقال في
مطلَع كتابِهِ "معالم السُّنَن"(1/ 2 - 6):
"أمَّا بعدُ، فقد فهمتُ مُسائَلَتكُم إخواني أكرَمكُم الله، وما طلبتُمُوه من تفسيرِ كتاب "السُّنَن" لأبي داوُد سليمانَ بن الأشعثِ، وإيضاحِ ما يُشكَلُ من مُتُون ألفاظِهِ، وشرحِ ما يُستَغلَقُ من معانيه، وبيانِ وُجوه أحكامِهِ، والدِّلالة على مواضع الانتزاعِ والاستنباطِ من أحاديثه، والكشفِ عن معاني الفقهِ المُنطَوِيَةِ في ضِمنِها، لتستفيدُوا إلى ظاهرِ الرِّواية لها باطنَ العِلمِ والدِّرايةَ بها. وقد رأيتُ الذي نَدَبتُمُونِي له وسألتُمُونِيهِ من ذلك أمرًا لا يَسَعُنِي تركُهُ، كما لا يسعُكُم جهلُهُ، ولا يجُوزُ لي كتمانُهُ، كما لا يجوزُ لكم إغفالُهُ وإهمالُهُ؛ فقد عاد الدِّينُ غريبًا كما بدأَ، وعادَ هذا الشَّأنُ دارسةً أعلامُهُ، خاويةً أطلالُهُ، وأصبحت رِباعُهُ مهجُورَةً، ومسالكُ طرقِهِ مجهولَةً.
ورأيتُ أهلَ العِلمِ في زماننا قد حَصَلُوا حِزبَين وانقَسَموا إلى فرقتين: أصحابِ حديثٍ وأثَرٍ، وأهلِ فقهٍ ونَظَرٍ، وكُلُّ واحدةٍ منهُما لا تتميَّزُ عن أُختِها في الحاجَة، ولا تَستَغنِي عنها في دَرْكِ ما نَنْحُوهُ من البُغيَة والإِرادَةِ؛ لأنَّ الحديثَ بمَنزِلَةِ الأساس الذي هو الأَصلُ، والفقهَ بمنزلةِ البِناءِ الذي هو له كالفَرعِ، وكُلُّ بناءٍ لم يوضَع على قاعدةٍ وأساسٍ فهُو مُنهارٌ، وكلُّ أساسٍ خَلَا عن بناءٍ وعِمارةٍ فهو قَفرٌ وخَرَابٌ.
ووجَدتُ هذين الفَرِيقَين على ما بَينَهُم من التَّدَاني في المَحِلَّين، والتَّقارُبِ في المنزلَتَين، وعُمُومِ الحاجةِ من بعضهم إلى بعضٍ، وشُمولِ الفَاقَةِ اللَّازمَة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا مُتهاجِرِينَ، وعلى سبيلِ
الحَقِّ بلُزُوم التَّناصُر والتَّعَاوُن غيرَ مُتظَاهِرِين. فأمَّا هذه الطَّبَقَةُ الذين هم أهلُ الأثَرِ والحديثِ، فإنَّ الأكثرين مِنهُم إنَّما وَكَدُهُم الرِّواياتُ، وجَمعُ الطُّرُقِ، وطَلَبُ الغريب والشَّاذِّ من الحديث الذي أكثَرُهُ موضوع أو مقلوبٌ، لا يُراعُونَ المُتُونَ، ولا يتفهَّمُونَ المعاني، ولا يستَنبِطُون سيَرَها، ولا يستخرِجُونَ رِكَازَهَا وفِقهَهَا، ورُبَّما عابُوا الفُقهاءَ وتناوَلُوهُم بالطَّعن وادَّعَوْا عليهم مُخالَفَة السُّنَنِ، ولا يعلَمُون أنَّهم عن مَبلَغِ ما أُوتُوهُ من العِلمِ قاصِرُون، وبسُوءِ القَول فيهم آثِمُون.
وأمَّا الطبقةُ الأخرى وهم أهلُ الفِقهِ والنَّظرِ، فإنَّ أكثرَهُم لا يُعَرِّجُون من الحديثِ إلَّا على أَقَلِّه، ولا يكادُونَ يُميِّزون صحيحَهُ من سَقِيمِهِ، ولا يَعرِفُون جيِّدَهُ من رَدِيئِهِ، ولا يَعبَؤُونَ بما بَلَغَهم منه أن يحتجُّوا به على خُصومِهِم إذا وافَقَ مَذَاهِبَهم التي يَنتَحِلُونَها ووافَق آراءَهُم التي يَعتَقِدونَها، وقد اصطَلَحوا على مُواضَعَةٍ بينَهُم في قَبُول الخبر الضَّعيفِ والحديثِ المُنقَطِع إذا كان ذلك قد اشتَهَر عِندَهُم، وتعاوَرَتْهُ الأَلسُنُ فيما بَينَهُم، من غير ثَبتٍ فيه أو يَقِينِ عِلمٍ به، فكان ذلك ضِلَّةٌ من الرَّأي، وغَبْنًا فيه، وهؤُلاء - وفَّقَنا اللهُ وإيَّاهُم - لو حُكِي لهم عن واحدٍ من رُؤَساءِ مذاهِبِهم، وزُعَماء نِحَلِهِم، قولٌ يقُولُهُ باجتهادٍ من قِبَلِ نفسِهِ، طَلَبوا فيه الثِّقَة واسْتَبرَؤُا له العُهدةَ، فتَجِدُ أصحابَ مالكٍ لا يَعتَمِدُون من مَذهَبِه إلَّا ما كان مِن روايةِ ابن القَاسِمِ والأَشهَبِ وضُرَبَائِهِم من تِلَادِ أصحابِهِ، فإذا جاءت روايةُ عبدِ الله بن عبدِ الحَكَم وأَضرَابِهِ، لم تَكُن عندهم طائِلًا.
وتَرَى أصحابَ أبي حنيفَةَ لا يَقبَلُون من الرِّوايَةِ عنه إلَّا ما حَكاهُ أبو يُوسُفَ ومُحمَّدُ بنُ الحسَن والعِليةُ من أَصحابِهِ والأَجِلَّةُ من تلامِيذِهِ، فإن جاءَهُم عن الحسَن بن زيادٍ اللُّؤلُؤيِّ وذَوِيهِ روايةُ قولٍ بِخلافِهِ، لم يَقبَلُوه ولم يَعتَمِدُوه.
وكذلك تجدُ أصحابَ الشَّافِعِي إنَّما يُعَوِّلُون في مذهَبِه على رواية المُزنِيِّ والرَّبيعِ بن سُليمانَ المُرَادِيِّ، فإذا جاءت روايةُ حَرمَلَةَ والجِيزِيِّ وأمثالهِمَا لم يَلتَفِتُوا إليها ولم يَعتَدُّوا في أقاويلِهِ.
وعلى هذا عادةُ كُلِّ فِرقَةٍ من العُلماء في أحكام مَذَاهِبِ أئمَّتِهم وأُستَاذِيهِم.
فإذا كان هذا دَأَبُهُم وكانوا لا يَقنَعُون في أمر هذه الفُروعِ وروايَتِها عن هؤلاء الشُّيوخِ إلَّا بالوَثِيقَةِ والثَّبتِ، فكيف يجُوزُ لهم أن يَتَساهَلُوا في الأَمرِ الأَهَمِّ والخَطْبِ الأَعظَمِ، وأن يَتَواكَلُوا الرِّوايَةَ والنَّقلَ عن إمامِ الأئِمَّةِ ورسُولِ ربِّ العِزَّةِ، الواجبِ حُكمُهُ، اللَّازِمَةِ طاعتُهُ، الذي يَجِبُ علينا التَّسلِيمُ لحُكمِهِ والانقيادُ لأمرِهِ، من حيثُ لا نَجِدُ في أنفُسِنا حرَجًا ممَّا قضاهُ، ولا في صُدورِنَا غِلًّا من شيءٍ مما أَبرَمَهُ وأمضَاهُ. أرأيتُم إذا كان للرُّجِل أن يتساهَلَ في أمرِ نَفسِهِ ويتسامَحَ عن غُرَمائِهِ في حقِّهِ، فيأخُذُ منهم الزَّيفَ ويُغضِي لهم عن العَيبِ، هل يجُوزُ له أن يَفعَلَ ذلك في حقِّ غَيرِه إذا كان نائبًا عنه، كوَلِيِّ الضَّعيفِ ووَصِيِّ اليتيم ووكيلِ الغَائب؟ وهل يكُونُ ذلك منه إذا فَعَلَهُ إلَّا خيانةً للعهد، وإِخفَارًا للذِّمَّةِ؟ فهذا هو ذاك، إمَّا عَيَانُ حِسٍّ وإمَّا عَيَانُ مِثْلٍ، ولكنَّ أقوامًا عَسَاهُم
استَوعَرُوا طريقَ الحَقِّ، واستَطَالُوا المُدَّةَ في دَرَكِ الحَظِّ، وأَحَبُّوا عُجالَةَ النَّيْلِ، فاختَصَرُوا طريقَ العِلمِ، واقتَصَرُوا على نُتَفِ حُرُوفٍ مُنتَزَعَةٍ عن معاني أُصول الفِقهِ سمُّوهَا عِلَلًا، وجَعَلُوهَا شعارًا لأنفُسِهم في التَّرَسُّمِ برَسْمِ العِلمِ، واتَّخَذُوها جُنّةً عند لقاء خُصُومِهِم، ونَصَبُوها دَرِيَئَةً للخَوضِ والجِدالِ يَتَنَاظَرُون بها ويَتَلَاطَمُون عليها، وعند التَّصَادُرِ عنها قد حُكِم للغَالِبِ بالحِذقِ والتَّبرِيزِ، فهو الفقيهُ المذكُورُ في عَصرِه، والرَّئيسُ المُعظَّمُ في بَلَدهِ ومِصرِهِ.
هذا، وقد دَسَّ لهم الشَّيطان حِيلَةً لطيفةً، وبَلَغ مِنهُم مَكِيدَةً بلِيغَةً، فقال لهم: هذا الذي في أَيدِيكُم عِلمٌ قصِيرٌ وبِضاعَةٌ مُزجَاةٌ، لا تَفِي بمَبْلَغِ الحاجَةِ والكِفايَةِ، فاستَعِينُوا عليه بالكَلامِ، وصِلُوهُ بمَقطَعَاتٍ منه، واستَظهِرُوا بأُصولِ المُتكلِّمِين، يتَّسِعُ لَكُم مذهبُ الخَوضِ ومَجَالُ النَّظَر. فصَدَّق عليهم ظَنَّهُ، وأطاعَهُ كثيرٌ منهُم واتَّبَعُوه، إلَّا فريقًا من المُؤمِنِين.
فيالَلرِّجال والعُقُول! أنَّى يُذَهَبُ بهم! وأنَّى يَختَدِعُهُم الشَّيطانُ عن حَظِّهم ومَوضِعِ رَشَدِهم! واللهُ المستعانُ.
وقد انتهيتُ أكرَمَكُم اللهُ إلى ما دَعَوتُم إليه بجَهدِي، وأتيتُ من مسألتِكُم بقدر ما تَيَسَّرتُ له، ورجوتُ أن يكُونَ الفقيهُ إذا ما نَظَر إلى ما أَثبَتُّهُ في هذا الكتاب من مَعَانِي الحديثِ ونهَجْتُهُ من طُرُق الفِقهِ المُتشَعِّبَةِ عنه، دعاهُ ذلك إلى طَلَب الحديثِ وتتَبُّعِ عِلمِهِ، وإذا تأمَّلَهُ صاحبُ الحديثِ رَغَّبَهُ في الفِقهِ وتعلَّمِهُ. والله الموفِّقُ" انتهى كلامُهُ.
• قُلتُ: وهذا التَّباعُدُ بين المُحَدِّثين والفُقهاء، والذي أشار إليه
الخَطَابِيُّ لا زال إلى السَّاعة قائمًا، وذلك بسبب تشابُك بعضِ القَوَاعد الأُصوليَّة بينهم، مثلِ اشتراطِ ألَّا يكُونَ الحديثُ شاذًّا، ومثلِ زيادَةِ الثِّقةِ، ونحوِ هذا. فالصَّحيحُ ألَّا يَنظُر الفقيهُ إلى الحديثِ بعَينِ الاعتِبَارِ، إلَّا إذا قَرَّر المُحَدِّثُون صِحَّتَه.
والجَامِعُون بين هَذَين العِلمَين كان كثيرًا في الأزمان القَدِيمَةِ، ثُمَّ غَلَبَت "لَوثَةُ" المُختَصَرَات في المُتأخِّرين، حتَّى صارت بعضُهَا بسبب الإيجاز تَبلُغُ حدَّ الأَلغَاز، وشَرَعَ أَهلُ العِلمِ يشرَحُونَ هذه المُختَصَرات، واختَلَفت أراؤُهُم في قَصدِ المُختَصِر، وكَثُرَت الاعتراضاتُ على التَّعرِيفَات مع تَطرِيق الاحتمالاتِ، وهكذا حتَّى فَقَدَت العُلُومُ رَوْنَقَهَا وقلَّ انتفاعُ الطَّلَبة بها.
وكان بابُ الاحتجاجِ بالحديث الضَّعيف من هذا القَبِيلِ. وخُذ الحديثَ المُرسَلَ مثلًا، فالذي كان سائدًا في زمان التَّابِعِين ومَن بَعدَهُم بقليلٍ، أنَّ الحديثَ المُرسَلَ حُجَّةٌ في الدِّين، وكان ذلك لعُلُوِّ الأسانِيدِ وقِلَّةِ الأوهامِ، حتَّى ادَّعَى الطَّبَرِيُّ أنَّ التَّابِعينَ أَجمَعُوا على قَبُول المَراسِيل، وظَلَّ الأمرُ هكذا إلى رَأسِ المِئَتَينِ، وذَهَب إلى هذا القَولِ أبُو حَنِيفَةَ، ومالكٌ، وهو روايةٌ عن أحمد.
ولمّا تكلَّمَ الشَّافعِيُّ في عدم حُجِّيَّة المُرسَل، تابَعَهُ النَّاسُ كما قال أبُو داوُد، وصار القَولُ السَّائدُ عند جماهير المُحَدِّثِين وكثيرٍ من الفُقَهَاء والأُصُوليِّين أن المُرسَلَ ليس بحُجَّةٍ، ونَقَلَهُ مُسلمٌ في "مُقدِّمة صحِيحِه"، وكذلك قال الرَّازِيَّانِ أبُو حاتِمٍ وأبو زُرعَةَ كما في مَطلَع "المَراسيل"
(ص:7) لابن أبي حاتِمٍ: أنَّهُ لا يُحتَجُّ بالمَراسيل، ولا تَقُومُ الحُجَّة إلَّا بالأسانيد الصَّحِيحَةِ، ووَضَعَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ ضوابطَ لقَبُول المُرسَل تَجِدُها في "الرِّسالة" (ص: 462 - 465).
فهذا النَّوعُ من الأحاديثِ - أعني: المُرسلَ - هو أَكثر الأنواع وَقَعَ فيه النِّزاعُ بين المُحَدِّثين والفُقَهاء. والصَّحيح أنَّهُ ليس بحُجَّةٍ على انفِرَادِه، إلَّا إذا انضاف إليه ما يُعَضِّدُهُ، كما هو مُقَرَّرٌ في مَوضِعِه.
وتَوَسَّعَ المُتأَخِّرُون في قَبُول الضَّعيف، لا سيَّما في فَضَائِل الأَعمَالِ، وجَعَلُوا الحديثَ المُنكَرَ من جُملَة الضَّعيف، والحديثُ المُنكَرُ - لا سيَّما عند مُتَقَدِّمي العُلماء - هو والعَدَمُ سِيَّان، فيَأتِي المُتأخِّرُ فيَعمَلُ به على اعتبار أنَّهُ ضعيفٌ، وأنَّه يُعمَلُ بالضَّعيف في الفَضائِل، غيرَ مُعتَبِرٍ قدرَ الضَّعف فيه.
فاتَّسَع الخَرْقُ على الرَّاقِعِ.
والصَّوابُ من القَولِ في هذا، والذي أدينُ الله تعالى به أنه: لا يَجُوزُ أن يُحتَجَّ في شيءٍ من الدِّين إلَّا بالحديثِ الصَّحيح أو الحَسَن، لا فَرقَ عندنا بين حُكمٍ شَرعِيٍّ في الحَلَال والحرام، وبين فَضِيلَةِ عَمَلٍ، وهذا مَذهَبُ أكابرِ العُلمَاء مثلِ ابن مَعِين، والبُخَارِيِّ، ومُسلِمٍ، وأبي حاتِمٍ، وأبي زُرعَةَ، وابنِ خُزَيمَةَ، وابنِ حِبَّانَ، وأبي زَكَرِيَّا النَّيسابُورِيِّ، في آخَرِين يطُولُ الأمرُ بذِكرِهِم.
ومن الغرائب أن أحد تَلامِذَةِ هؤُلاء الغُمارِّيين من أهل عَصرِنا، وممَّن ابتُلِيَت مِصرُ بأنَّهُ صار مُفتِيًا لها، ادَّعَى أن الذي زَعَم أن الضَّعيفَ لا يُعمَلُ به مُطلقًا هو الشَّيخُ الألباني رحمه الله، وزَعَمَ - وهو شافعيُّ المَذهَب -
أن الإمامَ الشَّافعيَّ رحمه الله كان يَحتَجُّ بالحديثِ الضَّعيف في الحَلال والحَرام، وكذلك سائرُ الأئِمَّةِ المُحَدِّثين كأبي داوُدَ، والنَّسائِيِّ، والتِّرمِذِيِّ، وغَيرِهِم بغَيرِ نَكيرٍ من أحدٍ عَلَيهِم، وهو كاذبٌ في كُلِّ هذا، كما بيَّنتُه في "قَطعِ الأَبهَر من المُفتِي وشَيخِ الأَزهَر" - وأعني بشيخ الأَزهَرِ الدُّكتورَ مُحمَّد سَيِّد طنطاوي - وكتبتُ منه مُجَلَّدَةً. لكنَّنِي في هذه العُجَالَةِ سأَذكُرُ كلامًا للإمام الشَّافعِيِّ خاصَّةً، تَوَقَّفَ عن العَمَل بالحديثِ لأنَّهُ لم تَثبُت صِحَّتُه، فلو كان يحتَجّ بالضَّعيف كما يَزعُم هذا الكاذبُ، فما الذي جَعَلَهُ يتوقَّفُ عن الأَخذِ بالحديثِ؟! وكنتُ قرأتُ قديمًا في "فَتح الباري" أن الحافظَ ابنَ حَجَرٍ جَمَعَ هذه الأحاديثَ في كتابٍ سمَّاه - على ما أَذكُر - "المِنحَة فيما علَّقَ الشَّافِعِيُّ فيه الحُكمَ على الصِّحَّة"، ولم أَرَهُ ولا أظُنّهُ طُبعَ، وحَفَّزَنِي هذا إلى النَّظَر في كتاب "الأُمِّ" للشَّافِعِيِّ، واستَخرَجتُ منه عِدَّة مواضعَ ممَّا علَّق الشَّافِعِيُّ القولَ به على ثُبُوت الحديثِ، وسأَذكُرُه آنفًا إن شاء اللهُ تعالى.
ومِن مَخَازِي هذا المُفتِي أنَّهُ أفتَى منذ عَشرَةِ أيَّامٍ - ونحن في محُرَّم 1432 هـ - أن طلاق المِصرِيِّين لا يَقَعُ، قيل. له: ولم؟ قال: لأنَّ الرَّجُل يقُولُ لامرَأَتِه: "أَنتِ طَالِئ" ليس "طالق"، يعني يَنطِقُونَها بالهَمزَة على اللَّهجة العَامِّيَّة المِصرِيَّة، ولا ينطِقُونَها بالقاف، قال: فلذلك لا يَقَعُ الطَّلاقُ المِصرِيُّ. وكان من أَطرَفِ ما عَلَّق عليه عوَّام النَّاس أن قالُوا: وزواجُ المصريِّين باطلٌ أيضًا؛ لأنَّهُم يقُولُون عنه "جواز" وليس "زواجا"!!
ولا أَدرِي والله! كيفَ سيَلقَى هذا الرَّجُلُ ربَّهُ، وماذا هو قائلٌ له إذا سَأَلهُ عن هذا وأَضعَافِهِ؟!
فاللَّهُمَّ! اقبِضنَا إليكَ غيرَ مُبَدِّلين ولا مَفتُونِين.
أمَّا الواضِعُ التي صرَّحَ الشَّافعِيُّ فيها بتعليق القَولِ بالحديث إلَّا أن يَثبُتَ، فإني لم أتحَرَّ جميعَ المواضع من كُتُبِه، بل ذكرتُ ما وقفتُ عليه أثناءَ نَظَرِي في كتابه. فمن ذلك:
1 -
قَالَ الشَّافِعيُّ في "الأُمِّ" في "كتاب الطَّهَارة"(2/ 92 - 93 - طبع دار الوفاء): "ولا يَعدُو بالجَبَائِر مَوضِعَ الكَسرِ إذا كان لا يُزيِلُها. وقد رُوِي حديثٌ عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ انكَسَر إحدى زِندَيْ يَدَيهِ، فَأَمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَمسَح بالماء على الجَبَائِر ولو عَرَفتُ إسنادَهُ بالصِّحَّة قُلتُ به".
2 -
وقال في "كتاب الصِّيام"(3/ 240 - 242): "وقد رُوِي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحجُومُ"، ورُويَ عنهُ: أنَّهُ احتَجَمَ صائمًا. ولا أعلَمُ واحدًا منهما ثابتًا. ولو ثَبتَ واحدٌ منهُما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قُلتُ به؛ فكانت الحُجَّةُ في قَولِهِ".
3 -
وقَالَ الشَّافعيُّ مُوضِّحًا هذا الكلامَ في "كتاب اختلاف الحديث"(ص 190 - 192): "أخبَرَنا عبدُ الوَهَّاب بنُ عبد المَجِيد، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن أبي قِلابَةَ، عن أبي الأشعَثِ الصَّنعانِيِّ، عن شدَادِ بن أوسٍ، قال: كنت مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زمانَ الفَتحِ، فرأَى رجُلًا يحتَجِمُ لثمانِ عشرَةَ خَلَت من رمضانَ، فقال - وهو آخذٌ بيدي -: "أَفطَر الحَاجِمُ والمحجُومُ".
- وقال أيضًا: - أخبَرَنا سُفيانُ، عن يزيدَ بن أبي زِيادٍ، عن مِقسَمٍ،
عن ابن عبَّاسٍ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم احتَجَمَ مُحرِمًا صائمًا.
- قال الشَّافعيُّ رحمه الله: وسَمَاعُ ابن أَوسٍ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفَتحِ، ولم يَكُن يومئذٍ مُحرِمًا، ولَم يَصحَبهُ مُحرِمًا قبل حجَّة الإِسلامِ. فذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ حِجامَةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عام حَجَّة الإِسلامِ سنةَ عَشرٍ. وحديثُ:"أَفطَرَ الحاجِمُ والمَحجُومُ" في الفَتحِ سنةَ ثمانٍ، قبلَ حَجَّة الإسلامِ بسَنَتَين. فإن كانا ثابتين، فحديثُ ابن عبَّاسٍ ناسخٌ، وحديثُ إفطارِ الحاجِمِ والمَحجُومِ منسُوخٌ، وإسنادُ الحدِيثَينِ معًا مُشتَبِهٌ. وحديثُ ابن عبَّاسٍ أَمثَلُهُما إسنادًا".
4 -
وقال الشَّافعيُّ في كتاب "صلاة العيدين"(2/ 482): "أخبَرَنا إبراهيمُ بنُ مُحَمَّدٍ، عن إسحاقَ بن عبدِ الله، عن عُمَر بن عبدِ العزيز، أنَّهُ كان لا يُجِيزُ في الفِطرِ إلَّا شاهِدَين.
- قال الشَّافعيُّ - رحمةُ اللهِ عليهِ -: - فإنِ شَهِدَ شاهدانِ في يومِ ثلاثِينَ أن الهلالَ كان بالأمسِ، أفطَرَ النَّاسُ أيَّ ساعةٍ عُدِّلَ الشَّاهدان، فإن عُدِّلا قبل الزَّوالِ صلَّى الإمامُ بالنَّاس صلاةَ العيدِ، وإن لم يُعدَّلا حتَّى تزُولَ الشَّمسُ لم يَكُن عليهم أن يُصَلُّوا يَومَهم بعد الزَّوال ولا الغَدِ؛ لأنَّه عملٌ في وقتٍ، فإذا جاوَزَ ذلكَ الوقتَ، لم يُعمَل في غيره.
فإن قال قائلٌ: ولِمَ لا يكُونُ النَّهارُ وقتًا له؟ قيلَ - إن شاء اللّهُ تعالى -: إنَّ رسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم سَنَّ صلاةَ العِيدِ بعدَ طُلوعِ الشَّمشِ، وسَنَّ مواقيتَ الصَّلاة، وكان فيما سَنَّ دلالةٌ على أنَّهُ إذا جاء وقتُ صَلَاةٍ، مَضَى وقتُ التي قَبلَهَا، فلم يَجُز أن يكُونَ آخرُ وَقتِها إلَّا إلى وقت الظُّهرِ؛ لأنَّها صلاةٌ
تُجمَع فيها. ولو ثَبتَ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم خَرَجَ بالنَّاس من الغَدِ إلى عِيدِهِم، قلنا به. وقُلنا أيضًا: فإن لم يَخرُج بهم من الغَدِ خرَجَ بهم من بعد الغد، وقُلنَا: يُصلِّي في يَومِه بعد الزَّوال، إذا جَازَ أن يَزُولَ فيه، ثُمَّ يُصلِّي، جاز في هذه الأحوالِ كُلِّها. ولكنَّهُ لا يَثبُت عندنا. واللّهُ تعالى أعلَمُ".
5 -
وقال في كتابِ "الحَجِّ"(3/ 397): "أخبَرَنا سُفيانُ، عن هشامِ بن عُروَة، عن أبيه، قال: قالت لي عائشَةُ: هل تَستَثنِي إذا حَجَجتَ؟ فقلتُ لها: ماذا أقُولُ؟ فقالت: قُل: اللَّهُمَّ! الحَجَّ أردتُ، ولهُ عَمَدتُ، فإن يَسَّرتَ فهو الحَجُّ، وإن حَبَسَتَني بحابسٍ فهي عُمرَةٌ.
- قال الشَّافعيُّ: - ولو ثبَتَ حديثُ عُروَة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الاستثناء لم أَعدُهُ إلى غيرِهِ، لأنَّهُ لا يَحِلُّ عندي خلافُ ما ثَبَتَ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحُجَّةُ فيه أن يَكُونَ المُستثَنِي مُخالِفًا غَيرَ المُستَثنِي من مُحصَرٍ بعدُوٍّ أو مَرَضٍ، أو ذَهاب مالٍ، أو خَطَإِ عددٍ، أو تَوَانٍ. وكان إذا اشترَطَ فحُبِسَ بعدوٍّ، أو مَرَضٍ، أو ذَهاب مالٍ، أو ضَعفٍ عن البُلوغ، حَلَّ في المَوضِع الذي حُبِسَ فيه بلا هَديٍ ولا كفَّارةٍ غيره، وانصَرَفَ إلى بلاده ولا قَضَاء عليه، إلَّا أن يكُونَ لم يحجَّ حَجَّة الإسلام، فيَحُجَّها. وكانت الحُجَّةُ فيه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَأمُر بشَرطٍ إلَّا أن يكُون على ما يَأمُر به. وكان حديثُ عُروَة عن عائشة يُوافِقُهُ في معنى: أنَّها أَمَرَت بالشَّرط. وكان وَجهُ أَمرِها بالشَّرط إن حُبِسَ عن الحَجِّ فهي عُمرَةٌ، أن يقُولَ: إن حَبَسَنِي حابسٌ عن الحَجِّ، ووجدتُ سبيلًا إلى الوُصُول إلى البَيت فهي
عُمرَةٌ. وكان موجُودًا في قولها: أنَّه لا قضاءَ، ولا كفَّارةَ عليه. واللّه أعلَمُ".
6 -
وقال في كتاب "الصَّيد والذَّبائَح"(3/ 594 - 595): "وقد سُئِلَ ابنُ عبَّاس، فقال له قائلٌ: إنِّي أرمي فأُصمِي وأُنمِي؟ فقال لهُ: كُلْ ما أَصمَيتَ، ودعَ ما أَنمَيتَ.
- قال الشافعيُّ: - "ما أصميتَ": ما قَتَلَه الكَلبُ وأنتَ ترَاهُ، و"ما أنمَيتَ": ما غابَ عنكَ مَقتَلُهُ، فإنْ كان قد بَلَغَ وهُو يراه مثلَ ما وَصَفتُ من الذَّبح، ثُمَّ تردَّى فتوارى أَكَلَهُ، فأمَّا إنقاذُ المَقاتَل فقد يعيشُ بعد ما يَنفَذُ بعضُ المَقَاتِل، ولا يجُوزُ فيه عندي إلَّا هذا، إلَّا أن يكُونَ جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ فإنِّي أتَوهَّمُهُ، فيَسقُطُ كلُّ شيءٍ خَالَف أمرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يقُومُ معه رأيٌ ولا قياسٌ؛ فإنَّ الله عز وجل قَطَعَ العُذرَ بقولِهِ صلى الله عليه وسلم ".
7 -
وقال في كتاب "الأطعمة"(3/ 635 - 636): "أخبَرَنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحلِبَنَّ أحدُكم مَاشِيَةَ أخيه بغَيرِ إذنِهِ، أَيُحبُّ أحدُكُم أن تُؤتَي مَشرَبتُهُ، فتُكسَرَ، فينتَقِلُ متاعُهُ؟ ".
وقد رُوِي حديثٌ لا يَثبُتُ مثلُهُ: "إذا دَخَلَ أحدُكُم الحائطَ، فليَأكُل ولا يَتَّخِذْ خُبنَةً".
- قال الشَّافعيُّ: - وما لا يَثبُتُ لا حُجَّةَ فيه. ولَبَنُ الماشية أولَى أن يكُونَ مُباحًا. فإن لم يَثبُت هكذا من ثَمَرِ الحائط، لأنَّ ذلك اللَّبنَ يُستخلَفُ في كلِّ يومٍ، والذي يَعرِفُ النَّاسُ أنَّهُم يبذُلُون منه ويُوجِبُون
مِن بَذلِهِ ما لا يَبذُلُون من الثَّمَر، ولو ثَبتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قُلنَا به، ولم نُخالِفُه".
8 -
وفي كتاب "البُيُوع"(14/ 141 - 142): قال: نا الرَّبيعُ: قلتُ للشَّافعيِّ - رَحِمَةُ الله عليه -: إنَّ عليَّ بنَ مَعبَدٍ رَوَى لنا حديثًا عن أنسٍ، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أجازَ بَيعَ القَمحِ في سُنبُلِه إذا ابيَضَّ. فقال الشَّافعيُّ:"إنْ ثَبَتَ الحديثُ قُلنا به، فكان الخَاصُّ مُستخرَجًا من العَامِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بَيع الغَرَرِ، وَبَيعُ القَمحِ في سُنبُلِه غَرَرٌ؛ لأنَّهُ لا يُرَى، وكذلك بَيعُ الدَّارِ والأساسُ لا يُرَى، وكذلك بَيعُ الصُّبرَةِ بعضُهَا فوق بعضٍ، أَجَزنَا ذلك كما أجازَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكان هذا خاصًّا مُستَخرَجًا من عامٍّ، وكذلك نُجِيزُ بيعَ القَمحِ في سُنبُله إذا ابيضَّ، إن ثَبَتَ الحديثُ، كما أجَزنا بَيعَ الدَّار والصُّبرَةِ".
9 -
وفي كتاب "البُيُوع" أيضًا (4/ 169): قال الشَّافعيُّ رحمه الله: "ولا بأسَ بالسَّلَف في الحَيَوان كُلِّه: في الرَّقيق، والماشية، والطَّيرِ، إذا كان تُضبَطُ صفَتُهُ، ولا يَختَلِفُ في الحين الذي يَحِلُّ فيه، وسواءٌ كان ممَّا يُستَحيَا، أو ممَّا لا يُستَحيَا، فإذا حلَّ من هذا شيءٌ، وهو من أيِّ شيءٍ ابتيع، لم يُجِز لصاحبِهِ أن يَبِيعَهُ قبل أن يَقبِضَهُ، ولا يَصِرفَهُ إلى غيره، ولكنَّه لا يجُوزُ له أن يُقِيلَ من أصل البَيعِ، ويأخذَ الثَّمَن.
ولا يَجُوزُ أن يبيع الرَّجلُ الشَّاة ويَستَثنِي شيئًا منها، جلدًا ولا غيرَهُ، في سَفَرٍ ولا حَضَرٍ، ولو كان الحديثُ ثَبتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في السَّفَر أجَزناهُ في السَّفَر والحَضَر".
10 -
وقال في كتاب "الصَّداق"(6/ 174 - 176): "وقد رُويَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قضَى في بَرُوعَ بنتِ وَاشِقٍ، ونُكِحت بغير مَهرٍ، فمات عنها زوجُهَا، فقضَى لها بمهرِ نِسائِهَا، وقضَى لها بالميرَاثِ. فإن كان ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو أَولَى الأُمُور بنا، ولا حُجَّة في قول أَحَدٍ دون النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِن كَثُرُوا، ولا في قياسٍ، فلا شيءَ في قوله إلَّا طاعةُ الله بالتَّسليم له. وإن كان لا يَثبُت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُن لأحدٍ أن يُثبِتَ عنه ما لا يَثبُتُ، ولم أَحفَظهُ بَعدُ من وجهٍ يَثبُتُ مِثلُهُ، وهو مرَّةً يُقال: عن مَعقِل بن يَسَارٍ، ومرَّةً: عن مَعقِلِ بن سِنانَ، ومرَّةً: عن بعضِ أَشجَعَ لا يُسمَّى. وإن لم يَثبُت، فإذا ماتَ أو مَاتَت فلا مَهرَ لها، وله منها الميراثُ إن مَاتَت، ولها منه الميراثُ إن مات، ولا مُتعَةَ لها في الموت؛ لأنَّها غيرُ مُطَلَّقَةٍ، وإنَّما جُعِلت المتعةُ للمُطَلَّقَة".
11 -
وقال في كتاب "اختلاف عليٍّ وعبدِ الله بن مسعُودٍ"(8/ 449 - 450): "أخبَرَنا شُعبةُ
(1)
، عن سَلَمَة بن كُهَيلٍ، قال: سمعتُ الشَّعبِيَّ يحدِّثُ، عن أبي الخَلِيل - أو: ابن الخليل -، أن ثلاثةَ نَفَرٍ اشتَرَكوا في طُهرٍ، فلم يُدرَ لمن الولَدُ، فاختَصَمُوا إلى عليٍّ عليه السلام، فأمَرَهُم أن يَقتَرِعُوا، وأمَر الذي أصابَتهُ القُرعَةُ أن يعطى للآخَرَين ثلثي الدِّيَّةِ. وليسُوا يقُولُون بهذا وهم يُثبتُون هذا عن عليٍّ عليه السلام، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويُخالفونَه. والذي
(1)
كذا وقع في "الأمِّ"، وهو عندي خطأٌ؛ والشَّافعيُّ لم يلحق شعبةَ، فربَّما كانت العبارةُ:"أُخبرتُ عن شُعبة"، وتوَّهمتُ أن يكون صوابُهُ:"سُفيان" يعني: ابن عُيينة، لكنَّني لم أجد أحدًا نصَّ على أنَّه يَروِي عن سَلَمَةَ بن كُهَيلٍ، فالله أعلمُ.
يقُولُون هم ما يَثبُتُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلَيسَ لأحدٍ أن يُخالِفَهُ، ولو ثَبَتَ عندنا عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلنا به، ونحنُ نقُولُ: ندعُو القَافَةَ له، فإن ألحَقُوهُ بأحدِهِم فهو ابنُهُ، وإن ألحَقُوهُ بكُلِّهِم، أو لم يُلحِقُوه بأحدِهِم، فلا يكُونُ له، ويُوقَف حتَّى يَبلُغَ، فيَنتَسِبُ إلى أيِّهم شاءَ، ولا يكُونُ له أبوانِ في الإِسلامِ، وهم يقُولُون: هو ابنُهُم، يَرِثُهُم ويَرِثُونَه، وهو للبَاقِي منهم".
12 -
وقال أيضًا في "اختلاف عليٍّ وابنِ مسعُودٍ"(8/ 412): "أخبَرَنا عبَّادُ، عن عاصمٍ الأحوَلِ، عن قَزَعَةَ، عن عليٍّ عليه السلام أنَّه صلَّى في زَلزَلَةٍ سِتَّ ركعاتٍ في أربع سجدَاتٍ، خمسَ ركعاتٍ وسجدتين في ركعَة، وركعةً وسجدتين في ركعَةٍ.
ولَسنا نقُولُ بهذا. نقُولُ: لا يُصلِّي بشيءٍ من الآيات إلَّا في كُسُوف الشَّمس والقَمَر، ولو ثَبَتَ في هذا الحديث عندنا عن عليٍّ عليه السلام لقُلنا به، وهُم يُثبِتُونه ولا يأخذون به، ويقُولُون: يصلِّي ركعتين في الزَّلزَلة، في كلِّ ركعَةٍ ركعَةً.
وقال: أخبَرَنا هُشَيمٌ، عن يُونُسَ، عن الحَسَن، أن عليًّا عليه السلام صلَّى في كُسُوف الشَّمس خمسَ ركعاتٍ وأربعَ سجداتٍ. ولَسنا ولا إيَّاهُم نقُولُ بهذا.
وأمَّا نحنُ فنقولُ بالذي رُوِّينا عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم: أربعَ ركعاتٍ وأربعَ سجداتٍ. أخبَرَنا بذلك مالكٌ، عن يحيَى، عن عَمرَة، عن عائشَةَ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في كُسُوفِ الشَّمس ركعَتَين وسجدَتَين، في كلِّ ركعةٍ ركعَتَين.
وقال: أخبَرَنا مالكٌ، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشةَ بمِثلِه.
وقال: أخبَرَنا مالكٌ، عن زَيد بن أسلَمَ، عن عطاء بن يَسارٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمِثلِه.
وقالُوا هُم: يُصلِّي رَكعَتين كما يُصلِّي سائرَ الصَّلَوات، ولا يَركَعُ في كلِّ ركعةٍ ركعتين، فخالَفُوا سُنَّة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وخَالَفوا ما رَووه عن عليٍّ عليه السلام.
13 -
وقال في كتاب "سِيَر الأَوزَاعِيِّ"(9/ 196) يرُدُّ على أبي يُوسُف صاحبِ أبي حنيفة رحمه الله: "احتَجَّ أبو يُوسُف أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أبا عامِرٍ إلى أَوطَاسَ، فَغَنِمَ غَنائِمَ، فَلَم يُفَرِّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين مَن كَانَ مع أبي عامرٍ، وبَينَ مَن كان مُتخلِّفًا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن أبي عامِرٍ. وهذا كما قال، ولَيسَ ممَّا قال الأَوزَاعِيُّ وخَالَفَه هو فيه بسَبِيلٍ؛ أبُو عامِرٍ كان في جيش النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَعَهُ بحُنَينٍ، فبَعَثَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في اتِّبَاعِهم. وهذا جيشٌ واحدٌ كلُّ فرقَةٍ مِنهُم رِدءٌ للأُخرَى، وإذا كان الجيشُ هكذا، فلو أصاب الجَيشُ شيئًا دُون السَّرِيَّةِ أو السَّريَّةُ شيئًا دون الجيشِ كانُوا فيه شُركاءَ؛ لأنَّهم جيشٌ واحدٌ، وبعضُهُم رِدءٌ لبعضٍ. وإن تفَرَّقوا، فسارُوا أيضًا في بلاد العَدُوِّ، فكذلك شَرِكَت كلُّ واحدةٍ من الطَّائفتَين الأُخرَى فيما أصابوا. فأمَّا جيشان مُفتَرِقَان، فلا يَرُدُّ واحدٌ منهما على صاحبِهِ شيئًا، وليسا بجيشٍ واحدٍ، ولا أحدُهُما رِدءٌ لصاحبِهِ مُقيمٌ له عليه. ولو جاز أن يَشرِكَ واحدٌ من هذين الجَيشَين الآخرَ كان أن يُشرِكَ أهلَ طَرَسُوسَ وعَيْنِ زَرْبَى مَن دَخَلَ بلادَ العدُوِّ؛ لأنَّهم قد يُعِينُونَهُم أو استُنفِرُوا إِلَيهِم
حينَ ينالونَ نُصرَتَهُم في أدنى بلاد الرُّوم. وإنَّما يَشتَرِكُ الجيشُ الواحدُ الدَّاخلُ واحدًا وإن تفرَّقَ في ميعاد اجتماعٍ في موضعٍ.
وأمَّا ما احتجَّ به من حديث مُجالِدٍ أن عُمَرَ كَتبَ: "فمن أتاك مِنهُم قبل تتفَقَّأ القتلَى فأَشرِكهُم في الغَنِيمَة"، فهذا غيرُ ثابتٍ عن عُمَر، ولو ثَبَتَ عنه كُنَّا أَسرَع إلى قَبُوله مِنهُ. وهو إن كان يُثبِتُهُ عنه فهو محجُوجٌ به، لأنَّهُ يُخَالِفُه، وهو يَزعُم
…
الخ".
وقال في كتاب "الرَّدِّ على مُحمَّد بن الحَسَن"(9/ 140 - 141): "أخبَرَنا ابنُ عُيَينَة، عن صدَقَةَ بن يَسارٍ، قال: أَرسَلنَا إلى سعيدِ بن المُسيَّب نسألُهُ عن دِيَةِ المُعَاهَد. فقال: قضَى فيه عُثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه بأربعةِ آلافٍ، قال: فقُلنا: فمَن قَتَلَه؟ قال: فحَصَبَنا.
- قال الشَّافعيُّ: - هم الذين سألُوهُ آخِرًا
(1)
، قال: سعيدُ بنُ المُسيَّب، عن عُمَر: مُنقطعٌ. قلنا: إنَّهُ لَيَزعُمُ أنَّهُ قد حَفِظ عنه، ثُمَّ تزعمُونَهُ أنتم خاصَّةً، وهو عن عُثمانَ غيرُ مُنقطِعٍ. قال: أَفَبِهَذا قلت؟ قُلتُ: نعم، وبغيره.
قال: فلِمَ قال أصحابُك: نصفُ دية المُسلِم؟ قلتُ: رُوِّينا عن عَمْرِو بن شُعَيبٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُقتَلُ مُسلَمٌ بكافرٍ، ودِيَتُهُ نصفُ دِيَةِ المسلِمِ"، فلم لا تأخُذ به أنتَ؟ قلتُ: لو كان ممَّن يَثبُت حديثُهُ لأَخَذنَا به، وما كان في أحدٍ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ. قُلنا: فيكُونُ لنا مِثلُ ما لهم؟ قال: نعم".
(1)
قال المحقِّقُ في حاشيته: قال البيهقيُّ في "المعرفة"(6/ 233) تعليقًا على هذه العبارة: "إنَّما أراد - واللهُ أعلمُ - أن ابنَ المُسيَّب كان يقُولُ بخلاف ذلك، ثُمَّ رجع إلى هذا".
14 -
وقال في كتاب "اختلاف الحَديث"(ص 151 - 152): ويُستَحَبُّ له - يعنى: للرَّجُل إذا أَعطَى أولادَهُ عطيَّةً - أن يُسَوِّي بَينَهُم، لئلَّا يُقَصِّرُ واحدٌ مِنهُم في بِرِّهِ، فإنَّ القَرابَةَ تَنفَسُ بعضُها بعضًا ما لم تَنفَسِ البَعَادَةُ"، قال الرَّبيعُ: يريدُ البُعَدَاءَ.
وقد فضَّلَ أبو بكرٍ عائشةَ بنُحْلٍ.
وفضَّلَ عُمَرُ عاصِمَ بنَ عُمَرَ بشَيءٍ أعطاه إيَّاه.
وفضَّلَ عبدُ الرَّحمن بنُ عَوفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلثوم.
قال الشَّافِعِيُّ: "ولو اتصَّلَ حديثُ طَاوُوس أنَّه لا يَحِلُّ لواهبٍ أن يَرجِعَ فيما وَهَبَ إلَّا الوَالدَ فيما وَهَبَ لولده، لزَعَمتُ أن مَن وَهَبَ هِبَةً لمن يَستَثِيبُهُ مِثلَهُ أو لا يَستَثِيبُهُ وقُبِضَت الِهبَةُ، لم يكن للواهب أن يَرجِعَ في هِبَتِه، وإِن لم يُثِبهُ الموهُوبُ لهُ. واللهُ أعلمُ".
• قُلتُ: فهذه بعضُ المَوَاضِعِ التي ظَفَرتُ بها من كلام هذا الإِمامِ، وهي دالَّةٌ على أنَّهُ كان جديرًا بأن يلَقَّبَ:"ناصرَ الحديث" كما سمَّاهُ أهلُ مكةَ.
وكانَ الإمامُ أحمدُ يقُولُ: "كانت أُقضِيَاتُنا في أَيدِي أهلِ العِراقِ، فانتَزَعَهَا الشَّافِعِيُّ، فرَحمَةُ الله تَترَى عليه إلى يوم القيامة".
أمَّا شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله فلهُ بحثٌ مُمتِعٌ في الرَّدِّ على من يقُول: إنَّ الضَّعيفَ يُعمَلُ به عندَ المُحدِّثِين والأُصُولِيِّين في فضائلِ الأعمال.
قال شيخُنا في مُقدِّمَتِه على "صحيح الجامع الصَّغير":
"إنَّ كثيرًا من النَّاس يَفهَمُون مِن مِثلِ هذا الإطلاقِ، أن العَمَل
المَذكُورَ لا خِلافَ فيه عند العُلَماء. وليس كذلك، بل فيه خلافٌ معرُوفٌ، كما هو مبسُوطٌ في كُتب مُصطَلَحِ الحديث، مثلِ "قواعد التَّحديث" للعلَّامة الشَّيخ جمالِ الدِّين القَاسِمِي رحمه الله، فقد حَكَى فيه (ص: 113) عن جماعةٍ من الأَئِمَّة أنَّهم لا يَرَونَ العَمَلَ بالحديثِ الضَّعيفِ مُطلقًا كابنِ مَعِينٍ، والبُخارِيِّ، ومُسلِمٍ، وأبي بَكرٍ بن العَرَبِيِّ الفقيهِ، وغيرِهم. ومِنهُم ابنُ حَزمٍ، فقال في "المِلَل والنِّحَل":"ما نَقَلَ أهلُ المَشرِقِ والمَغرِبِ، أو كافَّةٌ عن كافَّةٍ، أو ثِقَةٌ عن ثِقَةٍ، حتَّى يَبلُغ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا أن في الطَّريق رَجُلًا مجرُوحًا بكَذِبٍ، أو غَفلَةٍ، أو مجهُولَ الحالِ، فهذا يقُولُ به بعضُ المُسلِمِين، ولا يحلَّ عِندَنَا القَولُ به ولا تَصدِيقُهُ، ولا الأَخذُ بشيءٍ منه".
قُلتُ: وقال الحافظُ ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ في "شرح التِّرمذِيِّ"(ق 112/ 2): "وظاهرُ ما ذَكَرَه مُسلِمٌ في مُقدِّمَة كتابه - يعني: "الصَّحيحَ" يقتَضِى أنَّهُ لا تُروَى أحاديثُ التَّرغيب والتَّرهيبِ، إلَّا عمَّن تُروَى عنه الأحكَامُ".
قُلتُ: وهذا الذي أَدِينُ به، وأَدعُو النَّاسَ إليه، أن الحديثَ الضَّعيفَ لا يُعمَلُ به مُطلَقًا، لا في الفَضَائِل والمُستَحَبَّاتِ، ولا في غَيرِهما؛ ذلك لأنَّ الحديثَ الضَّعيفَ إنَّما يُفِيدُ الظَّنَّ المَرجُوحَ بلا خلافٍ أعرفُهُ بينَ العُلَماء، وإذا كان كذلك، فَكيف يُقالُ بجوازِ العَمَل به، واللهُ عز وجل قد ذمَّهُ في غَيرِ ما آيةٍ من كتابِهِ، فقال تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وقال تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]. وقال رسُولُ الله
- صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُم والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحديث". أخرَجَهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ.
واعلَم! أنّهُ ليسَ لَدَى المُخالِفِين لهذا القَولِ الذي اختَرتُهُ أيُّ دليلٍ من الكتاب والسُّنَّةِ. وقد انتَصَر لهم بعضُ العُلَماء المُتأخِّرين في كتابه "الأجوبَة الفَاضِلَة" في فَصلٍ عَقَدَهُ لهذه المسأَلَةِ (36 - 59). ومع ذلك، فإنَّهُ لم يَستَطِع أن يَذكُر لهم، ولا دليلًا واحدًا يَصلُح للحُجَّة! اللهُمَّ إلَّا بعض العِبارَات، نَقَلَها عن بَعضِهم لا تَنفَقُ في سُوقِ البَحثِ والنِّزاع، مع ما في بعضِها من تعارُضٍ، مثلُ قولِه (ص: 41) عن ابن الهُمَام: "الاستِحبَابُ يثبُتُ بالضَّعيفِ غيرِ الموضوعِ"! ثُمَّ نَقَلَ (ص: 55 - 56) عن المُحقِّقِ جلال الدين الدَّوَّانِيِّ أنَّهُ قال: "اتَّفَقُوا على أن الحديثَ الضَّعيفَ لا يَثبُتُ به الأحكامُ الخَمسَةُ الشَّرعيَّةُ، ومنها الاستحبابُ".
قُلتُ: وهذا هو الصَّوابُ؛ لما تقدَّمَ من النَّهي عن العَمَل بالظَّنِّ الذي يُفيدُهُ الحديثُ الضَّعيفُ. ويؤيِّده قولُ شَيخِ الإسلام ابن تَيمِيَةَ في "القاعدة الجليلة"(ص 84 - المطبعة السَّلَفيَّة): "ولا يجُوزُ أن يَعتَمِدَ في الشَّريعة على الأَحادِيثِ الضَّعيفَةِ التي ليسَت صحيحةً ولا حسَنَةً. لكن أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ وغيرَهُ من العُلَماء، جَوَّزُوا أن يُروَى في فضائلِ الأعمال ما لم يُعلَمْ أنَّهُ ثابتٌ، إذا لم يُعلَم أنَّه كَذِبٌ، وذلك أن العَمَل إذا عُلِمَ أنَّه مشرُوعٌ بدليلٍ شرعيٍّ، ورُوِي في فَضلِهِ حديثٌ لا يُعلَمُ أنَّهُ كَذِبٌ، جازَ أن يَكونَ الثَّوابُ حقًّا، ولَم يَقُل أحدٌ من الأئمَّة أنَّه يجُوزُ أن يُجعَل الشَّيءُ واجبًا أو مُستحبًّا بحديثٍ ضعيفٍ، ومَن قال هذا فقد خَالَف الإِجماعَ".
ثمَّ قال (ص 85): "وما كان أحمدُ بنُ حَنبَلٍ، ولا أمثالُهُ من الأئمَّةِ يَعتَمِدُون على مثلِ هذه الأحاديثِ في الشَّرِيعَةِ. ومن نَقَلَ عن أحمدَ أنَّهُ كان يَحتَجُّ بالحديثِ الضَّعيفِ الذي لَيسَ بصحيحٍ ولا حَسَنٍ، فقد غَلَطَ عليه
…
".
وقال العلَّامَةُ أحمد شاكر في "الباعث الحثيث"(ص 151): "وأمَّا ما قالَهُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ وعبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ وعبدُ الله بنُ المُبارَك: "إذا رَوَينَا في الحَلَالِ والحَرَام شَدَّدْنا، وإذا رَوَينَا في الفَضَائلِ ونَحوِهَا تَسَاهَلنا"، فإنَّما يُرِيدُون به - فيما أُرَجِّحُ، واللهُ أعلَمُ - أن التَّسَاهُلَ إنَّما هو في الأخذ بالحديثِ الحَسَن الذي لم يَصِل إلى درجَةِ الصِّحَّة، فإنَّ الاصطلاحَ في التَّفرقَة بينَ الصَّحيحِ والحَسَنِ، لم يَكُن في عَصرِهم مُستَقِرًّا واضحًا، بل كان أكثَرُ المُتقدِّمِين لا يَصِفُ الحديثَ إلَّا بالصِّحَّةِ أو بالضَّعفِ فقط".
قُلتُ: وعِندِي وجهٌ آخَرُ في ذلك، وهو أن يُحمَلَ تساهُلُهم المَذكُورُ على روايَتِهم إيَّاها مقرُونَةً بأسانِيدِها - كما هي عادَتُهُم - هذه الأسانيدُ التي بها يُمكِنُ معرفَةُ ضَعفِ أحادِيثِها، فيكُونُ ذِكرُ السَّنَد مُغنيًا عن التَّصريح بالضَّعف، وأمَّا أن يَروُوها بدُون أسانِيدِها، كما هي طريقَةُ الخَلَف. ودون بيان ضعفَها، كما هو صَنيعُ جُمهُورِهِم، فَهُم أجَلُّ وأتقَى لله عز وجل مِن أن يَفعَلُوا ذلك. والله تعالى أعلَم".
ثم تكلَّم الشَّيخُ عن شُروط العمل بالحديث الضَّعيف، فقال:
وأَرَى لِزامًا عليَّ بهذِهِ المُناسَبَة، أن أُسجِّلَ هنا تِلكَ الشُّرُوطَ من مَصدَرٍ موثُوقٍ، ليُرَى مَبلَغَ بُعدِ النَّاس عن التِزامِهَا، الأمرُ الذي أدَّى بِهِم إلى
تَوسِيعِ دَائرة التَّشرِيعِ والتَّكليفِ بالأحاديثِ الوَاهِيَةِ والموضُوعَة.
قال الحافظُ السَّخاوِيُّ في "القَولُ البديعُ في الصَّلاةِ على الحبيب الشَّفيع"(ص 195 - طبع الهند): "سمعتُ شيخَنا مرارًا يقُولُ [يعنى: الحافظَ ابن حَجَرٍ العَسقَلانِيَّ، - وَكَتَبَهُ لي بخَطِّهِ - إنَّ شَرائطَ العَمَل بالضَّعيف ثلاثَةٌ:
الأوَّلُ: متَّفَقٌ عَلَيهِ أن يكُونَ الضَّعفُ غيرَ شديدٍ، فيخرُج مَن انفَرَدَ من الكذَّابين، والمُتَّهَمِين بالكَذِب، ومَن فَحُشَ غَلَطُهُ.
الثَّاني: أن يكُونَ مُندَرِجًا تحت أصلٍ عامٍّ، فيَخرُجُ ما يُختَرَعُ بحيثُ لا يكُونُ لهُ أصلٌ أصلًا.
الثَّالث: أن لا يُعتَقدُ عند العَمَل به ثُبوتَهُ، لئلَّا يُنسَب إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلهُ.
قالَ: والأخيرَان عن ابن عبدِ السَّلام، وعن صاحِبِه ابن دقِيقٍ العِيدِ.
والأوَّلُ نقَلَ العَلَائِيُّ الاتفاقَ عليه".
قُلتُ: وهذه شُروطٌ دقِيقَةٌ وهامَّةٌ جدًّا، لو التزَمَها العامِلُون بالأَحاديث الضَّعيفَةِ، لَكَانت النَّتيجَةُ أن تُضَيِّقَ دَائرةَ العَمَلِ بها أو تُلغَى من أصلِهَا. وبيانُهُ من ثلاثَةِ وجوهٍ:
أولًا: يدُلُّ الشَّرطُ الأوَّلُ على وُجوبِ معرِفَة حالِ الحديث الذي يُريدُ أحدُهُم أن يَعملَ به، لكي يتَجنَّبَ العملَ به إذا كان شَدِيدَ الضَّعفِ. وهذه المعرِفَةُ ممَّا يصعُبُ الوُقوفُ عليها مِن جَماهِيرِ النَّاس، وفي كُلِّ حديثِ ضعيفٍ يُريدُونَ العَمَل به، لقِلَّة العُلَماء بالحديث، لاسيَّما في
العَصر الحَاضِر، وأَعنِي بهم أهلَ التَّحقيق الذين لا يُحدِّثُونَ النَّاسَ إلَّا بما ثَبَتَ من الحديثِ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ويُنبِّهُونَهُم على الأحاديث الضَّعيفة، ويحذِّرُونَهم منها، بل إنَّ هؤُلاء هم أقلُّ من القَلِيلِ. فاللهُ المُستَعان.
من أجل ذَلك تَجدُ المُبتَلِينَ بالعَمَل بالأحاديث الضَّعيفَةِ، قد خالَفُوا هذا الشَّرطَ لمخالَفَةً صَرِيحَةً، فإنَّ أحدَهُم - ولو كان من أهل العِلمِ بغير الحديثِ - لا يكادُ يَقِفُ على حديثٍ في فضائل الأَعمَالِ، إلَّا ويُبَادِرُ بالعَمَلِ به دُونَ أن يَعرِف سلامَتَهُ من "الضَّعف الشَّديد" فإذا قُيِّضَ لَهُ من يُنَبِّهُهُ إلى ضَعفِهِ، رَكَنَ فورًا إلى هذه القَاعِدَة المزعُومَة عندهُم:"يُعمَل بالحديث الضَّعيفِ في فضائلِ الأعمال"، فإذا ذُكِّرَ بهذا الشَّرط، سَكَتَ ولم يَنبِس ببِنتِ شِفَةٍ!
ولا أُريدُ أن أذهبَ بعيدًا في ضَربِ الأَمثِلَةِ على ما قُلتُ، فهذا هو العلَّامَةُ أبُو الحَسَنَات اللَّكنَوِيُّ يَنقُلُ في كتابه السَّابق "الأجوبة" (ص:37) عن العلَّامة الشَّيخِ على القَارِي أنَّه قال في حديثِ: "أَفضَلُ الأيَّامِ يومُ عَرَفَةَ إذا وَافَقَ يومَ الجُمُعَة، فهو أفضَلُ من سبعينَ حَجَّةً"، رواهُ رَزِينُ: "أمَّا ما ذكَرَهُ بعضُ المُحدِّثِين في إسنادِ هذا الحديثِ أنَّه ضعيفٌ، فعلَى تقديرِ صِحَّتِهِ
(1)
لا يضُرُّ المقصُودَ، فإنَّ الحديثَ الضَّعيفَ مُعتَبَرٌ في فضائلِ الأعمال" وأقرَّهُ اللَّكنَوِيُّ.
فتأمَّل أيُّها القارئُ الكريمُ، كيف أَخَلَّ هذان الفَاضِلَان بالشَّرط
(1)
يعني: على تقدير صحَّة قول القائل: "إنَّه ضعيفٌ".
المَذكُورِ، فإِنهَّما حتمًا لم يَقِفَا على إِسنادِ الحديثِ المَذكُورِ، وإلَّا لبيَّنَا حالَهُ، ولم يَسلُكَا في الجواب عنه طَرِيقَ الجدَل:"فعلى تَقدِيرِ صِحَّتِه"، أي: صِحَّة القَولِ بِضَعفِهِ! وأنَّى لهُما ذلك، والعلَّامةُ المُحَقِّقُ ابنُ القَيِّم قد قال عنه في "زاد المَعَاد" (1/ 17):"باطلٌ، لا أصلَ لهُ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصَّحابَة والتَّابِعِين".
ونحوُ ذلك ما نَقَلَهُ الفاضلُ المذكُورُ (ص 26) عن "شرح المَوَاهِب" للزُّرقَانِيِّ: "أخرَجَ الحاكمُ و
…
عن عليٍّ موقُوفًا: "إذا كتبتُمُ الحديثَ فاكتُبُوه بإسنادِهِ، فإن يَكُ حقًّا كُنتُم شُرَكاءَ في الأجر، وإن يَكُ باطلًا كان وِزرُهُ عليه" يعنى ولا وِزرَ على نَاقِلِه"، وهذا خلافُ ما عَلَيه أهلُ العلم أنَّهُ لا يجُوزُ روايةُ الحديثِ المَوضُوع إلَّا مع بيان وَضعِهِ، وكذلك الحديثِ الضَّعيفِ عِندَ أهل التَّحقيق مِنهُم كابنِ حِبَّان
(1)
وغيرِهِ، على ما بيَّنتُهُ في مُقدِّمة "سلسلة الأحاديث الضَّعيفة". وقد قال العلَّامَةُ أحمد محمد شاكر في "الباعث الحثيث" (ص: 110) بعد أن ذكَر الشُّرُوطَ الثَّلاثةَ المُتقدِّمةَ: "والذي أَرَاهُ أن بَيَانَ الضَّعفِ في الحديثِ الضَّعيف وَاجبٌ في كلِّ حالٍ، لأنَّ تَركَ البَيَان يُوهِمُ المُطَّلَعَ عليه أنَّه حديثٌ صحيحٌ، خصُوصًا إذا كان النَّاقلُ له من عُلماءِ الحديثِ الذين يُرجَعُ إلى
(1)
قال في ترجمة: "سعيد بن زيادٍ" من "المجروحين"(1/ 328): "والشَّيخ إذا لم يرو عنه ثقةٌ فهو مجهولٌ، لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنَّ رواية الضَّعيف لا تُخرجُ مَن ليس بعدلٍ عن حدِّ المجهولين إلى جُملة أهل العدالة، كأنَّ ما روى الضَّعيفُ وما لم يروِ في الحُكم سيَّان"، وقال نحوًا من ذلك (1/ 108) في ترجمة:"إبراهيم بن مُحمَّد بن إبراهيم بن الحارث".
قَولهِم في ذلك، وأنَّهُ لا فَرقَ بين الأَحكَام، وبينَ فَضائِل الأَعمَال ونَحوِها، في عدم الأَخذِ بالرِّوايَة الضَّعيفَة، بل لا حُجَّة لأحدٍ إلَّا بما صحَّ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، من حديثٍ صحيحٍ أو حَسَنٍ".
قُلتُ: والخُلاصَةُ أن التزامَ هذا الشَّرط يؤدِّي عمليًّا إلى تَركِ العَمَلِ بما لم يَثبُت من الحديث، لصُعُوبَةِ معرِفَةِ الضَّعفِ الشَّدِيدِ على جماهير النَّاس، فهو في النَّتيجَةِ يَجعَلُ القَولَ بهذه الشُّروطِ يكادُ يَلتَقِي مع القَولِ الذي اختَرنَاهُ. وهو المُرادُ.
ثانيًا: أَنَّه يَلزَمُ من الشَّرط الثَّاني: "أن يكُونَ الحديثُ الضَّعيفُ مُندَرِجًا تحتَ أصلٍ عامٍّ
…
"، أن العَمَل في الحقيقَةِ ليس بالحديثِ الضَّعيف، وإنَّما بالأَصلِ العامِّ، والعَمَلُ به واردٌ، وُجِدَ الحديثُ الضَّعيفِ أو لم يُوجَد، ولا عَكسَ، أعنى العمَلَ بالحديثِ الضَّعيف إذا لم يُوجَد الأصلُ العامُّ.
فثبت أن العَمَلَ بالحديثِ الضعيفِ بهذا الشَّرط شَكِليٌّ، غيرُ حقِيقِيٍّ. وهو المُرادُ.
ثالثًا: أن الشَّرطَ الثَّالثَ يَلتَقِي مع الشَّرط الأوَّلِ في ضَرُورَة معرِفَةِ ضَعفِ الحديثِ، لكي لا يُعتَقَدَ ثُبُوتُهُ. وقد عَرفَتَ أن الجماهيرَ الذين يَعمَلُونَ في الفَضَائِل بالأَحَادِيث الضَّعيفة لا يَعرِفُون ضَعفَها. وهذا خلاف المُرَادِ.
وجُملةُ القَولِ أنَّنَا ننصَح إخوانَنَا المُسلِمينَ في مَشارِق الأرضِ ومَغَارِبِها أن يَدَعُوا العملَ بالأحاديثِ الضَّعِيفَةِ مُطلَقًا، وأن يوَجِّهُوا هِمَّتهُم إلى
العَمَلِ بما يَثبُت منها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ففيها ما يُغنِي عن الضَّعِيفَة، وفي ذلك مَنجَاةٌ من الوُقُوع في الكَذِبِ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّنَا نَعرِفُ بالتَّجرِبَة، أن الذين يُخَالِفُون في هذا قد وَقَعُوا فيما ذَكَرنَا من الكَذِبِ، لأنَّهم يَعمَلُون بكُلِّ ما هبَّ ودَبَّ من الحديث، وقد أشارَ صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله:"كَفَى بالمَرءِ كَذِبًا أنْ يحدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِع". رواهُ مُسلِمٌ في مقَدِّمة "صحيحه".
وعليه أقول: كَفَى بالمرء ضلالًا أن يَعمَلَ بكُلِّ ما سَمِع! " انتهَى كلامُ شيخِنَا - حفظه الله -.
116 -
سُئلتُ عن حديث: "كُلُّ مَا يَلهُو بِهِ الرَّجُلُ المُسلِمُ بَاطِلٌ، إِلَّا رَميَهُ بِقَوسٍ، وَتَأدِيبَهُ فَرسهُ، وَمُلَاعَبَته أَهلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
وأقرَبُ الألفاظ إلى ما ذُكِر في السُّؤال، هو ما أخرَجَهُ أبُو عُبيدٍ في كتاب "الخيل" - كما في "الدُّرِّ المنثور"(3/ 193) - عن أبي الشَّعثاء جابر بن زيدٍ مرفُوعًا فذَكَر نحوَهُ.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ لإرسالِهِ.
ولكن له شواهدُ، منها: عن عُقبة بن عامرٍ ..
أخرَجَهُ أبو داوُد (2513)، والنَّسائيُّ (6/ 28، 222 - 223)، وأحمدُ (4/ 146، 222)، وابنُ الجارُود في "المُنتقَى"(1062)، وآخرُون.
وسَنَدُه صالحٌ، كما حقَّقتُه في "غوث المَكدُود بتخريجِ مُنتقَى ابن الجارُود".
وشاهِدٌ آخرُ، عن جابر بن عبد الله الأنصاريِّ رضي الله عنهما ..
أخرَجَهُ إِسحاقُ بنُ رَاهَوَيْه في "مُسنَده" - كما في "نَصب الرَّاية"(4/ 274) -، والنَّسائيُّ في "عِشرة النِّساء"، - كما في "أطراف المِزِّيِّ"(2/ 404) -، والبَزَّارُ (1704 - زوائده)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 2/ رقم 1785) مِن طريق أبي عبد الرَّحمن خالدِ بن يزيد، عن عبد الوهَّاب
ابن بُخْتٍ المكِّيِّ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال: رأيتُ جابرَ بن عبد الله، وجابر بن عُميرٍ الأنصاريَّين يرميان، فمَلَّ أحدُهما، فقال الآخرُ: أَكَسَلتَ؟ قال: نَعَم! فقال أحدُهُما للآخر: أَمَا سَمِعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "كُلُّ شيءٍ ليسَ مِن ذكرِ الله فهُو لهَوٌ ولعبٌ - وفي لفظٍ: فهو سَهوٌ ولَغوٌ -، إلَّا أربعةً: مُلاعَبةُ الرَّجل امرأتَه، وتأديبُ الرَّجل فَرَسَه، ومشيُ الرَّجل بين الغَرَضين، وتَعَلُّمُ الرَّجل السِّباحة".
قال الهَيثميُّ في "مجَمَع الزَّوائد"(5/ 269): "رجالُه رجالُ الصَّحيح، خَلَا عبدِ الوهَّاب بن بُخْتٍ، وهو ثقةٌ"، وهُو كما قالَ؛ ولذلك صحَّحَ إسنادَه الحافظُ في "الإصابة"(1/ 339). واللهُ أعلَمُ.
وثمَّةَ شواهدُ أخرَى ضعيفةٌ، ذكرتُها في "غوث المكدود"(3/ 314 - 317)، فراجِعهُ غيرَ مأمُورٍ.
117 -
سُئلتُ عن حديث: "اجْعَل بَينَ الأَذَانِ وَالإِقامَةِ نَفَسًا؛ حَتَّى يَنتَهِيَ الآكِلُ مِن أَكَلِهِ، وَالمُتَوَضِّئُ مِن وُضُوئِهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجَهُ التِّرمذيُّ (195، 196)، وعَبدُ بن حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(1008)، وابنُ عديٍّ في "الكامل"(7/ 2649)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 111)، والسَّهمِيُّ في "تاريخ جُرجَانَ"(ص 153 - 154)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(1952)، والبَيهقيُّ (1/ 428، و 2/ 19)، والخطيبُ في "تلخيص المُتشابِه"(57/ 1) من طريق عبدِ المُنعم بن نُعيمٍ صاحبِ السِّقَاءِ، قال: حدَّثَنا يحيَى بنُ مُسلِمٍ، عن الحَسَنِ، وعطاءٍ، عن جابرٍ، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلالٍ: "يا بِلالُ! إذَا أَذَّنتَ، فترَسَّل في أَذَانِك، وإِذَا أقَمتَ فاحدُر، واجعَل بينَ أذانِكَ
…
الخ".
قال التِّرمذيُّ: "حديثُ جابرٍ هذا، حديثٌ لا نَعرِفُه إلَّا مِن هذا الوَجه مِن حديث عبد المُنعِم، وهو إسنادٌ مجهولٌ" كذا قال!
ولا أدرِي، لِم قال:"مجهولٌ"! وعبدُ المُنعِم قال البُخاريُّ والعُقيليُّ: "مُنكَرُ الحديث".
ولم يتفَرَّد به، كما قال الترمذيّ.
فتابَعَهُ عمرُو بنُ فائدٍ الأَسْوَارِيُّ، ثنا يحيى بنُ مُسلِمٍ، بسَنَده سواءٌ.
أخرجَهُ الحاكمُ (1/ 204) مِن طريق عبدِ المُنعم بن نُعيمٍ، ثنا عمرُو بنُ فائدٍ، ثنا يحيَى بن مُسلمٍ.
هكذا رَواهُ الحاكِمُ عن عبد المُنعِم نازلًا
(1)
.
وعمرُو بنُ فائدٍ ترَكَهُ الدَّارَقُطنيُّ.
ويحيى بن مُسلِمٍ تَرَكَهُ النَّسَائِيُّ.
فالإسناد ضعيفٌ جدًّا.
ولَهُ شاهِدٌ مِن حديث أُبيِّ بن كعبٍ ..
أخرَجَهُ عبدُ الله بن أحمدَ في "زيادات المُسنَد"(5/ 143) بسَنَدٍ فِيهِ مجَهولٌ، وضعيفٌ.
وآخرُ مِن حديثِ أبي هُريرة ..
عند البَيهقيِّ، وقال:"إسنادُهُ ليس بالمعرُوفِ".
وفي إسنادِه صُبَيحُ بن عُمَيرٍ السِّيْرَافِيُّ، قال الأزدِيُّ:"فيه لينٌ"، وقال الحافِظُ في "اللِّسان" (4/ 183):"مجهولٌ"، فلا أدرِي، أَهذَا حُكمُ الحافظِ، أَم هو تمَامُ كلام الأزديِّ، مع أنَّهُ يلُوحُ لي الاحتمالُ الثَّانِي بدلالة السِّياق.
ونَقَلَ الحافِظُ حُكمَ البَيهقيِّ السَّابقَ، وقالَ:"وَأَشَارَ إلى أن صُبَيحًا مجهولٌ".
واللهُ أعلَمُ.
(1)
وظننتُ أن في مطبوعة "المستدرَك" خلَلًا، فراجعتُ "إتحاف المَهَرَة"(3/ 115)، فوجدتُ الإسناد فيه كما هُنَا.
118 -
سُئلتُ عن حديثٍ: رواه مُسلِمٌ في "صحيحه" عن أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا، أَقَامَ عِندَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ لَهَا:"إِنَّهُ لَيسَ بِكِ هَوَانٌ عَلَى أَهلِكِ، إِن شِئتِ سَبَّعتُ لَكِ، وَإِن سَبَّعتُ لَكِ سَبَّعتُ لِنِسَائِي".
وقال السَّائلُ: إنَّه قرأ لبعض الباحثين أن العُلماء تكلَّمُوا في هذا الحديث. وذكر أَنَّهُ مُحتاجٌ للفَصل فيه، لا سيَّما وقد صادَفَهُ في دراسته، وَيرجُو أن نشفيه بالكلام عنه.
• قلتُ: نعم!
فقد اختُلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، لكنَّهُ لا يُؤثِّر على صِحَّة الحديث.
والاختلاف عند العُلماء نوعان: اختلاف تنوُّعٍ، وهو لا يَضُرُّ الحديثَ، واختلاف تضادٍّ، وهو يُؤثِّر على صِحَّة الحديث، إلَّا مع التَّرجيح، فيُقدَّم الرَّاجحُ على المرجوحِ، وينتَفِي الاضطرابُ. وأغلَبُ الأحاديث المُختَلَفِ فيها في أحد "الصَّحيحين" هو مِن النَّوع الأوَّل.
أمَّا الحديثُ المسئُولُ عنه:
فأخرجه مُسلِمٌ (1460/ 41)، والبُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(1/ 1/ 47)، وأبو داوُد (2122)، والنَّسَائيُّ في "الكُبرَى"
(5/ 293)، وابنُ ماجَة (1917)، والدَّارِميُّ (2/ 68)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(8/ 94)، وابنُ حِبَّانَ (4210)، والطَّحاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 29)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 592)، وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(17/ 245)، والبيهقيُّ (7/ 301)، وأبو نُعيمٍ في "الحلية"(7/ 95) من طُرُقٍ عن يحيى بن سعيدٍ القَطَّان، ثنا سُفيان الثَّوريُّ، عن مُحمَّد بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشامٍ، عن أبيه، عن أُمِّ سَلَمَة فذَكَرَتهُ.
قال أبو نُعيمٍ: "لم يَروِهِ عن الثَّوريِّ مُجوَّدًا، إلَّا يحيى بن سعيد".
وخالَفَهُ عبدُ الرَّزَّاق ..
فأخرجه في "مُصنَّفه"(6/ 236)، ومن طريقه الطَّبَرانيُّ في "المُعجَم الكبير"(ج 23/ رقم 591) عن الثَّوريِّ، عن مُحمَّدِ بن أبي بكرٍ، عن عبدِ الملِك، عن أبيه، قال: مَكَثَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عِند أُمِّ سَلَمة ثلاثًا
…
وذكرَهُ بنحوِهِ، هكذا مُرسَلًا.
وهو محمُولٌ على أن أبا بكرٍ بنَ عبد الرَّحمن أخذه مِن أُمِّ سَلَمة، كما تقدَّم.
ومِمَّا يُرجِّحُ رواية يحيى القَطَّان، أن يعلَى بنَ عُبيدٍ رَوَى هذا الحديثَ، عن مُحمَّدِ بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك، عن أبيه، عن أُمِّ سَلَمة، مِثلَ رواية الثَّوريِّ.
أخرجَهُ ابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(4/ 277) عن يَعلَى.
وقد خُولِف مُحمَّدُ بنُ أبي بكرٍ فيه.
خالفَهُ عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، فرواه عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ، قال: تَزَوَّج رسُول الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمة في شوالَ
…
وساق الحديث.
ورَوَاهُ عن عبد الله بن أبي بكرٍ هكذا: مُحمَّدُ بنُ إسحاق بن يَسارٍ.
أخرجَهُ الدَّارَقُطنيُّ (3/ 283).
وتُوبِع ابنُ إسحاقَ عليه هكذا، فتابعه سُفيانُ بن عُيَيْنة، مثلَهُ سواءٌ.
أخرجه سعيدُ بن مَنصُورٍ في "سُنَنه"(776)، والطَّحاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 28).
وتابَعَهُ سُفيان الثَّوريُّ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك مثلَهُ سواء.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ"(1/ 1/ 47)، وابنُ سعدٍ (8/ 92 - 93) مِن طريق وكيع بن الجرَّاح، ثنا الثَّورِيُّ به.
وخالَفَهُ يحيى القَطَّانُ، كما مرَّ ذِكرُهُ.
وتابعه أيضًا مالكٌ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك به.
أخرجه مُسلِمٌ، والبُخاريُّ في "التَّاريخ"(1/ 1/ 47) من طريق يحيى بن يحيى، وإسماعيلَ بن أبي أُويسٍ، كلاهُما عن مالكٍ.
قال البُخاريُّ: "وهذا هو الصَّحيح".
• قُلْتُ: لَعلَّهُ يعني مِن رِواية مالكٍ. وفيه نَظَرٌ يأتِي بيانُه، إن شاء الله تعالى.
فقد خالَفَهُما يحيى بنُ يحيى اللَّيثِيُّ، وابنُ وهبٍ، والقَعْنَبيُّ، ومَعنُ بنُ عيسى، والواقِدِيُّ فرَوَوْهُ عن مالكٍ، عن عبدِ الله بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ، عن أبيه فذكرَهُ مُرسَلًا.
أخرَجَهُ مالك في "المُوطَّأ"(2/ 529/ 14)، والشَّافعيُّ (2/ 26)، وابنُ سعدٍ (8/ 92)، والطَّحاوِيُّ في "الشَّرح"(3/ 28 - 29)، والبَيهَقِيُّ (7/ 300)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(9/ 155).
وقد تُوبِعَ مالكٌ على هذا الوجه.
فتابعه ابنُ عيَينةَ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك، عن أبيه مُرسَلًا.
أخرجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(6/ 236) عن ابن عُيينةَ.
وخالَفَهُ سعيدُ بن مَنصُورٍ وغيرُه، عن ابن عُيَيْنة، كما تقدَّم.
وخالَفَ كلَّ أصحاب مالكٍ المُتقدِّم ذكرُهم: الوَاقِديُّ فرَوَاهُ عن مالكٍ، عن عبد الله بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك، عن أبيه، عن أُمِّ سَلَمة فذَكَره موصُولًا.
أخرجَهُ الدَّارَقُطنيُّ (3/ 284).
والواقِدِيُّ مترُوكٌ.
والصَّحيحُ في رواية مالكٍ: الإرسالُ.
وقد تُوبِع عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ على إرسالِهِ.
فتابَعَهُ عبدُ الرَّحمن بنُ حُميدٍ، فرواه عن عبد الملِك، عن أبيه مُرسَلًا.
أخرجَهُ مُسلِمٌ (1460/ 42)، والبُخاريُّ في "التَّاريخ"(1/ 1/ 47 - 48)، والبَيهَقيُّ (7/ 300 - 301).
ورواه عن عبد الرَّحمن بن حُميدٍ هكذا: أبو ضَمرةَ أنسُ بن عياضٍ، وسُليمانُ بنُ بِلالٍ، وعبدُ العزيز بنُ مُحمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ.
وخالَفَهُم الفُضيلُ بنُ سُليمان، فرواه عن عبد الرَّحمن بن حُميدٍ، عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ، عن أُمِّ سَلَمة نحوَهُ.
أخرجَهُ الدَّارَقُطنيُّ (3/ 283).
ورِوَايَةُ الجَمَاعة أَرجَحُ؛ وفُضيلُ بنُ سُليمان ليس بِالقويِّ.
ونَظَرَ الدَّارقُطنِيُّ في هذا الاختلاف، فقال في كتاب "التَّتَبُّع" (ص 363 - 364):"وأخرج مُسلِمٌ مِن حديث الثَّوريِّ، عن مُحمَّد بن أبي بكرٍ، عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ، عن أبيه، عن أُّمِّ سلَمَة مُتَّصلًا: "إِن شِئتِ سَبَّعتُ لك". وحديثَ حفصِ بن غِيَاثٍ، عن عبد الواحد بن أيمنَ، عن أبي بكرٍ، عن أُمِّ سَلَمة مُتَّصلًا. وقد أرسَلَهُ عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وعبدُ الرَّحمن بنُ حُميدٍ، عن عبد الملِك بن أبي بكرٍ، عن أبي بكرٍ مُرسَلًا. قاله سليمان بن بلالٍ، وأبُو ضَمرة، عن عبد الرَّحمن بن حُميدٍ" انتهى.
فتعقَّبَهُ النَّوويُّ في "شرح مُسلِمٍ"(10/ 43)، بقوله:"وهذا الذي ذَكَرَه الدَّارَقُطنيُّ من استدراكه على مُسلِمٍ فاسدٌ!! لأنَّ مُسلِمًا رحمه الله قد بيَّن اختلاف الرُّواةِ في وَصلِهِ وإرسالِهِ. ومذهبُه ومَذهَبُ الفُقهاء والأُصولِيِّين ومُحقِّقِي المُحدِّثين، أن الحديث إذا رُوِي مُتَّصِلًا ومُرسَلًا حُكم بالاتِّصال، ووَجَب العَمَلُ به؛ لأنَّها زيادةٌ من ثقةٍ، وهي مقبولةٌ عند الجماهير، فلا، يصحُّ استدراكُ الدَّارَقُطنيُّ. والله أعلم" ا. هـ.
• قلتُ: أمَّا الحديثُ الموصولُ، فصحيحٌ لِمَا يأتِي، إن شاء اللهُ تعالى.
وأمَّا قولُه "بأنَّ مَذهَب مُسلِمٍ ومُحقِّقي المُحدِّثين أنَّه إذَا تعارض الوصلُ والإرسالُ، يُقدَّمُ الوَصلُ؛ لأنَّ زيادة الثِّقة مقبولةٌ" فغيرُ صحيحٍ.
والمُحَدِّثون - ومُسلِمٌ من أئمتهم - يحكُمُون بالوصل أو الإرسال بحسب ثِقةِ الرُّواة، وضبطهم، وكثرَتِهم، ونحو ذلك. وَمَن نَظَرَ إِلَى "كتاب التَّميِيز" للإمام مُسلِمٍ عَلِمَ صِحَّة ما أقولُ. وكذلك النَّاظِرُ إلى كُتُب العِلَل، مثل "علل أحمدَ"، و "علل ابن أبي حاتمٍ"، و "علل الدَّارَقُطنيِّ"، عَلِمَ أن المُحدِّثين لا يَقبَلون زيادةَ الثِّقة بإطلاقٍ، وكَم من أحاديثَ ردُّوها لأكابرِ المُحدِّثين والرُّواة؛ لأنَّهُم تفرَّدُوا بها، ولَو كانت زيادةُ الثِّقَةَ تُقبَل بإطلاقٍ لَانْتَفَى القولُ بوُجُود الشُّذُوذ.
وإِنِّي سَأُوقِفُكَ على مثالٍ عجيبٍ خالف فيه النَّووِيُّ مذهبَه هنا.
فقد أخرَجَ مُسلِمٌ (404/ 63) حديثًا لأبي مُوسَى الأشعريِّ في صِفة صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَشَارَ عقِبَه إلى قَولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَإِذَا قَرَأَ فَأَنصِتُوا"، فأعلَّ الدَّارقُطنيُّ في "التَّتَبُّع" (ص 239 - 240) هذه الزِّيادة بقوله:"قد خالَفَ التَّيميَّ جماعةٌ، مِنهُم: هشامٌ الدَّستُوائيُّ، وشُعبةُ، وسعيدُ بن أبي عَرُوبة، وأبانُ بنُ يزيدَ، وهمَّامُ بنُ يحيى، وأبُو عَوَانة، ومَعمرٌ، وعَدِيُّ بنُ أبي عُمارة، رَوَوهُ عن قَتادةَ، ولَم يَقُل واحدٌ مِنهُم: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنصِتُوا"، - قال: - وفي اجتماع أصحاب قَتادة على خِلاف التَّيمِيِّ دليل على وهمِهِ".
وكان المُنتَظَرُ مِنَ النَّوويِّ أن يَرُدَّ إِعلالَ الدَّارَقُطنيِّ، لِسَبَبَينِ:
الأوَّل: أن مذهَبَهُ أن زيادة الثِّقة مقبُولَةٌ.
والثاني: أن أبا بكرٍ ابنَ أخت أبي النَّضر كَلَّم مُسلِمًا في هذا الحديثِ، وما يُثارُ حولَهُ مِن كلامٍ، فقال له أبو بكرٍ:"هو صحيحٌ - يعني: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنصِتُوا" -؟ "، فقال - يعني: مسلمًا -: "هُو عِندي صحيحٌ"، فقال:"لِمَ لَمْ تَضَعهُ هاهنا؟ "، قال:"لَيسَ كُلُّ شيءٍ عندي صحيحٌ وضعتُهُ هاهنا، إنَّمَا وضعتُ هاهنا ما أَجمَعوا عليه".
فأنت ترَى أن مُسلِمًا صحَّحَ هذا اللَّفظَ نصًّا، فهذا كافٍ في أن يَرُدَّ النَّووِيُّ قولَ الدَّارقُطنيِّ، ولكنَّهُ لم يفعل، فقال في "شرح مُسلِمٍ" (4/ 123):"وَاعلَم، أَنَّ هذه الزِّيادة مِمَّا اختَلَف الحُفَّاظُ في صِحَّتها، فرَوَى البَيهقيُّ في "السُّنَن الكُبرَى"، عن أبي داوُد السِّجِستَانيِّ، أن هذه اللَّفظَةَ ليستَ بمحفُوظَةٍ، وكذلِكَ رواه عن يَحيَى بن مَعِينٍ، وأبي حاتمٍ الرَّازِيِّ، والدَّارَقُطنيِّ، والحافظِ أبي عليٍّ النَّيسابُوريِّ شيخٍ الحاكم أبي عبد الله. قال البَيهقِيُّ: "قال أبُو عليٍّ الحافظُ: هذه اللّفظةُ غيرُ محفوظَةٍ، قَد خالَف سُليمانُ التَّيميُّ فيها جميعَ أصحاب قَتَادةَ. واجتِمَاعُ هؤُلاء الحُفَّاظ على تضعيفِهَا مُقدَّمٌ على تَصحيحِ مُسلِمٍ، لاسِيَّما ولَم يَروِها مُسنَدةً في "صحيحه". واللهُ أعلمُ" ا. هـ.
هذا، مع أن مُسلِمًا لم يتفرَّد بتصحيحها، فقَد صحَّحها الإمامُ أحمدُ، والطَّبَريُّ، وابنُ المُنذِر، وأكثر المُتأخِّرين.
وإِنَّما اشتدَّ نَفَسُ النَّوويِّ هُنا؛ لأنَّ الزِّيادَةَ على خلاف المذهب. واللهُ أعلَمُ.
والحاصِلُ أن القولَ بأنَّ زِيادة الثِّقة مقبولَةٌ بإطلاق لا يقولُهُ مُمارسٌ للحديث، وإنَّما يقولُ بِهِ مَن لم يتمَهَّر في الحديث، مثلُ سائر الفُقهاء الذين دَرَسُوا الحديثَ ليَخدُمَهم في الفقه، ولم يُمعِنُوا في دراسة الحديث، حتَّى تصيرَ لهُم المَلَكَة الخاصَّةُ فيه.
عَودٌ على بَدءٍ.
فلعلَّ الدَّارقُطنِيَّ في كلامه السَّابق حَكَمَ حُكمًا جُزئِيًا على بعض طُرُقه، وليس عليه كُلِّه. واللهُ أعلَمُ.
وممَّا يُؤكِّدُ صِحَّةَ الموصول: ما رواه حفصُ بنُ غِيَاثٍ، ومَرْوانُ بنُ مُعاويةَ الفَزَاريُّ، كلاهُما عن عبدِ الواحد بن أيمنَ، عن أبي بكرٍ بن عبد الرَّحمن، عن أُمِّ سَلَمَة به.
أخرجه مُسلِمٌ، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 499، 587)، والبَيهقيُّ (7/ 301).
وخَالَفَهُما الفَضلُ بنُ دُكينٍ، ومُحمَّدُ بنُ عبد الله الأَسَدِيُّ، فرَوَيَاهُ عن عبد الواحد بن أيمنَ، حدَّثَني أبو بكرٍ بنُ الحارث، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأُمِّ سَلَمة
…
فذَكَرَه بنحوِه.
أخرجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ"(1/ 1/ 47 - 48)، وابنُ سعدٍ (8/ 91).
وله طريقٌ آخر.
يرويه ابنُ جُريجٍ، قال: أَخبَرَني حبيبُ بنُ أبي ثابتٍ، أن عبدَ الحميد بنَ عبد الله بن أبي عمرٍو، والقاسمَ بنَ مُحمَّدِ بن عبد الرَّحمن أخبَرَاه،
عن أبي بكرٍ بن عبد الرَّحمن، عن أُمِّ سَلَمَة فذَكَره بنحوِه.
أخرجَهُ النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(5/ 293)، والبُخاريُّ في "الكبير"(1/ 1 / 47)، وأحمدُ (6/ 307، 308)، وابنُ سعدٍ (8/ 93 - 94)، وعبدُ الرَّزَّاق (6/ 235)، والطَّحاوِيُّ في "الشَّرح"(3/ 29)، وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(17/ 243 - 244)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 585)، والبَيهقيُّ (7/ 301).
ورواه عن ابن جُريجٍ هكذا: هشامٌ الدَّستُوائيُّ، وحَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ الأعورُ، ورَوحُ بنُ عُبادةَ، وعبدُ الرَّزَّاق، ويحيى بنُ سعيدٍ الأُموِيُّ.
وخالَفَهُم سُفيانُ بنُ عُيَيْنةَ، فرواه عن ابن جُريجٍ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن أبي بكرٍ بن عبد الرَّحمن، عن أُمِّ سلَمَة به.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ (586).
ورِوَايَةُ الجماعة، عن ابن جُريجٍ أرجَحُ.
وخُولِفَ ابن جُريجٍ.
خالَفَهُ أبُو حيَّانَ التَّيميُّ، فرَوَاهُ عن حبيبٍ، قال: قالت أُمُّ سَلَمَة فذَكَرَه.
أخرجَهُ ابن سعدٍ (8/ 90).
وهي روايةٌ معضلةٌ.
ورَوَاهُ حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابتٍ البُنانيِّ، عن ابن عُمَر بن أبي سَلَمَة، عن أبيه، عن أُمِّ سَلَمة نحوه.
أخرَجَهُ أحمدُ (6/ 295)، وابنُ سعدٍ (8/ 89، 90)، والطَّبَرانيُّ
(ج 23/ رقم 506)، وابنُ عبد البَرِّ (17/ 244)، والطَّحاوِيُّ (3/ 29).
ورواه عن حَمَّادٍ: عَفَّانُ بن مُسلِمٍ، ويزيدُ بن هارون، وأبُو عُمَر الضَّريرُ.
وحاصِلُ البحثِ، أن الحديثَ صحيحٌ موصولًا.
والمقامُ يحتَمِلُ البَسطَ، وفيما ذكرتُهُ كفايةٌ.
والحمد لله رب العالمين.
119 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا يَدخُلُ أَحَدٌ الجَنَّة، إِلَّا بِجَوَازِ مُرُورٍ"، قِيلَ:"يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُوَ؟ "، قَالَ:"بِسمِ اللهِ الرَّحمَن الرَّحِيمِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه ابنُ عديٍّ في "الكامل"(1/ 338)، وابنُ الأعرابيِّ في "مُعجَمه"(1191)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 6191)، وفي "الأوسط"(2987)، وتَمَّامٌ الرَّازيُّ في "الفوائد"(1770 - ترتيبه)، وأبُو يَعلَى الخَليليُّ في "الإرشاد"(1/ 423)، والخطيبُ في "تاريخه"(5/ 4 - 5، و 7/ 95)، وابنُ الجوزيِّ في "الواهيات"(1547) من طريق إسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِيِّ، نا عبدُ الرَّزَّاق، عن الثَّوريِّ، عن عبد الرَّحمن بن زياد بن أنعُمَ، عن عطاءِ بن يَسارٍ، عن سَلمانَ الفارسيِّ مرفُوعًا:"لَا يَدخلُ أحدٌ الجنَّةَ، إلَّا بجوازِ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا كتابٌ مِن ربِّ العالمين، لفُلان بن فُلان، أَدخِلُوه جنَّةً عاليةً، قُطوفُها دانيةٌ".
وأورَدَهُ ابنُ عديٍّ في ترجمة "الدَّبَريِّ"، إشارةً منه إلى أنه علَّةُ الحديث.
وقد قال الخَليليُّ: "تَفرَّدَ به عبدُ الرَّزَّاق، عن الثَّوريِّ. والدَّبَريُّ به مشهورٌ".
ولم يتفرَّد به الدَّبَرِيُّ.
فتابَعَهُ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بن النَّجَّار الصَّنعانيُّ، قال: ثنا عبدُ الرَّزَّاق بسَنَدِه سواءٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى الخَلِيليُّ في "الإرشاد"(1/ 424)، وتَمَّامٌ الرَّازيُّ (1771 - ترتيبه).
فتَخلَّصَ منه الدَّبريُّ.
وعِلَّةُ الحديثِ عندي من عبد الرَّحمن بن زياد بن أنعُمَ الإِفريقيِّ؛ فقد تكلَّم أهلُ العلم في حِفظه.
وقد وجدتُ له طريقًا آخر.
أخرجه ابنُ الجوزيِّ في "الواهيات"(1548)، والضِّياءُ المَقدِسيُّ في "صفة الجَنَّة" - كما في "تفسير ابن كَثيرٍ"(8/ 242) -، مِن طريق مُحمَّدِ بن خشامٍ، عن العبَّاس بن زيادٍ البَلْخِيِّ، عن سَعدَانَ بن سعدٍ الحَكَمِيِّ، عن سُليمان التَّيميِّ، عن أبي عُثمان النَّهديِّ، عن سَلمان مرفُوعًا:"إِنَّ الله يُعطِي المؤمنَ جوازًا على الصِّراط: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا كتابٌ مِنَ العزيز الحكيم، لفُلان بن فُلان: أَدخِلُوه جنَّةً عاليةً، قُطوفُها دانيةٌ".
قال ابن الجَوزيِّ: "هذا حديثٌ لا يَصحُّ عَن رسُول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال الدَّارَقُطنيُّ: "تَفرَّدَ به سَعدَانُ، عن التَّيميِّ".
قال ابنُ الجوزيِّ: "سَعدَانُ مجهولٌ. وكذلك مُحمَّد بن خشامٍ".
وسبق ابنَ الجوزيِّ: أبو حاتمٍ الرَّازيُّ إلى تجهيل سَعدَان هذا، كما في "الجرح والتعديل"(2/ 1/ 290).
120 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ كَبشًا، وَعَنِ الحُسَينِ كَبشًا.
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (2841)، والحربيُّ في "الغريب"(1/ 42)، وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 314)، وابنُ الأعرابِيِّ في "مُعجَمه"(ج 9/ ق 169/ 1 - 2)، والطَّحاوِيُّ في "المشكل"(1/ 457)، والدُّولابِيُّ في "الذُّرِّيَّة الطَّاهرَة"(105)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11856)، وأبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهانَ"(2/ 151)، والبَيهقِيُّ (9/ 299)، وابنُ حَزمٍ في "المُحلَّى"(7/ 530) مِن طريق عبد الوَارِث بن سعيدٍ، عن أيُّوبَ السَّختيانيِّ، عن عِكرِمة، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحَسَنِ والحُسين كبشًا كبشًا.
وتُوبِع عبدُ الوارث على وَصلِهِ.
فتابَعَهُ سُفيان الثَّوْريُّ، فرواه عن أَيُّوب بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ أبُو نُعيمٍ في "الحلية"(7/ 116) من طريق يَعلَى بن عُبيدٍ، عن الثَّوريِّ به.
قال أبُو نُعيمٍ: "تَفرَّد بروايته موصُولًا، عن الثَّوريِّ، عن أيُّوب
…
: يَعلَى".
ووقع خطأً في "الحِلية"، ولعلَّ ما ذكرتُه هو الصَّوابُ.
وهَذِهِ المُتابَعة لا تَثبُت؛ لأنَّ يعلَى بن عُبيدٍ، وإن كان ثِقةً، إلَّا أنَّهُ كان كَثيرَ الأوهامِ على الثَّوْريِّ؛ ولذلك ضَعَّفه ابنُ مَعِينٍ في روايتِهِ عن سُفيان الثَّوريِّ.
وذَكَرَ ابن الجارُود في "المُنتقَى"(912) أن الثَّورِيَّ يرويه عن أيُّوب، عن عِكرِمة مُرسَلًا.
وتُوبِعَ عبدُ الوارث أيضًا.
تابَعَهُ حفصُ بنُ عُمَر البصريُّ، فرواه عن أيُّوب به موصُولًا.
أخرَجَهُ الخطيبُ في "تاريخه"(10/ 151) مِن طريق عبد الله بن مَرْوان أبُو شيخٍ - وَثَّقَهُ أبو حاتمٍ -، حدَّثَنا مُوسى بنُ أعيَنَ، عن حفص بن عُمَر.
وهذ المُتابَعة أيضًا لا تَثبُت؛ لأنَّ حفص بنَ عُمر - ووقع في "التَّاريخ": مُحمَّدٌ، وهُو خطأٌ - تَرجَمَهُ الذَّهبيُّ في "الميزان"(1/ 567)، والحافِظُ في "اللِّسان"(2/ 139)، وذَكَرَا أن له حديثًا في العقيقة وهو هذا، قال فيه الأزدِيُّ:"مُنكَرُ الحديث".
فأجْودُ طريقٍ لهذا الحديث، هُو ما رواه عبدُ الوارث بن سعيدٍ، عن أيُّوب.
وعبدُ الوارث أحَدُ الثِّقات.
ولكِنَّهُ خُولِف في وصله.
فقال ابنُ الجارُود في "المُنتقَى"(912): "رواه الثَّوريُّ، وابنُ عُيَيْنة، وحَمَّاد بن زيدٍ، وغيرُهم، عن أيُّوب، لم يُجاوِزُوا به عِكرمة" ا. هـ.
وقد رَوَاهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(4/ 330) عَن الثَّوريِّ، ومَعمَرِ بن راشدٍ، عن أيُّوب، عن عِكرِمة، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ عن حَسَنٍ وحُسين كَبشَين، ولم يَقُولُوا:"كبشًا كبشًا".
فهؤلاء أربعةٌ مِمَّن وقفتُ على أسمائِهِم، خَالَفُوا عبدَ الوارث فأرسلُوه، وهُم يَتَرَجَّحُون عليه في أيُّوب، خاصةً ابنُ عُيَيْنة، وَحَمَّادُ بنُ زيدٍ، لاسِيَّما الأخيرُ مِنهُما، فقد قال ابنُ مَعِينٍ:"لَيسَ أحَدٌ في أيُّوبَ أثبتَ من حمَّاد بن زيدٍ"، وقال يعقُوبُ بنُ سُفيان الفَسَويُّ:"سمِعتُ سُليمانَ بن حَربٍ يقولُ: حمَّادُ بن زيدٍ في أيُّوبَ أَكبرُ مِن كُلِّ مَن روَى عن أيُّوب. - قال: - أمَّا عبدُ الوارِث، فقد قال: كَتبتُ حديثَ أيُّوبَ بعد موتِهِ بحِفظِي. ومثلُ هذا يجِيءُ فيه ما يَجِيءُ".
وكُنتُ صَحَّحتُ إسنادَ حديث عبد الوارث في "غَوث المَكدُود"(رقم 911، 912)، فقد رَجَعتُ عنه الآن، واللهُ يَغفِرُ لي جهلي وإسرافي في أمري.
وله طريقٌ آخرُ عن عِكرمة.
أخرَجَهُ ابنُ الأعرابيِّ في "مُعجَمه"(9/ 169/ 1) قال: نا سُليمانُ بنُ أحمد بن ياسين، نا مُحمَّدُ بنُ عبد الله المُخَرَّمِيُّ، نا أحمَدُ بنُ عُمَر، نا مَسلَمَةُ بنُ مُحمَّدٍ الثَّقَفيُّ، عن يُونسَ بن عُبيدٍ، عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحَسَن كبشًا، وأَمَرَ برأسِه فحَلَقَه، وتَصدَّق بوزن شَعرِه فضَّةً، وكذلك الحُسين أيضًا.
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ، وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا.
وشَيخُ ابن الأعرابيِّ لم أعرِفْهُ.
وأحمدُ بن عُمَر هو القَصَبيُّ، ترجمَهُ ابن أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل" (1/ 1/ 62) ونَقَلَ عن أبيه قال:"مجهولٌ".
ومَسلَمَةُ بنُ مُحمَّدٍ الثَّقفيُّ ضعَّفَهُ ابنُ مَعِينٍ، وقال أبُو حاتمٍ:"ليس بمشهورٍ. شيخٌ يُكتَب حديثُه"، ووثَّقه ابنُ حِبَّانَ، ومَشَّاهُ أبُو داوُد.
وله طريقٌ ثالثٌ عن عِكرمة.
أخرجَهُ النَّسائيُّ (7/ 166) مِن طريق إبراهيم بن طَهمانَ - وهذا في "سُنَنه"(53) - عن حَجَّاجِ بن الحَجَّاج - وسقط ذِكرُه من كتاب ابن طهمان -، عن قتادة، عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحَسَن والحُسَين كبشين كبشين.
ومِن هذا الوجه أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11838)، وفي "الأوسط"(8018) ولَم يَذكُر العددَ.
قال الطَّبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن قتادة، إلَّا الحجَّاجُ بنُ الحجَّاج، تَفرَّد به إبراهيمُ بنُ طَهمانَ".
وهذا سَنَدٌ جيِّدٌ، لولا عنعنةَ قتادةَ.
وحاصِلُ البحث، أن حديث ابن عبَّاسٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ بكبشٍ واحدٍ، هذا لا يَصِحُّ، ولم أَجِد حديثًا يُعوَّلُ عليه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَّ بكبشٍ واحدٍ.
وإلى حديثِ ابن عبَّاسٍ هذا ذَهَبَ مالِكٌ ..
فقال ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 314): "واختَلَفُوا في عَدد ما
يُذبَح عن المولود من الشِّياه في العقيقة عنه، فقالَ مالِكٌ:"يُذبَح عن الغُلام شاةٌ واحدةٌ، وعن الجارية شاةٌ. والغُلامُ والجاريةُ في ذلك سواءٌ"، والحُجَّةُ له ولمن قال بقوله - وذكر حديثَ ابن عبَّاسٍ. ثُمَّ قال: وقالَ الشَّافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ:"يُعَقُّ عن الغُلام شاتان، وعن الجارية شاةٌ" وهُو قولُ ابن عبَّاسٍ، وعائشةَ، وعليه جماعةُ أهل الحديث" انتهى.
والصَّوابُ ما ذَهَب إليه الشَّافعيُّ ومَن مَعَهُ؛ وحديثُ ابن عبَّاسٍ، والذي اعتَمَد عليه مالكٌ، قد عرَّفناك ما فيه.
واحتجَّ ابنُ عبد البَرِّ بآثارٍ صحيحةٍ عن ابن عُمَر وغيرِه، ولا حُجَّة في كُلِّ هذا، في مُقابَلة الأحاديث المرفُوعة، المُصرِّحة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"عن الغُلام شاتان، وعن الجارية شاةٌ".
وذَهَبَ بعضُ أهل العِلم إلى النَّسخ، وأنَّ الأحاديث التي فيها أن يَعُقَّ عن الغُلام شاتَين ناسخٌ لحديث ابن عبَّاسٍ أنَّه يُعَقُّ عنه بكبشٍ.
وهذا مَسلكٌ ضعيفٌ أيضًا، ولا يَثبُت النَّسخُ إلَّا بعد معرفة التَّاريخ، وأين هو؟!
ولو صَحَّ حديثُ ابن عبَّاسٍ لكان القولُ بجواز الأمرَين هُو الأقربُ إلى الأصول.
واللهُ تعالى أعلَمُ.
121 -
سُئلتُ عن حديث: "أَشقَى الأَشقِيَاءِ مَنِ اجتَمَعَ عَلَيهِ فَقرُ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرجَهُ الحاكمُ (4/ 322)، والبيهقيُّ في "السُّنن الكبير"(7/ 13)، وفي "الشُّعَب"(5111)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(9269)، وابن عديٍّ في "الكامل"(3/ 11 - 12) من طريق سُليمان بن عبد الرَّحمن، عن خالد بن يزيدَ بن أبي مالكٍ، عن أبيه، عن عطاء بن أبي رَبَاحٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ مرفُوعًا فذَكَره.
وخالِدُ بنُ يزيدَ: ضَعَّفُوه.
وله طُرُقٌ أخرى ساقِطَةٌ.
وقد حَكَمَ أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ على الحديث بالبُطلان - كَمَا في "عِلَلِ ولده"(2/ 278) -.
وحَكَمَ عليه شَيخُنا الألبانيُّ - حفظه الله - في "الضَّعيفة"(139) بالوضع.
والحُكمُ بالبُطلان أدقُّ. والله أعلم.
وقد ساق شيخُنا طُرقَه في "الضَّعيفة"، فراجِعهَا غير مأمُورٍ.
122 -
سُئلتُ عن حديث: "أَمَانُ العَبدِ جَائِزٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أبو عَمرٍو السَّمَرقَنديُّ في "الفوائد المُنتَقاة"(رقم 72 - بتحقيقي) مِن طريق إسماعيل بن عبد الرَّحمن، عن مِسعَر بن كِدامٍ، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَرِيِّ، عن سَلمان الفارسيِّ مرفُوعًا به.
وهذا سندٌ منقطعٌ؛ فنقل ابنُ أبي حاتمٍ في "المراسيل"(ص 76) عن أبيه، قال:"أبو البَخْتَرِيِّ الطَّائيُّ لم يلق سَلمانَ. وأمَّا قولُ أبي البَخْتَرِيِّ: "أنَّهُم حاصَرُوا نَهاوَندَ" يعني أن المُسلمين حاصَرُوا".
وذَكَرَهُ الزَّيلَعِيُّ في "نصب الرَّاية"(3/ 396) عن أبي مُوسَى الأشعريِّ مرفُوعًا، بلفظ:"أَمَانُ العبد أمانٌ"، وقال:"غريبٌ"، يعني: لا أصل له، وهو اصطلاحٌ خاصٌّ به، يُطلِقُه على الأحاديث التي وَقَعَت في "الهداية" وليس لها أصلٌ، كما صرَّح بذلك شيخُنا العلَّامة أبُو عبد الرَّحمن الألبانيُّ - حفظه الله - في "الضَّعيفة"(2/ 44).
وصَرَّح ابنُ الهُمام في "فتح القدير"(4/ 302) بأنه: "لا يُعرَف لها أصلٌ".
وأَخرَجَ البيهقيُّ (9/ 94) بسَنَدٍ ضعيفٍ - كما قال الزَّيلَعيُّ -، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه مرفُوعًا:"لَيس للعبدِ من الغَنيمة شيءٌ، إلَّا خُرْثِيُّ المتاع، وأمانُه جائزٌ إذا هُو أعطَى القومَ الأمانَ".
وأخرج عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(5/ 222) قال: حدَّثَنا مَعمَرٌ ..
وسعيدُ بنُ مَنصُورٍ في "سُنَنه"(2608، 2609) قال: نا أَبُو شِهابٍ، وأبُو مُعاوِية ..
ثلاثَتُهُم، عن عاصم بن سُليمان الأحولِ، عن فُضيل بن زيدٍ الرَّقَاشِيِّ، قال: شهِدتُ قريةً مِن قُرى فارس، يُقال لها:"شاهرتا"، فحَاصَرْنَاها شهرًا، حتَّى إذا كان ذاتَ يومٌ، وطَمِعنا أن نُصَبِّحَهم، انصرَفنَا عَنهُم عِندَ المقيل، فتَخلَّف عبدٌ مِنَّا، فاستَأمَنُوه، فكَتَبَ إِلَيهم في سهمٍ أمانًا، ثُمَّ رَمَى به إليهم، فلمَّا رَجَعنَا إليهم خَرَجُوا في ثِيابِهم، وَوَضَعُوا أسلِحَتَهم، فقُلنَا:"ما شأنُكم؟ "، فقالُوا:"أَمَّنتُمونا"، وأخرَجُوا إِلينا السَّهمَ فيه كتابُ أَمانِهم، فقُلنا:"هذا عبدٌ، والعَبدُ لا يَقدِر على شيءٍ"، قالُوا:"لا ندري عبدَكم مِن حُرِّكم، وقد خَرَجنا بأمانٍ". قال: فكَتَبنَا إلى عُمَر بعضَ قِصَّتِهم، فكتب عُمَر:"إنَّ العبدَ المُسلِم من المُسلِمين أمانُهُ أمانُهُم". قال: فَفاتَنَا ما كُنَّا أشرفنا عليه من غنائِمهم.
وهذا لَفظُ مَعمرٍ.
وأخرَجَهُ البَيهقيُّ (4/ 94) عن شُعبة، عن عاصمٍ الأحولِ مُختصَرًا.
وهذا سندٌ صحيحٌ.
فالصَّوابُ في هذا الحديثِ الوقفُ.
واللهُ أعلَمُ.
123 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعبٍ أَن يُكَبِّرَ مِن سُورَةِ {وَالضُّحَى} إِلَى آخِرِ القُرآنِ.
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ الحاكمُ في "المُستَدرَك"(3/ 304) قال: حدَّثَنا أبو يحيى محمَّد بنُ عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن يزيد المُقرِئُ الإمامُ بمكَّةَ في المسجد الحرام، ثنا أبو عبد الله مُحمَّدُ بنُ عليِّ بن زيدٍ الصَّائغُ، ثنا أحمدُ بن مُحمَّد بن القاسم بن أبي بزَّةَ، قال: سمعتُ عِكرمةَ بنَ سُليمان، يقولُ: قرأتُ على إسماعيل بن عبدِ الله بن قُسطَنطِينَ، فلمَّا بلغتُ:{وَالضُّحَى} قال لي: "كبِّرْ كبِّرْ عند خَاتِمةِ كُلِّ سورةٍ حتَّى تختمَ"، وأخبَرَنِي عن عبد الله بن كثيرٍ أنَّهُ قرأ على مُجاهدٍ فأمَرَه بذلك، وأخبَرَهُ مجاهدٌ أن ابنَ عبَّاسٍ أمرَهُ بذلك، وأخبرَهُ ابنُ عبَّاسٍ أن أبيَّ بنَ كعبٍ أمرَهُ بذلك، وأخبَرَهُ أبيُّ بنُ كَعبٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرهُ بذلك.
قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد"، وتعقَّبَه الذَّهبيُّ بقوله:"البَزِّيُّ قد تُكُلِّم فيه".
وأخرَجَهُ الفاكِهِيُّ في "أخبار مَكَّة"(1744)، والمخلِّصُ في "الفوائد"(ج 1/ ق 168/ 1 - 2)، ومن طريقه الذَّهبيُّ في "الميزان"(1/ 145)، وفي "معرفة القُرَّاء"(1/ 175 - 176)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب" (1912،
1913، 1914)، وابنُ الجزَرِيِّ في "النَّشر"(2/ 414) من طريق البَزِّيِّ أحمدَ بن محمَّد بن القاسم به.
وعند المُخلِّص: "وقال مرَّةً أُخرى ابنُ أبي بَزَّةَ: سمعتُ عكرَمَةَ بن سُليمان بن كَثيرِ بن عامرٍ مَولى بني شيبةَ المَكِّيَّ، قال: قرأتُ على إسماعيلَ بن عبد الله بن قُسطنطينَ مولى بني مَيسَرَة موالي العَاصِ بن هشامٍ المَخزُومِيِّ، فلمَّا بلغتُ: {وَالضُّحَى}، قال لي: "كبِّرْ مع خاتِمَةِ كلِّ سورةٍ حتَّى تَختِمَ القرآنَ، فإنِّي قرأتُ على شِبلِ بن عبَّادٍ مَولى عبدِ الله بن عامرٍ الأُمَوِيِّ، وعليِّ بن عبدِ الله بن كثيرٍ مولَى بني عَلقَمَةَ الكِنَانِيِّينِ، وأخبَرَني عبدُ الله بنُ كثيرٍ أنَّه قرأ على مجُاهِدِ بن جَبرٍ أبي الحجَّاج مولى عبدِ الله بن السَّائبِ المَخزُومِيِّ فأمَرَهُ بذلك، وأخبره مُجاهِدٌ أنَّه قرأَ على ابن عبَّاسٍ فأمرَهُ بذلك، وأخبرهُ ابنُ عبَّاسٍ أنَّه قرأ على أُبَيِّ بن كعبٍ فأمره بذلك، وأخبره أُبَيٌّ أنَّه قرأ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك".
قال الذَّهبيُّ: "هذا حديثٌ غريبٌ. وهو ممَّا أُنكِر علي البَزِّيِّ. قال أبو حاتمٍ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ".
ومعني كلامِ الذَّهبيِّ أن البَزِّيَّ تفرَّد به.
وقد صرَّح بذلك ابنُ كثيرٍ في "تفسيره"(8/ 445) فقال: "فهذه سُنَّةٌ تفرَّد بها أبو الحَسَن أحمدُ بنُ مُحمَّد بن عبدِ الله البَزِّيُّ من ولد القاسِمِ بن أبي بزَّةَ، وكان إمامًا في القراءات، فأمَّا في الحديث فقد ضعَّفه أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ، وقال: لا أُحدِّثُ عنه. وكذلك أبو جَعفَرٍ العُقيليُّ، قال: هو مُنكَرُ الحديث".
• قلتُ: لم يتفرَّد به البَزِّيُّ، فقد تابَعَهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله، قال: قرأتُ على إسماعيلَ بن عبد الله بن قُسطَنطِينَ فذكر مثلَهُ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَي الخَلِيلُّي في "الإِرشادِ"(ص:427 - 428) قال: حدَّثنا جَدِّي، حدَّثَنا عبدُ الرَّحمن بنُ أبي حاتِمٍ، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله بن عبد الحَكَم، حدَّثَنا الشَّافِعِيُّ به.
وهذا سَنَد جيِّدٌ.
وقال ابنُ كَثِيرٍ أيضًا: "حَكَى الشَّيخُ شهابُ الدِّين أبو شامَةَ في "شرح الشَّاطبيَّة" عن الشَّافعِيِّ أنَّهُ سَمِع رجلًا يُكَبِّرُ هذا التَّكبيرَ في الصَّلاة، فقال له: أحسنتَ وأصبتَ السُّنَّة
…
وهذا يقتضي صِحَّةَ هذا الحديثِ".
• قلتُ: فواضحٌ أن ابنَ كثيرٍ لم يَقِف على رواية الشَّافِعِيِّ المُسنَدةِ في ذلك، وإنَّما صحَّح الحديثَ بناءً على قولِ الشَّافِعيِّ:"أصبتَ السُّنَّةَ". وتصحيحُ الحديث بمِثلِ هذا القَولِ فيه نَظَرٌ لا يَخفَى على مَن تأمَّلَهُ. والله أعلم.
• قلتُ: ثُمَّ تبيَّن لي أنَّه وَقَع لي وهمٌ أثناء النَّقل من "المُستدرَك" فسَقَطَ ذِكرُ "عِكرمةَ بن سُليمَان" القَارِئِ على ابن قُسطَنطِينَ وصار الشَّافِعِيُّ بهذا مُتابِعًا لعكرَمَةَ لا للبَزِّيِّ.
وكنتُ حكمتُ على إسناد الشَّافِعِيِّ بالجودَةِ لمَّا نُشر البحثُ في "مجلَّة التَّوحيد"، وكذلك في "تنبيهِ الهَاجِدِ"، وليس كذلك؛ لأنَّ إسماعيلَ بنَ عبدِ الله بن قُسطَنطينَ لا أَعرِفُ أحدًا وثَّقَهُ، ولم أَجِدهُ في "ثقاتِ ابن حِبَّان"، وتَرجَمَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في "الجَرح والتَّعديل"(1/ 1/ 180) ولم يَحكِ فِيهِ
شيئًا، ففي ثُبُوت هذا الخَبَرِ نظرٌ، وقد أنكَرَهُ أبو حاتِمٍ، كما في "العِلَل"(1721).
والحمدُ لله على ما أَنعَمَ.
{تنبيه}
رَوَى ابنُ الجزَرِيِّ هذا الخبرَ من طريق ابن خُزيمَةَ، ونقل عنه قَولَه:"إنِّي أنا خائفٌ أن يكُونَ قد أَسَقَط ابنُ أبي بَزَّة أو عِكرمةُ بنُ سُليمانَ من هذا الإسناد: شبلًا"، فردَّ ابنُ الجَزَرِيِّ قائلًا:"قلتُ: يعني ابنَ إسماعيل وابنَ كثيرٍ. ولم يُسقِط واحدٌ منهم شبلًا؛ فقد صحَّت قِراءَةُ إسماعيلَ على ابن كَثيرٍ نفسِه، وعلى شبلٍ. وعليٌّ معرُوفٌ عند ابن كَثيرٍ. واللهُ أعلمُ" انتهَى.
124 -
سُئلت عن حديث: "القَنَاعَةُ كَنزٌ لَا يَنفَدُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
ولَم أَقِف عليه بلفظ: "كنز"، وإِن كان هُو المشهورَ بين النَّاس، ووقفتُ عليه مرفُوعًا بلفظ:"القَنَاعَةُ مالٌ لا ينفد".
أخرَجَهُ ابنُ عديٍّ في "الكامل"(4/ 1507)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(2/ 233)، وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(83)، والقاضي أبو عبد الله الفَلَّاكِيُّ في "الفوائد"(ق 108/ 1)، وابنُ شاهين في "التَّرغيب"(305/ 3)، والبَيهَقيُّ في "الزُّهد"(105)، والشَّجريُّ في "الأمالي"(2/ 198) مِن طريق عبد الله بن إبراهيم الغِفاريِّ، ثنا المُنكَدِرُ بنُ مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن أبيه، عن جابرٍ مرفُوعًا به.
قال ابنُ عديٍّ: "وهذا الحديثُ بهذا الإسناد، لا يَروِيه عن المُنكدِر غيرُ عبد الله بن إبراهيم" كذا قال.
وقد تابَعَهُ مُحرِزُ بنُ سَلَمة، نا المُنكَدِر بسَنَدِه سواءٌ.
أخرَجَهُ الخطيبُ في "الفقيه والمُتفَقِّه"(رقم 836) من طريق أحمد بن أبي صلابَةَ، نا مُحرِزُ بنُ سَلَمة.
ومُحرِزٌ وثَّقه ابنُ حِبَّانَ.
ولكن ابنُ أبي صلابة لم أَقِف له على ترجمةٍ.
والمُنكَدِرُ بنُ مُحمَّد بن المُنكَدِر اختَلف فيه اجتهادُ النُّقَّاد، وهو ضعيفٌ.
وقد تابَعَهُ أخُوه يُوسُفُ بنُ مُحمَّد بن المُنكَدِر، فرواه عن أَبيه، عن جابرٍ مرفُوعًا:"عَلَيكُم بالقَنَاعة؛ فإنَّ القناعة مالٌ لا ينفدُ".
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(6922) مِن طريق أبي يُوسُف الصَّيدلانيِّ، ثنا خَالدُ بنُ إسماعيل المَخزُوميُّ، عن يُوسُف بن مُحمَّد بن المُنكَدِر به.
وقال الطَّبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديث عن مُحمَّد بن المُنكَدِر إلَّا ابنُه يُوسُفُ، ولا عن يُوسُفَ إلَّا خَالِدُ بنُ إِسماعيل. تفرَّد به: أبو يُوسُف الصَّيدلاني".
• قلتُ: وأبُو يُوسُفَ الصَّيدلانيُّ ما عَرَفتُه.
وخالدُ بنُ إسماعيل ساقطٌ مطرُوحٌ.
ويُوسُفُ بنُ المُنكَدِر ضعيفٌ. ولكِنَّهُ لم يتَفَرَّد بالحديث عن أبيه، كما قال الطبراني، بل تابَعَهُ أخُوه المُنكَدِر، كما تَقدَّم ذِكرُه ..
وسُئل أبُو حاتمٍ عن هذا الحديث، فقال:"هذا حديثٌ باطلٌ" - نَقَلَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلَل"(1813) -.
125 -
سُئلتُ عن حديث: "اتَّقُوا حُسَّادَ النِّعَمِ".
• قلتُ: لَم أَقِف عليه بهذا اللَّفظِ.
ولكن في معنَاهُ حديثُ ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا: "إِنَّ لِأَهلِ النِّعمة حُسًّادًا، فاحذَرُوهُم".
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(7277)، وأبُو الشَّيخ في "الأمثال" (201) قالا: حدَّثَنَا مُحمَّد بن نُصَيرٍ، حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ عمرٍو، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ مَرْوان، عن ابن جُريجٍ، عَّنَ عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ أمَّا مُحمَّدُ بنُ نُصيرٍ فترجَمَهُ أبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 241)، وقال:"ثِقَةٌ مأمونٌ".
وإسماعيلُ بنُ عمرٍو البَجليُّ ضعيفٌ.
ومُحمَّدُ بنُ مَرْوان يُشبِهُ أن يَكُونَ العُقيليَّ؛ فهو في طَبَقة تلاميذ ابن جُريجٍ، فإن يَكُنهُ، ففي حِفظِهِ ضعفٌ.
واللهُ أعلَمُ.
126 -
سُئلتُ عن حديث: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ أَطلَقَ كُلَّ أَسِيرٍ، وَأَعطَى كُلَّ سَائِلٍ.
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ البزَّارُ (968 - كشف)، وابنُ حِبَّانَ في "المجروحين"(1/ 360)، والإسماعيليُّ في "مُعجَمه"(رقم 36 - بتحقيقي)، وأبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهانَ"(1/ 123)، والبَيهقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 3/ رقم 3629)، وابنُ الجوزيِّ في "الواهيات"(2/ 39) من طريق عبد الحمِيد الحِمَّانِيِّ، ثنا أبُو بكرٍ الهُذَليُّ، عن الزُّهريِّ، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُ رواه هكذا إلَّا أبُو بكرٍ الهُذَليُّ، ولم يَكُن حافظًا، وقد حدَّث عنه جماعةٌ مِن أهل العلم".
وقال ابنُ الجوزيِّ: "أبُو بكرٍ الهُذَليُّ اسمُه: سلمى بنُ عبد الله، يَروِي عن الأثبات الأشياء الموضوعاتِ، قال غُندَرٌ: كان يكذِبُ".
وذكر الخطيبُ في "تاريخه"(9/ 225) بسَنَدِه إلى ابن المَدينيِّ، وذَكَرَ له هذا الحديث فقال:"أبو بكر ضعيفٌ جدًّا".
• قلتُ: ومَعَ سُقوط أبي بكرٍ الهُذَليِّ، فقد خالَفَهُ جماعةٌ مِن أصحاب الزُّهريِّ الثِّقات.
فروَوْهُ عنه عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عبَّاس، قال: كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجوَدَ النَّاس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان جبريلُ يلقاهُ في كُلِّ ليلةٍ مِن شهر رمضان، فيُدارِسُه القُرآنَ. قال: وكان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جِبريلُ عليه السلام أجوَدَ بالخير مِنَ الرِّيح المُرسَلة.
أخرجه البُخاريُّ (4/ 116، و 6/ 305، 565، و 9/ 43)، ومُسلِمٌ (15/ 89 - 90 شرح النَّوَويِّ)، والنَّسَائيُّ (4/ 125)، والتِّرمذيُّ في "الشَّمائل"(190)، وأحمدُ في "المُسنَد"(1/ 231، 288، 326، 363، 366 - 367، 373) وآخَرُون.
ورواه عن الزُّهريِّ جماعةٌ مِن أعيان أصحابِهِ، منهم: مَعمَرُ بنُ راشدٍ، وإبراهيمُ بنُ سعدٍ، ويُونُسُ بنُ يزيدَ.
فأين أبُو بكرٍ الهُذَليُّ مِن هؤلاء.
ولذلك سُئل أبُو حاتمٍ الرَّازيُّ - كما في "العِلل"(661) - عن حديث الهُذَليِّ هذا، فقال:"هذا حديثٌ مُنكَرٌ".
والله أعلمُ.
127 -
سُئلتُ عن حديث: قُتِلَ رَجُلٌ عَلَى عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَبعَدَهُ اللهُ! إِنَّهُ كَانَ يُبغِضُ قُرَيشًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرجه الإسماعيليُّ في "مُعجَمه"(38)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 350) مِن طريق هلال بن عبد الرَّحمن، قال: كُنتُ أنا وأيُّوبُ السَّختِيانِيُّ بِمِنًى، فأَخَذ بِيَدِي، فأَدخَلَنِي على مُحمَّد بن المُنكَدِر، فحَدَّثَنا عن جابرٍ، أن رجُلًا قُتِلَ بالمدينة، لا يُدرَى مَن قَتَله، فأُعلِمَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أَبعَدَهُ اللهُ
…
الخ".
وهذا سياقُ العُقَيليُّ.
وعِند الإسماعيلي ذكر: "العَرَب" بدل: "قريشٍ".
قال العُقيليُّ: "هلالُ بنُ عبد الرَّحمن الحنفيُّ مُنكَرُ الحديث. وهذا مُنكَرٌ لا أصل له، ولا يُتابَعُ عليه".
وله شاهدٌ من حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه.
أخرجه البزَّارُ (114 - مسند سعد)، ومن طريقه العراقيُّ في "مَحَجَّة القُرَبِ إلى محَبَّة العَرَب" (129) قال: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ مُحمَّد التَّيمِيُّ، حدَّثَنا عبدُ الرَّحمن بنُ عياضٍ، حدَّثني عمِّي عُتَيبةُ، عن عبد الملك بن يحيى، عن محمَّد بن سعدٍ، عن أبيه، قال: قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فُلانًا الثَّقفيَّ قُتِلَ، وقد كان أَسلَم"، فقال:"أَبعَدَهُ اللهُ! إِنَّهُ كَانَ يُبغِضُ قُريشًا".
قال العراقيُّ: "هذا حديثٌ حسنٌ، أخرَجَهُ هكذا أبُو بكرٍ البزَّارُ في "مُسنَده"، وليس في إسناده من اتُّهم بالكذب. وقد رُوي من وجهين آخَرين: المرسلِ الصَّحيحِ الإسناد، والمُتَّصِلِ المتقدِّمِ، فصار ذا طُرُقٍ، فاعتَضَدَ".
• قلتُ: أبعَدَ النُّجْعَةَ رحمه الله، فإنَّه لم يَقُل لنا مَن عبدُ الرَّحمن بنُ عياضٍ، ومن عمُّهُ عُتَيبةُ الواقعان في هذا الإسناد، فإنِّي لم أجد لهما ترجَمةً. وأشار تلميذُهُ الهَيثميُّ إلى هذا، فقال في "المَجمَع" (10/ 30):"فيه مَن لم أعرفه".
وعبدُ الملِك بنُ يحيَى أَظُنُّه المُترجَمَ في "الجرح والتَّعديل"(2/ 2/ 375) وقال: "رَوَى عن عُروةَ بن الزُّبير. رَوَى عَنهُ الوليدُ بنُ مُسلِم".
فهذا أيضًا لا أعرف من حاله شيئًا، فالسَّنَدُ واهٍ.
أمَّا الحديثُ الموصولُ الذي عَناهُ العراقِيُّ، فهو الآتي عن المُغيرةَ بن شُعبةَ، وسيأتي الكلامُ عنه.
وأمَّا المُرسَلُ الذي عناه، فقد أخرَجَه هو في "مَحَجَّة القُرَب"(128) من طريق عبدِ الله بن صالحٍ كاتب اللَّيث، حدَّثني إبراهيمُ بنُ سعدٍ، عن صالحِ بن كَيسانَ، عن ابن شهابٍ، قال: بَلَغنِي أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجلٌ من ثقيفٍ مات يوم حُنينٍ وهو كافرٌ، فقال:"أبعَدَهُ اللهُ! إنَّه كان يُبغضُ قريشًا".
وقد تُوبِع صالحُ بنُ كَيسَانَ.
تابَعَهُ مَعمرُ بنُ راشدٍ، فرواه عن الزُّهريِّ، أن رجُلًا من ثقيفٍ قُتل يوم أُحُدٍ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
…
فذَكَره.
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "مُصَنَّفه"(ج 11/ رقم 19904).
كذا وقع عند عبد الرَّزَّاق: "يوم أُحُدٍ".
وخالَفَهُما جُبَيرُ بنُ أبي صالحٍ، فرواه عن الزُّهريِّ، عن سعد بن أبي وقَّاصٍ، قال: إنَّ رجُلًا قُتِل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكر مثله.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبة (12/ 173)، وعَنهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة" (2/ 638) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله الأَسَدِيُّ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن جُبير بن أبي صالحٍ بهذا.
وإسنادهُ منقطِعٌ؛ والزُّهريُّ لَم يُدرِك سعدًا.
وروايةُ مَعمَرٍ وصالحٍ أرجحُ. وجُبَيرٌ ليس فيه توثيقٌ مُعتبَرٌ. واللهُ أعلَمُ.
ولكنْ تقويةُ المَوصولِ الذي عناه العراقِيُّ بمُرسَلِ الزُّهريِّ، فيه نظرٌ؛ فإنَّ مراسيلَ الزُّهريِّ شبهُ الرِّيح، كما نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ ذلك لأنَّ الزُّهريَّ من صغار التَّابعين، فالغالبُ على روايته الإعضالُ؛ إذ أغلبُ شُيوخِهِ من التَّابعين، فيكون بينهُ وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الغالب واسطتان، وإن كُنَّا نُسمِّي مُرسلَه مُرسَلًا فذلك من جهة التَّسمية، لا التَّقوية. والله أعلم.
أمَّا الشَّاهدُ الموصولُ الذي عناه العراقيُّ:
فأخرجَهُ هو في "المَحَجَّة"(127)، من طريق الطَّبَرانيُّ في "الكبير" (ج 20/ رقم 895) قال: حدَّثَنا أبُو غسَّانَ أحمدُ بنُ سهلِ بن الوليد الأَهوَازِيُّ، قال: حدَّثَنا الجَرَّاحُ بنُ مَخلَدٍ، حدَّثَنا يَعقُوب بن مُحمَّدٍ الزُّهريِّ، ثنا نَوفَلُ بنُ عِمَارةَ، حدَّثَني عبدُ الله بنُ الأسود بن أبي عاصمٍ
الثَّقَفيُّ، عن أبيه، عن المغيرةَ بن شُعبة، قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنينٍ وَقَفَ على رَجُلٍ مقتُولٍ، فقال:"أَبعَدَكَ اللهُ! فَإِنَّكَ كنتَ تُبغضُ قريشًا".
قال العراقيُّ: "هذا حديثٌ في إسنادِهِ مقالٌ. ويعقُوبُ بنُ مُحَمَّدٍ الزُّهريُّ أحدُ الحُفَّاظ، ضعَّفهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبُو زُرعةَ، وقال ابنُ مَعينٍ: ما حدَّثَكم عن الثِّقات فاكتُبُوه، وما لا يُعرَفُ من الشُّيوخ فدعوه. وشيخُهُ نَوفلُ بنُ عِمارَةَ، والجَرَّاحُ بنُ مَخلَدٍ، ذَكَرهما ابنُ حِبَّان في "الثِّقات" (7/ 540 و 8/ 164) ".
• قلتُ: كذا قال! وقد تَسامَحَ في أمر يعقوبَ بن مُحَمَّدٍ، فإنَّه شبهُ المتروك. قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ:"ليس بشيءٍ، ليس يسوي شيئًا". وقال أبُو زُرعةَ: "واهي الحديث"، وقال في موضعٍ آخر:"ليس عليه قياسٌ. يعقُوبُ الزُّهريُّ، وابنُ زَبَالَةَ، والواقديُّ، وعُمرُ بنُ أبي بكرٍ المُؤمَّليُّ: يتقارَبُون في الضَّعف". فهذا يدُلُّ على أنَّه شديدُ الضَّعف عند أبي زُرعةَ. وقال أبُو حاتِمٍ: "هو على يدَي عدلٍ" وهي صيغة جرحٍ عنده. أمَّا ابنُ مَعينٍ فلم ينقل العراقيُّ قولَه الآخر في يعقوب وهو: "أحاديثُهُ تُشبهُ أحاديثَ الواقديِّ" يعني: متروكٌ. فظاهرٌ من عبارات العُلماء أنَّه واهٍ، ولم يُوَثِّقهُ إلَّا المتساهِلون كابنِ حِبَّان، أو الذين لم يُعرَفُوا بنقد الرِّجال مثلُ حجَّاجِ بن الشَّاعر. أمَّا قولُ بن سعدٍ:"كان حافظًا" فهذا لا يعني أنَّه ثقةٌ؛ إذ أن كثيرا من الرُّواة يصفُهُم النُّقَّاد بالحفظ ويُضعِّفونهم كابن عُقدةَ والكُدَيمِيِّ وغيرهما، فالحفظُ غيرُ مُستلزِمٍ للثِّقة. ولو قبلنا
القولَ الذي نَقَلهُ العراقيُّ عن ابن مَعينٍ: "ما حدَّثَكم عن الثِّقات فاكتُبُوه" فلا ينطبق على هذا الحديث؛ إذ أن شيخَهُ فيه هو: نَوفَلُ بنُ عِمارَةَ، وهذا لم يُوثِّقهُ إلَّا ابنُ حِبَّان، ولم يَذكُر عنه راويًا غيرَ يعقوبَ، فالصَّحيحُ أنَّه مجهُولٌ. أضِف إلى ذلك أن شيخَ نَوفلٍ وهو: عبدُ الله بنُ الأَسْوَدِ لم أجد له ترجمةً. وشيخَ الطَّبرانِيِّ أحمدَ بنَ سهلٍ لا أعرف فيه جَرحًا ولا تَعديلًا، وذَكَره السَّمعانِيُّ في "الأنساب (3/ 267) ولم يذكُر فيه شيئًا. فإسنادُ الحديثِ ضعيفٌ جدًّا، ولو سلَّمنا أن مُرسَلَ الزُّهرِيِّ السَّابقَ صحيحٌ فلا يُقوِّي هذا الموصُولَ، كيف والمُرسَلُ شبهُ الرِّيح كما ذكرتُ؟
وقال الهيثميُّ في "المَجمَع"(10/ 27): "فيه يَعقُوبُ بنُ مُحَمَّدٍ الزُّهريُّ، وهو ضعيفٌ، وقد وُثِّق".
ويُروَى أن هذا المَقتُولَ الذي عناه المغيرةُ هو: عُثمان بنُ عبد الله بن ربيعة. فقد ذَكَرَ ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(5/ 519) في ترجمة: "عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عُثمان بن عبد الله بن رَبيعة"، أن جدَّهُ عُثمانَ بنَ عبد الله كان يحمِلُ لواءَ المُشركين يوم حُنينٍ، فقَتَلَهُ عليُّ بن أبي طالبٍ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبعَدَهُ اللهُ! إِنَّه كانَ يُبغِضُ قُرَيشًا".
هكذا عَلَّقَهُ ابنُ سعدٍ بغيرِ إسنادٍ.
والله أعلم.
128 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذَا جَلَسَ القَومُ عَلَى شَرَابِهِم، وَدَارَت عَلَيهِمُ الكَأسُ، دَارَت عَلَيهِم لَعنَةُ اللهِ عز وجل".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ الإسماعيليُّ في "مُعجَمه"(44)، وعنهُ السَّهميُّ في "تاريخ جُرجانَ" (87) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ بنُ الفُرَات الخُوَارَزمِيُّ من الجُرجانيَّةِ - قَدِمَ علينا حاجًّا -، قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ عبد الوَهَّاب الأحنفيُّ الخُوَارَزمِيُّ من الجُرجانيَّةِ، حدَّثَنا سَلَمةُ بنُ حَيَّانَ البصريُّ، حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ سُليمان، حدَّثَنِي يزيدُ بنُ عياضٍ المَدَنيُّ، عن الزُّهريِّ، عن سعيد بن المُسيَّب، عن أبي الدَّرداء مرفُوعًا فذكره.
وشيخُ الإسماعيليِّ ترجمَهُ السَّهميُّ في "تاريخه"، ولم أَقِف على حالِهِ.
ويَزِيدُ بنُ عِياضٍ المَدنيُّ كذَّبَهُ مالكٌ، وتَرَكَهُ النَّسائيُّ، وقال البُخاريُّ:"مُنكَرُ الحديث".
واللهُ سبحانه وتعالى أعلَمُ.
تم بحمد الله تعالى السِّفرُ الأوَّل من: "إسعاف اللَّبيث"، ويتلوه السِّفرُ الثَّاني، وأوَّلُهُ: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي
…
الحديث".
تمَّ بحمد الله تعالى
السِّفرُ الأوَّلُ من: "إسعاف اللَّبيث"
ويتلُوه السِّفرُ الثَّاني
وأوَّلُهُ: "لا يزال أربعُون رجلًا من أمَّتِي
…
الحديث"