الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
253 -
سُئلتُ عن حديثٌ: "إِذَا كَانَت أُمَرَاؤُكُم خِيَارَكُم، وَكَانَت أَغنِيَاؤُكُم سُمَحَاءَكُم، وَكَانَ أَمرُكُم شُورَى بَينكُم، فَظَهْرُ الأَرضِ خَيرٌ لَكُم مِن بَطنِهَا. وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُم شِرَارَكُم، وَكَانَت أَغنِيَاؤُكُم بُخَلَاءَكُم، وَكَانَت أُمُورُكُم إِلَى نِسَائِكُم، فبطنُ الأَرضِ خَيرٌ لَكُم مِن ظَهرِهَا".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ البَزَّار (ج 2/ ق 242/ 1)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 176) مِن طريق عَبدان بن أحمد، قال: ثنا عبدُ الله بنُ مُعاوية الجُمَحِيُّ، ثنا صالح المُرِّيُّ، عن سعيدٍ الجُرَيرِيِّ، عن أبي عُثمان النَّهدِيِّ، عن أبي هُريرَة مرفوعًا فذَكَرَه.
قال البَزَّارُ: "وهذا الحديث لا نَعلَمُ رواه عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا أبو هُريرة، ولا نَعلَمُ له طريقًا غيرَ هذا الطَّريق، ولا رواه عن الجُرَيرِيِّ إلا صالحٌ المُرِّيُّ. وصالحٌ كان أحدَ العُبَّاد المجتهدين، وأحسِبُ أن عبادته كانت تَشغَلُه عن تَحَفُّظِ الحديث".
وقال أبو نُعيمٍ: "غريبٌ من حديثٌ سعيدٍ، وصالحٍ. لم نَكتُبهُ إلَّا مِن حديث عبد الله بن مُعاوية الجُمَحِيِّ".
• قلتُ: قلتُ: وصالحٌ المُرِّيُّ اتَّفَق سائرُ النُّقَّاد على تضعيفه، بل تَرَكَهُ
بعضُهم، كالنَّسائيِّ وابنِ حِبَّان، وضَعَّفَه جِدًّا آخرُون، كابن المَدِينِيِّ والبُخَارِيِّ، وصرح ابنُ حِبَّان أن ابنَ مَعِينٍ كان شديد الحَملِ عليه. وقد مشَّاه ابنُ مَعِينٍ في رِوايةٍ، فكأنَّهُ قَصَدَ صِدقَه. ووَثَّقَه يَعقوبُ الفَسَوِيُّ، وهو توثيقٌ مردُودٌ، أو أنَّهُ قَصدَ عدالتَه.
وعِلَّةٌ أُخرَى، وهي اختلاطُ سعيدٍ الجُرَيرِيِّ، والقاعدةُ عند المُحَدِّثين، أنَّهُم يتَوَقَّفُون في قَبُول حديثٌ من اختَلَط، حتَّى يَقِفُوا على روايةِ مَن رَوَى عنه قبل الاختلاط، وهذا لم يتحَقَّق في هذا الحديث.
واللهُ أعلَمُ.
254 -
سُئلتُ عن حديثٌ: "أَنَا أَوَّلُ مَن يُفتَحُ لَهُ بَابُ الجَنَّةِ، فَتَأتِي امرَأَةٌ تُبَادِرُنِي، فَأَقُولُ لهَا: مَا لَكِ؟ وَمَن أَنتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امرَأَةٌ قَعَدتُ عَلَى أَيتَامٍ لِي".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى (6651) قال: حدَّثَنا سليمانُ بنُ عبد الجبَّار أبو أيُّوب ..
والبَزَّارُ في "مُسنَده"(ج 2/ ق 242/ 1) قال: حدَّثَنا الوليدُ بنُ عَمرِو بن سُكَيْنٍ، قالا: ثنا يَعقُوبُ بنُ إسحاق الحَضرَمِيُّ، عن عبد السَّلام بن عَجلان، عن أبي عُثمان النَّهدِيِّ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
وصرَّحَ يَعقُوبُ بالتَّحديث عند البَزَّار، وصرَّحَ عبدُ السَّلام بالتَّحديث عند أبي يَعلَى.
والحديثُ عَزَاهُ الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(8/ 162) لأبي يَعلَى، وفاتَهُ العزوُ للبَزَّار، وقال:"فيه عبدُ السَّلام بنُ عَجلان، وثَّقَهُ أبو حاتمٍ، وابنُ حِبَّان، وقال: "يُخطِئُ ويُخَالِفُ"، وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ".
وقال البَزَّارُ: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمُه رواه إلَّا أبو هُريرَة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد. وعبدُ السَّلام بنُ عَجلان رجلٌ من أهل البَصرَة، مَشهُورٌ، حدَّث عنه الثِّقاتُ" ا. هـ.
• قلتُ: قلتُ: وقولُ الهَيثَمِيِّ: "وَثَّقَهُ أبو حاتمٍ" خطأٌ؛ فإنَّ ابن أبي حاتمٍ
ترجمَهُ في "الجرح والتَّعديل"(3/ 1/ 46)، وقال:"سأَلتُ أبي عنه، فقال: شيخٌ بصريٌّ، يُكتَبُ حديثُه"، فلعَلَّه وقع خطأٌ من الهَيثَمِيُّ، أو تصحيفٌ من النَّاشِر، ويَكُون صوابُ العِبارة:"وَثَّقُه أبو حاتمٍ ابنُ حِبَّان"، وكأنَّ هذا هو الصَّوَابُ؛ وكُنية ابن حِبَّان:"أبو حاتمٍ".
وقول أبي حاتمٍ الرَّازِيِّ: "يُكتَبُ حديثُه" فيه تَليِينٌ لَهُ، فإذا انضافَ إليه قولُ ابن حِبَّان في "الثِّقات" (7/ 127):"يُخطِئُ ويُخالِف"، تَرَجَّحَ لديك التَّوَقُّفُ في تقوية حديثه.
واللهُ أعلَمُ.
255 -
سُئلتُ عن حديث: "أَنَّ رَجُلًا كانَ يَعبُدُ صَنَمًا، فَنَادَاهُ يَومًا، فَأَرَادَ أَن يَقُولَ: يَا صَنَمُ، فَأَخطَأَ لِسَانُهُ، فَقَالَ: يَا صَمَدُ. فَأَعطَاهُ اللهُ مَا أَرَادَ، فَقَالَت المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا! إِنَّهُ مَا قَصَدَ دُعَاءَكَ، فَلِمَ تُعطِهِ؟ قَالَ لَهُم: لَو لَم أُعطِهِ لَكُنتُ كالصَّنَمِ، وَأَنَا الصَّمَدُ".
• قلتُ: قلتُ: لا أصل له مرفُوعًا، وهو باطلٌ، وقد وَقَفتُ على أصلِه.
فأخرج مُحمَّدُ بنُ فُضَيلٍ في "كتاب الدُّعاء"(79) قال: حدَّثَنا عطاءُ بن السَّائِب، قال: لَمَّا انهزَمَ النَّاسُ يوم الجماجم - وهي معركةٌ، وَقَعَت بين الحجَّاج بن يُوسُف، وعبد الرَّحمن بن الأشعث -، جَعَلَ أبو البَختَرِيِّ الطَّائِيُّ يُحَرِّض النَّاسَ، فسمِعتُه يقول: "كان نَبِيٌّ من بني إسرائيل قد ظَهَرَ، وتَبِعَهُ مَن شاء الله، وأنَّهُ تَزَوَّج بنتَ رجلٍ مِمن تابعه من المؤمنين، وكان مِن أفضل أصحابِه، فوَلَدَت له غُلامًا، فلمَّا بلغ وشَبَّ، تَتَبَّع النَّصارى، فنَصَّرُوه، وعَقَدُوا له أَلوِيَتَهُم، فخرج بهم على أبيه، فقتل أباه وجَدَّه المُؤمنَ أبا أُمِّه، وظَهَر عليهم، إلَّا شِرذِمةً قليلةً من المؤمنين، فبَينَمَا هُو قد ظَهَرَ عليهم، إذ قال في نفسه: إنَّ المؤمنين قد آذَنُوا لكُم بالحَرب. فخَرَج بمن مَعَهُ، وهو يراهم كأَكَلَةِ رأسٍ، فاقتَتَلُوا، فأظْهَرَ اللهُ المؤمنين عليهم، فهَزَمُوهُم، فأُخِذَ ابنُ النَّبيِّ أسيرًا، فصَلَبُوه
وهو حيٌّ، وكذلك كانوا يفعَلُون في ذلك الزَّمان، حتَّى يموت مَوتَةَ نفسِهِ، ولا يُقتَلُ، فبينا هو يدعُو الله بآلهته، ويهتِفُ بالآلهة، ويَهتِفُ بأسمائها، يدعُوها أن تُخَلِّصَهُ ممَّا هو فيه، فهَتَفَ ليلةً، حتَّى إذا خاف الصُّبحَ، دعا الله، فقال: يا اللهُ! خَلِّصنِي ونَجِّنِي. فتَقَطَّعت عنه الشُّرُطُ، فذهب، فلَم يَقدِرُوا عليه، فكَبُر ذلك على المُؤمنين، واشتدَّ عليهم، - قال: - فأوحى اللهُ إلى رجلٍ من المؤمنين في مَنَامِه: أنَّه دعا آلهته فلَم تُجِبهُ، ودعاني فأَجَبتُه، ولم أَكُن كالصُمِّ البُكمِ الذين لا يَعقِلُون".
فقد تبَيَّن بهذا، أن هذا من الإِسرَائِيلِيَّات، التي أُمِرنَا أن لا نُصَدِّقَها ولا نُكَذِّبَها إذا صحَّ سنَدُها، فكيف ولم يَصِحَّ سنَدُها أيضًا؛ وعطاءُ بنُ السَّائب كان اختَلَط، ومُحمَّدُ بنُ فُضَيل سَمِعَ منه بعد الاختلاط، كما نَصَّ عليه غيرُ واحدٍ من النُّقَّاد، مِنهُم ابنُ مَعِينٍ وأبو حاتمٍ الرَّازِيُّ.
وأصحابُ عطاءٍ الذين سَمِعُوا منه قبل الاختلاط: شُعبَةُ، وسُفيانُ الثَّورِيُّ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ، واختُلف في حمَّاد بن سَلَمة، والصَّوابُ أنَّه سَمِعَ منه قبل الاختلاط وبعده، فيُتَوَقَّف في روايته عنه.
وهذا كُلُّه مُتعلِّقٌ بصِحَّةِ الإسناد إلى أبي البَختَرِيِّ، واسمُهُ سعِيدُ بنُ فَيرُوزَ.
واللهُ أعلَمُ.
256 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ عائشة رضي الله عنها سَأَلَت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُعَلِّمَها اسمَ الله الأعظمَ، فأَبَى، فقَامَت، فَصَلَّت، وجَعَلَت تَدعُو، فقال لهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ فِي هَذِهِ الأَسمَاءِ الَّتِي دَعَوتِ بِهَا".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5145)، وفي "الدُّعاء" (120) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ القاسمِ بن مُسَاوِرٍ الجَوهَرِيُّ، ثنا عُبيدُ الله بنُ عُمَر القَوَارِيرِيُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله العَصَرَيُّ، ثنا غالبٌ القَطَّانُ، عن أنَس بن مالكٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ دخل على عائشة ذات غَدَاةٍ، فقالت:"بأبي وَأُمِّي يا رسول الله! عَلِّمني اسمَ الله، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أَعطَى"، فأَعرَضَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقامَت، فتوَضَّأت، فقالَت:"اللَّهُمَّ! إِنِّي أسأَلُك من الخَيرِ كُلِّه، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وباسمك العَظِيم، الذي إذا دُعِيتَ به أَجبتَ، وإذا سُئِلتَ به أَعطيتَ"، فقال:"وَالله! إنَّهُ لَفِي هذه الأسماء".
قال الطَبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديث عن غالبٍ القَطَّان إلَّا مُحمَّدُ بنُ عبد الله العَصَرِيُّ. تفرَّد به القَوَارِيرِيُّ".
وهذا سندٌ واهٍ؛ والعَصَرِيُّ قال ابنُ حِبَّان: "مُنكَرُ الحديث جدًّا. لا يجوز الاحتجاجُ به، ولا الاعتبارُ بما يَروِيه، إلَّا عند الوِفاق للاستئناس به".
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الدُّعاء"(118) مِن طريق عبد الله بن صالحٍ، حدَّثَني اللَّيثُ، عن إسحاق بن أسيدٍ، عن رَجُلٍ، عن أنس بن مالكٍ، أن عائشة قالت:"يا رسُول الله! علِّمني اسمَ الله العظيمَ"، فقال لها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قُومِي، فتَوَضَّئي، ثُمَّ ادعي حتَّى أسمَعَ"، قالت: ففعلتُ، فقُلتُ:"اللَّهُمَّ! إني أَسأَلُكَ بأسمائك الحُسنَى كُلِّها، ما عَلِمتُ منها وما لم أعلَم، وباسمك العظيمِ الأعظمِ، وباسمك الأكبرِ"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَصَبتِ! والذي نفسي بيده! ".
وسَنَدُهُ ضعيفٌ أو واهٍ؛ وعبدُ الله بنُ صالحٍ، وإسحاقُ بنُ أسيدٍ فِيهِما ضعف. مع جهالة الرَّاوِي عن أنَسٍ.
257 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن سَعَى عَلَى وَالِدَيهِ، وامرَأَتِه، وعِيالِه، فهُو في سَبِيل الله، ومَن سَعَى مُكَاثَرَةً، فهُو في سَبِيل الشَّيطانِ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
وقد وَرَد من حديث أنَسٍ، وأبي هُريرَة، وكَعبِ بن عُجْرَةَ رضي الله عنهم.
* أمَّا حديثٌ أنَسٍ رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(8630) قال: حدَّثَنا مُطَّلِبُ بنُ شُعيبٍ، ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، حدَّثَني اللَّيثُ، حدَّثَني إسحاقُ بنُ أَسِيدٍ، عن عبد الكَريمِ، عن أنَس بن مالكٍ مرفوعًا:"السَّاعي على وَالِدَيه ليَكُفَّهُما، أو يُغنِيَهُمَا عن النَّاس: في سبيل الله، ومن سعى على زوجٍ، أو وَلَدٍ، ليَكُفَّهُم ويُغنِيَهُم عن النَّاس: في سبيل الله، والسَّاعي على نَفسِه ليُغنِيَهَا ويَكُفَّهَا عن النَّاس: في سبيل الله، والسَّاعي مُكَاثَرَةً: في سبيل الشَّيطان".
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عبد الكَريم الجَزَرِيِّ إلَّا إسحاقُ بنُ أَسِيْدٍ، تفرَّد به اللَّيثُ. ولا يُروَى عن أنَسٍ إلَّا بهذا الإسناد".
• قلتُ: قلتُ: وإسحاقُ بن أَسِيْدٍ - بفتح الهمزة - قال أبو حاتمٍ: "شيخٌ ليس بالمشهور، لا يُشتَغَلُ به"، وقال أبو أحمدٍ الحاكمُ:"مجهولٌ"، ولمَّا
ذَكَرَه ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(6/ 55) قال: "كان يُخطِئُ".
وضَعَّف الهَيثَمِيُّ الحديثَ به في "مَجمَع الزَّوائد"(4/ 325).
وعبدُ الله بنُ صالحٍ كان كَثيرَ الغَلَطَ.
وعبدُ الكَرِيم جزم الطَّبَرانيُّ أنَّه الجَزَرِيُّ، وهو ابنُ مالكٍ، ذَكَرَ المِزِّيُّ في "تهذيب الكمال"(18/ 253) أنَّه رأى أنَس بنَ مالكٍ، والظَّاهر أنَّه عبدُ الكريم بُن رَشِيدٍ، ويقال رَاشدٌ، فقد ذَكَر المِزِّيُّ أنَّه يَروِي عن أنَسٍ، وعنه إسحاقُ بنُ أَسيْدٍ، ونَقَل توثيقَه عن ابن مَعِينٍ وابنِ حِبَّان، ونقل ابنُ حَجَرٍ توثيقه عن ابن نُمَيرٍ، وقال النَّسَائِيُّ:"ليس به بأسٌ".
* وأمَّا حديثٌ أبي هُريرَة رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ البَزَّارُ (ج 2/ ق 266/ 2)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(4214)، والبَيهَقِيُّ (2/ 25)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(428)، والضِّياءُ في "المُختارَة"(ق 516/ 1) من طريق أحمد بن يُونُس، قال: نا رِياحُ بن عَمْرٍو القَيْسِيُّ، قال: نا أيُّوبُ السَّختِيَانِيُّ، عن مُحمَّد بن سِيرِين، عن أبي هُريرَة، قال: بينا نَحنُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إِذ طَلَع علينا شاب مِن الثَّنِيَّة، فلمَّا رميناه بأبصارنا، قُلنا:"لو أن ذا الشَّابِّ جَعَل نشاطَه، وشبابَه، وقُوَّتَه في سبيل الله؟ "، فسَمِع مقالَتنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"وما سَبِيلُ الله إلَّا من قُتِل؟! مَن سَعَى على وَالِدَيه فهو في سَبِيل الله، ومن سَعَى على عِياله فهو في سَبِيل الله، ومن سَعَى مُكاثِرًا ففي سَبِيل الطَّاغُوت".
قال البَزَّارُ: "وهذا الحديثُ لا يُروَى عن أبي هُريرَة إلَّا مِن هذا الوَجه، ولا نَعلَمُ رواه عن أيُّوبَ إلَّا رِيَاحُ بنُ عَمْرٍو، ولا نعلم رواه عن رِيَاحٍ
إلَّا أحمدُ بنُ يُونُس".
وقال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن مُحمَّد بن سِيرِين إلَّا أيُّوبُ، ولا رواه عن أيُّوبَ إلَّا رِيَاحُ بنُ عَمْرٍو، ولا يُروَى عن أبي هُريرَة إلَّا بهذا الإسناد. تفرَّد به أحمدُ بنُ يُونُس".
• قلتُ: قلتُ: وأحمدُ هو ابنُ عبد الله بن يُونُس، مِن شُيُوخ البُخَارِيِّ ومُسلِمٍ.
ورِيَاحٌ - بالياء التحتانية -، وتصحَّف عِند الطَّبَرانيِّ وغيرِه إلى "رَبَاحٍ" - بالباء المُوحَّدة، وصوابُهُ "رِيَاحٌ"، كما في "المُؤتَلِف"(2/ 1038) للدَّارَقُطنِيِّ، و "الإكمال"(4/ 14) لابن مَاكُوْلَا -، وذَكَرُوا رِوايتَه عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، وعنه أحمدُ بنُ يُونُس، وقد ترجمه ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ 511 - 512)، وقال:"سألتُ أبا زُرعَة عنه، فقال: صدوقٌ"، وذَكَره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(6/ 310)، وقال:"مِن عُبَّاد أهل البَصرَة، وزُهَّادِهِم".
ونقل الذَّهَبِيُّ في "الميزان"، وعنه ابن حَجَرٍ في "اللِّسان"، عن أبي داوُد قال:"رَجلُ سُوءٍ"، واتَّهَمَه بالزَّندَقة، وإنَّما اتَّهَمه بالزَّندَقة، مع رابِعةَ العَدَوِيَّة، في آخَرِين، لعِبَاراتٍ صَدَرت منهم، تحتاجُ إلى تأويلٍ، والصَّواب أن هذا لا يَمَسُّ روايتَهُم، إلَّا إذا قام دليلٌ ظاهرٌ على سُقُوط عدالَتِهم، أو اختلالِ ضَبطِهم، ولم أَقِف على ما يُوجِب ذلك.
وباقي رجال الإسناد ثقاتٌ معرُوفُون.
فهذا الحديثُ جَيِّدُ الإسناد، وعليه الاعتمادُ، ولهذا وَضَعه الضِّياء في "المُختارَة"، والحمد لله.
* أمَّا حديثٌ كعب بن عُجْرَةَ رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 282)، وفي "الأوسط"(6835)، وفي "الصَّغير" (940) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ مُعاذٍ الحَلَبِيُّ، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ العَبْدِيُّ، ثنا هَمَّامُ بنُ يحيى، ثنا إسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ المَكِّيُّ، عن الحَكَم بن عُتَيبة، عن عبد الرَّحمن بن أبي لَيلَى، عن كعب بن عُجْرَة، أن رَجلًا مَرَّ على أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فرأى أصحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطِهِ مَا أَعجَبَهُم، فقالوا:"يا رسُولَ الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ "، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنْ كان يَسعَى على وَلَدِه صغارًا فهو في سَبيل الله، وإن كان خَرَج يَسعَى على أبوين شيخين كبيرين ففي سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه ليُعِفَّها ففي سبيل الله، وإن كان خَرَجَ يَسعَى على أهلِه ففي سبيل الله، وإن كان خَرَجَ يَسعَى تَفَاخُرًا وتَكَاثُرًا ففي سبيل الطَّاغُوت".
وأخرَجَهُ بَحشَلُ في "تاريخ واسطَ"(ص 162 - 163) من طريق مُحمَّد بن كَثيرٍ بهذا الإسناد.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن الحَكَم إلَّا إسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ، ولا رواه عن إسماعيلَ إلا هَمَّامٌ. تفرَّد به مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ. ولا يُروَى عن كعب بن عُجْرَةَ إلَّا بهذا الإسناد".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(4/ 325): "رجالُ "الكبير" رجالُ الصَّحيح".
وهذا عَجَبٌ؛ فقد رأيتَ أن الطَّبَرانيَّ رواه في معاجمه الثَّلاثة بذات
الإسناد، فما معنى تخصيص رجال "المُعجَم الكبير" دون المُعجَمَين الباقيَيْن؟!
وسَبَقه إلى هذا الحُكمِ المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(2516، 2923)، فقال:"رواه الطَّبَرانيُّ، ورجالُهُ رجال الصَّحيح".
وليس كما قالا؛ لأنَّ إسماعيلَ بنَ مُسلِم المَكِّيَّ، فضلًا عن أن الشَّيخين ولا أحدَهما خرَّج له شيئًا، فهو واهٍ، تَرَكَهُ كَثيرٌ من النُّقَّاد.
والله أعلَمُ.
258 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قادَ أَعمَى أربعين خُطوَةً وَجَبَت له الجَنَّةُ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
وقد ورد من حديث ابن عُمَر، وأنَسٍ، وابنِ عبَّاسٍ، وأبي هُريرَةَ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
* أمَّا حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما.
فأخرَجَهُ أبو يَعلَى (ج 9/ رقم 5613) ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(5/ 1851) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ إبراهيم بن مَيمُون ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(3/ 158)، ومن طريقه ابنُ الجَوْزِيِّ في "الموضوعات"(1087) من طريق مُحمَّد بن إبراهيم بن أبان السَّرَّاج، ثَلَاثَتُهم: ثنا يحيى بنُ أيُّوبَ، ثنا سَلْمُ بنُ سالمٍ، عن عليّ بن عُروة، عن مُحمَّد بن المُنكدِر، عن ابن عُمَر مرفُوعًا فذَكَرَه.
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(12/ 353) عن عبد الحَمِيد بن صالحٍ ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 6/ رقم 7628) عن سَعدَان بن نصر ..
والخطيبُ في "تاريخه"(5/ 105) عن الحَسَن بن عَرَفة، ثَلَاثَتُهم عن سَلْم بن سالمٍ بهذا الإسناد سواء.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وسَلْمُ بنُ سالمٍ شِبهُ المتروك، فقد ضعَّفه أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ، والنَّسَائِيُّ، وكان ابنُ المُبارَك شديدَ الحَمْل عليه.
وقد تابَعَهُ أَصرَمُ بنُ حَوْشَبٍ، فرواه عن عليِّ بن عُروَة بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ ابنُ شَاهِين في "التَّرغيب"(513)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(1587).
وأَصرَمُ أَصرَمٌ مِن الخَير، فقد كَذَّبَهُ غيرُ واحدٍ منهم ابنُ مَعِينٍ، وتَرَكه البُخارِيُّ، وغيرُه.
وعليُّ بنُ عُروة ذكر ابنُ حِبَّان هذا الحديثَ في ترجَمَتِهِ من "المجرُوحين"(2/ 107) وقال: "كان ممَّن يضعُ الحديثَ، على قِلَّته".
وقد تُوبِع عليٌّ ..
فتابَعَهُ ثَوْرُ بنُ يزيد، فرواه عن ابن المُنكدِر بهذا الإسناد سواء.
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 531)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ (1091) قال: حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدٍ، ثنا سُليمانُ بنُ عبد الرَّحمن، ثنا مُحمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمن القُشَيرِيُّ، ثنا ثورُ بنُ يزيدَ بهذا.
قال ابنُ عَدِي: "هذا الحديث لا يَروِيه عن ابن المُنكدِر غيرُ ثَوْرٍ، ومِن حديثِ ثورٍ أغربُ. ولا أعلمُ يرويه عن ثورٍ غيرُ مُحَمَّدٍ، وعنه سُليمانُ" ..
وثورٌ ثقةٌ، تَكلَّمُوا فيه لبدعته. ولكنِ الشَّأنُ في الرَّاوِي عنه، وهو مُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن؛ فإنَّه نَكِرَةٌ لا يُعرَفُ.
ورواه أيضًا مُحمَّدُ بنُ عبد المَلِك الأَنصارِيُّ، عن ابن المُنكدِر بإسناده،
بلفظ: "من قاد مَكفُوفًا أربعين خُطوَةً فصاعدًا غَفَر اللهُ له ما تَقدَّم من ذَنبِه".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(7627) من طريق عبد الوَهَّاب بن الضَّحَّاك - أحد الهَلكَى -، قال: نا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، نا مُحمَّدُ بنُ عبد المَلِك بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 2167)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ (1089) من طريق عامر بن سَيَّارٍ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عبد المَلِك بهذا الإسناد، دون قوله:"فصاعدًا".
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ جدَّا؛ ومُحمَّدُ بنُ عبد المَلِك تالفٌ البتَّةَ، رماهُ أحمدُ بوضع الحديثِ، وقال البُخاريُّ ومُسلِم:"مُنكَر الحديث"، وترَكَه النَّسَائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ وغيرُهما.
وقال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "المطالب العالية"(7/ 158): "ضعيفٌ جدًّا، ولا يَثبُت في هذا شيءٌ".
وقد رأيتُ ابنَ الجَوزِيِّ أَورَد هذا الحديثَ من طريق الخطيب في "تاريخه"(5/ 105)، لكنَّه جَعَل صحابيَّ الحديث: عبدَ الله بنَ عَمْرو بن العَاصِ، والذي عِند الخطيب: عبدُ الله بنُ عُمَرَ بن الخَطَّاب، فاللهُ أَعلَمُ، أيَّ ذلك هُو الصَّوابَ. وكان ابنُ الجَوزِيِّ كَثيرَ الأوهام في نَقلِه مِن كُتب العُلماء.
وله طريقٌ آخَرُ يرويه عُبيدُ الله بنُ أبي حُميدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمر مرفُوعًا:"من قاد أعمى أربَعِين خطوَةً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".
أخرَجَه الخطيبُ في "تاريخِهِ"(9/ 241)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ (1090) من طريق عبدِ الباقِي بن قانِعٍ، ثنا خَلَفُ بنُ عَمرٍو العُكْبَرِيُّ، ثنا المُعلَّى بنُ مهدِيّ، ثنا سِنانُ بنُ البَختَرِيِّ - شيخٌ من أهل المدينة، قَدِمَ علينا ببغدَادَ -، عن عُبيدِ الله بن أبي حُميدٍ بهذا.
ثُمَّ قال الخطيبُ: "رواه غيرُ عبدِ الباقِي، عن خَلَفٍ".
قال ابنُ الجوزِيِّ: "عُبيدُ الله بنُ أبي حُميدٍ مُدَلَّسٌ، وصوابُهُ: مُحمَّدُ بنُ أبي حُميدٍ، قال البُخارِيُّ: مُنكَرُ الحديث. وقال النَّسائِيُّ: ليس بثقةٍ".
أمَّا المُناوِيُّ فأعلَّهُ في "فيض القدير"(6/ 188) بعِلَّةٍ عجيبةٍ، فقال: "رواهُ الخطيبُ في ترجمَةِ البَختَرِيِّ
…
وفيه: عبدُ الباقِي بنُ قانِعٍ، أورَدَهُ الذَّهَبِيُّ في "الضُّعفاء"، وقال: قال الدَّارَقُطنِيُّ: يُخطِئُ كثيرًا. والمُعلَّى بنُ مَهدِيٍّ، قال أبُو حاتِمٍ: يأتِي أحيانًا بالمُنكَر"!
فشَنَّ عليه الغُمارِيُّ الغارةَ في "المُداوِي"(6/ 373 - 374) قائلًا:
"قلتُ: مِن عجيبِ أحوالِ هذا الرَّجُل أنَّه يُريدُ أن يستقِلَّ بالتَّصرُّف في الحديث والكلامِ على إسنادِهِ مع عدم معرِفَتِهِ، فيأتي بالطَّامَّات، لاسيَّما مع وُقُوفِهِ على كلام الحُفَّاظ في الحديث، فهذه الطَّريقُ قد ذَكَرَها ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعات" من طريق الخطِيبِ، ثمَّ من طريق عبدِ الباقي بن قانِعٍ، ثنا خَلَفُ بنُ عَميرو العُكْبَرِيُّ، ثنا المُعلَّى بنُ مَهدِيٍّ، ثنا سِنانُ بنُ البَختَرِيِّ - شيخٌ من أهل المدينة -، عن عُبيدِ الله بن أبي حُميدٍ، عن نافِعٍ، عن ابن عُمر به.
ثمَّ قال ابنُ الجَوزِيِّ: "قولُهُ: عُبيدُ الله بنُ أبي حُميدٍ تدليسٌ، وإنَّما هو:
مُحمَّدُ بنُ أبي حُميدٍ، وهو مُنكَرُ الحديث، ليس بثقةٍ" ا. هـ.
فتَرَكَ الشَّارِحُ هذا، وذهَبَ يُعلِّلُ الحديثَ بعبدِ الباقِي بن قانِعٍ صاحبِ المُعجَمِ وغيرِهِ. مع أنَّه لم يَنفَرِد به، بل تابَعَهُ غيرُهُ عن شيخِهِ خلَفٍ، كما نَصَّ عليه الخطيبُ عَقِبَ الحديث. ثُمَّ بالمُعلَّى بن مَهدِيٍّ الذي قال فيه الذَّهَبِيُّ:"هو من العُبَّاد الخِيَرَةِ، صدُوقٌ في نفسِهِ"، وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات".
ثُمَّ إنَّ قولَه في ترجَمَةِ البَختَرِيِّ من الكلامِ الغَثِّ الذي لا فائدة فيه، سوى تسويدِ الوَرَقِ وانشِغالِ الأفكارِ والإحالَةِ على ما يُتعِبُ؛ فإنَّ في "تاريخ الخطيب" نحوُ تسعة آلاف ترجَمَةٍ بتقديم التَّاء، فأيُّ ترجَمَةٍ وُصِف صاحِبُها بالبَختَرِيِّ من هذا العَدَد الهائل حتَّى يُمكن الرُّجوعُ إليها لمن أراد ذلك؟!
مع أن الواقع أنَّه خرَّجَهُ في ترجمة: "سنانَ بن البَختَرِيِّ المَدِينِيِّ"، في نصف المُجلَّد التَّاسع، فلو فَرَضنا أن أحدًا أراد الكَشف عنه لَرَاجَعَ المُجلَّدات الثَّمانيةَ كُلَّها ونصفَ التَّاسع حتَّى يعثُر على هذا الاسم. وهذا نهايةُ ما يُمكن من التَّهوُّر وسُوء التَّصرُّف. فالواجبُ عليه أن يكتُب الاسم الكاملَ، أو يترُك التَّعريضَ بالكُلِّيَّة" انتهَى كلام الغُمارِيِّ.
• قلتُ: قلتُ: والغُمارِيُّ مُحِقٌّ فيما يتَّصلُ بالنَّقد العِلمِيِّ، إلَّا قولَهُ فيما يتعلَّق بالبَختَرِيِّ، فاحتمال سُقُوط:"سنان بن" من مطبُوعة "الفيض" واردٌ جدًّا ورُبَّما قال المُناوِيُّ: "ابنُ البَختَرِيِّ"، فسَقَطت كلمةُ "ابن". والله أعلمُ.
وله طريقٌ آخر عن ابن عُمر رضي الله عنه.
أخرَجَهُ البيهَقِيُّ في "الشُّعب"(7626)، والأصبهانِيُّ في "التَّرغيب"(1147) من طريق أبي الأزهر أحمدَ بن الأزهر، ثنا أبُو المُغيرة، ثنا مُحمَّد بنُ المُنكَدِرِ، عن ابن عُمر مرفُوعًا مثلَهُ.
قال البيهَقِيُّ: "كذا وجدتُهُ في أصل سماعِهِ".
• قلتُ: قلتُ: ولا أدري ما هذا الإسنادُ، كأنَّ فيه سَقطًا. واللهُ أعلمُ.
* أمَّا حديثٌ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
فأخرَجَهُ ابنُ عَدِيِّ (4/ 1544)، ومن طريقه ابنُ الجوزِيِّ (1093) من طريق عبد الله بن أَبَان الثَّقَفِيِّ، ثنا سُفيانُ الثَّوْريُّ، قال: حدَّثَني عَمْرو بنُ دينارٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"من قاد مَكفُوفًا أربعين ذِراعًا أَدخَلَه اللهُ الجَنَّةَ".
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا الحديثُ بهذا الإسناد باطلٌ، وكان عند هذا الشَّيخ - يعني: عبد الله بن أبانَ - عن عبد الله بن مُحمَّد بن يُوسُف أحاديثُ للثَّورِيِّ غيرُ هذا مشاهيرُ. وهذا الحديثُ مُنكَرٌ عن الثَّورِيِّ بهذا الإسناد، والشَّيخُ مجَهُولٌ".
وقد خُولِف في إسناده ..
خالَفَهُ خالدُ بنُ نزارٍ، قال: ثنا سُفيانُ الثَّورِيُّ، عن عَمرٍو، عن أبي وائِلٍ، عن ابن عُمر مرفُوعًا مثلَهُ.
أخرَجَهُ ابنُ شاهينَ في "التَّرغيب"(515)، ومن طريقِهِ ابنُ الجوزِيِّ (1088) من طريق مُحمَّد بن عبدِ الرَّحمن بن بَحِيرٍ، ثنا خالدُ بنُ نزارٍ بهذا.
قال ابنُ الجَوزِيِّ: "ومُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن بن بَحِيْرٍ، قال ابنُ عَدِيٍّ: روَى عن الثِّقات المَناكيرَ، و: عن أبيه، عن مالكٍ البَوَاطيلَ".
وله طريقٌ آخَرُ عن ابن عبَّاسٍ ..
أخرَجَهُ الطَّبرانِيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12942) قال: حدَّثَنا سهلُ بنُ مُوسَى، ثنا عُمرُ بنُ يحيَى الأُبُلِّيُّ، ثنا عيسَى بنُ شعيبٍ، ثنا حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن عليّ بن زيدٍ، عن يُوسُفَ بن مِهرَانَ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"من قاد أعمَى حتَّى يُبَلِّغَهُ مأمَنَهُ غَفَرَ اللهُ تعالى له أربَعِينَ كبيرةً وأربعَ كبائِرَ تُوجِبُ النَّار".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(3/ 138): "فيه عُمرُ بنُ يحيَى الآمِلِيُّ، ولم أجد له ترجَمَةً، ولكن فيه عليُّ بنُ زيدٍ، وفيه كلامٌ".
• قلتُ: قلتُ: كذا قال! وعُمرُ بنُ يحيَى هو: الأُبُلِّيُّ، وليس الآمِلِيَّ. فرُبَّما تصحَّف على الهَيثَمِي، فلم يعرفه لأجل هذا.
وعُمرُ هذا ذَكَرَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل" في ترَجَمَة "جارِيةَ بن هَرَمٍ"، وأشار إلى أنَّه سَرَقَ حديثًا من يحيَى بن بِسطامٍ، فهو أولَى أن يُعلَّل به الحديثُ من عليّ بن زيدٍ. واللهُ أعلمُ.
* أمَّا حديثٌ أنَسٍ رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ أبو يَعلَى الخَلِيلِيُّ في "الإرشاد"(ص:337) من طريق عبد الله بن مُحمَّد بن يُوسُف بن أبي عُبيدٍ الطَّائِفِيِّ، ثنا سُفيانُ الثَّوْريُّ، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن أنَس بن مالكٍ مرفُوعًا:"من قاد أعمى أربعين خُطوَةً فله الجَنَّة".
قال الخَلِيليُّ: "عبدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِفِيُّ مجهولٌ، والحديثُ مُنكَرٌ بهذا الإسناد، غريبٌ" ا. هـ.
وقد رواه عبدُ الله بنُ أَبَان الثَّقَفِيُّ، عن الثَّوْريِّ، فجعله من مُسنَد ابن عبَّاسٍ، كما مرَّ قريبًا.
وله طريقٌ آخرُ ..
أخرَجَهُ المُخَلِّصُ في "الفوائد"(2982، 3103)، ومن طريقه أبُو القاسم السَّمَرقَندِيُّ في "حديثهِ"(ق 1/ 2)، ومسعُودُ بنُ الحَسَن الثَّقَفِيُّ في "عروس الأجزاء"(44)، وابنُ الجَوزِيِّ (1096)، والذَّهَبِيُّ في "المُعجَم الكبير"(2/ 191)، وفي "الميزان"(4/ 459) ..
وأخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "المؤتلِف"(ص: 2234)، قالا [المُخلِّصُ والدَّارقُطنِيُّ]: ثنا أبو حامدٍ مُحمَّدُ بنُ هارون الحصرَمِيُّ، ثنا عيسى بنُ مُساوِرٍ، ثنا يَغْنَمُ بنُ سالم بن قَنْبَرٍ خادمِ عليِّ بن أبي طالب، عن أنَسٍ مرفُوعًا:"مَن قاد أعمى أربعين خُطوَةً وَجَبَت له الجَنَّةُ".
ووقع عند المُخلِّص: "لم تمسَّ وجهَهُ النَّارُ".
قال الذهَبِيُّ: "يَغْنَمُ متروكٌ باتِّفاقٍ، والمتنُ لم يَصِحّ".
ويَغْنَمُ هذا ضعَّفَه أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، وقال ابنُ حِبَّان في "المجروحين" (3/ 145):"شيخٌ يَضَعُ الحديثَ على أنَس بن مالكٍ، رَوَى عنه نُسخةً موضُوعةً، لا يحلُّ الاحتجاجُ به، ولا الرِّوايةُ عنه، إلَّا على سبيل الاعتبار". وكذَّبَه ابنُ يُونُسَ.
وله طريقٌ ثالثٌ ..
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(3594) قال: حدَّثَنا رجاءُ بنُ أحمد بن زيدٍ البَغدَادِيُّ ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(7629) من طريق يُوسُف بن مُوسَى، قالا: ثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ - وهذا في "مُسنَده"، كما في "المطالب العالية"(7/ 158) -، قال: حدَّثَنا يُوسُفُ بنُ عطيَّة، عن سُمليمانَ التَّيمِيِّ، عن أنَس بن مالكٍ مرفُوعًا:"من قاد أعمى أربعين ذِراعًا أو خمسين ذراعًا كُتِب له عِتقُ رقبةٍ".
ولم يَذكُر الطَّبَرانيُّ: "خمسين ذراعًا".
قال البَيهَقِيُّ: "يُوسُفُ بنُ عطيَّة هذا ضعيفٌ".
• قلتُ: قلتُ: بل ضعيفٌ جدًّا، قال الذَّهَبِيُّ في "الميزان" (4/ 468):"مُجمَعٌ على ضعفه".
وتابعه المُعلَّى بنُ هلالٍ، عن سُليمان التَّيمِيِّ بهذا الإسناد، ولم يَذكُر:"خمسين ذراعًا".
أخرَجَه ابنُ شاهين في "التَّرغيب"(512)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(1594، 1095).
والمُعلَّى تالفٌ البتَّةَ، اتَّهَمَه أحمدُ، وابنُ المُبارَك، وابنُ مَعِينٍ بِوضع الحديث، ورَمَاهُ السُّفيَانَانِ بالكَذِب، وتَرَكَه النَّسَائِيُّ وغيرُه.
ونَقَلَ ابنُ الجَوزِيِّ عن الدَّارَقُطنِيِّ، قال:"لم يروِهِ عن سُليمان التَّيمِيِّ غيرُهُما".
• قلتُ: قد رواه سُليمانُ بنُ عَمْرٍو - وهو هالكٌ -.
أخرَجَهُ ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(1097) من طريق أبي الوليد، قال: أتيتُ سُليمانَ بنَ عَمْرٍو، فجلستُ إليه، فقال:"حدَّثَنا سُليمانُ التَّيمِيُّ، عن أنَسٍ، قال: من قاد أعمى أربعين خُطوَةً"، فقلتُ:"قُومُوا من عند هذا الكَذَّاب! ".
وهذا موقُوفٌ، مع سُقُوطِه.
ووقفتُ له على طريقٍ خامسٍ ..
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ في "طبقات المُحَدِّثين"(163) من طريق الوليد بن مُسلِمٍ، ثنا بحرٌ السَّقَّاءُ، عن قتادة، عن الحَسَن، عن أنَسٍ مرفُوعًا:"من قاد ضريرًا، أو مريضًا، أربعين خُطوَةً عَدَلَت له رقبةً، فإن قاده ثمانين خُطوَةً عَدَلَ له رقَبَتين، ومن قاده مِئَةَ خُطوةً أدخَلَه الله الجَنَّة".
وهذا ضعيفٌ جدًّا؛ والوليدُ بنُ مُسلِمٍ كان يُدلِّس التَّسويةَ، ولم يُصَرِّح في جميع الإسناد.
وبَحرُ بن كُنَيزٍ السَّقَّاءُ ضعيفٌ.
وقتادةُ، والحسَنُ مُدَلِّسان. والله أعلَمُ.
* وأما حديثٌ جابرٍ رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 103)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(1098) من طريق يزيد بن مَرْوان الخَلَّال، ثنا مُحمَّدُ بنُ عبد المَلِك الأنصاريُّ، عن مُحمَّد بن المُنكدِر، عن جابرٍ مرفُوعًا:"من قاد مكفوفًا أربعين خُطوَةً وَجَبَت له الجَنَّةُ".
وقد أورد العُقيليُّ هذا الحديثَ في "الضُّعفاء"(4/ 103) في ترجمة
الأَنصَارِيِّ هذا، ولم يُسنِده، وقال:"لا يُتابَع عليه، إلَّا مِن جهةٍ هي أوهنَ مِن جِهَتِه". وقال أحمدُ عن الأنصارِيِّ هذا: "رأيتُهُ، وكان يضعُ الحديثَ".
ويزيدُ بن مَرْوان كَذَّبه يحيى بنُ مَعِينٍ، كما في "ضعفاء العُقيليِّ"(4/ 389).
وقد تقدَّم الاختلافُ على الأَنصَارِيِّ في إسناده.
وتُوبع الأنصارِيُّ ..
تابَعَهُ مُحمَّدُ بنُ أبي حُمَيدٍ، عن مُحمَّد بن المُنكَدِرِ، عن جابرٍ مرفُوعًا:"من قاد مَكفُوفًا أربعين خُطوةً غُفِرَ له ما مضى من ذنُوبِهِ".
أخرَجَه ابنُ عَدِيٍّ (7/ 2528)، ومن طريقه ابنُ الجوزِيِّ (2/ 176) قال: أخبَرَنا ميمُونُ بنُ سلَمَة، ثنا المُسيَّبُ بنُ واضحٍ، ثنا أبُو البَختَرِيِّ، عن مُحمَّد بن أبي حُميدٍ بهذا.
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا قد قيل فيه: مُحمَّد بنُ المُنكدِر، عن جابرٍ. وقيل فيه: مُحمَّد بن المُنكدِرِ، عن ابن عُمَرَ. وجميعًا غيرُ محفوظَين".
وهذا الوجهُ ساقطٌ البتَّةَ؛ وأبُو البَختَرِيِّ اسمُهُ: وهبُ بنُ وَهبٍ، كان يضعُ الحديث وَضعًا، كما قال أحمدُ. وقال ابنُ مَعينٍ:"لا رَحِمَ اللهُ أبا البَختَرِيِّ؛ كان يضعُ الحديثَ". وكذَّبَهُ وكيعٌ وإسحاقُ بنُ راهَوَيه وغيرُهُما. وخَتَمَ ابنُ عَدِيٍّ ترجَمَتَهُ بقوله: "ولأبي البَختَرِيِّ من الحديث عن الثِّقات غيرُ ما ذكرتُ، وهو ممَّن يضعُ الحديثَ".
ومُحمَّدُ بنُ أبي حُميدٍ ضعيفٌ أيضًا.
* وأمَّا حديثُ أبي هُريرَة رضي الله عنه.
فأخرَجَهُ ابنُ شاهينَ (514)، ومن طريقِهِ ابنُ الجَوزِيِّ (1100) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ عُمر الزُّبَيرِيُّ بمصرَ، ثنا أحمدُ بنُ عبد الرَّحيم البَرقِيُّ، ثنا عمرُو بنُ أبي سَلَمَة أبُو حفصٍ، ثنا إبراهيمُ بنُ مُحَمَّدٍ البصرِيُّ، عن عليِّ بن ثابت، عن ابن سيرِينَ، عن أبي هُريرَة، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هُريرَةَ! مَن مشَى مع أعمَى مِيلًا يُرشِدُهُ كان له بكُلِّ ذراعٍ من المِيل عِتقُ رقبَةٍ. يا أبا هُريرَةَ! إذا أرشدتَ أعمَى فخُذ يده اليُسرَى بيدك اليُمنى؛ فإنَّها صدقةٌ".
قال ابنُ الجَوزِيِّ: "وإبراهيمُ البصرِيُّ، قال أبُو حاتمٍ الرَّازِيُّ: ضعيفُ الحديثِ مُنكَرُهُ. والحديث مُنكَرٌ".
وجُملة القول أن الحديث باطلٌ من جَمِيع وُجُوهِه. ومع ذلك، فقد حاوَلَ السِّيُوطِيُّ (2/ 88 - 90) أن يُرقِّيه إلى درجة الضَّعيف فقط؛ حتَّى يتسنَّى له القولُ بأنَّه جائزٌ في فضائل الأعمال، وذلك بأن ينقل قول البيهَقِيِّ في "الشُّعب" في رُواتِهِ.
فقال البيهَقِيُّ: "عليُّ بنُ عُروةَ: ضعيفٌ. وما قبله: إسنادُهُ ضعيفٌ أيضًا"، والإسنادُ الذي قبله فيه: عبدُ الوهَّاب بنُ الضَّحَّاك.
ثُمَّ روَى البيهَقِيُّ حديثَ يُوسُفَ بن عطيَّةَ، وقال:"وُيوسُفُ ضعيفٌ". وهؤُلاء الثَّلاثةُ الذين ذكرَهُمُ البيهَقِيُّ كذَّابُون، يَضَعُون الحديث. والسِّيُوطِيُّ لابُدَّ أن يَعلَمَ هذا من تراجِمِهم، فإذا قال البيهَقِيُّ في أحد هؤلاء الهَلكَى إنَّه ضعيفٌ، ظَنَّ قارئُ هذا الحُكمِ أنَّه مثلُ ضعفِ أهلِ
الصِّدقِ ممَّن ضَعُفَ حَفظُهُم، فيلجأُ إلى القاعدة المشهُورة:"يُعمَلُ بالضَّعيف في فضائِلِ الأعمال".
وقد اغترَّ بصنيعِ السِّيُوطِيِّ هذا: ابنُ عَرَّاقٍ في "تنزيه الشَّريعة"(2/ 138) بقوله: "تُعُقِّب - يعني: ابنَ الجوزيِّ - بأنَّ أصلحَ طُرُق الحديثِ حديثُ أبي هُريرَة؛ فإنَّ إبراهيمَ لم يُتَّهَم بكذِبٍ. على أن البيهَقِيَّ أخرَجَ في "الشُّعب" حديثَ ابن عُمَرَ من طريق سلْمٍ، ومن طريق محُمَّدِ بن عبدِ الملك، وثَورِ بن يزيدَ، وقال في كُلٍّ منهما: ضعيفٌ" ا. هـ.
كذا قال! وإذا اغترَّ أمثالُ هؤلاء العُلماء بأحكامٍ غيرِ دقيقةٍ صَدَرَت من البَيهَقِيِّ، فكيف بالعوامِّ؟!
وقد نبَّهتُ في هذا الكتابِ وفي غيرِهِ، أن عبارَةَ النَّاقَّد إذا قَصُرَت عن الوصف الدَّقيق للرَّاوِي أو المَروِيِّ، فإنَّها تُؤدِّي إلى مَثَالِبَ، منها ما نحنُ بصدَدِهِ الآنَ، فإذا قال البيهَقِيُّ عن الكذَّاب إنَّه ضعيفٌ فقط، اغترَّ به مَن ليس من أهل الحديث، وسَارَعَ إلى العمل به طبقًا للقاعدة السَّابقة.
فاللهُ المُستَعانُ.
259 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خمسين مرَّةً غَفَر الله له ذُنُوب خمسين سَنَةً".
• قلتُ - هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه الدَّارِمِيُّ (2/ 461)، وأبو يَعلَى - كما في "تفسير ابن كَثيرٍ" (8/ 544) - قالا: حدَّثَنا نصرُ بنُ عليٍّ، عن نُوحِ بن قيسٍ، عن مُحَمَّدٍ العَطَّارِ، أخبرَتْنِي أمُّ كَثيرٍ الأنصارَّيةُ، عن أنَس بن مالكٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
ووقع عند الدَّارِمِيِّ: "مُحَمَّدٍ الوَطَّاء" ولم أَجِد هذه النِّسبَة.
وفي ترجمة نُوح بن قيسٍ من "تهذيب الكمال" يَروِي عن أبي رجاءٍ مُحمَّد بن سَيفٍ، فكأنَّه هو. وقد وثَّقَه ابن مَعِينٍ والنَّسَائِيُّ وابنُ سَعدٍ وابنُ حِبَّان، وقال أبو حاتمٍ:"صالحُ الحديث".
وأمُّ كَثيرٍ الأنصاريَّةُ لم أَعرِفها.
ولذلك قال ابنُ كَثيرٍ: "إسنادُهُ ضعيفٌ".
وأخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (2900) ..
وابنُ عَدِيٍّ (2/ 845)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(2548)، قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بُن مُحَمَّدٍ النَّفَّاخ بمصرَ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ مَرزُوقٍ، ثنا حاتمُ بنُ مَيمُونَ أبو سهلٍ، عن ثابتٍ البُنَانيِّ، عن أنَسٍ مرفُوعًا:"من قرأ كُلَّ يومٍ مِئَتَي مرَّةً {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مُحِي عنه ذنوبُ خمسين سَنةً، إلا أن يكون عليه دَيْنٌ".
ورواه أبو الرَّبيع الزَّهرَانِيُّ، ثنا حاتمُ بنُ مَيمُونَ بهذا الإسناد، بلفظ:"من قرأ في يومٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مِئَتَي مرَّةً كُتِب له ألفٌ وخَمسُمِئَةِ حسنةً، إلَّا أن يكون عليه دَيْنٌ".
أخرَجَهُ أبو يَعلَى (3365)، وعنه ابنُ عَدِيٍّ (2/ 844)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(2547)، والخطيبُ (6/ 204).
كذا اختَلَفُوا على حاتم بن مَيمُون في لفظه.
وحاتمٌ قال ابنُ حِبَّان في "المجروحين"(1/ 270): "مُنكَر الحديث، على قِلَّتِه، يَروِي عن ثابتٍ ما لا يُشبِه حديثَه، لا يجوز الاحتجاجُ به بحالٍ - ثُمَّ ذكر له ابنُ حِبَّان هذا الحديث - ".
وقد استغرَبَه التِّرمِذِيُّ.
وأخرَجَهُ البَزَّارُ - كما في "تفسير ابن كَثيرٍ"(8/ 544) -، من طريق أغلبَ بن تَميمٍ، ثنا ثابتٌ، عن أنَسٍ مرفُوعًا:"من قَرَأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مِئَتَي مرَّةً حُطَّ عنه ذُنوبُ مِئَتَي سنةً".
وأخرَجَهُ ابنُ الضُّرَيسِ في "فضائل القُرآن"(2661)، وابنُ بِشرَانَ في "الأمالي"(1229)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(2546)، والخطيبُ (6/ 187) من طريق الحَسَن بن أبي جَعفَرٍ، عن ثابتٍ، عن أنَسٍ مرفُوعًا مثلَه.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلمُ رواه عن ثابتٍ إلَّا الحسَنُ بنُ أبي جعفرٍ، والأَغلَبُ بنُ تَميمٍ، وهما مُتَقَارِبَان في سوء الحِفظ".
• قلتُ: قلتُ: وهذا حديثٌ مُنكَرٌ، مُضطرِبُ المتن، ضعيفُ الإسناد.
واللهُ أعلَمُ.
260 -
سُئلتُ عن حديث: "تَخرُجُ الدَّابَّةُ فِي شعب يُقَالُ لَهُ: جِيَادٌ، فَتَصرُخُ ثَلَاثَ صَرخَاتٍ، فَيَسمَعُهَا مَا بَينَ الخَافِقَينِ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(2/ 1/ 316)، وفي "الأَوسط"(1/ 147 - 148)، وابنُ حِبَّان في "المجرُوحين"(1/ 300 - 301)، وابنُ عَديٍّ في "الكامل"(3/ 1033)، والعُقَيليُّ في "الضُّعَفاء"(2/ 61)، والطَّبَرانيُّ في "الأَوسط"(4317)، والوَاحِدِيُّ في "الوَسِيط"(3/ 385)، والشَّجَرِيُّ في "الأمالي"(2/ 277)، والذَّهَبيُّ في "الميزان"(2/ 137) من طريق يحيى بن مَعِينٍ، ثنا هشامُ بنُ يُوسُف، ثنا رَبَاحُ بنُ عُبيد الله بن عُمَر، عن سُهيل بن أَبي صالحٍ، عن أَبيه، عن أبي هُريرة مرفُوعا:"بِئسَ الشِّعبُ جِيَادٌ - قالها ثلاثَ مرَّاتٍ، أو مرَّتين -"، قالُوا:"فيم ذاك يا رسول الله؟ "، قال: "تخرُجُ الدَّابَّةُ فتصرُخ
…
الخ".
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن سُهيل بن أبي صالحٍ إلَّا رَبَاحُ بنُ عُبيد الله بن عُمَر، ولا عن رَبَاحٍ إلَّا هشامُ بنُ يُوسف. تفرَّد به يحيى بنُ مَعِينٍ".
وقال البُخاريُّ والعُقيليُّ وابنُ عَديٍّ: "تفرَّد به رباحٌ".
ورباحٌ هذا قال أحمدُ والدَّارَقُطنِيُّ: "مُنكَر الحديثُ".
وقال ابن حِبَّان: "كان قليلَ الحديثِ، مُنكَرَ الرِّواية، على قِلَّتِها، لا يَجُوزُ الاحتجاجُ بخَبَرِهِ عِندِي، إلَّا بما وافق الثِّقات"، وكذلك صَرَّح ابنُ عَدِيٍّ:"أنَّهُ كان قليلَ الحديث"، وهذا يَدُلُّ على وهائه: أن يَكُونَ قليلَ الحديث، ومع ذلك فأحاديثُهُ ليست مَحفُوظَةً، لأنَّ الغَلَط قد يُغتَفَرُ مع سِعَة الرِّواية.
واللهُ أعلَمُ.
261 -
سُئلتُ عَن حديث: "إِدا كَانَ يَومُ الفِطرِ، وَقَفَت المَلَائِكَةُ عَلَى أَبوَابِ الطُّرُقَاتِ، فَيَقُولُونَ: اُغدُوا، يَا مَعشَرَ المُسلِمِينَ! لِتَقبِضُوا جَوَائِزَكم".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ جِدًّا، شبهُ موضُوعٍ.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 1/ رقم 617)، وعنه أبو نعيمٍ في "معرِفة الصَّحابة" (996) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ خالدٍ الرَّاسِبِيُّ، ثنا الحَسَنُ بنُ جعفرٍ الكَرْمَانِيُّ، ثنا يحيى بنُ أبي بُكَيرٍ، ثنا عَمرُو بنُ شِمْرٍ، عن جابرٍ، عن أبي الزُّبَير، عن سعيد بن أوسٍ الأنصاريِّ، عن أبيه، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كان يومُ الفِطر، وقَفَت الملائكةُ على أبواب الطُّرُق، فنَادَوْا: "اُغدُوا، يا مَعْشر المُسلِمين! إِلي ربٍّ كريمٍ، يَمُنُّ بالخيرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عليه الجزيلَ، لقد أُمِرتُم بقيام اللَّيل، فقُمتُم، وأُمِرتُم بصيام النَّهَار، فصُمتُم، وأَطَعتُم ربَّكم، فَاقبِضُوا جوائزكم"، فإذا صَلَّوا، نادي مُنَادٍ: "أَلا إنَّ ربَّكُم قد غَفَرَ لكم، فَارجِعُوا راشدين إلى رِحالكم فهو يومُ الجائزة"، ويُسَمَّى ذلك اليومُ في السَّماء يومَ الجائزة".
وأَعَلَّهُ الهَيثَمِيُّ (2/ 201) بجابرٍ الجُعفِيِّ، وتَرَكَ التَّنبيهَ على حال عمرِو بن شِمْرٍ، وهو أَحَدُ التَّلفَى، فقد ترَكَهُ النَّسائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ وغيرُهما. وقال البُخارِيُّ:"مُنكَرُ الحديث". وكَذَّبَهُ الجُوْزْجَانيُّ.
وقال ابنُ مَعِينٍ: "ليس بشيءٍ". ورماه السُّلَيمَانِيُّ بوضع الحديث للرَّوَافِض. وقال ابنُ حِبان في "المجروحين"(2/ 75 - 76): "كان رَافِضِيًّا، يَشتُمُ أصحابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان مِمَّن يَروِي الموضوعاتِ عن الثِّقات في فضائل أهلِ البيت وغيرِهم. لا يَحِلُّ كتابةُ حديثه إلَّا على جِهَةِ التَّعَجُّب".
أَضِف إلى ذلك عَنعَنَةَ أبي الزُّبير.
ولكن له طريقٌ آخرُ إلى سعيد بن أوس.
أخرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(618)، والحسَنُ بنُ سفيان في "مُسنَده" - كما في "الإصابة"(1/ 161) -، ومِن طريقه أبو نُعيمٍ في "المعرفة"(994)، والشَّجَرِيُّ في "الأمالي"(2/ 47) من طُرُقٍ عن سَلْمِ بن سالمٍ، ثنا سعيدُ بنُ عبد الجبَّار، عن تَوبَة - أو: أبي تَوبَة، شَكَّ سلْمٌ -، عن سعيد بن أوسٍ الأنصاريِّ، عن أبيه مرفُوعًا مثله.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ جدًّا، وسَلْمُ بنُ سالمٍ كان ابنُ المُبارَك شديدَ الحَملِ عليه، وكان يقولُ:"اتَّقِ حيَّاتِ سلْمٍ؛ لا تلسعك"! وقد سُئِل ابن المُبارَك عن الحديث في أكل العدس، وأنَّهُ قدِّس على لسان سبعين نبيًّا!! فقال:"لا" ولا على لسان نبيٍّ واحدٍ؛ إِنَّهُ لمُؤذٍ مُنفِخٍ. مَن يُحدِّثُكم؟ "، قالوا: "سَلْمُ بنُ سالم"، قال: "عمَّن؟ "، قالوا: "عنك"! قال: "وعَنِّي أيضًا "!! وقال أحمدُ: "ليس بذاك". وضعَّفه ابنُ مَعِينٍ. وقال أبو زُرعة: "لا يُكتَب حديثُه"، ثُمَّ أومأ بيده إلى فيه، قال ابنُ أبي حاتمٍ: "يعنى: لا يَصْدُقُ".
وسعيدُ بنُ عبد الجبار أظُنُّه أبا عُثَيمٍ، الذي يَروِي عن الحِمْصِيِّين، مِثلِ حَرِيزِ بن عُثمانَ، وصفوانَ بن عَمرٍو، فإن يكُنهُ فقد ترجَمَهُ ابن أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(2/ 1/ 43 - 44)، ونَقَلَ عن قُتيبةَ بن سعيدٍ، قال:"كان جَريرُ بنُ عبد الحَمِيد يُكَذِّبُه". وأضجَعَ ابنُ مَعِينٍ القولَ فيه.
وقال أبو حاتمٍ: "ليس بقويٍّ، مُضطرِبُ الحديث".
وتَوْبَة، أو أبو تَوْبةَ، لا أعرفه.
وسعيدُ بنُ أوسٍ مجهولٌ.
ورواه عبدُ الرَّحمن بنُ قيسٍ الحضرمِيُّ، عن سعيد بن عبد الجبَّار، عن سعيد بن أوسٍ، عن أبيه مرفُوعا.
فسَقَط ذِكرُ "توبة، أو أبي توبة".
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ أيضًا (995) من طريق خلَّاد بن أَسلَم، ثنا عبد الرَّحمن بهذا.
وهذا إسنادٌ ظُلُمَاتٌ بعضُها فوق بعضٍ، مع ما فيه من الاضطراب.
ووقفتُ له على شاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعا، فساق حديثًا طويلًا، جاء في آخِرِهِ:"فإِذَا كانت ليلةُ الفِطر، سُمِّيتْ ليلةَ الجائزة، فإذا كانت غداةُ الفِطر بَعَثَ اللهُ تبارك وتعالى الملائِكةَ في كلِّ ملإٍ، فيهبِطُون إلى الأرض، فيَقُومُون على أفواه السِّكَكِ، فيُنَادُوْن بصوتٍ يسمعُه جميعُ من خَلَق اللهُ إلَّا الجنَّ والإنسَ، فيقُولُون: "يا أُمَّةَ مُحمَّدٍ! اُخْرُجُوا إلى ربٍّ كريمٍ، يغفِرُ العظيم"، وإذا بَرَزُوا في مُصلَّاهم، يقول اللهُ تعالى: "يا ملائكتي! ما أَجرُ الأجير إذا عَمِلَ عملَه؟ "، فتقول الملائكة: "إِلَهَنَا! وَسَيِّدَنَا!
جزاؤُه أن يُوفِّيه أجرَه"، فيقولُ اللهُ عز وجل: "أُشهِدُكُم يا ملائكتي! أَنِّي قد جعلتُ ثوابَهم، مِن صيامِهم شهرَ رمضان، وقيامهم، رِضَائِي ومغفرتِي"، فيقول اللهُ عز وجل: "سَلُونِي! وَعِزَّتِي وَجلالي! لا تَسألُوني اليومَ شيئًا في جَمعِكُم هذا لِآخِرَتُكم إلَّا أَعطَيتكُمُوهُ، ولا لِدُنيا إلَّا نظرتُ لكم. وعِزَّتِي! لأستُرَنَّ عَلَيكُم عَثَرَاتِكُم ما رَاقَبتُمُونِي. وعِزَّتِي وجلالِى! لا أُخزِيكُم ولا أفضَحُكُم بين يدي أصحاب الجُدُود - أو: الحُدود، شَكَّ أبو عَمرٍو -، وانصَرِفُوا مغفورًا لَكُم، قد أَرضَيتُمُونِي، ورَضِيتُ عنكم"، - قال: - فتَفرَحُ الملائكةُ، ويَستَبشِرُون بما يُعطِي اللهُ هذه الأُمَّةَ إذا أفطروا".
أخرَجَهُ الأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(1741)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(2/ 43 - 45/ 880)، وقال:"لا يَصِحُّ. سنَدُه واهٍ جِدًّا"، وعزاه المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(2/ 99 - 101) لأبى الشَّيخ في "كِتاب الثَّواب"، والبيهقيِّ، وقال:"ليس في إسناده من أُجمِعَ على ضعفِه".
• قلتُ: قلتُ: كذا قال! وليس من شرط الحديث الباطل أن يكُون الإجماعُ انعَقَدَ على ضعفِ أَحَدِ رُواتِه.
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا، شِبهُ الموضُوع.
وإن كان ابنُ الجَوزِيِّ أخطأ في زعمِه أن القاسمَ بنَ الحَكَم العُرَنِيَّ - أحد رُواتِه - مجهولٌ، فليس بمجهولٍ، بل هو معروفٌ، فقد وثَّقَه غيرُ واحدٍ، منهُم أحمدُ وابن مَعِينٍ والنَّسائِيُّ.
وقال أبو زرعة: "صدُوقٌ".
وقال ابن حِبَّان: "مُستقيم الحديث".
وضعَّفَهُ العُقيليُّ وأبو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكين لغَفلَةٍ كانت فيه.
وعلى كُلِّ حالٍ، فليس يصِحُّ في هذا الباب شيءٌ أعلَمُه.
واللهُ أعلَمُ.
262 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كتَابهِ فهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقَبَلُوا مِنَ الله عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ الله لَم يَكُن لِيَنسَى شيئًا، - ثُمَّ تَلَا هذه الآيةَ: - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ حسنٌ.
أخرَجَهُ البَزَّارُ (123، 2231، 2855 - كشف الأستار) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ عبد الله، ثنا سليمانُ بنُ عبد الرَّحمن الدِّمشقيُّ، ثنا إسماعيلُ بنُ عَيَّاشٍ، عن عاصم بن رجاء بن حَيْوَةَ، عن أبيه، عن أبي الدَّرداء مرفُوعًا:"مَا أَحَلَّ اللهُ في كتابه فهو حلالٌ، وما حزَم فهو حرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عفوٌ، فاقبَلُوا من الله عافيتَهُ، فإِنَّ الله لم يَكُن لينسى شيئًا، - ثُمَّ تلا هذه الآية: - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".
وأخرَجَهُ الحاكم (2/ 375)، وعنه البَيهَقِيُّ (10/ 12) من طريق أبي نُعيمٍ الفضل بن دُكَين، ثنا عاصمُ بنُ رجاءٍ بهذا الإسناد.
وقال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد"، وحسَّن إسنادَهُ الهيثميُّ (10/ 171)، وهو حَرِيٌّ بذلك، لاسيَّما أن له شاهدًا موقُوفًا صحيحَ الإسناد يأتي.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُه يُروَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الإسناد.
وعاصمُ بنُ رجاءٍ حدَّثَ عنه جماعةٌ. وأبُوه رَوَى عن أبي الدَّرداء غيرَ حديثٍ. وإِسنادُه صالحٌ".
وعاصمُ بنُ رجاءٍ وثَّقه ابنُ حِبَّان، وابنُ عبدِ البَرِّ. وقال أبُو زُرعة:"لا بأس به". وقال ابنُ مَعينٍ: "صُويلحٌ". أمَّا الدَّارَقُطنِيُّ فضعَّفهُ.
ويأتي إن شاء اللهُ عن أبي الدَّرداء من وجهٍ آخرَ بسياقٍ مُختلفٍ عند الحديث (323) وفيه بعضُ معنى هذا الحديث.
وقد رُوِي هذا الحديثُ من وجهٍ آخر ..
فأخرَجَهُ التِّرمذيُّ في "سُننه"(1726)، وفي "العِلل الكبير"(513)، وابنُ ماجَهْ (3367)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُعجَم الصَّحابة"(ج 9/ ق 158/ 1 - 2)، وابنُ أبي شُرَيحٍ في "جُزء بِيْبَى"(85)، وابنُ عَديٍّ في "الكامل"(3/ 1267)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(2/ 174)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 6/ رقم 6124)، والحاكمُ (4/ 115)، والبَيهَقِيُّ (10/ 12)، وأبُو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(1/ 212) من طُرُقٍ عن سيف بن هارُون، عن سُليمانَ التَّيمِيِّ، عن أبي عُثمان النَّهدِيِّ، عن سَلمانَ الفارِسِيِّ، قال: سئِلَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن السَّمن والجُبن والفِراء، فقال:"الحلالُ ما أحلَّ اللهُ في كتابه، والحرامُ ما حرَّم اللهُ في كتابه، وما سَكَتَ عنه فهو عفوٌ".
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرِفُهُ مرفُوعًا إلَّا من هذا الوجه. ورَوَى سُفيانُ وغيرُه، عن سُليمانَ التَّيمِيِّ، عن أَبِي عُثمانَ، عن سَلمان قولَه، وكأنَّ الحديثَ الموقُوفَ أصَّحُ. وسألتُ البُخاريَّ عن هذا الحديثِ فقال: ما أراه محفوظًا، رَوَى سُفيانُ، عن سليمانَ التَّيمِيِّ، عن أبي عُثمان، عن سَلمانَ، موقُوفًا، - قال البُخاريُّ: - وسيفُ بنُ هارُون مُقارِبُ الحديثِ، وسيفُ بنُ مُحمَّدٍ ذاهبُ الحديث".
قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ مُفسِّر في الباب، وسيفُ بنُ هارُون: لم يُخرِّجاه"، فتعقَّبه الذَّهبيُّ قال:"ضعَّفه جماعةٌ".
وقال العُقيليُّ: "لا يُحفَظُ إلَّا عنه - يعني: عن سُفيان بن هارون - إلَّا بهذا السَّنَد".
وسُئِلَ أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ - كما في "عِلل الحديث"(1503) - عن هذا الحديث، فقال:"هذا خطأٌ. رواه الثِّقاتُ عن التَّيمِيِّ، عن أبي عُثمان، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا، ليس فيه سلمان. وهو الصَّحيح" انتهَى.
• قلتُ: قلتُ: وقد وقفتُ على روايةِ سُفيانَ بن عُيَينة ..
أخرَجَهَا البَيهقِيُّ (10/ 12) من طريق بِشر بن مُوسَى، ثنا الحُمَيدِيُّ، عن سُفيانَ، عن سُليمانَ التَّيمِيِّ، عن أبي عُثمان، عن سلمانَ رضي الله عنه - أُراه رَفَعه -، قال:
…
وذكره.
هكذا وردت هذه الرِّواية على الشَّكِّ في رفعه.
ووقع في كلام البُخاريِّ الجزمُ بوقفه عن سُفيان.
وقد أعلَّ العُقيليُّ الرِّواية المرفُوعة، بما رواه عن الحسَن البصريِّ مُرسَلًا، فقال: حدَّثَنا عليُّ بنُ عبد العزيز، قال: حدَّثَنا أبو حفصٍ عُمَرُ بنُ يزيد الشَّيبَانِيُّ، قال: حدَّثَنا حمَّادُ بنُ عبد الرَّحمن المَالِكِيُّ، عن الحَسَن، أنَّ رجُلًا قام إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسول الله! ما تقول في الجُبن الفِراء والسَّمن؟ "
…
الحديث.
قال العُقيليُّ: "هذا أَولَى".
ثُمَّ وقَفتُ على شاهدٍ آخر عن ابن عُمَر رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ ابنُ عَديٍّ في "الكامل"(7/ 2481) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ جعفر بن يزيد ورَّاقُ بن أبي الدُّنيا، ثنا مُحمَّدُ بنُ سليمان بن الحارث، ثنا أبو هارُون مُحمَّدُ بنُ أيُّوب، ثنا نُعيمُ بنُ مُوَرِّع بن توبة العَنبَرِيُّ، عن ابن جُريجٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر: سُئِل رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُبن والسَّمن والفِراء، فقالا:"الحلالُ ما أحلَّ اللهُ في كتابِه، والحرامُ ما حرَّم في كتابه، وما سكت عنه، فهو ممَّا عفا عنه".
قال ابنُ عَديٍّ: "وهذا غير محفوظٍ من حديث ابن جُريجٍ، وما أظنُّه يرويه غيرُ نُعيمٍ. ولنُعيمٍ غيرُ ما ذكرتُ من الحديث. وعامَّةُ ما يرويه غيرُ محفوظٍ".
وذَكَرَ البَيهقِيُّ في "سُنَنه الكبير"(10/ 12) أنَّهُ ورد عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أيضًا.
أخرج أثر ابن عبَّاسٍ أبُو داوُد (3800) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ داوُد بن صُبيحٍ .. والحاكمُ (4/ 115) عن أحمدَ بن حازِمٍ الغِفاريِّ .. قالا: ثنا أبُو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكينٍ، قال: حدَّثنا مُحمَّدُ - يعني ابنَ شَرِيكٍ المَكِّيَّ -، عن عمرِو بن دينارٍ، عن أبي الشَّعثاءِ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان أهلُ الجاهليَّة يأكُلُون أشياءَ ويترُكُون أشياءَ تقذُّرًا، فبعث اللهُ تعالَى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم، وأنزَلَ كتابَهُ، وأحلَّ حلالَهُ، وحرَّم حرامه، فما أحلَّ فهو حلالٌ، وما حرَّم فهو حرامٌ، وما سكت عنه فهو عفوٌ - وتلا: - {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
…
إلى آخر الآية} [الأنعام: 145]
قال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد"، وهو كما قال .. واللهُ أعلمُ.
263 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا اختَلَطَ حُبِّي بِقَلبِ عَبدٍ فَأَحَبَّنِي إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ".
• قلتُ: قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 255 - 256) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ حُميدٍ، ثنا أحمدُ بن مُحمَّد بن سعيدٍ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عيسى، ثنا السَّرِيُّ بنُ مَرثَدٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ يحيى، ثنا مِسعَرٌ، عن عطيَّة، قال: كُنتُ مع ابن عُمَر جالسًا، فقال رُجُلٌ: لودِدتُ أنِّي رأيتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابنُ عُمَر: فكُنتَ تصنَعُ ماذا؟ قال: كُنت والله! أُومِنُ به، وأُقَبِّلُ ما بين عينيه. فقال ابنُ عُمَر: ألا أُبَشِّرُك؟ قال: بلى، يا أبا عبد الرَّحمن! فقال: سمِعتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما اختَلَطَ حُبِّي بقلب عبدٍ، فأحَبَّنِي، إلَّا حرَّم اللهُ جسده على النَّار - ثُمَّ قال: - ليتَنِي أَرَى إخواني، وَرَدُوا على الحوضِ، فاستقبِلُهم بالآنية، فيها الشَّرابُ، فأسقِيهِم من حوضِي -، قبل أن يدخُلُوا الجنَّة"، فقيل له:"يا رسُول الله! أَوَلَسنَا إخوانك -؟! "، قال:"أَنتُم أصحابي، وإخواني مَن آمَنَ بي وَلَم يَرَنِي، إني سألتُ ربِّي أن يُقِرَّ عيني بكم، وبمن آمن بي ولم يَرَني".
قال أبو نُعيم: "غريبٌ من حديث مِسعرٍ، تفرَّد به إسماعيلُ، وعنه السَّرِيُّ".
• قلتُ: قلتُ: وهذا سَنَدٌ ساقطٌ البتَّةَ؛ وإسماعيلُ بنُ يحيَى هالكٌ، كذَّبه الدَّارَقُطنِيُّ والحاكمُ وأبو عليٍّ النَّيسَابُورِيُّ الحافظ. وقال صالحٌ جَزَرةُ:"كان يَضَع الحديثَ"، بل قال الأَزديُّ:"رُكنٌ من أركان الكَذِب، لا تَحِلُّ الرِّواية عنه"، كان يُحدِّثُ عن مِسَعرٍ وابن جُريجٍ بالأباطيل، لذلك قال الذَّهبيُّ في "الميزان" (1/ 253):"مُجمَعٌ على تركه".
وفي الإسناد إليه أحمدُ بنُ مُحمَّد بن سعيدٍ، وهو المعروف بابنِ عُقدة، فهو مع حفظه، فقد اتُّهِم بسَرِقة الحديثِ.
264 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ رَجُلًا ذَهَبَ إِلَى قَومٍ، فَقَالَ:"إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَن أَحكُمَ فِي أَموَالِكُم وَدِمَائِكُم، وَأَن تُزَوِّجُونِي"، فَأَرسَلُوا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَتلِهِ، فَلمَّا دَفَنُوهُ لَفَظَتهُ الأرضُ.
• قلتُ: قلتُ: هذا السِّياقُ المذكورُ يتألَّفُ من حديثين، أحدهما ضعيفٌ، والآخر صحيحٌ.
* أما الحديث الضَّعيف.
فأخرَجَهُ ابنُ عَديٍّ في "الكامل"(4/ 1371 - 1372) قال: ثنا الحسنُ بنُ مُحمَّد بن عَنْبرٍ، ثنا حجَّاجُ بنُ يوسُف الشَّاعرُ، ثنا زكريَّا بنُ عَديٍّ، ثنا عليُّ بنُ مُسهِرٍ، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُريدة، عن أبيه، قال: كان حيٌّ من بني ليثٍ من المدينة على مِيلَينِ، وكان رجُلٌ قد خَطَب منهُم في الجاهلية، فلم يُزَوِّجُوه، فأتاهم وعليه حُلَّةٌ، فقال:"إنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَسَانِي هذه، وأَمَرَنِي أن أَحكُم في أموالكم ودمائكم"، ثُمَّ انطلق، فنزلَ على تلك المرأة التي كان خَطَبَها، فأرسل القومُ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كَذَبَ عدوُّ الله! "، ثُمَّ أرسل رجُلًا، فقال:"إن وجدته حيًّا، وما أُرَاكَ تجدُهُ حيًّا، فاضرب عُنقَه، وإن وجدته ميِّتًا، فأحرِقهُ بالنَّار"، - قال: - فجاءَهُ، فوَجَدَهُ قد لدَغَته أفعى، فمات، فحرقه بالنَّار، - قال: - فذلك
قولُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كذب عليَّ مُتَعَمِّدًا، فليتبَوَّأْ مَقعده من النَّار".
قال ابنُ عَديٍّ: "وهذه القِصَّة لا أعرِفُها إلَّا من هذا الوجه، ومن رواية زكريَّا بن عَديٍّ، عن عليّ بن مُسْهرٍ. وعن زكريا: حجَّاجٌ الشَّاعر".
كذا قال ابن عَديٍّ رحمه الله! أن حجاج بن يُوسُف الشَّاعرَ، وزكريَّا بنَ عَديٍّ، تفرَّدا بالحديث، وليس كما قال ..
فأمَّا حجَّاجٌ الشَّاعرُ.
فتابَعَهُ مُحمَّدُ بنُ إسحاق الصَّغَّانِيُّ، قال: أنا زكريَّا بنُ عَديٍّ، نا عليُّ بنُ مُسهِرٍ، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُريدة، عن أبيه، قال: كان حيٌّ من بني كِنانة من المدينة على مِيلَين، فأتاهم رَجُلٌ وعليه حُلَّةٌ، فقال:"إِنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم كَسَانِي هذه الحُلَّةَ، وأَمَرَني أن أَحكُم في أموالكم ونسائكم بما أَرَى"، وكان قد خَطَب امرأةً منهم، فأبَوْا أن يُزَوِّجُوه، - قال: - ثُمَّ انطلق فَنَزَل على تلك المرأة، فأَرسَلَ القومُ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فأخبره، فقال:"كَذَبَ عدوُّ الله! "، وأرسل رجُلًا، وقال:"إن وجدته حيًّا، فاضْرِب عُنُقَه، ولا أُرَاكَ تجدُهُ حيًّا، وإن وجدته ميِّتًا، فأحرِقهُ بالنَّار"، - قال: - فجاء، فوَجَدَهُ قد لدَغَتهُ أفعى، فمات، فذلك قولُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم:"مَن كَذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا، فليتبوَّأ مَقعَده من النَّار".
أخرَجَهُ الرُّويَانِيُّ في "مُسنَده"(34) قال: أخبرَنَا مُحمَّدُ بنُ إسحاق به.
وكذلك تابَعَهُ إسماعيلُ بنُ حيَّانَ الواسِطِيُّ، قال: ثنا زكريَّا بنُ عديٍّ بهذا.
أخرَجَهُ النَّهرَوَانِيُّ في "الجليس الصَّالح"(1/ 182) قال: حدَّثَنا الحسنُ بنُ مُحمَّد بن شُعيبٍ الأنصاريُّ، ثنا إسماعيلُ بهذا.
وأمَّا زكريَّا بن عَديٍّ.
فتابَعَهُ يحيى بنُ عبد الحميد الحِمَّانِيُّ، ثنا عليُّ بنُ مُسهِرٍ، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُريدة، عن أبيه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَلَغَه أن رجُلًا قال لقومٍ:"إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أن أَحكُم فيكم برأيي، وفي أموالكم كذا وكذا"، وكان خَطَب امرأةً منهم في الجاهلية، فأبَوْا أن يُزَوِّجُوه، ثمَّ ذهب، حتَّى نزل على المرأة، فبَعَثَ القومُ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كَذَبَ عدوُّ الله! "، ثُمَّ أرسل رجُلًا، فقال:"إن وجدته حيًّا، فاقتُلْهُ، وإن أنت وجدته ميِّتًا، فحَرِّقهُ بالنَّار"، فانطَلَق، فوجَدَهُ قد لُدغ فمات، فحرَقه بالنَّار، فعند ذلك قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَن كذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا، فليتبَوَّأْ مَقعَده من النَّار".
أخرَجَهُ أبو القاسم البَغَوِيُّ في "حديثه" - كما في "الصَّارم المسلول"(ص 169) لابن تيميَّة رحمه الله وعنه أبُو الفَرَج النَّهرَوَانِيُّ في "الجليس الصَّالح"(1/ 181) قال: حدَّثَنا يحيى الحِمَّانِيُّ ..
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "جُزء مَن كَذَب عليَّ"(146) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله الحَضرَمِيُّ ..
وتَمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(745) من طريق مُحمَّد بن جعفر بن الإمامِ ..
وابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(1/ 84) من طريق إبراهيم الحربِيِّ، قالُوا: ثنا يحيى الحِمَّانِيُّ بسنده سواء، بآخره دُون القِصَّة.
وصحَّح إسنادَهُ شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في "الصَّارم"(ص: 170)، وقال:"هذا إسنادٌ صحيحٌ، على شرط الصَّحيح، لا نعلم له علةً".
كذا قال! وعِلَّتُه ظاهرةٌ، وهي صالحُ بنُ حَيَّان، ضعَّفه ابنُ مَعِينٍ.
وقال النَّسائِيُّ: "ليس بثقةٍ". وقال البُخاريُّ: "فيه نَظَرٌ"، وقال أبو حاتمٍ. والدَّارَقُطنِيُّ:"ليس بالقويِّ". وقال ابن حِبَّان: "يَروِي عن الثِّقات أشياءَ لا تُشبِه حديث الأثبات. لا يُعجِبُنِي الاحتجاجُ به إذا انفرد" انتهى، ولا أعلَمُ أحدًا تابعه على هذه القِصَّة بعد التَّفتيش. واللهُ أعلَمُ.
وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ النَّهرَوَانِيُّ (1/ 182 - 183) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ هارُونَ أبُو حامدٍ الحَضرَمِيُّ، قال: حدَّثَنا السَّرِيُّ بنُ مَزْيَد الخراسَانِيُّ، قال: حدَّثَنا أبُو جعفرٍ مُحمَّدُ بنُ عليٍّ الفَزَارِيُّ، قال: حدَّثَنا داوُدُ بنُ الزِّبرِقان، قال: أخبَرَني عطاءُ بنُ السَّائب، عن عبدِ الله بن الزُّبير، أنَّه قال يومًا لأصحابه: أتدرُون ما تأويل هذا الحديث: "مَن كَذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مَقعَدَه من النَّار"؟ قال: رجُلٌ عشق امرأةً فأتى أهلَها مساءً، فقال:"إنِّي رسُولُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، بَعَثَنِي إليكم أن أتضيَّف في أيِّ بُيُوتكم شئتُ"، - قال: - فكان ينتظرُ بَيتُوتَهُ إلى المساء، - قال: - فأتَى رجُلٌ منهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنَّ فُلانًا أتانا يزعُمُ أنَّك أخبرتَهُ أن يبيت في أيِّ بُيُوتنا شاءَ"، فقال:"كَذَبَ! يا فُلانُ! انطلق معه، فإن أَمْكَنَكَ اللهُ منه فاضرِب عُنُقَهُ وأحرِقهُ بالنَّار، ولا أراك إلَّا قد نُعِيتَهُ"، فلمَّا خرجَ الرَّسُولُ قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اُدعُوه! "، فلمَّا جاء قال:"إنِّي قد كنتُ أمرتُك أن تضرب عُنُقَهُ وأن تُحرِّقه بالنَّار، فإن أمْكَنَكَ اللهُ منه فاضرب عُنُقَهُ ولا تُحرِّقه بالنَّار، فإنَّه لا يُعذِّبُ بالنَّار إلَّا ربُّ النَّار، ولا أراك إلَّا قد كُفِيتَهُ"، فجاءت السَّماءُ فصبَّت، فخرج ليتوضَّأ فلسعتهُ أفعَى، فلمَّا بلغ ذلك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"هُو في النَّار".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وابنُ الزِّبرقان مطرُوحٌ.
وعطاءُ بنُ السَّائب كان اختَلَطَ، ولم يسمع من ابن الزُّبير. قال ابنُ حِبَّان في "الثِّقات" (7/ 251):"قيل: إنَّه - يعني عطاءً - إنَّه سمع من أنسٍ، ولا يصحُّ ذلك عندي" انتهَى. وقد مات أنسٌ في سنة 93 هـ، وقيل قبل ذلك بسنةٍ أو بسنتين. أمَّا عبدُ الله بنُ الزُّبير فقُتل سنة 72 هـ في أكثر الأقوال، فلئلَّا يسمع من ابن الزُّبير أولَى. واللهُ أعلم.
* أمَّا الحديثُ الصَّحيح، والذي أشار إليه السَّائل في الشَّطر الثَّاني من سؤاله ..
فأخرَجهُ البُخاريُّ في "كتاب المناقب"(6/ 624) واللَّفظُ له، قال: حدَّثَنا أبو مَعمَرٍ - هو عبدُ الله بنُ عَمرٍو المُقعَدُ - ..
وأبو يَعلَى في "مُسنَده"(ج 7/ رقم 3919)، ومِن طريقِهِ البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل" (7/ 127) قال: حدَّثَنا جعفرُ بنُ مِهرانَ، قالا: ثنا عبدُ الوارث بنُ سعيدٍ، عن عبد العزيز بن صُهيبٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: كان رُجُلٌ نصرانيًّا، فأسلَمَ، وقرأ البَقَرَةَ وآلَ عِمران، فكان يكتُبُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًّا، فكان يقولُ:"مَا يَدرِي مُحمَّدٌ ما كتبتُ له"، فأماته الله، فدَفَنُوه، فأصبح وقد لَفَظَتهُ الأرضُ، فقالوا:"هذا فِعلُ مُحَمَّدٍ وأصحابِه، لمَّا هرب مِنهُم نبشوا عن صاحِبِنَا، فألقَوْهُ! "، فحَفَرُوا له، فأَعمَقُوا، فأصبَح وقد لَفَظَتهُ الأرضُ، قالوا:"هذا فِعلُ مُحَمَّدٍ وأصحابِه، نبَشوا عن صاحِبِنَا لمَّا هرب مِنهُم، فألقَوْهُ خارج القبر"، فحفَرُوا له، وأعمَقُوا له في الأرض ما استطاعُوا، فأصبَحَ قد لَفَظَتهُ الأرضُ، فعَلِمُوا أنَّه ليس من النَّاس، فألقَوْهُ.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ (2781/ 14)، وأحمدُ (3/ 222 - 223)، وعَبدُ بنُ
حُميدٍ في "المُنتخَب"(1278)، والبَيهَقِيُّ في "إثبات عذاب القبر"(64)، وفي "الدَّلائل"(7/ 126) عن هاشمِ بن القاسِم أبي النَّضر ..
وعبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المنتخَب"(1280) قال: حدَّثَنا سلْمُ بنُ قتيبة ..
وأبو عَوَانة في "المُستَخرَج" - كما في "إتحاف المَهَرَة"(1/ 526) - عن موسى بن إسماعيل التَّبُوذَكِيِّ، قالوا: ثنا سُليمانُ بنُ المُغِيرة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ فذَكَرَه.
وتابَعَهُ حمَّادُ بنُ سَلَمَة، عن ثابتٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَه الطَّيالِسِيُّ (2020)، ومن طريقه ابنُ أبي داوُد في "المَصاحف"(3) ..
وأحمدُ (3/ 245 - 246)، قال: حدَّثَنا عفَّانُ بنُ مُسلِمٍ، قالا: ثنا حمَّادُ بنُ سَلَمَة، عن ثابِتٍ، عن أَنسٍ، أن رجُلًا كان يكتُبُ لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
…
وساق نحوَه.
• قلتُ: كذا رواه الطَّيالِسِيُّ وعفَّانُ بنُ مسلمٍ.
ورواه سليمانُ بنُ حربٍ، قال: ثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة بهذا الإسناد، بلفظ: كان رجلٌ يكتُبُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ
…
وساق نحوه.
أخرَجَه عبدُ بنُ حُميدٍ في "المنتخَب"(1354).
ولم يقع في حديثِ أحدٍ عن أنسٍ أن هذا الرَّجل كان يكتُبُ القُرآن، إنَّما الذي ورد أنه "كان يكتُبُ" هكذا بإطلاقٍ. وأخشَى أن يكون حمَّادُ بنُ سَلَمَة اضطرب في هذا الحرف - مع أنَّه أثبتُ النَّاس في ثابتٍ -؛ فإنَّ الرُّواة عن حمَّادٍ أثباتٌ. ويُؤيِّدُ ذلك أن لفظة "القُرآن" لم تَرِد في حديثِ أحدٍ عن أنسٍ.
وسيأتي النَّظرُ في هذا الحرفِ قريبًا إن شاء اللهُ تعالى.
وكذلك رواه حُمَيدٌ الطَّويلُ، عن أنَسٍ، أن رجُلًا كان يكتُبُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد كان قرأ البَقَرَة وآلَ عِمرانَ - وكان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرَةَ وآل عمران جَدَّ فينا، يعني: عَظُم -، فكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُملي عليه:"غفورًا رحيمًا"، فيكتُبُ:"عليمًا حكيمًا"، فيقول له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكتُب كذا وكذا. اكتُب كيف شِئتَ"، ويُمِلي عليه:"عليمًا حكيمًا"، فيقولُ:"أكتُبُ: سميعًا بصيرًا؟ "، فيقول:"اكتُب كيف شِئتَ". فارتدَّ ذلك الرَّجُلُ عن الإسلامِ، فلَحِقَ بالمُشركين، وقال:"أنا أعلَمُكُم بمُحمَّدٍ، إن كنتُ لأَكتُبُ كيفما شِئتُ"، فمات ذلك الرَّجُلُ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الأرض لم تَقبَلهُ". - وقال أنسٌ: - فحدَّثني أبو طَلحَةَ أنَّه أتَى الأرضَ التي مات فيها ذلك الرَّجُلُ، فوجدَهُ منبُوذًا، فقال أبو طَلحَةَ:"ما شأنُ هذا الرَّجُل؟ "، قالوا:"قد دفنَّاه مِرَارًا، فلم تَقبَله الأرضُ".
أخرَجَه أحمدُ (3/ 120 - 121)، والدِّينَورِيُّ في "المُجالَسة"(2392)، والبيهَقِيُّ في "عذاب القَبر"(65)، وفي "السُّنَن الصَّغير"(1010)، والثَّعلَبِيُّ في "تفسِيره"(ج 1/ ق 34/ 2)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(13/ 305 - 306) عن يزيد بن هارون ..
وأحمدُ (3/ 121)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(4/ 220) عن عبد الله بن بكرٍ السَّهمِيِّ ..
والطَّحاوِيُّ أيضًا، عن يحيى بن أيُّوب ..
وابنُ حِبَّان (744) عن المُعتَمِر بن سُليمان ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(7/ 2680)، عن يحيى بن حُمَيدٍ الطَّويل،
كلُّهُم عن حُمَيدٍ، عن أنسٍ.
وصرَّح حُمَيدٌ بالتَّحديث عند ابن حِبَّانَ.
• قلتُ: وقد طعن بعضُ الجُهلاء من أبناء عَصرنا في صِحَّة هذا الحديث؛ لأنَّ إثباتَه - بزعمِهِ - يُفقِد الثِّقةَ في نقل القُرآن، وَيفتَحُ البابَ أمام أعدائنا لإثباتِ أن القُرآن مُحرَّفٌ. ومُصيبَةُ هؤلاء أنَّهم لا يَقرؤُون ما كَتبَه العُلماء، ولا يَرفَعون له رأسًا.
وقد تكلَّم العُلماءُ في هذا المَعنَى ..
فذهَبَ الطَّحاوِيُّ إلى أن المَقصودَ بالحدِيث ليس القُرآنَ، وإنَّما ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُمليه على ذلك الكاتِبِ أن يَكتبهُ إلى النَّاس في دعائه إيَّاهم إلى الله عز وجل، فيكتُبُ الكاتِبُ خلافَهَا ممَّا معنَاها مَعناها، إذ كانت كلُّها من صفات الله عز وجل.
وعلى التَّسليم بأنَّ لفظة "القُرآن" ثابتة وليست شاذَّةً، فقد وجَّهها البَيهَقِيُّ، فقال:
"قلتُ: ويُحتَمَل أنَّه إنَّما أجاز قراءةَ بعضِها بدل بعضٍ لأنَّ كلَّ ذلك مُنزَّلٌ، فإذا بدَّل بعضَها ببعضٍ فكأنَّه قرأ مِن هاهنا ومن هاهنا، وكل قرآن، وأطلَقَ للكاتِبِ كتابَةَ ما شاء مِن ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعرَضُ عليه القُرآنُ في كلِّ عامٍ مرَّةً، فلمَّا كان العامُ الذي قُبِض فيه عُرِض عليه مرَّتين، فكان الاعتبارُ بما تقعُ عليه القراءةُ عِند إكمال الدِّين وتناهِي الفرَائض، فكان لا يُبالِي بما يُكتَب قبل العَرض من اسمٍ من أسماء الله مكان اسمٍ، فلمَّا استقرَّت القراءةُ على ما اجتمعت عليه الصَّحابةُ وأثبَتُوهُ في المَصاحِف على اللُّغات التي قرؤُوه عليها، صار ذلك إمامًا يُقتَدَى به لا يجوزُ مُفارَقتُهُ بالقصد، إلَّا أن يَزِلَّ الحِفظُ فيُبدِّل اسمًا بِاسمٍ مِن غير قصدٍ، فلا يحرُجُ ذلك إن شاء الله تعالى" انتهَى.
265 - سُئلتُ: هل صحَّ أن عُمَر بن الخطَّاب حرَق بالنَّار رجُلًا كَوَى مولًى له؟ وكيف يتَّفِقُ هذا مع نَهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن التَّعذيب بالنَّار؟
• قلتُ: هذا الذي ذكره السَّائلُ فلم أقف عليه، ولا أظنُّه وَقَعَ، بل الذي وقفتُ عليه بخلاف ما ذَكَرَ.
فقد أخرج العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 182) مُعَلَّقًا، ووَصَلَهُ الحاكم (4/ 368)، وابنُ عَديٍّ في "الكامل"(5/ 1713)، والطَّبرانِيُّ في "الأوسط"(8657) من طُرُقٍ عن اللَّيث بن سعدٍ، عن عُمَر بن عيسى القُرَشِيِّ، ثُمَّ الأَسدِيِّ، عن ابن جُريجٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّهُ قال: جاءت جاريةٌ إلى عُمَرَ بن الخطَّاب، فقالت:"إنَّ سَيِّدي اتَّهَمَنِي، فأقعَدَنِي على النَّار، حتَّى احتَرَقَ فَرجِي"، فقال لها عُمَرُ:"هل رأى ذلك عليك؟ "، قالت:"لا"، قال:"فاعتَرَفتِ له بشيءٍ؟ "، قالت:"لا"، قال عُمَر:"عَلَيَّ به"، فلمَّا رأى عُمَرُ الرَّجلَ، قال:"أتُعَذِّبُ بعذاب الله؟ "، قال:"يا أمير المؤمنين! اتَّهَمتُها في نفسها"، قال:"أَرَأيتَ ذلك عليها؟ "، قال الرَّجلُ:"لا"، قال:"أَفاعتَرَفَت لك به؟ "، قال:"لا"، قال:"والذي نفسي بِيَدِه! لَو لَم أَسمَع رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: لا يُقادُ مملوكٌ من مالِكِه ولا وَلَدٌ من وَالِده. لأَقَدتُها منك"،
فبرَّزه، فضرَبَهُ مئةَ سوطٍ، ثُمَّ قال:"اذهبي، فأنتِ حُرَّةٌ لوجه الله، وأنتِ مولاةُ الله ورسولِه؛ أشهد! لَسَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حُرِقَ بالنَّار أو مُثِّل به فهُو حُرٌّ، وهو مولى الله ورسولهِ".
قال اللَّيثُ: "هذا أمرٌ معمولٌ به".
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن ابن جُريجٍ، إلَّا عُمَرُ بن عيسى. تفرَّد به اللَّيث".
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ؛ وآفَتُه عُمَرُ بنُ عيسى هذا، فقد تَرجَمَهُ البُخاريُّ في "الكبير"(3/ 2/ 182)، وقال:"مُنكَرُ الحديث"، ونقل العُقيليُّ وابنُ عَديٍّ كلامَ البُخاريِّ فيه، وصرَّح ابنُ عَديٍّ والعُقيليُّ أنَّهُ تَفرَّد به، كما قال الطَّبَرانيُّ، وبهذا تَعلَمُ ما في قول الحاكم:"صحيح الإسناد"!
وقد أورد له الحاكمُ شاهدين دون القِصَّة.
إنَّما الذي صحَّ أنَّه حرَق بالنَّار، فهو عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه.
فقد أخرَجَ البُخاريُّ في "كتاب الجهاد"(6/ 149)، وفي "استتابة المُرتَدِّين"(12/ 267) من طريق عِكرِمةَ، قال: أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ، فأحرَقَهُم، فبلغ ذلك ابنَ عبَّاسٍ، فقال: لو كنتُ أنا، لم أَحرِقهُم؛ لنهي رسُول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تُعذِّبُوا بعذاب الله"، ولَقَتَلتُهم؛ لقول رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم:"مَن بَدَّل دينه فاقتلوه".
وقال بعضُ النَّاس: إنَّه لم يَحرِقهُم، وإنَّما حَفَرَ لهم خندقًا.
ورُدَّ ذلك عليه ..
فأخرَجَ الحُميديُّ في "مُسنَده"(533) ..
والبَيهَقِيُّ (9/ 71) مِن طريق مُحمَّد بن عبَّادٍ، قالا: ثنا سُفيانُ بنُ عُيَينة، ثنا أيُّوبُ، عن عِكرِمة، قال: لمَّا بلَغَ ابنَ عبَّاسٍ أن عليًّا أحرق المرتَدِّين - يعني الزَّنَادِقةَ -، قال ابنُ عبَّاسٍ: لو كنتُ أنا لقَتَلتُهُم؛ لقول رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن بَدَّل دينه فاقتُلُوه"، ولم أَحرِقهُم؛ لقول رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم:"لا ينبَغِي لأحدٍ أن يُعذِّب بعذاب الله".
قال سُفيانُ: فقال عمَّارٌ الدُّهْنِيُّ وهو في المجلِسِ - مجلسِ عَمرِو بن دينارٍ -، وأيُّوبُ يُحدِّثُ بهذا الحديث: إنَّ عليًّا لم يَحرِقهُم، إنَّما حفر لهم أسرابًا، وكان يُدخِلُ عليهم مِنهَا، حتَّى قَتَلَهم. فقال عَمرُو بنُ دينارٍ: أَمَا سمِعتَ قائِلَهُم وهو يقولُ:
لِتَرمِ بيَ المَنَايَا حيثُ شَاءَت
…
إِذَا لَم تَرمِ بي في الحُفرَتَينِ
إذا مَا قَرَّبُوا حَطبًا ونَارًا
…
هُناك الموتُ نقدًا غيرَ دَيْنِ
وقد رَوَى هذا الحديثَ جَرِيرُ بنُ حازمٍ، عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ بالسَّنَد المُتقدِّم، وزاد فيه: فبلغ ذلك عليًّا - يعني: اعتراضَ ابن عبَّاسٍ -، فقال:"وَيحَ ابن أُمِّ الفضل! إِنَّهُ لَغوَّاصٌ على الهَنَاتِ! ".
أخرَجَهُ عُثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ في "الرَّدِّ على الجهمية"(361، 385)، ويعقوبُ الفَسَوِيُّ في "المعرفة والتَّاريخ"(1/ 516)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ (8/ 202).
وسببُ تحريقِ عليٍّ رضي الله عنه إيَّاهم أنَّهم ادَّعوا أنَّه هو اللهُ، كما أخرجه أبو طاهرٍ المُخلِّصُ في "الفوائد المُنتَقاة"(ج 3/ ق 152/ 2 - 153/ 1)، قال: حدَّثَنا يحيى [هو ابنُ صاعدٍ]، حدَّثَنا لُوَينُ، حدَّثَنا عبدُ الله بنُ
الزُّبَير، عن عبد الله بن شريكٍ العامِرِيِّ، عن أبيه، قال: أُتي عليُّ بن أبي طالبٍ، فقيل:"إنَّ هاهنا قومًا على باب المَسجِد يَزعُمُون أنَّك ربُّهُم"، فدعاهم فقال لهم:"ويلَكُم! ما تقُولُون؟! "، فقالوا:"ربُّنا وخالِقُنا ورازِقُنا"، فقال:"وَيلَكُم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكُم، آكُلُ الطَّعام كما تأكُلُون، وأشربُ كما تَشرَبُون، إن أطعتُهُ أثابَنِي إن شاء اللهُ، وإن عصيتُهُ خشيتُ أن يُعَذِّبَنِي، فاتَّقُوا الله وارجِعُوا" فأبَوا، فطَرَدَهم، فلمَّا كان مِن الغَد غَدَوا عليه، فجاء قَنبَرٌ، فقال:"قد والله! رجعوا يَقولون ذلك الكلام"، فقال:"أَدخِلهُم عليَّ"، فقالوا له مثلما قالوا، وقال لهم مثلما قال، إلَّا أنَّه قال:"إنَّكم ضالُّون مَفتُونُون" فأبَوا، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ أتَوهُ، فقالوا له مثلَ ذلك القولِ، فقال لهم:"والله! لئن قُلتُم، لأقتُلَنَّكم بأخبث القِتلة" فأبَوا إلَّا أن يتمُّوا على قولهِم، فدعا قَنبَرًا، فقال:"ائتني بفَعَلَةٍ معهم مُرورُهُم وزَبلُهم"، فلمَّا جاء بهم خَدَّ لهم أُخدودًا بين باب المسجد والقَصر، وقال:"احفِرُوا"، فحفروا فأبعَدُوا في الأرض، فلمَّا حَفَروا وأَبعَدوا جاء بالحطب فطرحه، وبالنَّار في الأخدُود، وقال:"إنِّي طارِحُكُم فيها، أو تَرجِعُوا"، فأبَوا أن يَرجِعُوا، فقذف بهم فيها، حتَّى إذا احتَرَقوُا قال:
"إنِّي إذا رأيتُ أمرًا منكَرًا
…
أوقدتُ ناري ودعوتُ قَنبَرًا".
قال ابنُ صاعِدٍ: ولم يحفظ لُوَينُ الشِّعرَ كلَّه.
قال الحافظُ في "الفتح"(12/ 370): "إسناده حَسَنٌ".
وتعليقُ عليٍّ رضي الله عنه يَحتَمِلُ وجهين:
الأوَّل: أنَّهُ قالها تَوَجُّعًا، حيثُ إنَّ النَّهي عن التَّحريق حَمَلَهُ عِليٌّ عَلَى كراهة التَّنزِيه، وحَمَلَهُ ابنُ عبَّاسٍ على التَّحريم، فأَنكَرَهُ عليٌّ، وتَوَجَّع لذلك.
والثَّاني: أن يكُون قالَهَا رضًى بما قال، وأَنَّه حَفِظَ ما نَسِيَه، بِناءً على أحد ما قيل في كلمة "وَيح"، وأنَّها تُقال بمعنى المدح والتَّعَجُّب، ويُحتَمل أن يكُون عليٌّ تَوَجَّع أن ابن عبَّاسٍ لم يُبادِر بتذكيره.
ويدُلُّ على أَنَّه إنَّما قالها مُوافِقًا لابن عبَّاسٍ، لا مُعارِضًا ..
ما رواه عبدُ الوهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، في هذا الحديث قال: فبَلَغَ ذلك عليًّا، فقال: صَدَقَ ابنُ عبَّاسٍ.
أخرَجَهُ التِّرمذيُّ (1458)، وقال:"حَسَنٌ صحيحٌ". واللهُ أعلَمُ.
وقد أفضتُ في تخريج هذا الحديثِ في "تنبيه الهاجِدِ"(1388).
والحمد لله تعالَى.
266 -
سُئلتُ عن حديث: "إنَّ مِن وَرطَاتِ الأُمُورِ سَفكُ الدَّمِ الحَرَامِ".
• قلتُ: هذا الحديثُ لا أعلَمُه مرفُوعًا، إنَّما هو موقوفٌ على ابن عُمَر رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "صحيحه"(12/ 187)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ (8/ 21)، وابنُ حَزمٍ في "المُحلَّى"(10/ 343) عن ابن عُمَر، قال:"إِنَّ مِن ورطات الأُمور، التي لا مَخرَج لها لِمَن أَوقَع نفسَه فيها: سَفكُ الدَّم الحرام بغير حِلِّه".
وإنَّما أَخَذَ ابنُ عُمَر هذا المَعنَى من حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والذي يرويه هو:"لا يَزَالُ المُؤمِنُ في فُسْحةٍ من دِينِه ما لم يُصب دمًا حرامًا".
أخرَجَهُ البُخاريُّ (12/ 187)، وأحمدُ (2/ 94)، وعَبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المُنتخَب"(856)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الدِّيات"(ص 32)، والبَيهَقِيُّ في "السُّنَن الكبير"(8/ 21)، وفي "شُعَب الإيمان"(5338)، وابنُ حَزمٍ (10/ 343)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(10/ 148 - 149) من طريق إسحاق بن سعيد بن عَمرٍو، عن أبيه، عن ابن عُمَر مرفوعًا.
واستدرَكَهُ الحاكمُ (4/ 351) فوَهِمَ.
وله طريقٌ آخرُ ..
أخرَجَهُ الحاكم (4/ 350) عن أبي حاتمٍ الرَّازيِّ ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(1401) عن أحمد بن شَبَّوَيهِ المروزيِّ ..
والبَيهَقيُّ (8/ 21) عن مُحمَّد بن يحيى الذُّهليِّ، قالوا: ثنا أبو غسَّانَ مُحمَّدُ بنُ يحيى الكِنانِيُّ، قال: ثنا عبدُ العزيز بنُ مُحَمَّدٍ الدَّراوَرديُّ، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافعٍ، عن ابن عُمر مرفوعًا: "لا يزالُ المرءُ في فُسْحَةٍ
…
الحديث".
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عُبيد الله إلَّا الدَّرَاوَردِيُّ. تفرَّد به: أبو غَسَّان".
• قلتُ: وروايةُ الدَّراوَرديِّ عن عُبيد الله بن عُمر منكَرَةٌ، كما قال النَّسائيُّ وغيرُه. وبهذا تعلَمُ ما في قول الحاكِم:"صحيحٌ على شرط الشَّيخَين"!
ولو سلَّمنا أن روايَة الدَّراوَردِيِّ عن عُبيد الله سالمةٌ من هذا، فليس هذا الإسنادُ على شرط واحدٍ منهما؛ فالكِنانيُّ ليس على شرط مُسلمٍ، والدَّرَاوَردِيُّ ليس على شرط البُخاريِّ، فحينئذٍ يُقوَّى الإسنادُ مطلَقًا، ليس مقيَّدًا بشرطهما، أو بواحدٍ منهما.
والله أعلم.
267 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ رجلًا أَكَلَ من بُستان رجُلٍ آخرَ، بغير إِذنِه، فضَرَبَه صاحبُ البُستان، فشكاه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلامه على ذلك.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (2620، 2621)، وابنُ ماجَهْ (2298)، وأحمد (4/ 166 - 167)، والطَّيَالِسِيُّ (1169)، وابنُ أبي شَيبَة (6/ 86 - 87)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والثاني"(1654)، وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(2/ 190 - 191)، والبَيهَقِيُّ (10/ 2)، وابنُ عبد البَرِّ في "الاستذكار"(15/ 358، و 27/ 212 - 213)، والحاكم (4/ 133)، وبَحشَلُ في "تاريخ واسطَ"(ص 48)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(4/ 1929) من طريق شُعبَة بن الحجَّاج، عن أبي بِشر جعفرِ بن إياسٍ، قال: سَمِعتُ عبَّادَ بنَ شُرَحبيلَ الغُبَرِيَّ، قال: أصابَنَا عامُ مَخْمَصَةٍ، فأتَيتُ المدينةَ، فأتيتُ حائطًا من حِيطانِهَا، فأخذتُ سُنبُلًا، ففرَكتُهُ، وأكلتُه، وجعلتُه في كِسائي، فجاء صاحبُ الحائط فضَرَبَنِي، وأَخَذَ ثوبي، فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فقال للرَّجُل:"ما أطعَمته إِذ كان جائِعًا، أو سابِغًا، ولا عَلَّمتَه إذ كان جاهلًا"، فأمَرَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فردَّ إليه ثوبَهُ، وأَمَرَ له بَوسْقٍ من طعامٍ، أو نصف وَسْقٍ.
قال ابنُ كَثيرٍ في "تفسيره"(1/ 482): "إِسنادٌ صحيحٌ، قوِيٌّ، جيِّدٌّ".
وقال الذَّهبيُّ في "الميزان"(1/ 403): "هذا إسنادٌ صحيحٌ غريبٌ".
وقال القرطُبِيُّ في "تفسيره"(2/ 226): "هذا حديثٌ صحيحٌ، اتَّفَق على رجاله البُخاريُّ ومُسلِمٌ، إلَّا ابنَ أبي شيبة، فإنَّهُ لمُسلِمٍ وحدَه" كذا قال! وابنُ أبي شَيبَة من شُيُوخ البُخاريِّ أيضًا، روى عنه جُملةً وافرةً، وإن كان مُسلِمٌ أكثرَ روايةً عنه منه. واللهُ أعلَمُ.
وأخرَجَهُ النَّسائيُّ (8/ 240) من طريق مُبَشِّر بن عبد الله ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(8519)، وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(2/ 190)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(4/ 1930) من طريق عُمَر بن عليٍّ، كلاهما عن سُفيان بن حُسين، عن أبي بِشرٍ، عن عبَّاد بن شُرَاحِيلَ، فذَكَرَ مثلَه. كذا قال:"شُراحيل".
ورواه شُعبةُ مثلَ ذلك، فقال:"شُرَحبِيل".
قال الطَّبرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن سُفيان بن حُسينٍ إلَّا عُمرُ بنُ عليٍّ".
كذا قال! وقد رأيتَ أنَّهُ رواه مُبَشِّرُ بنُ عبد الله، عند النَّسائيِّ.
ورواه أشعثُ بنُ سعيدٍ، عن أبي بِشرٍ، عن عبَّاد بن شُرحبيل.
فوافق شُعبَةَ.
أخرَجَهُ ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(7/ 54 - 55)، وبَحشَلُ في "تاريخ واسطَ"(ص 48) من طريق يزيد بن هارون، ثنا أشعث بنُص سعيدٍ.
وانظُر "تنبيه الهاجِد"(1298، 1299). واللهُ أعلَمُ.
268 -
سُئلتُ عن صحَّة ومعنى حديث: "مَن أَصابَ مِن ذي الحَاجَةِ بِفِيهِ، غَيرِ مُتَّخِذٍ خُبنَةً، فَلَا شَيءَ عَلَيهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (1710)، والنَّسائيُّ (8/ 85)، والتِّرمذيُّ (1289) قالوا: ثنا قُتيبةُ بنُ سعيدٍ، ثنا اللَّيثُ بنُ سعدٍ، عن ابن عَجلانَ، عن عَمْرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه عبدِ الله بن عَمْرو بن العاص مرفُوعًا فذكره.
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ حسنٌ".
وأخرَجَه أحمدُ (2/ 180، 207) قال: حدَّثَنا يَعلَى بنُ عُبيد، ويزيدُ بنُ هارُون - فرَّقَهُما -، ثنا مُحمَّدُ بنُ إسحاق، عن عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: سمعتُ رجلًا من مُزَينَةَ يسألُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"يا رسُول الله! جئتُ أسألُك عن الضَّالَّة من الإبل"، قال:"معها حِذاؤُها وسِقاؤُها، تأكُلُ الشَّجر، وتَرِدُ الماء، فدعَها حتَّى يأتيها باغيها"، قال:"الضَّالَّةُ من الغنم؟ "، قال:"لك، أو لأخيك، أو للذِّئب، تجمعُها حتَّى يأتيها باغيها"، قال:"الحَرِيسَةُ التي تُوجد في مَرَاتِعِها؟ "، قال:"فيها ثَمَنُها مرَّتين، وضَربُ نَكالٍ، وما أُخِذ من عَطَنِهِ، ففيه القطعُ، إذا بَلَغَ ما يُؤخَذُ من ذلك ثمنَ المِجَنِّ"، قال: "يا رسُول الله!
فالثِّمارُ وما أُخذ منها في أَكمامِها؟ "، قال: "مَن أخذَ بفمه، ولم يتَّخِذ خُبْنَةً، فليس عليه شيءٌ. ومَن احتَمَلَ، فعليه ثمنُهُ مرَّتَين، وضربًا ونَكَالًا. وما أُخذ من أجرانِهِ ففيه القطعُ، إذا بلغ ما يُؤخَذُ من ذلك ثمَنَ المِجَنِّ"، قال: "يا رسول الله! واللُّقطةُ نجدُها في سبيل العامِرَةِ؟ "، قال: "عرِّفها حَوْلًا، فإن وُجد باغِيها فأدِّها إليه، وإلا فهي لك"، قال: "ما يُوجَد في الخَرِبِ العادِيِّ؟ "، قال: "فيه وفي الرِّكازِ: الخُمُسُ".
وأخرَجَهُ أحمدُ أيضًا (2/ 103) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ إِدريس، ثنا مُحمَّدُ بنُ إسحاق بسَنَدِه سواء، وليس عنده محلُّ الشَّاهد.
وسَنَدُه حَسَنٌ، لولا تدليسُ ابن إسحاقَ.
وله شاهدٌ مِن حديث ابن عُمَر مرفُوعًا: "مَن دَخَلَ حائطًا، فليأكل، ولا يَتَّخِذ خُبنَةُ".
أخرَجَهُ التِّرمذيُّ في "سُنَنه"(1287)، وفي "العِلل الكبير"(399)، وابنُ ماجَهْ (2301)، والبيهقِيُّ (5/ 359) مِن طريق يحيى بن سُليمٍ الطَّائفيِّ، عن عُبيد الله بن عُمَر، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر.
قال التِّرمذيُّ: "حديثُ ابن عُمَر حديثٌ غريبٌ، لا نعرِفُه من هذا الوجه، إلَّا من حديث يحيى بن سُليمٍ".
وآفَتُه يحيى بنُ سُليمٍ؛ فقد ضعَّفُوه في روايته عن عُبيد الله بن عُمَر، وهذا منها، ولذلك أَنكَرَهُ أبو زُرعةَ الرَّازيُّ - كما في "عِلل ابن أبي حاتمِ"(2495) -.
ونَقَلَ البيهقيُّ (9/ 359) عن ابن مَعِينٍ، أنَّهُ سُئِلَ عن هذا الحديث،
فقال: "غلطٌ"، وأنكَرَهُ البُخاريُّ أيضًا - كما في "عِلل التِّرمذيِّ" -.
فالمُعوَّلُ على حديثِ عبد الله بن عَمْرٍو. والله أعلم.
أمَّا معنى الحديث.
إنَّ مَن أصابته مجاعةٌ، فله أن يأكلَ من الثَّمَر المُعلَّق، بشرط ألا يحمل معه شيئًا.
والخُبْنَةُ - بضمِّ الخاء المُعجَمة، وسُكون الباء المُوحَّدة، ثم نونٌ - هي: مِعطَفُ الإزار، وطَرَفُ الثَّوب، أي: لا يأخذ منه في ثوبه. يُقال: "أخبنَ الرَّجلُ"، إذا خبَّأ شيئًا في خُبنةِ ثوبه، أو سراويله.
واللهُ أعلَمُ.
269 -
سُئلتُ عن حديثٍ: ذُكِر فيه جوازُ أن يأكل الرَّجلُ مع المرأة الأجنبية، على مائدةٍ واحدةٍ.
• قلتُ: لعلَّ السَّائلَ يقصد حديث أُمِّ الدَّرداء ..
قالت: أَتَانِي سلمانُ الفارسيُّ، يُسَلِّم عليَّ، وعليه عباءةٌ قَطوَانِيَّةٌ، مُرتَديًا بها، فطَرَحتُ له وِسادةً، فلم يُرِدْهَا، ولفَّ عباءَتَه، فجَلَسَ عليها، وقال:"بِحَسْبكِ! ما بلَّغَكِ المحلُّ، ثُمَّ حَمِد الله ساعةً، وكبَّرَ، وصلَّى على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قال: "أين صاحِبُك؟ "، يعني أبا الدَّرداء، فقلتُ: "هو في المسجد"، فانطَلَقَ إليه، ثُمَّ أَقبَلَا جميعًا، وقد اشترَى أبو الدَّرداء لحمًا بدرهمٍ، فهُو في يده مُعلَّقةٌ، فقال: "يا أُمَّ الدَّرداء! اخبِزي، واطبُخي"، ففَعَلنَا، ثُمَّ أتينا سلمانَ بالطَّعام، فقال أبو الدَّرداء: "كُل مع أُمِّ الدَّرداء، فإنِّي صائمٌ"، فقال سَلمانُ: "لا آكُلُ حتَّى تأكلَ"، فأفطر أبو الدَّرداء، وأَكَل معه، فلمَّا كانت السَّاعةُ التي يقوم فيها أبو الدَّرداء، ذَهَبٌ ليقوم، فأجلَسَه سلمانُ، فقال أبو الدَّرداء: "أتَنهانِي عن عِبادة ربِّي؟! "، قال سَلمانُ: "إنَّ لِعَينِكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليك نصيبًا"، فمَنَعَهُ، حتَّى إذا كان في وجه الصُّبح، قاما، فرَكَعَا ركْعاتٍ، وأَوْتَرا، ثُمَّ خَرَجا إلى صلاة الصُّبح، فذُكَر أمرُهما للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "مَا لِسَلمانَ! ثَكِلَتهُ أُمُّه! لقد أُشبعَ مِن العِلم".
أَخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(7637) قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ المَرْزُبَان الأَدَمِيُّ، نا الحَسَنُ بنُ جَبَلة، نا سعدُ بنُ الصَّلت، عن الأعمش، عن شِمْر بن عَطِيَّة، عن شهر بن حَوْشبٍ، عن أُمِّ الدَّرداء به.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن الأعمش إلَّا سعدُ بنُ الصَّلْت، تفرَّد به الحسَنُ بنُ جَبَلة".
• قلتُ: وهذا حديثٌ مُنكَرٌ؛ وشيخُ الطَّبَرانيِّ، وشيخُه: لَم أَعرِفهُما، وأعلَّ الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(9/ 343 - 344) الحديثَ بالثَّاني مِنهُما، قال:"والحسَنُ بنُ جَبَلة لم أعرفه".
وسعدُ بنُ الصَّلْت له مَنَاكِيرُ عن الأعمش.
وقد ثَبَت الحديثُ بسياقٍ مُقارِبٍ، وليس فيه هذه الزِّيادةُ المُنكَرة.
فأخرَجَه البُخاريُّ في "كتاب الصَّوم"(4/ 209)، وفي "أدب الصَّحيح"(10/ 534)، والتِّرمذيُّ (2413)، وابنُ خُزَيمَة (2144)، وأبو يَعلَى (898)، وابنُ حِبَّان (320)، والدَّارَقُطنِيُّ (2/ 176)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 285)، والبيهقِيُّ (4/ 276)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(1/ 188) عن أبي جُحيفَة، قال: آخَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بين سَلمانَ، وأبي الدَّرداء، فرأى أُمَّ الدَّرداء مُتبَذِّلَةً، فقال لها:"ما شَأنُكِ؟! "، قالت:"أَخُوك أبو الدَّرداء، ليس له حاجةٌ في الدُّنيا"، فجاء أبو الدَّرداء، فصَنَع له طعامًا، فقال له:"كُل! "، فقال:"إنِّي صائمٌ"، قال:"ما أنا بآكلٍ حتَّى تأكُلَ"، - قال: - فأَكَلَ، فلمَّا كان اللَّيلُ، ذَهَبَ أبو الدَّرداء يقُومُ، قال:"نَمْ! "، فلمَّا كان مَعَهُ آخرَ اللَّيل،
قال سَلمانُ: "قُم الآن"، فصَلَّيَا، فقال له سَلمانُ:"إِن لِرَبِّك عليك حقًّا، ولنَفسِك عليك حقًّا، ولأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ"، فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لَهُ، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَ سَلمانُ".
وأخرَجَهُ ابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(4/ 85) بنحوِه ببعض اختصارٍ، وفيه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"عُوَيمِرُ! سَلمانُ أعلَمُ منك! ".
وعُوَيمِرُ هو أبو الدَّرداء.
ولكن إسنادُهُ منقَطعٌ.
270 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذا أَتَى أَحَدُكُم أَهلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَن يَعُودَ، فَليَتَوَضَّأ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1/ 171)، وأبو عَوَانَة (1/ 280)، وأحمدُ (3/ 28)، والحُمَيدِيُّ (2/ 332)، وابنُ أبي شَيبَة (1/ 51/ 2)، وابنُ خُزَيمَة (1/ 110)، والمَحَامِليُّ في "الأمالي"(ق 2/ 1)، وسمَّوَيْهِ في "الفوائد"(ج 3/ ق 4/ 2)، وأبو نُعيمٍ في "الطِّبِّ"(ج 2/ ق 12/ 1)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 38) مِن طريق أبي المُتَوكِّل، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ مرفُوعًا.
271 -
سألني سائلٌ، فقال: وَرَدَ عليَّ إشكالٌ في فهم كلام أبي داوُد، تحت الحديث (1829)، قال: حدَّثَنا سُليمانُ بنُ حربٍ، حدَّثَنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: سمعتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقُول:"السَّرَاوِيلُ لِمَن لَا يَجِدُ الإِزَارَ، وَالخُفُّ لِمَن لَا يَجِدُ النَّعلَينِ".
قال أبو داوُد عَقِبَه: "هذا حديثُ أهل مَكَّة، ومَرجِعُهُ إلى البصرة، إلى جابر بن زيدٍ، والذي تفرَّد به منه: ذِكرُ السَّراويلِ، ولم يَذكُر القطع في الخُفِّ" انتهى. فأحتاج إلى شرح هذا الكلام. وأمَّا القطعُ، فقد وقفتُ عليه من "سُنَن النَّسَائيِّ" بإسنادٍ صحيحٍ، فهل أخطأ أبو داوُد بنفيه ذلك؟!
• قلتُ: كلامُ أبي داوُد رحمه الله مُشتَمِلٌ على مسألتين:
الأُولى: أنَّ جابر بن زيدٍ تفرَّد عن ابن عبَّاسٍ، بذكر السَّراويل.
والثَّاني: أنَّه لم يقع ذِكرٌ لقطع الخُفِّ في حديث جابر بن زيدٍ.
* أمَّا المسألةُ الأُولى ..
فإنَّ جابرَ بنَ زيدٍ، ويُكْنَى أبا الشَّعثاء، لم يتفرَّد بذِكر السَّراويل عن ابن عبَّاسٍ، كما قال أبو داوُد رحمه الله ..
بل تابعه سعيدُ بنُ جُبيرٍ، فرواه عن ابن عبّاسٍ مرفُوعًا:"إِذَا لم يَجِد المُحرِمُ إزارًا، فلْيَلْبَس سراويلَ، ومن لم يَجِد نعلينِ، فلْيَلْبَس خُفَّين".
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12407)، وفي "الأوسط" (80) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ يحيى بن خالد بن حَيَّانَ الرَّقِّى، ثنا يحيى بنُ سُليمانَ الجُعفِيُّ، ثنا يحيى بنُ عبد الملك بن أبي غَنِيَّةَ، ثنا أبو إسحاق الشَّيبَانِيُّ، عن سعيد بن جُبيرٍ بسَنَدِه سواء.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن الشَّيبَانِيِّ إلَّا يحيى بنُ عبد المَلِك، وأبو شهابٍ الحَنَّاطُ".
• قلتُ: وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ؛ وشيخُ الطَّبَرانيِّ ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ في "تاريخ الإسلام"، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
ويحيى بنُ سُليمان الجُعفِيُّ وَثَّقه الدَّارَقُطنِيُّ، وابنُ حِبَّان، وقال:"رُبَّما أغرب"، وقال أبو حاتمٍ:"شيخٌ"، وقال مَسلَمَةُ بنُ قاسمٍ:"لا بأس به، وكان عند العُقَيليِّ ثقةً، وله أحاديثُ مناكيرُ". أمَّا النَّسائِيُّ فقال: "ليس بثقةٍ".
وقد اختُلِفَ في إسناده ..
فرواه عليُّ بنُ مُسهِرٍ، عن أبي إسحاق الشَّيبَانِيِّ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ موقُوفًا.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَةَ في "المُصنَّف"(4/ 100).
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
فالصَّوابُ أن رواية الشَّيبانيِّ، عن سعيد بن جُبيرٍ موقُوفةٌ.
ثُمَّ وقفتُ له على وجهٍ آخرَ عن سعيد بن جُبيرٍ ..
أخرَجَهُ ابنُ الأعرابيِّ في "مُعجَمه"(316) قال: نا مُحمَّدُ بنُ عيسى بن أبي قُماشٍ، قال: سمعتُ أبا الوليد، قال: سمعتُ شُعبَة، يقولُ: سمعتُ عَمْرَو بنَ دينارٍ، يقولُ: سمعتُ سعيد بن جُبيرٍ، يقولُ: سمعتُ عبد الله بن عبَّاسٍ، يقولُ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولُ في المُحرِم:"إِذَا لَم يَجِد النَّعلَين، لبِس الخُفَّين، ولْيَقطَعهُما، وإذا لم يَجِد الإزارَ، لَبِس السَّراويل".
قال شُعبة: "أَوَّه! "، قال ابنُ أبي قُماشٍ: فأخبَرَنِي بعضُ أصحابنا، قال: قلتُ لأبي الوليد: "لم تأوَّه شُعبةُ؟! "، قال:"تأوَّه على ابن عبَّاسٍ، حين قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان صغيرًا".
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وابنُ أبي قُماشٍ وثَّقَه الخطيبُ في "تاريخ بغداد"(2/ 400). وباقي رجال الإسناد أئمَّةٌ مشاهيرُ.
* وأمَّا المسألة الثَّانيةُ ..
فتتعلَّقُ بقول أبي داوُد: "ولم يَذكُر القطعَ في الخُفِّ"، يعني جابرَ بنَ زيدٍ في روايته.
ولكن أخرَجَهُ النَّسَائيُّ (5/ 135) قال: أخبَرَنا إسماعيلُ بنُ مسعُودٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، قال: أنبأنا أيُّوبُ، عن عَمْرٍو، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبَّاسٍ: سمعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقولُ:"إذا لم يَجِد إزارًا، فلْيَلْبَس السَّراويل، وإذا لم يَجِد النَّعلين، فلْيَلْبَس الخُفَّين، ولْيَقْطَعهُما أسفل من الكَعبَين".
فهذا الذي عناه السَّائلُ، وقال عن هذه الرِّواية: إسنادُها صحيحٌ.
• قلتُ: كذا رواه إسماعيلُ بنُ مَسعُودٍ، عن يزيد بن زُريعٍ.
وخالَفَهُ أحمدُ بنُ عَبدةَ الضَّبِّيُّ، وهو أَمثَلُ مِنهُ، فرواه عن يزيد بن زُريعٍ بهذا الإسناد سواء، ولم يَذكُر القطعَ في الخُفِّ.
أخرَجَهُ التِّرمذيُّ (834) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ عَبدةَ بهذا.
وتابَعَهُ صالحُ بنُ حاتم بن وَردَانَ، ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12811) قال: حدَّثَنا الحُسينُ بنُ إسحاق التُّستَرِيُّ، ثنا صالحُ بنُ حاتمٍ.
وهذا سَنَد جيِّدٌ، وصالحٌ صدوقٌ، مِن شُيوخ مُسلِمٍ، وثَّقَه ابنُ حِبَّان، وقال أبو حاتمٍ:"شيخٌ"، وقال ابنُ قانعٍ:"صالحٌ".
ووافق يزيدَ بنَ زُريعٍ على عدم ذِكرِ القطعِ: إسماعيلُ بنُ عُليَّة ..
فرواه عن أيَّوب السَّختِيَانِيِّ بهذا.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1178/ 4) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ حُجرٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّة بهذا.
وتايَعَهُ أيُّوبُ بنُ مُحمَّدٍ الوَزَّانُ، ثنا ابنُ عُلَيَّة بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ النَّسَائيُّ (5/ 133) ..
وابنُ حِبَّان (ج 9/ رقم 3785) قال: أخَبَرَنا الحُسينُ بنُ عبد الله بن يزيد القَطَّانُ بالرَّقةِ، قالا: ثنا أيُّوبُ بنُ مُحمَّدٍ الوَزَّانُ به.
وتابعه ابنُ أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(4/ 100) قال: ثنا ابنُ عُليَّة بهذا الإسناد.
وقد رَواهُ جَمعٌ مِن أصحاب عَمْرو بن دينارٍ، فلم يَذكُرُوا القطع في الخُفِّ، مِنهُم:
1 - شُعبةُ بنُ الحَجَّاج:
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "جزاء الصَّيد"(4/ 57) ..
والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(2/ 133) قال: حدَّثَنا ابنُ مرزُوقٍ - وهو إبراهيم - ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12814) قال: حدَّثنا عُثمان بن عُمَر، قال ثلاثتهم: ثنا أبو الوليد الطَّيَالِسِيُّ هشامُ بنُ عبد المَلِك، ثنا شُعبةُ، عن عَمْرو بن دينارٍ بهذا.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "الحجِّ"(3/ 573) ..
وابنُ حِبَّان (ج 9/ رقم 3786) قال: أخبَرَنا الفضلُ بنُ الحُباب الجُمَحِيُّ ..
والطَّبَرانيُّ (12814) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ يحيى القَزَّازُ، قال ثلاثتهم: ثنا حفصُ بنُ عُمَر الحَوضِيُّ، ثنا شُعبةُ مثلَه.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "جزاء الصَّيد"(4/ 58) ..
والبيهقيُّ (5/ 50) مِن طريق جعفر بن مُحمَّدٍ القَلَانِسِيُّ، قالا: ثنا آدمُ بنُ أبي إياسٍ، ثنا شُعبةُ.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ (1178/ 4) ..
والنَّسَائيُّ في "المُجتبَى"(8/ 205 - 206)، وفي "الكُبرَى"(5/ 482/ 9674)، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ.
وأخرَجَهُ أحمدُ (1/ 285) قال: ثنا مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ، ثنا شعبةُ بهذا.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ، قال: حدَّثَنا أبو غسَّانَ الرَّازِيُّ ..
وأحمدُ (1/ 279)، قالا: ثنا بَهزُ بنُ أَسَدٍ، ثنا شُعبَةُ بهذا.
وأخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ (2/ 133) من طريق سُليمان بن حربٍ، وحجَّاج بن مِنهَالٍ ..
والطَّبَرانيُّ (12814) من طريق عبد السَّلام بن مُطَهَّرٍ ..
والطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(2610)، قالوا: ثنا شُعبةُ بهذا.
2 - سُفيانُ الثَّوريُّ:
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "اللِّباس"(10/ 272) ..
والنَّسَائيُّ في "الكُبرَى"(5/ 483) قال: أخبَرَني عَمْرُو بنُ منصُورٍ ..
والطَّحَاوِيُّ (2/ 133) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ شَيبَة ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12809) قال: حدَّثنا عليُّ بنُ عبد العزيز، قالُوا: ثنا أبو نُعيم - هو الفضلُ بن دُكين -، ثنا سُفيانُ الثَّوْريُّ، عن عَمْرو بن دينارٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "اللِّباس"(10/ 308) ..
والدَّارَقُطنِيُّ (2/ 230) من طريق ابن زَنجَوَيْهِ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ يُوسُف الفِريابِيُّ، ثنا الثَّوْريُّ بهذا.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ، من طريق وكيعٍ، ثنا الثَّوْريُّ بهذا.
3 - سُفيانُ بنُ عُيَيْنَة:
أخرَجَهُ أحمدُ (1/ 221)، وابنُ أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(4/ 100)،
وعنه مُسلِمٌ (1178/ 4)، والحُميدِيُّ في "المُسنَد"(469)، والشَّافِعِيُّ (1/ 302)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ (5/ 50)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(7/ 238)، قال أربَعَتُهم: ثنا سُفيانُ بنُ عُيَينَة، عن عَمْرو بن دينارٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (2931) قال: حدَّثَنا هشامُ بنُ عَمَّارٍ، ومُحمَّدُ بنُ الصَّبَاح ..
وأبو يَعلَى (ج 4/ رقم 2395) قال: حدَّثَنا أبو خَيثَمَة - هو زُهيرُ بنُ حربٍ - ..
وابنُ الجارُود في "المُنتَقَى"(417) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ خَشرَمٍ ..
والطَّحَاويُّ (2/ 133)، والبَيهقِيُّ (5/ 50) من طريق إبراهيم بن بَشَّارٍ الرَّمَادِيِّ ..
والدَّارَقُطنِيُّ (2/ 230) من طريق عبد الجبَّار بن العلاء ..
والطَّحاوِيُّ، من طريق سعيد بن منصُورٍ، قالوا: ثنا سُفيانُ بنُ عُيَينَة بهذا الإسناد.
4 - حمَّادُ بنُ زيدٍ:
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1178/ 4) والنَّسائيُّ (5/ 132 - 133)، والتِّرمذيُّ (834/ 2)، قالوا: ثنا قُتيبَةُ بنُ سعيدٍ ..
ومسلمٌ أيضًا، قال: حدَّثَنا يحيى بنُ يحيى، وأبو الرَّبيع الزَّهرانِيُّ ..
وابنُ خُزَيمةَ (4/ 199/ 2681)، قال: حدَّثنا أحمدُ بن عَبدَة، وعمران بن مُوسَى القَزَّاز، وأحمدُ بنُ المِقدام العِجليُّ ..
والطَّيَالِسِيُّ (2610)، وابنُ حِبَّان (ج 9/ رقم 3781) من طريق إبراهيم بن الحَجَّاج ..
والطَّحَاوِيُّ (2/ 133) من طريق سعيد بن منصُورٍ ..
والطَّبَرانيُّ (ج 12/ رقم 12810) من طريق أبي النُّعمان عارمٍ، قالوا: ثنا حمَّاد بن زيدٍ، عن عَمْرو بن دينارٍ بهذا.
5 - ابنُ جُريجٍ:
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1178/ 4) من طريق عيسى بنُ يُونُس ..
والدَّارِمِيُّ (1/ 363)، والطَّحاوِيُّ في "شرح المعاني"(2/ 133) عن أبي عاصمٍ النَّبيل ..
وأحمدُ (1/ 228)، ومن طريقِهِ الطَّبَرانيُّ (12815) قال: حدَّثَنا يحيى بنُ سعيدٍ ..
وأحمدُ أيضًا (1/ 336 - 337) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بنُ بكرٍ، ورَوْحُ بن عُبادَةَ، قالُوا: ثنا ابنُ جُريجٍ، عن عمرو بن دينارٍ بهذا الإسناد.
وقد صرَّح ابنُ جُريجٍ بالتَّحديث.
6 - هُشَيمُ بنُ بَشيرٍ:
أخرَجَه أحمدُ (1/ 215)، وابنُ أبي شيبة (4/ 100)، قالا: ثنا هُشيمٌ، عن عَمْرو بن دينارٍ بسَنَده سواء.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ، قال: حدَّثَنا يحيى بنُ يحيى ..
والطَّحاويُ (2/ 133) من طريق سعيد بن منصُورٍ، قالا: ثنا هُشيمٌ بهذا الإسناد.
7، 8 - سعيدُ بنُ زيدٍ، وأَشعَثُ بنُ سَوَّارٍ:
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(12812، 12813).
9 - حَجَّاجُ بنُ أَرطَاةَ:
أخرَجَهُ ابنُ حِبَّان (3782) من طريق حمَّاد بن زيدٍ عنه.
• قلتُ: فها أنت قد رأيتَ - أراك اللهُ الخيرَ - أن أصحابَ يزيدَ بن زُريعٍ، وأصحابَ أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، وأصحابَ عَمْرِو بن دينارٍ، كلَّهُم رَوَوْا هذا الحديثَ، فلم يَذكُر واحدٌ مِنهُم قطع الخُفِّ، وهذا فيما يَتَعَلَّقُ بحديث ابن عبَّاسٍ، الذي يدورُ كَلَامُنا عليه.
أمَّا قَطعُ الخُفِّ، فقد ثَبَت من حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما، كما في "الصَّحيحين"، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله رجُلٌ:"ما يَلبَسُ المُحرِم؟ "، قال:"لا يَلبَسُ القميصَ، ولا العِمَامَة، ولا السَّراوِيلَ، ولا البُرْنُسَ، ولا ثوبًا مَسَّه الوَرْسُ، ولا الزَّعفَرَانُ، فإِن لم يَجِد النَّعلَين، فلْيَلْبَس الخُفَّين، ولْيَقطَعهُما، حتَّى يَكُونَا تحت الكَعبين".
والله أعلم.
272 -
سُئلتُ عن صِحَّة ومعنى حديث: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بَيع حَبَلِ الحُبْلَةِ.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مالكٌ في "المُوَطَّإِ"(2/ 653 - 654/ 62)، والبُخاريُّ (4/ 356، 425)، ومُسلِمٌ (1514)، وأبو داوُد (3380، 3381)، والنَّسائيُّ (7/ 293)، والتِّرمِذيُّ (1229)، وأحمدُ (1/ 56، 2/ 5، 63، 76، 80، 108، 144، 155)، وابنُ الجارُود في "المُنتقَى"(591) من طريق نافعٍ، عن ابن عُمَر.
وتابَعَهُ سعيدُ بنُ جُبيرٍ، عن ابن عُمَر مثله.
أخرَجَهُ النَّسائِيُّ (7/ 293)، وابنُ ماجَهْ (2197)، وأحمدُ (2/ 11)، والحُميدِيُّ (689).
وفي الباب عن ابن عبَّاس، عند النَّسائيِّ، وأحمد.
أمَّا معنى الحديثِ ..
فقال الخَطَّابِي في "معالم السُّنَن"(3/ 89): "و" حَبَلُ الحُبْلَةِ" هو نِتاج النِّتَاج، وقد جاء تفسيرُه في الحديث، وهو أن يُنتِجَ النَّاقَةُ بطنَهَا، ثُمَّ تَحمِل التي نُتِجَت. وهذه بيوعٌ كانُوا يَتَبَايَعُونَهَا في الجاهلية، وهي كُلُّها يدخُلُ الجهلُ فيها والغَرَرُ، فنُهُوا عنها، وأُرشِدُوا إلى الصَّواب".
والله أعلَمُ.
273 - سألني سائَلٌ، فقال: خَطَب بنا خطيبُ مَسجِدنا، فذَكَر حديثًا طويلًا، ظلَّ قُرابة سَنةٍ كاملةٍ يشرح فيه، وهو عن أنَس بن مالكٍ، وأوَّلُه: "اكتُم سِرِّي تَكُن مُؤمِنًا، وَأَسبغ الوُضُوءَ يَطُل عُمُرُك
…
"، فهل هو صحيحٌ، أم لا؟
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ بتمامه، وإن كان لبعض فقَرَاته شواهدُ صحيحةٌ.
وقد أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5991) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عمران النَّاقِطُ البَصرِيُّ ..
وأخرَجَه في "الصغير"(856) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ صالح بن الوليد النَّرْسِيُّ، قالا: ثنا مُسلِمُ بنُ حاتمٍ الأنصاريُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله الأنصاريُّ، عن أبيه عبد الله بن المُثَنَّى، عن عليِّ بن زيد بن جُدعَانَ، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قَدِمَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا يومئذٍ ابنُ ثمان سنين، فذَهَبَت بي أُمِّي إليه، فقالت:"يا رَسُولَ الله! إنَّ رِجال الأنصارِ ونساءَهم قد أَتحَفُوكَ غَيرِي، ولم أَجِد ما أُتحِفُك، إلَّا ابني هذا، فاقبل مِنِّي، يَخدُمُك ما بدا لك"، - قال: - فَخَدَمتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَشرَ سِنين، فلَم يَضْرِبني ضربةً قطُّ، ولم يسُبَّنِي، ولم يَعبَس في وَجهِي، وكان أوَّلَ ما أوصَانِي به، أن قال: "يا بُنَيَّ! اكتُم
سِرِّي تَكُن مُؤمنًا"، فما أخبرتُ بِسِرِّه أحدًا، وإن كانت أُمِّي، وأزواجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسأَلنَنِي أن أُخبِرَهن بِسِرِّه، فلا أُخبِرُهُنَّ، ولا أُخبرُ بِسِرِّه أحدًا أبدًا، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! أَسبغِ الوُضُوء يزِدْ في عُمُرك، ويُحبُّك حافظاك"، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! إِن استَطَعتَ أن لا تَبِيت إلا على وُضُوءٍ، فافعل؛ فإنَّه من أتاه الموتُ وهو على وُضُوءٍ أُعطي الشَّهادةَ"، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! إن استطعت أن لا تَزال تُصَلِّي فافعَل؛ فإنَّ الملائكة لا تزالُ تُصَلِّي عليك ما دُمتَ تُصَلِّي"، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! إيَّاك والالتفاتَ في الصَّلاة؛ فإنَّ الالتفاتَ في الصَّلاة هَلَكَةٌ، فإن كان لا بُدَّ ففي التَّطَوُّع، لا في الفريضة"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إذا رَكعتَ، فضَع كفَّيكَ على رُكبَتَيك، وافرُج بين أَصَابِعك، وارفع يَدَيك عن جَنبيك، فإذا رَفعتَ رأسَك من الرُّكُوع، فكُن لكُلِّ عُضوٍ موضعَهُ؛ فإنَّ الله لا يَنظُر يومَ القيامة إلى مَن لا يُقيمُ صُلْبَهُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ"، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! إذا سَجَدت، فلا تَنقُر كما يَنقُر الدِّيكُ، ولا تُقْعِ كما يُقْعِي الكَلبُ، ولا تَفتَرِش ذِرَاعَيكَ افتراشَ السَّبعِ، وافرش ظَهرَ قَدَمَيكَ الأرضَ، وضع إِلْيَتَيكَ على عَقِبَيك؛ فإنَّ ذلك أيْسَرُ عليك يومَ القيامة في حسابك"، ثمَّ قال: "يا بُنيَّ! بَالِغ في الغُسل من الجَنابة؛ تَخرُج من مُغتَسَلِك ليس عليك ذنبٌ ولا خطيئةٌ"، قلتُ: "بأبي وأمي! ما المُبالَغَةُ؟ "، قال: "تَبُلُّ أُصُول شَعرِك، وتُنْقي البَشَرَةَ"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ، إن قَدَرتَ أن تَجعَل من صَلَوَاتِك في بيتك شيئًا فافعل؛ فإنَّه يَكثُرُ خيرُ بيتك"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إذا دَخَلتَ على أهلِك، فَسَلِّم على أهلِك؛ يَكُن برَكةً
عليك وعلى أهل بيتك"، ثُمَّ قال: "يا بُنيَّ! إذا خَرَجتَ مِن بيتك، فلا يَقَعنَّ بَصَرُك على أحدٍ من أهل القِبلة إلَّا سَلَّمتَ عليه؛ تَرجعُ وقد زِيدَ في حسناتك"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إنَّ قَدَرت أن تُمسِي وتُصبِحَ، وليس في قلبك غِشٌّ لأحدٍ، فافعل"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إذا خَرَجتَ من أَهلِك، فلا يَقَعَنَّ بَصَرُك على أحدٍ من أهل القِبلة إلَّا ظَنَنتَ أن له الفَضلَ عليك"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إن حَفِظتَ وَصِيَّتِي، فلا يَكُونَنَّ شيءٌ أحبَّ إليك من الموت"، ثُمَّ قال لي: "يا بُنيَّ! إنَّ ذلك مِن سُنَّتِي، ومَن أَحْيَا سُنَّتِي فَقَد أَحَبَّني، وَمَن أَحَبَّني كان مَعِي في الجَنَّة".
وأخرَجَهُ أبو يَعلَى (3624) قال: حدَّثَنا يحيى بنُ أيُّوبَ، ثنا مُحمَّدُ بن الحَسَن بن أبي يزيدَ الصُّدَائِيُّ، ثنا عبَّادٌ المِنْقَرِيُّ، عن عليِّ بن زيد بن جُدعَانَ بهذا الحديث بطوله.
قال الطَّبَرانيُّ في "الأوسط": "لَم يَروِ هذا الحديثَ بهذا التَّمَام عن سعيد بن المُسَيَّب إلَّا عليُّ بن زيدٍ، ولا عن عليّ بن زيدٍ إلَّا عبدُ الله بنُ المُثَنَّى، تَفَرَّد به مُسلِمُ بنُ حاتمٍ، عن الأنصاريِّ، عن أبيه، وتَفَرَّد به مُحمَّدُ بنُ الحَسَن بن أبي يزيد، عن عبادٍ المِنْقَرِيِّ".
• قلتُ: فالحاصل، أنَّ هذا الحديث يَروِيه عليُّ بنُ زيد بن جُدعان، عن سعيد بن المُسيَّب، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، ورواه عن عليّ بن زيدٍ اثنان:
الأوَّل: هو عبدُ الله بنُ المُثَنَّى.
والثَّاني: هو عبَّادٌ المِنْقَرِيُّ.
أمَّا الطَّريق الأوَّل ..
فشيخُ الطَّبَرانيِّ مُحمَّدُ بنُ صالحٍ لم أَجِد له ترجمةً.
ومُسلِمُ بنُ حاتمٍ الأنصاريُّ، فقد وَثَّقَه الطَّبَرانيُّ في "الصَّغير"، بعد أن روى له هذا الحديثَ. ووَثَّقَهُ التِّرمذيُّ، وابنُ حِبَّان، وقال:"رُبَّما أخطأ".
ومُحمَّدُ بنُ عبد الله الأنصاريُّ مِن كبار شُيُوخ البُخاريِّ، ووَثَّقَه ابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، وابنُ حِبَّان، وقال أبو حاتم، وابنُ سعدٍ:"صَدُوقٌ"، ووَصَفَهُ أبو حاتمٍ بالإِمَامَةِ، وهذا تزكيةٌ عظيمةٌ مِن مِثل أبي حاتمٍ الرَّازيِّ، المَعرُوف بتَشَدُّدِه، وقال أبو داوُد:"تَغَيَّر تغيُّرًا شديدًا"، ولعلَّ أبا داوُد قال ذلك بسبب رِوايَته عن حبيب بن الشَّهيد، عن ميمُون بن مِهران، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتَجَمَ وهو مُحرِمٌ صائمٌ، فقد أَنكرَه عليه مُعاذُ بنُ معاذٍ، ويحيى القَطَّانُ. وضعَّفَهُ أحمدُ أيضًا.
وأمَّا أبُوه عبدُ الله بنُ المُثَنَّى، فقد قال ابنُ مَعِينٍ، وأبو زُرعَة، وأبو حاتمٍ:"صالحٌ". ولَيَّنَه النَّسَائيُّ.
وأمَّا الطَّريق الثَّاني ..
فلا يَصِحُّ أيضًا؛ ومُحمَّدُ بنُ الحَسَن ضَعَّفه أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ، وأبو داوُد، وتَرَكَه النَّسائِيُّ، وغيرُه، بل كَذَّبه ابنُ مَعِينٍ، وأبو داوُد.
وشَيخُه عبَّاد بن مَيسَرَة المِنْقَرِيُّ ضَعَّفه أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ في رواية أبي داوُد، ومشَّاه ابنُ مَعِينٍ في روايةٍ.
والطَّرِيقَان يلتَقِيَان في عليِّ بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيفٌ.
وأخرَجَهُ التِّرمذِيُّ (589، 2678، 2698) من الوجه الأوَّل، عن
شَيخِه مُسلِم بن حاتمٍ الأنصاريِّ ببعضه، وقال:"حَسَنٌ غريبٌ".
وفي حُكمِهِ هذا نظرٌ؛ لأنَّهُ رَوَى في الموضع الثَّاني عن شُعبة، أنَّهُ قال:"حدَّثَنا عليُّ بنُ زيدٍ، وكان رَفَّاعًا. ولا نَعرِفُ لسعيد بن المُسيَّب، عن أنسٍ روايةً إلَّا هذا الحديث بطُولِه"، قال:"وقد رَوَى عبَّادُ بنُ مَيسَرة المِنْقَرِيُّ هذا الحديث، عن عليِّ بن زيدٍ، عن أنَسٍ، ولم يَذكُر فيه: "عن سعيد بن المُسيَّب"، وذَاكَرتُ محُمَّدَ بنَ إسماعيل - هُو البُخاريُّ - به، فَلَم يَعرِفهُ، ولم يَعرِف لسعيد بن المُسيَّب، عن أنسٍ هذا الحديثَ، ولا غيرَه، ومات أنَسُ بنُ مالكٍ سنة ثلاثٍ وتِسعين، ومات سعيدُ بنُ المُسيَّب بعدَه بسَنَتَين، مات سنة خمس وتِسعين".
وأخرَجَهُ الخطيبُ في "التَّلخيص"(1/ 542 - 543)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(1/ 133)، وابنُ الجوزِيِّ في "الموضُوعات"(3/ 187)، من طريق بِشر بن إبراهيم، عن عبَّاد بن كَثيرٍ، عن عبد الرَّحمن بن حَرمَلَةَ، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أنَسٍ مرفُوعًا بأَكثَرِه.
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ لضعف بِشرٍ، وعبَّادٍ، وعبدِ الرَّحمن، مع ما تَقَدَّم مِن قول البُخارِيِّ الذي يُشِيرُ إلى الانقطاع في سَنَده بين سعيد بن المُسَيَّب، وأنَسٍ.
ورَوَاهُ يزيدُ بنُ هارُون، ثنا العَلَاءُ أبو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، قال: سمِعتُ أنَسًا مرفُوعًا بأكثَرِه.
أخرَجَهُ أحمدُ بنُ مَنِيعٍ في "مُسنَده" - كما في "المَطَالِب العالية"(3127) -، وأبو اللَّيث السَّمَرْقَندِيُّ في "تَنبِيه الغافلين"(ص 113).
وأخرَجَهُ ابنُ سَعدٍ في "الطَّبَقات"(7/ 12)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(1/ 249)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(2/ 203) من طريق يزيد بن هارُون بهذا الإسناد ببعضه مِن أوَّلِه.
وضعَّفَه البُوْصِيرِيُّ في "إِتحاف الخِيَرة"(9/ 542) بالعَلَاءِ أبي مُحَمَّدٍ.
والصَّواب أن الحديثَ باطلٌ موضوعٌ من هذا الوَجه؛ لأنَّ العَلاء هذا قال فيه ابنُ المَدِينِيِّ: "كان يَضَعُ الحديثَ"، وترَكَهُ أبو حاتمٍ والدَّارَقُطنِي، وقال البُخاري:"مُنكَرُ الحديث"، وبالجُملة فهُو أَحَدُ الهَلكَى.
وله طُرُقٌ أُخرَى كُلُّها ساقطةٌ؛ ولذلك قال العُقَيليُّ في "الضُّعَفاء"(1/ 119): "ولهذا الحديث عن أنَسٍ طُرقٌ، ليس منها وَجهٌ يَثبُتُ"، وقال في مَوضعٍ آخر (1/ 148):"ليس لهذا المتن عن أنسٍ إسنادٌ صحيحٌ"، وقال في موضعٍ ثالثٍ (2/ 3):"وفي هذا الباب أسانيدُ لَيِّنةٌ".
وقال ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(1/ 52): "سألتُ أبي، وأبا زُرعة، عن أحاديثَ تُروَى عن أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في: "إسباغ الوُضُوء يَزِيدُ في العُمر"، وذَكَرتُ لَهُما الأسانيدَ المروِيَّة في ذلك، فضعَّفَاها كُلَّها، وقالا: ليس في: "إسباغ الوُضُوء يَزِيدُ في العُمر" حديثٌ صحيحٌ" انتهَى.
274 -
سُئلتُ عن حديثٍ: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كُنَّا نُصَلِّي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المَغرِبَ، ثُمَّ نَرجِعُ إلى مَنَازِلِنا ونحنُ نُبصِر مَوَاقِع النَّبْلِ.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ أحمدُ (3/ 303، 369، 370) - واللفظُ له -، وعَبْدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب"(1035)، وابنُ أبي شيبة (1/ 319)، وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(2056، 2091)، وأبو يَعلَى (2048)، والبَزَّارُ (374 - كشف)، وابن المُنذِر في "الأوسط"(1011) من طُرُقٍ عن سُفيان الثَّوريِّ، عن عبد الله بن مُحمَّد بن عَقِيلٍ، عن جابرٍ، قال:"الظُّهرُ كاسمِها، والعصرُ بيضاءُ حيَّةٌ، والمغرِبُ كاسمها، وكُنَّا نُصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المَغربَ، ثُمَّ نأتي مَنازِلَنا وهو على قدر مِيلٍ، فَنَرَى مواقِع النَّبل، وكان يُعَجِّلُ العِشاءَ ويُؤخِّرُ، والفَجرُ كاسمِها، وكان يُغَلِّسُ بها".
واقتَصَر بعضُ المُخرِّجين على بعضه.
وهذا سَنَدٌ جَيِّدٌ، وابنُ عَقِيل فيه مقالٌ يسيرٌ.
قال الهَيثَميُّ في "المَجمَع"(1/ 310): "فيه عبدُ الله بنُ مُحمَّد بن عقيلٍ، وهو مُختلَفٌ في الاحتجاج به، وقد وَثَّقه التِّرمذِيُّ، واحتجَّ به أحمدُ وغيرُه".
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُ له طريقًا عن جابرٍ إلَّا هذا".
كذا قال! وله أكثرُ من طريقٍ ..
منها ما: أخرَجَه الطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(1771) ..
والشَّافِعيُّ في "الأمِّ"(1/ 74)، وفي "المُسنَد"(158)، ومِن طريقِه البيهقيُّ في "المَعرِفة" (2/ 196) قال: ثنا ابنُ أبي فُدَيكٍ ..
وأحمدُ (3/ 382) قال: حدَّثَنا يزيدُ بنُ هارون ..
وابنُ خُزَيمَةَ (337) مِن طريق عُبيد الله بن عبد المَجِيد ..
والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(1/ 213) من طريق أسد بن مُوسَى، قالوا: ثنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن المَقبُرِيِّ، عن القَعقَاع بن حكيمٍ، عن جابر بن عبد الله، قال: كُنَّا نُصَلِّي مع رسُول الله صلى الله عليه وسلم المغربَ، ثُمَّ نأتي بني سلَمَة، ونَحنُ نُبصرُ مواقعَ النَّبْل.
وسَنَدُهُ صحيحٌ.
ومنها ما: أخرجه عَبْدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب"(1128) ..
والبزَّارُ (572 - كشف) قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ مَعمَرٍ، قالا: أخبَرَنا يَعلَى بنُ عُبيدٍ، ثنا أبو بكرٍ المَدَنِيُّ، عن جابرٍ، قال: كُنَّا نُصَلِّي مع رسُول الله صلى الله عليه وسلم المغربَ، ونَحنُ نَنظُر إلى السَّدَفِ.
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ لضعف أبي بكرٍ المَدَنِيِّ الفضلِ بن مُبَشِّرٍ، فقد ضَعَّفه ابنُ مَعِينٍ والنَّسائِيُّ وأبو حاتمٍ وغيرُهم، وقال ابنُ عَدِيٍّ:"له عن جابرٍ دُون العَشَرة، وعامَّتُها لا يُتابَعُ عليها".
أمَّا الهَيثَميُّ فقال (2/ 82): "أبو بكرٍ المَدَنِيُّ مجهولٌ"!!
ومنها ما: أخرَجَهُ ابنُ المُنذِر في "الأوسط"(2/ 368) قال: حدَّثَنا الرَّبِيعُ بنُ سُليمان، قال: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرَنِي أُسامةُ، عن مُحمَّد بن عمرو بن حَلْحَلَةَ الدِّيَلِيُّ، عن وهب بن كَيسَانَ، أنَّهُ سمع جابر بن عبد الله، يقولُ: كُنَّا نُصَلِّي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المغرب، ثُمَّ نَرجِعُ، فنَتَنَاضَلُ، حتَّى نَبلُغ مَنازلَنا في بني سَلَمَة، فنَنظُر إلى مواقع نَبلِنا من الإِسفَارِ.
وهذا سَنَدٌ صالحٌ، وأُسامةُ بنُ زيدٍ فيه مقالٌ.
ومنها ما: أخرَجَه أحمدُ (3/ 331) قال: حدَّثَنا أبو أحمد، ثنا عبدُ الحميد، عن عُقبة بن عبد الرَّحمن، عن جابرٍ، قال:"كُنَّا نُصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغربَ، ثُمَّ نرجِعُ إلى بني سَلَمة، فَنَرَى مواقع النَّبل".
وعُقبةُ بنُ عبد الرَّحمن لم يُوَثِّقه إلَّا ابنُ حِبَّان (5/ 227)، ولم يَروِ عنه إلَّا عبدُ الحَميد بنُ يزيد. والله أعلم.
ومنها ما: أخرَجَه الشَّافِعِيُّ في "الأمِّ"(1/ 74)، وفي "المُسنَد"(157)، ومِن طريقِه البَيهَقِيُّ في "المَعرِفة"(2/ 195)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة" (2/ 216) قال: أخبَرَنا إبراهيمُ بنُ مُحَمَّدٍ، عن مُحمَّد بن عمرِو بن عَلقَمةَ، عن أبي نُعَيم، عن جابر، قال:"كُنَّا نُصلِّي المغربَ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَخرجُ نتنَاضَلُ حتى ندخُل بُيوتَ بني سَلمَة ننظُرُ إلى مواقِعِ النَّبل من الإِسفار".
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وإبراهيمُ هو ابنُ مُحمَّد بن أبي يحيى الأسلَمِيُّ، وهو مَترُوكٌ، أحسَنَ الشَّافِعِيُّ به الظَّنَّ؛ لأنَّه سمِع منه وهُو صغيرٌ، كما قال ابنُ حِبَّان وغيرُه. وللحديث شواهدُ عن جماعةٍ من الصَّحابَة رضي الله عنهم.
275 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذا فَعَلَت أُمَّتِي خَمسَ عَشرَةَ خَصلَةً، حَلَّ بِهَا البَلَاءُ"، قالوا:"وما هُنَّ، يا رسُول الله؟ "، قال:"إِذَا كانَ المَغنَمُ دُوَلًا، والأَمَانَةُ مَغنَمًا، وَالزَّكاةُ مَغرَمًا، وأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوجَتَةُ وَعَقَّ أُمَّه، وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أبَاهُ، وَارتَفَعَت الأَصوَاتُ فِي المَسَاجِدِ، وَكانَ زَعِيمُ القَومِ أَرذَلَهُم، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الخُمُورُ، وَلُبسَ الحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ القِينَاتُ والمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذه الأمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيرَتَقِبُوا عِندَ ذَلِكَ رِيحًا حَمرَاءَ، أَو خَسفًا وَمَسخًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ، كما قال الدَّارقُطنِيُّ.
أخرَجَهُ التِّرمذِيُّ (2210)، ومِن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات" (2/ 367) قال: حدَّثَنا صالحُ بنُ عبد الله التِّرمذِيُّ ..
وابنُ حِبَّان في "المجروحين"(2/ 207) من طريق قُتَيبَة بن سعيدٍ، والرَّبيع بن ثعلبٍ ..
والخَطِيبُ في "تاريخ بغداد"(3/ 158) من طريق مُحمَّد بن الفَرَج بن فَضَالة ..
والشَّجَرِيُّ في "الأمالي"(2/ 254 - 255، 265، 268) مِن طريق إبراهيم بن عليٍّ البَزَّارِ، وعبد الرَّحمن بن وَاقدٍ، والرَّبيع بن ثعلبٍ،
قالوا: ثنا الفَرَجُ بنُ فَضَالة، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، عن مُحمَّد بن عُمَر بن عليٍّ، عن عليِّ بن أبي طالبِ، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم.
قال التِّرمذيُّ: "هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفُهُ من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ إلَّا من هذا الوجه، ولا نَعلَمُ أحدًا رواه عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، غيرَ الفَرَج بن فَضَالَة، والفَرَجُ بنُ فَضَالَة قد تَكلَّم فيه بعضُ أهل الحديث، وضعَّفَه من قِبَل حِفظه".
وقال ابنُ حِبَّان: "فرَجُ بنُ فَضَالة كان مِمَّن يَقلِب الأسانيد، ويُلزِقُ المُتُونَ الواهيةَ بالأسانيد الصَّحيحة، لا يَحِلُّ الاحتجاجُ به".
وقال أحمد بن حنبلٍ: "حديثُه عن يحيى بن سعيدٍ مُضطرِبٌ"، وكذلك قال ابنُ مَهدِيٍّ، والبُخاريُّ، ومُسلِمٌ، وزَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، وآخرون، ضَعَّفُوه في روايته عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، وهذا الحديث مِنها.
وسُئل الدَّارَقُطنِيُّ عن هذا الحديث، فقال:"هذا باطلٌ"، فقال له البَرقَانِيُّ:"مِن جِهَة فرَجٍ؟ "، قال:"نعم".
وأبدى ابنُ الجَوزِيِّ عِلَّةً أُخرى، فقال:"مُحمَّدُ بنُ عليٍّ لَم يَرَ عليَّ بن أبي طالبٍ".
وله شاهدٌ مِن حديث أبي هُريرة.
أخرَجَهُ التِّرمذيُّ (2211) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ حُجْرٍ، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ يزيدَ الواسِطِيُّ، عن المُستلِم بن سعيدٍ، عن رُمَيحٍ الجُذَامِيِّ، عن أبي هُريرَةَ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اتُّخِذَ الفَيءُ دُوَلًا،
والأمانةُ مَغنَمًا، والزَّكاةُ مَغرَمًا، وتُعُلِّم لغير الدِّين، وأطاع الرَّجُلُ امرأتَهُ وعقَّ أُمَّهُ، وأدنَى صديقَهُ وأقصَى أباه، وظهرت الأصواتُ في المساجد، وساد القبيلةَ فاسِقُهُم، وكان زعيمَ القوم أرذلُهُم، وأُكرِم الرَّجُلُ مَخافة شَرِّه، وظهرت القيناتُ والمعازفُ، وشُربت الخُمور، ولَعَنَ آخِرُ هذه الأمَّةِ أوَّلهَا، فليَرتَقِبُوا عند ذلك ريحًا حمراءَ، وزلزَلَةً، وخَسفًا، ومَسخًا، وقَذفًا، وآياتٍ تتابعُ كنظامٍ بالٍ قُطع سِلكُهُ فتتابع".
وأخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد" - كما في "أطراف الغرائب"(5020) -، من طريق عَمرِو بن شمرٍ، عن جابر بن يزيد الجُعفِيِّ، عن رُمَيحٍ الجُذامِيِّ بهذا. وقال:"تفرَّد به عمرُو بنُ شِمرٍ، عن جابرٍ".
• قلتُ: وابنُ شِمرٍ هالكٌ. وجابرٌ الجُعفِيُّ واهٍ.
قال التِّرمِذِيُّ: "حديثٌ غريبٌ"، يعني: ضعيفٌ؛ وآفَتُه رُمَيحٌ الجُذَامِيُّ؛ مجهولٌ، كما قال ابنُ القَطَّان، والذَّهَبيُّ، وابن حَجَر.
وأمَّا قولُه: "إذا كان المَغنَم دُولًا"، فالمقصود: إذا كان مالُ الفَيءِ يُتَدَاوَلُ بين الأغنياء وأصحابِ المناصب، ويُؤخَذ غَلَبةً وأَثَرَةً، كما يَصنَعُ أهلُ الجاهِلِيَّة، فيكون لقومٍ، دُون قومٍ، ويُحرَمُهُ الفقراءُ.
و "دُولًا" يكون بضم الدَّال، وكسرها، كما قال تعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].
والله أعلم.
276 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَه أبو داوُد (676)، وابنُ ماجَهْ (1005)، وابنُ حِبَّان (393)، والبَيهَقِيُّ (3/ 103)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(3/ 374) من طريق أُسامة بن زيدٍ، عن عُثمان بن عُروَة، عن عروة، عن عائشةَ مرفوعًا.
قال البيهقيُّ: "كذا قال! والمحفوظُ بهذا الإسناد، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ" ا. هـ.
ويَظهَرُ أن هذا الوهَمَ مِن أُسامَة بن زيدٍ، فلَم أَقِف على مَن تَابَعه.
ومع هذا فَقَد حَسَّنه الحافظُ في "الفتح"(2/ 213)، وسَبَقَه المُنذِرِيُّ!
والله أعلم.
277 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأوَّلِ"، قيل:"وَالصَّفِّ الثَّاني؟ "، قال:"وَالصَّفِّ الثَّاني".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (664)، والنَّسَائيُّ (2/ 89 - 90)، وابنُ ماجَهْ (997)، والدَّارِمِيُّ (1/ 232)، وأحمدُ (4/ 285، 297، 299، 304، و 5/ 262)، والطَّيَالِسِيُّ (741)، وابنُ خُزَيمَةَ (3/ 26)، وابنُ حِبَّان (386)، وابنُ الجَارُود (316)، وعبدُ الرَّزَّاق (2/ 45)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(5/ 27)، والبَيهَقِيُّ (3/ 103)، والحاكِمُ (1/ 572)، والفَسَوِيُّ في "المعرفة"(3/ 177)، والطَّبرانِيُّ في "الأوسط"(7206)، وفي "مُسنَد الشَّامِيِّين"(767)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 86) في آخَرِين من طُرُقٍ عن طلحة بن مُصَرِّفٍ، عن عبد الرَّحمن بن عَوْسَجَةَ، عن البَرَاء بن عازبٍ.
وهو عند أحمدَ وغيرِهِ مُطَوَّلٌ.
وقد رواه عن طلحةَ بن مُصَرِّفٍ خَلْقٌ، ذكر مِنهُم أبو نُعيمٍ نحوًا مِن ثلاثين نفسًا.
واللهُ أعلَمُ.
278 -
سُئلتُ عن حديث: "هِمَّة السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ، وَهِمَّةُ العُلَمَاءِ الرِّعَايَةُ".
وذَكَر السَّائلُ أنَّه قرَأَهُ في كتاب "أدب الدُّنيا والدِّيْن" للمَاوَرْدِيِّ.
• قلتُ: هذا حديثٌ لا يصحُّ.
فقد أخرَجَهُ ابنُ عساكرَ في "تاريخ دمشق"، عن الحسَن البَصريِّ، مُرسلًا، ومراسيلُ الحَسَن شِبهُ الرِّيح.
279 -
سُئلتُ عن حديثٍ: عن مُعاذ بن جَبَلٍ مرفُوعًا: "اتَّقُوا المَلاعِنَ الثَّلاثَ: البُرَازَ فِي المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ لشواهده.
أخرَجَهُ أبو داوُد (26)، وابنُ ماجَهْ (328)، والحاكمُ (1/ 167)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 20/ رقم 247)، والخَطَّابِيُّ في "الغريب"(1/ 107)، والبَيهَقِيُّ (1/ 97) مِن طريق نافع بن يزيد، حدَّثَني حَيْوَةُ بنُ شُرَيحٍ، أن أبا سعيدٍ الحِميَرِيَّ حدَّثَه، عن معاذ بن جَبَلٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
قال الحاكِمُ: "صحيح الإسناد".
وجوَّد النَّوَويُّ إسناده في "المَجموع"(2/ 86).
ونقل الشَّوْكَانِيُّ في "السَّيل الجَرَّار"(1/ 65) أن ابن حَجَرٍ حَسَّنَه.
كذا قال! وابنُ حَجَرٍ قال في "تلخيص الحبير"(1/ 105): "صحَّحَه ابنُ السَّكَن والحاكِمُ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ أبا سعيدٍ لم يَسمَع من مُعاذٍ، ولا يُعرَف هذا الحديثُ بغير هذا الإسناد، قاله ابنُ القَطَّان" انتهَى، فلعلَّهُ قَصَد أن ابنَ حَجَرٍ حَسَّنه بشواهِدِه، وهو كذلك، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا نَقلُ ابن حَجَرٍ أن ابنَ القَطَّان قال: "إنَّ هذا الحديث لا يُعرَف
إلَّا بهذا الإسناد"، فوَهَمٌ مِنه على ابن القَطَّان؛ لأن ابنَ القَطَّان قال في "الوهم والإيهام" (3/ 41): "وأبو سعيدٍ هذا لا يُعرَف في غير هذا الإسناد"، ولذلك صَرَّح بأنَّه مجهولٌ، وفرقٌ كبيرٌ بين النَّقلَين.
ولو سَلَّمنا أن ابن القَطَّان قال ما ذَكَرَه عنه ابنُ حَجَرٍ، فهو مُتَعَقَّبٌ بما يأتي من الشَّواهد، إن شاءُ الله تعالى.
ونَقَلَ المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(1/ 134) عن أبي داوُد، أنَّهُ قال:"مُرسلٌ"، قال:"يعني: أن أبا سعيدٍ لم يُدرِك مُعاذًا".
ثُمَّ إنَّ أبا سعيدٍ هذا مجهولٌ، كما تقَدَّم.
وله شاهدٌ مِن حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفُوعًا: "اتَّقُوا المَلاعِن الثَّلاث: أَن يَقعُد أحدُكُم في ظِلٍّ يُستَظَلُّ فيه، أو في طريقٍ، أو في نَقعِ ماءٍ".
أخرَجَهُ أحمدُ (1/ 299)، والخَطَّابِيُّ في "الغريب"(1/ 108) من طريق ابن المُبارَك، وابن وَهبٍ، قالا: ثنا ابنُ لهِيعَة، حدَّثَني ابنُ هُبَيرَةَ، قال: أخبَرَني من سَمِع ابنَ عبَّاسٍ مرفُوعًا.
قال الحافظُ في "التَّلخيص"(1/ 105): "فيه ضعفٌ؛ لأجل ابن لَهيعة.
والرَّاوِي عن ابن عبَّاسٍ مُبهَمٌ".
• قلتُ: ابنُ المُبارَك وابنُ وَهبٍ، مِن قُدَماء أصحاب ابن لهَيعَة، ورِوايَتُهم، مع من سَمِعُوا من ابن لهَيعَة قبل احتراق كُتُبِه، متماسِكَةٌ.
ورَوَاهُ أبو هُريرَة مرفُوعًا بلفظ: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ"، قالوا:"وما اللَّعَّانَانِ، يا رسُول الله؟ "، قال:"الَّذِي يتَخَلَّى في طريق النَّاس، أو في ظِلِّهِم".
أخرَجَه مُسلِمٌ (269/ 68)، وأبو عَوَانة (1/ 194)، وأحمدُ (2/ 372)، وأبو داوُد (25)، وابنُ حِبَّان (1415)، وأبو يَعلَى (6483)، وابنُ خُزَيمَة (1/ 37)، وابنُ الجَارُود في "المُنتقَى"(33)، وإسماعيلُ بنُ جعفرٍ في "حديثه"(293)، والبَيهَقِيُّ (1/ 97)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(1/ 383) من طريق العَلَاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هُريَرة.
ورَوَاهُ ابن عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 2313) من طريق مُسلِم بن خالدٍ الزِّنجِيِّ، عن العَلَاء بهذا، وقال:"إن مُسلِمًا تَفَرَّد به، وأنَّ الحديثَ غيرُ محفوظٍ".
كذا قال! ولم يَتَفَرَّد به الزِّنجِيُّ، فتابَعَهُ إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، وسُليمانُ بنُ بِلالٍ، ومُحمَّدُ بنُ جعفر بن أبي كَثيرٍ، كما شَرَحتُه في "تنبيه الهاجد"(1634)، والحمدُ لله.
وله شواهدُ أخرَى.
فأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ (5/ 1672) من حديث عبد الله بن عَمْرٍو، بلفظ:"نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُتَخَلَّى تحت شَجَرةٍ مُثمِرةٍ".
وفي إسناده عُمَرُ بنُ مُوسَى الوَجيهيُّ، وليس له وَجَاهَةٌ قطُّ؛ فإنَّه في عِداد من يَضَعُ الحديث، كما قال ابنُ عَدِيٍّ، وأسقَطَهُ سائرُ النُّقَّاد.
وفي الباب عن ابن عُمَر رضي الله عنهما، قال:"نَهَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يُصَلَّى على قَارِعة الطَّريق، أو يُضرَبَ الخلاءُ عليها، أو يُبالَ فيها".
أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (330)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير" (ج 12/
رقم 13120) من طريق عَمْرو بن خالدٍ الحَرَّانِيِّ، ثنا ابنُ لِهيعَة، عن قُرَّة، عن الزُّهرِيِّ، عن سالمٍ، عن أبيه.
قال الحافظ في "التَّلخيص"(1/ 105): "في إسناده ابنُ لَهِيعة، وقال الدَّارَقُطنِيُّ: رَفعُهُ غيرُ ثابتٍ".
وضَعَّف إسناده البُوصِيرِيُّ في "الزَّوَائِد"(1/ 141) بابن لهَيعَة وشَيخِه، ثُمَّ قال:"ولكن لِلمَتن شواهدُ صحيحةٌ" انتهَى.
وله طريقٌ آخرُ عن ابن عُمَر، بلفظ:"نَهَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يَتَخَلَّى الرَّجلُ تحت شَجَرةٍ مُثمِرة، ونهى أن يَتَخَلَّى الرَّجلُ على ضفَّة نهرٍ جارٍ".
أخرَجَه ابنُ عَدِي (6/ 2050)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 458) من طريق فُرات بن السَّائب، عن مَيمُون بن مِهران، عن ابن عُمَر.
وهو حديثٌ مُنكَرٌ بهذا الإسناد؛ وابنُ السَّائب مُنكَرُ الحديث في مَيمُونَ بن مهران.
وفي الباب عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفُوعًا، فذَكَر حديثًا وفي آخره:"إِيَّاكُم والتَّعرِيسَ على جوادِّ الطَّريق، والصَّلاةَ عليها؛ فإنَّها مأوى الحَيَّاتِ والسِّباعِ، وقضاءَ الحَاجَة عليها؛ فإنَّها من المَلاعن".
أخرَجَه ابنُ ماجَهْ (329)، وابنُ خُزَيمَة (2548) قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ يحيى، ثنا عَمرُو بنُ أبي سَلَمة، عن زُهير بن مُحَمَّدٍ، قال: قال سالمٌ: سمِعتُ الحَسَن، يقولُ: ثنا جابرٌ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَره.
وحسَّنَ الحافظُ إسنادَه في "التَّلخيص"(1/ 105)، وتَبِعَهُ الشَّوكَانِيُّ، كعادته، في "السَّيل الجَرَّار"(1/ 65)، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ من النِّكارة في
هذا الإِسناد قولُ الحَسَن: "ثنا جابرٌ"، وأَحسَبُ أن هذا أَتَى من قِبَلِ زُهَيرِ بن مُحَمَّدٍ؛ فقد ذَكَر غيرُ واحدٍ من النُّقَّاد أن رواية أهل الشَّام عنه ممَّا تَكثُر فيها المناكيرُ، وعَمرُو بن أبي سَلَمة شاميٌّ.
وأعَلَّه البُوصِيرِيُّ في "الزَّوائد"(1/ 140) بسالم بن عبد الله الخَيَّاطِ، وذَكَر تَضعِيفَه عن ابن مَعِينٍ، والنَّسَائيِّ، وأبي حاتمٍ، والدَّارَقُطنِيِّ، وابنِ حِبَّان. ولذلك قال ابنُ خُزَيمة:"إنْ صحَّ الخَبَرُ، فإنَّ في القلب مِن سَمَاع الحَسَن من جابرٍ"، وقد صَرَّح ابنُ مَعِينٍ أنَّهُ لم يَسمَع منه، وكذلك قال بَهزٌ، وأبو زُرعَة، ونقل ابنُ خُزَيمَة (4/ 145) عن الذُّهِليِّ، أنَّهُ قال:"كان عليُّ بنُ عبد الله يُنكِرُ أن يكون الحَسَنُ سمع من جابرٍ".
وقد رواه هِشامُ بنُ حسَّان، عن الحَسَن، عن جابرٍ بالعنعنة مرفوعًا:"إذا كُنتُم في الخِصبِ فأمكِنُوا الرُّكَب أسِنَّتَها، ولا تَعدوا المَنازِلَ. وإذا كنتُم في الجَدب فاستَنجُوا. وعليكُم بالدُّلجة؛ فإنَّ الأرض تُطوَى بالليل، فإذا تغوَّلت عليكُم الغيلانُ فبادِروا بالأذان، ولا تُصلُّوا على جَوَادِّ الطَّريق، ولا تَنزِلوا عليها؛ فإنَّها مأوَى الحيَّاتِ والسِّباعِ، ولا تَقضُوا عليها الحوائجَ؛ فإنَّها المَلَاعِنُ".
أخرَجَهُ أبو داوُد (2570) قال: حدَّثَنا عُثمانُ بنُ أبي شيبَةَ ..
والنَّسائِيُّ في "اليَوم والليلة"(955)، ومن طريقه ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد" (16/ 268) قال: أخبَرَنا أحمدُ بنُ سُليمان ..
وابنُ ماجَهْ (3772) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ - وهذا في "المصنَّف"(8/ 562 - طبع الرشد)، وفي "كتاب الأدب"(ج 1/ ق 150/ 2) - ..
وأحمدُ (3/ 305، 381 - 382) ..
وأبو يَعلَى (2219) قال: حدَّثَنا أبو خيثَمةَ زُهَيرُ بنُ حَربٍ، قالُوا: ثنا يزيدُ بنُ هارُون، قال: أنبأنا هشامُ بنُ حسَّانَ بهذا الإسناد.
وقد خولِف هشامُ بنُ حسَّان.
خالَفه يُونُسُ بنُ عُبيدٍ - وهو أثبتُ النَّاس في الحَسَن -، فرواه عن الحَسَن، عن سعد - بن أبي وقَاصٍ، قال:"أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا تغوَّلت لنا الغُولُ - أو: إذا رأينا الغولَ - نُنادِي بالأذان".
أخرَجَه البزَّارُ في "مُسنَده"(174 - مُسنَد سعدٍ)، والدَّورَقيُّ في "مُسنَد سعدٍ"(ق 18/ 2)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(7/ 2659)، والبَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(7/ 104) ..
قال البزَّارُ: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمُهُ يُروَى عن سعدٍ إلا مِن هذا الوجه، ولم نَسمَعهُ إلا مِن حديث يُونُس، عن الحَسَن، عن سعدٍ. ولا نَعلَمُ سمِع الحَسَنُ مِن سعدٍ شيئًا".
وانظُر بقيَة البحث تَخريجي على "مُسنَد سعد بن أبى وَقَّاصٍ"(174) للبزَّار. والحمدُ لله تعالى.
قال الهَيثَمِيُّ في "مَجمَع الزَّوائد"(3/ 213): "رواه أبو يَعلَى، ورِجالُهُ رجالُ الصَّحيح"، وفاته أن يَعزُوه لأحمد.
وليس في قولِه تصحيحٌ للإسناد، كما هو معلومٌ.
وفي الباب أخيرًا، عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه موقُوفًا: "إيَّاكُم والملاعنَ، وأن يَقذِف أحدُكم أذاه على الطَّريق، فلا يَمُرَّ أحدٌ في الطَّريق
إلَّا قال: لَعَن اللهُ مَن فَعل هذا! ".
أخرَجَه الخرائِطِيُّ في "مَساوِئ الأخلاق"(795) مِن طريق عَمْرو بن مَرزُوقٍ، ثنا شعبةُ، عن بَيَان بن بِشرٍ، قال: سمِعتُ قيسَ بن أبي حازمٍ، يقول: خَطَب سعدٌ، فقال: ....
وسَنَدُهُ صحيحٌ.
ورواه أبو عبَّادٍ يحيى بنُ عَبَّادٍ، ثنا شعبَةُ بهذا الإسناد، إلَّا أنَّه قال: أظُنُّه رَفَعه.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(1/ 123/ 1)، وذَكَره أيضًا عن مُحمَّد بن حُميدٍ، عن الطيَالِسِيِّ، عن شُعبة بهذا الإسناد مرفُوعًا.
وابن حُميدٍ واهٍ؛ ولذلك جَزَمَ الدَّارَقطنِيُّ بصِحَّة وقفِه، لاسِيَّما وقد رَوَاه إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن سعدٍ موقُوفًا عليه.
ولا يصحُّ مِن المرفُوع إلَّا حديثُ أبي هُريرَة الذي أخرَجَه مُسلمٌ.
والله أعلم.
280 -
سُئلتُ عن صحَّة ومعنى حديث: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، عن عَسْبِ الفَحل.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَه البُخاريُّ في "الإجارة"(4/ 461)، ومِن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(8/ 138)، وأبو داوُد (3429)، وابنُ حِبَّان (ج 11/ رقم 5156)، والبَيهَقِيُّ في "المعرفة"(8/ 146) عن مُسَدَّد بن مُسَرهَد، ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم، عن عليّ بن الحكَم، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر فذَكَرَه.
واستدرَكَهُ الحاكمُ (2/ 42) على البُخاريِّ، فوَهِم
(1)
.
وأخرَجَه الشَّافِعِيُّ في "سُنَن حرملةَ" - كما في "المعرفة"(8/ 146) للبَيهَقِيِّ -، وأحمدُ (2/ 14) ..
والنَّسَائِيُّ في "الكُبرَى"(4/ 54)، وفي "المجتبَى" (7/ 310) قال: أخبَرَنا إسحاقُ بنُ إبراهيم ..
والتِّرمذِيُّ (1273) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، وأبو عمَّارٍ الحُسينُ بن حُرَيثٍ ..
(1)
قال الحافظُ في "الفَتح"(4/ 462): "وقد وَهِمَ في استِدراكِه، وهو في البُخاريِّ كما تَرَى، وكأنَّه لمَّا لم يره في "كتاب البُيوع" توهَّم أن البُخاريَّ لم يُخرِّجه". وسَبَقَهُ شيخُه ابن الملقِّن، فقال في "التَّوضيح" (15/ 105): "هذا الحديثُ من أفراد البُخارِيِّ، وأغرَبَ الحاكِمُ فاستدرَكَه
…
وانفَرَدَ مُسلمٌ بإخراجِه من حديث جابرٍ" انتهَى.
وابنُ الجارُود في "المنتقَى"(582) قال: حدَّثَنا أبو سعيدٍ الأَشَجُّ، قالوا: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بهذا.
وأخرَجَه البُخارِيُّ في "الإجارَة"(4/ 461)، ومِن طريقِه البَغوِيُّ في "شرح السُّنَّة" (8/ 138) قال: حدَّثَنا مُسدَّدُ بنُ مُسَرهَدٍ ..
والنَّسَائِيُّ في "الكُبرى"(4/ 54)، وفي "المجتبَى" (7/ 315) قال: أنبأَنَا حُميدُ بنُ مَسعَدة، قالا: ثنا عبدُ الوارِث بن سعيد، عن عليّ بن الحَكَم بهذا الإسناد سواء.
وأخرَجَه أبو داوُد - مِن روايَة ابن داسَّهْ -، ومِن طريقه البيهَقيُّ في "المَعرفة" (8/ 146) قال: حدَّثَنا مُسدَّدٌ، ثنا إسماعيلُ بنُ عُليَّة، عن عليّ بن الحَكَم بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "ورواه الشَّافِعيُّ في "مُسنَد حَرمَلة"، عن إسماعيل بن عُليَّة".
وأخرَجَه أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(9/ 161) مِن طريق عبد الرَّحمن بن مَهدِيٍّ، ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ، عن عليّ بن الحَكَم بهذا الإسناد.
قال التِّرمِذِيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
وللحَديث شواهدُ عن أنَسٍ، وجابرِ بن عبد الله، وعليِّ بن أبي طالبٍ وأبي هُريرَة، وأبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضي الله عنه.
أوَّلًا: حديثُ أنسٍ رضي الله عنه.
أخرَجَه النَّسائِيُّ (7/ 310) قال: أخبَرَنا عِصْمَةُ بنُ الفضل ..
والتِّرمِذيُّ (1274)، والطَّبرانيُّ في "الصَّغير"(1032)، والبَيهَقِيُّ
(5/ 339) عن عبدةَ بن عبد الله الصَّفَّارِ، قالا: ثنا يحيَى بنُ آدَمَ، ثنا إبراهِيمُ بن حُميدٍ الرُّؤاسِيُّ، عن هشام بن عُروة، عن مُحمَّد بن إبراهيمَ التَّيميِّ، عن أنسٍ، قال: جاء رجُلٌ مِن بني الصَّعْق - أحَدِ بني كِلابٍ - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألَهُ عن عَسْبِ الفَحل، فنهاه عن ذلك، فقال:"إنَّا نُكرِمُ على ذلك".
زاد عَبْدةُ بنُ عبد الله: فَرخَّص له في الكَرامة.
قال الطَّبَرانِيُّ: "لم يَروِه عن مُحمَّدِ بن إبراهيم إلَّا هشامُ بنُ عُروة، ولا عن هشامٍ إلَّا إبراهيمُ بنُ حُمَيدٍ. تفرَّد به: يحيَى بنُ آدمَ".
وقال التِّرمِذِي: "هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ، لا نَعرِفُهُ إلَّا مِن حديث إبراهيمَ بن حُميدٍ، عن هشامٍ".
• قلتُ: وإسنادُهُ صحيحٌ، كُلُّهم ثقاتٌ.
وله طريقٌ آخرُ ..
أخرَجَه أحمدُ (3/ 145) ..
وأبُو يعلَى (3592) قال: حدَّثَنا أبُو مُوسَى، قالا: ثنا حَسَنُ بنُ موسَى الأشيَبُ، ثنا ابنُ لَهيعَةَ، ثنا يزيدُ بنُ أبي حبيبٍ، وعُقَيلُ بنُ خالِدٍ، عن ابن شِهابٍ، عن أنس بن مالكٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يَبيع الرَّجُلُ فِحْلَةَ فَرَسِه.
وأخرَجَه ابنُ أبي حاتمٍ في "العلل"(1137، 2836) قال: سمعتُ أبي، وحدَّثَنا حَرمَلَةُ، عن ابن وَهبِ، عن ابن لَهِيعَةَ، عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ، عن ابن شِهابٍ، عن أنسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أَجر عَسْبِ الفَحل.
قال أبو حاتِمٍ: "إنَّما يُروَى مِن كلام أنَسٍ. ويزيدُ لم يَسمَع مِن الزُّهرِيِّ، إنَّما كتبَ إليه".
وروَاه الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد" - كما في "أطراف الغَرائب"(1139) - بلفظ أحمدَ السَّابِقِ، وقال:"تفرَّد به ابنُ لَهيعَةَ، عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ، عنه. وَوَقَفه اللَّيثُ. ورَفَعَهُ ابنُ لهِيعَةَ، عن يزيدَ".
وذَكَرَه الدَّارَقُطنِيُّ في مَوضِعٍ آخرَ من "الأفراد" - كما في "الأطراف"(1138) - بلفظ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عَسْب الفَحل.
ثُمَّ قال: "تفرَّد به عبدُ الله بنُ يُوسُف، عن ابن لَهيعَةَ، عن عُقَيلٍ بهذا اللَّفظ".
• قلتُ: وقد خالَفَه - أعني: عبدَ الله بنَ يُوسُف - في سياقِهِ: الحسنُ بنُ موسَى، فرواه عن ابن لَهيعَةَ، عن عُقَيلٍ، بلفظ: نَهَى أن يبيع الرَّجُلُ فِحلَةَ فَرسِهِ.
وله طريقٌ ثالث عن أنَسٍ ..
أخرَجَه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1235)، ومِن طريقِهِ البَيهَقِيُّ في "المَعرِفة" (8/ 146 - 147) قال: حدَّثَنا موسَى بن الحَسَن الكُوفِيُّ بمصر، قال: حدَّثنا عبدُ الغَنِيِّ بنُ عبد العزيز الفقيهُ، ثَنَا مُحمَّد بن إدريس الشَّافِعيُّ، قال: حدَّثَني سعيدُ بنُ سالمٍ القدَّاحُ، عن شبيبِ بن عبد الله البَجِليِّ - مِن أهل البَصرة -، عن أنَس بن مالكٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ثَمَن عَسْب الفَحل.
وأَخرجَه البيهقيُّ أيضًا (8/ 147) عن المُزنِيِّ، قال: حدَّثَنا الشَّافِعِي،
بهذا الإسناد.
وسعيدُ بنُ سالمٍ، فالأكثَرون على تقوِيَةِ أمره، وخَتَم ابنُ عَدِيٍّ تَرجَمَتَه بقولِه:"هو حَسَنُ الحديث، وأحاديثُهُ مُستَقيمةٌ، ورأيتُ الشَّافعيَّ كثيرَ الرِّوايَة عنه. كتَبَ عنه بِمكَّة، عن ابن جُريجٍ، والقاسِمِ بن مَعنٍ، وغَيرِهما. وهُو عِندي صَدوقٌ، لا بأس به، مقبولُ الحديث".
أمَّا شبيبُ بنُ عبد الله، فمَا عرَفتُه. والله أعلم.
* ثانيًا: حديثُ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما.
أخرَجَه مُسلم في "المُساقاة"(1565/ 35)، والبَيهَقِيُّ (5/ 339) عن رَوح بن عُبادَةَ ..
وابنُ أبي شَيبَة (11/ 517 - طبع عوَّامة) قال: ثنا وكيعٌ ..
والنَّسائِيُّ (7/ 310)، وفي "الكُبرى"(4700/ 9) عن حجَّاج بن مُحَمَّدٍ الأعورِ ..
والبَيهَقِيُّ في "المَعرفة"(8/ 147) عن سعيد بن سالمٍ القدَّاح، كلُّهُم عن ابن جُريجٍ، أخبَرَني أبُو الزُّبَير، أنَّه سمع جابرًا، يقول: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضِرابِ الجَمَل.
ولفظُ وكيعٍ: نَهَى عن طَرْقِ الفَحل.
واستَدرَكَه الحاكِمُ (2/ 44) على مُسلمٍ، فَوَهِمَ.
* ثالثًا: حديثُ أبي هُرَيرة رضي الله عنه.
أخرَجَه النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(4698/ 7)، وفي "المُجتبَى"(7/ 311)، والتِّرمذيُّ في "العِلل" (1/ 515) قالا: أخبَرَنا واصلُ بنُ عبد الأعلَى ..
وابنُ ماجَهْ (2160) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ مُحَمَّدٍ، ومُحمَّدُ بنُ طَرِيفٍ ..
والدَّارِمِيُّ (2/ 185) قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ عيسى ..
والطَّحاوِيُّ في "شرح المَعاني"(4/ 53) عن مُحمَّدِ بن سعيدٍ الأصبَهانِيِّ، قالوا: ثنا مُحمَّدُ بنُ فُضَيلٍ، عن الأعمش، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثَمَن الكَلب، وعَسْب الفَحل.
لفظُ النَّسائِيِّ وابنِ ماجَهْ.
واقتَصَر الدَّارِميُّ على عَسْب الفَحل. والطَّحاويُّ على ثمن الكلب.
وسَقَط ذكر أبي هريرَة من "المُجتبَى"، وهو ثابتٌ في "أطراف المِزِّيِّ "(9/ 438)، وفي "الكُبرَى".
قال النَّسائِيُّ: "رواهُ ابنُ أبي عُبَيد، عن أبيه، وقال بدل: "عَسْب التيسِ": البغلَ".
ثمَّ أخرجَه في "الكُبرَى"(4699) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ الحَسَن ..
وكذلك أبو يَعلَى (6210) قال: حدَّثَنا أبو بكر بنُ أبي شَيبَة، قالا: ثنا ابنُ أبي عُبَيدَةَ، عن أبيه، عن الأعمش بهذا مرفوعًا، بلفظ:"لا يحَلُّ ثَمَنُ الكَلب، ومَهرُ البَغِيِّ".
هذا لفظُ النَسائِيِّ، ولم يَذكُر "عَسْبَ البَغل"، وأظُنُّه سَقَط من "مطبوعة السُّنَنَ"، وهي رديئة التَّحقيق.
ولفظُ أبي يَعلَى: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ....
وإسنادُهُ صحيحٌ. وابنُ أبي عُبَيد هو مُحمَّد بن عبد المَلِك، وأبوه: عبدُ المَلِك بنُ مَعنٍ.
وبهذه المُتابَعة يُرَدُّ على البُخاريِّ وأبي حاتِمٍ ..
فقد قال التِّرمذِيُّ عقبَ روايَتِهِ الحديثَ: "سألتُ مُحمَّدًا عن هذا الحديث، فقال: لا أعلَمُ أحدًا روَى هذا الحديثَ غيرَ ابن فضيلٍ".
وقال ابنُ أبي حاتِمٍ في "العِلل"(2834): "سألتُ أبي عن حديثٍ، رواهُ ابنُ فُضَيلٍ، عن الأعمش
…
[فذَكَره. قال أبو حاتِمٍ:] يَروه عن الأعمش، عن أبي حازِمٍ، عن أبي هُريرَة، غيرُ ابن فضيلٍ. وأخشَى أنَّه أراد: أبا سُفيان، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم " انتهَى.
• قلتُ: فلم يتفرَّد ابنُ فضيلٍ بهذا الإسناد، فقد تابَعَهُ عبدُ المَلِك بنُ معنٍ، كما تَقَدَّم.
ووجدتُ له متابِعًا آخر، وهو: أسباطُ بنُ مُحَمَّدٍ ..
فرواه عن الأعمش، عن أبي حازِمٍ، عن أبي هُريرَة، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثَمَن الكَلب، ومَهر البَغِيِّ.
أخرَجَه أبُو عَوَانة (4491، 5276) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ الأَحمَسِيُّ، قال: ثنا أسباطُ، قال: ثنا الأعمَش بهذا.
وكذلك رواه شريكُ بنُ عبد الله النَّخْعِيُّ، قال: ثنا الأعمشُ، عن أبي صالحٍ، وأبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة مرفوعًا:"لا يحِلُّ مَهرُ الزَّانية، ولا ثَمَنُ الكَلب".
أخرَجَهُ الحاكمُ في "البُيوع"(2/ 33) من طريق أبي كُريبٍ، ثنا عبدُ الرَّحمن بنُ شَريكٍ، ثنا أَبي بهذا.
وقال: "على شرط مُسلمٍ "!! كذا قال!
فهذه المُتابَعةُ قاضِيةٌ بأنَّ محُمَّدَ بنَ فُضيلٍ لم يتفرَّد بجَعل الحديث عن الأعمَش، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة. والحمد للّه.
أمَّا حديثُ أبي سُفيانَ، عن جابرٍ، والذي أشار إليه أبو حاتمٍ، فقد خرَّجتُهُ في "تنبيه الهاجِد"(1201). والحمدُ لله تعالى.
وله طُرُقٌ أُخرَى عن أبي هُريرَة رضي الله عنه، يرويها عنه: مُحمَّدُ بنُ سِيرينَ، وعبدُ الرَّحمن بنُ أبي نُعْمٍ، وعليُّ بنُ رباحٍ، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ.
وحديثُ ابن أبي نُعمٍ يأتي في حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ، إن شاء الله تعالى.
رابعًا: حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه.
أخرَجَه النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(4694) عن حَبَّانَ بن مُوسى ..
وأبو يَعلَى (1024)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(711) عن الحسَن بن عيسى بن مَاسَرْجَسَ ..
والطَّحاوِيُّ أيضًا، عن نُعَيم بن حمَّادٍ، قالوا: ثنا عبدُ الله بنُ المبارَك، عن الثَّورِيِّ، عن هشامِ بن أبي كُليبٍ، عن ابن أبي نُعْمٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ، قال: نُهِي عن عَسْبِ الفَحل.
زاد ابنُ مَاسَرْجَسَ: وقفيز الطَّحَّان.
• قلتُ: هكذا رَوَوه عن ابن المُبارَك، بلفظ "نُهِي"، ولم يَذكُروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه عبدُ الله بنُ جعفر بن غيلانَ الرَّقِّيُّ، عن ابن المُبارَك بهذا الإسناد، بلفظ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ....
أخرَجَه ابنُ أبي خَيثمة في "تاريخه"(4759) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بن جعفَرٍ بهذا.
وعبدُ الله بنُ جَعفَرٍ هذا وإن كان ثقة، إلَّا أن النَّسائيَّ قال:"ليس به بأسٌ قبل أن يتغيَّر". وقال هلالُ بنُ العَلاء: "ذَهَب بصرُهُ سنة (216)، وتَغَيَّر سنة (218)، وماتَ بعدها بِسَنَتَين". وكذلك قال ابنُ حِبَّان، إلَّا أنَّه قال:"لم يَكُن اختلاطُه فاحِشًا، إلَّا أنَّه رُبَّما خالَف".
فدلَّ هذا على أن اللفظ الصَّحيح "نُهِي" لِمَا لم يُسمَّ فاعِلُه.
وكذلك رواهُ أصحابُ الثَّورِيِّ ..
فأخرَجَه النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(4694)، وفي "المُجتبَى"(7/ 311) عن مُحمَّد بن يُوسُف الفِريابِيِّ ..
وابنُ أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(7/ 145 - 146)، والدَّارَقُطنيُّ (3/ 47)، ومِن طريقِه البَيهَقِيُّ (5/ 339) عن وَكِيع بن الجرَّاح ..
والدَّارَقُطني (3/ 47)، ومِن طريقه البَيهقيُّ (5/ 339) عن عُبيد الله بن مُوسى، قالُوا: ثنا سُفيان الثَورِيُّ بهذا الإسناد مثلَه.
زاد عُبيدُ الله: وقَفِيز الطَّحَّان.
وكذلك رَجَّح أن اللَّفظ "نُهِي" لما لم يُسمَّ فاعلُهُ: ابنُ القَطَّانِ الفاسِيُّ في "بيان الوَهم والإيهام"(2/ 271 - 272) ..
فإنَّ عبدَ الحَقِّ الأَشبيليَّ نَقَل الحديثَ في "الأحكام" عن "سُنَن الدَّارَقُطنيِّ" بلفظ: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
…
"، فقال ابنُ القطَّان: "كذا ذَكَرَه، وبحثتُ عنهُ فلم أجدهُ، وإنَّما هو في "كتاب الدَّارقُطنِيِّ" في كُلِّ الرِّواياتِ هكذا مُرَكَّبًا لما لم يُسمَّ فاعلُه:"نُهِي عن عَسْب الفَحل، وقفيز الطحان". ولعلَّ قائِلًا يقولُ: لعلَّه اعتَقَد فيما يقولُه الصَّحابِيُّ مِن هذا مرفوعًا. فنَقُول له: إنَّما عليه أن ينقُل لنا رِوايَتَه، لا رأيَه، فلعلَّ مَن يَبلُغُهُ يَرَى غيرَ ما يراه مِن ذلك، فإنَّما نَقبل مِنه نقلَه لا قولَه" انتهَى.
ونَقَل كلامَ ابن القطَّان مُختصَرًا: المناويُّ في "فيض القَدير"(6/ 452)، فتعقبه الغُماريُّ في "المُداوي" (6/ 553) قائلًا: "فإن بَحثَ ابن القطَان وتعقُّبَه ضائعٌ باطلٌ، والضَوابُ مع عبد الحقِّ؛ فإنَّ صيغَة الحديث عند الدَّارَقُطنيِّ مِن روايَة ابن أبي نُعْمٍ البَجَليِّ، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، قال:
"نَهَى عن عَسْب الفَحل"، فمن عرَّف ابنَ القطَّان أنَّه مبنيٌّ لما لم يُسمَّ فاعلُه، والواقعُ أنَّه مبني للفاعِل وهو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما جَرَت العادَةُ أن يحذفوه أحيانًا للعِلم به، ولاسيَّما أهل البَصرة، فإنَّ ذلك معرُوفٌ مِن صنيعِهِم، منصوصٌ عليه في عُلوم الحديث، ويُؤيِّدُهُ وُرُود التَّصريح به صلى الله عليه وسلم في غير رواية الدَّارقُطنيِّ. قال الطَّحاوِيُّ في "مُشكِل الآثار": "حدَّثَنا أحمدُ بنُ أبي عمران، ثنا الحَسَنُ بُن مَاسَرجَسَ مَولى ابن المُبارَك (ح) وحدَّثَنا يحيى بُن عُثمان بن صالحٍ، ثنا نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ. قالا: حدَّثَنا ابنُ المُبارَك، عن سفيانَ الثَّوريِّ، عن هشامِ بن كُلَيبٍ - كذا قال: ابن كُلَيبٍ -، عن ابن أبي نُعْمٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، قال: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
…
وَذَكَرَه.
وأخرَجَه أيضًا، عن سُليمانَ بن شُعَيبٍ الكَيْسَانِيِّ، ثنا أبي، ثنا أبو يُوسُف، عن عطاء بن السَّائب، عن ابن أبي نُعْمٍ، عن بعض أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه نَهَى عن عَسْب التَّيْسِ، وكَسبِ الحجَّام، وقَفِيزِ الطَّحَّان. وهذا الطَّريقُ يُبرِّئُ أيضًا ساحة هشام بن كُليبٍ منه" انتهَى.
• قلتُ: كذا قال! وقد سَبَقَ ابنَ القطَّان إلى هذا: البَيهَقِيُّ، فقال في "سُنَنِه" عقب ذِكر الحديث مِن طريق وكيعٍ، وعُبيد الله بن موسَى، عن الثَّوريِّ، بلفظ:"نُهي"، قال:"ورواه ابنُ المُبارَك، عن سُفيان، كما رواه عُبيدُ الله: "نُهِي". وكذلك قاله إسحاقُ الحَنظَليُّ، عن وكيعٍ: "نُهِي عن عَسْب الفَحل". ورواه عطاءُ بنُ السَّائب، عن عبد الرَّحمن بن أبي نُعمٍ، قال: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
…
فذَكَرَه" انتهَى.
أمَّا ما نَقَله الغُماريُّ من "المُشكِل"(1/ 307) من الطَّبعَة القديمة،
فهو كما نَقَل، وفيها أن لفظ حديث ابن المُبارَك:"نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"، أمَّا في الطَّبعة الجَديدة فلَفظُ الحديث:"نُهي"، ولم يُذكَر فيه رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الطَّبعة أوثَقُ مِن سابقَتِها، ففى الطَّبعة القديمَة سقط وتحريفٌ في مواضعَ كثيرةٍ.
سلَّمنا أنه لم يَقَع ثمَّة تحريفٌ، فإنَّ الطَّحاوِيَّ روى الحديث عن اثنين مِن تلاميذ ابن المُبارَك، أوَّلهُما: الحَسَنُ بنُ عيسَى بن مَاسَرْجَس، وثانيهما: نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ. ولفظُ حديث ابن ماسَرجَسَ هو: "نُهِي" لما لم يُسمَّ فاعلُهُ، كما وَقَعَ في "مُسنَد أبي يَعلَى"، فيكونُ هذا لفظ حديث نُعَيمِ بن حمَّادٍ، وهُو سيِّءُ الحِفظِ، كان يَقبَل التَّلقينَ، فيكُون هذا مِن أوهامِهِ، لاسيَّما وقد رواهُ الثِّقاتُ عن ابن المُبارَك هكذا بالبِناءِ لما لم يُسمَّ فاعلُهُ. والله أعلم.
وقد رأيتُ شيخَنا الألبانيَّ رحمه الله ردَّ على البَيهَقِيِّ في "الإرواء"(5/ 296) بما وقع في "كتاب الطَّحاوِيِّ"، وقد علمتَ ما فيه. وذهب الشَّيخُ إلى تَصحيح الإسناد، لِتَرجيحه أن هشامًا هو ابنُ عائِذٍ، وقد تقدَّم البَحثُ في ذلك. والحمدُ لله.
أمَّا روايَةُ عطاء بن السَّائِب فقد خالَفَ فيها هِشامًا أبا كُليبٍ في المَتن والإسناد.
وروايَةُ عطاءٍ هذه أخرَجَها الطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(709) قال: حدَّثَنا سُلَيمانُ بن شعيبِ الكَيْسَانِيُّ، ثنا أبي، ثنا أبو يُوسُف، عن عطاء بن السَّائِب، عن ابن أَبي نُعْمٍ، عن بعض أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه كان يَنهَى عن عَسْب التَّيسِ، وكسب الحجَّام، وقَفِيزِ الطَّحَّان.
فخالَفَ في المَتن إذ رَفَعه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وخالَفَ في الإسناد إذ أبهَمَ اسمَ الصَحابيِّ.
وعطاءُ بنُ السَّائب كان اختَلَطَ، وأبو يُوسُف ليس مِن قُدماء أصحابه.
وقد رواه الطَّحاوِيُّ أيضًا مِن وجهٍ آخر عن أبي يُوسُف بإسقاط ابن أبي نُعْمٍ من الإسناد.
وخُولف أبُو يُوسُف.
خالَفَه خالدُ بنُ عبد الله الواسِطِيُّ، فرواه عن عطاء بن السَّائب، عن عبد الرَّحمن بن أبي نُعْمٍ، قال: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطَّحَّان.
أخرَجَه مُسدَّدٌ في "مُسنَده" - كما في "المَطالِب العالِية"(2/ 99) -، وقال الحافظُ:"هذا مُرسلٌ حَسَنٌ "!
وذَكَر هذا الحديثَ البُوصِيريُّ في "إتحاف الخِيَرَةِ"(4/ 262) وقال: "مَدَارُ هذه الطُّرق على عبد الرَّحمن الإفريقيِّ، وهو ضعيفٌ "!
كذا قال! والإفريقيُّ هو عبدُ الرَّحمن بنُ زياد بن أنعم الإفريقيُّ، وهو مُتأخِّرٌ قليلًا عن عبد الرَّحمن بن أبي نُعمٍ؛ فإنَّ هذا يَروي عن الصَّحابَة، كأبي هُريرَةَ، وابنِ عُمَر، وأبي سعيدٍ الخُدريِّ، والمُغِيرةَ بن شُعبة، ورافعِ بن خَديجٍ، وغيرِهم.
• قلتُ: وإذ قد عُلِم أن اللَّفظَ المَحفوظَ هو "نُهي" لمَا لم يُسَمَّ فاعلُهُ، فإنَّ هشامًا أبا كُليبٍ قد اختَلَف العُلماءُ: مَن هو؟!
فرجَّح المِزِّيُّ في "الأطراف" أنَّه: هشامُ بنُ عائذٍ أبو كُليبٍ الكُوفيُّ .. بينَما قال ابنُ القطَّان، والذَّهَبيُّ في "الميزان"، وتَبِعَه الحافِظُ في "اللسان":"لا يُعرَف".
أمَّا ابنُ عائذٍ فإنَّه ثقةٌ.
والصَّوابُ عِندِي في ذلك أن هشامًا أبا كُليبٍ راوٍ آخَرُ، وليس هو ابنُ عائذٍ، وإن كان الثَّوريُّ يَروي عنهُما.
وقد فرَّق بينَهما ابنُ أبي حاتِمٍ.
ولمَّا ذكره ابنُ أبي خَيثَمة في "تاريخِه" وروَى له الحديث، ولم ينسِبهُ، بل قال:"هشامٌ أبو كُليبٍ".
وكذلك فَعَل البُخارِيُّ في "تاريخِه"(3/ 2/ 196)، والدُّولابِيُّ في "الكُنَى"(3/ 932)، وابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(7/ 568)، ولم يَذكُرُوا عنه راويًا إلَّا الثَّوريَّ.
ولكن يُتَعقَّبُ ابنُ القطَّانِ والذَّهَبيُّ وابنُ حَجَرٍ في دعواهُم أنَّه لا يُعرَف؛ فقد نَقَل ابنُ أبي حاتمٍ في "الجَرح والتَّعديل"(4/ 2/ 68) عن عبد الله بن أحمد، قال:"سألتُ أبي عن هشام بن كُلَيبٍ الذي يروِي عنه الثَّورِيُّ. فقال: ثقةٌ".
ولم أر مَن سمَّاه "هشام بن كُليبٍ"، فلعلَّه وقع تصحيفٌ في كتاب ابن أبي حاتمٍ ويكونُ صوابُ العبارة:"سألتُ أبي عن هشامٍ أبي كُليبٍ"، فيُحتَمَل حينئذٍ أن يكون أحمدُ قصد هشامَ بن عائذٍ، ويُكْنَى أبا كُليبٍ أيضًا. فالله أعلم، فقد أُشكل عليَّ تحريرُ الفَرق بينهما.
وقد حَكَم الذَّهبيُّ على هذا الحديثِ بالنكارَة بناءً على جَهالَة هشامٍ أبي كُلَيبٍ، ووافَقَه الحافظُ في "اللِّسان"، ونَقَل فيه توثيقَ ابن حِبَّان، ولم يتعرَّض لِذِكرِ توثيقِ أحمدَ، فرُبَّما يُرجِّحُ هذا ما ذكرتُهُ أن أحمدَ قصد هشام بن عائذٍ بالتَّوثيق، ونَقَلَه ابنُ أبي حاتمٍ في هشامٍ أبي كُليبٍ. فالله أعلم أيَّ ذلك هو الصَّحيح.
وقد خُولف هشامٌ هذا.
خالَفَه المُغيرَةُ بنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، فرواه عن ابن أبي نُعْمٍ، أنَّه سمع أبا هُريرَة، يقولُ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كَسب الحجَّام، وعن ثمَن الكَلب، وعن عَسْب الفَحل.
أخرَجَه النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(4693)، وفي "المُجتبى" (7/ 310 - 311) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ، عن مُحَمَّدٍ - هو غُندَرٌ -، قال: ثنا شُعبَةُ، عن المُغيرَة بهذا.
وأخرَجَه أحمدُ (2/ 299) قال -: حدَّثَنا مُحمَّدٌ - هو غُندَر -، حدَّثَنا شُعبَةُ، عن المُغيرَة، قال: سمِعتُ عُبيدَ الله بن أبي نُعْمٍ يُحدِّثُ - قال عبدُ الله بنُ أحمد: قال أبي: إنَّما هو عبدُ الرَّحمن بنُ أبي نُعْمٍ، لكنْ غُندَر كذا قال -، أنَّه سمِع أبا هُريرَة
…
فذَكَره، وزاد:"وكَسبَ البَغِيِّ"، وقال في آخِرِه:"قال أبُو هُريرَة: وعَسْب الفَحل، وهذه مِن كيسي".
• قلتُ: هكذا وقع في هذه الرِّواية!!
والنَّهي عن "عَسْب الفَحل" ثابتٌ رفعُهُ في حديثِ أبي هُريرَة، وأنا أخشَى أن يكُون غُندَر لم يَضبط الحديثَ سَنَدًا ولا مَتنًا كما رأيتَ.
ورواه عنهُ مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ على الصَّواب، ولم يَقُل في روايَته:"هذه مِن كيسي". والله أعلم.
والصَّواب في هذا الاختِلاف على ابن أبي نُعْمٍ أن الحديث مِن مُسنَد أبي هُريرَة. والله أعلم.
* خامسًا: حديثُ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
أخرَجَه عبدُ الله بنُ أحمد في "زوائد المُسنَد"(1/ 147) قال: حدَّثنا مُحمَّد بن يحيى ..
وأبو يَعلَى (357)، وعنه ابنُ عَديِّ (3/ 1776) قال: حدَّثنا أبُو خيثمة ..
وابنُ عَديٍّ أيضًا (5/ 1776) عن أبي بكرٍ بن أبي النَّضر ..
والحاكمُ في "عُلُوم الحَديث"(ص 1009)، قالوا: ثنا عبدُ الصَّمد بن عبد الوارث، أخبَرَني أبي، ثنا الحَسَن بن ذكوانَ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن عاصم بن ضَمرَةَ، عن عليٍّ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أكل كُلِّ ذي ناب من السِّباعِ، وكُلِّ ذي مخِلَبٍ من الطَّير، وعن ثَمَن المَيْتة، وعن الخَمر، والحُمُر الأهليَّة، وكسبِ البَغِيِّ، وعن عَسْب كلِّ ذي فَحلٍ.
قال ابنُ عَديٍّ: "وهذا الحديثُ يرويه الحَسَنُ بنُ ذكوان، عن عمرِو بن خالد - وعَمرٌو مترُوكُ الحديث -، ويُسقِطُه الحَسَنُ بنُ ذكوان من الإسناد لضعفِهِ".
وروايةُ عمرِو بن خالدٍ هذه: أخرَجَها أبو الحَسَن الحَمَّامِيُّ في "التَّاسع من الفَوائِد"(ق 153/ 1) مِن طريق إبراهيمَ الحربيِّ، قال: ثنا أبُو مَعمَرٍ،
ثنا عبدُ الوارِث، عن الحَسَن بن ذَكوَان، عن عمرِو بن خالدٍ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ بهذا الإسناد، بالفَقرة الأخيرة منه.
وقال: "هذا حديثٌ غريبٌ من حديث حبيب بن أبي ثابتٍ، عن عاصم بن ضَمرَة. لا أعلَمُ حدَّث به إلَّا عمرُو بنُ خالدٍ".
ونَقَل الحاكِمُ عن مُحمَّد بن نصرٍ، قال:"قال أبو عبد الله مُحمَّدُ بنُ نصرٍ: وهذا حديثٌ لم يَسمَعه الحسنُ بنُ ذَكوانَ مِن حبيب بن أبي ثابتٍ؛ وذلك أن مُحمَّد بن يحيَى حدَّثَنا، قال: حدَّثَنا أبو مَعمَرٍ، قال: حدَّثَني عبدُ الوارث، عن الحَسَن بن ذَكوَان، عن عَمرِو بن خالدٍ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ. وعمرٌو هذا مُنكَرُ الحديث، فدلَّسَه الحَسَنُ عنه" انتهَى.
أمَّا معناه:
فالعَسْبُ - بفتح العين، وسُكُون السِّين، المُهملَتين، وفي آخره مُوحَّدةٌ -، ويقال له: العَسِيبُ أيضًا، فهو: ماءُ الفَحلِ، أو أُجرَة الجِمَاع.
والفَحْلُ، هو: الذَّكَرُ مِن كُلِّ حيوانٍ، فرسًا كان، أو جَمَلًا، أو تَيْسًا، أو غير ذلك، كما في "الفتح"(4/ 461).
281 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذَا حَضَرتُم المِّيَتَ، فقُولُوا خَيرًا، فَإِنَّ المَلائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "كتاب الجنائز"(919/ 6) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ بنُ أبي شيبة، وأبو كُريبٍ، قالا: ثنا أبو مُعاوية، عن الأَعمَش، عن شَقيقٍ أبي وائلٍ، عن أُمِّ سَلَمة مرفُوعًا: "إذا حَضَرتُم المَيِّت - أو: المريض
…
"، والباقي مثله، قالمت أُمُّ سَلَمة: فلمَّا مات أبو سلَمة، أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقُلتُ: "يا رسُول الله! إنَّ أبا سَلَمة قد مات"، قال: "قُولي: اللَّهُمَّ! اغفر لي وله، وأَعقِبني منه عُقبَى حسنةً"، - قالت: - فقُلتُ، فأَعقَبَنِي الله مَن هو خيرٌ مِنه، مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
واستدرَكَه الحاكمُ (4/ 16)، فوَهِم.
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (1447) ..
والطَّبَرانيُّ في "الدُّعاء"(1151)، وأبو نُعَيمٍ في "المُستخرَج على مُسلمٍ"(2055) عن عُبيد بن غَنَّامٍ ..
وابنُ عبد البر في "التَّمهيد"(3/ 181) من طريق مُحمَّد بن وضَّاحٍ، قالوا: ثنا أبو بَكرٍ بنُ أبي شيبة - وهذا في "المُصنَّف"(3/ 236) -، قال: حدَّثَنا أبو مُعاوية بهذا الإسناد.
ولم تَقَع القِصَّة في "المُصنَّف".
وأخرَجَهُ أحمدُ (6/ 291)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(8/ 88)، وإسحاقُ بنُ راهَوَيه في "المُسنَد"(1908/ 94) ..
والتِّرمذيُّ (977) قال: حدَّثَنا هنَّادٌ - هو ابنُ السَّرِيِّ - ..
وابنُ ماجَهْ (1447) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ مُحَمَّدٍ ..
وأبو عَوانَة في "المُستخرَج" - كما في "إتحاف المَهَرَة"(18/ 117) -، قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ حَربٍ، ومُحمَّد بنُ عُبيدٍ، قال سَبعَتُهُم: حدَّثَنا أبو مُعاوية بهذا الإسناد.
قال التِّرمِذِيُّ: "حسَن صحيحٌ".
وأخرَجَهُ أبو داوُد (3115) ..
وابنُ حِبَّان (ج 7/ رقم 3005)، وابنُ عساكِر في "تاريخ دمشق"(39/ 197) عن الفضلُ بنُ الحُبَاب، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ، قال: أخبَرَنا سُفيانُ الثَّوْريُّ، عن الأعمش بهذا الإسناد.
وتابعه عبدُ الرَّزَّاق، فرَوَاه عن الثَّوْريِّ بهذا الإسناد، دون القصة.
أخرَجَه أحمدُ (6/ 322) ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 722)، وفي "الدُّعاء" (1148) قال: حدَّثَنا إسحاقُ بنُ إبراهيم الدَّبَرِيُّ، قالا: ثنا عبدُ الرَّزَّاق - وهذا في "مُصنَّفه"(ج 3/ رقم 6066) -.
وأخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "الدُّعاء"(1148) من طريق عبد الصَّمَد بن حسَّان، عن الثَّوْريِّ بهذا.
وأخرَجَه أبُو عَوَانة، عن أبي داوُد الحفْرِيِّ عُمرَ بن سعدٍ ..
وأوبو بَكرٍ الشَّافع ي ُّ في "الغَيلانيَّات"(863، 864)، ومِن طريقِه الشَّجَرِيُّ في "الأمالي"(1/ 252، و 2/ 287) عن أبي حُذيفة النَّهدِيِّ، كلاهُما عن الثَّوريِّ بهذا.
وأخرَجَه النَّسَائيُّ في "المُجتبَى"(4/ 4 - 5)، وفي "عَمل اليوم واللَّيلة" (1069) قال: أخبرنا محمدُ بنُ المُثنَّى ..
وأحمدُ في "المُسنَد"(6/ 356)، قالا: ثنا يحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، عن الأعمش بهذا الإسناد بتمامه.
وأخرَجَه أحمدُ (6/ 306)، وأبو عَوانَة - كما في "إتحاف المَهَرة"(17/ 118) -، عن عبد الله بن نُميرٍ ..
وأبو يَعلَى (ج 12/ رقم 6964)، وابنُ أبي خَيثَمةَ في "تاريخِه"(4457) من طريق جرير بن عبد الحميد ..
وأبُو عَوانَة، عن وكيع بن الجرَّاح ..
وإسحاقُ بنُ راهَوَيه (1907/ 93) قال: أخبَرَنا عيسَى بنُ يُونُس ..
وأبُو الشَّيخ في "طَبَقات المُحدِّثين"(683) عن سعيد بن زكريَّا ..
والطَّبَرانيُّ في "الدُّعاء"(1149)، وفي "الصَّغير"(631) من طريق عيسى بن الضَّحَّاك ..
وعبدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب"(1537)، وابنُ سعدٍ في "الطبقات"(8/ 88)، والبَيهقِيُّ (3/ 383 - 384) عن عبيد الله بن مُوسَى ..
والطَّبَرانيُّ في "الدُّعاء"(1150) من طريق أبي إسحاق الفَزَارِيِّ،
جميعًا عن الأعمش بهذا الإسناد.
وأخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(725) من طريق واصلٍ الأحدب ..
وفي "الدُّعاء"(1152) من طريق عاصم بن بَهدَلة، كلاهما عن أبي وائل بهذا الإسناد، ببعض اختصارٍ.
قال التِّرمِذِيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
ويرويه قَبيصةُ بنُ ذُؤيبٍ، عن أُمِّ سَلَمَة، قالت: دخَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أبي سَلَمَة وقد شَقَّ بصرُهُ، فأغمَضَه، ثمَّ قال:"إنَّ الرُّوح إذا قُبض تَبِعَه البَصَرُ"، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال:"لا تَدْعُوا على أنفُسِكُم إلَّا بخيرٍ؛ فإنَّ الملائِكة يُؤمِّنُون على ما تَقُولون"، ثُمَّ قال:"اللهمَّ! اغفِر لأبي سَلَمَةَ، وارفَع دَرَجته في المَهدِيِّين، واخلُفهُ في عَقِبِه في الغابِرين، واغفِر لنا وله يا ربَّ العالمَين. اللهُمَّ! افسَح في قَبرِه، ونوِّر له فيه".
أخرَجَه مُسلمٌ في "الجنائز"(920/ 7)، وأبُو عَوانة في "المُستخرَج" - كما في "إتحاف المَهَرة"(18/ 155) -، وابنُ ماجَهْ (1454)، وأحمدُ (6/ 297)، وأبو يعلَى (7030)، ومن طريقِه المزِّيُّ في "التَّهذيب"(19/ 27 - 26)، وابنُ حِبَّان (7041)، والطَّبَرانِيُّ في "مُسنَد الشَّامِيِّين"(2143)، وفي "الدُّعاء"(1154)، والدَّارَقُطنيُّ في "العِلل"(15/ 208)، والبَيهَقِيُّ في "السُّنن الكَبير"(3/ 384 - 385)، وفي "الصَّغير"(1018)، وفي "المَعرِفة"(5/ 216) عن مُعاوية بن عمرٍو، ثنا أبُو إسحاق الفَزاريُّ، عن خالد الحذَّاءِ، عن أبي قِلابَة، عن قَبيصَةَ بن ذُؤيبٍ بهذا.
وأخرَجَه أبو داوُد (3118)، وأبو عَوَانَة في "المُستخرَج"، والطَّبَرانيُّ
في "الكبير"(ج 23/ رقم 712)، عن عبد المَلِك بن حبيبٍ أبي مروان ..
والنَّسائيُّ في "الكُبرى"(8285) عن أبي صالحٍ محبوب بن موسى الفرَّاءِ ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 712)، وأبو نُعَيمٍ في "المستخرَج"(2059)، والمِزِّيُّ في "التَّهذيب"(19/ 26) عن المسيَّب بن واضحٍ، ثلاثتُهم عن أبي إسحاق الفَزَاريِّ إبراهيمَ بن مُحمَّد بن الحارث بهذا الإسناد.
وتُوبع أبو إسحاقَ الفَزَارِيُّ ..
فأخرَجَه مُسلمٌ (920/ 8)، وأبو نُعَيمٍ في "المُستَخرَج"(2060)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(713)، وفي "مُسنَد الشَّاميِّين"(2144)، وفي "الدُّعاء"(1155)، والدَّارَقُطنيُّ في "العِلل"(15/ 208) عن عُبيد الله بن الحَسَن ..
والدَّارقُطنِيُّ في "العِلل"(15/ 209)، والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(714)، وفي "مُسنَد الشَّامِيِّين"(2145) عن مَخلَد بن هلالٍ، كلاهُما عن خالدٍ الحذَّاء بهذا الإسناد.
• قلتُ: هكذا رواه موصولًا: أبو إسحاق الفَزَاريُّ، وعُبيدُ الله بن الحسنِ، ومَخلَدُ بنُ هلالٍ.
وخالَفَهُم سُفيانُ الثَّوريُّ، فرواه عن خالدٍ الحذَّاءِ، عن أبي قِلابة، عن قَبيصَةَ بن ذُؤيبٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وساق نَحوَه، هكذا مُرسَلًا.
أخرَجَه ابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 241) قال: أخبَرَنا وكيعُ بنُ
الجرَّاح، والفَضلُ بنُ دُكَينٍ، ومُحمَّدُ بنُ عبد الله الأسَدِيُّ، عن الثَّوريِّ بهذا.
وروايةُ الجَماعَة أرجَحُ، ولعلَّ سُفيانَ قصَّر في إسنادِهِ.
وخُولف خالدٌ الحذَّاءُ ..
خالَفَه أيُّوبُ السَّختِيَانِيُّ، فرواه عن أبي قِلابَة، قال: أتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا سَلَمة بنَ عبد الأسَد يَعُودُه، فوافق دُخُولُه عليه خُروجَ روحِه، - قال: - فقُلن النِّساءُ عند ذلك، فقال:"مَهْ! لا تَدعُون على أنفُسِكُنَّ إلَّا بخيرٍ؛ فإنَّ الملائكَةَ تَحضُرُ الميتَ - أو قال: أهلَ الميِّتِ -، فيُؤمِّنون على دُعائهم، فلا تَدعُون على أنفُسكُنَّ إلَّا بخيرٍ"، ثمَّ قال:"اللهمَّ! افسَح له في قبره، وأَضِئ له فيه، وعظِّم نُورَه، واغفِر ذنبه. اللهمَّ! ارفَع دَرَجته في المَهديِّين، واخلُفه في تَرِكتِه في الغابِرين، واغفِر لنا وله يا ربَّ العالمَين"، ثمَّ قال:"إنَّ الرُّوح إذا خَرجَ تَبِعَه البصَرُ، أما رأيتُم إلى شُخُوص عينيه؟ ".
أخرَجَه عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 3/ رقم 6067) عن مَعمَر بن راشدٍ ..
وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 241 - 242) عن حمَّاد بن زيدٍ، كلاهُما عن أيُّوب، عن أبي قِلابة بهذا.
ولعلَّ التَّقصيرَ في وصله مِن أيُّوبَ، فقد كان شديدَ العُوَاءِ في رفع الحديثِ، وقد ورث هذا مِن شيخِه محمد بن سيرين، رحمهما الله تعالَى. وقد رواه الوهريُّ، عن قبيصةَ بن ذُؤيبٍ، قال: لما حضرت أبا سَلَمَةَ بن عبد الأسد الوفاةُ، حضَرَه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وبينَهُ وبين النِّساء سِترٌ مستُورٌ،
فبَكَين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الميِّتَ يَحضُرُ ويُؤَمِّنُ على ما يقولُهُ أهلُهُ. وإنَّ البَصَر لَيَشخَصُ للرُّوح حين يُعرَجُ بها"، فلمَّا قاظَت نَفسُه بسط النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كفَّيه على عينيه فأغمَضَهُما.
أخرَجَهُ ابنُ سعدٍ (3/ 241) عن ابن أبي ذئبٍ، ويُونُس بن يزيد ..
والشَّافِعِيُّ في "المُسنَد"(1/ 257)، ومِن طريقِهِ البَيهَقِيُّ في "المعرفة"(5/ 215)، والبَغَوِيُّ في "شَرح السُّنَّة" (5/ 299) قال: أخبَرَنا إبراهيمُ بنُ سعد بن إبراهيم، ثلاثتهُم عن الزُّهريِّ بهذا.
وقد اختُلِف على هؤلاء في إسناده.
فرواه يزيدُ بنُ هارون، عن ابن أبي ذئبٍ، عن الزُّهريِّ، عن قبيصَة مُرسلًا كما مَرَّ عند ابن سَعدٍ.
ورواه مَعنُ بنُ عِيسى، ومُحمَّدُ بنُ إسماعيل بن أبي فُدَيكٍ، قالا: أخبَرَنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن الزُّهريِّ، عمَّن سمع قبيصَةَ بنَ ذُؤيبٍ ....
أخرَجَه ابنُ سعدٍ أيضًا (3/ 241).
وذكر الدَّارَقُطنِيُّ أن يُونُس رواه عن الزُّهريِّ، قال: أخبَرَني مَن سمع قبيصةَ بنَ ذُؤيبٍ ....
وأمَّا إبراهيمُ بنُ سعدٍ، فرواه عنه الشَّافِعيُّ كما مرَّ.
وخالَفَه الحُسَينُ بنُ سيَّارٍ الحرَّانيُّ، فرواه عن إبراهيم بن سعدٍ، عن الزُّهريِّ، عن قَبيصة، عن أُمِّ سَلَمة.
ذَكَرَه الدَّارَقُطنيُّ في "العِلل"(15/ 207).
وابنُ سيَّارٍ هذا هو آخِر مَن روَى عن إبراهيمَ بن سعدٍ.
وذَكَر الدَّارَقُطنيُّ أيضًا أنَّ ابنَ عُيَينَة رواه عن مَعمَرٍ، عن الزُّهرِيِّ، فأرسَلَه، ولم يَذكُر قبيصةَ في إسنادِهِ. ورجَّح أن أشبَهَ هذه الوُجُوهِ مِن حديث الزُّهريِّ: "الزُّهريُّ، عمَّن سمع قبيصةَ بنَ ذُؤيبٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
…
مُرسَلًا". وهذا لا يضُرُّ الطَّريقَ المَوصولَ الذي أخرَجَهُ مُسلِمٌ وغيرُهُ. والحمدُ لله ربِّ العالمَين.
(تنبيه)
قال الذَّهَبيُّ في "تلخيص المُستدرَك": "قلتُ: خ م، إن لم يَكُونا أخرجاه" انتهَى، كذا قال! وقد رأيتَ أن البُخاريَّ لم يُخَرِّجه.
282 -
سُئلتُ عن حديثٍ: عن ابن عبَّاسٍ: "إِنَّما أُمِرتُم بالطَّواف بالبيت، ولم تُؤمَرُوا بدخُولِه".
• قلتُ: هذا الحديث صحيحٌ.
فقد أخرَجَهُ مُسلِم في "الحَجِّ"(1330/ 395) قال: حدَّثَنا إسحاقُ بنُ إبراهيم، وعَبدُ بن حُميدٍ، جميعًا عن ابن بكرٍ، قال عَبدٌ: أَخبَرَنا مُحمَّدُ بن بَكرٍ، أخبَرَنا ابنُ جُريجٍ، قال: قُلتُ لعطاءٍ: أَسمِعتَ ابنَ عبَّاسٍ، يقُول:"إِنَّما أُمِرتُم بالطَّواف، ولم تُؤمَرُوا بدُخُولِه"؟ قال: لم يَكُن يَنهَى عن دُخُوله، ولكنِّي سمعتُه يقولُ: أخبَرَنِي أُسامةُ بنُ زيدٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا دَخَل البيتَ دعا في نواحيه كُلِّها، ولم يُصلِّ فيه، حتَّى خَرجَ، فلمَّا خرجَ، رَكعَ في قُبُلَ البيتِ ركعتين، وقال:"هذه القِبلةُ". قُلتُ له: ما نَواحِيها؟ أَفِي زواياها؟ قال: بل في كُلِّ قِبلةٍ مِن البيت.
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ (2/ 328) من طريق أحمد بن سلَمة، ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيم بهذا الإسناد.
وأخرَجَه ابنُ خُزَيمَة (3003، 3015).
والبَيهَقِيُّ (2/ 328) من طريق أحمد بن سهل بن بَحرٍ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ مَعمَر بن رِبعيٍّ، قال: ثنا مُحمَّدُ بنُ بَكرٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَه أبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد أُسامة"(25، 34) من طريق
هارُون بن عبد الله، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ بَكرٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ أحمد (5/ 208) ..
وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد أُسامة"(24) من طريق زُهير بن حربٍ، قالا: ثنا رَوْحُ بنُ عُبادة، ثنا ابنُ جُريجٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ أبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد أسامة"(19) من طريق يَعقُوب بن إبراهيم ..
والطَّحَاوِيُّ في "شَرح المعاني"(1/ 389) قال: حدَّثَنا أبو بَكْرَةَ بَكَّارُ بنُ قتيبة القاضي ..
وابنُ حِبَّان (ج 7/ رقم 3208) من طريق مُوسَى بن مُحمَّد بن حَيَّان، قالوا: ثنا أبو عاصمٍ الضَّحَّاكُ بنُ مخَلَدٍ، ثنا ابنُ جُريجٍ فذَكَر مِثلَه.
وأخرَجَهُ البَغَوِيُّ (33) مِن طريق عليّ بن شُعيبٍ، ثنا عبدُ المَجِيد، قال: أخبَرَنا ابنُ جُريجٍ مثلَه سواء.
كذا رواه عليُّ بنُ شعيبٍ، عن عبد المَجِيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ.
وخالَفَهُ حاجبُ بنُ سُلَيمان المَنْبِجِيُّ، فرواه عن ابن أبي رَوَّادٍ، قال: حدَّثَنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن أُسامة.
فسقط ذِكرُ ابن عبَّاسٍ.
أخرَجَه النَّسَائِيُّ في "المُجتبَى"(5/ 218).
وراجَعتُ "أطراف المِزِّيِّ"(1/ 48)، فوجَدتُه نصَّ على سُقُوط ذِكر ابن عبَّاسٍ في رواية ابن أبي رَوَّادٍ.
ولكن رأيتُهُ في "السُّنَن الكُبرَى"(2/ 393) للنَّسَائِيِّ، بذات الإسناد
الواقع في "المُجتبَى"، فذَكَر ابنَ عبَّاسٍ في إسناده، وهذا الموضعُ يحتاجُ إلى تحريرٍ. والله أعلم.
وقد وقع في هذا الحديث اختلافٌ آخرُ في إسناده.
فأخرَجَهُ البُخاريُّ في "كتاب الصلاة"(1/ 501) قال: حدَّثَنا إسحاقُ بنُ نَصرٍ، قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّزَّاق، أخبَرَنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، قال: سمِعتُ ابنَ عبَّاسٍ، قال: لمَّا دَخَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم البيتَ، دعا في نواحيه كُلِّها، ولم يُصلِّ حتَّى خَرَج منه، فلمَّا خَرَج رَكَع ركعتين في قُبُلِ الكَعبَة، وقال:"هذه القِبلةُ".
وأخرَجَهُ البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 334) من طريق البُخاريِّ.
• قلتُ: كذا رواه إسحاقُ بنُ نَصرٍ، شيخُ البُخاريِّ، عن عبد الرَّزَّاق، فجَعَلَه من مُسند ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُ آخَرُون، فرَوَوهُ عن عبد الرَّزَّاق، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن أُسامة بن زيدٍ.
فأخرَجَهُ النَّسائيُّ (5/ 220 - 221) قال أخبَرَنا أبو عطاءٍ، ابنُ أصرَمَ النَّسائيُّ ..
وأحمدُ (5/ 201، 208) ..
وابنُ خُزَيمة (432) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ يحيى، قالوا: ثنا عبد الرَّزَّاق - وهذا في "مُصنَّفه"(5/ 78/ 9056) قال: أخبَرَنا ابنُ جُريجٍ بهذا الإسناد. وعنده زيادةٌ في آخِرِه.
فقد رَوَاه عن عبد الرَّزَّاق: خُشَيشُ بنُ أَصرَم، وأحمدُ بنُ حَنبَلٍ،
ومُحمَّدُ بنُ يحيى الذُّهِليُّ، وإسحاقُ بنُ إبراهيم الدَّبَرِيُّ.
وذَكَر الحافظُ في "الفتح"(1/ 501) أن الإسماعيليَّ وأبا نُعيمٍ، رَوَيَاه في "المُستخرَج"، مِن طريق إسحاق بن رَاهَوَيهِ.
كُلُّ هؤلاء، جَعَلُوه من مُسنَد أُسامة، خِلافًا لإسحاقَ بن نَصرٍ.
ورجَّح الحافظُ روايةَ الجماعة.
واللهُ أعلَمُ.
283 -
سُئلتُ عن صحَّة ومعنى حديث: "تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَمِ والقَطِيفَةِ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انتَقَشَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَه البُخاريُّ في "الجِهاد"(6/ 81)، وفي "الرِّقاق"(11/ 253)، ومن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 261)، وابنُ ماجَهْ (4135)، وابن حِبَّان (3218)، والبَيهَقِيُّ (9/ 159، و 10/ 245) من طُرُقٍ عن أبي بَكرٍ بن عيَّاشٍ، عن أبي حَصِينٍ - بفتح الحاء المُهمَلة - عثمانَ بن عاصمٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا فذَكَره، وبقيتُهُ: "
…
والخَمِيصَة، إِن أُعطيَ رَضِي، وَإِن لَم يُعطَ لَم يَرضَ".
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "الجِهاد"(6/ 81)، ومن طريقه البَغَوِيُّ (14/ 261 - 262) قال: وزاد لنا عَمْرٌو، قال: أنا عبدُ الرَّحمن بنُ عبد الله بن دينارٍ، عن أبيه، عن أبي صالحٍ بهذا الإسناد، بالسِّياق الذي ذَكَره السَّائل.
وعَمْرٌو، شيخُ البُخاريِّ، هو ابنُ مرزُوقٍ.
وقد أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(2595) قال: حدَّثَنا أبو مُسلِمٍ الكَشِّيُّ ..
والقَطِيعِيُّ في "الفوائد"، ومن طريقه الشَّجَرِيُّ في "الأمالي" (2/ 154) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ عبد الله البَصرِيُّ، قالا: ثنا عَمْرُو بن مرزُوقٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (4136) من طريق صَفوان بن سُلَيمٍ، عن عبد الله بن دينارٍ بهذا.
• قلتُ: كذا رواه عبدُ الزَحمن بن عبد الله بن دينارٍ، وصفوانُ بنُ سليمٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، فجعلاه من مُسنَد أبي هُريرَة.
وخالَفَهُما الحَسَنُ بنُ دينارٍ، فرواه عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا.
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 714، و 6/ 2272)، عن مُحمَّد بن مُنَاذِرٍ، ثنا الحَسَنُ بنُ دينارٍ بهذا.
وهذه مُخالَفةٌ لا قيمة لها؛ ومُحمَّدُ بنُ مُناذِرٍ قال فيه ابنُ مَعِينٍ: "لا يَروِي عنه مَن فيه خيرٌ"، وقال ابنُ عَديٍّ:"لم يَكُن من أصحاب الحديث، وكان الغالبُ عليه المُجُونُ واللَّهوُ".
والحَسَنُ بنُ دينارٍ متروكُ الحديث.
والصَّواب أن الحديث من مُسنَد أبي هُريرَة.
وقد رواه عَمْرو بنُ عبد الغَفَّار الفُقَيمِيُّ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ (5/ 1796)، وقال:"هذا غيرُ محفوظٍ عن الأعمش"؛ وعِلَّتُهُ الفُقَيمِيُّ هذا؛ فإنَّهُ متروكٌ.
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(4073) عن أبي حازمٍ ..
والخطيبُ في "تاريخه"(8/ 53) عن الحَسَن البصريِّ، كلاهما عن أبي هُريرَة.
ولا يَصِحَّان جميعًا.
والتَّعويل على رواية البُخاريِّ. واللهُ أعلَمُ.
ومعنى الحديث ..
خَابَ وخَسِر مَن جَعَل جَمعَ المال هَمَّهُ وَوَكَدَهُ، فلا يَصدُرُ إلَّا عنه، ولا يَزِنُ النَّاسَ إلَّا به، ولذلك عبَّر عنه بالعَبد، ولم يَقُل:"مالك الدِّينار"، ولا:"جامع الدِّينار"؛ ليُؤذِن بانغِمَاسه في محَبَّة الدُّنيا وشَهَواتها، كالأسير الذي لا يَجِدُ خَلَاصًا.
ومعنى: "وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ"، فهذا دُعاءٌ عليه، أنَّهُ إذا دَخَلَت فيه شَوكَةٌ لم يَجد من يُخرِجُها له بالمنقاش.
واللهُ أعلَمُ.
284 -
سُئلتُ عن حديث: "إِذا صَلَّى أَحَدُكُم الرَّكعَتَينِ قَبلَ الصُّبحِ، فَلْيَضطَجع عَلَى جَنبِهِ الأَيمَنِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (1261)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ (3/ 45) قال: حدَّثَنا مُسدَّدٌ، وأبو كاملٍ، وعُبيدُ الله بنُ عُمَر بن مَيسَرة ..
وابنُ حزمٍ في "المُحلَّى"(3/ 196) عن أبي داوُد، عن عُبيد الله وحدِه ..
والتِّرمِذِيُّ (420)، ومن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(3/ 460 - 461)، وابنُ خُزَيمةَ (1120)، وابنُ حِبَّان (2468)، وابنُ عساكرَ (71/ 259) عن بِشر بن مُعاذٍ العَقَدِيِّ ..
وأحمدُ في "مُسنَده"(2/ 415) قال: حدَّثَنا عَفَّانُ - هو ابن مُسلِمٍ -، قالُوا: ثنا عبدُ الواحد بنُ زيادٍ، ثنا الأعمشُ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
زاد أبو داوُد، وابنُ خُزَيمة، وابن حِبَّان: فقال له مَرْوان بن الحكَم: "أمَا يُجزِئُ أحدَنا ممشاهُ إلى المسجد حتى يَضطَجِع يمينيه؟ "، - قال عُبيد الله في حديثه: - قال: "لا"، فبَلَغَ ذلك ابنَ عُمر، فقال:"أَكثَر أبو هُريرَة على نَفسِه"، - قال: - فقيل لابن عُمَر: "هل تُنكِر شيئًا ممَّا يقولُ؟ "، قال:"لا، ولكنَّهُ اجتَرَأَ، وجَبُنَّا"، - قال: - فبَلغ ذلك أبا هُريرَة، قال:"فما ذَنبِي إن كُنتُ حفِظتُ ونَسَوْا؟! ".
• قلتُ: وهذا إسنادٌ ظاهرهُ الصِّحَّةُ.
ولكن أعلَّه البَيهَقِيُّ، ونقل ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(8/ 126)، عن الأثرم، قال:"سمِعتُ أحمدَ بن حَنبلٍ، يُسألُ عن الاضطجاع بعد رَكعَتَى الفَجر، فقال: ما أفعلُه أنا. قيل له: لِمَ! تَأخُذ به؟ قال: ليس فيه حديثٌ يَثبُتُ. قلتُ له: حديثُ الأعمشَ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة؟ قال: رواه بعضُهم مُرسلًا" انتهَى.
وقال الذَّهَبيُّ في "الميزان"(2/ 672)، في ترجمة "عبد الواحد":"احتَجَّا به في الصحيحين، وتَجَنَّبا تلك المناكير التي نُقِمت عليه، فيُحَدِّث عن الأعمش بصيغة السَّماع، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرة، مرفُوعًا - وذكر هذا الحديثَ، وعزاه إلى أبي داوُد - ".
وهذا التَّصريح بالتَّحديث، الذي ذَكَره الذَّهَبيُّ، لم أَقِف عليه عِند أحدٍ من المُخَرِّجين.
وقد ذَكَر العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 55)، عن أبي داوُد الطَّيَالِسِيِّ، وذُكر عنده عبدُ الواحد بنُ زيادٍ، فقال:"عَهِد إليَّ نقلَ أحاديث كان يُرسِلُها الأعمشُ، فوَصَلَها كُلَّها، يقولُ: حدَّثَنا الأعمشُ، قال: حدَّثَنا مُجاهدٌ، في كذا وكذا"، فهذا يدلُّ على أن عبد الواحد وَهِمَ في حديث الأعمش عن مُجاهدٍ خاصَّةً، وكان الأعمش إذا رَوَى عن صغار شُيُوخِه، مثلَ مُجاهدٍ، أَكثَرَ من التَّدليس، بخلاف رِوايَتِه عن أبي صالحٍ، فإنَّه من جُلَّة شُيُوخه، ثمَّ هو مُكثِرٌ عنه، حتَّى استثناه الذَّهَبيُّ، مع غيره، مِمَّن يَروِي عنهُم الأعمش، أن يُقبَل حديثُه إذا رَواهُ الأعمشُ عنه بالعَنعَنَة،
كما تراه في ترجمة الأعمش من "الميزان".
أمَّا ما رواه العُقيليُّ، عن يحيى بن سعيدٍ القَطَّان، قال:"ما رأيتُ عبدَ الواحدِ بنَ زيادٍ يَطلُبُ حديثًا قطُّ بالبصرة، ولا بالكُوفَة، وكُنَّا نَجلِسُ على بابِه يومَ الجُمُعة بَعد الصَّلاة، أُذاكِرُه حديثَ الأعمش، لا يَعرِفُ منه حرفًا"، فهذا مُقابَلٌ بقول ابن مَعِينٍ، وسُئِل عن أَثبتِ أصحاب الأعمش بعد سُفيانَ وشُعبَة، فقال:"أبو مُعَاويةَ الضَّرير، وبعده عبدُ الواحد بنُ زيادٍ"، وقد احتجَّ به الشَّيخانِ في حديثه عن الأعمش، ولم يَقُم دليلٌ على أن أحدًا من أصحاب الأعمش الكبار خالَفَهُ في هذا الحديث، فإنْ وَجَدنَا عَمِلنَا بمُقتَضَاه، فلَو رَوَاه مَن هو أثبتُ مِن عبد الوَاحد بن زيادٍ، عن الأعمش، فأرَسلَهُ، كما وقع في كلام أحمد، حكَمنَا لهذا الثَّبت عَلَيه، إلَّا أَن يقوم مانعٌ.
وقولُ أحمدَ: "رواه بعضُهم مُرسَلًا"، فلا نَدرِي من هذا "البعض"، وهل ويُقدَّم عَلَى عبدِ الواحد، أم لا.
وأمَّا قولُ المُنذِرِيِّ في "تهذيب سُنَن أبي داوُد"(2/ 76): "قيل: إنَّ أبا صالحٍ لم يَسمَع هذا الحديث من أبي هُريرَة، فيكونُ مُنقَطِعًا".
فقد سَبَقَهُ إلى ذلك أبو بَكرٍ بنُ العَرَبِيِّ، فقال في "عارضة الأَحوَذِيِّ" (2/ 217):"وحديثُ أبي هُريرَة معلولٌ، لم يَسمَعهُ أبو صالحٍ من أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالحٍ كلامٌ" ا. هـ.
فأمَّا القولُ بأن أبا صالحٍ لم يَسمَعهُ مِن أبي هُريرَة، فلم أَقِف على قَائِلِه مِن أئمَّة الحديث الكِبار، ولا على دَلِيلِه.
وابنُ العَرَبِيِّ رحمه الله فليسَ مِن أَحلَاسِ هذا العِلم، وله أوهامٌ في تَوالِيفِه،
في التَّصحيح والتَّضعيف، والكلامِ على عِلَل الحديثِ.
وقد صحَّحه التِّرمذِيُّ، وابنُ حزمٍ في "المُحلَّى"(3/ 196)، لكنَّه اشتَطَّ في الاستدلال به على فَرضِيَّة الضَّجْعَةِ بعد ركعَتَيْ الفجر.
وصحَّحَهُ أيضًا من المُتأخِّرين النَّوَوِيُّ في "شرح مُسلِمٍ"(6/ 19)، وفي "المجمُوع"(4/ 28) على شرط الشَّيخَين، وقال في "رياض الصَّالحين"(ص 343)، وفي "الخُلاصَة" (1/ 536):"رواه أبو داوُد، والتِّرمِذِيُّ، بأسانيدَ صحيحةٍ".
كذا قال! وهي عِبارةٌ، يُكثِرُ منها النَّوَوِيُّ، ولا معنى لها، وليس للحديث عندَهُمَا إلَّا هذا الإسنادُ الواحدُ.
وصحَّحَهُ أيضًا الشَيخُ المُحقِّق أبو الأشبال أحمد شاكر، وشيخُنا الألبانيُّ في "صحيح الجامع"(1/ 171).
وقد أعلَّه البَيهَقِيُّ بأنَّ محُمَّدَ بن إبراهيم التَّيمِيَّ رواه عن أبي صالحٍ، قال: سَمِعتُ أبا هُريرَة يُحدِّثُ مَرْوان بن الحكم، وهو على المدينة، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم كان يَفصِلُ بين ركعتيه مِن الفَجر وبين الصُّبح بِضَجْعَةٍ على شِقِّه الأيمن.
وقد تابعه سُهيلُ بنُ أبي صالحٍ، عن أبيه بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ النَّسَائيُّ في "الكُبرَى"(1/ 455)، عن أبي كُدَيْنَةَ يحيى بن المُهَلَّب ..
وابنُ ماجَهْ (1199) عن شُعبة، كلاهُمَا عن سُهيل بن أبي صالحٍ بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "وهذا أَولَى أن يَكُون مَحفُوظًا، لمُوافَقَتِه سائرَ الرِّوايات،
عن عائشة وابنِ عبَّاسٍ" ا. هـ.
والأعمشُ أَثبَتُ مِنهُما في أبي صالحٍ.
فإن قُلتَ: نعم! ولكنَّ الشأنَ في الرَّاوِي عنه، وهو ابنُ زيادٍ.
قلنا: نعم! وقد قَدَّمنا لك أنَّهُ أحدُ الأثبات في الأعمش، كما قال ابنُ مَعِينٍ، فالصَّوابُ الحُكمُ له، حتَّى يظهر لنا أنَّهُ قد خالفه من هو أَمكَنُ مِنه.
فالرَّاجِح عِندي صِحَّةُ الحديث، بالشَّرط المذكُور.
واللهُ أعلَمُ.
285 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله كَتَبَ كِتَابًا، قَبلَ أَن يَخلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِأَلفَيْ عَامٍ، أَنزَلَ مِنهُ آيَتَينِ، خَتَمَ بِهِما سُورَةَ البَقَرَةِ، وَلَا يُقَرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقَرَبَهُا شَيطَانٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ بهذا السِّياق.
أخرَجَهُ النَّسائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(967) عن حجَّاج بن مِنهالٍ ..
والتِّرمذِيُّ (2882) عن عبد الرَّحمن بن مَهدِيِّ، قالا: حدَّثَنا حمَّادُ بنُ سَلَمة، عن أشعثَ بن عبد الرَّحمن الجَرْمِيِّ، عن أبي قِلَابَةَ، عن أبي الأشعث الصَّنعَانِيِّ، عن النُّعمان بن بَشِيرٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
وأخرَجَهُ النَّسائِيُّ أيضًا (967) قال: أخبَرَنا أحمدُ بنُ سُليمان ..
والدَّارِمِيُّ (2/ 323)، وأحمدُ (4/ 274)، وأبو عُبيدٍ في "فضائل القُرآن"(ص 124) ..
والحاكمُ (1/ 562)، وعنه البَيهَقِيُّ في "الأسماء والصِّفات"(1/ 365) عن مُحمَّد بن إسحاق الصَّغَّانِيِّ ..
والحاكمُ أيضًا (2/ 260) عن الحُسين بن الفضل ..
والسَّهمِيُّ في "تاريخ جُرجان"(ص 129) عن إبراهيم بن أبي خالدٍ العَطَّارِ، قال سبعَتُهم: ثنا عفَّانُ بنُ مُسلِمٍ، ثنا حمَّادُ بنُ سَلَمة بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ ابنُ الضُّرَيسِ في "فضائل القُرآن"(167) قال: حدَّثنا مُوسَى بنُ إسماعيل ..
وأحمدُ (4/ 274) قال: حدَّثَنا رَوْحُ بنُ عُبادة ..
وابنُ حِبَّان (782) عن هُدبَة بن خالدٍ ..
والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(4/ 266 - 267) عن عبد الجبَّار بن العلاء، قال أربعتُهُم: حدَّثَنا حمَّادُ بنُ سَلَمة بهذا الإسناد سواء.
ولم يَذكُر ابنُ الضُّرَيسِ في روايته: "ثلاث ليالٍ".
وهو عند ابن حِبَّان بآخِرِه.
قال التِّرمِذِيُّ: "حَسَنٌ غريبٌ"، ولكن وقع في "أطراف المِزِيِّ" أنَّهُ:"غريبٌ". وكذلك استغرَبَهُ البَغَوِيُّ.
وهذا هو الأَوْلَى؛ وأَشعثُ بنُ عبد الرَّحمن وثَّقه ابنُ مَعِينٍ، وقال أحمدُ:"لا بأس به"، فإنَّه لم يَروِ عنه إلَّا حَمَّادُ بنُ سَلَمة وحده، فهنا محَلُّ النَّظَر، هل إذا تَفَرَّد واحدٌ بالرِّواية عن رَاوٍ، ووثَّقَهُ بعضُ النُّقَّاد، هل يقومُ هذا التَّوثيقُ مقام الرَّاوِي الثَّاني، فتَنتَفِي جهالةُ عَينِه وحالِه؟ فهذا عندي مُحتَملٌ، فإذا تَفرَّد مثلُ هذا الرَّاوِي، عن شيخٍ له مثلِ أبي قِلابة الجرْمِيِّ، فأقلُّ أحواله أن يُتَوَقَّف في حديثه، ويُنظَرَ فيه، وهذا معنى قول أبي حاتمٍ الرَّازِيِّ في الرَّاوي:"شيخٌ"، وقد قال هذا الحُكمَ في أَشعَث بن عبد الرَّحمن، وأفصح ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعدِيل" (1/ 1/ 37) عن معنى من يقول فيه أبوه:"شيخٌ"، فقال:"يُكتَبُ حديثُه، ويُنظَر فيه".
وقد وقع اختلافٌ في إسناده ..
فرواه هُدْبَةُ بنُ خالدٍ، عن حمَّاد بن سَلَمة، ثنا أشعثُ بنُ عبد الرَّحمن، عن أبي قِلابَة، عن أبي أسماء الرَّحْبِيِّ، عن شدَّاد بن أوسٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(7146) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ أحمد بن حنبلٍ، ثنا هُدْبَةُ بنُ خالدٍ بهذا.
فزاد في الإسناد أبا أسماء، وجَعَلَه من مُسنَد شدَّاد بن أوسٍ.
ولعلَّ هذا مِن حمَّاد بن سَلَمة، أو من أشعث؛ لأنَّ هُدبَةَ رواه عن حمَّاد بن سَلَمة مِثلَ رِواية الجماعة عن حمَّادٍ.
ووقع فيه مخالفةٌ أُخرَى.
فقد رواه أيُّوبُ السَّختِيَانِيُّ، عن أبي قِلابة، عن أبي صالحٍ الحَارِثِيِّ، عن النُّعمان بن بَشيرٍ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ النَّسائيُّ في "اليوم واللَّيلة"(966) ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(1360) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مُحمَّد بن صدقة ..
وأيضًا في "الصَّغير"(147) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مُحمَّد بن الصَّبَّاح أبو عبد الله البصريُّ، قالوا: ثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجَوهريُّ، قال: نا رَيْحَانُ بنُ سعيدٍ، قال: نا عبَّادُ بنُ منصورٍ، عن أيُّوب السَّختِيَانِيِّ بهذا.
قال الطَّبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن أيُّوب إلَّا عبادٌ، تَفرَّد به رَيْحَانُ".
وهذه مُخالَفةٌ واهيةٌ؛ ورَيْحَانُ وعبَّادٌ ضعيفان.
وأبو صالحٍ الحارِثيُّ مجهولُ الحال.
والصَّوابُ في هذا حديثُ حمَّاد بن سَلَمة، كما رَجَّحَه أبو زُرعَة الرَّازِيُّ،
على ما في "عِلل ابن أبي حاتمٍ"(1678)، وقد مرَّ ما فيه.
ولم أَرَ في صحيح الحديث أنَّ من قَرَأَ آخر آيَتَينِ من سورَة البَقَرة في بيتٍ ثلاث ليالٍ لم يَقرَبهُ شيطان، إنَّما المحفوظُ قولُه صلى الله عليه وسلم:"البيتُ الذي تُقرَأُ فيه سُورةُ البَقرَة لا يَدخُلُه شيطانٌ"، وقد خرَّجتُهُ في "تفسير ابن كثيرٍ".
والحمدُ لله تعالى.
286 -
سُئلتُ عن حديث: "قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّما أَتَقَبَّلُ الصَّلَاةَ مِمَّن تَوَاضَعَ بِهَا لِعَظَمَتِي، وقَطَع نَهَارَه بِذِكرِي، وكَفَّ نَفسَهُ عن الشَّهَواتِ ابتِغَاءَ مَرضَاتِي، ولم يَتَعَاظَم على خَلْقِي، ولم يَبِت مُصِرًّا عَلَى خَطِيئَةٍ، يُطعِمُ الجَائِعَ، وَيُؤوِي الغَرِيبَ، ويَرحَمُ المُصَابَ، فذَلِكَ الذي يُفِيءُ نُورُ وَجهِهِ كما يُضِيءُ نُورُ الشَّمسِ، يَدعُونِي فَأُلَبِّي، وَيَسَأَلُنِي فَأُعطِي، فمِثلُهُ عِندِي كمِثلِ الفِردَوسِ في الجِنَانِ، لا يَفنَى ثَمَرُها، وَلَا تَتَغَيَّرُ عن حَالهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ البَزَّار (348 - زوائده) قال: حدَّثَنا أبو داوُد سليمانُ بنُ سيفٍ ..
وابنُ حِبَّان في "المجرُوحين"(2/ 31)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 827) من طريق إسحاق بن زيدٍ، قالا: ثنا أبو قَتَادة عبدُ الله بنُ واقدٍ، عن حَنظَلة بن أبي سفيان، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا فذَكَره.
زاد البَزَّار: "
…
أَكَلَؤُهُ بِعِزَّتِي، وَأَستَحفِظُهُ مَلَائِكَتِي، أَجعَلُ لَهُ فِي الظُّلمَةِ نُورًا، وَفي الجَهَالَةِ حِلمًا".
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُه مرفُوعًا بهذا اللَّفظ إلَّا عن ابن عبَّاسٍ، بهذا
الإسناد. وعبدُ الله بنُ واقدٍ لم يَكُن بالحافظ، حدَّثَ عنه جماعةٌ كثيرةٌ من أهل العلم، وكان حَرَّانيًا، عفيفًا، مُتَفَقِّهًا بقول أبي حنيفة، وكان يَغلَط، ولا يَرجِع إلى الصَّواب، وكان قاضيًا يُكنَى أبا قتادة" انتهى.
وأبو قتادة هذا ضعَّفه أكثرُ النُّقَّاد، مثل ابن مَعِينٍ، وأبي زُرعة، والدَّارَقُطنِيِّ، وابنِ عَدِيٍّ، في آخَرِين. ومِنهُم من تَرَكه، كالبُخارِيِّ، والجُوْزْجَانِيِّ. ومَشَّاه أحمدُ في روايةٍ، وقال:"رُبَّما أخطأ". وكأنَّ مَن تَرَكَه؛ لِعِلَّةِ أنَّه كان يغلط، ويُصِرُّ على غلطه، كما وقع في كلام البَزَّار.
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا الحديثُ مَتنُهُ غيرُ مَحفُوظٍ. ولم يُؤتَ مِن قِبَلِ حَنظَلَةَ، وإنَّمَا أُتِيَ من قِبَلِ الرَّاوِي عنه: أبو قتَادةَ، واسمُهُ عبدُ الله بنُ وَاقدٍ الحَرَّانِيُّ، وقد تُكُلِّم فيه
…
إلَّا أن أحمدَ بن حَنبَلٍ أَثنَى عليه، وقال: كان رجُلًا صالِحًا، إلَّا أنَّهُ يَحمِلُ على حِفظِه فيُخطِئُ. وهذا الحديثُ عندي رواه عن حنظلةَ تَوَهُّمًا أن حَنظَلَةَ حدَّثَهُ بهذا؛ لأنَّ عامَّةَ ما يَروِي حَنظَلَةُ مُستَقِيمٌ".
واللهُ أعلمُ.
287 -
سُئلتُ عن حديث: "قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: إِنِّي وَالجِنُّ وَالإِنسُ فِي نَبَإٍ عَظِيمٍ، أَخلُقُ، وَيُعبَدُ غَيرِي، وَأَرزُقُ، وَيُشكَرُ سِوَايَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ الحاكمُ في "تاريخ نيسابورَ" - كما في "الدُّرِّ المنثور"(6/ 116) -، وعنه البَيهَقِيِّ في "شُعب الإيمان"(4563) مِن طريق مُهَنَّى بن يحيى، حدَّثَنا بَقِيَّةُ بنُ الوليد، حدَّثَنا صفوانُ بنُ عَمْرٍو، حدَّثَني عبدُ الرَّحمن بنُ جُبير بن نُفَيرٍ، وشُريحُ بنُ عُبيدٍ الحضرَمِيَّانِ، عن أبي الدَّرداء، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
وأعَلَّه المُنَاوِيُّ في "فيض القدير"(4/ 469) قائلًا: "مُهَنَّى بنُ يحيى مجهولٌ. وبقيَّةُ بنُ الوليد أَورَدَهُ الذَّهبيُّ في "الضُّعفاء"، وقال: "يَروِي عن الكذَّابين، ويُدَلِّسُهم". وشريح بنُ عُبيدٍ ثقةٌ، لكنه يُرسل" انتهَى.
كذا قال! ومُهَنَّى بنُ يحيى ثقةٌ نبيلٌ، كما قال الدَّارَقُطنِيُّ، ووثَّقَه آخرُون.
ولو فَرَضنَا أنَّه كما قال المُنَاوِيُّ، فقد تابعه حَيوَةُ بنُ شريحٍ، ثنا بقيَّةُ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "مُسنَد الشَّاميِّين"(974، 975)، ومِن طريقه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(19/ 56).
وبقيَّةُ صَرَّحَ بالتَّحديث في سائر الإسناد، ولكن عِلَّةُ هذا الإسناد الانقطاعُ بين شُريحٍ، وعبد الرَّحمن، وبين أبي الدَّرداء، وقد سُئِل مُحمَّدُ بنُ عَوفٍ:"هل سَمِعَ شُريحٌ من أبي الدَّرداء؟ "، قال:"لا"، قيل له:"فسَمِعَ من أحدٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ "، قال:"ما أظنُّ ذلك".
واللهُ تعالى أعلَمُ.
288 -
سُئلتُ عن حديث: "لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ، وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيهَا السُّرُجَ وَالمَسَاجِدَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ (2358) ..
والبَيهَقِيُّ (4/ 78) عن مُوسى بن إسماعيل ..
وأبو يَعلَى (5908)، وعنه ابنُ عديٍّ (5/ 1698) قال: حدَّثَنا شيبانُ بنُ فَرُوخٍ ..
وابنُ حِبَّان (3178) عن قُتيبة بن سعيدٍ، قالوا: ثنا أبو عَوَانَة، عن عُمَرَ بن أبي سَلَمة، عن أبيه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ".
ووقع عند ابن حِبَّان: "زائرات".
وأخرَجَهُ التِّرمذِيُّ (1056) قال: حدَّثَنا قُتيبةُ بنُ سعيدٍ ..
وابنُ مَاجَهْ (1576) عن مُحمَّد بن طالبٍ ..
وأحمدُ (2/ 337، 356) قال: حدَّثنا يحيى بنُ إسحاق، قالوا: ثنا أبو عَوَانة، بهذا اللَّفظ: لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زَوَّارَات القُبُور.
قال التِّرمذِيُّ: "حَسَنٌ صحيحٌ".
وقال البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 417): "صحَّ عن أبي هُريرَة".
وعُمَرُ بنُ أبي سلَمة مُختَلَف فيه، وهو كما قال ابنُ عَدِيٍّ: "مُتَمَاسِك
الحديث، لا بأس به " يعني: عند عدم المُخالَفة، فالإسنادُ حسن.
وله شاهدٌ من حديث ابن عباسٍ، قال: لَعَن رسُول الله صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ القُبُورِ، والمُتَّخِذين عليها المَسَاجدَ والسُّرُجَ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3236) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ ..
وأحمدُ (1/ 229، 287، 324، 337) قال: حدَّثنا يحيى القَطَّانُ، ووكيعٌ، ومُحمَّدُ بنُ جعفرٍ، وهاشمُ بنُ القاسم، وحجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ ..
وابنُ أبي شَيبَةَ (2/ 376، 3/ 344) قال: حدَّثَنا وكيعٌ ..
والطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(2733)، ومن طريقه أبو القاسم البَغَوِيُّ في "الجَعدِيَّات"(1550)، والبَيهَقِيُّ (4/ 78)، والحاكِم في "المُستدرَك"(1/ 374) عن أبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ، ومُسلِمِ بن إبراهيم، ويحيى القَطَّان، ومُحمَّد بن جعفرٍ ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12725) عن عَمْرو بن مَرزُوقٍ، قال عَشَرتُهُم: ثنا شُعبةُ بنُ الحجَّاج، عن مُحمَّد بن جُحَادَةَ، قال: سمعتُ أبا صالحٍ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
ووَقَعَ في رواية وكيعٍ، عند أحمد وغيرِهِ:"سمعتُ أبا صالحٍ، بعدما كَبِرَ".
وتابعه عبدُ الوارث بنُ سعيدٍ، فرواه عن مُحمَّد بن جُحادة بسَنَدِه سواء.
أخرَجَهُ النَّسائيُّ (4/ 94 - 95)، والتِّرمذيُّ (325)، وابنُ حِبَّان (3179، 3180)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(2/ 416، 417) عن قتيبة بن سعيدٍ ..
وابنُ ماجَهْ (1575) عن أزهر بن مَرْوان ..
والبيهقيُّ (4/ 78) عن عفَّان بن مُسلِمٍ، قال ثلاثَتُهُم: ثنا عبدُ الوارث بن سعيدٍ بهذا الإسناد.
ورواه همَّامُ بنُ يَحَيَى، عن مُحمَّد بن جُحادةَ أيضًا.
أخرَجَهُ البيهقيُّ (4/ 78).
• قلتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ وأبو صالحٍ هو بَاذَامُ، ويُقال: بَاذَانُ، ضَعَّفه أهلُ العِلم؛ لأنه كَبِر وساء حِفظُه. وزَعَم ابنُ حِبَّان، عَقِب الحديثِ، أن أبا صالحٍ هذا اسمُهُ ميزَانُ، ووَثَّقَه، ولم يُتابِعهُ أحدٌ على ذلك، كما قال الحافظ ابنُ حَجَرٍ في "النُّكَت الظِّراف"(4/ 368).
وأَكثر أصحاب شُعبَة يقولُ: "زائرات"، وبعضُهم يقولُ:"زَوَّارَات".
وقد حَسَّن التِّرمِذِيُّ حديثَ ابن عبَّاسٍ هُنا، ولعلَّ ذلك لاعتِضَادِه بحديث أبي هُريرَة السَّالِف، وإلَّا فحديثُ ابن عبَّاسٍ لا يَنبَغِي تحسينُه بهذا الإسناد.
ثُمَّ هُناكَ عِلَّةٌ أُخرَى في هذا الحديث، لم أَر من تَنَبَّه لها ..
فقد أَخرَجَ أبو القاسم البَغَوِيُّ في "الجَعديَّات"(1549) قال: حدَّثَنا محمُودُ بنُ غَيلَان، نا وكيعٌ، قال: سمِعتُ شُعبةَ، يقول:"سمِعتُ من مُحمَّد بن جُحادة ثلاثةَ أحاديثَ، واحدٌ نَسِيتُه، وآخَرُ شكَكتُ فيه، وواحدٌ حَفِظتُه"، وهذا إسنادٌ صحيحٌ غايةٌ، وفيه إثباتُ حَدِيثَين عن مُحمَّد بن جحادة، لأن شُعبةَ نَسِي الثَّالِثَ فلم يُحَدِّثْ به.
أمَّا الحديثُ الذي حَفِظَه.
فهو الذي أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الإجارة"(2283)، وفي "الطَّلاق"(5348)، وأبو داوُد في "البُيوع"(3425)، والدَّارِمِيُّ (2/ 185)، وغيرُهم، وهو مُخَرَّج في "غوث المكدود"(587) من طُرُقٍ عن شُعبَة، عن مُحمَّد بن جُحادة، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة، قال: "نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كَسبِ الإِماء.
فهذا يَعنِي أن حديثَ ابن عبَّاسٍ في لَعنِ زائرات القُبورِ ممَّا شكَّ فيه شُعبةُ، بدلالة النَّصِّ السَّابق، وهذا ممَّا يزيدُ حديثَ ابن عبَّاسٍ ضعفًا. والله أعلم.
وله شاهدٌ من حديث حسانَ بن ثابتٍ رضي الله عنه، قال: لَعَنَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم زَوَّارات القُبُور.
أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (1574)، وأحمدُ (3/ 442)، وابنُ أبي شَيبَة (4/ 141)، والحاكمُ (1/ 374)، والطَّبَرانيُّ (ج 4/ رقم 3591)، والبَيهَقِيُّ (4/ 78) من طُرُقٍ عن سُفيان الثَّوْريِّ، عن عبد الله بن عُثمان بن خُثَيمٍ، عن عبد الرَّحمن بن بَهْمَان، عن عبد الرَّحمن بن حسَّان بن ثابتٍ، عن أبيه.
وصحَّح إسنادَهُ البُوصِيرِيُّ في "مِصباح الزُّجاجة"(1/ 516)، ولم يُصِب؛ لأنَّ ابن بَهْمَان، وإن وَثَّقَهُ العِجليُّ وابنُ حبان، فقد قال ابنُ المَدِينيِّ:"لا نَعرِفُه، ولم يَروِ عنه إلَّا ابنُ خُثيمٍ"، فهذا يُقبَلُ حالَ المُتابَعة، وهي مَفقُودةٌ هنا، فيما نعلم، فالواجب التَّوَقُّف في حديثه.
وبالجملة فلا يَثبُت إلا حديثُ أبي هُريرَة. والله أعلم.
وأمَّا زيادة "السُّرُج" في حديث ابن عبَّاسٍ فليس لها شاهدٌ، كما حقَّقَهُ شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله، في الضَّعيفة (223).
واللهُ أعلمُ.
289 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن كَانَ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (855)، وعَبدُ بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(1050)، والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(1/ 217)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 331)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 542)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 334)، والبَيهَقِيُّ في "جزء القراءة"(344، 395)، وابنُ الجَوزِيِّ في "التَّحقيق"(472) من طرقٍ عن الحَسَن بن صالحٍ، عن جابرٍ الجُعفِيِّ، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا.
وأخرجه أحمدُ (3/ 339) قال: حدَّثَنا أسودُ بنُ عامرٍ، أخبَرَنا الحسنُ بنُ صالحٍ، عن أبي الزُّبَير، عن جابر مرفُوعًا.
فسقط ذِكرُ "جابرٍ الجُعفِيِّ" شيخِ الحسن بن صالحٍ.
وقد رأيتُ الحديثَ عند الدَّارَقُطنِيِّ (1/ 331) عن مُحمَّد بن أشكابَ، عن شَاذانَ - وهو الأسودُ بن عامرٍ -، عن الحَسَن بن صالحٍ، عن جابرٍ الجُعفِيِّ، عن أبي الزُّبَير.
وذِكرُه ثابتٌ في "التَّحقيق" لابن الجَوزِيِّ. وقد رواه من طريق أحمدَ.
وراجعتٌ "أطراف المُسنَد"(2/ 139) للحافظ، فرأيتُه أثبتَ ذِكرَ جابرٍ الجُعفِيِّ في الإسناد.
ثُمَّ راجعتُ "إتحافَ المَهَرة"(3/ 363) في مُسنَد جابرٍ، فوجدتُه عَقَدَ ترجمةً لـ "جابرٍ الجُعفِيِّ، عن أبي الزُّبَير"، وذكر الحديثَ، وعزاه لأحمدَ، والطَّحاوِيِّ، والدَّارَقُطنيِّ. لكنَّه لم يَذكُر إسناد أحمدَ. ولم يَعقِد ترجمةً لـ "الحسن بن صالحٍ، عن أبي الزُّبَير". فهذا يدُلُّ - والله أعلم - على سُقوط ذِكر جابرٍ الجُعفِيِّ من النُّسخة المطبُوعة من "مُسنَد أحمد".
لكنِّي رأيتُ الحديثَ عند ابن أبي شَيبَة (1/ 377) قال: حدَّثَنا مالكُ بنُ إسماعيل، ثنا حَسَنُ بنُ صالحٍ، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ.
فسقط ذِكرُ جابرٍ الجُعفِيِّ أيضًا.
ورأيتُ الدَّارَقُطنِيَّ رواه عن مُحمَّد بن أشكابَ، عن أبي غسَّانَ - وهو مالكُ بنُ إسماعيل -، عن الحَسَن بن صالحٍ، عن جابرٍ الجُعفِيِّ جهذا.
ونُسخةُ "المُصنَّف" فيها سقط وتحريفٌ. فالله أعلم.
والصَّحيحُ في هذا إثباتُ جابرٍ الجُعفِيِّ في الإسناد. وقد أثبَتَهُ أبو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعُبيدُ الله بنُ مُوسَى، وأحمدُ بنُ عبد الله بن يُونُس، وسَلَمةُ بنُ عبد الملك.
وكذلك، شاذَانُ، وأبو غَسَّانَ، على اختلافٍ عليهما.
قال أبو نُعيمٍ: "مشهورٌ من حديث الحَسَن".
وأَعَلَّه البُخاريُّ في "جزء القراءة"(23) بقوله: "ولا يُدرَى، أَسَمِعَ جابرٌ من أبي الزُّبَير؟ " انتهى.
وإسنَادُه ضعيفٌ جدًّا؛ ومع العِلَّة التي أبداها البُخاريُّ، فجابرٌ الجُعفِيُّ تالفٌ.
قال ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 357 - شروح المُوطَّإِ): "وجابرٌ الجُعفِيُّ ضعيفُ الحديث، مذمومُ المَذهَب، لا يُحتَجُّ بمثله، وإن كان حافظًا".
ولكنَّه تُوبِع ..
تابعه ليثُ بنُ أبي سُليمٍ، فرواه عن أبي الزُّبير بسَنَدِه سواء.
أخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ (1/ 217)، والدَّارَقُطنِي (1/ 331) وابنُ عَدِي (6/ 2107)، وابنُ الأعرابيِّ في "مُعجَمه"(ج 9/ ق 177/ 1)، والبَيهَقِيُّ (2/ 160)، وفي "القراءة"(343، 345)، وابنُ الجوزيِّ في "التحقيق"(473) من طريق إسحاق بن منصُورٍ، ويحيى بن أبي يُكيرٍ، كلاهُما عن الحَسَن بن صالحٍ، عن ليثٍ، وجابرٍ، معًا عن أبي الزُّبير به.
وقال البُخارِيُّ في "جُزء القراءة"(22): "هذا خبر لم يَثبُت عند أهل العِلم من أهل الحِجَاز وأهلِ العِراق وغيرِهم؛ لإرساله وانقطاعه".
قال الدَّارَقُطنِيُّ في "السُّنَن": "جابرٌ وليثٌ ضعيفان"، وقال في "العِلل" (ج 2/ ق 61/ 1):"لا يصحُّ رفعُه".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا معروفٌ بجابرٍ الجُعفيِّ، عن أبي الزُّبير، يرويه الحَسَن بن صالحٍ، عن ليثٍ وجابرٍ، فجَمَعَ بينَهُما".
وقال البَيهَقِيُّ: "جابرٌ الجُعفِيُّ، وليثُ بنُ أبي سليمٍ لا يُحتجُّ بهما، وكُلُّ من تابَعَهُما على ذلك أَضعَفُ مِنهُما، أو من أحدهما".
وقال ابنُ المنذر: "لا يثبت".
• قلت: وهذا ما كنتُ كتبتُه في "مجلَّة التَّوحيد"، وأحلتُ على بقيَّة
البَحث في كتابي "تسلية الكَظِيم بتخريج أحاديثِ تفسير القُرآن العظيم". وكنتُ قد انتهيتُ من تخريج الجُزء الخامس منه في المحرَّم 1418 هـ، وفيه هذا الحديثُ. فرأيتُ أن أنقُل هنا خُلاصَة ما كتبتُه هناك؛ خشيةَ أن يتأخَّر نشرُ "تسلية الكظيم".
فقلتُ هنا، تتمَّةً لهذا البَحث:
ورد في تقوية جابرٍ الجُعفِيِّ كلامٌ غيرُ معتَبرٍ ..
قال البَيهَقِيُّ في "جُزء القراءة"(ص 157 - 158): "ورُوِي في توثيق جابرٍ حكايةُ ابن عُليَّة، قال: قال شُعبَةُ: أمَّا جابرٌ الجُعفِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ إسحاقَ فصدُوقَان في الحديث. فاعتَمَد قولَ شُعبَةَ في توثيق جابرٍ الجُعفِيِّ، حيثُ رَوَى ما يوافِقُه، ولم يعتمده في تصديق مُحمَّدِ بن إسحاقَ بن يَسارٍ، حيث رَوَى ما يُخالِفُه في القراءة خلف الإِمام. ومَن نَظَر في عِلم الحديث ووَقَف على أقاويل أهلِهِ عَلِمَ ما بين مُحمَّدِ بن إسحاقَ بن يسارٍ، وجابرٍ الجُعفِيِّ في العَدالة؛ قد مَضَى بعضُ ما بَلَغَنَا من أقاويل الأئِمَّة في توثيق مُحمَّد بن إسحاق بن يسارٍ، وتكذيب جابِرٍ الجُعفِيِّ وتكفِيرِهِ. ولو لم يَكُن في جَرح جابرٍ الجُعفِيِّ إلَّا قولُ أبي حَنِيفَة رحمه الله لكَفَاهُ به شَرًّا، فإنَّه رآه وجَرَّبَه، وسَمِع منه ما يُوجِب تكذِيبَه فأَخبَرَ به ..
وذلك فيما أخبَرَنا أبو سعدٍ المالِينِيُّ، أنا أبو أحمدَ بنُ عَدِيٍّ الحافظُ، نا الحَسَنُ بنُ عبد الله القَطَّانُ، نا أحمدُ بنُ أبي الحوارِيِّ، قال: سمعتُ أبا يحيى الحمَّانِيَّ، يقول: سمعتُ أبا حَنيفَةَ، يقول: "ما رأيتُ فيمن رأيتُ أفضلَ مِن عطاءٍ. ولا لَقِيتُ فيمن لقيتُ أَكذَبَ من جابرٍ الجُعفِيِّ؛
ما أتَيتُه بشيءٍ قطُّ مِن رأيي إلَّا جاءَني فيه بحديثٍ، وزَعَم أن عنده كذا وكذا ألفُ حديثٍ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يُظهِرهَا! ".
وأخبَرَنا أبو سعدٍ، أنا أبو أحمدَ، أنا عبدُ الله بنُ مُحمَّد بن عبد العزيز، نا محمُودُ بنُ غَيلَان، نا عبدُ الحميد، قال: سمعتُ أبا سعدٍ الصَّاغَانِيَّ، يقول: جاء رجلٌ إلى أبي حَنِيفَة، فقال: ما تَرَى في الأخذ عن الثَّورِيِّ؟ فقال: "اكتُب عنه، ما خَلَا حديثَ أبي إسحاق، عن الحارِثِ، عن عليٍّ، وحديثَ جابرٍ الجُعفِيِّ".
أخبَرَنا أبو عبد الله الحافظُ، قال: سمعتُ أبا العبَّاس مُحمَّدَ بن يعقُوبَ، يقول: سمعتُ العبَّاس بن مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، يقول: سمعتُ أبا يحيى الحِمَّانِيَّ، يقول: سمعتُ أبا حَنيفة، يقولُ:"ما رأيتُ فيمن رأيتُ أَكذَبَ من جابرٍ الجُعفِيِّ" انتهَى.
• قلتُ: وقل تُوبِعا - أعني: ليثًا، والجُعفِيَّ - ..
تابَعَهُما عبدُ الله بنُ لَهِيعَة، فرواه عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا مثلَه.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "جُزء القِراءة"(347)، من طريق أبي الفَضل مُحمَّد بن عبد الله السَّختِيَانِيِّ، ثنا أبو إسحاقَ مُحمَّدُ بنُ أحمد المَالِينِيُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ أَشرَسَ، نا عبدُ الله بنُ عُمَر، عن ابن لهَيعَة بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "هكذا وجَدتُه في "كتاب التَّلخيص"، وأخبَرَناه أبو عبد الله في "التَّاريخ"، حدَّثَني أبو النَّضر الأَنمَاطِيُّ - وهو ابنُ بنت أبي يحيى البَزَّازِ -، نا أبو إسحاقَ مُحمَّدُ بنُ أحمدَ المَنَادِيليُّ، نا مُحمَّدُ بنُ أَشرَسَ، نا بِشرُ بن القاسم، نا عبدُ الله بنُ لهِيعَة فذَكَرَه.
قال لنا أبُو عبدِ الله: قلتُ له: مَن مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله؟ فأَثنَى عليه. قلتُ: فمَن المالِينِيُّ الطَّيرُ الذي رَواه عنه؟ قال: لا يُعرَف. قلتُ: فمُحمَّدُ بنُ أَشرَس أعرفه أنا حقَّ المَعرِفَة، هو مترُوكُ الحديث.
قال أبو عبد الله: سمعتُ أبا عبد الله مُحمَّدَ بنَ يعقُوبَ الحافظَ، وسُئل عن حديثٍ لابن أشرَسَ، فقال: لا تَحلُّ الرِّوايةُ عنه.
ورَوى بإسنادٍ مُظلِمٍ عن إبراهيمَ بن رُستُمَ، عن أبي عِصْمَةَ نُوْحِ بن أبي مَريَم، عن الفَضل بن عطيَّة، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وإبراهيمُ بنُ رُستُمَ، ونُوحُ بنُ أبي مَريَم، لهما من الأَفراد والمُنكَرات ما يُوجِب تركَ الاحتجاجِ برِوَايَتِهما. كيف وفي صِحَّة هذه الرِّواية عَنهُما مقالٌ، لجَهَالة الرَّاوي عن إِبراهِيمَ؟
وكان مُحمَّدُ بنُ سِيرِينَ يقُولُ: هذا الحديثُ دِينٌ فانظُرُوا عن من تَأخُذُون دِينكم" انتهَى.
وتابَعَهُما أيضًا صالحُ بنُ حيٍّ، فرواه عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ، مرفُوعًا بهذا.
قال البَيهَقِيُّ (ص 156 - 157): "والعَجَبُ، أن بعضَ مَن جَمَع في هذه المسألة أخبارًا تُوافِقُ مَذهَبه، رَوَى مُتابَعةً لجابرٍ الجُعفِيِّ في روايته عن أبي الزُّبَير، حديثًا عن عبدِ الله بن يُوسُف الأصبَهَانِيِّ، عن أحمدَ بن أبي عِمران الهَرَوِيِّ، عن أبي جَعفَر مُحمَّد بن عليِّ بن مُحَمَّدٍ المَروَزِيِّ، عن سعيدِ بن مسعُودٍ، عن إسحاقَ بن منصُورٍ السَّلُوْلِيِّ، عن الحَسَن بن
صالحٍ، عن أبِيهِ. وجابرٌ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ. وقد رُوِّينَا هذا الحديثَ عن شَيخِنا أبي عبد الله الحافظِ، عن أبي جَعفَرٍ المَروَزِيِّ هذا، بإسنادِهِ عن الحسَنَ بن صالحٍ، عن لَيثٍ، وجابرٍ.
وأخبَرَناه أبُو عبد الله، ثنا أبُو العبَّاس مُحمَّدُ بنُ يعقُوب، ثنا العبَّاسُ بنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، ثنا يحيى بنُ أبي بُكَيرٍ، وإسحاقُ بنُ منصُورٍ السَّلُولِيُّ، قالا: ثنا الحَسَنُ بنُ صالح بن حَيٍّ، عن جابرٍ. وليثُ بنُ أبي سليمٍ، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان له إمامٌ فقِراءَة الإِمام له قِراءةٌ". فالحديثُ عن الحَسَن بن صالحٍ، عن ليثٍ، وجابرٍ. فمِن أينَ جاء له عن أَبِيه، عن جابرٍ؟! فإِمَّا أن صَحَّف فيما حَمَل من الحديث ولم يَدرِ به، وإمَّا أن تَعمَّدَه ليَكُون المُتابعَ لجابرٍ الجُعفِيِّ ثقةً غيرَ مجرُوحٍ. وأيَّهما كان، فكفَاه به ذَمًّا، وعَيبًا، وكذِبًا، وزُورًا" انتهَى.
• قلتُ: والبَيهَقِيُّ يُعرِّضُ هنا بالطحاوِيِّ، فيما أظُنُّ.
وذِكرُ تعمُّدِ الطَّحاوِيِّ الزِّيَادَةَ في الإسناد مِن عِندِه لا يجُوزُ أبدًا؛ والطَّحَاوِيُّ ثقةٌ أمينٌ حافظٌ. وهذا مِن آثار الخُصُومة بين الحنفيَّة والشَّافعيَّة. والبَيهَقِيُّ كثيرُ التَّعريض بالطَّحَاوِيِّ. غفر اللهُ لنا ولَهُما.
وتابَعَهُما أيضًا أبُو حَنِيفَة النُّعمانُ ..
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "مُسنَد أبي حَنِيفة"(ص 32) من طريق إسحاقَ. الأَزرَقِ، عن أبي حَنِيفَة، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا.
قال أبو نُعيمٍ: "كذا في أصل أبي الزُّبير، عن جابرٍ".
وهذه الرِّوايَة وهمٌ.
والصَّواب أن أبا حَنِيفَة يرويه عن جابرٍ الجُعفِيِّ، عن أبي الزُّبَير.
وانتَظِر ما يأتي.
وقال ابنُ التُّركُمانِيِّ في "الجوهر النَّقيِّ"(2/ 159 - 160) في قضيَّةِ إثباتِ جابرٍ الجُعفيِّ في الإسناد وحَذفِه، بعد أن ذَكَر روايةَ ابن أبي شيبَة الماضِيةَ:"وهذا سنَدٌ صحيحٌ. وكذا روَاهُ أبو نُعيمٍ، عن الحَسَن بن صالحٍ، عن أبي الزُّبَير، ولم يَذكُر الجُعفِيَّ. كذا في "أطراف المِزِّي". وتُوُفِّي أبو الزُّبَير سنة ثمانٍ وعِشرين ومِئةٍ، ذَكَرَهُ التِّرمِذِيُّ، وعَمْرُو بنُ عليٍّ. والحَسَنُ بنُ صالحٍ وُلِد سنة مِئةٍ، وتُوفِّي سنة سبعٍ وستِّين ومئةٍ. وسَماعُه من أبي الزُّبير مُمكِنٌ. ومَذهَبُ الجُمهور: إنْ أَمكَن لقاؤُهُ لشخصٍ، ورَوَى عنه، فرِوايَتُه محمولةٌ على الاتِّصال. فيُحمَل على أن الحسَن سَمِعه من أبي الزُّبير مرَّةً بلا واسِطةٍ، ومرَّةً أُخرَى بواسطة الجُعفِيِّ ولَيثِ بن أبي سليمٍ" انتهَى.
ونَقَل كلامَه الزَّبِيدِيُّ في "إتحاف السَّادة"(3/ 198) برُمَّتِه، ولم يَنسِبهُ إليه كعادَتِه!
• قلتُ: أمَّا رِواية أبي نُعيمٍ التي ذَكَرَها المِزَيُّ في "أطرافه"(2/ 291)، فلا أَدرِي من رَواها عنه. فإنَّ عَبدَ بنَ حُميدٍ، والعَبَّاسَ بنَ مُحَمَّدٍ، وأحمدَ بنَ الهَيثَمِ، ومُحمَّدَ بنَ أَشكابٍ، رَوَوهُ عن أبي نُعيمٍ، فأثبَتُوا الجُعفِيَّ في الإِسناد. وما أظُنُّ أن الذي رواه عن أبي نُعيمٍ يحَذفِه يترجَّحُ عليهِم جميعًا. سلَّمنا أنَّهُ وقع اختلافٌ على شاذَانَ، وأبي نُعيمٍ، وأبي غسَّانَ، فقد رواه عُبيدُ الله بنُ مُوسَى، وأحمدُ بنُ يُونُس، وسَلَمة بنُ عبد المَلِك،
فأثبَتُوا ذِكرَ الجُعفِيِّ، ولا أعلَمُ اختلافًا علَيهِم في هذا الإِسنادِ - إلَّا اختلافًا على أحمدَ بن يُونُس، يأتي -. فلو سلَّمنَا تساقُطَ رواياتِ مَن اختُلِف عليهم، لَبَقِيَت رواياتُ مَن لم يُختَلَف عليهم، وهي كافيةٌ في إثباتِهِ. ثُمَّ في تصحيح ابن التُّركُمانِيِّ لإسناد الحديث نظَرٌ؛ فإنَّ أبا الزُّبَير مشهورٌ بالتَّدليس، ولم يُصَرِّح بتحديثٍ.
ومن وُجُوه الاختلافِ على الحَسَن بن صالحٍ في إسناده، أن أحمدَ بن عبدِ الله بن يُونُس رواه، عن حَسَن بن صالحٍ، عن جابرٍ الجُعفِيِّ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"مَن كان في إمامٌ، فقِراءَةُ الإمام له قراءةٌ". أخرَجَهُ الطَّحاوِيُّ (1/ 218) قال: حدَّثَنا فَهدُ بنُ سُليمانَ ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 542) قال: أخبَرَنا إبراهيمُ بنُ شَريكٍ، قالا: ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الله بن يُونُس بهذا.
وقد تقدَّم أن أحمدَ بنَ داوُد المَكِّيَّ، وفَهدَ بنَ سُليمان، وإبراهيمَ بن شَريكٍ رَوَوهُ، عن أحمدَ بن يُونُس بهذا الإسناد، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ.
وقد تُوبع جابرٌ الجُعفِيُّ على جَعل الحديثِ مِن مُسنَد جابرٍ ..
تابَعَهُ أيُّوبُ السَّختِيَانِيُّ، فرواه عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا:"مَن صلَّى خلف الإمام، فقِراءَةُ الإمَام لِه قِراءةٌ".
أخرَجَهُ مُحمَّدُ بنُ الحَسَن في "المُوطَّإِ"(ص 99)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(7953)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 401)، والبَيهَقِيُّ في "القِراءة"(346)، وابنُ الجَوزِيِّ في "التَّحقيق"(1/ 120) من طريق سَهل بن
العَبَّاس الرَّمِليَّ، ثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ بهذا.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَرفَع هذا الحديثَ أحدٌ ممَّن رواه عن ابن عُلَيَّة إلَّا سَهلُ بنُ العبَّاس. ورواء غيرُهُ موقُوفًا".
وقال الدَّارَقُطنِي: "هذا حديثٌ مُنكَرٌ؛ وسهلُ بنُ العبَّاس مترُوكٌ".
وقال أيضًا في "العِلل"(ج 2/ ق 61/ 1 - 2): "وحدَّثَ به شيخٌ يُعرَف بسَهل بن العبَّاس، وكان ضعيفًا
…
- ثُمَّ قال: - وحديثُ سهلِ بن العبَّاس، عن ابن عُليَّة: لا أَصلَ له" انتهَى.
وقال البَيهَقِيُ: "قال أبو عبد الله - يعني: الحاكمَ -: هذا الخَبَرُ باطلٌ بهذا الإسناد. ولو صحَّ مِثلُ هذا من حديثِ أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، عن أبي الزُّبَير، عن حابرٍ، لكان الأَخذُ باليَد، ولَمَا اختَلف عليه أحدٌ. وإنما الحَمْلُ فيه على سهل بن العبَّاس هذا؟ فإنَّه مجهُولٌ لا يُعرَف".
• قلتُ: وقولُه: "كالأَخذِ باليَد" يعني: لَوُجِد في حديث الثِّقات مِن أصحاب أيُّوبَ. فلمَّا انفَرَد به مثلُ هذا المجهُول، ولم يُوجَد عند الثِّقات، دلَّ على نَكارَته وبُطلان نِسبَتِه إلى أيُّوبَ، وهذا علامَةُ الحديثِ المُنكَر. والله أعلم.
واختُلِف على أيُّوبَ السَّختِيَاتِيِّ في إسناده.
فرواه خارِجَةُ بنُ مُصعَبٍ - وهو متروكٌ -، عن أيوبَ السَّختِيَانِيِّ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر.
أَخرَجَهُ الدَّارَقُطنِي (1/ 402)، والخطيبُ (1/ 337).
قال الدَّارَقُطنِيُّ: "رَفْعُهُ وهمٌ".
ثم رواه من طريق أحمدَ بن حنبَلٍ، عن إسماعيلَ بن عُلَيَّة، ثنا أيُّوبُ، عن نافعٍ، وابنِ سيرِينَ، أنَّهُما حدَّثا عن ابن عُمَرَ، أنَّه قال في القِراءة خلف الإمام:"تَكفِيكَ قراءةُ الإمام".
وكذلك أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "جُزء القِراءة"(125).
وأخرَجَ عبدُ الرَّزَّاق (ج 2/ رقم 2812) عن هشام بن حسَّانَ، عن أنَس بن سيرِين، قال: سألتُ ابنَ عُمَر: أقرأُ مع الإمام؟ قال: "إنَّك لَضَخْمٌ!! تكفيك قراءَةُ الإمام".
وأخرَجَ مالكٌ في "المُوطَّإِ"(1/ 86/ 43) عن نافعٍ، أنَّ عبدَ الله بن عُمَر كان إذا سُئل: هل يَقرَأُ أحدٌ خلف الإمام؟ قال: "إذا صلَّى أحدُكم خلفَ الإمام فحَسْبُهُ قراءةُ الإمام، وإذا صلَّى وحدَهُ فليقرأ"، - قال: - وكان عبدُ الله بنُ عُمَر لا يقرَأُ خلف الإِمام.
وأخرَجَ عبدُ الرَّزَّاق (ج 2/ رقم 2811) عن مَعمَرٍ، وابنِ جُريجٍ، عن الزُّهرِيِّ، عن سالم بن عبدِ الله، قال:"يَكفِيكَ قراءةُ الإمام فيما يَجهَر في الصَّلاة".
قال ابنُ جُريجٍ: حدَّثَني ابنُ شِهابٍ، عن سالمٍ، عن ابن عُمَر، كان يقُولُ:"يُنصِت للإمام فيما يَجهر به في الصَّلاة، ولا يَقرَأُ مَعَهُ".
وهذه كُلُّها أسانيدُ صحيحةٌ.
وأخرَجَ عبدُ الرَّزَاق (2814) قال: أخبَرَنا داوُدُ بنُ قَيسٍ، عن زيد بن أَسلَم، عن ابن عُمَر: كان يَنهَى عن القراءة خلف الإِمَام.
• قلتُ: فالصَّحيحُ في حديث ابن عُمَر الوَقفُ. أمَّا الرَّفعُ فمُنكَرٌ.
ووَجهٌ رابعٌ من الاختلاف على الحَسَن بن صالحٍ في إِسناده ..
فرواه النَّضرُ بنُ عبد الله الأَزدِيُّ، قال: ثنا حَسَنُ بن صالحٍ، عن أبي هارُونَ العَبدِيِّ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا مِثلَه.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأَوسَط"(ج 2/ ق 179/ 2) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ بن عامرٍ، ثنا أبي، عن جَدِّي، ثنا أبو غالبٍ النَّضرُ بنُ عبد الله بهذا الإسناد.
وقال: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن الحسَن بن صالحٍ، عن أبي هارُونَ، إلَّا النَّضرُ. تفرَّد به عامرٌ".
• قلتُ: أمَّا عامرٌ، فهو ابنُ إبراهيمَ الأصبهانيُّ. وهو ثقةٌ.
والنَّضرُ مجهُولٌ. ولكنَّه لم يتفرَّد به كما قال الطَّبَرَانِيُّ ..
فتابعه إسماعيلُ بنُ عَمْرِو بن نَجِيحٍ البَجَليُّ، فرواه عن الحسَن بن صالحٍ بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(1/ 316)، وقال بعد ذِكر أحاديثَ:
"وهذه الأحاديثُ التي أَملَيتُها مع سائر روايَاتِه التي لم أَذكُرها، عامَّتُها ممَّا لا يُتابِع إسماعيلَ أحدٌ عليها. وهو ضعيفٌ" انتهَى.
كذا قال! ورِوايَةُ الطَّبَرَانِيِّ ترُدُّ عليه، وروايَتُه تَرُدُّ على الطَّبَرَانِيِّ.
فسُبحان من وَسِع كُلَّ شيءٍ عِلمًا.
وانظُر "تنبيهَ الهَاجِد"(558).
وقد خالَفَهُما في سياقِهِ مُعتَمِرُ بنُ سُليمان.
فرواه عن أبي هارُونَ العَبدِيِّ، قال: سألتُ أبا سعيدٍ الخُدرِيِّ، عن
القِراءة خلفَ الإِمام، فقال:"يَكفِيكَ قراءةُ ذاك الإمام".
أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبَة (1/ 377).
فهذا الوَجهُ أولَى. لكن مدارُهُ على أبي هارُونَ العَبدِيِّ، واسمُهُ عِمارَةُ بن جُوَينٍ، وهو مترُوكٌ.
والأَشبَهُ في كُلِّ ما مَضَى - من المرفُوع - هو حديثُ جابرٍ رضي الله عنه.
وقد وجدتُ له طريقًا آخرَ.
أخرَجَهُ أبو يُوسف القاضي في "كتاب الآثار"(113)، ومُحمَّدُ بنُ الحَسَن الشَّيبَانِيُّ في "المُوطإِ"(ص 61)، والطَّحَاوِيُّ (1/ 216)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 323، 324 - 325)، وفي "العِلَل"(ج 4/ ق 129/ 1)، وأبو نُعيمٍ في "مُسنَد أبي حَنِيفَة"(ص 228)، والبَيهَقِيُّ (2/ 159)، وفي "المَعرِفَة"(3/ 7، 79)، وفي "جُزء القِراءة"(334، 335)، والخطيبُ (10/ 340) من طريق أبي حَنِيفَة النُّعمانَ بن ثابتٍ، عن مُوسى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شدَّادٍ، عن جابر بن عبدِ الله رضي الله عنهما مرفُوعًا:"مَن كان له إمامٌ، فقِراءَةُ الإمام له قراءةٌ".
قال ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 357 - شُروح المُوطَّإِ): "ولم يُسنِدهُ غيرُ أبي حَنِيفَة، وهو سَيِّءُ الحِفظ عند أهل الحَدِيث. وقد خالَفَهُ الحُفَّاظُ فيه: سفيانُ الثَّورِيُّ، وشُعبةُ، وابنُ عُيَينَة، وجَرير، فرَوَوهُ عن مُوسى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شدَّاد مُرسَلًا. والصَّحيح فيه الإِرسَالُ، وليس ممَّا يُحتَّج به" انتهَى.
• قلتُ: رضي الله عنك!
فلم يتفرَّد بوَصلِه أبو حَنِيفَة ..
بل تابَعَهُ الحسَنُ بنُ عُمارَةَ، فرواه عن مُوسَى بن أبي عائِشَة بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ ابن عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 756)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 325).
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا لم يُوصِلهُ - فزاد في الإسناد جابرًا - غيرَ الحَسَن، وأبي حنيفة. وهو بأبي حَنِيفة أَشهَرُ منه بالحَسَن بن عُمارَةَ".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "لم يُسنِدهُ عن مُوسَى بن أبي عائِشَةَ غيرُ أبي حَنِيفَة، والحَسَنِ بن عُمارَة، وهما ضَعِيفَان".
وقال أيضًا: "الحَسَن بن عُمارَةَ مترُوكُ الحديث".
وقال أيضًا: "رَوَى هذا الحديثَ: الثَّورِيُّ، وشعبَةُ، وإسرائيلُ بنُ يُونُس، وشَريكٌ، وأبو خالدٍ الدَّالَانِيُّ، وأبو الأَحوَصِ، وسُفيانُ بنُ عُيَينة، وجريرُ بنُ عبد الحَميد، وغيرُهم، عن مُوسَى بن أبي عَائِشة، عن عبد الله بن شدَّادٍ مُرسلًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وهو الصَّواب"، وكذلك قال في "العِلَل"(ج 4/ ق 129/ 1)، وزاد:"ويُشبِهُ أن يكُون أبو حَنِيفَة وَهِم في قَولِه في هذا الحديث: عن جابرٍ".
وزاد ابنُ عَدِيٍّ ممَّن رواه مُرسلًا: وَهبًا، وزائدةَ بنَ قُدَامَة، وأبا عَوَانَة، وابنَ أبي لَيلَى، وقَيسَ بنَ الرَّبيع.
وزاد البَيهَقِيُّ في "القراءة": أبا حَنِيفَة.
وسَبَقَهُم أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ.
فقال ابنُ أبي حاتِمٍ في "العِلل"(282): "وذَكَر أبي حديثًا، رواه
الثَّورِيُّ، عن مُوسى بن أبي عَائِشة، عن عبدِ الله بن شدَّادٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءَةٌ.
قال أبي: هذا يَروِيه بعضُ الثِّقات، عن مُوسى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن رجُلٍ مِن أهل البَصرَة.
قال أبي: ولا يَختَلِفُ أهلُ العِلمِ أن من قال: "مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن جابرٍ"، أنَّه قد أخطَأَ.
قلتُ: الذي قال: "عن مُوسَى بن أبي عائشة، عن جابرٍ" فأخطَأَ، هو النُّعمان بن ثابتٍ؟ قال: نعم" انتهَى.
وكذلك قال ابنُ مَعِينٍ.
فقال ابنُ طَهمَانَ في "سُؤَالَاتِه"(397): "سمعتُ يحيى يقولُ: حديثٌ يرويه أبو حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَه، فقال: - ليس هو بشيءٍ؛ إنَّما هو عبدُ الله بن شَدَّادٍ".
وكذلك قال أبو زُرعَة، في حكايةٍ طويلَةٍ ذَكَرَها البَرذَعِيُّ في "سُؤَالَاتِه لأبي زُرعَة" (ص 717 - 725): "ورَأَى أبو زُرعَة في كِتابي حَدِيثًا، عن أبي حاتِمٍ، عن شيخٍ لَهُ، عن أيُّوبَ بن سُويدٍ، عن أبي حَنِيفَة، حديثًا مُسنَدًا، وأبو حاتِمٍ جالسٌ إلى جَنبِه، فقال لي: من يُعاتَب على هذا أنتَ أو أبو حاتِمٍ؟ قلتُ: أنا. قال: لم؟ قلتُ: لأنِّي جَبَرتهُ على قِراءَته، وكان يَأبَى، فقَرَأَهُ عليَّ بعد جَهدٍ، فقال لي قولا غَلِيظًا أُنسِيتُه في كتابي ذلك الوقت. فقلتُ له: إنَّ إبراهيمَ بن أَرُومَةَ كان يُعنَى بإسنادِ أبي حَنِيفة.
فقال أبو زُرعَة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعُون! عَظُمت مصيبَتُنا في إبراهيم! يُعنَى به! لأيِّ معنًى يُصَدِّقه؟ لاتِّباعه؟! لإِتقانه؟! ثُمَّ ذكر كلامًا غَلِيظًا في إبراهيمَ لم أُخرِجهُ هاهنا. ثُمَّ قال: رَحِم اللهُ أحمدَ بنَ حنبلٍ! بَلَغَنِي أنَّه كان في قَلبِه غُصَصٌ من أحاديثَ ظَهَرَت، عن المُعلَّى بن منصُورٍ، كان يَحتاجُ إليها، وكان المُعلَّى أَشبَهَ القَومِ بأهل العِلمِ، وذلك أنَّه كان طَلَّابَةً للعِلم، ورَحَل، وعُنِي به، فصَبَر أحمدُ عن تلك الأحاديث، ولم يَسمَع منه حرفًا، وأمَّا عليُّ بنُ المَدِينِيُّ، وأبو خَيثَمة، وعامَّةُ أصحابِنا، سَمِعوا منه، وأيُّ شيءٍ يُشبِهُ المُعلَّى من أبي حنيفة؟ المُعلَّى صدُوقٌ وأبو حَنِيفَة يُوصِل الأحاديثَ - أو كلمةً قالها أبو زُرعَةَ هذا معناها -. ثُمَّ قال لي أبو زُرعَة: حَدَّث عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فزاد - يعني: أبا حَنِيفَة - في الحديثِ: "عن جابرٍ"، يعني: حديثَ القراءة خَلف
…
" انتهَى.
• قلتُ: فهذا إجماعٌ من صَيَارِفَة الفَنِّ على وَهم أبي حَنِيفَة والحَسَنِ بن عُمارةَ في وَصل هذا الحديث.
ولأبي حَنِيفَة فيه لونٌ آخَرُ.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "مُسنَد أبي حَنِيفَة"(ص 228 - 229) من طريق زُفَر بن الهذيل، عن أبي حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عَائِشة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن أبي الوليد، عن جابِرٍ مرفُوعًا.
فزاد: "أبَا الوليد" في إسناده.
وتُوبع زُفَرُ بنُ الهُذيل ..
تابَعَهُ أبو يُوسُف القاضي، فرواه عن أبي حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن أبي الوَلِيد، عن جابرٍ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 358 - شروح المُوطَّإِ) مُعلَّقًا، ووَصَلَهُ الدَّارَقُطنِيُّ (1/ 325)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "جُزء القِراءة"(ص 150)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(7/ 2477) من طريق أحمدَ بن عبدِ الرَّحمن بن وهبٍ، ثنا عَمِّي عبدُ الله بنُ وَهبٍ، ثنا اللَّيثُ بنُ سعدٍ، عن أبي يُوسُف يعقُوبَ، بهذا الإسنادِ، عن جابر بن عبد الله، أن رجُلًا قَرَأَ خلفَ النبي صلى الله عليه وسلم في الظُّهر والعَصر، فأَومَأَ إليه رجُلٌ فنهاه، فلمَّا انصرفَ قال: أَتَنهَانِي أن أقرأ خلف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟! فتَذاكَرَا ذلك، حتى سَمِع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"من صلَّى خلف إمامٍ، فإن قِراءَتَهُ له قراءةٌ".
قال الدَّارَقُطنِيُّ: "أبو الوَليد هذا مجهُولٌ. ولم يَذكُر في هذا الإسناد جابرًا غيرُ أبي حَنِيفة".
وقال ابنُ عبد البَرِّ: "وأبو الوليد مجهولٌ، لا يُعرَف. وحدِيثُهُ هذا لا يَصِحُّ".
• قلتُ: كذا رواه ابنُ أخي ابن وَهبٍ. وخالَفَهُ عبدُ المَلِك بنُ شُعيبِ بن اللَّيث بن سَعدٍ، فرواه عن ابن وَهبٍ، نا اللَّيثُ بنُ سعدٍ، عن طَلحَة، عن مُوسى بن أبي عَائِشَة، عن عَبد الله بن شَدَّاد بن الهَادِ، عن أبي الوَلِيد، عن جابرٍ.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "جزء القِراءة"(339).
ثم رواه مرَّةً أُخرَى بهذا الإسناد، إلَّا أنَّه أَسقَطَ طلحةَ هذا من الإِسنَاد، ثُمَّ قال: "أخبَرَنا أبو عبد الله الحافظُ، قال: قال أبو عَليٍّ الحافظُ: هكذا كَتَبنَاه، وهو خطأٌ، إنَّما هو: عن اللَّيث بن سعدٍ، عن يعقُوبَ بن أبي يُوسُف، عن أبي حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شَدَّاد بن الهادِ، عن أبي الوَليد، عن جابرٍ، يعني القصَّةَ الأُولَى.
وأمَّا القصَّة الأخرَى، فإنَّها بهذا الإسناد، دُون ذِكر أبي الوَلِيد في إسنادِه. قال أبو عَليٍّ: والوَهَمُ من عبدِ المَلِك بن شُعيبِ".
قال البَيهَقِيُّ: "والدَّليل على صِحَّة ما قال أبو عليٍّ الحافظُ رحمه الله: أن أبا بَكرٍ أحمدَ بن مُحمَّد بن الحارث الفقيه قال:
…
- وساق إسنادَهُ إلى الدَّارَقُطنِيِّ، كما مَرَّ قريبًا. ثُمَّ قال: - هذا هو الصَّحيح: عن اللَّيث بن سعدٍ، عن يعقُوبَ. وكذلك رواه خَلَفُ بنُ أيُّوب، عن أبي يُوسُف، عن أبي حَنِيفَة، والحَكَمُ بنُ أيُّوب، عن زُفَرَ، عن أبي حنِيفة، عن مُوسَى بن أبي عَائِشة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن أبي الوَليد، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُختَصَرًا، في قراءَة الإمام له قراءةٌ.
وفي رواية اللَّيث بن سَعدٍ، وهو أَحَدُ الأئمَّة، عن يعقُوب بن أبي يُوسُف، دليل على أن قِصَّة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} إنَّما رواها أبو حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عَائِشة، عن عبدِ الله بن شدَّادٍ، عن جابرٍ، وليس فيها أنَّ:"قراءَتَهُ له قراءةٌ"، وهي القصَّةُ التي رواها عِمرانُ بن حُصينٍ ....
وأمَّا القِصَّة التي فيها: "فإنَّ قِراءَتهُ له قراءةٌ"، فإنَّ أبا حنيفَةَ إنَّما رواها عن مُوسَى بن أبي عَائِشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن أبي الوليد،
عن جابرٍ. وهو رَجُلٌ مجهُولٌ، كما قال الدَّارَقُطنِيُّ رحمه الله، ولا تقُومُ به حُجَّةٌ. ومن رَوَى هذا الحديثَ عن أبي بَكرٍ الحارِثيِّ، عن الدَّارَقُطنِيِّ، وأَسقَطَ من إسنادِه أبا الوَلِيد، أو رواه عن الحَاكِم أبي عبد الله، عن أبي علي الحافظِ، وأَسقَطَ من إسنادِه ابنَ شَدَّادٍ، وأَوهَمَ أن أبا الوليد كُنيَةُ ابن شَدَّادٍ، فإنَّه لم يَسلُك سبيلَ الصِّدق في رِواية الحديثِ، وله مِن إِسقاط بَعضِ المُتُون ليَستَقِيمَ له ما يَقصِدُه من الاحتجاج أشباهٌ كَثِيرَةٌ، لا أُحِبُّ ذِكرَها، والله يَعصِمُنا من أَمثال ذلك بفَضلِه ورحمَتِه.
ورَوَى أبو بَكرٍ مُحمَّدُ بنُ إسحاقَ بن خُزَيمَة الإمامُ هذا الحديثَ، عن أحمدَ بن عبد الرَّحمن بن وهبٍ. كما رواه أبو بَكرٍ بنُ زيادٍ النَّيسَابُورِيُّ، وهو أحدُ الأئِمَّة في الفِقه والحديث. ثُمَّ قال ابنُ خُزَيمَة: أبو الوَلِيد مجهُولٌ لا يُدرَى مَن هُو، كما قال الدَّارَقُطنِيُّ، قال: وفي قِصَّة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} دليلٌ على أن الرَّجُل قَرَأَ خلف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} جَهرًا لا خفيًا؛ لأن في الخَبَر أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قَرَأَ منكم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ "، فإن كان كَرِهَ قراءةَ الرَّجُل خلفَهُ، فإنَّما كَرِهَ جَهرَه بالقِراءة، ومُخَالجَتَهُ قراءَتَه.
وأمَّا خَبَرُ أبي الوَلِيد، عن جابرٍ، ففيه أنَّهُ أومَأَ إليه رجُلٌ. والعِرَاقِيُّون يَنهَونَ عن الإِيمَاء في الصَّلاة بما يُفهَم عن المُومِي. ومَن أبُو الوَلِيد فيُحتَج به على أَخبَارٍ ثابتةٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويُترَكُ له النَّظَرُ والمَقاييس؟! قال: وذِكرُ جابرٍ في هذا الخبر خطأٌ فاحشٌ. وكذلك ذِكرُ أبي الوَلِيد قبلَه. إنَّما الخَبَرُ: عن عبدِ الله بن شدَّادٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. كما رواه أهلُ العلم
وحُفَّاظُهم ومُتقِنُوهم وأهلُ المعرفة بالأخبار، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا: شُعبَةُ بن الحَجَّاج عالمُ أهلِ زمانِهِ بالحديث، وسُفيانُ الثَورِيُّ إمام أهل العِراق في الحديث ومُتقِنُهم وحافظُهم، ولم يَكُن بالعِراقِيِّين في عَصرِهما مثلُهما في حفظ الحديث وإِتقَانِه، وابنُ عُيَينَة حافظُ أهلِ الحَرَم، ولم يَكُن بحرم الله مَكَّةَ في زمانه أحفظُ منه، رَوَوا هذا الخَبَر، وجماعة غيرُهم، ليس فيه ذِكرُ جابرٍ. وذَكَرَ شيخُنا أبو عبد الله الحافظُ، عن أبي عليٍّ الحُسين بن عليٍّ الحافظِ، أنَّه قال: هُما قِصَّتان، رواهما أبو حَنِيفَة، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، واختَلَفت رُواته عنه فيهما، كما ذَكَرنا.
فأمَّا قِصَّة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، فإنَّها راجِعَة إلى حديث زُرارةَ بن أَوفَى، عن عِمرانَ بن حُصينٍ.
وأمَّا قِصَّةُ: "مَن كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءة"، فرواها منصُورُ بنُ المُعتَمِر، وشُعبَةُ بنُ الحَجَّاج، وسُفيانُ بنُ سعيدٍ الثَّورِيُّ، وسُفيانُ بنُ عُيَينَة، وأبو عَوَانَة، وشَريكُ بن عبد الله النَّخْعِيُّ، وزائدةُ بنُ قُدَامَة، وأبو إسحاقَ الفَزَارِيُّ، وجَرير، وغيرُهُم، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شَدَّاد، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا
…
".
قال البَيهَقِيُّ: "ومَن حَكَم لهذا الحديث بالوَصلِ برواية واحدٍ، ومُتابَعةِ جماعَةٍ من الضعَفاء والمجهُولِين إيَّاه على ذلك، وتَرَكَ روايةَ مَن ذَكَرنَاهُم من الأئِمَّة، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة مُرسَلًا، ثُمَّ روايةَ عبد الله بن المُبارَك، عن سفيان، وشُعبَةَ، وأبي حَنِيفَة، ثُمَّ روايةَ وكيعٍ،
وأبي نُعَيمٍ، والأَشجَعِيِّ، وعبدِ الرَّزَّاق، وعبدِ الله بن الوَليد العَدَنِيِّ، وأبي داوُد الحَفرِيِّ، وغيرِهم، عن سُفيانَ الثَّورِيِّ، عن مُوسى بن أبي عائِشَة، كذلك مُرسلًا، لم يَكُن له كبيرُ مَعرِفَةٍ بعِلمِ الحديث، ولو لم يُستدلَّ بمُخالَفة رَاوِي الحديث ما هُو أَثبَتُ وأَكثر دِلالاتٍ بالصِّدق منه على خَطَإِ الحِديث، لم يَعرِف قطُّ صوابَ الحَديث من خَطَئِه".
• قلتُ: أطالَ البَيهَقِيُّ وأطَابَ رحمه الله.
بَيدَ أنَّه وَقَع اختِلَافٌ في رِوَايَة أبي يُوسُف، عن أبي حَنِيفَة ..
فرُوِي كما مرَّ ذِكرُه، عن أبي يُوسُف يعقوبَ، عن أبي حَنِيفَة، عن مُوسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، عن أبي الوليد، عن جابرٍ.
وأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ (7/ 2477) ..
• والبَيهَقِيُّ في "جزء القِراءَة"(334) عن أبي الحسن مُحمَّد بن عبد الله، قالا: ثنا أبو يَعلَى، قال: قُرئ على بِشر بن الوَلِيد، عن أبي يُوسُف، عن أبي حَنِيفَة بهذا.
ولم يَذكُر أبا الوَلِيد.
وكذلك رواه اللَّيثُ بنُ سعدٍ، وأَسَدُ بنُ عَمْرٍو، وابنُ إِسحَاق، وأبو يحيى الحِمانِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ الحَسَن، ويُونُسُ بنُ بُكَيرٍ هكذا.
وخالَفَهُم عبدُ الله بنُ المُبارَك، فرواه عن أبي حنِيفَة، عن مُوسى بن أبي عائِشة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
…
مرسَلًا.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ (336)، ثمَّ قال:"وهكذا رُوِي عن زُفَرَ بن الهُذَيل في أصحِّ الرِّوَايَتَين عنه، عن أبي حَنِيفَة مُرسلًا" انتهى.
فأكثَرُ أصحابِ أبي حَنِيفَة رووه عنه موصُولًا.
وابنُ المُبارَك، وزُفَرُ - في أصحِّ الرِّوايَتَين - روياه عن أبي حَنِيفَة مُرسَلًا، فوافق الثِّقاتِ على إرسالِه، وهذا يدلُّ على اضطرابٍ فيه.
والصَّوابُ في هذا الحديث ما رواه الأئمَّةُ عن مُوسى بن أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا.
منهم: الثَّورِيُّ، عند عبد الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 2/ رقم 2797)، والطَّحَاوِيِّ في "شرح المعاني"(1/ 217)، وابنِ المُنذِر في "الأوسط"(3/ 102)، والبَيهَقِيِّ (2/ 160) ..
ومنهم: سُفيانُ بن عُيَينَة، أخرجه ابنُ عَدِيٍّ (7/ 2477) ..
ومنهم: جَرِيرُ بنُ عبد الحَمِيد، عند ابن أبي شيبَة (1/ 376)، وابنِ عَدِيٍّ (7/ 2477) ..
ومنهم: شَريكُ بنُ عبد الله النَّخْعِيُّ، عند ابن أبي شيبَة (1/ 376) ..
ومنهم: شُعبهُ، عند ابن عَدِيٍّ (7/ 2477) ..
ومنهم: إِسرائِيلُ بنُ يُونُس، أخرَجَهُ مُحمَّدُ بنُ الحَسَن في "المُوطَّإِ"(ص 62 - 63)، وقال: أخبرَنا إسرائيلُ بنُ يُونُس، قال: حدَّثَني مُوسَى ابنُ أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، قال: أَمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ في العَصر، - قال: - فقَرَأَ رجُلٌ خلفه، فغمَزَهُ الذي يليه، فلمَّا أَنْ صلَّى قال: لِمَ غمزتني؟ قال: كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قُدَّامك، فكرهتُ أن تَقرَأ خَلفَه. فسَمِعَهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مَن كان له إمامٌ، فقراءَتُهُ له قراءةٌ".
كذا رواه مُحمَّدُ بنُ الحَسَن.
وخالفه أبو أحمدَ الزُبَيرِيُّ، فرواه عن إسرائيلَ، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شدَّادٍ، عن رجُلٍ من أهل البَصرَة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نَحوَه.
أخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ (1/ 217) قال: ثنا أبو بَكرَةَ، ثنا أبو أحمدَ بهذا.
وقد تقدَّمت أسماءُ مَن رواه من الثقات عن مُوسَى بن أبي عائِشَة مُرسَلًا.
قال شيخُنا رحمه الله في "الإرواء"(2/ 272): "وقد تعقَّب بعضُ المُتأخِّرين قولَ الدَّارَقُطنِيِّ المُتقدِّمَ: أنَّه لم يُسنِدهُ غيرُ أبي حَنِيفَة، وابنِ عُمارةَ، بما رواه أحمدُ بنُ مَنِيعٍ في "مُسنَده": أخبَرَنا إسحاقُ الأَزرَقُ، حدَّثَنا سُفيانُ، وشريكٌ، عن مُوسَى بن أبي عائِشَة، عن عبدِ الله بن شدَّادٍ، عن جابرٍ، مرفُوعًا به.
قلتُ: وهذا سندٌ ظاهر الصِّحَّةُ، ولذلك قال البُوصِيرِيُّ في "الزَّوائد" (56/ 1):"سندُهُ صحيحٌ، كما بيَّنتُهُ في زوائد المسانيد العَشرة".
قلتُ: وهو عِندِي معلُولٌ؛ فقد ذَكَر ابنُ عدِيٍّ، كما تقدَّم، وكذا الدَّارَقُطنِيُّ، والبَيهَقِيُّ، أن سُفيانَ الثَّورِيَّ، وشَريكًا روياه مُرسَلًا، دون ذِكر جابِرٍ. فذِكرُ جابر في إسنادِ ابن مَنِيعٍ وَهَمٌ، وأظنُّهُ من إسحاق الأزرق؛ فإنَّه وإن كان ثِقَةً، فقد قال فيه ابنُ سعدٍ: رُبَّما غَلَط" انتهَى.
• قلتُ: وهذا هو الحَقُّ؛ فإنَّ ابنَ أبي شَيبَة، وأبا أحمدَ الزُبَيرِيَّ، خالَفَاه، فرواه الأَوَّلُ عن شَريكٍ، والثَّاني عن الثَّورِيِّ، عن موسى بن
أبي عائشة، فأرسلَاه. وهما أَثبَتُ من إسحاقَ بن يُوسف الأَزرَقِ.
ورَوَى البَيهَقِيُّ في "المعرفة"(3/ 79) عن سَلَمة بن مُحَمَّدٍ الفَقِيهِ، قال:"سَألتُ أبا مُوسَى الرَّازِيَّ الحافظَ، عن الحديث المَروِيِّ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان له إمامٌ
…
"، فقال: لم يَصحّ فيه عِندَنا، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ، وإنَّما اعتَمَد مشايخُنا فيه الرِّواياتِ عن عليٍّ وابنِ مسعُودٍ، والصَّحَابةِ
…
- ونَقَل البَيهَقِيُّ - عن الحاكِم، قال: أَعجَبَني هذا لما سمِعتُه منه، فإن أبا مُوسى أحفظُ مَن رَأَينَا مِن أصحاب الرَّأي على أَدِيمِ الأَرضِ" انتهَى.
وقد تُوبع مُوسى بنُ أبي عائشة ..
تابَعَهُ الحَكَمُ بنُ عُتَيبَة، فرواه عن عبد الله بن شَدَّادٍ، عن جابرٍ مرفُوعًا:"مَن كان له إمامٌ، فقِراءَة الإمام له قراءةٌ".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "القِراءة"(342) من طريق العبَّاس بن عزيز بن سيَّارٍ القطَّانِ المَروَزِيِّ، نا عَتِيقُ بنُ مُحَمَّدٍ النَّيسَابُورِيُّ، نا حفصُ بنُ عبد الرَّحمن، عن أبي شيبَة، عن الحَكَم بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "قيل: هذه الرِّوايةُ إنْ سلِمت من العبَّاس القطَان هذا - فإنِّي لا أَعرِفُه بعد العَدِّ - فلا تَسلَمُ من أبي شيبَة عبدِ الرَّحمن بن إسحاقَ الوَاسطِيِّ. قال أحمدُ بنُ حنبَلٍ رحمه الله: أبو شَيبَة ليس بشَيءٍ، مُنكَرُ الحديثِ. وقال يحيى بنُ مَعِينٍ: عبدُ الرَّحمن بنُ إسحاقَ الكُوفيُّ مترُوكٌ. وجَرَحَهُ أيضا البُخَارِيُّ، وأبو عبد الرَّحمن النَّسَائِيُّ، وغيرُهما من أهل العِلم بالحديث. وإذا كُنَّا لا نَقبَلُ رواية المَجهُولِين، فكيف نَقبَل روايةَ
المَجرُوحِين؟ لا نَقبَلُ من الحديث إلَّا ما رواه مَن ثَبَتَت عدالَتُه، وعُرف بالصِّدق رواتُهُ. وقد رواه أيُّوبُ بنُ الحَسَن، ومُحمَّدُ بنُ يزيدَ السُّلَمِيُّ، عن حفص بن عبد الرَّحمن مُرسَلًا".
وله طريقٌ آخرُ عن جابرٍ رحمه الله.
أخرَجَهُ ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(4/ 358) مُعلَّقًا، ووَصَلَهُ الطَّحاوِيُّ (1/ 217)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 327)، وأبو الحَسَن الخِلَعِيُّ في "الخِلَعِيَّات"(20/ 47/ 1) - كما في "الإِرواء"(2/ 273) -، وابنُ عَدِيٍّ (7/ 2708)، والبَيهَقِيُّ في "القراءة"(349)، وابنُ الجَوزِيِّ في "التَّحقيق"(476) من طريق يحيى بن سَلَامٍ، ثنا مالكٌ، عن أبي نُعيمٍ وهبِ بن كَيسَان، عن جابرٍ مرفُوعًا:"مَن صلَّى صلاةً لم يَقرَأ فيها بفاتِحة الكِتَاب فلم يُصَلِّ، إلَّا وراء الإمام".
قال ابنُ عَدِي: "وهذا الحديثُ عن مالكٍ بهذا الإسنادِ، لَم يَرفَعهُ عن مالكٍ، غيرُ يحيى بنُ سَلَّامٍ. وهذا الحديثُ في "المُوطَّإِ" مِن قول جابرٍ موقُوفٌ".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "يحيى بنُ سَلامٍ ضعيفٌ، والصَّوابُ موقُوفٌ".
وقال ابنُ عبد البَرِّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ أحدٌ من رُواة "المُوطَّإِ" مرفُوعًا، وإنَّما هو في "المُوطَّإِ" موقُوفٌ على جابرٍ مِن قولِه. وانفَرَد يحيى بنُ سَلَّامٍ، عن مَالكٍ، ولم يُتابَع عليه".
• قلتُ: كذا! وقد تابَعَهُ إبراهيمُ بنُ رُستُمَ، وعليُّ بنُ الجَارُود بن يزيدَ، قالا: نا مالكٌ بهذا الإسنادِ، بلفظ: "لا تُجزِئُ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة
الكتاب، إلَّا أن يكون وراء الإمام".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "المعرفة"(353) قال: أخبَرَنا أبو عبد الله الحافظُ، نا مُحمَّدُ بنُ عبد الله الشُّعَيريُّ، نا مُحمَّدُ بنُ أَشرَسَ، نا إبراهيمُ بنُ رُستمَ، وعليُّ بن الجَارُود بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "مُحمَّدُ بنُ أَشرَس هذا مَرمِيٌّ بالكَذِب، ولا يَحتَجُّ بروايته إلَّا مَن غَلَب عليه هَوَاهُ، نعُوذُ بالله من مُتابَعة الهَوَى. وهذا الحديثُ في "المُوَطَإِ" الذي صنّفه مالكُ بنُ أنسٍ وتدَاوَلَهُ أهلُ العلم إلى يَومِنا هذا موقوفٌ. وأَنكَرَ فيما رُوِّينا عنه رَفعَه، فكيف يُقبَلُ مِن قومٍ لم تَثبُت عدالتُهم، بل اشتُهِروا بروايةِ المَنَاكِير، روايتَه مرفُوعًا؟! وباللّه التَّوفيق".
وتابَعَهُ كذلك الدَّارَقُطنِيُّ في "غرائب مالكٍ"، من طريق عاصمِ بن عصَامٍ، عن يحيى بن نَصر بن حاجِبٍ، عن مالكٍ، عن وَهبِ بن كَيسَان، عن جابِرٍ مرفُوعًا:"مَن كان له إمامٌ، فقراءَةُ الإمام له قراءةٌ".
قال الدَّارَقطنِي: "هذا باطلٌ، لا يَصِحُّ عن مالكٍ، ولا عن وَهبِ بن كَيسَان. وعاصمُ بنُ عِصامٍ لا يُعرَف".
وأخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، والدَّارَقُطنِيُّ، والبَيهَقِيُّ (2/ 160)، وفي "جُزء القراءة"(354 - 358)، والخِلَعِيُّ في "الخِلَعِيَّات"(20/ 47/ 1) من طُرُقٍ عن مالكٍ - وهو في "المُوَطَّإِ"(1/ 38/84) -، عن وَهبِ بن كَيسَان، أنَّهُ سَمِع جابرًا، يقُولُ:"من صَلَّى ركعةً لم يَقرَأ فيها بأُمِّ القُرآن لم يُصَلِّ، إلَّا وراء الإمام".
ورواه عن مالكٍ: يحيَى بنُ يَحيَى، ومُحمَّدُ بنُ الحَسَن الشَّيبَانِيُّ، ويحيَى بنُ بُكيرٍ، وابنُ وهبٍ، وإسماعيلُ بُن مُوسَى ابنُ بنت السُّدِّيِّ، والقَعنَبِيُّ، في آخَرين.
قال البَيهَقِيُّ: "هذا هو الصَّحيح عن جابرٍ، مِن قَولِه، غيرُ مرفُوعٍ. وقد رَفَعَهُ يحيى بنُ سلَّامٍ، وغيرُهُ من الضُّعَفاء، عن مالكٍ، وذلك ممَّا لا يَحِلُّ روايَتُه على طريقة الاحتجاجِ به".
ثُمَّ أَخرَجَ البَيهَقِيُّ في "القِراءة"(359) قال: "فقد أخبَرَنا أبو عبد الله الحافظُ، أنا أبو غانِمٍ أَزهَرُ بنُ أحمدَ بن حمدُونَ المُنادِي ببغدادَ، نا أبو قِلابَة الرَّقَاشِيُّ، نا بُكيرُ بنُ بكَّارٍ، نا مِسعَرٌ، عن يؤيدَ الفَقِيهِ، عن جابرِ بن عبدِ الله، قال: "كان يَقرَأُ في الرَّكعتين الأُولَيَين بفاتحة الكتاب، وسورةٍ مَعَها، ويقرَأُ في الأُخرَيَين بفاتحة الكتاب. - قال: - وكُنَّا نتحدَّثُ أنَّه لا يَجُوزُ صلاةٌ إلَّا بفاتحة الكِتَاب، وشيءٍ مَعَها - وفي رواية ابن بِشرَان: فما فوقَ ذاك، أو قال: فمَا أَكثَر من ذاك -"، وهذا لفظٌ عامٌّ يَجمَعُ المُنفَرِدَ والمأمُومَ والإِمامَ.
ورواه عُبيدُ الله بنُ مِقسَمٍ، عن جابر بن عبدِ الله، أنَّهُ قال:"سُنَّةُ القراءة في الصَّلاة: أن يَقرَأَ في الأُولَيَين بأُمِّ القُرآن وسُورَةٍ، وفي الأُخرَيَين بأُمِّ القُرآن"، والصَّحَابِيُّ إذا قال: سُنَّةً، أو كُنَّا نتحدَّثُ، فإنَّ جماعةً من أصحاب الحَدِيث يُخرِجُونَه في المَسانِيد" انتهَى.
وجُملَةُ القول:
أن هذا الحديثَ لا يَصِحُّ عن جابرٍ إلَّا موقُوفًا، أمَّا المَرفُوعُ فساقطٌ عن
حدِّ الاعتِبَار به، إلَّا مُرسَلَ عبد الله بن شدَّادٍ. والله أعلَمُ.
(تنبيهٌ)
بعد كتابة ما تقدَّمَ بثلاثةَ عَشَر عامًا، وقفتُ هذه الأيَّام على الطَّبعة الجَدِيدة لكتاب "مُصنَّف ابن أبي شَيبَة"، بتحقيق الأُستاذ مُحمَّد عوَّامة، فرأَيتُهُ تعرَّض للكلام عن هذا الحديثِ (3/ 274 - 277)، لكنَّهُ أَتَى في كلامِهِ بعجائبَ ومُغالَطَاتٍ.
فإنَّ ابن أبي شَيبَةَ رواه في "مُصنَّفه" قال: حدَّثَنا شريكٌ، وجَريرٌ، عن مُوسى بن أبي عائشة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، قال. قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: .. فَذَكَرَه.
قال الأستاذُ عوَّامةُ:
"هذا إسنادٌ صحيحٌ مُرسَلٌ. عبدُ الله بن شَدَّادٍ وُلِد على عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. تَرجَمَهُ بن حجرٍ في القِسم الثَّاني من "الإصابة".
ومع ذلك فقد جاء الحديثُ موصُولًا من طَرِيقِه. رواه الإمامُ أبو حَنِيفَة في "مُسنَده"(ص 59، 61 - بشرحه "تنسيق النظام" للسَّنْبهْلِيِّ)، عن مُوسى بن أبي عائِشَة، عن عبد الله بن شَدَّادٍ، عن جابر بن عبد الله مرفُوعًا.
وجاء ذلك في "مُوطَّإِ الإمام مُحمَّدٍ"(117) - وانظُره في "التَّعليق المُمَجَّد"(415) -، و "الآثارِ" له (86)، ولأبي يُوسُف (113).
وتابع أبا حنيفةَ على ذلك: سُفيانُ الثَّورِيُّ، وشريكٌ القَاضِي.
جاء ذلك فيما رواه أحمدُ بنُ مَنِيعٍ في "مُسنَده"، عن إسحاقَ الأَزرَق
- أحَدُ الثِّقات - عنهُما. نَقَل ذلك البُوصِيرِيُّ في "إتحاف الخِيَرة"(1567، 1832)، ومِن خَطِّه أَنقُلُ، وقال:"صحيحٌ على شرط الشَّيخَين"، وسيأتي تمامُ كلامِهِ.
وجاءَ الحديثُ موصُولًا مرفُوعًا، بإسنادٍ صحيحٍ إلى جابر بن عبد الله أيضًا في "مُسنَد أحمد"(3/ 339 = 14643 من الطَّبعة المُحقَّقة)، عن أسود بن عامرٍ شَاذَانَ - وهو ثقةٌ -. وفي "المُنتَخَب" لعبد بن حُميدٍ (1050)، عن أبي نُعيمٍ الفَضلِ بن دُكَينٍ - وهو ثقةٌ إمامٌ مشهُورٌ -. كلاهما عن الحسَن بن صالحٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرِ بن عبد الله مرفُوعًا.
والحَسَنُ بنُ صالحٍ ثقةٌ فقيهٌ. وأبو الزُّبَير ثقةٌ، وهو على شرط مُسلمٍ.
وسيأتي برقم (3823)، من رواية مالك بن إسماعيلَ - أحدِ الثِّقات -، عن الحَسَن بن صالح، عن أبي الزُّبَير به.
ولمَّا ذَكَرَهُ الزَّيلَعِيُّ في "نصب الرَّايَة"(2/ 10)، وعزاه إلى أحمدَ، وقال:"في إسنادِهِ ضعفٌ"، استَدرَكَ عليه تصحيحَهُ محقِّقُه العلَّامةُ الفِنجَابِيُّ
(1)
، فانظُرهُ.
كما استَدرَك البُوصِيرِيُّ في المَوضِع الثَّاني (1834)، علَى ابن عَدِيٍّ دعوَاهُ تفرُّدَ الحَسَن بن عُمارةَ برَفعِهِ، بما نَقَلَهُ من "مُسنَد ابن مَنِيعٍ" و "عبدِ بن حُمَيدٍ". وسأنقُلُ لفظَهُ آخِرَ هذه الكَلِمَة للتَّنبيه إلى أمرٍ آخَرَ.
والصَّوابُ في سند عَبدِ بن حُميدٍ هو ما نقلتُهُ من خطِّ البُوصِيرِيِّ في
(1)
ولم يفعل الفِنجَابِيُّ شيئًا سوى ترديد الكلام الذي بيَّنَّا خطأه.
المَوضِعَين المُشار إِلَيهِما، بل إنَّه في المَوضِع الثَّاني كَتَب هكذا:"رواه عَبدُ بنُ حُميدٍ: حدَّثَنا أبو نُعيمٍ، حدَّثَنا الحَسَنُ بنُ صالحٍ، عن أبي الزُّبَير"، وكَتَب فوق "عن":"صَحَّ"، تنبيهًا إلى صِحَّة ما كَتَب، وأنَّه لم يُسقِط شيئًا من الإسناد، لأنَّه سَيَسُوق عَقِبَهُ إسنادَ ابن ماجَهْ، وفيه زيادةُ جابرٍ الجُعفِيِّ بين الحَسَن بن صالحٍ، وأبي الزُّبَير، كما سيأتي.
وقد جاءَ لَفظُ عبدِ بن حُميدٍ في مَطبُوعَتِه التي أَنقُلُ عنها: "1050 - حدَّثنا أبو نُعيمٍ، حدَّثَنا الحَسَن بن صالحٍ، عن جابرٍ، عن أبي الزُّبَير
…
". وجابرٌ هذا هو الجُعفِيُّ، وهو ضعيفٌ. وهذا إقحامٌ لاسمِهِ في السَّنَد مِن ناسِخٍ ماسِخٍ مُتأثِّرٍ بإسنادِ ابن ماجَهْ (850)، لذا كَتَب البُوصِيرِيُّ "صحَّ" فوق "عن"، لئلَّا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّه أَسقَطَ الوَاسِطَةَ التي عند ابن ماجَهْ.
ويؤَكِّدُ أن هذا إقحامٌ خاطئ قولُ المِزِّيِّ في "تُحفَته"(2675): "رواه أبو نُعيمٍ، عن الحَسَن بن صالحٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، ولم يَذكُر جابرًا الجُعفِيَّ". فرواية أبي نُعيمٍ في الحديثِ ليس فيها ذِكر لجابرٍ الجُعفِيِّ، وهي روايةُ عبد بن حُميدٍ عنه، كما ترى.
وبعدَ أن ذَكَر البُوصِيرِيُّ إسنادَ ابن مَنيعٍ المَوصُولَ والمُرسلَ، وإسنادَ عَبدِ بن حُميدٍ الذي نَقَلتُه أوَّلَ التَّخرِيجِ، قال:"قلتُ: إسنادُ جابرٍ الأوَّلُ - أي: إسنادَ ابن منِيعٍ - صحيحٌ على شرط الشَّيخَين، والثَّاني - أي: إسنادَ عَبدِ بن حُميدٍ - على ما شرط مُسلِمٍ"." انتهَى كلامُهُ.
• قلتُ: والجواب عن هذا الكلام من وجُوهٍ:
* الأوَّلُ: قوله: "وتابَعَ أبا حَنِيفَة عليه: سُفيانُ الثَّورِيُّ، وشريكٌ القَاضِي"، وأحال إلى رواية أحمدَ بن مَنِيعٍ، عن إسحاقَ الأَزرَقِ، عن الثَّورِيِّ، وشريكٍ
…
ثُمَّ نَقَلَ كلامَ البُوصِيرِيِّ أنَّه: "إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخَين
…
".
• قلتُ: أمَّا رِوايَةُ الثَّورِيِّ، فقد رواها عنه: عبدُ الرَّزَّاق، وأبو أحمدَ الزُّبَيرِيُّ مُرسَلةً. وهما أَوثَقُ من إسحاقَ بن يُوسُف الأَزرَق. وإسحاقُ مع ثِقَتِه، فقد قال ابنُ سعدٍ:"رُبَّما غلط".
وقد اختُلِف على إسحاق الأزرق في إسناده ..
فرواه مُحمَّدُ بنُ حَربٍ الوَاسِطِيُّ، قال: ثنا إسحاقُ الأَزرَقُ، عن أبي حَنِيفة، عن مُوسى بن أبي عائشة، عن عبدِ الله بن شَدَّادٍ، عن جابرٍ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ (1/ 323)، وفي "العِلَل"(13/ 373).
وصَوَّبَ الدَّارَقُطنِيُّ هذه الرِّواية.
ورواه عليُّ بنُ أَشكاب، قال: ثنا إسحاقُ الأزرقُ، عن أبي حَنِيفَة، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "مُسنَد أبي حَنِيفَة"(ص 32).
قال الدَّارَقُطنِيُّ في "علله"(13/ 372) عن هذه الرِّواية: "وَهِم فيه".
وأمَّا رواية شَريكٍ الموصُولةُ، فهي من طريق إسحاق الأزرقِ أيضًا. وقد خالَفَهُ فيها أبو بَكرٍ بنُ أبي شَيبَة، فرواها عن شَريكٍ مُرسَلةً. وهو أوثَقُ من الأَزرَق، لا شكَّ في ذلك. فلا أَدرِي: هل سَمِع الأستاذُ
عوَّامةُ عن "الحديث الشَّاذِّ"؟!
أمَّا الأَعجَبُ من هذا: استرواحُهُ لتَصحيح البُوصِيرِيِّ هذا الإسنادَ على شرط الشَّيخَين. والبُوصِيرِيُّ رحمه الله لم يَكُن من فُرسَان هذا المَيدَان، مثلَ الهَيثَمِيِّ، ولا يُنازع في هذا أحدٌ له ذَوقُ المُحَدِّثِين، إنَّما كانا يَجرِيَان على ظَاهِر الإسناد، وَمَع ذلك، فلَهُما تناقُضَاتٌ غرِيبَةٌ، وقد علمتُ هذا عن البُوصِيرِيِّ لمَّا حققتُ "زوائِدَه على ابن ماجَهْ" على نُسخَتَين بخطِّ وَلَدِه مُحَمَّدٍ، وبيَّنتُ تناقُضَه في كثيرٍ من أحكامه.
ولو سَلَّمنا أنَّه لم يُعَلَّ بالمُخالَفة، كما هو الوَاقِعُ، فليس على شرط الشَّيخَين، وأحمدُ بنُ مَنِيعٍ لم يَروِ له البُخارِيُّ شيئًا، ولم يَروِ له مُسلِمٌ شيئًا عن إسحاقَ الأَزرَق. ولم يَروِ الشَّيخَان شيئًا للثَّورِيِّ، عن مُوسى بن أبي عائِشَة. ولا لِمُوسَى، عن عبدِ اللّه بن شَدَّادٍ. ولم يَروِ أحدٌ من أصحاب الكُتُب السِّتَةِ لعبدِ الله بن شدَّادٍ، عن جابرٍ.
وحُكمُ البُوصِيرِيِّ هذا يَقَعُ في مِثلِه كثيرٌ من المُتأَخِّرِين، فلا يَكَادُون يُفَرِّقُون بين قَولِ القائل:"على شرط الشَّيخَي"، وبين:"رجالُهُ رجالُ الشَّيخَين".
وشَرطُ الحُكمِ على الإسناد بأنَّه على شرط الشَّيخَين أو أحدِهِما، مُتعلِّقٌ بوُجُود الإسناد بعَينِهِ في الكِتَابَين أو أحدِهما، وليس مُلَفَّقًا من رجالهِما، وأن يَكُونَا ذَكَراه على سبيل الاحتجاج، لا الاستِشهَادِ، مع شَرائِطَ أُخرى. فلا يَكفِي أن يكُون الإسنادُ مُلفَّقًا من رجالهما.
قال السِّيُوطِيُّ في "تدريب الرَّاوِي" وهو يَنقُل كلامًا للعِرَاقِيِّ،
وتعقيبًا للحافظ في "نُكَتِه"، قال: "وورَاءَ ذلك كُلِّه أن يُروَى إسنادٌ ملفَّق من رجالهما، كسِمَاكٍ، عن عِكرَمة، عن ابن عبَّاسٍ. فسِماكٌ على شرط مُسلِمٍ فقط، وعِكرِمَةُ انفَرَد به البُخارِيُّ. والحقُّ أن هذا ليس على شَرطِ واحدٍ منهما.
وأدَقُّ من هذا أن يَروِيَا عن أُناسٍ ثقاتٍ، ضُعِّفُوا في أُناسٍ مخَصُوصِين، من غيرِ حديثِ الذين ضُعِّفُوا فيهم، فيَجِيءُ عنهم حديثٌ من طريقِ من ضُعِّفُوا فيه، برجالٍ كُلُّهم في الكِتَابَين أو أحدِهما. فنِسبَتُه أنَّه على شرط من خَرَّج له غَلَطٌ.
كأن يُقال في: "هُشَيمٍ، عن الزُّهريِّ": كلٌّ من هُشيمٍ، والزُّهرِيِّ، أخرَجَا له، فهو على شَرطِهما.
فيُقال: بل ليس على شَرط واحدٍ مِنهُما؛ لأنَّهما إنَّما أَخرَجا لهشُيمٍ من غيرِ حديثِ الزُّهرِيِّ؛ فإنَّه ضُعِّف فيه؛ لأنَّه كان دَخَل إليه فأَخَذَ منه عِشرِين حديثًا، فلَقِيَهُ صاحبٌ له وهو راجعٌ، فسأله روايتَهُ، وكان ثَمَّ ريحٌ شديدةٌ، فذَهَبَت بالأوراق من الرَّجُل، فصار هُشيمٌ يُحَدِّثُ بما عَلَق منها بذِهنِهِ، ولم يَكُن أتقَنَ حِفظَها، فوَهِمَ في أشياءَ منها، ضُعِّفَ في الزُّهرِيِّ بسببها.
وكذا، همَّامٌ ضعيفٌ في ابن جُريجٍ، مع أن كلًّا منهُما أخرَجَا له، لكن لم يُخرجَا له عن ابن جُريجٍ شيئًا. فعلى مَن يَعزُو إلى شَرطِهما، أو شَرطِ واحدٍ مِنهُما، أن يسُوقَ ذلك السَّندَ بنَسَق روايةِ من نُسِب إلى شرطه، ولو في موضعٍ مِن كتابه" انتهَى.
* الثَّاني: قولُه: "وجاء الحديثُ موصُولًا مرفُوعًا، بسندٍ صحيحٍ في "مُسنَد أحمد"
…
الخ".
وقد بيَّنتُ لك فيما مَضَى أن إثبات جابرٍ الجُعفِيِّ في إسناد أحمد هو الصَّحيحُ، وذكرتُ دلائلَ على ذلك. سلَّمنا أنَّه لم يَقَع ثمَّة سقطٌ، فقد اختُلِف على شاذانَ في إثباته، فكيف يكُونُ الإسنادُ صحيحًا؟!
* الثالث: قولُه: "والصَّواب في سَنَد عبدِ بن حُميدٍ ما نقلتُهُ بخطِّ البُوصِيرِيِّ
…
الخ"، وهو يعني أنَّ إسناد عبدِ بن حُميدٍ خالٍ من ذِكر جابرٍ الجُعفِيِّ. واستدلَّ على ذلك بدَلِيلَين:
أوَّلهما: أن البُوصِيرِيَّ نَقَل الإسنادَ مِن "مُسنَد عبدٍ"، وليس فيه جابرٌ الجُعفِيُّ، وعلَّم بعلامة "صحَّ"؛ تنبيهًا إلى أنَّهُ لم يقع سَقطٌ في الإسناد.
ثانيهما: أن المِزِّيَّ ذَكَر في "أطرافه" أن أبا نُعيمٍ الفضلَ بنَ دُكَينٍ رواه بدون ذِكر الجُعفِيِّ في إسناده، واستَنبَطَ مِن هذا أن رواية أبي نُعيمٍ خالية من ذِكر الجُعفِيِّ.
أمَّا الدَّليل الأوَّلُ: فمنقُوضٌ بأنَّ أُصولَ "مُسنَد عبد بن حُميدٍ" قد ثَبَت فيها ذِكرُ جابرٍ الجُعفِيِّ، ومنها نُسخَتان مكتُوبَتان في القون السَّادس والسَّابع، وهما أَوثَقُ مِن نَقلِ البُوصِيرِيِّ، فلَرُبَّما وَهِم أثناء نَقلِه، أو رَجَّح ما هو مرجُوحٌ، أو وقع له نُسخَة فيها هذا السَّقطُ. فلا يكُونُ هذا دليلًا على رُجحَان السَّقط مع ثُبُوته في أصل الكِتاب.
وأمَّا الدَّليلُ الثَّاني: فإنَّ المِزِّيَّ يَذكُر - كعادَتِه - في بعض الأحاديث
الاختلافَ على الرُّواة في إسناد الحَدِيث. وقد رَوَاهُ - كما مرَّ - العبَّاسُ بنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ أشكاب، وأحمدُ بنُ الهَيثَم، كُلُّهم - مع عَبْدِ بن حُميدٍ - يروُونَه عن أبي نُعيمٍ، بإثباتِهِ في الإسناد. أمَّا الذي أَشَار إليه المِزِّيُّ فلا نَدرِي: مَن الرَّاوي عن أبي نُعيمٍ؟ وحتَى لو كان ثِقةً، فهذا من الاختلاف على أبي نُعيمٍ في إسناده، وذلك لا يَقتَضِي الادِّعَاءَ أن رواية عَبدِ بن حُميدٍ خاليةٌ من ذِكر جابرٍ الجُعفِيِّ.
ثمَّ بعد ذلك يقولُ: "وهذا إقحامٌ من ناسخٍ ماسخٍ
…
- ثمَّ يقول: - ويُؤَكِّدُ أن هذا إقحام خاطئٌ قولُ المِزِّيِّ:
…
".
فهل هذا الكلامُ يمُتُّ إلا العِلم بسَبَبٍ؟!!
ثمَّ يقُولُ الأستاذُ عوَّامَةُ بعد ذلك:
"قال البُوصِيرِى - وهو مِن مُحَدِّثي السَّادةِ الشَّافعيَّة، ومِن مُعاصِري ابن حَجَرٍ - رحمهما الله - - (1569): "وهذا الحديثُ معرُوفٌ برواية الحَسَن بن عُمارَةَ الكُوفيِّ. وقد تَكلَّمُوا فيه كثيرًا: كذَّبَهُ شُعبَةُ، ونقل السَّاجِيُّ إجماعَ أهلِ الحديثِ على تَركِ حدِيثه، وفيه كلامٌ كثيرٌ جدًّا. فرواه الحَسَن بن عُمارةَ، عن موسى بن أبي عائشة، به موصولًا. وسيأتِي - عنده (1569) - أَبسَطَ من هذا في "كتاب افتِتَاح الصَّلاة"، في "باب ترك القِرَاءة خلف الإِمام". وزعم ابنُ عَدِيٍّ أن الحسَن بن عُمارَةَ تفرَّدَ بوَصلِه، قال: وقد رواهُ عن موسى غيرُه مثلُ: شُعبَةَ، والثورِيِّ، وزائدَةَ، كلُّهُم مُرسَلًا".
أقولُ [القائلُ هو الأستاذ عوَّامة]: في كلامِهِم عن الحسَن بن عُمارَةَ
توارُدٌ ومتابَعَةٌ لطعن شُعبَةَ فيه. انظُر لزامًا ما كتَبتُه وطوَّلتُ الكلام فيه في المُقَدِّمة (ص 64).
وفي قول البُوصِيرِيِّ: "زَعَم ابنُ عَدِيٍّ أن الحَسَن بن عُمارَةَ تفرَّدَ بوَصلِهِ" أَدَبٌ كبيرٌ مع الإمام أبي حَنِيفَة رضي الله عنه؛ ذلك، أن كلام ابنَ عدِيٍّ متوَجِّهٌ إلى الحَسَن وأبي حَنِيفَة - انظُرهُ في "الكامل"(2/ 706) -. لكنَّ البُوصِيرِيَّ تأدَّبَ، وأَعرَضَ عن ذِكر الإمامَ الأَعظَمِ بالسُّوء الذي تورَّط فيه ابنُ عَدِيٍّ! فرَحِمَهُ الله! ما أَعقَلَه! " انتهَى.
• قلتُ: وهنا تُسكَبُ العَبَراتُ على ضَياع المَنهَج العِلمِيِّ، اتِّبَاعًا لنَعَرَات العَصَبِيَّةِ المَذهَبية. والأستاذُ عوَّامةُ حنفِيُّ المَذهَب، فأدَّاهُ تعصُّبُه ذلك إلى فواقرَ ..
* مِنهَا: أنَّهُ أساءَ الأَدبَ مع الإِمام الحافِظِ ابن عَدِيٍّ، وأسبَغَ المَدحَ على البُوصِيرِيِّ - مع ما بَينَهُما من البَون الشَّاسِع -، فقال في شأن البُوصِيرِيِّ:"هو من مُحَدِّثِي السَّادةِ الشَّافعيَّة"، كلّ هذا لأنَّه لم يتعرَّض لذِكرِ تفرُّدِ أبي حَنِيفَة رحمه الله بالحديثِ، ونَصَّ على الحَسَن بن عُمارَةَ، بينما ابنُ عَدِيِّ "تورَّطَ"، فذَكَر الإمامَ الأعظمَ، وهذا دليل على "قِلَّة عقلِه"، وتمام عَقلِ البُوصِيرِيِّ، ولذلك مَدَحَ البُوصِيرِيَّ بعد لَمْزِ ابن عَدِيٍّ -، فقال:"فَرَحِمَهُ اللهُ! ما أَعقَلَه! ".
فلستُ أدري - والله! - كيفَ يَأمُر بالتَّأدُّب مع العُلماء، ويُسِيءُ الأَدبَ في ذات المَوضِع؟!
* ومِنهَا: قولُه: "كلامُهُم في الحَسَن بن عُمارَةَ مُتابَعةٌ لطعن شُعبَة
…
"،
وأَحالَ على مُقدِّمَتِه التي كَتَبَها على "المُصنَّف".
وهذه عادَةُ المَدرَسة الكَوثَرِيَّة والغُمارِيَّة، أنَّهُم إذا أَرَادُوا أن يتخلَّصُوا من جَرحِ راوٍ زَعَمُوا أن المُتأخِّرين قَلَّدُوا المُتقَدِّمين دُون فَهْمٍ، فَهُمْ كَالبَبَّغاواتِ، يقُولُون ما لا يَفهَمُون. وقد تقدَّم طَرَفٌ من مُناقَشة هذا الخَطَل عند الحديث رقم (31).
وأرجُو أن يَعذِرَني القارِئُ في نَقلِ كلامه مع طُولِه، ليَظهَر لك فَهمُ الأُستاذ عوَّامَةَ وتدبُّرُه.
قال في (1/ 64):
"لقد كَثُر الكلامُ في الحسَن بن عُمارَة. والنَّاظِرُ في ترجمَتَه يجِدُ أن المتكَلِّمين فيه قِسمَان: مُعاصِرُون له، ومُتأخِّرُون عنه. ولم يتكلَّم فيه من المُعاصِرِين له إلَّا شُعبَةُ، والثَّورِيُّ، كما قال ابنُ المُبارَك: "جَرَحه عندي شُعبَةُ وسُفيانُ، فبقَولِهما تركتُ حديثَه"، فانظر المُتابَعة
(1)
! بل يجِدُ النَّاظرُ أن شُعبَة هو المتكلِّم فيه والمؤلِّب عليه، وسُفيانُ مُتابعٌ له مُوافِقٌ. قال عيسى بن يُونُس:"الحسَنُ بن عُمارَةَ شيخٌ صالحٌ. قال فيه شُعبَةُ، وأعانه عليه سُفيانُ"، ولذلك كان الحَسَن بن عُمارَةَ يقُولُ:"النَّاسُ كُلُّهُم مِنِّي في حِلٍّ ما خلا شُعبَةُ". ولكَثرَة مَن تَابَع شُعبَةَ على قَولِه فيه، سَهُل على السَّاجِيِّ قولُه:"أَجمَع أهلُ الحديث على تَركِ حديثِهِ"!!
ولكن، يَنبَغِي النَّظَرُ بعين التَّدَبُّرِ والإنصاف. فهذا جريرُ بنُ حازمٍ
(1)
يعني: بلا عقلٍ ولا تدبُّرٍ!!
- أحَدُ أَجِلَّاء البَصرَة ورُفَعَائِهم
(1)
-، وحمَّادُ بنُ زَيدٍ - وكان يُنَظَّر بالثَّورِيِّ والأَوزَاعِيِّ ومالكٍ -، كانا يَعتِبَان على شُعبَة بسبب كلامِهِ في الحَسَن هذا، ومَعَهُما مُعاذُ بنُ مُعاذٍ العَنبَرِيُّ - وهو من الجَلالة بمكانٍ رَفِيعٍ، حتى قال أحمدُ: إليه المُنتَهَى في التَّثبُّتِ بالبَصرة. وهو من الرُّواة عن شُعبَة، وكان له حَظوَةٌ عنده -.
وسِياقُ ابن عَدِيٍّ يُفيدُ أن مع الثَّلاثة عبَّادُ بنُ عبَّادٍ. فهؤلاء أربَعةٌ شافَهُوا شُعبَة بالعَتْب والإِنكارِ عليه: لِمَ يَتكلَّمُ في الحَسَن بن عُمارةَ؟
لكن قِصَّةُ إِنكارِ جريرِ بن حازمٍ، وحمَّادِ بن زيدٍ، جاءَت كما يلي، وأنقُلُها من عند ابن عَدِيٍّ: "قال شعبةُ: ألا تَعجَبُون من هذا المَجنُونِ! أتانِي هو وحَّمادُ بنُ زيدٍ، فكَلَّمَاني أن أكُفَّ عن ذِكر الحَسَن بن عُمارَةَ. أنا أكُفُّ عن ذِكرِه؟! لا والله! لا أكُفُّ عن ذِكرِه
…
".
فالطَّابعُ العامُّ للقصَّة: حِرصُ شُعبَةَ على الذَّبِّ عن السُّنَّة، وشِدَّتُه في الله تعالى، وفي كَشفِه عن الكَذَّابين، وما إلى ذلك، وهذا ما يَجعَلُ الكَاتِبين في هذا الشَّأن يُسارِعُون إلى حكاية هذا الخَبَر ونَحوِه، وإلى إشاعته، ويَغِيبُ بعد ذلك ما وَراءَه!
ولكن يَنبَغِي النَّظَرُ بعينٍ أُخرَى، إلى مَوقِف جَريرٍ وحَمَّادٍ، وهُما مَن هُما، أنَّهُما كانا مُوافِقَين لشُعبَة في هذا المَوقِف بعينه. أمَّا مِن حيث الجُملَة، فدِفَاعُ شُعبَة، ونَدبُهُ نَفسَه لخدمة السُّنَّة، والدِّفاع عنها،
(1)
أسبغ الأستاذُ عوَّامةُ الثَّناء على هؤلاء الأئمَّة - وهم كذلك -، لسببٍ لا يَخفَى على ذي لُبٍّ. ولكن، ثقتُهُم شيءٌ، واعتِمادُ كلامِهم في الرُّواة شيءٌ آخر.
و .... فهذا أمرٌ لا يُنكَر أبدًا.
وشُعبَةُ هو الذي كان يأتي جَرِيرَ بنَ حازمٍ ليسألَهُ عن حديث الأَعمَش، وهو الذي كان يدُلُّ بعضَ الرُّواة على جريرٍ نفسِهِ ليأخُذ عنه. فقولُهُ هنا:"هذا المجنون" إنَّما هو من بابَةِ ما كان يُسَمِّيه شيخُنا العلَّامة الأجَلُّ عبدُ الفتاح أبو غُدَّة - رحمه الله تعالى -: غَضْبات المُحَدِّثين لا يُقلَّدون فيها" انتهَى.
• قلتُ: وخُلاصةُ هذا الكَلام أن شُعبَةَ تكلَّمَ في الحَسَن بن عُمارَة، وتَبِعَهُ الثَّورِيُّ، وترَكَهُ ابنُ المُبارَك لقَولهِما. وقد رَاجَعَ شُعبةَ جماعةٌ من أهل العِلمِ والجَلالَة، مثلُ حمَّادِ بن زيدٍ، ومُعاذِ بن مُعاذٍ، وجَريرِ بن حازمٍ، في كلامه في الحسَن بن عُمارَةَ. كلُّ هذا، وشُعبةُ مُصِرٌّ على الكَلام فيه، فلماذا يا ترى؟
يرى الأستاذُ عوَّامَةُ أن هذا اندفاع من شعبَةَ، باعثُه الحِرصُ على السُّنَّة والذَّبُّ عنها، وهو باعثٌ محمُودٌ، لكنَّه لم يَكنُ مُحقًّا فيه، فصار شُعبَةُ كما يقال:"كالدُّبِّ الذي قَتَل صاحِبَه"، لمَّا رأَى ذُبابةً على رأسِهِ وهو نائم، فأرَادَ أن يُعاقِبَ الذُّبابَة، فأتى بحَجَرٍ، وألقاه على الذُّبَابة التي هي على رأس صاحبِه، فقَتَل المسكينَ، وهَشَّم رأسَه!! فهل رُؤيَةُ الأستاذ عوَّامة صحيحةٌ وعادلةٌ؟!
فأخرَجَ ابنُ عَدِيٍّ (2/ 698)، والعُقَيليُّ في "الضُّعَفاء"(2/ 10 - 11) عن أبي داوُد الطَّيالِسِيِّ، قال: قال لي شُعبَةُ: ائْتِ جريرَ بنَ حازِمٍ، فقُل له: لا يَحِلُّ لك أن تَروِي عن الحَسَن بن عُمارَة فإنَّه يَكذِبُ. - قال
أبو داوُد: - قلتُ لشُعبَة: وكيف ذاك؟ قال: حدَّثَنا عن الحَكَم بأشياءَ، لم نَجِد لها أصلًا. قلتُ له: بأيِّ شيءٍ؟ قال: قلتُ للحَكَم: صلَّى النَّبيُّ عليه السلام على قَتلَى أُحُدٍ؟ قال: لم يُصَلِّ عليهِم، وقال الحَسَن بن عُمارَةَ، عن الحَسَن، عن مِقسَمٍ، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى عليهم ودَفَنَهم.
قال شُعبةُ: قلتُ للحَكَم: ما تقُولُ في أولاد الزِّنا؟ فقال: يُروَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ. قلتُ: من يَذكُرُه؟ قال: يُذكَر من حديث الحَسَن البَصرِيِّ. وقال الحَسَن: حدَّثَنا الحَكَمُ، عن يحيى الجَزَّارِ، عن عليٍّ، أنَّه قال: يُعتَقُون".
فردَّ الرَّامَهُرمُزِيُّ على استدلال شعبَة في تكذِيبِه الحَسنَ بمِثلِ هذا - كما في "المُحَدِّث الفاصل"(ص 325 - 321) - قائلًا: "وليس يُستدَلُّ على تَكذِيبِ الحَسَن بن عُمارَةَ من الطَّريق الذي استَدلَّ به أبو بِسطامَ - شُعبَةُ -؛ لأنَّهُ استفتَى الحَكَم - ابن عُتَيبَة - في المسأَلتَين، فأفتاه الحَكَمُ بما عِندَهُ، وهو أحَدُ فُقَهاء الكُوفَة زمن حمَّادِ - ابن أبي سُليمان -. فلمَّا قال له أبو بِسطام: عمَّن؟ أَمكَنَ أن يكُون يظُنُّ أنه يقولُ: مَن الذي يقُولُه من فُقهاء الأَمصَار، فقال في إِحداهما: هو قولُ إبراهيمَ. وفي الأُخرى: هو قول الحَسَن. وليس يَلزَمُ المُفتِي أن يُفتِي بجميع ما رَوى، ولا يَلزَمُه أيضًا أن يَترُك روايةَ ما لا يُفتِي به، وعلى هذا مَذهَبُ جميع فُقهاء الأَمصَار".
• قلتُ: إنكارُ شُعبَةَ، وإن كان وجِيهًا، لكنَّهُ ليس كافيًا في دَمغِ الحَسَن بن عُمارَةَ بالكَذِب؛ للاحتمال الذي أَبدَاهُ الرَّامَهُرمُزِيُّ، فهذا
الاحتمالُ يَنفِي عنه صِفَةَ الكَذِب فحسبُ. ونَحنُ نُوافِقُ على هذا، وأنَّ الحَسَنَ أجَلُّ من أن يَكذِب، لكنَّه كان شَدِيدَ الغَفلَة، قبيحَ التَّدليسِ، حتى تَرَكَهُ المُحَدِّثُون. وإنَّما شَفَع فيه بعض أجِلَّة أهل العِلم؛ لأنَّهُ كان من ذَوِي الهَيئات المُوسرين، ومثلُ هؤُلاء يكُونُ لهم وجاهَةٌ عند النَّاس ومكانَةٌ في بَلَدِهم. فقد رَوَى ابنُ عَدِيٍّ (2/ 699) عن روَّاد بن الجَرَّاح، قال:"كان الحَسَنُ بن عُمارَةَ رجُلًا مُوسرًا، وكان الحَكَم بنُ عُتَيبَة مُقِلًّا، فضَمَّه الحسَنُ بن عُمارَةَ إلى نَفسِه، وأَجرَى عليه الرِّزقَ، فصار الحَسَنُ من خاصَّة الحكَمِ، فكان يُحَدِّثُه ولا يَمنَعُهُ شيئًا عِندَه، فحدَّثَه بقريبٍ مِن عَشرَةِ آلاف قَضِيَّةٍ، عن شُريحٍ وغيرِه، وسمِع شعبةُ من الحَكَم شيئًا يسيرًا، فلمَّا تُوفِّي الحَكَمُ، قال شُعبةُ للحَسَن: مِن رأيِك أن تُحدِّث عن الحكَم بكلِّ شيءٍ سمعتَه؟ فقال له الحَسَن: نعم! ما أكتُمُ شيئًا سمعتُهُ. - قال: - قال شُعبةُ: مَن أراد أن يَنظُر إلى أَكذَب النَّاس فليَنظُر إلى الحَسَن بن عُمارة. وقَبِلَ النَّاسُ من شُعبَة وترَكُوا الحسَن. هذا أو نحوه" انتهَى.
وهذا الذي جَرَى مع الحَسَن بن عُمارَةَ، حَدَثَ مِثلُهُ مع أبان بن أبي عيَّاشٍ. وأبَانُ مترُوكٌ عند سائر العُلَماء، مع إقرارِهِم بأنَّه كان لا يتعمَّدُ الكَذِبَ، فقد حَكَى الإمامُ أحمدُ، عن عبَّاد بن عبَّادٍ المُهَلَّبِيِّ، قال: أتيتُ شُعبَة، أنا وحمَّادُ بنُ زَيدٍ، فكلَّمناه في أبانَ بن أبي عيَّاشٍ، فقالا له: يا أبَا بِسطَامَ! تُمسِكُ عَنهُ؟ فلَقِيَهُم بعد ذلك، فقال: ما أَرَانِي يَسَعُنِي السُّكوتُ عنه.
وتعجَّب الأُستاذُ عوَّامَةُ من شُعبَةَ، إذ ترَك الحَسَن، ثُمَّ رَوَى عنه!
ولا عَجَب في هذا؛ فإنَّ المُحَدِّثَ قد يُحَدِّثُ عمَّن يرغَبُ عن روايته للاعتِبَار. وهذا مِثلَما كان يُحَدُث مع الثَّورِيِّ، فإنَّه كان يَروِي عن مُحمَّد بن السَّائب الكَلبِيِّ، ويَنهَى عن الرِّوَايَة عنه، فكَلَّموه في ذلك، فقال: أنا أَعرِف صِدقَه مِن كَذِبه.
ولرُبَّما يقُولُ قائل: إنَّ سُفيانَ الثَّورِيَّ رَجَعَ عن جَرحِ الحَسَن بن عُمارَةَ، واستَدَلَّ بما رواه أيُّوبُ بنُ سُوَيدٍ، قال: كُنتُ عند سُفيانَ الثَّورِيِّ، فذُكِر الحَسَنُ بنُ عُمارَةَ، فغَمَزَه، فقلتُ له: يا أبا عبدِ الله! هو عِندِي خيرٌ منك! قال: وكيفَ ذاك؟ قلتُ: جلستُ مَعَهُ غيرَ مَرَّةٍ، فيَجرِي ذِكرُك، فما يَذكُرُك إلا بِخيرٍ. قال أيُّوبُ: فما سمِعتُ سُفيانَ ذَاكِرًا الحَسَنَ بنَ عُمارَةَ بعد ذلك إلَّا بخيرٍ، حتَّى فارَقتُه.
فالجوابُ عن هذا: أن أيُّوبَ بنَ سُويدٍ ضعيفٌ. سلَّمنا أنَّه ثقةٌ، أو أنَّا تَسامَحنا في نقل هذه الحِكاية، فإنَّ تصرُّف سُفيانَ خَرَجَ على مَذهَب أهل الوَرَع. وهذا يُشبِهُ تمامًا مَوقِفَ الثَّورِيِّ من الحَسَن بن صالحِ بن حَيٍّ، فقد كان سُفيانُ شَدِيدَ الحَملِ عليه، مع أن الحَسَن كلمةُ إجماعٍ في ثِقَتِهِ وزُهدِهِ وعِبَادَتِه. فذَكَرُوا أن سُفيانَ كان مُجاوِرًا بمكَّةَ، فلمَّا كان ذات يَومٍ، جاء إِنسانٌ، فقال سُفيَانَ: يا أبا عبد الله! قَدِم اليومَ حَسَنٌ وعليٌّ ابنا صالحٍ. قال: وأين هُمَا؟ قال: في الطَّوَاف. قال: فإذا مَرَّا فأَرِينِهِما. - قال: - فمَرَّ أحدُهُما فقال: هذا عليٌّ. ثُمَّ مرَّ الآخَرُ، فقال: هذا حَسَنٌ فقال سُفيانُ: أمَّا الأوَّلُ فصاحبُ آخِرَةٍ، وأمَّا الآخَرُ - يعني: حَسَنًا - فصاحِبُ سَيفٍ، لا يملأُ جَوفَهُ شيءٌ. - قال: - فتقدَّمَ رجُلٌ ممَّن كان
مَعَنَا، فذهب إلى عليٍّ، فأخبَرَهُ الخبرَ، فلمَّا كان مِنَ الغَدِ جاء سُفيانُ يُسَلِّمُ على عليِّ بن صالحٍ، فقال له عليٌّ: يا أبا عبد الله! ما حَمَلَكَ على أن ذَكَرتَ أَخِي أمسَ بما ذكرتَه؟ أيشٍ يُؤَمِّنُك أن تَبلُغ هذه الكَلِمَةُ ابن أبي جَعفَرٍ، فيَبعَثُ إليه فيَقتُلُه؟ - فقال: - فنَظَرتُ إلى سُفيانَ، وهو يقُولُ: أَستَغفِرُ الله. وجَادَتَا عيناه.
تُرَى: لمَّا بَكَى سُفيانُ رهبةً مِن أن يُقتل الحَسَنُ، هل غيَّر رأيَهُ فيه؟ كلَّا، لكنَّهُ خَشِيَ إن قُتل يُسألُ عن دَمِه يوم القيامة.
ولو سلَّمَنا جدَلًا أن شُعبة تجاوَزَ حُدُودَ العَدلِ في الحُكم على الحسَن بن عُمارَةَ، فهل سائِرُ النُّقَّاد تابَعُوا شعبَة في هذا "الجَوْر"؟
فها هو عليُّ بنُ المَدِينِيِّ يقولُ: "ما أَحتَاجُ إلى شُعبَةَ فيه؟ أمرُهُ أبيَنُ مِن ذلك"، قيل له: يَغلَطُ؟ فقال: "أيُّ شيءٍ كان يغلط؟ "، وذهب إلى أنَّه كان يَضَعُ الحديثَ.
وابنُ المَدِينِيِّ عَلَمٌ من أَعلَام النُّقَّاد لا يَخفَى مكانُه، وإن كُنَّا لا نُوافِقُه على دعوى الوَضع.
لكن اسمَع كلام بقيَّة الأَئِمَّة في الحسَن بن عُمارَةَ.
قال ابنُ مَعِينٍ: "ضعيفٌ. ليس حديثُهُ بشيءٍ. لا يُكتَب حديثُهُ".
وقال أبو طالبٍ: سمعتُ أحمدَ بن حنبلٍ، يقُولُ:"الحَسَنُ بنُ عُمارَةَ مترُوكُ الحديث"، قلتُ: كان له هوًى - يعني: أكان مُبتَدِعًا -؟ قال: "لا، ولكن كان مُنكَرَ الحديثِ، وأحاديثُهُ موضُوعَةٌ. لا يُكتَب حديثُهُ".
وقال أبو حاتِمٍ ومُسلِمٌ والنَّسائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ: "مترُوكُ الحديث".
وقال النَّسائِيُّ في موضعٍ آخرَ: "ليس بثِقةٍ، ولا يُكتَب حديثُهُ".
وقال زكريَّا بنُ يحيَى السَّاجِيُّ: "ضعيفُ الحديثِ، مترُوكٌ، أجمَعَ أهلُ الحديث على تَركِ حديثِهِ".
وقال إبراهيمُ بنُ يَعقُوبَ الجُوْزْجَانِيُّ: "ساقطٌ".
وقال صالحُ بنُ مُحَمَّدٍ البَغدَادِيُّ: "لا يُكتَب حديثُهُ".
وقال عَمْرُو بنُ عليٍّ: "رجُلٌ صالحٌ صَدُوقٌ، كثيرُ الخَطَإِ والوَهَم، مترُوكُ الحديث".
وقال أبو أحمدَ بنُ عَدِيٍّ، بعد أن رَوَى طَوَفًا صالِحًا من حديثه:"ما أقربَ قصَّتَهُ إلى ما قال عَمْرُو بنُ عليٍّ: إنَّه كثيرُ الوَهَمِ والخطإِ. وقد رَوَى عنه الأئِمَّةُ من النَّاس - كما ذكرتُه -: سُفيانُ الثَّورِيُّ، وسُفيانُ بنُ عُيَينَة، وابنُ إسحاقَ، وجَريرُ بنُ حازمٍ - وذَكَر آخَرين، ثُمَّ قال: - وشُعبةُ، مع إِنكارِهِ عليه أحاديثَ الحَكَمِ، قد رَوَى عنه - كما ذكرتُه -. وقد قُمتُ باعتِذَار بعضِ ما أمليتُ أنَّ قَومًا شارَكُوا الحَسَنَ بنَ عُمارَةَ في بعض هذه الرِّوايَاتِ. وقد قيل إنَّ الحَسَنَ بنَ عُمارَةَ كان صاحبَ مالٍ، فحَوَّلَ الحَكَمَ إلى مَنزِلِه، فاستَقَاد منه، وخَصَّه بما لم يَخُصَّ غيرَهُ. على أن بعضَ رِواياتِهِ، عن الحكم، وعن غيرِهِ، غيرُ محفوظَاتٍ. وهو إلى الضَّعف أقربُ منه إلى الصِّدق".
وأعدلُ الأَقوَالِ، ما قاله ابنُ حِبَّان في ترجَمَتِه من "المَجرُوحين"(1/ 229)، وقد أبان عن العِلَّة الخفيَّة التي المُحدِّثين يُسقِطون حديثَه، قال: "كان بلِيَّةُ الحَسَن بن عُمارَةَ أنَّهُ كان يُدَلِّسُ عن الثِّقات ما
وَضَع عليهم الضُّعَفاءُ. كان يَسمَعُ من مُوسى بن مُطَيرٍ، وأبي العَطُوفِ، وأبانَ بنِ أبي عيَّاشٍ، وأَضرَابِهم، ثُمَّ يُسقِط أسماءَهم، ويَروِيها عن مَشايِخِهم الثِّقات، فلمَّا رَأَى شُعبَةُ تلكَ الأحاديثَ الموضُوعَة، التي يَروِيها عن أقوامٍ ثِقاتٍ، أَنكَرَها عليه، وأَطلَقَ عليه الجَرحَ، ولم يَعلَم أن بَينَهُ وبَينَهُم هؤلاء الكَذَّابين، فكان الحَسَنُ بنُ عُمارَةَ هو الجاني على نَفسِه بتَدلِيسِه عن هؤُلاء، وإِسقاطِهِم من الأخبار، حتَّى التَزَق الموضُوعاتُ به. وأَرجُو أن الله عز وجل يَرفَعُ لشُعبَةَ في الجِنان درجاتٍ، لا يَبلُغُها غيرُهُ، إلَّا مَن عَمِلَ عَمَلَهُ بذَبِّهِ الكَذِبَ عمَّن أخبَرَ الله عز وجل أنَّهُ لا يَنطِقُ عن الهَوَى، إن هُو إلَّا وَحيٌ يُوحَى، صلى الله عليه وسلم " انتهَى.
• قلتُ: فهل يُمكِنُ للأستاذ عوَّامةَ أن يَدَّعي أن المُحَدِّثين أجمَعين تناوَلُوا الحسَنَ بنَ عُمارةَ، مُتابِعِين شعبَةَ في رأيِهِ، لا يَعصِمُهُم وَرَع، ولا تَرُدُّهُم خَشيَةٌ، كأنَّمَا تحوَّلُوا جميعًا إلى ظَلَمَةٍ وفَجَرَةٍ؟!
ثُمَّ خَتَمَ الأُستاذُ بَحثَهُ قائلًا: "وانظُر بعدَ هذا تألُّمَ جَرِيرِ بن عبدِ الحَمِيد الضَّبِّيِّ، إذ يقُولُ: "ما ظَنَنتُ أنِّي أعيشُ إلى دَهرٍ، يُحَدَّثُ فيه عن مُحمَّد بن إسحاقَ، ويُسكَتُ فيه عن الحَسَن بن عُمارَةَ"! يريدُ: لا يُروَى فيه عن الحَسَن بن عُمارَةَ؛ فهو أجلُّ من مُحمَّد بن إسحاقَ بدَرَجَاتٍ، وحالُ ابن إسحاق وما استقرَّ عليه أمرُهُ من حيث القَبُول معلومَةٌ.
وما أعدَلَ ما حكاه البُخَارِيُّ في "تاريخه الكبير"، عن عبد الله بن مُحمَّد - وأظنُّهُ أبا بكرٍ بنَ أبي شَيبَة، بل هُوَ هُو - قال:"قيل لابن عُيَينَة: أكان الحَسَنُ بنُ عُمارَةَ يَحفَظُ؟ فقال: كان له فَضلٌ، وغيرُهُ أحفَظُ مِنهُ".
• قلتُ: ولا أظُنُّ أحدًا - ولا الأُستاذَ نفسَه، فيما أظنُّ - يَرَى أن الحَسَنَ بنَ عُمارَةَ أقوَى من مُحمَّد بن إسحاقَ، حتى يُتابعَ جَرِيرَ بنَ عبد الحميد على رَأيِه. فيُرِيدُ الأستاذُ أن يَقُولَ: قد استقرَّ عَمَلُ المُحَدِّثين على تحسين حديثِ ابن إسحَاقَ، وحَسبَ كلامِ جريرِ بن عبد الحميد، فيَكُونُ الحَسَنُ بنُ عُمارَةَ صحيحَ الحديث، أو حَسَنَهُ على أقلِّ تقديرٍ. فهل تَرَى في قولِ النُّقَّاد وصيارفة الفنِّ ما يُشِيرُ إلى قريبٍ من هذا؟ وهل يَعتَقِدُ الأستاذُ أن جَرِيرَ بن عبد الحميد مِن النُّقَّاد حتَّى يُقبَلَ قولُهُ المُناقِضُ لقول العُلماء جميعًا؟
ثمَّ زاد الأُستاذُ الطِّينَ بِلَّةً عندما خَتَمَ كلامَهُ بقَولِهِ: "وما أعدلَ ما حَكَاهُ البُخارِيُّ
…
". فظن الأستاذُ أن كلامَ ابن عيينة فيه تزكيةٌ للحسن بن عُمارةَ، إذ سُئل: أَكانَ الحسَنُ بنُ عُمارةَ يحفظ؟ قال: "كان له فضلٌ. وغيرُهُ أحفَظُ منه".
ولو كان ابنُ عُيَينَة يراه كما يظُنُّ الأستَاذُ، وسُئل: أكان يحفَظُ؟ فكان يَنبَغِي أن يكون جوابُ ابن عُيَينَة إن أرادَ تَزكِيتَه أن يقُولَ: "نعم"، أمَّا أن يُسألَ:"هل كان يَحفَظُ؟ "، فيقُولُ:"له فضلٌ" فالحَيدَةُ هنا جَرحٌ، وليست تَزكِيَةً. كما سُئل بعض النُّقَّاد عن رَاوٍ - أظُنُّه: أبا عبد الله الجَدَلِيَّ -، فقال:"كان يُجِيدُ الضَّربَ بالسَّيف"، فعلَّق الشَّافِعِيُّ - على ما أَذكُرُ - قائلًا:"ومن نُسب إلى غيرِ صناعَتِه فقد وُهِصَ" أو كما قال! يُشِيرُ بذلك إلى أن الحُكمَ على الرَّاوِي، الذي رأسُ مالِهِ العَدَالَةُ والضَّبطُ، إلى ذِكرِ شيءٍ لا يتعلَّقُ بهما، فيه دلالةٌ على جَرحِه.
• قلتُ: هذا ما يتعلَّقُ بالحَسَن بن عُمارَةَ في كلام الأُستاذ مُحمَّد عوَّامَة. أمَّا الشَّيءُ الآخَر، والذي اتَّهم به عوَّامةُ ابنَ عديٍّ أنَّه "لا يَعقِل ما يقُولُ"، فهو أنَّهُ وَصَفَ أبا حَنِيفَة رحمه الله بسُوء الحفظ.
وهذه مسأَلةٌ جَرَت بِسَبَبِها خصوماتٌ شديدةٌ بين المُحَدِّثِين والحَنَفِيَّة. ذلك أن الحَنَفِيَّة يأبَون إلَّا أن يَكُون أبو حَنِيفَة من سادة الحُفَّاظ، الذين يَجرُون في مِضمَار الأَعمَش، ومَنصُورٍ، وشُعبَةَ، والثَّورِيِّ، وأَضرَابِهم. ولا يُسَلِّمون للمُحَدِّثين كَلامَهم في رَميِه بسُوءِ الحِفظِ، وكيفَ يكُونُ أئِمَّةُ الذاهِب الثَّلاثة الأُخرَى. مالكٌ، والشَّافِعِيُّ، وأحمدُ، مِن أعيَان الحُفَّاظ والفُقهَاء، ويكونُ أبُو حَنِيفَة من أعيان الفُقهاء، ويَفُوتُه الحفظ؟! هذا ما يأبَاهُ الحنَفِيَّةُ تمامًا. فجَرَّهُم هذا الإِبَاءُ إلى رَميِ المُحَدِّثِين جميعًا بعَدَاوَة مَدرَسَة الرَّأي، بَغيًا وعُدوانًا، وأنَّهُم مُتحَامِلُون على أبي حَنِيفَة وأصحَابِه - رحمهم الله تعالى -. وقد جَرَت بَينَهُم وقائعُ تُشبِهُ الحربَ المُسلَّحةَ.
فذَكَرَ الذَّهَبِيُّ في "تَذكِرَة الحُفَّاظ"(4/ 1378)، عن عبدِ الغَنِيِّ المقدِسيِّ، قال:"كُنَّا نَسمعُ بالمَوْصِل" كِتَاب الضُّعفاء" للعُقَيليِّ، فأخَذَنِي أهل الموصل وأَرَادوا قتلي من أجل ذِكر رَجُلٍ فيه
…
فجَاءَنِي رجلٌ طويلٌ بسيفٍ فقلت لعلَّه يقتُلُني فَأستريحُ!! - قال - فلَم يَصنَع شيئًا، ثُم أُطلقتُ
…
"، انتهى. وأوضحها الحافظُ ابنُ كثيرٍ في "البِداية والنِّهاية" (13/ 39)، " فقال: "لمَّا دَخَل - يعني: عبد الغنيِّ - لموصِل سَمِع كتابَ العُقَيليِّ في الجَرح والتَّعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حَنِيفة، فخَرَجَ منها خائفًا يترَقَّبُ .... " انتهَى.
وماذا يَضُرُّ عبدَ الغَنِيِّ المَقدِسِيَّ من ثَورَةِ العَامَّة عليه؟؟ فكَمَا لم يَضُرَّ ابنَ جَريرٍ قيامُ الحَنَابِلَة عليه، ورَدمُهم دَارَهُ بالحِجَارة، ولم يَضُرَّ عبدَ الله بنَ مُحمَّد بن عُثمان السَّقَّاء أن هاج عليه العَامَّةُ وهو يُحَدِّثُ بحديثِ الطَّير، ولم يَضُرَّ الخطيبَ أنَّهم طيَّنُوا عليه بابَ دَارِه ليَحُولُوا بينه وبين شُهُودِ الجَمَاعَة، فإنَّ قِيَام العَامَّة على عبدِ الغَنِيِّ لا يَضرُّه، ولا يَضُرُّ كتاب العُقَيليِّ أيضًا.
ثُمَّ هب أنَّ أبا حَنِيفَة كان ثِقَةً في الحديث، فإيراد العُقَيليِّ له في "الضُّعفاء" يتَّفقُ مع ما اشتَرَطُوه من أنَّهُم قد يَذكُرُون الرَّجُل لأدنَى جَرحٍ فيه وإن لم يَضُرَّه، فكيف إذا كان الجَرحُ يَضُرُّه؟
والذي يَنبَغِي أن يُعتَقَد، ولا يَجُوزُ غيرُهُ، أنَّه من المُحال أن يَجتَمِع العُلماء على جَرحِ عَدلٍ، أو تَعدِيلِ مجرُوحٍ. والجائِزُ، بل الوَاقِعُ، أنَّهُم يَختَلِفُون في تَوثِيقِ راوٍ أو جَرحِه. فوَضَعَ العلماءُ لذلك ضَوَابِطَ كُلِّيَّةً، قد يتخلَّف بَعضُها بسَبَب القَرائِن التي تَظهَرُ للنَّاقد.
فإذا نَظَرتَ إلى كُتب العُلَماء، كأَصحاب الصِّحاح والسُّنَن والمسانِيد، وجدتَها خاليةً من رِواياتِ أبي حنيفة، إلَّا بقدرٍ ضئيلٍ جدًّا، حتى أنَّنِي لا أذكر أنَّ أحمَد، مع اتِّساع مُسنده، روى لأبي حنيفة حديثًا، إلَّا حدِثيًا واحدًا - ولم يُسمِّه -، بل قال فيه:"أبو فُلان"، فاستفهمه ولَدُهُ: أهو أبو حنيفة؟ قال: "نعم".
فعُلماء الجَرح والتَّعديل مُختلِفون في شأن أبي حنيفة رحمه الله. فهُناك مَن وَثَّقه بإطلاقٍ، وهُناكَ مَن جَرَحَهُ بإطلاقٍ، وهُناك مَن تَوسَّط في أمره.
فالقَاعِدَةُ قاضِيَةٌ بـ "تقديم الجَرح على التَّعديل إذا كان مُفسَّرًا"، وجَرْحُ العُلماء أبا حَنِيفَة مُفَسَّرٌ بأنَّهُ سيِّءُ الحفظ.
ولا نَستَثنِي من هذه القاعدةِ أحدًا، كائنًا مَن كان.
ولا يَضُرُّ أبا حَنِيفَة رحمه الله ألَّا يَكُونَ حافظًا، فعِندَنا مثلًا حفصُ بن سُليمَان الأَسَدِيُّ، وهو رَاوِي القِراءَةِ الشَّهِيرَة عن عاصِمٍ، فقد حَكَم العُلماءُ بأنَّهُ مترُوكُ الحديثِ، مع إِطبَاقِهِم على إِمَامَتِه في القِراءَة. وكذلك الأَعمَشُ، أَطبَقُوا على أنَّهُ ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، وجَعَلُوا قِراءَتَه في عِدادِ الشَّاذِّ. وهكذا، فليَكُن أبو حَنِيفَة من هذا الضَّرب، فشَيخُهُ حمَّادُ بن أبي سُلَيمان تَكَلَّم العُلماء في حِفظِه، مع اعتِرَافِهم بفِقهِهِ. وكذلك ابنُ أبي لَيلَى وشَرِيكٌ، كانا من الفُقَهاء المَشهُورين، مع سُوء حِفظِهم. فلا أَدرِي: لِمَ أقامَ الحَنَفِيَّةُ الدُّنيا ولم يُقعِدُوها لمَّا تَكلَّم المُحَدِّثُون في حفظ أبي حَنِيفَة، وصَيَّرُوهم جميعًا مُتَحامِلِين، لا يَصُدُّهم وَرَعٌ، ولا يَمنَعُهُم خوفٌ من الله أن يَفتَرُوا على الإمام الأَعظَم، ويَنسِبُون إليه ما هُو منه براءٌ؟!
نسألُ الله تعالَى أن يَرزُقَنا الإنصافَ والعَدلَ، في الغَضَب والرِّضا، إنَّه وليُّ ذلك ومَولَاه.
والله أعلم.
290 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا أُخِذَ بِسَيفِ الحَيَاءِ فَهُوَ حَرَامٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ لا أصل له، ومعناه باطلٌ.
ويعارضه ما أخرَجَهُ البُخاريُّ في "صحيحه"(10/ 521) وغيرُه، عن ابن عُمَر، قال: مرَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم على رجُلٍ، وهو يُعاتِب أخاه في الحياء، يقُول:"إِنَّك لتَستَحِي، - حتَّى كأنَّه يقولُ: - قد أَضَرَّ بك! "، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"دَعهُ؛ فإنَّ الحياء من الإيمان".
ففي هذا الحديث أنَّ الرَّجُلَ قال لأخيه: إنَّه قد وَقَع عليك ضَرَرٌ بسبب حيائك، فقد يُطلَبُ منه الشَّيءُ، وهو في شِدَّة الحاجة إليه، فلا يَسألُهُ سائلٌ إلَّا أعطَاهُ، مع شِدَّة حاجته، ومع ذلك فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كلامًا معناه: لا تُعاتِبهُ على ما فَاتَه بسبب حيائه؛ فإنَّ الحياء من الإيمان، فهذا مَدحٌ لصنيعه. واللهُ أعلَمُ.
• قلتُ: ثمَّ استدركتُ، فقلتُ: يُحتَمَل أن يكُون لمعناه محملٌ مقبولٌ، مع تسليمِنا أنَّه لا يصحُّ بلفظِه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويُنتَزَعُ هذا المَعنَى مِن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحِلُّ لامرئٍ مِن مالِ أخيه إلَّا ما أعطاهُ مِن طيب نفسٍ".
وهو حديثٌ صحيحٌ، رواه جماعةٌ من الصَّحابَة، وهذا يَشمل الحياء وغيره.
وانظُر "الإرواء"(1459) لشيخنا الألبانيِّ رحمه الله.
291 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ مِن شَرِّ النَّاسِ عِندَ اللهِ مَنزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفضِي إِلَى المَرأَةِ، وَتُفضِي إِلَيهِ، ثُمَّ يَنشُرُ سِرَّهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "النِّكاح"(1437/ 123)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(10/ 236 - 237) عن ابن أبي شَيبة، وهذا في "المُصنَّف" (4/ 391) قال: حدَّثَنا مَرْوانُ بنُ مُعاوِية، عن عُمَرَ بنِ حمزة العُمَرِيِّ، حدَّثَنا عبدُ الله بنُ سعدٍ، قال: سَمِعتُ أبا سعيدٍ الخُدرِيَّ، يقولُ: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِن أشرِّ النَّاس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرَّجلُ يُفضِي إلى امرأته، وتُفضِي إليه، ثم يَنشُر سِرَّها". لفظُ مُسلِمٍ.
ووقع عند ابن أبي شيبة: "إِنَّ مِن شَرِّ النَّاس".
وفي "الحِلية": "إِنَّ مِن شِرار النَّاس".
كذا رواه ابنُ أبي شَيبَة، عن مَرْوان بن مُعاوِية.
وأخرجه أحمد (3/ 69) قال: حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ مُحمَّدٍ أبو إبراهيم المُعَقِّبُ ..
وابنُ السُّنِّيُّ في "اليوم واللَّيلة"(614) عن يحيى بن مَعِينٍ ..
والبَيهَقِيُّ في "السُّنَن"(7/ 193 - 194)، وفي "الشُّعب"(5231) عن الحَسَن بن مُحمَّد بن الصَّبَّاح الزَّعفَرَانِيِّ، قال ثَلَاثَتُهُم: ثنا مَرْوانُ بنُ
مُعاوية بهذا الإسناد، بلفط:"إِنَّ مِن أعظم الأَمَانَة عِند الله يوم القِيامَة، الرَّجلُ يُفضِي إلى امرأته. . ." والباقي مثله.
ووافق مَرْوانَ بنَ معاوية على ما هذا اللَّفظ: أبو أُسامة، فرواه عن عُمَرَ بن حمزة بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1437/ 124) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله بن نُميرٍ، وأبو كُريبٍ ..
وأبو داوُد (4870) قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ العلاء، وإبراهيمُ بنُ مُوسَى الرَّازِيُّ ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(10/ 236) عن أبي عمران مُوسَى بن حِزَامٍ التِّرمذيِّ، قالوا: ثنا أبو أُسامة حمَّادُ بنُ أُسامَة بهذا الإسناد.
وذَكَرَ الذَّهَبيُّ في "الميزان"(3/ 192) أنَّ هذا الحديث ممَّا استُنكِر على عُمَرَ بنِ حمزَة، فقد ضعَّفَه أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ، والنَّسائيُّ. ولا أَدرِي وَجهَ النَّكارَة التي عَناهَا الذَّهَبيُّ، فمِن المَعلُوم أنَّ صَاحِبَي "الصَّحِيحَين" إذا رَوَوْا عن راوٍ مُتكَلَّمٌ فيه، فإِنَّهُم يَنتَقُون مِن حديثِه ما لم يُستَنكَر عليه، وهذا هو اللَّائِق بهما، وبمكانِهِما في العلم.
واللهُ الموفِّق.
292 -
سُئلتُ عن حديث: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَينِ، مَا لَم يَخُن أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3383) ..
والخطيبُ في "تاريخه"(4/ 316) عن أبي القاسم البَغَوِيِّ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ سُليمان المِصِّيصِيُّ، المعروفُ بـ "لُوَينٍ"، قال: ثنا أبو همَّامٍ الأَهوَازِيُّ مُحمَّدُ بنُ الزِّبْرِقَان، عن أبي حَيَّان التَّيْمِيِّ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا فذَكَرَه، وزاد:"فَإِذَا خانَهُ، خرجتُ مِن بينِهِما".
ونَقَل الخطيبُ عن لُوينٍ، أنَّهُ قال:"لَم يُسنِده أحدٌ إلَّا أبو همَّامٍ، وهو ثبتٌ".
• قلتُ: وثَّقَهُ ابنُ المَدِينِيِّ والدَّارَقُطنِيُّ. وقال ابنُ مَعِينٍ والنَّسائِيُّ: "لا بأس به". وذَكَرَهُ ابن حِبَّان في "الثِّقات"(7/ 441)، وقال:"رُبَّما أخطأ". وقال أبو زُرعة: "صالحٌ وَسَطٌ"، فهذا يدلُّ على أنَّهُ ليس من أهل الإِتقان.
وقد خالَفَهُ جَريرُ بنُ عبد الحَمِيد وغيرُهُ، فرَوَوْهُ عن أبي حَيَّان، عن أبيه، مُرسَلًا.
ذَكَرَه الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلَل (11/ 7)، وقال: "وهو الصَّواب".
293 -
سُئلتُ عن حديث: دَخَلَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فمرَّ بمَجلِسَين، أحدُهُما يقرؤُون القُرآن، ويدعُون اللهَ، والأُخرى يتَعَلَّمُون، ويُعلِّمون، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كُلٌّ على خيرٍ، هؤُلَاء يَقرَؤُون القُرآن، ويدعُون الله، فإن شاء أَعطَاهُم، وإن شاء مَنَعَهُم، وهؤُلاء يَتَعلَّمُون، ويُعلِّمُون، وإِنَّما بُعِثتُ مُعلِّمًا"، فجلس مَعَهُم.
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرجه ابنُ ماجَهْ (229) قال: حدَّثَنا بِشرُ بن هلالٍ الصَّوَّافُ، ثنا داوُد بن الزِّبْرِقَان، عن بَكر بن خُنَيسٍ، عن عبد الرَّحمن بن زيادٍ، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عَمْرٍو فذكره.
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وداوُدُ بن الزِّبْرِقَان متروكٌ.
وبَكر بن خُنَيسٍ ضعيفٌ.
ولكن تابعه أبو يُوسُف القاضي، فرواه عن عبد الرَّحمن بن زيادٍ بهذا الإسناد.
أخرجه الخطيبُ في "الفقيه والمتفقِّه"(34).
• قلتُ: هكذا رواه بَكرُ بن خُنَيسٍ، وأبو يُوسُف القاضي، عن عبد الرحمن بن زيادٍ.
وخالَفَهُما جماعةٌ من الثِّقات، فرَوَوهُ عن عبد الرَّحمن بن زيادٍ، عن عبد الرَّحمن بن رافعٍ، عن عبد الله بن عَمْرٍو فذَكَرَه.
أخرَجَهُ الدَّارِميُّ (361)، والطَّبَرانيُّ في "مُعجَمه"، ومن طريقه الشَّجَرِيُّ في "الأمالي"(1/ 43) عن عبد الله بن يزيد المُقرِئِ ..
والطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(2251)، والخطيبُ في "الفقيه والمُتفقِّه"(31، 32، 33) عن ابن المُبارَك، وهو في "الزُّهد"(1388) ..
وابنُ عبد البَرِّ في "جامع العِلم"(242) عن ابن وهبٍ ..
والطَّبَرانيُّ، ومِن طريقه الشَّجَرِيُّ (1/ 43) عن زُهير بن مُعاوية، قال أربَعَتُهُم: ثنا عبد الرَّحمن بن زيادٍ بهذا.
وذكر الخطيب في "الفقيه"(1/ 90) أنَّ جعفر بن عَوْن رواه أيضًا عن عبد الرَّحمن بن زيادٍ الأَفرِيقِيِّ.
فهؤلاء خمسةٌ من الثِّقات، خالَفُوا بَكرَ بن خُنَيسٍ، وأبا يُوسُف القاضي. ورِوَايَتُهُم أولى.
ولكنَّ الإسنادَ ضعيفٌ على أيِّ حالٍ؛ لضعف الأَفرِيقِيِّ، وعبدِ الرَّحمن بن رافع.
وضعَّفَهُ العِراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 11).
والله أعلم.
294 -
سُئلتُ عن حديث: "الأَروَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنهَا اختَلَفَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "البِرِّ والصِّلة"(2638/ 159) عن عبد العزيز بن مُحمَّدٍ الدَّرَاوَردِيِّ ..
والبُخاريُّ في "الأدب المُفرَد"(901) عن سُليمان بن بلالٍ ..
وأحمدُ (2/ 295، 527)، وابنُ حِبَّان (6168) عن حمَّاد بن سَلَمة ..
وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(102)، وابنُ جُميعٍ في "المُعجَم"(ص 347)، والخطيبُ (3/ 329) عن شُعبَة ..
وابنُ نُجيدٍ في "أحاديثه"(ق 5/ 1)، وابنُ المُقرِئ في "مُعجَمه"(663) عن رَوْح بن القاسم ..
وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 94) عن مُحمَّد بن جعفر، وسُليمان بن بلالٍ، كُلُّهُم عن سُهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
وتابَعَهُم مُوسَى بنُ يعقوب الزَّمْعِيُّ، فرواه عن سُهيل بن أبي صالحٍ بهذا الإسناد، بلفظ:"الأرواح جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ، تطوفُ باللَّيل". . . الحديث.
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ في "الأمثال"(109)، والخطيبُ (4/ 352).
وهو حديث مُنكَرٌ بزيادة: "تطُوف باللَّيل"؛ والزَّمْعِيُّ ضعيفٌ.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ (2638/ 160)، وأبو داوُد (4834)، وأحمدُ (2/ 539)، والحُميدِيُّ (1046) من طريق يزيد بن الأصمِّ، عن أبي هُريرَة، مع زيادةٍ في متنه.
وأخرَجَهُ ابنُ حِبَّان في "المجرُوحين"(2/ 97) بسندٍ واهٍ، عن ابن سِيرِين، عن أبي هُريرَة مرفوعًا.
وفي الباب عن عائشة مرفُوعًا مثله.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الأنبياء"(6/ 369) معلقًا، وَوَصَلَهُ في "الأدب المُفرَد"(900)، وابنُ الأعرابيِّ في "المُعجَم"(229)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(9039) عن عبد الله بن صالحٍ كاتبِ اللَّيث، عن اللَّيث بن سعدٍ، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، عن عَمرة بنتِ عبد الرَّحمن، عن عائشة مرفُوعًا.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "الأنبياء"(6/ 369) معلقًا، وَوَصَلَهُ في "الأدب المُفرَد"(900) ..
وأبو يَعلَى (4381)، وعنه أبو الشَّيخ في "الأمثال"(100)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل" (7/ 2671) قال: حدَّثَنا يحيى بنُ مَعِينٍ، قالا: ثنا سعيدُ بنُ الحَكَم بن أبي مريمَ، ثنا يحيى بن أيُّوب، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(9037) عن إبراهيم بن الحُسَين، قال: نا سعيد بن أبي مريمَ بهذا الإسناد.
وله طريقٌ آخرُ عن عائشة ..
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 2299) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن أحمد بن عيسى أبو الطَّيِّب، ثنا ابنُ أخي ابن وهبٍ، ثنا عَمِّي، عن يُونُس بن يزيد، عن الزُّهريِّ، عن أبيه، عن عائشة مرفُوعًا مثلَه.
وشيخُ ابن عَدِيٍّ كان يَضَعُ الحديثَ، وقد سَرَقَ هذا الحديثَ، وأَلزَقَهُ على ابن أخي ابن وهبٍ، قال ابنُ عَدِيٍّ:"وهذا حديثُ عبد الله بن هلالٍ الأزديِّ المِصرِيِّ، عن ابن وهبٍ"، ثم رواه من وجهين عنه، عن ابن وهبٍ.
وقد رواه أيضًا ابنُ المُقرِئِ في "المُعجَم"(412) قال: حدَّثَنا أحمد بن مُحمَّد بن هلالٍ أبو جعفرٍ المُقرِئُ بمصرَ، حدَّثَني أبي، حدَّثَنا ابن وهبٍ بسَنَده سواء.
قال ابنُ المُقرِئِ: "هذا حديث مُحمَّدِ بنِ هلالٍ، وهو أحد ثقات المِصرِيِّين".
وفي الباب عن جماعةٍ من الصَّحابة، كابن مَسعُودٍ، وابن عُمَر، وسَلمان الفارسيِّ، وابن عبَّاسٍ، تَجِدُها عند أبي الشَّيخ في "الأمثال"(101، 102، 103، 104، 105، 106، 107، 108)، وابنِ عَدِيٍّ (2/ 447، و 6/ 2188)، وأبي نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 203)، والطَّبَرانيِّ في "الكبير"(6169)، وفي "الأوسط"(1577)، والبيهقيِّ في "الشُّعب"(9038)، وابنِ عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 416، و 13/ 100، و 21/ 437، و 50/ 177، و 53/ 374).
295 -
سُئلتُ عن حديثٍ: رواه أحمد عن طارق بن عبد الله المُحارِبِيِّ مرفُوعًا: "إذا صَلَّيتَ فَلَا تَبصُق عن يمينك، ولا بين يديك، وابصُق خَلفَك، وعن شِمالِك، إِنَّ كان فارغًا، وإلَّا فهكذا - ودَلك تحت قدميه -".
قال أحمد: ولم يَقُل وكيعٌ ولا عبدُ الرَّزَّاق: "وابصُق خلفك".
فما تفسير قولِه، وما فِقهُ هذه الزِّيادة؟
• قلتُ: اعلم أيُّها المُستَرشِد!
أنَّ يحيى بنَ سعيدٍ القَطَّانَ رَوَى هذا الحديثَ عن سُفيان الثَّوْريِّ، عن منصورٍ، عن رِبعيِّ بن حِراشٍ، عن طارق بن عبد الله المُحَارِبِيِّ، باللَّفظ السَّابق، وفيه زيادة:"وابصُق خلفك".
أخرَجَهُ أحمدُ (6/ 396) ..
والنَّسائيُّ في "الكُبرَى"(805)، وفي "المُجتبَى" (2/ 52) قال: حدَّثَنا عُبيدُ الله بن سعيدٍ ..
والتِّرمذيُّ (571) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن بَشَّارٍ ..
وابنُ خُزَيمة (876) قال: حدَّثَنا بُندارٌ، وأبو مُوسَى هو مُحمَّد بن المُثنَّى ..
والحاكمُ (1/ 256)، وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(2/ 44)،
عن مُسدَّد بن مُسَرهَدٍ، قال خمستُهُم: ثنا يحيى بن سعيدٍ القَطَّان بهذا الإسناد.
ولم تَقَع هذه الزِّيادةُ في رواية مُسدَّدٍ عند الحاكم. أمَّا ابنُ قانعٍ، فإنَّهُ أحال على سِياق حديث شُعبَة.
ولم يَذكُر التِّرمذيُّ قولَه: "ولا بين يديك".
وقد تفرَّد يحيى القَطَّان بهذه الزِّيادة، عن سُفيان. وقد رواه أصحاب الثَّوْريِّ، فلم يَذكُرُوها، كما نَبَّه على ذلك الإمام أحمدُ، عَقِب الحديث، فقال:"إنَّ وكيعًا، وعبد الرَّزَّاق لم يَروِيَاهَا".
أمَّا رواية وكيعٍ ..
فأخرَجَهَا ابنُ ماجَهْ (1021) قال: حدَّثنا أبو بكرٍ بنُ أبي شَيبَة، وهذا في "المُصنَّف"(2/ 364) ..
وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(1322) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ فُضيل أبو جعفرٍ البَزَّازُ - ثقةٌ -، قالا: ثنا وكيعُ بنُ الجَرَّاح، ثنا يحيى القَطَّانُ بهذا الإسناد، دون الزِّيادة.
وكذلك رواه عبد الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(1688)، ومِن طريقِهِ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 8165) عن سُفيان الثَّوْريِّ، دُون الزِّيادة.
وأخرَجَهُ الحاكمُ (1/ 256) عن عُبيد الله الأَشجَعِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ (2/ 292) عن الحُسين بن حفصٍ، كلاهُما عن سُفيان الثَّوْريِّ بهذا الإسناد، دُون الزِّيادة.
فهؤلاء أربعةٌ من أصحاب سُفيان الثَّوريِّ، وعلى رأسهم وكيع بن الجَرَّاح، يَرْوُون الحديث دُون الزِّيادة.
وقد رواه أصحابُ مَنصُور بن المُعتَمِر، فلم يَذكُرُوها ..
فأخرَجَهُ أبو داوُد (278)، والطَّبَرانيُّ (8168)، والطَّيَالِسِيُّ (1275)، ومن طريقه أبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(3/ 1555) عن أبي الأَحْوَص سلَّام بن سُليمٍ ..
وأحمد (6/ 396)، والطَّيَالِسِيُّ (1275)، ومن طريقه أبو نُعيمٍ (3/ 1555)، وابنُ قانعٍ في "مُعجَمه"(2/ 44)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(8166) عن شُعبة بن الحَجَّاج ..
وأحمد أيضًا (6/ 396) قال: حدثنا عَبِيدَةُ بن حُميدٍ ..
وابنُ خُزَيمَةَ (877) عن جَريرِ بن عبد الحميد ..
والطَّيَالِسِيُّ (1275)، وأبو نُعيمٍ (3/ 1555)، وابن قَانعٍ (2/ 44) عن وَرقَاء بن عُمر ..
والطَّيَالِسِيُّ أيضًا (1275)، وأبو نُعيمٍ (3/ 1555)، والطَّبَرانيُّ (8168) عن قيس بن الرَّبيع ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(3307)، وفي "الكبير"(8170) عن غيلان بن جريرٍ ..
والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(8167، 8169، 8171، 8172) عن زائدة بن قُدامة، والأعمش، ومُفَضَّل بن مُهَلهَل، وجعفر بن الحارث ..
وفي "المُعجَم الصَّغير"(222) عن مالك بن مِغْوَلٍ، كُلُّهُم، وهم اثنا
عشر راويًا، عن مَنصُور بن المُعتَمِر بهذا الإسناد، دُون الزيادة.
وقد ذَكَرَ أبو نُعيمٍ أنَّ عبد المَلِك بن عُميرٍ رواه عن رِبْعِيِّ بن حِراشٍ، عن طارق بن عبد الله المُحَارِبِيِّ.
فقد يُقال: "إنَّ يحيى القَطَّانَ رئيسُ أصحاب الثَّوْريِّ، وهو من الثِّقات الأثبات، فلا مَانِع من قَبُول زِيادَتِه"، ولكن يَلُوح لي شُذُوذ هذه الزِّيادة؛ للأدلَّة التي ذَكَرتُها، مع اعتِرافنا بمكان يحيى القَطَّان من الحِفظ، وخُصُوصًا في سُفيان الثَّوْرِيِّ.
والعلمُ عِند الله تعالَى.
296 -
سُئلتُ عن حديث: "أَسوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً، الذي يَسرِقُ مِن صَلَاتِه"، قالوا:"كيف يَسرِقُ مِن صلاته؟ "، قال:"لا يُتِمُّ رُكُوعَهَا، وَلَا سُجُودَهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ حسنٌ.
قد ورد هذا الحديثُ من حديث أبي قتادة، وأبي هُريرَة، وأبي سعيدٍ الخُدريِّ، وعبدِ الله بن المُغَفَّل رضي الله عنهم جَمِيعًا -.
1 -
أمَّا حديثُ أبي قتادة.
فأخرَجَهُ الدَّارِمِيُّ (1/ 247)، وأحمدُ (5/ 310)، وابنُ خُزَيمَة (1/ 331 - 332)، ومن طريقه ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(15/ 53)، وابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(487)، والبَغَوِيُّ في "معجم الصحابة"(431)، والحاكمُ (1/ 229)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 3/ رقم 3283)، وفي "الأوسط"(8179)، والدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد" - كما في "أطراف الغَرائب"(4868) -، وفي "العِلل"(8/ 15)، وابنُ المُنذِر في "الأوسَط"(3/ 174)، والبَيهَقِيُّ (2/ 385 - 386)، وفي "الشُّعَب"(3117)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(2/ 751)، والخطيبُ (8/ 227)، وابنُ عساكِر في "تاريخ دمشق"(17/ 39) من طريق الحَكَم بن مُوسَى، ثنا الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن عبد الله
ابن أبي قتادة، عن أبيه فذَكَرَه.
قال البَغَوِيُّ: "لا أعلم حَدَّث بهذا الحديث، عن الأَوزَاعِيِّ، بهذا الإسناد، غيرَ الوليد".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد": "غريبٌ مِن حديث يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن عبد الله، عن أبيه. وغريبٌ مِن حديث الأوزاعِيِّ عنه. تفرَّد به: الحَكَمُ بنُ موسى، عن الوليد".
وهذا إسنادٌ ظاهرُهُ الجَودَة، وليس كذلك؛ فإنَّهُ مُعَلٌّ بعنعنة الوليد بن مُسلِمٍ، فقد كان يُدَلِّسُ أقبحَ أنواع التَّدليس، وهو تدليسُ التَّسوِية، والذي يُلزِمُ المُدلِّسَ أن يُصَرِّح بالتَّحديث في كُلِّ طَبَقات السَّنَد.
وقد صرَّح أبو حاتمٍ، وعليُّ بنُ المَدِينِيِّ، والدَّارَقُطنِيُّ، بتفرُّد الحَكَم بن مُوسَى، به ..
فرَوَى الخطيبُ (8/ 227) عن عُثمانَ بن سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، قال: قَدِم عليُّ بنُ المَدِينِيُّ بغدادَ، فحَدَّثَهُ الحَكَمُ بنُ مُوسَى بحديث أبي قَتَادَةَ:"إنَّ أَسوَأَ النَّاس سَرِقَةً. . ."، فقال له عَلِيٌّ:"لو غَيرُك حدَّثَ به كُنَّا نَصنَعُ به - يعني: لأنَّك ثِقةٌ -"، ولا يرويه غيرُ الحَكَم. انتهَى.
وليس كما قالُوا ..
فقد تابعه أبو جعفرٍ السُّوَيدِيُّ مُحمَّدُ بنُ النُّوْشَجَان ..
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 310)، ومن طريقه ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(487).
وتابعه أيضًا سليمانُ بنُ أحمد الوَاسِطِيُّ، كما قال الطَّبرَانيُّ في "الأوسط".
وقد خُولِف الوليدُ بنُ مُسلِمٍ في إسناده ..
خالَفَهُ عبدُ الحميد بنُ أبي العِشرين، فرواه عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُريرَة فذَكَرَ مثلَه.
أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(487) ..
وابنُ حِبَّان (1888) قال: أخبرنا القطَّانُ بالرَّقَّة ..
والحاكِمُ (1/ 229)، وعنه البَيهَقِيُّ (3/ 386) عن عُبيد بن عبد الواحد ..
وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(23/ 410) عن إسحاق بن أبي حسَّان الأَنمَاطِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(3116) عن أبي عُثمان الأنبارِيِّ ..
وابنُ عساكر في "تاريخ دِمَشقَ"(15/ 54) عن مُحمَّد بن مُحمَّد بن سُليمان، قالوا: ثنا هِشَامُ بنُ عمَّارٍ، نا عبدُ الحميد بنُ أبي العِشرين بهذا.
وهشامُ بنُ عمارٍ يضعف.
ثُمَّ وَجدتُ له مُتابِعًا ..
تابَعَهُ أبو الجَمَاهِرِ مُحمَّدُ بنُ عُثمانَ، قال: نا عبدُ الحَمِيد بنُ حَبِيب بن أبي العِشرِين بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(4665) قال: حدَّثَنا عبدُ الرحمن بنُ عَمرٍو أبو زُرعَةَ، قال: نا أبو الجَمَاهِرِ بهذا.
وقال: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُرَيرَة، إلَّا ابنُ أبي العِشرِين".
• قلتُ: وأبو زُرعَةَ الدِّمَشقِيُّ ثِقَةٌ ثَبتٌ.
وأبو الجَمَاهِر من الثِّقاتِ الرُّفَعَاءِ.
وابنُ أبي العِشرِين قال أبو زُرعَةَ الرَّازِيُّ: "ثِقَةٌ. حديثُهُ مُستقِيمٌ. وهو من المعدودين في أصحاب الأَوزَاعِيِّ". وكذلك وثَّقَهُ أحمدُ، وقال:"كان أبُو مُسْهِرٍ يَرضَاهُ"، وأبو حاتِمٍ، وقال ابنُ مَعِينٍ، والعِجلِيُّ:"لا بأس به". وقال هشامُ بنُ عَمَّارٍ: "أَوثَقُ أصحاب الأَوزَاعِيِّ كاتبُهُ عبدُ الحميد". ولَيَّنَهُ أبو حاتمٍ في روايةٍ، والنَّسَائِيُّ. وقال البُخَارِيُّ:"رُبَّمَا يُخالِفُ في حديثِهِ". وقال دُحَيمٌ - إمامُ أَهلِ الشَّام -: "عُمَرُ بنُ عبد الواحد ثِقَةٌ، أَصَحُّ حديثًا من ابنِ أبي العِشرِين بِكَثِيرٍ. وابنُ أبي العِشرِينَ ضعِيفٌ"، يعني: إذا قُورِنَ بعُمَرَ بنِ عَبدِ الواحد، لا أنَّهُ ضعيفٌ بإطلاقٍ؛ فإنَّهُ كان مُختَصًّا بالأَوزَاعِيِّ، حتَّى أنَّهُ لم يَروِ كَبِيرَ شيءٍ عن غيرِهِ، وكان كاتِبًا له، مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن كلام أبي زُرعَةَ، وهشام بن عَمَّارٍ، مِن أَنَّه مِن أَوثقِ النَّاس في الأَوزَاعِيِّ.
فعِندِي أنَّ هَذَا الإسنادَ هو أَمثَلُ أسانيدِ هذا الحديثِ.
أمَّا الحَاكِمُ، فصَحَّحَ الإِسنَادَينِ جميعًا، وفي كَلَامِهِ نَظَرٌ؛ كيفَ وقد اختُلِفَ على الأَوزَاعِيِّ عَنهُ؟
أمَّا أبو حاتِمٍ الرَّازِي، فعلَى النَّقِيضِ تمَامًا، إِذ قَالَ:"إنَّ الطَّرِيقَين جميعًا مُنكَران، ليس لواحدٍ منهما معنًى"، قال له ابنه:"لِمَ؟ "، قال:"لأنَّ حديثَ ابنِ أبي العِشرين لَم يَروِه أحدٌ سواه. وكان الوَليدُ صنَّف "كتاب الصَّلاة" وليس فيه هذا الحديث".
وإعلالُ الحديث بأنَّه لا يُوجَد في كُتُب الرَّاوِي وقع في كلام الأئمَّة
القُدامَى، كأحمد، وابن مَعِينٍ، وأبي حاتمٍ، وأبي زُرعَةَ، في مواضع من كُتُب العلل، ولكن لا ينبغي أن نجعَلَها جادَّةً مطرُوقَةً؛ لأنَّ الرَّاوِي إذا صنَّف كتابًا يضعُ فيه أحاديثَه، فلا يذكُرُها كُلَّها بداهةً، فانظُر إلى كُتب وَكِيعٍ، وابنِ المُبارَك، وابن وَهبٍ، وأَضْرَابِهِم، تجِدُها خلت من جُلِّ الأحاديث المَروِيَّة عنهم في الصِّحاح والسُّنَن والمسانيد والمَعَاجِم، وغيرِها.
وقد قال ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(378): سمعتُ أبي، يقول:"سألتُ يحيى بن مَعِينٍ، وقلتُ له: حدَّثَنا أحمدُ بنُ حَنبلٍ بحديث إسحاقَ الأزرقِ، عن شَريكٍ، عن بيانَ، عن قيسٍ، عن المُغِيرَة بن شُعبة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: "أَبرِدُوا بالظُّهر". وذكرتُهُ للحَسَنِ بنِ شاذَانَ الوَاسِطِيِّ، فحدَّثَنا به. وحدَّثَنا أيضًا عن إسحاق، عن شَريكٍ، عن عُمَارةَ بن القَعقَاع، عن أبي زُرعَة، عن أبي هُريرَة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله. قال يحيى: ليس له أصلٌ؛ إنَّما نَظَرتُ في كتاب إسحاق، فليس فيه هذا"، قلتُ لأبي:"فما قولُك في حديث عُمارة بن القَعقَاع، عن أبي زُرعَة، عن أبي هُريرَة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذي أَنْكره يحيى؟ "، قال:"هو عِندي صحيحٌ، وحدَّثَنا أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله بالحديثين جميعًا، عن إسحاق الأزرق"، قلتُ لأبي:"فما بالُ يحيى، نَظَر في كتاب إسحاق، فلم يجده؟ "، قال:"كيف؟! نَظَر في كُتُبِه كُلِّها؟! إنَّما نظر في بعضٍ، ورُبَّما كان موضعٌ آخرُ" ا. هـ.
2 -
أمَّا حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ.
فأخرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(2219)، ومِن طريقه ابنُ عبد البَرِّ
في "التَّمهيد"(23/ 409)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(3118) ..
وأحمدُ (3/ 56)، وابنُ أبي شيبة (1/ 288)، وأبو يَعلَى (1311) عن عفَّانَ بن مُسلِمٍ ..
وعَبدُ بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(990) قال: حدَّثَنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى ..
والبَزَّارُ (536) عن يزيد بن هارون ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(5/ 1843) عن إبراهيم بن الحَجَّاج ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 302) عن بِشر بن السَّرِيِّ، قالُوا: ثنا حمَّادُ بنُ سَلَمة، أخبَرَنا عليُّ بنُ زيدِ بنِ جُدعَان، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ فذَكَرَ مثله.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُه عن أبي سعيدٍ إلَّا مِن هذا الوجه".
وقال أبو نُعيمٍ: "تفرَّد به عليُّ بنُ زيدٍ - وهو ابن جُدعان -، عن سعيدٍ، وعنه حمَّادٌ".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ وسائرُ النُّقَّاد يُضَعِّفون عليَّ بنَ زيد بن جُدعان، والقليلُ مِنهُم يُمَشِّي حالَه، ولم يَروِ له مُسلِمٌ إلَّا حديثًا واحدًا في "الجهاد"(1789/ 100) مقرُونًا بثابتٍ البُنَانِيِّ، ولا يُحتَمَل تفرُّد عليِّ بنِ زيدٍ بهذا الحديث عن مِثل سعيد بن المُسيَّب.
وعلى كُلِّ حالٍ، فرِواية حمَّاد بن سَلَمة، عن عليِّ بن زيدٍ، أَمثَلُ مِن غيرها.
3 -
أمَّا حديثُ أبي هُريرَة.
فقد تقدَّم طريقٌ له في حديث أبي قتادة.
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "مُسنَد الشَّامِيِّين"(2347) من طريق إسحاق بن رَاهَوَيْهِ - وهذا في "مُسنَده"(391) أنا كُلثُومُ بنُ مُحمَّد بن أبي سِدرَة، ثنا عطاءٌ الخُرَاسانِيُّ، عن أبي هُريرَة مثله.
وهذا إسنادٌ واهٍ؛ وكُلثومُ ضعيفٌ، قال أبو حاتمٍ:"يَتكلَّمون فيه"، وترجَمَه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 209)، وقال:"يُحدِّث عن عطاءٍ الخُرَاسانِيِّ بمراسيلَ وغيرِه، بما لا يُتابَع عليه".
وعطاءٌ الخُرَاسَانِيُّ لم يَسمَع من أبي هُريرَة، وسُئل ابنُ مَعِينٍ - كما في "مراسيل ابن أبي حاتمٍ" (ص 157) -:"لقي عطاءٌ الخُرَاسانِيُّ أحدًا مِن أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ "، قال:"لا أعلمُهُ".
وله طريقٌ آخَرُ.
أخرَجَه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(3115) عن زائدة بن قُدامَة ..
والأصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(1889) عن هُشيم بن بَشيرٍ، كلاهُما عن يحيَى بن عُبيد الله، قال: سمعتُ أبي، يقول: سمعتُ أبا هُريرَة رضي الله عنه، يقول: ذُكِرَت السَّرِقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيَّ السَّرِقة تَعُدُّون أقبَحَ؟ "، قالوا:"الرَّجُلُ يَسرِقُ مِن أخيه"، فقال:"إنَّ أقبَحَ السَّرِقة الذي يَسرِقُ صلاتَهُ"، قالوا:"كَيف يَسرقُ أحَدُنا صلاتَهُ؟! "، قال:"لا يُتِمُّ رُكُوعَها، ولا سُجُودَها، ولا خُشُوعَهَا".
وسَنَدُهُ ضعيفٌ جدًّا؛ ويَحيَى بنُ عُبيد الله مُنكَرُ الحديث.
وقال أحمدُ والجُوْزْجانِيُّ: "أبُوهُ لا يُعرَف".
وخالَفَهُما ابنُ حِبَّان، فقال في يحيى: "يَروِي عن أبيه مالا أصل له.
وأبوه ثقةٌ"، وقال الحاكمُ: "رَوَى عن أبيه عن أبي هُريرَة بِنُسخَةٍ أكثَرُها مَنَاكيرُ".
4 -
وأمَّا حديثُ عبد الله بن المُغَفَّل.
فأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(2392)، وفي "الصَّغير" (335) قال: حدَّثَنا جعفرُ بنُ مَعدانَ الأَهوَازِيُّ، ثنا زَيدُ بنُ الحَرِيشِ، ثنا عُثمانُ بن الهيثم، ثنا عوفٌ، عن الحَسَن، عن عبد الله بن المُغَفَّل مرفُوعًا: "إنَّ أَسرَق النَّاسِ مَن سَرَقَ صلاتَه
…
- الحديث، وفيه: -
…
وأبخلُ النَّاسِ مَن بَخِلَ بالسَّلام".
قال الطَّبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن عبد الله إلَّا الحَسَنُ، ولا عن الحَسَن إلَّا عوفٌ، ولا عن عوفٍ إلَّا عُثمانُ. تفرَّد به زيدٌ".
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ وشيخُ الطَّبَرانيِّ لم أَجِد له ترجمةً، وأَقَلَّ عنه الطَّبَرَانِيُّ جِدًّا.
وزيدُ بن الحَرِيش ذَكَرَه ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 251)، وقال:"رُبَّما أخطأ"، وقال ابنُ القَطَّان:"مجهولُ الحال"، وقد عَلِمتَ أنَّه تفرَّد بالحديث.
ثُمَّ الحَسَنُ البصريُّ لم يُصَرِّح بتحديثٍ. والله أعلمُ.
وأَولَى مِنهُ ما:
أَخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَة (1/ 289) قال: حدَّثَنَا هُشَيمٌ، قال: أنا يُونُسُ، عن الحَسَن، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَسوَأَ النَّاس سَرِقَةً
…
الحديث".
وهذا مُرسَلٌ صحيحُ الإسناد، وهو أولَى مِن رِوايَةِ الحَسَن، عن عبدِ الله بن المُغَفَّلِ رضي الله عنه؛ غيرَ أنَّ مَرَاسِيلَ الحَسَن شِبهُ الرِّيح.
أمَّا المُنذِرِيُّ فجوَّد إسنادَ حديثِ ابنِ مُغَفَّلٍ، كما في "التَّرغيب"(1/ 335)، وليس بجيِّدٍ.
وقال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَعِ"(2/ 120): "رجالُه ثقاتٌ"، وليس فيه تَقويَةٌ للإسناد، كما هو مَعلُومٌ.
وقد رَوَى مالكٌ في "المُوطَّإِ"(1/ 167/ 72)، ومِن طريقِهِ الشَّافِعِيُّ في "المُسنَد"(292)، والبَيهَقِيُّ (8/ 209 - 210)، وابنُ عبد البَرِّ في "جامع العِلم"(765) عن يحيى بن سعيدٍ، عن النُّعمان بن مُرَّة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما تَرَونَ في الشَّارِب، والسَّارِق، والزَّانِي؟ "، وذلك قبل أن يُنزَل فيهم، قالوا:"اللهُ ورسولُهُ أعلمُ"، قال:"هُنَّ فواحشُ، وفيهن عُقُوبةٌ، وأسوأُ السَّرقة الذي يَسرِق صلاتَه"، قالوا:"وكيف يَسرِق صلاتَه يا رسُول الله؟ "، قال:"لا يُتِمُّ ركُوعَها، ولا سُجُودَها".
وتابَعَهُ سُفيانُ بن عُيَينة، فرواه عن يحيى بن سعيدٍ الأَنصَارِيِّ بهذا الإسناد مِثلَه.
أخرجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(2/ 371/ 3740).
وهذا مُرسَلٌ صحيحُ الإسناد، فإذا انضَمَّ إلى حَدِيثِ أبي هُرَيرَة، صَحَّ به الحديثُ. والحمدُ لله.
وحديثُ أبي سعيدٍ قرِيبُ الضَّعفِ، ولذلك قال ابنُ عبدِ البَرِّ في
"التَّمهيد"(23/ 409): "هو حديثٌ صحيحٌ، يَستَنِدُ من وُجُوهٍ، من حديث أبي هُريرَة، وأبي سَعِيدٍ" ا. هـ.
وكنتُ ضعَّفتُ الحديثَ عندما كتبتُ هذا البحثَ في "مَجَلَّةِ التَّوحيد"، فليُضرَب على ما هُنَالك. والحمدُ لله تعَالَى.
297 -
سُئلتُ عن حديث: "مَثَلُ المُؤمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرعِ، تُمِيلُهَا الرِّيحُ. وَلَا يَزَالُ المُؤمِنُ يُصِيبُهُ البَلَاءُ. وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ، لَا تَهتَزُ حَتَّى تُستَحصَدَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ البُخاريُّ (10/ 103، و 13/ 446)، ومُسلِمٌ (2809/ 58)، والتِّرمِذِيُّ (2866)، وأحمدُ (2/ 234، 283 - 284، 523)، وابنُ حِبَّان (ج 7/ رقم 2915)، وعبدُ الرَّزَّاق (ج 11/ رقم 20307)، وابنُ أبي شَيبَة (11/ 20، 21، و 13/ 252)، وفي "الإيمان"(86)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 7/ رقم 9778)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(5/ 247) مِن طُرُقٍ عن أبي هُريرَة رضي الله عنه.
وله شاهدٌ مِن حديث كعب بن مالكٍ مرفُوعًا: "المُؤمِنُ كَمَثَلِ خامة الزَّرع، تُفِيئُها الرِّيح، تَصرَعُها مرَّةً، وتَعدِلُها أُخرَى حتى تَهِيج. ومَثَلُ الكافر كمثل الأَرْزَةِ المُجدِبَةِ على أُصولها، لا يُفِيئُها شيءٌ، حتَّى يكونَ انجِعَافُها مرَّةً واحدةً".
أخرَجَهُ البُخاريُّ (10/ 103)، ومُسلِمٌ (2810/ 59 - 62)، وأحمدُ (3/ 454، 6/ 386)، والدَّارِمِيُّ (2/ 310)، وابنُ أبي شَيبَة (11/ 21، و 13/ 252)، وفي "الإيمان"(87)، والرُّويَانِيُّ في "مُسنَده"
(ج 32/ ق 245/ 1)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 183، 184، 185)، والرَّامَهُرمُزِيُّ في "الأمثال"(37)، وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(315) وغيرُهم.
وأخرَجَهُ أحمدُ (3/ 349، 387، 394)، والبَزَّار (46، 47)، وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(340) من طُرُقٍ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوَه.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(3/ 2/ 4)، وأبو يَعلَى (3080، 3286)، والبَزَّارُ (48)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1071، و 6/ 2432)، وأبو الشَّيخ (341)، والرَّامَهُرمُزِيُّ (38)، كِلاهما في "الأمثال"، مِن حديث أنَسٍ رضي الله عنه بنحوِه.
واللهُ أعلَمُ.
298 -
سُئلتُ عن حديث: "أَبخَلُ النَّاسِ مَن بَخِلَ بِالسَّلَامِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ، مُعلٌّ بالوقف.
أخرَجَهُ ابنُ نُجيدٍ في "أحاديثه"(ق 4/ 1)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(6/ 429/ 8767) عن أحمد بن داود السِّمْنَانِيِّ ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5591)، وفي "الدُّعاء"(60)، وعبد الغَنِيِّ المَقدِسِيُّ في "الدُّعاء"(20) عن مُحمَّد بن عبد الله الحَضرَمِيِّ ..
وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(247) قال: حدَّثَنا عبدانُ، قال ثلاثتهم: ثنا مَسرُوقُ بنُ المَرزُبَان، ثنا حفصُ بنُ غِيَاثٍ، عن عاصمٍ الأحول، عن أبي عُثمان النَّهدِيِّ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"أَعجَزُ النَّاس مَن عَجَز في الدُّعاء، وأبخلُ النَّاس من بَخِل بالسَّلام".
قال الطَّبَرانيُّ: "لَم يَروِ هذا الحديثَ عن عاصمٍ إلَّا حفصٌ، تفرَّد به مسروقٌ، ولا يُروَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الإسناد".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ ومسروقُ بنُ المَرزُبَان، قال أبو حاتمٍ:"ليس بقويٍّ. يُكتَبُ حديثُه"، يعني في المُتابَعات، وقد عَلِمتَ أنَّهُ تفرَّد به، فلا يَنفَعُه توثيقُ ابنِ حِبَّان، ولا قولُ الذَّهبيِّ:"صدوقٌ"، وقد صرَّح الذَّهبيُّ في "الميزان" أنَّ تفرُّد الصَّدُوق يُعَدُّ مُنكَرًا.
فقولُ المُنذِرِيِّ في "التَّرغيب"(3/ 420): "إسنادٌ جيِّدٌ قويٌّ"، ليس بجيِّدٍ ولا قويٍّ.
وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ البُخاريَّ رواه في "الأدب المُفرَد"(1042) عن عليِّ بن مُسهِر ..
وأبو يَعلَى (6649 مكرر)، وعنه ابنُ حِبَّان (1939 - موارد) عن إسماعيل بن زكريَّا، كلاهُما، عن عاصمٍ الأحول، عن أبي عُثمان النَّهديِّ، عن أبي هُريرَة، قال:
…
فذَكَرَه موقُوفًا.
وهذا أولى بالصَّواب، قال الحافظ في "الفتح" (9/ 565):"هذا موقوفٌ صحيحٌ عن أبي هُريرَة".
(تنبيهٌ)
قال الشَّيخ فضلُ الله الجِيلَانِيُّ في "فضل الله الصَّمَد"(2/ 488): "أبو عُثمان الرَّاوِي عن أبي هُريرَة اثنان، الأوَّل: مُسلِمٌ الطُّنْبُذِيُّ، والآخرُ: عبدُ الرَّحمن بنُ مَلٍّ النَّهْدِيُّ، والأقرَبُ مِنهُما هو الطُّنْبُذِيُّ".
كذا قال! وليس بغريبٍ مِنهُ، والصَّوابُ أنَّهُ النَّهْدِيُّ بلا تَرَدُّدٍ.
299 -
سُئلتُ عن حديث: "يَكُونُ عَلَيكُم أُمَرَاءُ مِن بَعدِي، يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ، فَهِيَ لَكُم وَهِي عَلَيهِم، فَصَلُّوا مَعَهُم مَا صَلَّوْا إِلَى القِبلَةِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (434)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(7/ 56) ..
وابنُ قانعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(2/ 343) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عيسى بن السَّكَن ..
وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(ص 2334) عن أبي مُسلِمٍ الكَشِّيِّ، ويحيى بن مُطَرِّفٍ، قال خمستهُم: ثنا أبو الوليد الطَّيَالِسِيُّ، ثنا أبو هاشمٍ الزَّعفَرَانِيُّ، ثنا صالحُ بنُ عُبيدٍ، عن قَبيصةَ بن وقَّاصٍ مرفوعًا.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 1/ 173) قال: قال أبو الوليد هشامُ بنُ عبد الملك - هو الطَّيَالِسيُّ - بهذا الإسناد.
ثُمَّ أخرَجَهُ عن رَوْح بن عُبادة، قال: نا عمَّارٌ بهذا الإسناد.
قلتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ وصالحُ بنُ عُبيدٍ وثَّقَه ابنُ حِبَّان، ولكن قال ابنُ القَطَّان:"لا نَعرِف حالَه أصلًا" ولم يُتابِعه أحدٌ وقفتُ عليه.
وأبو هاشمٍ الزَّعفَرَانيُّ، هو عمَّارُ بنُ عُمارة، وثَّقه ابنُ مَعِينٍ، وابنُ حِبَّان، ونَقَل الفَسَوِيُّ توثيقَه في "المعرفة"(2/ 669)، وقال أبو حاتمٍ:"صالحٌ، ما أرَى بحديثه بأسًا"، وقال البُخاريُّ:"فيه نَظَرٌ".
واللهُ أعلمُ.
300 -
سُئلتُ عن حديث: "مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إِلَى بَكرِ بنِ وَائِلٍ: أَسلِمُوا تَسلَمُوا".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى (2947)، والبَزَّارُ (1670) ..
وابنُ حِبَّان (ج 14/ رقم 6558)، والطَّبَرانيُّ في "الصَّغير" (307) قالا: حدَّثَنا بَكرُ بنُ أحمد بن سعيدٍ الطَّاحِيُّ ..
وأبو الفضل الزُّهريُّ في "حديثِهِ"(ج 3/ ق 64/ 1) قال: حدَّثَنا أبو عُمَر عُبيدُ الله بنُ عُثمان بن عبد الله العُثمَانِيُّ ..
وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(1629)، قالوا: ثنا نَصرُ بنُ عليٍّ، ثنا نُوحُ بنُ قيسٍ، عن أخيه خالد بن قيسٍ، عن قتادة، عن أنَسٍ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلى بكر بن وائلٍ:"مِن مُحمَّدٍ رسُولِ الله إلى بكر بن وائلٍ: أَسلِمُوا تَسلَمُوا"، - قال: - فما وَجَدُوا مَن يقرؤُهُ لَهُم إلَّا رجلًا من بني ضُبَيعَة، فهم يُسَمَّون بني الكاتب.
قال البزَّارُ: "لا نَعلَمُه بهذا اللَّفظ إلَّا بهذا الإسناد".
وقال الطَّبَرانِيُّ: "لَم يَروِه عن قتادة إلَّا خالد بن قيسٍ".
وخالدٌ ونوحٌ كِلاهما صَدُوقٌ.
وقال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(5/ 305): "رواه أبو يَعلَى، والبَزَّارُ،
والطَّبَرانيُّ في الصَّغير".
قلتُ: وخالدُ بنُ قيسٍ وثَّقه ابنُ مَعِينٍ، والعِجِليُّ، وابنُ حِبَّان، وقال ابنُ المَدِينِيِّ:"ليس به بأسٌ"، لكن قال الأَزدِيُّ:"روى عن قتادة مناكيرَ"، وهذا مِن روايَتِه عَنهُ.
وقد خالَفَهُ شيبانُ بنُ عبد الرَّحمن، وهو أَوثَقُ مِنه، فرواه عن قتادة، عن مُضَارِب بن حَزْنٍ العِجليِّ، عن مَرثَدِ بنِ ظُبيَان، قال: جاءَنَا كتابٌ مِن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدنا له كاتبًا يقرؤُه، حتَّى قرأهُ رجلٌ من بني ضُبيعة:"مِن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، إلى بكر بن وائلٍ: أَسلِمُوا تَسلَمُوا".
أخرَجَهُ أحمدُ (5/ 68)، ومِن طريقه ابنُ الأثير في "أُسد الغابة" (5/ 136) قال: حدَّثنا يُونُسُ بنُ مُحمَّدٍ المُؤدِّبُ، وحُسينُ بنُ مُحمَّد بن بَهرامَ، قالا: ثنا شَيبانُ بهذا.
ورواه سعيدُ بنُ أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن رجُلٍ من بني سُدُوسٍ، قال: كَتَب رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل، قال قتادةُ: فما وَجَدُوا رجُلًا يقرؤُه
…
الخ.
أخرَجَهُ ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(1/ 281) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ مُحمَّدٍ القُرَشِيُّ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة به.
وابن أبي عَرُوبة مِن الأثبات في قتادة، لكن الرَّاوِي عنه عليُّ بنُ مُحمَّد بن أبي الخَصِيبِ القُرَشِيُّ، أحدُ شُيوخ ابنِ ماجَهْ، ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 475)، وقال:"رُبَّما أخطأ"، وقال ابنُ أبي حاتمٍ:"محلُّه الصِّدقُ".
وسعيد بن أبي عَرُوبة كان اختَلَط، والقُرَشِيُّ لَيسَ مِن قُدماء أصحابِه.
نعم! وَجَدتُ له مُتابِعًا.
فرواه عبدُ الأعلى بنُ عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، قال: لقد حدَّث مَرثَدُ بنُ ظُبيَان أحدُ بني سُدُوس رضي الله عنه فذَكَرَه كُلَّه، ولَم يَجعَل شيئًا من المتن مِن قول قتادة.
أخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(1658) قال: حدَّثَنا يُوسُفُ بنُ حمَّادٍ، ثنا عبدُ الأعلى بهذا.
وعبد الأعلى مِن قُدَماء أصحاب سعيدٍ، ولكن أرجَحُ الأقوال عِندي هو قول شَيبَانَ بنِ عبد الرَّحمن.
وإسنادُهُ صالحٌ، ومُضَارِبُ بنُ حَزْنٍ وثَّقَه ابنُ حِبَّان، والعِجليُّ، ورَوَى عنه جماعةٌ.
واللهُ أعلَمُ.
301 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن كَذَّبَ بِالقَدَرِ، أَو خَاصَمَ فِيهِ، فَقَد كَفَرَ بِمَا جِئتُ بِهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 455)، وأبو الفضل الزُّهرِيُّ في "حديثِهِ" (ج 3/ ق 65/ 2) قالا: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ مُحمَّد بن عبد العزيز هو أبو القاسم البَغَوِيُّ، قال: حدَّثَني أبو الجَهمِ العلاءُ بنُ مُوسى - وهذا في "جُزئه"(89) -، قال: حدَّثَنا سوَّارُ بنُ مُصعَبٍ، عن كُليب بن وائلٍ، قال: سمعتُ ابنَ عُمَر، يقولُ: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذَكَره.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وسوَّارُ بنُ مُصعبٍ واهٍ، لاسيَّما وقد قال ابنُ عَدِيٍّ:"وهذا عن كُليبٍ، يرويه سوَّارُ بنُ مُصعَبٍ"، وهذا يعني أنَّهُ تفرَّد به.
وقد تابعه سوَّارُ بنُ عبد الله بن قُدامة العَنبَرِيُّ قاضي البَصرَةِ، فرواه عن كُليبٍ بهذا.
أخرَجَهُ العُقيليُّ (2/ 170)، وقال:"قد رُوي في الإيمان بالقَدَر أَحادِيثُ صحاحٌ، وأمَّا هذا اللَّفظُ، فلا يُحفَظ إلَّا عن هذا الشَّيخ".
وقد قال الحافظ ابنُ حَجَرٍ في "لسان الميزان"(3/ 127)، مُعَلِّقًا على رواية العُقيليِّ: "لعلَّه وَقَع في الرِّواية غيرَ منسوبٍ، ونَسَبَهُ بعضُهم،
فأخطَأَ، وإلَّا فهذا الحديث رُوِّينَاه في جُزء أبي الجهم، عن سوَّار بن مُصعَب، عن كُليبٍ" انتهَى.
وعِندي، أنَّ هذا ليس بكافٍ في دعوى التَّخطِئَة، مع سُقوط الحديث.
واللهُ أعلَمُ.
302 -
سُئلتُ عن صِحَّة ومعنى حديث: "مَن صَامَ الدَّهرَ، ضُيِّقَت عَلَيهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا - وعَقَد تِسعين -".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُعلٌّ بالوقف.
فأخرَجَهُ النَّسَائيُّ في "المُحارَبة" - كما في "أطراف المِزِّيِّ"(6/ 181) -، وابنُ خُزَيمَة (2154، 2155)، وابنُ جَريرٍ في "تهذيب الآثار"(485 - مُسنَد عُمَر)، والبَزَّارُ (3062 - البحر) من طُرُقٍ عن مُحمَّد بن أبي عَدِيٍّ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أبي تَمِيمة وهو طريفُ بنُ مُجالدٍ، عن أبي مُوسَى الأَشعَرِيِّ مرفُوعًا به.
قال ابنُ خُزَيمَة: "لم يُسنِد هذا الخبرَ عن قتادة غيرُ ابن أبي عَدِيٍّ، عن سعيدٍ".
وقال البَزَّار: "وهذا الحديثُ قد رواه غيرُ واحدٍ، عن قتادة، عن أبي تَمِيمة، عن أبي مُوسَى موقُوفًا، وأسنَدَهُ ابنُ أبي عَدِيٍّ، عن ابن أبي عَرُوبَة".
• قلتُ: وابنُ أبي عَدِيٍّ كان ممَّن سمع من سعيد بن أبي عَرُوبَة في الاختِلاط، كما قال العِجلِيُّ وغيرُه، ولكنَّه لم يتفرَّد بوصلِه ..
فتابعه عبدُ الأعلى بنُ عبد الأعلى، قال: نا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبة بهذا الإسناد سواء.
أخرجه الرُّوْيَانِيُّ في "مُسنَده"(561) قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، نا ابنُ أبي عَدِيٍّ، وعبدُ الأعلى، قالا: نا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبة بهذا.
وعبدُ الأعلَى من قُدماء أصحابِ ابن أبي عَرُوبَة.
وقد تُوبِع ابنُ أبي عَرُوبة على رفعه ..
تابَعَهُ شُعبةُ بنُ الحَجَّاج، فرواه عن قتادة بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ في "تهذيب الآثار"(486 - مُسنَد عُمَر) قال: حدَّثَنا ابنُ بَشَّارٍ، وابنُ المُثنَّى، قالا: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ، حدَّثَنا شُعبةُ.
وقد رَوَى ابنُ جريرٍ قبلَه حديثَ سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة بهذا مرفُوعًا، ثم أَردَفَهُ بحديث شُعبَة، ثم قال:"بنحوه"، وهذا يقتضي أنَّ حديث شُعبةَ مرفُوعٌ.
وقد رواه غيرُ مُحمَّد بن جعفرٍ، عن شُعبة موقُوفًا.
فأخرَجَهُ أحمدُ (4/ 414)، وابنُ أبي شَيبَة (3/ 78) قالا: حدَّثَنا وكيعٌ ..
والطَّيَالِسِيُّ (513)، ومِن طريقه ابنُ جريرٍ (488)، والبَيهَقِيُّ (4/ 300) قالا: ثنا شُعبةُ، عن قتادة به موقُوفًا.
وفي "مُسنَد الطَّيَالِسِيِّ": "لَم يَرفَعْه شُعبةُ، ورَفَعَه سعيدٌ".
وَوَقْفُهُ عن شُعبةَ أَشهَرُ، وهو أصحُّ في حديث قتادة.
فقد رواه أيضًا همَّامُ بنُ يحيى، عن قتادة بهذا الإسناد موقُوفًا.
أخرَجَهُ عَبدُ بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(563) قال: حدَّثَني مُسلِمُ بنُ إبراهيم، ثنا همَّامٌ بهذا.
وتابَعَه أيضًا هِشامُ بنُ أبي عبد الله الدَّستُوَائِيُّ، عن قتادة مثلَه موقُوفًا.
أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ في "التَّهذيب"(487، 489) من طريق مُعاذ بن هشامٍ، وعبدِ الأعلى بن عبد الأعلى، قالا: ثنا هشامٌ الدَّستُوَائِيُّ به.
فقد رأيتَ، أراك اللهُ الخيرَ، أنَّ شُعبةَ، على اختلافٍ عنه، وهشامًا الدَّستُوَائِيَّ، وهمَّامَ بنَ يحيى، رَوَوْا هذا الحديث، عن قَتَادة موقُوفًا.
وتَأَيَّدَت رِوايةُ قتادةَ الموقُوفةُ، بمُتابَعة سُفيان الثَّوْريِّ ..
فقد رواه عن أبي تَمِيمة، عن أبي مُوسَى رضي الله عنه موقُوفًا.
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 4/ رقم 7866).
ورواه عُقبةُ بنُ عبد الله الأصمُّ - وهو ضعيفٌ -، عن أبي تَمِيمة، عن أبي مُوسَى موقُوفًا.
أخرَجَهُ عبدُ الله بنُ أحمد في "زوائد الزُّهد"(ص 197) قال: حدَّثَني حَوثَرَةُ بنُ أشرسَ بنِ عونٍ العَدَوِيُّ، قال: أخبَرَني عُقبةُ بنُ عبد الله بهذا.
أمَّا رِوايةُ الرَّفع.
فتابع ابنَ أبي عَرُوبة عليها أبانُ بنُ أبي عيَّاشٍ.
أخرَجَهُ عَبدُ بنُ حُميدٍ في "المُنتخَب"(564) قال: حدَّثَني مُسلِمُ بن إبراهيم، قال: ثنا أبانُ بنُ أبي عَيَّاشٍ، عن أبي تَمِيمة، عن أبي مُوسَى مرفُوعًا. قال همامٌ: فقُلتُ له: "فإنَّ قتادة لم يَرفَعْه؟ "، فقال أبانُ:"أخبَرَني في بيتي مرفُوعًا".
وإسنادهُ ساقطٌ؛ وأبانُ تالفٌ.
ولكن تَابَعه الضَّحَّاكُ بنُ يسارٍ أبو العلاء البَصرِيُّ، أنَّهُ سَمِع أبا تَمِيمَة
يُحدِّثُ به، عن أبي مُوسَى مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أحمدُ (4/ 414) قال: حدَّثَنا وكيعٌ ..
والبَزَّارُ (3063 - البحر)، والبَيهَقِيُّ في "السُّنَن الكبير"(4/ 300)، وفي "السُّنَن الصَّغير"(1415)، عن الطَّيَالِسِيِّ، وهذا في "مُسنَده"(514) ..
وابنُ حِبَّان (3584)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(2562) عن حفص بن عُمَر ..
والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(2/ 219)، والبَيهَقِيُّ في "الكبير"(4/ 300)، وفي "الشُّعَب"(3891) عن أبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ، قالوا: ثنا الضَّحَّاكُ بن يَسارٍ بهذا الإسناد.
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ والضَّحَّاكُ ضعَّفه ابنُ مَعِينٍ، وأبو داوُد، والسَّاجِيُّ، والعُقَيليُّ، وابن الجارُود. ومع تضعيف هؤلاء النُّقَّاد له، قال ابنُ عَدِيٍّ:"لا أَعرِفُ له إلَّا الشَّيءَ اليسيرَ"، فهذا مِمَّا يُقَوِّي ضعفَه، خلافًا لأبي حاتمٍ، فإنَّه قال:"لا بأس به"، وهذا قَلَّما يَقَعُ لمثل أبي حاتمٍ. والله أعلم.
وقد قال العُقَيليُّ في ترجمة الضَّحَّاك: "وقد رُوِي هذا عن أبي مُوسَى موقُوفًا، ولا يصحُّ مرفُوعًا".
أمَّا معنى الحديث على فرض صِحَّتِه:
فقال ابنُ خُزَيمَة (3/ 313 - 314): "سألتُ المُزَنِيَّ عن معنى هذا الحديث، فقال: "يُشبِه أن يكون معناه، أي: ضُيِّقت عَنهُ جَهنَّمُ، فلا يَدخُلُ جهنَّمَ، ولا يُشبهُ أن يكون معناه غيرَ هذا؛ لأنَّ من ازداد لله عملًا
وطاعةً، ازداد عند الله رِفعةً، وعليه كرامةً، وإليه قُرْبةً"، هذا معنى جواب المُزَنِيِّ" انتهَى.
وقال البَزَّارُ: "يُحتمَل معناه عندي، واللهُ أعلَمُ، أن تُضَيَّق عليه، فلا يدخُلُها، جزاءً لصومِه. ويُحتمَل أيضًا، إذا صام الأيَّام التي نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن صومها، فتعمَّد مُخالَفةَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، أن يَكُون ذلك عقوبةً، لمُخالَفة رسُول الله صلى الله عليه وسلم" انتهَى.
ونَقَل الحافظُ في "الفتح"(4/ 223) كلام ابنِ خُزَيمة، ثُمَّ قال:"ورَجَّح هذا التَّأويلَ جماعةٌ، منهم الغَزَالِيُّ، فقالوا: له مناسبةٌ، مِن جِهة أنَّ الصَّائم لمَّا ضَيَّق على نفسه مَسَالِكَ الشَّهَوات بالصَّوم، ضَيَّق الله عليه النَّار، فلا يَبقَى لَهُ فيها مكانٌ؛ لأنَّهُ ضَيَّق طُرُقَها بالعبادة. وتُعُقِّب: ليس كُلُّ عملٍ صالحٍ، إذا ازداد العبدُ منه، ازداد من الله تَقَرُّبًا، بل رُبَّ عَمَلٍ صالحٍ، إذا ازداد منه، ازداد بُعدًا، كالصَّلاة في الأوقات المكروهة. والأَوْلَى إِجرَاءُ الحديث على ظاهرِه، وحَملُه على من فوَّت حقًّا واجبًا بذلك، فإنَّهُ يتوجَّه إليه الوعيدُ، ولا، يُخالِفُ القاعدةَ التي أشار إليها المُزَنِيُّ" ا. هـ.
• قلتُ: وهذا جوابٌ بديعٌ من الحافظ رحمه الله، وما أمرُ الخوارج عنك ببعيدٍ، فقد اتَّفَق كُلُّ من نَقَل أخبارَهم على أنَّهُم كانوا مِن أعبد النَّاس، حتَّى كُنتَ ترى سِيمَا الصَّلاة في وجه الواحد مِنهُم كرُكبة العَنزِ، مع فرط تألُّهِهِم، وتجافيهم عن الدُّنيا، ومع ذلك قال فيهم رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَقرَؤُون القُرآن، لا يُجاوِز تراقِيهِم، يَخرُجون من الدِّيْن كما يَخرُج السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ،
يَقتُلُون أهلَ الإسلام، ويَدَعُون أهلَ الأوثان، لَئِن أَدرَكتُهم، لأُقَتِّلَنَّهُم قتلَ عادٍ"، فقومٌ يقولُ عنهم رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا القول الشَّديد، لا يَزدَادُون بِعِبَادَتِهم إلا بُعدًا. وصَدَقَ ابنُ مَسعُودٍ رضي الله عنه، إذ قال: "اقتصادٌ في سُنَّةٍ، خيرٌ من عملٍ كثيرٍ في بِدعةٍ"، أو كما قال.
وما أَحسَنَ ما رواه البَيهَقِيُّ في "سُنَنه"(2/ 466) من طريق أبي زُرعَة الرَّازِيِّ، ثنا أبو نُعيمٍ، ثنا سُفيانُ، عن أبي رَبَاحٍ، عن سعيد بن المُسيَّب، أنَّهُ رأى رَجُلًا يُصَلِّي بعد طُلُوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يُكثِر فيها الرُّكُوع والسُّجُود، فنهاهُ، فقال:"يا أبا مُحمَّدٍ! يُعذِّبُني اللهُ على الصلاة؟! "، قال:"لا، ولكن يُعَذِّبُك على خِلاف السُّنَّة".
وصحَّح إسناده شيخُنا أبو عبد الرَّحمن الأَلبَانِيُّ رحمه الله في "إِرواء الغليل"(2/ 236).
• قلتُ: ورجالُهُ ثقاتٌ أئمةٌ، لولا أنَّ أبا رباحٍ شيخَ الثَّوريِّ ما عَرَفتُه، ويُحتَمل أن يَكُون هو أبو رَبَاحٍ ابنُ أبي الحَكَمِ بن حبيبٍ الثَّقَفِيُّ، ترجمَهُ ابنُ أبي حاتمٍ (4/ 2/ 371)، وابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(5/ 573)، وقالا:"رَوَى عنه عُمَرُ بنُ ذرٍّ"، ويُحتَمل أن يكون هو رباحُ بنُ أبي معرُوفٍ المَكِّيُّ، وتَكُونُ أداةُ الكُنيَة مُقحَمَةً؛ فإنَّ الثَّوْريَّ يروِي عنه، وهو قد رَوَى عن جماعةٍ من التَّابِعين، مِنهُم عبدُ الله بنُ أبي مُلَيكة وغيره، فرِوايتُهُ عن سعيدٍ مُحتَمَلة، ثُمَّ هو مُختلَفٌ فيه، وهو وَسَطٌ. فإن يَكُنْه، فالإسناد صالحٌ، ومثلُ هذه الحكايات يَتَسَامَحُ فيها أهلُ العلمُ.
وحملُ الحديث على من فوَّت حقًّا واجبًا، فإنَّهُ يتَوَجَّه إليه الوعيدُ،
كمَن يَترُك التَّدَاوِي لما في الصَّبر على المَرَض من الأَجر، لكنه يُضَيِّعُ الصَّلاة مثلًا لعدم قُدرَتِه على احتمال الأَلم، فإنَّ تَركَ التَّدَاوِي، وإِن كان جائزًا لمن له قُدرَةٌ على الصَّبر، لَكِنَّه لا يجوزُ إذا فوَّت المرءُ به ما أوجبَهُ الله عليه.
واللهُ أعلمُ.
303 -
سألني سائل، فقال: سمعتُ بعض مشايخ الحديث، يقول عن حديث: أنَّ رجُلًا لُدغ، فشكا ذلك إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَمَا لَو قُلتَ حِينَ أَمسَيتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، لَم يَضُرَّك"، فقال هذا الشَّيخُ:"إنَّ هذا الحديث ضعيفٌ لاضطرابه"، مع أنَّني بحثتُ عنه، فوجدتُهُ في "صحيحٌ مُسلِمٍ"، فما قولُكم في ذلك؟
• قلتُ: هذا الحديث صحيحٌ لا شكَّ فيه.
ولكن وَقَع في إسناده اختلافٌ، فلَرُبَّما رآه ذلك الشَّيخُ مؤثِّرًا، وقَصَد وجهًا واحدًا من الاختلاف، ومع ذلك: فلا يُحكَم على الحديث بالاضطراب إلَّا إذا تعذَّر التَّرجيحُ، وتساقطت كلُّ الوجوه جميعًا، أمَّا إذا رجَّحنا وجهًا على آخرَ، فينتفي الاضطرابُ، ويُحكَم للوجه الرَّاجح على ما سواه. فهذه هي القاعدةُ الكُلِّيَّة للحديث المُضطرِب.
أمَّا الحديثُ:
فأخرَجَهُ النَّسَائيُّ في "اليوم واللَّيلة"(596)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(28) عن أَسَد بن مُوسَى ..
وأحمدُ في "المُسنَد"(3/ 448، و 5/ 430)، والطَّحاويُّ في "المُشكِل"(25) عن وهب بن جريرٍ ..
وأبو يَعلَى الخَلِيليُّ في "الفوائد"(ق 128/ 1 - 2)، ومن طريقه الرَّافِعِيُّ في "أخبار قَزوِين"(2/ 192) عن سلْم بن سلَّامٍ، ثلاثتهم عن شُعبة بن الحجَّاج، عن سُهيل بن أبي صالحٍ، وأخيه - هو صالح بن أبي صالح -، عن أبيهما، عن رجلٍ من أَسلَمَ، أنَّه لُدِغَ، فشكا ذلك
…
الحديث.
وقد تُوبع شعبةُ ..
فأخرَجَه أبو داوُد (3898)، والنَّسائيُّ (594)، والطَّحاويُّ (26) عن زُهير بن مُعاوِية ..
والنَّسَائيُّ أيضًا (593، 596)، والطَّحَاوِيُّ (24، 29) عن وُهيب بن خالدٍ، وسُفيان بن عُيَينة ..
والطَّحَاوِيُّ أيضًا (27) عن أبي عَوَانة ..
وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(19834) عن مَعمَر بن راشدٍ ..
والنَّسَائِيُّ (592)، والطَّحَاوِيُّ (33)، والبَيهَقِيُّ في "الدَّعَوات الكبير"(36) عن سُفيان الثَّوْريِّ، كُلُّهم عن سُهيل بن أبي صالحٍ بهذا الإسناد.
وقد اختُلِف على سُهيلٍ في إسناده ..
فرواه الثَّوْريُّ، وشُعبةُ، ومَعمَرُ بن راشدٍ، وأبو عَوَانة، وسُفيانُ بن عُيَينة، ووُهَيبُ بن خالدٍ، وزُهيرُ بن مُعاوية - وكُلُّهم من الثِّقات الأثبات -، عن سُهيلٍ، فجَعَلُوه من مُسنَد رجلٍ من أَسلَم.
وخالَفَهُم مالكٌ فرواه عن سُهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن
أبي هُريرَة، أنَّ رجُلًا من أَسلَم، قال:"ما نِمتُ هذه اللَّيلةَ؛ لَدَغَتنِي عقربٌ"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَمَا لو قُلتَ حين أمسيتَ: أعوذُ بكلمات الله التَّامَّات من شرِّ ما خَلَق، لم يَضُرَّك، إن شاء اللهُ".
فجَعَلَه من: "مُسنَد أبي هُريرَة".
أخرَجَهُ أحمدُ (2/ 375) قال: حدَّثَنا إسحاقُ - هو ابن عيسى - ..
والبُخاريُّ في "خلق أفعال العباد"(445) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بن يُوسُف، وعبدُ الله بن مَسلَمَة القَعْنَبِيُّ ..
والنَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(589) قال: أخبَرَنا قُتيبةُ بن سعيدٍ ..
والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(16) عن عبد الله بن وهبٍ ..
وابنُ حِبَّان (1021) عن أحمد بن أبي بَكرٍ ..
والبَيهَقِيُّ في "الأسماء"(365) عن يحيى بن بُكيرٍ، قالوا: ثنا مالكٌ - وهو في "المُوطَّإِ"(2/ 951/ 11) -، عن سُهيل بن أبي صالحٍ بهذا.
ولم يَقَع لفظُ المشيئة عند أحمد.
وزاد النَّسَائِيُّ بعدها: "شيءٌ".
وأفاد ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(21/ 241) أنَّ ابن وهبٍ رواه عن مالكٍ بإسناده، إلَّا أنَّه لم يَذكُر المشيئةَ في آخرِه.
وقد رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، عن ابن وهبٍ فذَكَرَها. والحمد لله.
وأخرَجَهُ أبو داوُد (3898) عن زُهير بن مُعاوية ..
وابنُ ماجَهْ (3518)، والبُخَارِيُّ في "خلق الأفعال"(446)، والنَّسَائِيُّ في "العمل"(591)، وأبو يَعلَى (6688)، وابنُ حِبَّان
(1036)
، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(22) عن عُبيد الله بن عُمَر ..
والبُخاريُّ أيضًا (447)، والطَّحَاوِيُّ (21)، وابنُ حِبَّان (1022) عن جرير بن حازمٍ ..
والنَّسَائِيُّ (590)، وأحمدُ (2/ 290)، والطَّحَاوِيُّ (20) عن هشام بن حسَّان ..
والبُخَارِيُّ (448، 449)، وابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(21/ 241) عن سعيد بن عبد الرَّحمَن الجُمَحِيِّ ..
والنَّسائيُّ (588)، والطَّحَاوِيُّ (19) عن حمَّاد بن زيدٍ ..
والطَّحاوِيُّ أيضًا عن الثَّوْريِّ، ورَوْح بن القاسم ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(523) عن إبراهيم بن أبي بَكرٍ بن المُنكَدِر، كُلُّهم عن سُهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة فذَكَرَه.
• قلتُ: فقد رأيتَ، أراك اللهُ الخيرَ، أنَّ جَمْعًا من الثِّقات رَوَوْه عن سُهيلٍ، فجَعَلُوه من مُسنَد أبي هُريرَة. فيُحتمَل أن يكون الوجهان جميعًا صحيحين. ويقعُ لي أنَّ الحديث من مُسنَد أبي هُريرَة أَشبَهُ؛ لأنَّا وَجَدنَا القعقاع بن حكيمٍ تَابَع سُهيل بن أبي صالحٍ على جَعلِه من:"مُسنَد أبي هُريرَة"، وهذا أَولَى أن يَكُون محفوظًا؛ لأن سُهيلًا كانت قد أصابته عِلَّةٌ، فنَسِي بعضَ حديثه، فلعلَّه اضطرب في إسناد هذا الحديث، ولم يُحْكِمْهُ.
وقد رجَّح الطَّحَاوِيُّ ذلك، فقال في "المُشكِل": "ولمَّا وَجَدنَا من رواية القَعقَاع، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة، لا عن رجلٍ من أسلم،
قَوِيَ في قُلُوبِنا أنَّ أصل الحديث عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرة" انتهَى.
وحديثُ القعقاع بن حكيمٍ هذا ..
أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "الذِّكر والدُّعاء"(4/ 2081) قال: حدَّثَنا هارونُ بن معروفٍ، وأبو الطَّاهر ..
وابنُ خُزَيمةَ في "التَّوحيد"(1/ 399، 401)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل" (31) قالا: ثنا بحرُ بن نصرٍ الخَوْلَانِيُّ ..
والطَّحَاوِيُّ أيضًا (30) قال: حدَّثَنا يُونُسُ بن عبد الأعلى ..
وابنُ حِبَّان (1020) عن حَرمَلة بن يحيى، قالوا: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبَرَنا عمرُو بنُ الحارث، أن يزيد بن أبي حبيبٍ، والحارثَ بن يعقوبٍ حدَّثاه، عن يعقوب بن عبد الله الأَشجِّ، قال: قال القَعقَاعُ بن حكيمٍ، عن ذكوانَ أبي صالحٍ، عن أبي هُريرَة فذَكَر مثلَه.
وقد رواه اللَّيثُ بن سعدٍ، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، على وجه آخر، ذكرتُهُ في "تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النَّظر في كتب الأماجد"(رقم 1971)، والحمد لله.
• قلتُ: فهذا هو قولي في هذا الحديث. وقد تبيَّن بحمد الله تعالى، أنَّ الاضطرابَ مُنتَفٍ عنه، بالتَّرجيح الذي ذكرناه، وليس ببعيدٍ تصحيحُ الوجهين جميعًا، كما تقدَّم، لاسيما وقد رواه الثَّوْريُّ، وزُهيرُ بن مُعاوية، عن سُهيلٍ بالإسنادين جميعًا.
واللهُ سبحانه وتعالى أعلَمُ.
304 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا يُتْمَ بَعدَ احتِلَامٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ، وقد صَحَّ موقُوفًا.
وقد وَرَدَ من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ، وجابر بن عبد الله، وأنَسٍ، وحنظلةَ بن حُذَيمٍ رضي الله عنهم.
* أوَّلًا: حديثُ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
وله عنه طُرُقٌ ..
1 -
عبدُ الله بنُ أبي أحمد، عنه.
أخرَجَهُ أبو داوُد (2873) ..
والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(1/ 280) قال: حدَّثَنا عُمَرُ بن عبد العزيز بن عمران بن أيُّوب بن مِقْلَاصٍ الخُزَاعِيُّ ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(290) قال: حدَّثَنا أحمدُ بن رِشدِينَ ..
وفي "الصَّغير"(266) قال: حدَّثَنا إسماعيلُ بنُ الحَسَن الخفَّافُ المِصرِيُّ، قالوا: حدَّثَنا أحمدُ بن صالحٍ، حدَّثنا يحيى بنُ مُحمَّدٍ المَدِينِيُّ، حدَّثَنا عبدُ الله بن خالد بن سعيد بن أبي مَريمَ، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرَّحمن بن يزيد بن رُقَيْشٍ، أنَّهُ سمع شُيوخًا من بني عَمْرو بن عوفٍ، ومِن خاله عبدِ الله بن أبي أحمد، قال: قال عليُّ بن أبي طالبٍ: حَفِظتُ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لَا يُتْمَ بعد احتِلَامٍ، ولا صُمَاتَ يَومٍ إِلَى
اللَّيل". لفظُ أبي داوُد.
وزاد الآخَران: "ولا طلاق إلَّا مِن بعد نكاحٍ، ولا عِتاقَ إلَّا مِن بعد مِلكٍ، ولا وفاء لنذرٍ في معصيةٍ، ولا وِصَالَ في الصِّيام".
ووقع عند الطَّحَاوِيِّ: "ابنُ رُقَيشٍ، عن عُمُومةٍ له مِن بني عَمْرو بن عوفٍ"، وهذا القدرُ من الإسناد لم يَقَع عند الطَّبَرانيِّ.
قال الطَّبَرانيُّ في "الأوسط": "لا يُروَى هذا الحديثُ عن عبد الله بن أبي أحمد إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به أحمدُ بن صالحٍ".
وقال في "الصَّغير": "لا نَحفَظُ لعبد الله بن أبي أحمد حديثًا مُسنَدًا غيرَ هذا" انتهَى.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ ويحيى بنُ مُحمَّدٍ هو ابنُ عبد الله الجَارِيُّ، وثَّقَه يحيى الزِّمِّيُّ والعِجلِيُّ، وابن حِبَّان في "الثِّقات"(9/ 255)، وقال:"يُغرِبُ". وقال ابن عَدِيٍّ: "ليس به بأسٌ". لكن قال البُخاريُّ: "يتكلَّمُون فيه".
وذكره ابنُ حِبَّان في "المجروحين"(3/ 130)، وقال:"كان مِمَّن ينفَرِد بأشياء لا يُتابَع عليها على قِلَّة روايته، كأنَّه كان يَهِمُ كثيرًا، فمِن هُنا وَقَع المناكيرُ في روايتِه. يجبُ التَّنَكُّبُ عما انفرد به من الرِّوايات، وإن احتَجَّ به مُحتَجٌّ فيما وافق الثِّقاتِ، لم أَرَ به بأسًا" انتهَى.
ولا أعلمُ أحدًا تابعه على هذه الرِّواية.
وعبد الله بن خالدٍ وأبوه كلاهُما من رجال "التَّهذيب". فعبدُ الله بنُ خالدٍ وثَّقَهُ أحمدُ بنُ صالحٍ، وابنُ شاهين، وقال الأزدِيُّ: "لا يُكتَبُ
حديثُهُ"، وقال ابنُ القطَّان: "مجهُولُ الحال".
وأمَّا أبُوه خالدُ بنُ سعيد بن أبي مريَمَ، فجهَّله ابنُ المَدِينيِّ وابنُ القطَّان، وذَكَرَهُ العُقيليُّ في "الضُّعفاء". أمَّا ابنُ حِبَّان فترجَمَ له "الثِّقات"!!
2 -
النَّزَّالُ بنُ سَبْرةَ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ مرفوعًا:"لا رَضَاع بعد الفِصَال. ولا وِصَالَ. ولا يُتم بعد الحُلمِ. ولا صَمتَ يومٍ إلى اللَّيل. ولا طلاق قبل النِّكاح".
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 545)، والبَيهَقِيُّ (7/ 461)، عن عبد الرَّزَّاق - وهذا في "المُصنَّف"(6/ 416/ 11450) - عن مَعمَر بن راشدٍ، عن جُوَيبِرِ بن سعيدٍ، عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، عن النَّزَّال بن سَبْرَة، عن عليٍّ بهذا.
وعند عبد الرَّزَّاق: "فقال له الثَّوْريُّ: يا أبا عُروة - هي كُنيةُ مَعمَرٍ -! إنَّما هو عن عليٍّ موقُوفٌ. فأبَى عليه مَعمَرٌ، إلَّا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم".
وعند البَيهَقِيِّ: "قال سُفيانُ لمَعمَرٍ: إنَّ جُوَيبِرًا حدَّثَنا بهذا الحديث، ولم يَرفَعه. قال مَعمَرٌ: وحدَّثَنا به مِرارًا ورَفَعه".
وقد تُوبِع مَعمَرٌ على رفعِه ..
تابعه سُفيانُ الثَّوريُّ، فرواه عن جُوَيبِرٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(4/ 142)، والثَّقَفِيُّ في "الثَّقفِيَّات"(3/ 9/ 2) من طريق أَيُّوب بن سُويدٍ، عن الثَّوْريِّ بهذا.
وهذا مُنكَرٌ عن الثَّوْريِّ لأمرَين:
الأوَّل: أنَّ الثَّوْريَّ أنكر على مَعمَر بن راشدٍ رفَعه كما تقدَّم، وقال:
إنَّه موقُوفٌ.
الثَّاني: أنَّ أيُّوب بن سُويدٍ ضعيفٌ، وقد خالفه مُحمَّد بن كَثيرٍ، وهو أوثَقُ منه بطَبَقاتٍ فرواه عن الثَّوْريِّ فوقَفَه.
ورجَّح الدَّارَقُطنِيُّ وقفَه، وقال:"هو المحفوظُ".
وممَّا يُؤيِّد وقفَه أنَّ هُشيم بن بَشيرٍ رواه عن جُوَيبرٍ، عن الضَّحَّاك، قال: أخبَرَني النَّزَّالُ بنُ سَبْرةَ، قال: سمِعتُ عليًّا، يقول:
…
فذَكَرَه موقُوفًا.
أخرَجَهُ سعيدُ بنُ منصُورٍ في "سُنَنه"(1030) قال: نا هُشيمٌ.
وكذلك رواه حمَّادُ بن زيدٍ، وإسحاقُ بن الرَّبيع، عن جُوَيبرٍ بهذا موقُوفًا.
ذكر ذلك الدَّارَقُطنِيُّ أيضًا.
وترجيحُ المَوقُوف على المرفُوعِ نظريٌّ، بمعنى أنه لا يُقَوِّي الحديث؛ لأنَّ جُوَيبِرَ بن سعيدٍ متروكُ الحديث، وقد رَوَى الوجهين جميعًا.
ثُمَّ رأيتُ مُتابِعًا لجُوَيبرٍ ..
تابَعَهُ عبدُ الكَريم بن أبي المُخَارِق، فرواه عن الضحَّاك بهذا مرفُوعًا بتمامه.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط" من طريق مُطَرِّف بنِ مازنٍ، عن مَعمَر بن راشدٍ، عن عبد الكَريم بهذا.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "هكذا رَوَى هذا الحديثَ مُطَرِّفُ بن مازنٍ، عن مَعمَرٍ، عن عبد الكَريم بن أبي المُخارِق، ورواه عبدُ الرَّزَّاق، عن مَعمَرٍ، عن
جُويبرٍ، عن الضَّحَّاك".
وهذا الوجهُ ساقطٌ أيضًا؛ ومُطَرِّفٌ ضعيفٌ، ولا يُقاوم عبدَ الرَّزَّاق في حفظه.
وابنُ أبي المُخارِق متروكٌ.
3 -
عَلقَمَةُ بن قَيسٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ مرفُوعًا:"لا رَضَاع بعد فِطامٍ، ولا يُتم بعد حُلمٍ".
أخرجه الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(6564)، وفي "الصَّغير"(952)، ومِن طريقه الخطيبُ في "تاريخه" (5/ 299) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن سُليمان بن هارُون البَغدَادِيُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عُبيد التِّبَّانُ المَدِينِيُّ، ثنا أبي، نا مُحمَّدُ بن جعفر بن أبي كَثيرٍ، عن مُوسى بن عُقبة، عن أَبَانَ بن تَغْلِبَ، عن إبراهيم، عن عَلقَمة، عن عليٍّ مرفُوعا.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن علقمة إلَّا إبراهيمُ، ولا رواه عن إبراهيم إلَّا أَبَانُ بنُ تَغْلِبَ، ولا رواه عن أَبَان إلَّا مُوسى بنُ عُقبَة، ولا عن مُوسى إلَّا مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ، تفرَّد به مُحمَّدُ بنُ التَّبَّان عن أبيه، ولا كتبناه إلَّا عن هذا الشَّيخ".
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ وشيخُ الطَّبَرَانِيِّ ترجَمَه الخطيبُ في موضع الحديث، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وعُبيدُ بنُ مَيمُونَ التِّبَّانُ مجهولٌ، كما قال أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، وإن ذَكَره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات" فتساهُلُه معروفٌ.
* أمَّا حديثُ جابرٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "لا رضاعَ بعد فِصالٍ.
ولا يُتْمَ بعد احتلامٍ. ولا عِتقَ إلَّا بعد مِلكٍ. ولا طلاقَ إلَّا بعد النِّكاحِ. ولا يمينَ في قطيعةٍ. ولا تَعَرُّبَ بعد هِجرةٍ. ولا هِجرةَ بعد الفتح. ولا يمينَ لولَدٍ مع وَالِدٍ. ولا يمينَ لامرَأَةٍ مع زوجٍ. ولا يمينَ لعبدٍ مع سيِّده. ولا نذرَ في معصية الله. ولو أنَّ أعرابيًّا حجَّ عَشرَ حِجَجٍ، ثُمَّ هاجَر، كانت عليه حِجَّةٌ إن استطاع إليه سبيلًا. ولو أنَّ صبيًّا حجَّ عشرَ حِجَجٍ، ثُمَّ احتَلَم، كانت عليه حِجَّةٌ إن استطاع إليه سبيلًا. ولو أنَّ عبدًا حجَّ عشر حِجَجٍ، ثُمَّ عُتِقَ، كانت عليه حِجَّةٌ إن استطاع إليه سبيلًا".
أخرجه الطَّيَالِسِيُّ (1767)، ومن طريق البَيهَقِيُّ (7/ 319 - 320) قال: حدَّثَنا اليَمَانُ أبو حُذيفة، وخارِجَةُ بنُ مُصعَبٍ. فأمَّا خَارِجَة، فحدَّثَنا عن حَرام بن عُثمان، عن أبي عَتِيقٍ، عن جابرٍ. وأمَّا اليَمَانُ، فحدَّثَنا عن أبي عَبْسٍ، عن جابرٍ مرفُوعًا.
وأخرجه الحارثُ بن أبي أُسامة في "مُسنَده"(357 - زوائده) عن إِسماعيل بن عيَّاشٍ ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 447) عن مُطَرِّفٍ البَكرِيِّ، كلاهما عن حَرَام بن عُثمان، عن أبي عَتِيقٍ، عن جابرٍ.
والوَجهَانِ جميعًا ضعيفان؛ واليَمَانُ ضعيفٌ.
والوجه الثَّاني أشدُّ ضعفًا؛ وحَرَامُ بن عُثمان تالفٌ.
قال الشَّافِعِيُّ: "الرِّواية عن حَرَامٍ حَرَامٌ".
ورواه أبو بَكرٍ بنُ عيَّاشٍ، وحفصُ بن مَيسَرَة، كِلاهما عن حَرَام بن عُثمان، عن عبد الرَّحمن، ومُحمَّدٍ ابنَيْ جابرٍ، عن أبيهما - زاد البَيهَقِيُّ:
وأبي عَتِيقٍ، عن جابرٍ - مرفُوعًا.
أخرجه ابنُ عَدِيٍّ (2/ 447)، والبَيهَقِيُّ (7/ 319).
وهذا الوجهُ ساقطٌ أيضًا؛ لحال حرام بن عُثمان.
فحديثُ جابرٍ ضعيفٌ جدًّا.
* وأمَّا حديث أَنَسٍ رضي الله عنه.
فأخرجه البَزَّارُ (1302 - كشف) ..
وأبو الفَضْل الزُّهْريُّ في "حديثه"(ج 5/ ق 92/ 2)، قال: حدَّثَنا يحيى بنُ مُحمَّد بن صاعدٍ، قالا: ثنا إبراهيمُ بن سعيدٍ الجَوْهَرِيُّ، نا يحيى بن يزيد بن عبد المَلِك النَّوْفَلِيُّ، عن أبيه، عن مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن أَنَسٍ مرفُوعًا:"لا يُتْم بعد حُلمٍ".
قال البَزَّارُ: "لا يُروَى عن أَنَسٍ إلَّا بهذا الإسناد، ويزيدُ لَيِّنُ الحديث، وقد رَوَى عنه جماعةٌ من أهل العِلم".
وأخرجه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(7/ 261) من طريق دُحَيْمٍ، ثنا يزيدُ بن عبد المَلِك بسَنَدِه سواء.
وقال: "وهذا الحديث عن مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن أَنَسٍ، لا يَروِيه غيرُ يزيدَ بنِ عبد المَلِك".
وسنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ ويزيدُ هذا ضعَّفَه أكثرُ النُّقَّاد، أحمدُ بنُ حنبلٍ، وابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، وأبو حاتمٍ وزاد:"مُنكَرُ الحديث جدًّا"، وأبو زُرعَة، وقال:"واهي الحديث"، وغلَّظ فيه القولَ جدًّا. وتَرَكه النَّسَائِيُّ، وضعَّفَه البُخارِيُّ جدًّا، وقال: "ذاهبُ الحديث، أحاديثه
شِبهُ لا شيء".
* وأمَّا حديث حَنظَلَة بن حُذَيمٍ رضي الله عنه.
فأخرجه ابنُ قَانِعٍ في "مُعجَم الصَّحابة"(1/ 204) عن إبراهيم بن عَرعَرَة ..
والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 4/ رقم 3502)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(2/ 857) عن مُحمَّد بن أبي بكرٍ المُقَدَّمِيِّ ..
وأبو نُعيمٍ أيضًا، عن محمد بن عقبة السُّدُوسِيِّ، قالوا: ثنا سَلْمُ بن قُتَيبة، ثنا الذَّيَّالُ بنُ عُبيد بن حَنظَلَة، قال: سمِعتُ جَدِّي حَنظَلَةَ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْم بعد احتلامٍ، ولا يُتْم على جاريةٍ إذا هي حاضَت".
• قلتُ: وهذا أَمثَلُ إسنادٍ وقفتُ عليه لهذا الحديث.
وسَلْمُ بنُ قُتَيبة وثَّقَه أبو داوُد وأبو زُرعَة والدَّارَقُطنِيُّ وابن حِبَّان، وقال ابنُ مَعِينٍ وأبو حاتمٍ:"ليس به بأسٌ"، زاد أبو حاتمٍ:"كثير الوَهَمِ، يُكتَب حديثُه". وضعَّفَه يحيى القَطَّان بقوله: "ليس أبو قُتَيبة مِن الجِمَالِ التي تحمل المحامل".
وذَيَّالُ بنُ عُبيدٍ وثَّقَه ابنُ مَعِينٍ، كما ذكره ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ 452)، وسأل أباه عنه، فقال:"تابعيٌّ"، فقال له:"يُحتَجُّ به؟ "، فقال أبو حاتمٍ:"شيخٌ أَعرَابِيٌّ".
فهذا الإسناد حَسَنٌ، لا بأس به.
وقد حَسَّن النَّوَوِيُّ هدا الحديثَ في "المجموع"(6/ 376)، وفي
"رياض الصَّالحين"(ص 504)، وفي "الأذكار"(ص 349)، فقال:"رواه أبو داوُد بإسنادٍ حَسَنٍ".
كذا قال! وسَنَد أبي داوُد لا يَحتَمِل مِثلَ هذا التَّحسين، كما تقدَّم شرحُه.
وصحَّح شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله هذا الحديث في "الإرواء"(1244)، ولا يَرقَى الحديثُ إلى هذا، كما تقدَّم شرحُه. والحمدُ لله.
وقد صحَّ موقُوفًا على ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ..
فأخرجه أحمدُ (1/ 224) عن الحجَّاج بن أَرطاة ..
وأبو يَعلَى (2630) عن إسماعيل بن أُمَيَّة، كلاهما عن عطاء بن أبي رباحٍ، أنَّ نَجدَةَ الحَرُورِيَّ بَعَثَ يسألُ ابن عبَّاسٍ عن مسائل، مِنهَا:"وعن الصَّبيِّ متى يَنقَطِعُ عنه اليُتمُ؟ "، فقال له:"وأمَّا الصَّبيُّ، فينقطع عنه اليُتم إذا احتَلَم". لَفْظُ أحمد.
والحجَّاجُ بنُ أرطاة فيه مَقَالٌ.
والرَّاوي عن إسماعيل بن أُميَّة هو: مُحمَّدُ بن إسحاق، وهو مُدَلِّسٌ، وقد عنعنه.
غير أنَّ أبا يَعلَى أخرجه أيضًا (2631) مِن طريق مُحمَّد بن إسحاق، عن أبي جَعفَرٍ، والزُّهرِيِّ، وإسماعيل بن أُميَّة، عن يزيد بن هُرمُزٍ، قال: أنا كتَبتُ كتاب ابن عبَّاسٍ إلى نَجدَةَ، وفيه قولُ ابن عبَّاسٍ.
وقد أخرجه مُسلِمٌ في "الجهاد"(1812/ 137) وغيره، من طريق جعفر بن مُحمَّدٍ، عن أبيه، عن يزيدَ بن هُرمُزٍ، عن ابن عبَّاسٍ،
بسُؤالاتِ نجدةَ، وفيه:"وكَتَبتَ تسألُنِي: "متى ينقضي يُتْمُ اليَتِيم؟ "، فلَعَمْرِي! إنَّ الرَّجُل لتَنبُت لحيتُهُ وإنَّه لَضَعِيفُ الأخذ لنفسه، ضعيفُ العَطَاء مِنهَا فإِذَا أَخَذَ لنفسِه مِن صالح ما يأخُذُ النَّاسُ، فقد ذَهَبَ عنه اليُتْمُ".
وهذا الكلام أَوسَعُ في معناه من اللَّفظ الأَوَّل؛ لأنَّ ابن عبَّاسٍ أنَاطَهُ بالتَّمييز، فكأنَّه قال رُبَّ رجلٍ بَلَغَ البُلوغ الشَّرعِيَّ بظُهور الشَّعر، ولم يَزُل عنه معنى اليُتْم؛ لأنَّ اليتيم لضَعفِهِ، يحتاج من يُدَبِّر له حاله، وليس في هذا اللَّفظ ما يَنفِي أنَّ اليُتْم يَنقَضِي بالاحتلام، ولو بدلالة الإيماء.
والله تعالى أعلم.
ولكتاب ابن عبَّاسٍ هذا طُرُقٌ وألفاظٌ، استوفيتُها في "تَعِلَّة المَفؤود شرح مُنتَقَى ابن الجَارُود"(رقم 1226).
والحمدُ لله تعالى.
305 -
سألني سائل، فقال: رَوَى أبو داوُد في "سُنَنه" حديثَ أبي أُمامة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الأُذُنَان من الرَّأس"، وقال كلامًا عَقِب الحديث، لم أَفهَم مُرادَه منه، فما هو مرادُه؟
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
فأخرَجَ أبو داوُد (134) قال: "حدَّثنا سُليمانُ بن حربٍ، حدَّثَنا حمَّادٌ. (ح) وحدَّثَنا مُسدَّدٌ، وقُتيبةُ، عن حمَّاد بن زيدٍ. عن سِنان بن ربيعة، عن شهر بن حَوْشَبٍ، عن أبي أُمامة، وذَكَر وَضُوءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يمسح المَأْقَينِ، - قال: - وقال: "الأُذُنان من الرَّأس".
قال سُليمانُ بنُ حربٍ: يقولُها أبو أُمَامة.
قال قتيبةُ: قال حمَّادٌ. لا أَدرِي، هو مِن قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو من أبي أُمَامة، يعني: قِصَّة الأُذُنين.
قال قُتَيبةُ: عن سنانٍ أَبِي ربيعة.
قال أبو داوُد: هو ابنُ ربيعة، كُنيتُهُ:"أبو رَبِيعة" انتهى.
• قلتُ: وأخرَجَهُ التِّرمِذيُّ (37) قال: حدَّثَنا قُتيبةُ بنُ سعيدٍ ..
وابنُ ماجَهْ (444)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 103) عن مُحمَّد بن زيادٍ الزِّيَادِيِّ ..
وأحمدُ في "مُسنَده"، وأبو عُبيدٍ في "كتاب الطَّهُور"(88، 359)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7554) عن عفَّان بن مُسلِمٍ ..
وأحمدُ أيضًا (5/ 264، 268) قال: حدَّثَنا يُونُس بن مُحمَّدٍ المؤدِّبُ، ويحيى بنُ إسحاق ..
والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 103)، والبَيهَقِيُّ (1/ 66 - 67) عن سُليمان بن حربٍ ..
والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(1/ 33) عن يحيى بن حسَّان ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1277) عن أحمد بن عَبْدة ..
وابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(11381 - شاكر) عن حمَّاد بن أُسامة ..
والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 103) عن الهيثم بن جَمِيلٍ، وأبي عُمَر الضَّرير، ومُحمَّد بن أبي بكرٍ ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(7554) عن عارمٍ، وخالد بن خِدَاشٍ، وأبي عُمَر الضَّرير ..
والبَيهَقِيُّ (1/ 66) عن مُسدَّد بن مُسَرهَد، وأبي الرَّبيع الزَّهراني، قالُوا جميعًا: حدَّثَنا حمَّادُ بن زيدٍ، عن سِنان بن ربيعة.
ورواه مُحمَّدُ بن عبد الله بن بَزِيعٍ، قال: ثنا حمَّادُ بن زيدٍ بإسناده، لكنَّه قال:"عن أبي أُمَامة، أو عن أبي هُريرَة" هكذا على الشَّكِّ في صحابيِّ الحديث.
أخرَجَه ابنُ جَرِيرٍ (11379).
وكذلك شَكَّ مُعَلَّى بن منصورٍ، فرَوَى هذا الحديث عن حمَّاد بن زيدٍ بسَنَده، فقال:"عن أبي أُمَامة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. أو عن أبي أُمَامة، قال: الأُذُنان من الرَّأس".
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ (1/ 103) عن مُحمَّد بن شاذان، نا مُعَلَّى بن منصورٍ.
ولكنِّي وجدتُ أبا كُريبٍ، وهو مُحمَّدُ بن العلاء، رواه عن مُعَلَّى بن منصُورٍ، عن حمَّاد بن زيدٍ، كما رواه الجماعة.
أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ (11380).
• قلتُ: فقد رأيتَ، أراك اللهُ الخيرَ، أنَّ خمسة عشر راويًا، فِيهِم جمعٌ من الحُفَّاظ الأثبات، رَوَوْا هذا الحديث عن حمَّاد بن زيدٍ بسَنَده، فجَزَمُوا أن الحديث من مُسنَد أبي أُمَامة، وأنه مرفُوعٌ إلما النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وخالَفَهُم سُليمانُ بن حربٍ، فجزم بأنَّ قوله:"الأُذُنان من الرَّأس" مِن كلام أبي أُمامَة رضي الله عنه.
فنَظَرَ الدَّارَقُطنِيُّ في هذا الاختلاف، فقال عَقِب تخريجِه الحديثَ:"أَسنَد هؤلاء عن حمَّادٍ، وخالَفَهُم سُليمانُ بن حربٍ، وهو ثِقَةٌ حافظٌ".
فهذا يدُلُّ على أنَّ الدَّارَقُطنيَّ يُرَجِّح رواية سُليمان بن حربٍ على رواية هؤلاء النَّفَر، وفِيهِم من ذكرتُ من الحُفَّاظ، وهذا يُخالِفُ القاعدةَ الكُلِّيَّةَ التي وضعها عُلماءُ الحديث في تعريف الشَّاذِّ، ولكنَّ هذه القاعدةَ قد تتخلف أحيانًا لقرائنَ تَكُونُ عند النَّاقد، ولعلَّ من القرائن التي اعتمد عليها الدَّارَقُطنِيُّ في ترجيح رِواية سُليمان وحده أنَّه كان ذا خُصُوصيَّةٍ في حمَّاد بن زيدٍ، فقد ذَكَر يعقوبُ بن سُفيان في "المعرفة والتَّاريخ"(1/ 170) عن سُليمان بن حربٍ، قال:"اختلَفتُ إلى شُعبة، فلمَّا مات جالَستُ حمَّاد بن زيدٍ، ولَزِمتُه حتَّى مات، جالستْهُ تِسعَ عشرة سنة".
ومِن القرائن أيضًا الأخذُ بالأقلِّ عِند الاختلافِ، والأقلُّ أن يَكُون موقُوفًا، لا مرفُوعًا.
إنَّما أقولُ هذا تخريجًا لصنيع الدَّارَقُطنِيِّ رحمه الله، وإلَّا فالصَّوابُ عِندي هو تقديمُ رِواية الجماعة على رِوايتِه وحده، لاسيَّما وقد نَقَل التِّرمِذِيُّ عن شيخه قُتَيبة بن سعيدٍ، أنَّه قال: قال حمَّادٌ: "لا أَدرِي: هذا مِن قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مِن قول أبي أُمَامة؟ "، فدَلَّنا ذلك على أنَّ الذي شكَّ في رفعه أو في وَقفِه إنَّما هو حمَّادُ بن زيدٍ، فتلقَّاهُ عنه الجَمَاعَةُ مرفُوعًا، وسُليمانُ بنُ حربٍ موقُوفًا، وإذْ الأمرُ كذلك فلا داعي لنَصبِ الخلاف بين الرُّواة عن حمَّادٍ، ولا داعي أيضًا لقول سُليمان بن حربٍ فيما ذَكَرَهُ البَيهَقِيُّ، إذ قال:"الأُذُنان من الرَّأس، إنَّما هو مِن قول أبي أُمامَة، فَمَن قال غير هذا، فقد بدَّل، أو كلمةٌ قالها سُليمانُ، أي: أخطأ" انتهى؛ لأنَّه من العَسِير أن يَهِمَ أو يُخطِئَ هذا الجمعُ الغفيرُ من الثِّقات، ويتواطَؤُوا على التَّبديل.
فهذا هُو مُرادُ أبي داوُد من التَّعليق على هذا الحديث. واللهُ أعلَمُ.
أما الحُكمُ على الحديث، فهو الضَّعفُ.
وقد قال التِّرمِذِيُّ عَقِبهُ: "ليس إسنادُهُ بذاك القائم"؛ وسِنانُ بن ربيعة، وشَهرُ بن حَوْشَبٍ مُتَكلَّمٌّ فيهما.
ولا يَصِحُّ في مَسحِ المَأقَينِ حديثٌ مرفُوعٌ.
و"المَأْقُ"، ويُقال أيضًا:"الماق" بلا همزٍ، و"المُوْقُ": طرفُ العين، الذي يلي الأنفَ.
وكذلك: "الأُذُنان من الرَّأس"، قد رُوي مرفُوعًا عن جماعةٍ من الصَّحابة، ولا يصحُّ منها شيءٌ، كما جَزَم بذلك جماعةٌ من النُّقَّاد، والصَّوابُ أنَّهُ موقوفٌ.
وقد استَوفَى شيخُنا الأَلبَانِيُّ رحمه الله أحاديث هؤُلاء الصَّحابة في "سِلسِلة الأحاديث الصَّحيحة"(رقم 36)، ورَجَّح الرَّفع؛ لإسنادٍ وَجَدَه في "المُعجَم الكبير" للطَّبَرانيِّ، وقال:"وهذا سَنَدٌ صحيحٌ، رِجالُهُ كُلُّهم ثقاتٌ، ولا أَعلَمُ له علَّةً. . ."، ولكنِّي وقفتُ على عِلَّته، فإذا هي المُخالَفةُ، كما ذكرتُهُ في "نوح الهَدِيل بكشف ما في سُنَن أبي داوُد من التَّذيِيل".
والحمدُ لله.
306 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُم المَوتَ لِضُرِّ أَصَابَهُ، أَو نَزَلَ بِهِ".
وقال السَّائل: وإذا صحَّ، فكيف دعا الإمامُ البُخاريُّ على نفسه بالموت؟
• قلتُ: هذا الحديثُ صحيحٌ.
وقد ثَبَت من حديث أنَسٍ، وأبي هُريرَة، وخبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنهم.
وله شواهدُ عن آخَرِين من الصَّحابة في أسانِيدِها مقالٌ.
أمَّا كيف دعا الإمامُ البُخارِيُّ على نفسه، فلا بُدَّ من مَعرِفة القِصَّة على وَجهِها.
فاعلم أيُّها المُستَرشِدُ!
أنَّهُ ثَارَت في أيَّام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتنةٌ عمياءُ، وداهيةٌ دهياءُ، وفِكرةٌ صلعاءُ، أَلَا وهي فتنةُ خلق القُرآن، ووَقَف لها جَمْعٌ من العُلماء الرَّبَّانِيِّين، وعلى رأسِهم الإمامُ أحمدُ، حتَّى كَسَر اللهُ عز وجل بِهِم شَوكَة الجَهمِيَّة، فحوَّرُوا مُرَادَهم بطريقةٍ أُخرَى، وهو أنَّهُم قالوا:"لفظي بالقُرآن مخلوقٌ"، و"اللَّفظ" كلمةٌ مُجمَلةٌ، فقد يُقصَد بها الملفوظُ، وهو القُرآنُ، وقد يُقصَدُ بها حرَكَةُ اللِّسان، فوَقَف الإمامُ أحمدُ، ومُحمَّدُ بن يحيى الذُّهليُّ، مع جَمَاعةٍ مِن أهل العِلم لهذه البِدعة الجديدة بالمِرصَاد.
فلما أراد البُخارِيُّ رحمه الله أن يَدخُل نيسابورَ، قال عالمُها وفاضلُها مُحمَّدُ بنُ يحيى الذُّهلِيُّ، أحدُ مشايخ البُخاريِّ:"إنَّ العبد الصَّالحَ مُحمَّد بن إسماعيل سَيَأتِينَا غدًا، فمَن أراد أن يَستَقبِله، فإنِّي مستَقبِلُهُ"، فاستقبَلَه النَّاسُ على ثلاثة فراسخ، ونَثَرُوا الحَلوَى على رُؤُوس النَّاس، ابتهاجًا بمَقدِم هذا العبد الصَّالح، ونَزَل في دار البُخَارِيِّين في نيسابُورَ، ثُمَّ بدأ يَعقِد مجالسَ الإِملاء. وقال أبو أحمد ابنُ عَديٍّ: ذَكَر لي جماعةٌ من المشايخ، أنَّ مُحمَّد بن إسماعيل لمَّا وَرَد نيسابُور، اجتَمَع النَّاسُ عليه، حَسَدَهُ بعضُ مَن كان في ذلك الوقتِ من مشايخِ نيسابور؛ لمَّا رَأَوْا إِقبالَ النَّاسِ إليه، واجتِمَاعَهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إنَّ مُحمَّد بن إسماعيل يقول: "اللَّفظ بالقرآن مخلوقٌ، فامتَحِنُوه في المجلس"، فلما حَضَر النَّاسُ مجلسَ البُخاريِّ، قام إليه رجلٌ، فقال:"يا أبا عبدِ الله! ما تقول في اللَّفظِ بالقُرآن، مخلوقٌ هو أم غيرُ مخلوقٍ؟ "، فأعرَضَ عنه البُخارِيُّ ولم يُجِبْه، فقال الرَّجُل:"يا أبا عبد الله! " فأعاد عليه القولَ، فأعرضَ عنه، ثم قال في الثَّالثة، فالتفَتَ إليه البُخاريُّ، وقال:"القرآنُ كلامُ الله، غيرُ مخَلُوقٍ، وأفعالُ العباد مخلُوقةٌ، والامتحانُ بدعةٌ"، فشغَّب الرَّجُلُ، وشغَّب النَّاسُ، وقعد البخاريُّ في منزله.
وقال أبُو حامدٍ ابنُ الشَّرقِيِّ: سمعتُ مُحمَّدَ بنَ يحيَى الذُّهليَّ يقولُ: "القُرآنُ كلامُ الله، غيرُ مخلُوقٍ من جميع جِهاته، وحيث تُصُرِّفَ، فمن لَزِم هذا استغنَى عن اللَّفظ، وعمَّا سِواه من الكلام في القُرآن. ومن زَعَم أنَّ "القُرآن مخلوقٌ"، فقد كَفَرَ، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأَتُه،
يُستَتَابُ، فإن تاب، وإلَّا ضُرِبَت عُنقُه، وجُعِل مالُه فَيْئًا بين المُسلِمين، ولم يُدفَن في مقابِرِهم. ومن وَقَف، فقال:"لا أقول مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلُوقٍ"، فقد ضَاهَى الكُفرَ. ومن زَعَم أنَّ "لفظي بالقرآن مخلُوقٌ"، فهذا مُبتَدِعٌ، لا يُجالَس، ولا يُكلَّم. ومن ذَهَب بعد هذا إلى مُحمَّد بن إسماعيل البُخارِيِّ فاتَّهِمُوهُ، فإنَّه لا يَحضُر مجلِسَهُ إلَّا مَن كان على مِثل مذهَبِه".
وذَكَر بعضُ أهل العِلم أنَّ هذا كان حَسَدًا من الذُّهلِيِّ على البُخاريِّ، وأنا أَستَبعِدُ ذلك؛ فقد كان الذُّهْليُّ مِن أفاضل أهل العِلم وخِيارِهم، ولكن ما يُعابُ عليه أنَّهُ لم يَتَثَبَّت مِن مقالة البُخاريِّ، فإنَّ البُخاريَّ ما قال:"لفظي بالقُرآن مخلوقٌ"، إنَّما قال:"أفعالُنا مخلوقةٌ".
ثُمَّ امتدَّت المِحنَةُ، حتَّى خَرَج البُخارِيُّ من نيسابُور، فاستَقبَلَتهُ مِحنَةٌ أُخرَى عِندَما نَزَل بُخارَى، فقد قال بَكرُ بنُ منير بن خُليد بن عسكرٍ: بَعَثَ الأميرُ خالدُ بن أحمد الذُّهلِيُّ وَالِي بُخارَى، إلى مُحمَّد بن إسماعيلَ:"أن احمِلْ إليَّ كتابَ "الجامع" و"التَّاريخ" وغيرَهُما، لأسمع مِنك"، فقال لرسُولِه:"أنا لا أُذِلُّ العلمَ، ولا أَحْمِلُه إلى أبوابِ النَّاس، فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجةٌ، فاحضر في مسجدي، أو في دارِي، وإن لم يُعجبْك هذا فإنَّك سلطانٌ، فامنَعنِي من المَجلِس، ليكون لي عُذرٌ عِند الله يومَ القِيامة، لأنّي لا أَكتُم العلم، لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَن سُئِل عَن عِلمٍ فكَتَمَهُ أُلجِمَ بِلِجامٍ مِن نارٍ"، فكان سببَ الوَحشَة بينَهما هذا.
فلمَّا وقع هذا للإمام خَشِي على دِينِه، قال ابنُ عَدِيٍّ: سمعتُ عبد القُدُّوس
ابن عبد الجبَّار السَّمَرقَندِيَّ، يقولُ: جاء مُحمَّدُ بن إسماعيل إلى خَرْتَنْكَ - وهي قريةٌ على فَرسَخين من سمرقند -، وكان له جها أقرِباءُ، فنَزَل عِندَهم، فسمعتُهُ ليلةً يدعُو، وقد فَرَغ من صلاة اللَّيل:"اللَّهمَّ! إنَّه ضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَت، فاقبِضنِي إليك"، فما تمَّ الشَّهرُ حتَّى مات.
وقد جَعَل جماعةُ العُلماء حديثَ النَّهي عن تمنِّي الموت خاصًّا بالمصائب التي يُبتَلى العبدُ بها في الدُّنيا، أمَّا إذا خَشِي ذَهَاب دينِه، فيُشرَع له أن يَدعُو بالموت.
وقد عَقَد البُخاريُّ في "كتاب الفِتَن"(13/ 74 - 75) بابًا لذلك، فقال:"باب: لا تَقُوم السَّاعة حتى يُغبَط أهلُ القُبُور"، ثُمَّ رَوَى فيه حديث أبي هُريرَة مرفُوعًا:"لا تَقُوم السَّاعة حتَّى يمُرَّ الرَّجلُ بقبر الرَّجل، فيقول: يا لَيتَنِي مكانَك"، وهذا الحديث أَخرَجَه مُسلِمٌ أيضًا.
وقال ابنُ عبد البَرِّ: "ظنَّ بعضُهم أنَّ حديث أبي هُريرَة مُعارِضٌ للنَّهي عن تَمَنِّي الموت، وليس كذلك، إنَّما في حديث أبي هُريرَة أنَّ هذا سَيكُون لشدَّةٍ تَنزِلُ بالنَّاس، من فساد الحال في الدِّين، أو ضعفِه، أو خَوف ذهابه، لا لضَرَرٍ يَنزِل بالجسم، كما قال الحافظُ"، وكذلك أجاب القُرطُبِيُّ وغيرُهُ.
وقد أُثِر عن جماعةٍ من السَّلَف أنَّهُم تَمَنَّوا الموتَ خوفَ الفِتنَة في الدِّين، وأنا أَذكُر ما يَحضُرُني من ذلك.
وقد وَرَد هذا المعنى في حديث ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا: ". . . وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غيرَ مفتُونٍ".
أخرَجَهُ أحمدُ (1/ 368)، والتِّرمِذيُّ (3233)، وعبدُ الرَّزَّاق في
"تفسيره"(2/ 169)، وعَبْدُ بنُ حُميدٍ في "المنتخَب"(682)، وابنُ خُزَيمة في "التَّوحيد"(ص 217 - 218)، والدَّارَقُطنِيُّ في "الرُّؤية"(271، 272، 273)، وابنُ عساكِر (36/ 325 - 326)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهِيات"(14) مِن طريق مَعمَرٍ، عن أيُّوب، عن أبي قِلابة، عن ابن عبَّاسٍ.
ولكنَّه لا يَصِحُّ؛ لاضطرابه، ولانقطاعٍ في سَنَدِه.
وروايةُ مَعمَرٍ عن البَصرِيِّين ضعيفةٌ.
وقد أشبعتُ المَقامَ تحريرًا في "جُنَّة المُستَغيث بشرح عِلل الحديث"(26)، لابن أبي حاتمٍ.
وإنما نبَّهتُ على ذلك لأنَّ بعض العُلماء، كابن كَثيرٍ رحمه الله، احتجَّ به على هذا المَعنَى، وهو رائقٌ لو صحَّ الحديثُ.
أمَّا الآثار عن السَّلَف رحمهم الله، فمنها:
1 -
ما أخرَجَهُ الحاكمُ في "المُستدرَك"(4/ 518) من طريق بِشر بن بَكرٍ، حدَّثَني الأَوزَاعِيُّ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، حدَّثَني أبو سَلَمة، قال: عُدتُ أبا هُريرَة، فسَنَدتُهُ إلى صَدرِي، ثُمَّ قلتُ:"اللَّهُمَّ! اشفِ أبا هُريرَة"، فقال:"اللَّهُمَّ! لا تُرجِعها"، ثُمَّ قال:"إن استطعتَ يا أبا سَلَمة أن تَمُوت فمُتْ"، فقلتُ:"يا أبا هُريرَة! إنَّا لَنُحِبُّ الحياة! "، فقال:"والذي نَفسُ أبي هُريرَة بيده! ليَأتِيَنَّ على العُلماء زمانٌ، الموتُ أحبُّ إلى أَحَدِهم من الذَّهَب الأحمر، ليَأتِيَنَّ أحدُكم قَبرَ أخيه، فيقول: لَيتَنِي مكانَه".
وأخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(1/ 384) من طريق عبيد الله بن عُمَر،
ثنا حمَّادُ بن زيدٍ، ثنا أيُّوبُ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ بهذا باختصارٍ.
قال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يُخَرِّجاه"، والصَّوابُ أنَّه على شرط البُخاريِّ، وبِشرُ بنُ بكرٍ لم يُخَرِّج له مُسلِمٌ شيئًا.
2 -
وأخرَجَ أبو العبَّاس الأصمُّ في "الثَّاني من حديثه"(ق 169/ 2 - 170/ 1) قال: أخبَرَنا العبَّاسُ بن الوليد بن مَزْيَدٍ، أخبَرَني أبي، حدَّثَني ابنُ جابرٍ، عن عُمير بن هانئٍ، أنَّه حدَّثه، قال: كان أبو هُريرَة يَمشِي في سُوق المدينة، وهو يقول:"اللَّهُمَّ! لا تُدرِكني سَنَةُ السِّتِّين. اللَّهُمَّ! لا تُدرِكني إِمارَة الصِّبيان".
وأخرَجَهُ أبو زُرعَة الدِّمَشقِيُّ في "تاريخه"(234) قال: أخبَرَنا أبو مُسهِرٍ، قال: حدَّثَني صَدَقةُ بنُ خالدٍ، عن ابن جابرٍ، عن عُمير بن هانئٍ، قال: كان أبو هُريرَة، يقول:"تشبَّثُوا بصُدغَيْ مُعاوِية! اللَّهمَّ! لا تُدرِكني سنة سِتِّين! ".
ثُم أخرَجَه أبو زُرعَة (235) من طريق الوليد بن مُسلِمٍ، عن ابنُ جابرٍ بهذا الإسناد، ثُمَّ زاد:"فتُوُفِّي أبو هُريرَة فيها أو قبلها بسنةٍ".
وأخرَجَ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(1397) قال: حدَّثَنا أحمدُ - هو: ابن مُحمَّد بن صدقةٍ -، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن معمرٍ البَحْرانيُّ، قال: حدَّثَنا رَوْحُ بن عُبَادَةَ، قال: حدَّثَنا حمَّادُ بن سَلَمَةَ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرَة، أنَّه قال:"في كيسي هذا حديثٌ، لو حَدَّثْتُكُمُوْهُ لَرَجَمْتُمُوْني"، ثُمَّ قال:"اللَّهُمَّ! لا أَبْلُغَنَّ رأسَ السِّتِّيْنَ"،
قالوا: "وما رأسُ السِّتِّينَ؟ "، قال:"إِمارةُ الصِّبيان، وبيعُ الحُكم، وكثرةُ الشُّرَط، والشَّهادةُ بالمعرفةِ، ويَتَّخِذُونَ الأمانةَ غنيمةً، والصَّدَقةَ مَغرَمًا، ونَشْوٌ يتَّخذونَ القُرآنَ مَزَامِير"، قال حمَّادٌ: وأظُنَّهُ قال: "والتَّهاونُ بالدَّمِ".
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن عليِّ بن زيدٍ، إلَّا حمَّادٌ. تفرَّد به رَوْح بنُ عُبادة".
وسَنَدُهُ حَسَنٌ في المُتابَعات؛ وعليُّ بنُ زيدٍ ضعيفٌ، ولكن روايةُ حمَّاد بن سَلَمة عنه أَمثَلُ مِن رِواية غيرِه عَنه، كما قال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ.
قال الحافظُ في "الفتح"(1/ 216): "يُشيرُ - يعني: أبا هُريرَة - إلى خِلافة يزيد بن مُعاوِية، لأنَّها كانت سنة سِتِّين من الهِجرة"، وكأنَّه لأجل هذا ومثلِه كان أبُو هُريرَة رضي الله عنه يقول:"حفِظتُ من رسُول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأمَّا أحدُهُمَا فبَثَثتُه، وأمَّا الآخرُ، فلو بَثَثتُهُ قُطِع هذا البُلعُوم".
أخرَجَهُ البُخاريُّ (1/ 216) من طريق عبد الحميد بن أبي أُوَيسٍ ..
والبَزَّارُ في "مُسنَده"(ج 2/ ق 177/ 2) من طريق بُهْلُولَ بن مُوَرِّق ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(1/ 33) من طريق ابن أبي فُدَيكٍ، قالوا: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن أبي هُريرَة.
وأخرَجَهُ البَزَّارُ في "مُسنَده"(ج 2/ ق 229/ 2) قال: حدَّثَنا الوليد بن عَمْرو بن سُكين، نا كَثيرُ بن هاشمٍ، حدَّثَنا جَعفَرُ بن بُرقَانَ، عن يزيد الأَصَمِّ، عن أبي هُريرَة، قال:"عِندِي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم جِرَابَان، قد حَدَّثتُكُم بأحدِهِما، ولو حَدَّثتُكُم بالآخر لَفَعلتُم بي وفَعلتُم".
وهناك آثارٌ أخرى عن جَمْع مِن الصَّحابة، فيها الحَسَنُ الثَّابت، والضَّعيفُ، ذَكَرَها نُعيمُ بن حمَّادٍ في "الفِتن"(1/ 71 - 77)، وأبو عَمْرٍو الدَّانِيُّ في "السُّنَن الواردة في الفِتن"(178 - 181)، والحاكِم (4/ 486)، رأيتُ أن لا أُطِيل الأمرَ بذِكرِها.
واللهَ نَسألُ أن يَقبِضَنَا على التَّوحيد الخالِص، إنَّه جَوَادٌ كريمٌ.
307 -
سُئلتُ عن حديث: "نِعمَ صَومَعَةُ الرَّجُلِ بَيتُهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ - كما في "كشف الخفاء"(2/ 322) -، ومِن طريقه الشَّجَرِيُّ في "الأَمَالي" (2/ 157) قال: حدَّثَنا أبو زيدٍ الحَوْطِيُّ - يعني: أحمدَ بنَ عبد الرَّحيم بن يزيد -، قال: حدَّثَنا أبو اليَمَان - يعني: الحكم بن نافعٍ -، قال: حدَّثَنا عُفَيرُ بنُ مَعدَان، عن سُليم بنُ عامرٍ، عن أبي أُمَامة مرفُوعًا:"نِعم صَوْمعةُ الرَّجلِ بيتُهُ".
وأخرَجَهُ الشَّجَرِيُّ أيضًا (2/ 156 - 157) عن يحيى بن صالحٍ، قال: ثنا عُفيرُ بنُ مَعدان بسَنَده سواء، وزاد:"الرَّجلِ المُسلِم".
• قلتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا؛ وعُفيرُ بنُ مَعدان، قال فيه أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ:"ضعيف الحديث، يُكثِر الرِّواية عن سُليم بن عامرٍ، عن أبي أُمامَة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لا أصل له. لا يُشتغَل بروايته".
وقال أحمدُ والبُخاريُّ وأبو زُرعة: "مُنكَر الحديث"، زاد أبو زُرعة:"جدًّا".
وقال ابنُ مَعِينٍ: "لا شيء"، وقال النَّسَائِيُّ، وابن مَعِينٍ:"ليس بثقةٍ"، زاد النَّسَائِيُّ:"ولا يُكتَب حديثُه".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "عامَّةُ روايَاتِه غيرُ محفُوظَةٍ" ا. هـ.
ومع هذا الضَّعف الشَّديد، فقد خالَفه ثَوْرُ بن يزيد الرَّحْبِيُّ، فرواه
عن سُليم بن عامرٍ، عن أبي الدَّرداء، قال:"نِعم صومعةُ المُسلِم بيتُهُ؛ يَكُفُّ بَصَرَه وفرْجَه، وإيَّاكُم والأسواقَ؛ فإنها تُلغِي وتُلهِي".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(7/ 379) من طريق مُحمَّد بن يوسُف الفِريَابِيِّ، قال: ذَكَرَ سُفيان - يعني: الثَّوْريَّ -، عن ثور بن يزيد فذَكَرَه.
وهذا سندٌ جيِّدٌ موقُوفٌ، وثَورُ بنُ يزيد وثَّقَه أكثرُ النُّقَّاد، ومن تَكلَّم فيه، فلبِدِعَتِه.
فالصَّوابُ في هذا الحديث الوقفُ.
واللهُ أعلَمُ.
308 -
سألني سائلٌ، فقال: سَمِعنَا بعضَ الخُطباء، ينقُل عن عُمَر بن الخطَّاب رضي الله عنه، أنَّه سأل سؤالًا لبعض جُلَسائه، فقال:"الله ورسُوله أعلم"، فأَنكَر عليه ذلك، مع أنَّنا نعلَم أنَّ المرء إذا سُئِل عن شيءٍ لا يَعرِفُ جوابَه، فليَقُل اللهُ أَعلَم، ومِن ثَمَّ أنكرتُ صِحَّة ذلك، واستبعدتُ أن يَصدُر هذا مِن مِثلِ عُمَر بن الخطَّاب، فما مدى صحَّةِ ذلك؟ وما توجيهُه، إن صحَّ؟
• قلتُ: أنَّ ما نَسَبه السَّائلُ إلى أمير المُؤمنين عُمَر بن الخطَّاب رضي الله عنه صحيحٌ إليه.
فقد أخرجه البُخاريُّ في "كتاب التَّفسير"(8/ 201 - 202) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ مُوسَى، نا هشامٌ، عن ابن جُريجٍ، سمعتُ عبد الله بن أبي مُليكة يُحدِّثُ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: وسمعتُ أخاهُ أبا بَكرٍ بن أبي مُليكة يحدِّثُ، عن عُبيد بن عُميرٍ، قال: قال عُمَرُ رضي الله عنه يومًا لأصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "فيمَ تَرَوْن هذه الآيةَ نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]؟ "، قالوا:"اللهُ أعلم"، فَغَضِب عُمَر، فقال:"قولوا نعلمُ أو لا نعلم"، فقال ابنُ عبَّاسٍ:"في نفسي منه شيءٌ يا أمير المؤمنين"، قال عُمَرُ:"يا ابن أخي! قُل، ولا تُحَقِّر نفسَك"،
قال ابنُ عبَّاسٍ: "ضُرِبت مثلًا لعمَلٍ! "، قال عُمَر:"أيُّ عَمَلٍ؟ "، قال ابنُ عبَّاسٍ:"لعمَلٍ"، قال عُمَرُ:"لرجُلٍ غنيٍّ يَعمَل بطاعة الله عز وجل، ثُمَّ بَعثَ اللهُ له شيطانًا، فعَمِلَ بالمعاصي، حتى أَغرَقَ أَعمَالَه".
وأخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيره"(2773) قال: حدَّثَنا أبي، ثنا إبراهيمُ بن مُوسَى، أنا هشامُ بن يُوسُف بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(1568)، ومن طريقه ابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(6096) عن ابن جُريجٍ، بالإسنادين جميعًا.
وأخرَجَهُ الحاكمُ في "المُستدرَك"(2/ 283) من طريق حَجَّاج بن مُحمَّدٍ، عن ابن جُريجٍ، قال: سمعتُ ابن أبي مُليكة يُخبِر، عن عُبيد بن عميرٍ، أنَّه سَمِعه يقولُ: سأل عُمَرُ أصحابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَه.
وابنُ أبي مُلَيكَة في إسناد الحَاكِم هو أبو بَكرٍ، وليس أخاه عبدُ الله؛ لأنَّ أبا بَكرٍ هو رَاوِي حديثِ عُبيد بن عميرٍ، ولا أَعلَمُ اختلافًا على ابن جُريجٍ في هذا. والله أعلمُ.
وقد وَهِم الحاكمُ في استدراك هذا على البُخاريِّ، كما ترى.
وأخرَجَهُ الحاكمُ أيضًا في "معرفة الصَّحابة"(3/ 542 - المستدرك) من طريق حمَّاد بن زيد، عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، عن ابنِ أبي مُلَيكَة، أنَّ عُمَر بن الخطَّاب رضي الله عنه تلا هذه الآية
…
وذكر الحديث.
• قلتُ: كذا وَقَعَت الرِّواية في "المُستدرَك": "ابن أبي مُلَيكَة، أنَّ عُمَر بن الخطَّاب"، والإسنادُ على هذا الرَّسم مُنقَطِعٌ، ولعلَّ ذِكْرَ ابنِ عبَّاسٍ سَقَطَ من الإسناد.
وقد راجعتُ "إتحاف المَهَرة" للحافظ ابن حَجَرٍ، فلم يَذكُر رواية ابن عبَّاسٍ، وعُبيد بن عُميرٍ كليهما، عن عُمَر بن الخطَّاب، فليُستَدرَكْ عليه.
وأمَّا ما ذَكَرَه السَّائلُ أنَّ جليس عُمَرَ قال: "اللهُ ورسولُهُ أعلمُ"، فقد وقَعَ هذا اللَّفظُ في رواية أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، عن ابن أبي مُلَيكَة.
أمَّا في سائر الرِّوايات فلم يَذكُرُوا: "ورسوله".
هذا فيما يتعلق بهذه الرِّواية.
أمَّا قولُ القَائِل إذا سُئِل عن شيءٍ من الأحكام الشَّرعِيَّة: "اللهُ ورسولُهُ أعلمُ"، فهذا لا شيء فيه؛ لأنَّ معنى العِبارة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لو سُئِل عن هذا الحُكم لَكَان أعلمَ بجوابه.
وقد وَقَع هذا في جُملَةٍ من الأحاديث ..
منها ما: أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّوحيد"(13/ 347)، ومُسلِمٌ في "الإيمان"(30/ 48) عن مُعاذ بن جَبَلٍ، قال: كُنتُ رِدفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ! هل تَدرِي ما حقُّ الله على العِباد؟ "، - قال: - قلتُ: "اللهُ ورسُولُه أعلمُ". . . الحديث.
ومنها ما: أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الإيمان"(1/ 129)، وفي "العِلم"(1/ 183)، وفي "أخبار الآحاد"(13/ 242 - 243)، ومُسلِمٌ في "الإيمان"(17/ 24) من حديث ابن عبَّاسٍ، فذَكَرَ حديث وفد عبد القَيس، وفي هذا الحديث، قال لَهُم رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هل تَدرُون ما الإيمان بالله؟ "، قالوا:"اللهُ ورسُولُهُ أعلمُ". . . الحديث.
ومنها ما: أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الصَّلاة"(1/ 519)، وفي "التَّهَجُّد"(3/ 60 - 61)، ومُسلِمٌ في "الإيمان"(33/ 54) من حديث عِتبان بن مالكٍ، أنَّهُ قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي أُحِبُّ أن تأتِيَنِي، فتُصَلِّي في منزِلي؛ فأتَّخِذُه مُصلًّى". وفي الحديث أنَّ الصَّحابة الذين حضروا، تَكَلَّمُوا في أمر مالك بن الدُّخشُن - أو: الدُّخشُم -، وَوَدُّوا لو أنَّه هَلَك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ألا ترَاه قد قال لا إله إلا اللهُ، يُرِيدُ بذلك وجهَ الله؟ "، قالوا:"اللهُ ورسولُهُ أعلمُ". . . الحديث. وهذا لفظ البُخارِيُّ.
ومنها ما: أخرجه البُخاريُّ في "الأذان"(2/ 333)، وفي "الاستسقاء"(2/ 522) ومُسلِمٌ في "الإيمان"(71/ 125) من حديث زيد بن خالدٍ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"هل تَدرُون ماذا قال رَبُّكُم؟ "، قالوا:"اللهُ ورسولُه أعلم"، قال:"قال: أَصبَح مِن عِبادِي مُؤمِنٌ بي، وكافرٌ. . ." الحديث.
ومنها ما: أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الفِتَن"(13/ 26)، وفي "التَّوحيد"(13/ 424)، وفي مواضعَ أخرَى، ومُسلِمٌ في "القَسَامة"(1679/ 29) من حديث أبي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للصَّحابة:"أيُّ شهرٍ هذا؟ "، قالوا:"اللهُ ورسولُهُ أعلم". . . وذكر الحديث.
ومنها ما: أخرَجَهُ البُخاريُّ (3199، 7424، 4802)، ومُسلِمٌ (159/ 250) من حديث أبي ذرٍّ الغِفَارِيِّ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَتَدرُون أين تَذهَبُ هذه الشَّمسُ؟ "، قالوا:"اللهُ ورسُولُهُ أعلم". . . الحديث.
وهُناك أحاديثُ كثيرةٌ قال فيها الصَّحابةُ هذه اللَّفظة.
ولا إِشكال أن يَقُولَها من جاء بعد الصَّحابة، إذا تعلَّقَت بالأحكام الشَّرعية، لكن يُنكَر على من يقولُها إذا لم يكن لها محلٌّ، مثلُ أن يقول رجلٌ لآخر:"أين أخوك؟ "، فلا يقل له:"اللهُ ورسوله أعلم"، ولكن ليَقُل:"الله أعلمُ".
309 -
سُئلتُ عن حديث: أنَّ بَنِي سَلَمة أرادوا أن يتحَوَّلُوا مِن ديارِهم؛ فيكونُوا قريبًا من مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "يا بَنِي سَلَمة! دِيَارَكُم؛ فإنها تُكتَبُ آثارُكم".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
فقد أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "كتاب المساجد"(665/ 280) مِن طريق الجُرَيرِيِّ، عن أبي نَضرة، عن جابر بن عبد الله، قال: خَلَت البقاعُ حول المسجد، فأراد بنو سَلَمة أن ينتَقِلُوا إلى قُرب المسجد، فبَلَغ ذلك رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:"إِنَّهُ بَلَغَنِي أنَّكُم تُرِيدُون أن تَنتَقِلُوا قُرب المَسجِد"، قالوا:"نعم، يا رسول الله! قد أردنا ذلك"، فقال:"يا بني سَلَمة! ديارَكُم، تُكتَبُ آثارُكُم"، ثلاث مرَّاتٍ.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ أيضًا (665/ 281) قال: حدَّثَنا عاصمُ بن النَّضر التَّيمِيُّ ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(4379) عن مُحمَّد بن أبي السَّرِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ (3/ 64) عن مُحمَّد بن عبد الأعلى، قال ثلاثتهم: ثنا مُعتَمِرُ بن سُليمان، قال: نا كَهمَسُ بن الحَسَن، عن أبي نَضرَة بهذا نحوه.
وقد ذكر الطَّبَرانيُّ أنَّهُ لم يَروِه عن مُعتَمر بن سُليمان إلَّا ابنُ أبي السَّرِيِّ، وهو مُتَعقَّبٌ كما رأيتَ. وقد أَخرَجَهُ أبو عَوَانة (1/ 388) من طريق ابن أبي السَّرِيِّ أيضًا، واسمُهُ: مُحمَّد بن المُتوكِّل بن أبي السَّرِيِّ.
310 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ اللهَ يتجَلَّى لعبادِهِ المُؤمِنِين عامَّةً، ويتَجَلَّى لأبي بَكرٍ خاصَّةً".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(5/ 11 - 12)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات" (2/ 41 - 42) قال: حدَّثَنا أبو عليٍّ مُحمَّد بن أحمد بن الحَسَن، ومُحمَّدُ بنُ عُمَر بن سَلْمٍ، قالا: ثنا يُوسُفُ بنُ الحَكَم، ثنا مُحمَّدُ بن خالدٍ الخُتُلِّيُّ، ثنا كَثيرُ بنُ هشامٍ، ثنا جعفرُ بنُ بُرقانَ، عن مُحمَّد بن سُوْقَةَ، عن مُحمَّد بن المُنكَدِر، عن جابرٍ، قال: جاءَ وفدُ عبد القَيس إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ بعضُهم بكلامٍ وأَلْغَزَ فيه، فالتَفَت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكرٍ، فقال:"يا أبا بكرٍ! سَمِعتَ ما قالوا؟ "، قال:"نعم، يا رسُول الله! وفهمتُه"، قال:"فَأَجِبْهُم، يا أبا بكرٍ! "، فأَجَابَهُم بجوابٍ، وأجادَ في الجواب، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكرٍ! أعطاك اللهُ الرِّضوانَ الأكبرَ"، فقال له بعضُ القوم:"يا رسول الله! وما الرِّضوانُ الأكبرُ؟ "، قال:"يتجلَّى اللهُ عز وجل في الآخرة لعباده المُؤمِنِين عامَّةً، ويتجَلَّى لأبي بكرٍ خاصَّةً".
قال أبو نُعيمٍ: "هذا حديثٌ ثابتٌ، رواتُهُ أعلامٌ، تفرَّد به الخُتُلِّيُّ، عن كَثيرٍ"!!
• قلتُ: كذا قال أبو نُعيمٍ! فهذا الحديثُ ليس بثابتٍ، بل هو باطلٌ؛ ومُحمَّدُ بنُ خالدٍ الخُتُلِّيُّ ليس بثِقةٍ أصلًا.
وأخرَجَه الحاكمُ (3/ 78) قال: أخبَرَنا أحمدُ بن كاملٍ القاضي، ثنا يُوسُفُ بن مُحمَّد رئيسُ الخيَّاط، ثنا مُحمَّدُ بن خالدٍ الخُتُلَّيَّ بهذا الإسناد.
سكتَ عنه الحاكمُ، فتعقَّبَهُ الذَّهَبيُّ في "تلخيص المُستدرَك"، فقال:"تفرَّد به مُحمَّدُ بن خالدٍ الخُتُلِّيُّ، عن كثير بن هشامٍ، عن جعفر بن بُرقان، عن ابن سُوقَة، واحسَبُ مُحمَّدًا وضعَهُ".
وقال ابنُ الجَوزِيِّ: "تفرَّد به مُحمَّدُ بن خالدٍ، وقال بعضُهم: مُحمَّدُ بن مَخلدٍ، وكِلاهُما مكذَّبٌ".
وذَكَرَه الذَّهَبيُّ في "تلخيص الموضوعات"(ص 133)، وقال:"مُحمَّدُ الخُتُلِّيُّ أظُنُّ البلاءَ منه".
ونَقَلَ الذَّهَبيُّ في "الميزان"(3/ 534) عن ابن مَندَهْ، قال:"صاحبُ مناكير".
ولهُ طُرُقٌ أخرى عن جابرٍ، كُلُّها ساقطةٌ.
فمنها ما: أخرجه ابنُ حِبَّان في "المجروحين"(2/ 115)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(5/ 1858)، والخطيبُ (12/ 19)، وابنُ الجَوزِيِّ (2/ 42 - 43)، وأبو طاهرٍ المُخلِّص (2931)، ومن طريقه الذَّهَبيُّ في "الميزان"(3/ 120) من طريق عليِّ بن الحسَن المُكتِب - وهو عَليُّ بنُ عَبدةَ -، قال: ثنا يحيى بن سعيدٍ القَطَّانُ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن ابنِ المُنكَدِر، عن جابرٍ، مرفُوعًا: "إنَّ الله ليَتَجَلَّي للنَّاس عامَّةً، ويتجلَّى
لأبي بَكرٍ خاصَّةً".
قال ابنُ حِبَّان: "عليُّ بنُ عبدة شيخٌ كان ببغداد، يَسرِق الحديثَ، ويَعمد إلى كُلِّ حديثٍ رواه ثقةٌ، يرويه عن شيخِ ذلك الشَّيخ، ويَروِي عن الأثبات ما ليس من حديث الثقات، لا يَحِلُّ الاحتجاجُ به".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا حديثٌ باطلٌ بهذا الإسناد، وعليُّ بن عَبدَة هذا مِقدَارُ مَا لَهُ: إمَّا حديثٌ مُنكَرٌ، أو حديثٌ سَرَقَهُ من ثِقَةٍ فرواه".
وقال الخطيبُ: "هو باطلٌ، لا أَعلَمُ رواه عن جابرٍ، ولا عن ابن المُنكَدِر، ولا عن ابن أبي ذئبٍ، ولا عن يحيى بن سعيدٍ، غيرَ عليِّ بن عبدة".
وقال الذَّهَبيُّ: "فهذا أَقطَعُ أنَّهُ مِن وَضعِ هذا الشُّوَيخ على القَطَّان".
ورواه يحيَى بنُ أبي بُكيرٍ، عن ابن أبي ذئبٍ بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ الخطيبُ (12/ 19 - 20)، ومِن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعات"(2/ 43) من طريق أبي حامدٍ أحمد بن عليِّ بن حَسنَوَيْهِ المُقرِئِ، عن الحَسَن بن عليِّ بن عفَّان، ثنا يحيى بن أبي بُكيرٍ بهذا.
قال الخطيب: "باطلٌ، والحَملُ فيه على أبي حامدٍ ابن حَسنَوَيهِ؛ فإنَّه لم يَكُن ثقةً، ونَرَى أنَّ أبا حامدٍ وَقَع إليه حديثُ عليِّ بن عبدة، فركَّبَهُ على هذا الإسناد، مع أنَّا لا نعلم أنَّ الحَسَن بن عليِّ بن عفَّان سمع من يحيى بن أبي بُكيرٍ شيئًا".
وله طريقٌ آخر عن جابر رضي الله عنه.
أخرَجَهُ الخطيبُ (11/ 254 - 255) من طريق أبي القاسم عُمَر بن مُحمَّد بن عبد الله التِّرمِذِيِّ، حدَّثَنا عبَّاسٌ الشِّكْلِيُّ، حدَّثَنا الحَسَن بن
عَرَفَة، حدَّثَنا أبو مُعاوِية، عن الأعمش، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بَكرٍ: "يا أبا بَكرٍ! أَلا أُبشِّرُك؟ "، قال:"بلى، يا رسُول الله! "، قال:"إنَّ الله يتجَلَّى للخلائقِ عامَّةً، ولك خاصَّةً".
ثُمَّ رواه من طريق أبي القاسم هذا، عن خاله أحمد بن مُحمَّد بن عبيد الله، ثنا الحَسَن بن عَرَفة بهذا.
قال الخطيبُ عن ابن أبي الفوارس: "أبو القَاسِم التِّرمذِيُّ فيه نَظَرٌ"، واتَّهَمه ابنُ الجَوزِيِّ بوضع الحديثِ.
• قلتُ: فهذا كما ترى، ساقطٌ عن حدِّ الاعتبار، فَضلًا عن الاحتجاج به.
وله شواهدُ عن أنَسٍ، وأبي هُريرَة، والحَسَن بن عليٍّ، وعائشة رضي الله عنهم، وكُلُّ طُرُقِها لا تَخلُو من كذَّابٍ، أو مُتَّهَمٍ، أو مَتروكٍ، فلا نُسَوِّد وَجه القِرطَاسِ بذكرِها.
(تنبيهٌ)
حاوَلَ الشَّيخُ المُعلِّمِيُّ رحمه الله أن يَجِدَ مَخرَجًا لكَلِمة أبي نُعيمٍ هذه، فقال في تعليقه على "الفوائد المَجمُوعة" (ص 330) للشَّوكانيِّ:"أراد - يعني: أبا نُعيمٍ - أنه ثابتٌ في كِتابِه، ونَحو ذلك، فأمَّا الثُّبُوت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا" انتهى.
فهذا تأويلٌ مُستَكرَهٌ لكلام أبي نُعيمٍ، والصَّواب أنَّ أبا نُعيمٍ قَصَد تقويةَ الحديث بذلك، بدليل قوله:"رُواتُهُ أعلامٌ"، وهذه عِبارةٌ دارجةٌ على ألسنة العُلماء، يَقصِدُون بها تصحيحَ الحديث. وقد أَطلَق أبو نُعيمٍ هذا الحُكمَ على أحاديثَ صحيحةٍ، رواها الشَّيخان، وغيرُهما. والله أعلم.
311 -
سألني سائلٌ، فقال: قرأتُ في تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرَّازِيِّ، في أثناء تفسيره لسُورة يُوسُف، قولَه:"واعلم! أنَّ بعض الحَشْويَّة رَوَى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: "ما كَذَبَ إبراهيمُ عليه السلام إلَّا ثلاثَ كِذباتٍ"، فقلتُ: "الأَوْلَى أن لا نَقبَل مِثل هذه الأخبار"، فقال على طريق الاستنكار: "فإن لم تَقبلْهُ، لَزِمَنَا تكذيبُ الرُّوَاة؟ "، فقلتُ له: "يا مسكينُ! إن قَبِلنَاه لَزِمَنا الحُكمُ بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وإن رَدَدنَاه لزمنا الحُكمُ بتكذيب الرُّواة، ولا شكَّ أن صون إبراهيمَ عليه السلام عن الكَذِب أَولَى من صَونِ طائفةٍ من المجاهيل عن الكَذِب" انتهى كلامُ الفخر الرَّازيِّ.
وسؤالي: هل ما قاله الفخرُ صحيحٌ؟ مع أنَّني أعلمُ أنَّ الحديث صحيحٌ، وهو في البُخاريِّ على ما أذكر.
• قلتُ: اعلم أيُّها السَّائل، أيَّدك الله، أنَّ الجواب من وُجُوهٍ:
* * الوجهُ الأوَّل ..
أنَّهُ من المُتَّفَق عليه عند سائر العُقَلاء، أنَّه يُرجَع في كُلِّ علمٍ إلى أهله، ويُقضَى لَهُم على غيرِهم، فيُقضَى للمُحدِّثين في الكلام على الأحاديثِ،
تصحيحًا وتضعيفًا، ويُقضَى للفُقهاء في الفقه، وللنُّحاة في النَّحو، وهكذا. فإذا علمنا ذلك، فيَنبَغِي أن لا يُقبَل كلامُ الفخر الرَّازِيِّ في الحُكمِ على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، لأنَّهُ مُزْجَى البِضاعة في الحديث، تامُّ الفقر في هذا الباب. وقد قضَى الرَّجلُ حياتَه في مُحارَبة السُّنَنَ، ووضعِ الأُصول الفاسِدَة لردِّها، وقد اعتَرَف في آخر حياتِه بنَدَمِه على عُمرِه الذي أنفقه في هذا الخَطَل.
قال الذَّهَبيُّ في "سير النُّبلاء"(21/ 501): "وقد بَدَت مِنهُ في تواليفه بلايا، وعظائمُ، وسحرٌ، وانحرافاتٌ عن السُّنَّة، واللهُ يعفو عنه، فإنَّهُ تُوُفِّي على طريقةٍ حميدةٍ، والله يتولَّى السَّرائر".
* * الوجه الثَّاني ..
أنَّ الحديثَ صحيحٌ، لا ريب فيه.
وقد وَرَد عن أبي هُريرَة، وأنَس بن مالكٍ، وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وغيرِهِم.
* أمَّا حديث أبي هُريرَة ..
فيرويه عنه اثنان:
أوَّلهما: الأعرج عنه مرفُوعًا: "لَم يَكذِب إبراهيمُ إلَّا ثلاث كِذباتٍ: قولُه حين دُعِي إلى آلهتهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقولُه:{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقولُه لسارَّة: إنَّها أُختِي، - قال: - ودَخَل إبراهيمُ قريةً فيها مَلِكٌ من الملوك - أو: جبَّارٌ من الجبابرة -، فقيل: دخل إبراهيمُ اللَّيلة بامرأةٍ مِن أحسن النَّاس. - قال: - فأرسَلَ إليه المَلِك - أو:
الجبَّارُ -: من هذه مَعَك؟ قال: أُختِي. قال: أَرسِل بها. - قال: - فأرسَلَ بها إليه، وقال لها: لا تُكَذِّبي قولي؛ فإنِّي قد أخبرتُهُ أنَّك أُختِي؛ إِنْ على الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك. - قال: - فلما دَخَلَت إليه، قام إليها، - قال: - فأَقبَلَت توضَّأ وتُصلِّي، وتقولُ: اللَّهُمَّ! إِنْ كُنتَ تعلمُ أَنِّي آمنتُ بك وبرسُولِك، وأحصنتُ فرجي إلَّا على زوجي، فلا تُسَلِّط عليَّ الكافرَ. - قال: - فغُطَّ، حتَّى ركض برجلِه، - قال أبو الزِّناد: قال أبو سَلَمة بن عبد الرَّحمن، عن أبي هُريرَة، أنَّها قالت: اللَّهُمَّ! إنَّه إن يَمُت، يُقَل: هي قَتَلَتهُ، قال: - فأُرسِلَ، ثُمَّ قام إليها، فقامت توضَّأُ، وتُصَلِّي، - ثُمَّ حدث هذا ثلاث مرَّاتٍ -، فقال في الثَّالِثة أو الرَّابعة: ما أَرسَلتُم إليَّ إلَّا شيطانًا! أَرجِعُوها إلى إبراهيم، وأعطُوهَا هاجرَ. - قال: - فرَجَعَت، فقالت لإبراهيم: أَشَعَرتَ أنَّ الله تعالى ردَّ كيد الكَافِر، وأَخدَمَ وليدةً".
أخرَجَهُ أحمد (9341) قال: حدَّثَنا عليُّ بن حفصٍ، عن وَرْقَاء، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ في "البيوع"(4/ 410 - 411)، وفي "الهِبَة"(5/ 246)، وفي "الإكراه" (12/ 321) قال: حدَّثَنا أبو اليَمان، أخبَرَنا شُعيب بن أبي حمزة، ثنا أبو الزِّناد بهذا الإسناد.
وهو مُختصَرٌ في الموضع الثَّاني والثَّالث، واقتَصَر في الموضع الأوَّل على قِصَّة سارَّة.
وأخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "المناقب"(5/ 98 - الكُبرَى) عن عليِّ بن عيَّاشٍ، نا شُعيب بن أبي حمزة بهذا الإسناد.
وأخرجه التِّرمِذِيُّ (3166)، عن مُحمَّد بن إسحاق، عن أبي الزِّناد بهذا، دُون قِصَّة سارَّة.
ثانيهما: مُحمَّدُ بن سيرين، عن أبي هريرة.
ويرويه عن ابن سيرين ثلاثةٌ:
1 -
أيُّوب السَّختِيَانِيُّ، عن ابن سِيرِين، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"لَم يَكذِب إبراهيمُ النَّبيُّ عليه السلام قطُّ إلَّا ثلاث كِذبات، ثِنتَين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وواحدةٌ في شأن سارَّة، فإنَّه قَدِم أرضَ جبَّارٍ، ومعه سارَّةُ، وكانت أحسَن النَّاس. . ."، وساق الحديث، بنحو حديث الأعرج.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "النِّكاح"(9/ 126) قال: حدَّثَنا سعيدُ بنُ تَلِيدٍ ..
ومُسلِمٌ في "الفضائل"(2371/ 154) قال: حدَّثَني أبو الطَّاهر، قالا: ثنا عبدُ الله بن وهبٍ، قال: أخبَرَني جريرُ بن حازمٍ، عن أيُّوب السَّختِيَانِيِّ، عن ابن سِيرِين بهذا.
واللَّفظ لمُسلِمٍ، وأورده البُخاريُّ مختصَرًا، وأحال على حديث حمَّاد بن زيدٍ الآتي.
ورواه حمَّادُ بن زيدٍ، عن أيُّوب السَّختِيَانِيِّ بسَنَده سواء، لكنه أوقَفَهُ على أبي هُريرة ولم يَذكُر فيه رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "النِّكاح"(9/ 126)، والبَيهَقِيُّ (7/ 366) عن سُليمان بن حربٍ ..
والبُخاريُّ أيضًا في "أحاديث الأنبياء"(6/ 388) قال: حدَّثَنا مُحمَّد
ابن محبوبٍ، كلاهما عن حمَّاد بن زيدٍ، عن أيُّوب بهذا الإسناد.
وحمَّادُ بنُ زيدٍ من أثبت النَّاس في أيُّوب، ورواية جَرِير بن حازمٍ المرفُوعةُ صحيحةٌ أيضًا؛ لأنَّ مُحمَّد بن سيرين كان يُوقِف كثيرًا مِن حديثِه، مع كونه مرفُوعًا، وهذا معرُوفٌ عنه، فكأنَّ ابن سيرين كان يَرفَعُه، ثم لا يَنشَطُ، فيوقِفُه، فتلقَّاه عنه أيُّوب على الوَجهَين.
فإن قُلتَ: "فإنَّ جرير بن حازمٍ قد تَكَلَّم فيه ابنُ حِبَّان، وقال: "كان يُخطِئ؛ لأنَّه كان يُحدِّث من حِفظِه"، فلعلَّه أخطأ في هذا الحديث ورَفَعه، وقد خالَفَهُ حمَّاد بن زيدٍ، وهو أثبت منه، فأوقفَه؟ ".
• قلتُ: أمَّا جرير بن حازمٍ فقد وثَّقَه ابن مَعِينٍ، والعَجلِيُّ، وقال أبو حاتمٍ:"صدوقٌ"، وقال النَّسَائِيُّ:"لا بأس به"، وقال أبو حاتمٍ:"تغيَّر قبل موته بسَنَةٍ"، ولكنَّ هذا التَّغيُّرَ لا يضرُّه، فقد قال عبدُ الرَّحمن بن مَهدِيٍّ:"اختَلَط، وكان له أولادٌ أصحابُ حديثٍ، فلمَّا أحسُّوا ذلك منه، حَجَبُوه، فلم يَسمَع منه أحدٌ شيئًا حال اختلاطه"، وما ذَكَرَه ابن حِبَّان فمُلازِمٌ لكثيرٍ من الثِّقات الأثبات، وأنَّهُم كانوا يُخطِئون في بعض ما رَوَوْه، ولا يَضُرُّهم مثلُ هذا، ولذلك قال الذَّهَبيُّ:"اغتُفِرَت أوهامُه في سِعَة ما رَوَى"، واختيارُ الشَّيخين لحديثٍ من روايتِه دالٌّ على أنَّه لم يَهِم فيه.
وممَّا يدلُّ على أنَّ الحديث مرفوعٌ مِن رواية ابن سِيرِين، عن أبي هُريرة، أنَّ:
2 -
هشام بن حسَّان، وهو من أثبت النَّاس في ابن سيرين، قد رواه
عنه، عن أبي هُريرة مرفوعًا.
فأخرَجَهُ أبو داوُد (2212) عن عبد الوهَّاب الثَّقَفيِّ ..
والنَّسَائِيُّ (5/ 98 - الكُبرَى) عن أبي أُسامة حمَّاد بن أُسامَة ..
وابنُ حِبَّان (5737) عن النَّضر بن شُميلٍ، ثلاثتهم عن هشام بن حسَّان، عن ابن سِيرِين، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"إن إبراهيم لم يَكذِب إلَّا في ثلاثٍ: ثِنتَين في ذات الله. . ."، وساق الحديث.
وخالَف هؤلاء الثَّلاثةَ: مَخلَدُ بن الحُسَين، فرواه عن هشام بن حسَّان بهذا الإسناد، إلَّا أنَّه قال:"كُلُّهنَّ في الله"، يعني: الكِذبات الثَّلاثة.
أخرَجَه أبو يَعلَى (6039) قال: حدَّثَنا مُسلِمُ بنُ أبي مُسلِمٍ الجَرمِيُّ، ثنا مَخلَد بن الحُسين بهذا.
وهذه روايةٌ شاذَّةٌ، أو مُنكَرَةٌ، والصَّواب ما اتَّفَق عليه الثِّقاتُ أنَّ ثنتين من هذه الثَّلاث كُنَّ في الله عز وجل.
ولَيسَت عُهدةُ الوَهَم على مَخلَد بن الحُسين، فإنَّه ثقةٌ عاقلٌ كَيِّسٌ، وكان هشامُ بن حسَّان زوجَ أُمِّه، ولكنْ الشأنُ في الرَّاوي عنه، وهو شيخ أبي يَعلَى، فقد قال ابنُ حِبَّان:"رُبَّما أخطأ"، وقال الأزديُّ:"حدَّث بأحاديث يُتابَعُ عليها"، وقال البَيهَقِيُّ:"غيرُ قويٍّ"، وقد وثَّقه الخطيبُ، ولو وَجَدنَا له مُتابِعًا لأَمكَن حملُ روايتِه على معنًى مقبولٍ.
ذكرتُهُ في "تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النَّظَر في كُتب الأماجد"(2003)، لا يتَّسِع المجالُ هنا لذِكرِه.
3 -
أمَّا الرَّاوي الثَّالث الذي رواه عن ابن سيرين، فهو عبد الله بن عَونٍ ..
فأخرَجَ هذه الرواية النَّسَائِيُّ (5/ 98) من طريق النَّضر بن شُمَيلٍ، عن عبد الله بن عَونٍ، عن ابن سِيرِين، عن أبي هُريرَة فذَكَرَه موقُوفًا.
ولا تَخَالُفَ بين رِوايته ورِواية الرَّفع، لما قدَّمنا أنَّ ابن سِيرِين كان يَرفَعُه ويُوقِفُه، وليست هذه علَّةٌ تَقدَحُ في الرِّواية.
فهذا ما يتَعَلَّق بحديث أبي هُريرة، وهو صحيحٌ لا ريب في ذلك، وقد اتَّفق عليه الشَّيخان، من رِواية ابن سيرين عنه.
* أمَّا حديثُ أنَسٍ رضي الله عنه ..
فأخرَجَهُ النَّسَائيُّ في "التَّفسير"(11433 - الكُبرَى) قال: "أخبَرَنا الرَّبيع بن مُحمَّد بن عيسى، ثنا آدمُ - هو ابنُ أبي إِياسٍ -، ثنا شَيبانُ بن عبد الرَّحمن أبو مُعاوِية، ثنا قتادة، عن أنَسٍ مرفُوعًا: "يَجمَع الله المُؤمِنِين يوم القيامة، - فذَكَر حديث الشَّفاعة، وفيه: - فيأتُون إبراهيم، فيَقُول: إنِّي لست هُنَاكُم. ويَذكُرُ كِذباتِهِ الثَّلاث: قولَهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقولَه: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقولَه لسارَّة حين أتَى على الجبَّار: أَخبِرِي أنِّي أخوك، فإِنِّي سأُخبرُ أنا أنَّكِ أُختِي؛ فإنَّا أَخَوَان في كتاب الله، ليس في الأرض مُؤمِنٌ ولا مُؤمِنَةٌ غيرُنا. . ." الحديث.
وإسنادُهُ قويٌّ، والرَّبيع بنُ مُحمَّد، قال تلميذُه النَّسَائِيُّ:"لا بأس به"، وبقيَّةُ رجال الإسناد ثقاتٌ معروفُون.
* وأمَّا حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه مرفوعًا، فذَكَرَ حديث الشَّفاعة، وفيه:"فيأتون إبراهيم. . ."، فيذكره بنحو حديث أنَسٍ الفائت.
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (3148) قال: حدَّثَنا ابنُ أبي عُمَر ..
وأبو يَعلَى (1040) قال: حدَّثَنا عبدُ الأعلى بن حمَّادٍ النَّرْسِيُّ، قالا: ثنا سُفيان بن عُيَينة، عن عليِّ بن زيد بن جُدعَان، عن أبي نَضرَة، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا.
وقد اختُلِف في إسناده ..
فرواه حمَّادُ بن سَلَمة، عن عليِّ بن زيدٍ، عن أبي نضرة، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا، فساق حديث الشفاعة بطوله.
أخرَجَه أحمد (1/ 281 - 282) قال: حدَّثَنا عفَّان بن مُسلِمٍ ..
وأيضًا (1/ 295 - 296) قال: حدَّثَنا حَسَن بن مُوسَى ..
وأبو يَعلَى (2328)، والبَيهَقِيُّ في "الدلائل"(5/ 481 - 483) عن هُدبَة بن خالدٍ ..
والبَيهَقِيُّ أيضًا، عن أبي داوُد الطَّيَالِسِيِّ، قال أربعتهم: ثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن عليِّ بن زيدٍ بهذا الإسناد.
فجعله من: "مُسنَد ابن عبَّاسٍ".
وعليُّ بن زيد بن جُدعان ضعيفُ الحديث.
والحديث عندي من مُسنَد ابن عبَّاسٍ أشبَه.
ورِواية حمَّاد بن سَلَمة عن عليِّ بن زيدٍ مُتماسِكةٌ، كما يُشِير إلى ذلك قولُ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ، أنَّ حمَّاد بن سَلَمة كان أعرَفَ بحديث عليِّ بن زيدٍ مِن غيرِه، وهذا لا يَعنِي تصحيحَ حدييه كما لا يَخفَى. واللهُ أعلَمُ.
• قلتُ: فقد ظَهَر لك أيُّها المُسترشِدُ أنَّ الحديث صحيحٌ، على طريقة
أهل الحديث، الذين هم فُرسان هذا المَيْدان، وإليهم فيه المَرجِع والشَّأن.
* * الوجه الثالث ..
أن العُلماء الذين مرَّ عليهم هذا الحديثُ، قبل أن يُخلَق الفخرُ الرَّازيُّ، فسَّرُوه تفسيرًا مُستَقِيمًا، ولم يَنصِبُوا التَّعارُضَ فيه بين صِدق إبراهيم عليه السلام وصِدقِ الرُّواة.
فقال الحافظُ في "الفتح"(6/ 392): "قال ابنُ عَقِيلٍ: دِلالَةُ العقل تَصرِفُ ظاهرَ إطلاق الكَذِب على إبراهيم، وذلك أنَّ العقل قَطَع بأنَّ الرَّسُول ينبغي أن يكُون موثُوقًا به، ليُعلَم صدقُ ما جاء به عن الله عز وجل، ولا ثقةٌ مع تجويز الكَذِب عليه، فكيف مع وُجُود الكَذِب منه، وإنَّما أُطلِق ذلك عليه لكَونِه بصورة الكَذِب عند السَّامع. وعلى تقديره، فلم يَصدُر من إبراهيم عليه السلام إلَّا في حال شِدَّة الخوف، لعُلُوِّ مقامه، وإلَّا فالكَذِبُ المحضُ في مِثل تلك المقاماتِ يجوزُ، وقد يَجِب تحمُّل أخفِّ الضَّرَرين دفعًا لأعظمِهِمَا، وأمَّا تسميتُهُ إيَّاها كِذباتٍ، فلا يُرِيد أنَّها تُذَمُّ، فإنَّ الكَذِب وإن كان قبيحًا مُخِلًّا، لكنَّهُ قد يَحسُنُ في مواضع، وهذا منها" انتهى، وهذا ما يُسمَّى عند العلماء بـ "المعاريض"، وهي مُباحَةٌ.
وقد حاول الفَخرُ الرَّازِيُّ عِند تفسيره لقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، أن يتخلَّص من دِلالة الآية على معنى التَّعريض، بوجُوهٍ ضعيفةٍ، وقد قال في (22/ 186)، وهو يَذكُر هذه الكِذبات:"وإذا أمكن حملُ الكلام على ظَاهِره، من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء عليهم السلام، فحينئذٍ لا يَحكُم بنِسبة الكَذِب إليهم إلَّا زِندِيقٌ"
انتهَى، ونحن نقولُ له: المَسأَلَةُ لفظيةٌ، لا حُكميَّةٌ، ولا يُوجَد مُسلِمٌ، بحمد الله، يَجرُؤُ على تكذيب نبيٍّ، ولم يَقُل بهذا واحدٌ قطُّ، فإذا كانت المسألةُ لفظيةً، فما الذي حَمَل الفخرَ الرَّازيَّ على ردِّ الحديث بمثل هذه الشَّقَاشِق؟!
* * الوجهُ الرابع ..
قولُهُ: ". . . أولى من صَوْن طائفةٍ من المجاهيل. . ."، والمجهولُ عند أهل الحديث أقسامٌ منها: مجهولُ العين، وهو من لم يَروِ عنه إلَّا واحدٌ، ومنها: مجهولُ الحال، وهو من لم يَأتِ فيه توثيقٌ مُعتَبَر. فإذا عَلِمتَ ذلك؛ فقد رَوَى هذا الحديثَ: أبو هُريرَة، ومُحمَّد بن سيرين، والأعرج، وأبو الزِّناد، وشُعيب بن أبي حمزة، ومُحمَّد بن إسحاق، ووَرْقَاءُ بن عُمَر، وأيُّوب السَّختِيَانِيُّ، وهشام بن حسَّان، وعبدُ الله بنُ عَوْنٍ، وحمَّاد بن زيدٍ، وجرير بن حازمٍ، وغيرُهم ممَّن ذَكَرنا، فمَن مِن هؤلاء يُمكِن إِطلاق اسم الجهالة عليه، وهم أئمةٌ ثقاتٌ معرُوفُون؟! فاللَّهُمَّ! غَفْرًا.
وللفخر الرَّازيِّ مواضعُ في "تفسيره"، أَنكَر فيها أحاديثَ صحيحةً، تعرَّضنا لبعضِها في "قوادِمِ البازِيِّ المُنقَضِّ على تفسير الفَخر الرَّازِيِّ".
والحمدُ لله تعالى.
312 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن استعمَل رَجُلًا على عَشَرَةٍ، وهو يَعلَم أنَّ فيهم مَن هو أفضل منه، فقد غشَّ اللهَ، ورسُولَه، وجماعةَ المُسلِمين".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
وقد وَرَد من حديثٌ حُذيفةَ بن اليَمَان رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى في "المُسنَد" - كما في "المَطالب العالية"(2153) - قال: حدَّثَنا خالد بن مُحمَّدٍ، ثنا عبد الله بن بكرٍ، ثنا خَلَف بن خالدٍ، عن إبراهيم بن سالمٍ، عن عَمْرو بن ضِرارٍ، عن حُذيفة مرفُوعًا.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، أو واهٍ؛ وخالد بن مُحمَّدٍ أبو وائلٍ ذَكَرَه ابن حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 226)، وقال:"حدَّثَنا عنه أحمد بنُ عليِّ بن المُثَنَّى. يُغرِبُ".
وعبد الله بن بكرٍ السَّهْمِيُّ ثقةٌ حافظٌ.
وخَلَف بن خالدٍ أظنُّه المُترجَم في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ 372)، ويَروِي عن اللَّيث بن سعدٍ وطَبَقَته، قال أبو حاتمٍ:"شيخٌ".
ومن فوقه لم أعرِفهُ.
وله شاهدٌ مِن حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفُوعًا: "من استَعمَل رَجُلًا على عِصابةٍ، وفيهم من هو أرضَى لله مِنهُ، فقد خان الله ورسوله والمُؤمنين".
أخرَجَهُ ابن أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(1462)، ومُسَدَّدٌ في "مُسنَده" - كما في "المطالب العالية"(2156) -، والحاكم (4/ 92 - 93)، وابن عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 763)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(1/ 248)، ووكيعٌ في "أخبار القُضاة"(1/ 68) من طريق حُسين بن قيسٍ، عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا.
قال الحاكم: "صحيح الإسناد"!
وقال البُوْصِيرِيُّ في "الإتحاف": "إسنادُهُ حَسَنٌ"!
وليس كما قالا، بل الإسناد ضعيفٌ جدًّا؛ وحُسين بن قيسٍ الرَّحْبِيُّ تَرَكَهُ أحمد والنَّسَائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ. وضعَّفه ابنُ مَعِينٍ. وقال البُخَارِيُّ:"لا يُكتَب حديثُه". وقال الجُوْزْجَانِيُّ: "أحاديثُه مُنكَرةٌ جدًّا".
ونَقَل الزَّيلَعِيُّ في "نصب الرَّاية"(4/ 62) أنَّ الذَّهَبِيَّ تعقَّب الحاكمَ في هذا الحُكم، وقال:"حُسينُ بن قيسٍ ضعيفٌ"!
والصَّواب أنَّه ضعيفٌ جدًّا، لكنَّه لم يتفرَّد به.
فتابَعَهُ يزيد بن أبي حبيبٍ، فرواه عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا:"من استَعمَل عاملًا مِن المُسلمين، وهو يَعلَم أنَّ فيهم أولى بذلك منه، وأعلمَ بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه، فقد خان الله ورسوله وجميع المُسلِمين".
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ (10/ 118) عن الحاكم، قال: ثنا أبو جَعفَرٍ مُحمَّد بن مُحمَّد بن عبد الله البَغدَادِيُّ، ثنا يحيى بن عُثمان بن صالحٍ، ثنا أبي، ثنا ابن لَهِيعَة، ثنا يزيد بن أبي حبيبٍ بهذا الإسناد.
وشيخ الحاكم تَرجَمَه الخطيب (3/ 217)، وقال: "كان ثَبْتًا، صحيح
السَّمَاع، حَسَن الأصول"، وقال الذَّهَبِيُّ في "السِّير" (15/ 547): "الشَّيخ، المُسنِد، الثِّقة، مُحَدِّث سَمَرْقَندَ"، ثُمَّ نَقَل عن الحاكم، قال: "هو مُحَدِّث عصره بخُرَاسَانَ، وأكثرُ مشايخنا رِحلَةً، وأثبتُهم أُصولًا".
وبقيَّة الإسناد ثقاتٌ معروفون، إلَّا ابنَ لهيعة؛ فقد كان سيِّء الحفظ، وليس عُثمانُ بن صالحٍ مِن قُدَماء أصحابه.
وقد رواه خُصَيفُ بن عبد الرَّحمن، عن عِكرِمة، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا مُطوَّلًا، وفيه محَلُّ الشَّاهد.
أخرَجَهُ الخطيب في "تاريخ بغداد"(6/ 76) من طريق إبراهيم بن زيادٍ القُرَشِيِّ، عن خُصَيفٍ، عن عِكرمة بهذا.
وسَنَدُه ضعيفٌ جدًّا؛ وإبراهيمُ بنُ زيادٍ لا يُعرَف، كما قال ابن مَعِينٍ، وقال الخطيب:"في حديثه نُكرةٌ"، ومَن كان مجهولًا، ومع ذلك يَروِي المناكير فهو تالفٌ.
وخُصَيف بن عبد الرَّحمن اختَلَط بآخِرةٍ.
وله طريقٌ آخر عن ابن عبَّاس مرفُوعًا، وفيه:"ومن تولَّى مِن أُمراء المسلمين شيئًا، فاستَعمَل عليهم رَجُلًا، وهو يَعلَمُ أنَّ فيهم مَن هو أولى بذلك، وأعلمُ منه بكتاب الله وسُنَّة رسوله، فقد خان الله، ورسوله، وجميعَ المُؤمِنين. . ."، وساق كلامًا آخر.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11216) قال: حدَّثَنا ابن حنبلٍ - هو عبدُ الله بنُ أحمد -، ثنا مُحمَّد بن أبانَ الوَاسِطِيُّ، ثنا أبو شهابٍ، عن أبي مُحمَّدٍ الجَزَرِيِّ - وهو حمزةُ النَّصِيبِيُّ -، عن عَمْرو بن
دينارٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا.
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(5/ 212): "فيه أبو مُحمَّدٍ الجَزَرِيُّ حمزةُ ولم أعرفه، وبقيَّة رجاله رجال الصَّحيح".
كذا قال! وحمزة النَّصِيبِيُّ هذا أَحَد الهلكى؛ قال ابن عَدِيٍّ: "عامَّة ما يرويه موضوعٌ"، وقال ابن مَعِينٍ:"لا يُساوِي فَلسًا"، وقال البُخَارِيُّ:"مُنكَر الحديث"، وهذا يَعنِي أنَّه شديد الضَّعف، وتَرَكه الدَّارَقُطنِيُّ.
فالسَّنَد ساقطٌ.
فحاصل البَحثِ، أنَّ عامَّة أسانيده واهيةٌ، إلَّا طريقَ ابنِ لَهِيعَة، فهو ضعيفٌ، كما مرَّ بك.
واللهُ أعلمُ.
313 -
سألني سائلٌ، فقال: سمعتُ بعض الخُطَباء يوم الجُمُعة، يقول: إنَّ الذِّئب أتى راعيًا، فأخبره ببِعثَة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فهل ذلك صحيحٌ؟
• قلتُ: هذا الحديثُ صحيحٌ.
أخرَجَه أحمد (3/ 83 - 84) قال: حدَّثَنا يزيد بن هارُون ..
وعَبْد بن حُميدٍ في "المُنتخَب"(877)، والبزَّار (2431)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(15/ 480 - 481)، والعُقيليُّ في "الضُّعفاء"(3/ 477 - 478) عن مُسلِم بن إبراهيم ..
والحاكم (4/ 467 - 468) عن وكيع بن الجرَّاح ..
والبَيهَقِيُّ في "دلائل النُّبُوَّة"(6/ 41 - 42) عن عُبيد الله بن مُوسَى ..
وأبو نُعيمٍ في "الدَّلائل"(270) عن أبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ، وهُدبة بن خالدٍ، وأبي عُمَر الحَوْضِيِّ، وهُرَيمَ بنِ عُثمان، قالوا: ثنا القاسم بن الفَضل، عن أبي نَضرَة، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، قال: عدا الذِّئبُ على شاةٍ، فأخَذَهَا، فطَلَبَه الرَّاعي، فانتزَعَها منه، فأَقعَى الذِّئبُ على ذَنَبِه، وقال:"ألا تَتَّقِي الله! تَنزِع مِنِّي رزقًا ساقَهُ الله إليَّ؟ "، فقال:"يا عَجَبًا! ذئبٌ مُقْعٍ على ذَنَبه، يُكَلِّمُني بكلام الإِنس؟! "، فقال الذِّئبُ: "أَلَا أُخبِرُك بأعجب من ذلك؟ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بيثرب يُخبِر النَّاس بأنباء ما قد
سَبَق"، - قال: - فأَقبَل الرَّاعي، يسوقُ غَنمَهُ، حتَّى دخل المدينة، فزَوَاها إلى زاويةٍ مِن زواياها، ثُمَّ أتَى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبَرَه، فأمر رسُول الله صلى الله عليه وسلم فنُودِي: "الصَّلاة جامعةٌ"، ثُمَّ خَرَج، فقال للرَّاعي: "أَخبِرهم"، فأخبَرَهم، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَق! والذي نفسي بيَدِه! لا تَقُوم السَّاعة حتَّى تُكلِّم السِّباعُ الإنسَ، ويُكَلِّم الرَّجلَ عَذَبَةُ سَوْطِه، وشِراكُ نَعلِه، ويُخبِره فخذُهُ بما أحدث أهلُه بعده".
وأخرَجَه التِّرمِذِيُّ (2181) قال: حدَّثَنا سُفيان بن وكيعٍ ..
وابن أبي شَيبَة (15/ 167)، والحاكمُ (4/ 467) عن أحمد بن حنبل ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 377 - 378) عن أبي شُعيبٍ الواسطيِّ مُحمَّد بن يزيد، قالوا: ثنا وكيعٌ، ثنا القاسم بن الفضل بهذا الإسناد، بآخِرِه.
ثُمَّ رأيتُهُ عند ابن حِبَّان (6460) فرواه عن أبي يَعلَى، قال: حدَّثَنا هُدبة بن خالدٍ، نا القاسم بن الفَضل، ثنا الجُرَيرِيُّ، قال: حدَّثَنا أبو نَضرة، عن أبي سعيدٍ مرفُوعًا.
فجعَل: "الجُرَيرِيَّ" واسطةً بين "القاسم" و"أبي نضرة".
وهذه روايةٌ شاذَّةٌ؛ وقد رواه سائرُ أصحاب القاسم، فلَم يَذكُروا الجُرَيرِيَّ في إسناده، وتقدَّم أنَّ هُدبة بن خالدٍ يرويه مثلَ رواية الجماعة.
ورواها عنهُ هِشامُ بن عليٍّ السِّيرَافِيُّ، وقد ترجمه ابن حِبَّان (9/ 234)، وقال:"مُستَقِيم الحديث"، فإمَّا أن يَكُون وَهِمَ فيها أبو يَعلَى، أو هُدبة بن خالدٍ؛ وهُدبة مع ثِقَتِه، فقد ضعَّفه النَّسَائيُّ. واللهُ أعلَمُ ..
وقال التِّرمِذِيُّ بعد تخريجه للحديث: "وهذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نَعرِفُه إلَّا مِن حديث القاسمِ بنِ الفضل. والقاسمُ بنُ الفضل ثقةٌ مأمونٌ عند أهل الحديث، وثَّقَهُ يحيَى بن سعيدٍ القَطَّان، وعبدُ الرَّحمن بن مَهديٍّ" انتهَى.
وقال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط مُسلِمٍ".
وقال البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل": "هذا إسنادٌ صحيحٌ".
وهذا هو الصَّوَاب، وليس الحديثُ على شرط مُسلِمٍ، كما قال الحاكم، أو عَلَى شرط الصَّحيح، كما قال ابنُ كَثيرٍ في "البِداية والنِّهاية"(6/ 143)؛ لأنَّ مُسلِمًا رحمه الله لم يَروِ في "صحيحه" للقاسم بن الفضل، إلَّا عن شيخه شيبان بن فَرُّوخٍ، عن القَاسِم، فالصَّواب أنَّ الإسناد صحيحٌ بإطلاقٍ، وليس مُقيَّدًا بشرط مُسلِمٍ. واللهُ أعلَمُ.
ولا أَدرِي ما الذي حَمَل العُقَيليَّ على إيرادِه هذا الحديث في "الضُّعفاء"، فإنَّ الحِكاية التي أَورَدَها تُثبِت الحديثَ، ولا تُعلُّهُ.
فقد رَوَى مِن طريق مُسلِم بن إبراهيم، قال:"كُنتُ عند القاسم بن الفضل الحُدَّانِيِّ، فأتاه شُعبةُ، فسَأَلَه عن حديث أبي نَضرة، عن أبي سعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "بينا راعٍ يسوقُ غَنَمَهُ، عدا الذِّئبُ عليه. . ."، فقال له شُعبةُ: "لعلَّك سمعتَه من شهر بن حَوْشَبٍ؟ "، قال: "بلى! حدَّثَنا أبو نَضرَة، عن أبي سعيدٍ"، فما سَكَت حتَّى سكت شُعبة" انتهى.
فكأنَّ شُعبة جَادَله هذا، ولم يُسَلِّم له القاسمُ، حتَّى انقَطَعت حُجَّةُ شُعبة، أو مسألتُه، فحينئذٍ سَكَت القاسمُ.
فهذا يدلُّ على أنَّ شُعبة كان مُستَفهِمًا، لا مُعِلًّا، وقد أجابه القاسمُ بأنَّه سمعه من أبي نَضرة، فلا وَجهَ لإيراد الحديثِ، ولا روايته في "كتاب الضُّعفاء".
أمَّا رواية شهر بن حَوْشَبٍ ..
فقد أخرَجَها أحمدُ (3/ 88 - 89) قال: حدَّثَنا أبو اليَمَان، أخبَرَنا شُعيب بن أبي حمزة، حدَّثَني عبدُ الله بن أبي حُسَين، حدَّثَني شَهرٌ، أنَّ أبا سعيدٍ حدَّثَه مَرفُوعًا فذَكَر مثلَه.
ورَوَاهُ عبد الحَمِيد بن بَهرَامَ، قال: حدَّثَني شَهرُ بن حَوْشَبٍ، عن أبي سعيدٍ مرفُوعًا.
أخرَجَهُ أحمدُ (3/ 89) قال: حدَّثنا أبو النَّضر هاشِمُ بن القاسِم ..
والبَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(6/ 43) عن يُونُس بن بُكيرٍ، كلاهما عن عبد الحَمِيد بهذا.
ورواه البَيهَقِيُّ أيضًا (6/ 42 - 43) من طريق مَعقِل بن عبد الله، عن شهرٍ بهذا.
وشهرُ بن حَوْشَبٍ مُتكلَّمٌ فيه بكلامٍ كثيرٍ، وخُلاصَة الرَّأي عندي فيه أنَّهُ حَسَنُ الحديث، إلَّا إذا خالَفَه مَن هو أمكنُ منه، وهو هنا مُتابَعٌ مِن قِبَل أبي نَضرة، فهذا يدُلُّ على أنَّهُ حَفِظ.
والعلمُ عِند الله تعالَى.
314 -
سُئلتُ عن حديث: "إذا مُدِحَ المُؤمِن في وَجهِه، رَبَا الإيمانُ في قلبِه".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ الحاكم (3/ 597) قال: أخبَرَنا أبو جعفرٍ مُحمَّد بن عبد الله البَغدادِيُّ ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 1/ رقم 424)، قالا: ثنا مُحمَّد بن عَمْرو بن خالدٍ الحَرَّانِيُّ، حدَّثَني أبي، ثنا ابن لَهِيعَة، عن صالح بن أبي عَرِيبٍ، عن خلَّاد بن السَّائِب، قال: دَخَلتُ على أُسامة بن زيدٍ، فمَدَحَني في وَجهِي، فقال: إنَّه حَمَلني أن أَمدَحك في وجهِك أَنِّي سَمِعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مُدح المُؤمنُ. . ." الحديث.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، كما قال العِراقيُّ في "تخريج الإحياء"، وتَبِعَه العَجلُونِيُّ في "كشف الخفاء"(1/ 99).
وقال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(8/ 119): "فيه ابن لَهِيعة، وبقيَّة رجاله وُثِّقُوا"، وهو يُشِير بقوله:"وُثِّقُوا" إلى ضعف التَّوثيق الوارد في صالح بن أبي عَرِيبٍ، فلم يُوثِّقه إلَّا ابن حِبَّان، ولذلك قال ابن القَطَّان:"لا يُعرَفُ له حالٌ".
أما ابن لهيعة فالكلام فيه كَثيرٌ، خُلاصَتُه أنَّ مَن سَمِع قبل احتراق
كُتُبه، فروايته أمثلُ من رواية من سَمِع منه بعد احتراق كُتُبه، وعَمْرُو بن خالدٍ الحَرَّانِيُّ ليس من قُدَماء أصحابه.
ثُمَّ هذا المتنُ يُخالِف بعض الأحاديث الصَّحيحة، والتي نَهَى فيها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن مدح الرَّجل أخاه في وجهه.
فمن ذلك ما:
أخرَجَه البُخاريُّ في "صحيحه"(5/ 202، و 10/ 476)، وفي "الأدب المُفرَد"(333)، ومُسلِمٌ (300/ 35 - 36)، وأبو عَوَانة في "المُستخرَج" - كما في "إتحاف المَهَرة"(13/ 568) -، وأبو داوُد (4805)، والنَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(239)، وابن ماجَهْ (3744)، وأحمد (5/ 41، 46، 47) وغيرُهم من طريق عبد الرَّحمن بن أبي بكْرَةَ، عن أبيه، أنَّهُم ذَكَرُوا رجُلًا عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ:"يا رسُول الله! ما مِن رجُلٍ بعد رسُول الله أفضلُ منه في كذا"، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ويحك! قَطَعتَ عُنق أخيك"، مِرارًا يقول ذلك، قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم:"إِن كان أحدُكم مادحًا أخاه لا محالةَ، فليَقُل: أحسَبُ فُلانًا - إِن كان يَرَى أنَّه كذلك -، ولا أُزَكِّي على الله أحدًا، وحسِيبُه الله، أحسَبُه كذا وكذا".
وأخرَجَهُ البُخاريُّ (2663، 6060)، وفي "الأَدَب المُفرَد"(334)، ومُسلِمٌ (3001)، وأبو عَوَانة - كما في "الإتحاف"(10/ 86)، وأحمدُ (4/ 412) من حديث أبي مُوسَى الأشعريِّ، قال: سَمِع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجُلًا يُثنِي على رجلٍ، ويُطرِيه في المِدْحَةِ، فقال:"لقد أهلَكتُم - أو: قطعتم - ظَهرَ الرَّجل".
وأخرَجَ مُسلِمٌ (3002/ 69)، والبُخاريُّ في "الأدب المُفرَد"(339)، وأبو داوُد (4804)، والتِّرمِذِيُّ (2393)، وابن ماجَهْ (3742)، وأحمدُ (6/ 5)، والطَّيَالِسِيُّ (1158، 1159)، وابن أبي الدُّنيا في "الصَّمت"(594) وغيرُهم من حديث المِقداد بن الأَسوَد، قال:"أَمَرَنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا رَأَينَا المدَّاحين أن نَحثُو في وُجُوهِهم التُّراب".
وقد رَوَى هذا المَعنَى جماعةٌ من الصَّحابة، مِنهُم ابن عُمَر، وأبو هُريرَة، وأنَسٌ، وعبد الرَّحمن بن أزهرَ، ومِحجَنٌ الأَدرَعُ رضي الله عنهم.
ولو صحَّ هذا الحديثُ، لكان محمُولًا على من يُوثَق به، وأنَّ المَدحَ لا يُضِيرُه ولا يَغُرُّه، بل يُرجَى خيرُه ببيان فضله وتقدُّمه، كما حدث ذلك من مدح النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ، وعُمَر، وعُثمان، وعليٍّ وغيرِهِم رضي الله عنهم.
والله المُوفِّق، لا ربَّ سواه.
315 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن بَاتَ طاهرًا، بَاتَ في شِعَارِه مَلَكٌ، فلا يَستَيقِظُ من اللَّيل إلَّا قال المَلَك: اللَّهُمَّ! اغفِر لعبدِك، كمَا باتَ طاهِرًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ البَزَّار (288 - زوائد) قال: حدَّثَنا وهب بن يَحيَى بن زِمَامَ القَيسِيُّ، ثنا مَيمُون بن زيدٍ، ثنا الحَسَن بن ذكوان، عن سُليمان الأحولِ، عن عطاءٍ، عن ابن عُمَر مرفوعًا فذَكَره.
ومَيمُون بن زيدٍ ليَّنَه أبو حاتمٍ.
ولكن تابَعَهُ ابنُ المُبارَك، فرواه عن الحَسَن بن ذكوان بهذا الإسناد.
أخرَجَه ابنُ حِبَّان (1051) من طريق أبي عاصمٍ أحمد بن جَوَّاسٍ الحنَفِيِّ، حدَّثَنا ابن المُبارَك بهذا.
وأحمدُ بنُ جوَّاسٍ أحَدُ شُيوخ مُسلِمٍ وأبي داوُد. وثَّقَهُ مُطَيَّنٌ وابن حِبَّان وأبو عليٍّ الغَسَّانِيُّ ومَسلَمَةُ بن قاسمٍ. وروى عنه مُحمَّد بن مُسلِمٍ بن وَارَة، وأحسن الثَّنَاء عليه.
وقد خالفه الحُسين بن الحسن المَرْوَزِيُّ - أَحَدُ الثِّقات، ومن أصحاب ابن المُبارَك -، فرَوَى هذا الحديث في "كتاب زُهد ابن المُبارَك" (1244) قال: أخبَرَنا ابن المُبارَك، أخبَرَنا الحَسَن بن ذَكوَان، عن سُليمان الأحول، عن عطاءٍ، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
وأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 730) من طريق سُويد بن نصرٍ، والحَسَن بن عيسى بن مَاسَرجَسَ، قالا: ثنا ابن المُبارَك بهذا الإسناد.
وكذلك أخرَجَه الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد" - كما في "أطراف الغرائب"(5/ 234) -، عن ابن المُبارَك بمثله.
فجعله هؤُلاء عن ابن المُبارَك، من مُسنَد أبي هُريرَة، بدل ابن عُمَر، وليس على واحدٍ من الرُّواة عن ابن المُبارَك عُهدةُ هذا الخلاف، ويدلُّ على ذلك أنَّ أحمد بن الجوَّاسِ رواه عن ابن المُبارَك، فجعله من مُسنَد أبي هُريرَة أيضًا، كما عند ابن عَدِيٍّ.
وقد قال الدَّارَقُطنِيُّ: "غريبٌ من حديث سُليمانَ الأحول، خالِ ابن أبي نَجِيحٍ عنه، تفرَّد به الحَسَن بن ذكوان، وعنه عبد الله بن المُبارَك".
وإنَّما تقع عُهدةُ هذا الاختلاف على الحَسَن بن ذكوان؛ فقد ضعَّفه أكثرُ النُّقَّاد: أحمدُ، وابن مَعِينٍ، وأبو حاتمٍ، والنَّسَائِيُّ، وابن المَدِينِيِّ، والدَّارَقُطنِيُّ، ومشَّاهُ ابنُ عَدِيٍّ. وكان يُدَلِّس، ولم يُصرِّح بتحديثٍ، ولذلك لم يُصِب الهَيثَمِيُّ، إذْ قال في "مَجمَع الزَّوائد" (1/ 226):"أرجو أنَّه حَسَن الإسناد"، وقد رأيتَ ما فيه، لاسيَّما وقد وقَعَ اختلافٌ فيه على عطاء بن أبي رباحٍ.
فقد رواه سُليمانُ الأحولُ عنه مرَّةً عن ابن عُمَر، ومرَّةً عن أبي هُريرَة ..
ورواه العبَّاسُ بن عُتبَة، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا: "طَهِّرُوا هذه الأجسادَ، طهَّرَكُم اللهُ! فإنَّه ليس من عبدٍ يَبِيت طاهرًا، إلَّا بات معه في شِعاره ملَكٌ، لا يَنقَلِبُ ساعةً من اللَّيل إلَّا قال:
اللَّهُم اغفر لعبدك، فإنَّه بات طاهرًا".
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5087) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن العبَّاس المُؤدِّب، قال: نا عاصم بن عليٍّ، قال: نا إسماعيل بن عيَّاشٍ، عن العبَّاس بن عُتبة، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا.
وقال: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عطاء بن أبي رباحٍ إلَّا العبَّاس بن عُتبة، تفرَّد به إسماعيل بن عيَّاشٍ".
وجوَّد إسنادَه المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(868)، والحافظ في "الفتح"(11/ 109)، وحسَّنَه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(10/ 128)! كذا قالوا، وقد علِمتَ ممَّا مضى من التَّخريج أنَّ هذا أحدُ أوجه الاختلاف في الحديث.
والعبَّاس بن عُتبة ذَكَرَه الذَّهبِيُّ في "الميزان"(2/ 384)، وقال:"عن عطاءٍ، لا يصحُّ حديثُه، وعنه إسماعيل بن عيَّاشٍ"، وذَكَر هذا الحديثَ، فظاهرٌ من هذه التَّرجمة أنَّه مجهولٌ، فكيف يُجوَّد إسنادُ حديثِه، مع ما فيه من الاختلاف؟!
والصَّوابُ أنَّه حديثٌ ضعيفٌ كما قدَّمتُ.
واللهُ أعلمُ.
316 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ حافَّتَي نهر الكَوثَر من قِبابِ اللُّؤْلُؤِ المُجوَّف".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "كتاب الرِّقاق"(11/ 464) قال: حدَّثنا أبو الوليد، حدَّثَنا همَّامٌ، عن قتادة، عن أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ قال البُخاريُّ: وحدَّثَنا هُدبةُ بن خالدٍ، حدَّثَنا همَّامٌ، حدَّثنا قتادة، حدَّثَنا أنَسُ بن مالكٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"بَينَما أنا أسيرُ في الجنَّة، إذ أنا بنهرٍ، حافَّتاه الدُّرُّ المُجوَّفُ، قلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكَوثَر الذي أعطاك ربُّك. فإذا طيبُهُ - أو: طينُهُ - مِسكٌ أَذفَرُ"، شكَّ هُدْبةُ.
• قلتُ: وشكُّهُ: هل هو بالباء المُوحَّدة من "الطِّيْبِ"، أو هو بالنُّون من "الطِّين"؟ والصَّوابُ الرَّاجح أنَّه بالنُّون.
يدلُّ على ذلك أنَّ بقيَّة بن مَخلَدٍ رواه في "جُزء ما رُوِي في الحَوْض والكوثر"(36) قال: حدَّثَنا هُدْبةُ بن خالدٍ، نا همَّام بسَنَده سواء، وفيه:"فضَرَب الملَكُ بيده، فإذا طينتُهُ مسكٌ أذفرُ".
وأخرَجَهُ أبو يَعلَى (2876) ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(117) من طريق الحَسَن بن الطَّيِّب اللَّخمِيِّ، قالا: ثنا هُدبةُ بنُ خالدٍ بهذا الإسناد، بالنُّون.
فهذا يدلُّ على أن هُدبةَ كان يشكُّ أحيانًا.
وقد رواه البُخاريُّ عن شيخه أبي الوليد، عن همَّامٍ، فلم يشكَّ.
وأخرَجَهُ أحمدُ (3/ 191، 289) قال: حدَّثَنا بهز بن أَسَد، وعفَّان بن مُسلمٍ، قالا: ثنا همَّامٌ بهذا الإسناد، فقالا:"طينُهُ" بالنون.
وأخرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ (1992) قال: حدَّثَنا همَّامٌ، عن قتادة بهذا، وفيه:"فأدخلتُ يدي، فإذا ترابُهُ مسكٌ أذفرُ"، وهذا يؤكِّد أنَّه بالنُّون.
وأخرجه الخِلَعِيُّ في "الخِلَعِيَّات"(ق 138/ 1) من طريق عفَّان، ثنا همَّامٌ مثلَه.
وأخرَجَه ابن أبي الدُّنيا في "صِفَة الجَنَّة"(76)، عن عبد الصَّمَد بن عبد الوارث، ثنا همَّامٌ بهذا، وعنده:"فَضَرَبَ جِبريلُ بيده، فإذا طينُهُ مِسكٌ أذفَر".
وأخرَجَهُ أحمدُ (3/ 231 - 232)، وأبو مُحمَّدٍ بنُ فارسٍ في "جزءٍ من حديثه"(ق 353/ 1)، وابن بِشرَانَ في "الأمالي"(ج 10/ ق 219/ 2) عن عبد الوهَّاب بن عطاءٍ الخفَّاف ..
وابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(30/ 323)، وابن حِبَّان (6474)، والآجُرِّيُّ في "الشَّريعة"(ص 395 - 396) عن يزيد بن زُريعٍ ..
والبزَّارُ (ج 2/ ق 87/ 2) عن رَوح بن عُبادَةَ، كلهم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنَسٍ مرفُوعًا، وفيه:"وضرب - يعني: الملَك - بيده، فأخرَج من طينِه المسكَ".
وسنده صحيحٌ، ويزيد بن زُريعٍ، وعبد الوهَّاب، من قُدماء أصحاب
سعيد بن أبي عَرُوبة.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ (8/ 731)، وأبو داوُد (4748)، والنَّسائِيُّ في "التَّفسير"(11533 - الكُبرى)، والتِّرمذِيُّ (3359، 3360)، وعَبدُ بن حُميدٍ (1189)، وأحمدُ (3/ 164، 207)، وأبُو يَعلَى (3186)، وعبد الرَّزَّاق في "تفسيرِه"(2/ 401)، وابن جَريرٍ (30/ 323 - 324)، والطَّبَرانِيُّ في "مُسنَد الشَّامِيِّين"(2579)، وفي "الأوسَط"(2885)، والبزَّار (ج 2/ ق 87/ 2)، والبَيهَقِيُّ في "البَعث"(115، 118) من طُرُقٍ عن قتادة، عن أنَسٍ، قال: لمَّا عُرِج بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماء قال: "أَتيتُ على حافَّة نهرٍ حافَّتاه قِبابُ اللؤلُؤ مُجوَّفٌ، فقلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ". لفظُ البُخارِيِّ.
ورواه عن قتادةَ: "مَعمَرُ بن راشدٍ، وشيبانُ بن عبد الرَّحمن، وسُليمان التَّيمِيُّ، والحَكَم بن عبد المَلِك، وسعيدُ بن بَشيرٍ".
وقال التِّرمِذِيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
وأخرَجَه أحمدُ (3/ 152، 247)، وابنُ حِبَّان (6471)، وأبُو يَعلَى (3290)، والبزَّار (6812 - البَحر)، وابنُ أبي الدُّنيا في "صفة الجنَّة"(75) مِن طُرُقٍ عن حمَّاد بن سلَمَة، عن ثابتٍ، عن أنَسٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطِيتُ الكَوثَرَ، فإذا هُو نَهرٌ يجرِي كذا وَجهَ الأرض، حافَّتاه قِبابُ اللُّؤلُؤ، ليس مشقُوقًا، فَضَربتُ يدي إلى تُربَتِه، فإذا مِسكُهُ ذَفِرَةٌ، وإذا حَصاه اللُّؤلُؤ".
وإسنادُهُ صحيحٌ على شَرط مُسلمٍ.
وأخرَجَه النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(11706)، وأحمد (3/ 103، 115 - 116، 263)، وابنُ أبي شَيبة (11/ 437، و 13/ 147)، وهنَّاد بن السَّرِيِّ في "الزُّهد"(134)، والحُسَين المَروَزِيُّ في "زوائده على زُهد ابن المُبارَك"(1612)، وأبُو يَعلَى (3726، 3823، 3290)، وابن جَريرٍ في "تَفسيرِه"(30/ 323 - 324)، والبزَّار (6608، 6609 - البَحر)، وابنُ حِبَّان (6472، 6473)، والحاكِم (1/ 79 - 80)، والآجُرِّيُّ في "الشَّريعة"(ص 396)، وتمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(233)، وأبُو نُعيمٍ في "صفة الجنَّة"(327)، واللَّالَكَائِيُّ في "أصول الاعتقاد"(2251)، والخطيبُ في "تاريخه"(11/ 45) مِن طُرُقٍ عن حُمَيد بن أبي حُميدٍ الطَّويل، عن أنسٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دَخَلتُ الجنَّة، فإذا أنا بِنَهرٍ حافَّتاه خِيامُ اللُّؤلُؤ، فضَربتُ بيدي إلى ما يَجري فيه الماءُ، فإذا هو مِسكٌ أَذْفَرُ، قلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكَوثَر الذي أعطاكَهُ اللهُ".
ورَواه عن حُميدٍ الطَّويل خلقٌ، منهُم: "يحيى القطَّانُ، وعبدُ الله بن بكرٍ السَّهميُّ، ومُحمَّدُ بن إبراهيمَ بن أبي عَدِيٍّ، وأبُو بَكرٍ بنُ عيَّاشٍ، وعبيدةُ بن حميدٍ، وخالدُ بن عبد الله، ويَزِيدُ بن زُريعٍ، وإسماعيلُ بن جَعفَرٍ، ومُحمَّدُ بن عبد الله الأنصاريُّ، ومُحمَّدُ بن طلحة، وعبدُ الأعلَى بن عبد الأعلَى، وعبدُ الوهَّاب بن عبد المَجيد الثَّقَفِيُّ
…
في آخَرين".
وله طُرُقٌ عن أنَسٍ وعن جَماعَةٍ من الصَّحابَة رضي الله عنهم جميعًا -.
317 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ أنهارَ الجنَّة تَجرِي في غير أُخدُودٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ مرفوعًا.
أخرَجَه ابن مَردَوَيهِ في "تفسيره" - كما في ابن كَثيرٍ (7/ 297) -، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 205)، وفي "صِفة الجنَّة"(316) من طريق مَهديِّ بن حكيمٍ، ثنا يزيد بن هارُون، أنبأنا الجُرَيرِيُّ، عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أنَسٍ مرفوعًا:"لعلَّكُم تَظُنُّون أنَّ أنهار الجنَّة أُخدودٌ؟! لا والله! إنَّها لسائمةٌ على وجه الأَرض، حافَّتاها خيامُ اللُّؤلُؤ، وطينُها المِسك الأذفرُ"، قُلتُ:"يا رسُول الله! وما الأذفرُ؟ "، قال:"الذي لا خَلطَ فيه".
وعزاه السِّيُوطِيُّ في "الدُّرِّ المنثور"(1/ 38) للضِّياء المقدسيِّ في "صِفة الجَنَّة".
• قلتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ والجُرَيرِيُّ اسمه سعيد بن إياسٍ الجُرَيرِيُّ، كان اختلطَ، وسماعُ يزيد بن هارُون مِنه في الاختلاط.
وقد اضطرَب فيه: فرواه يعقوبُ بن عُبيدٍ، وبِشر بن مُعاذٍ، كلاهُما عن يزيد بن هارُون، بهذا الإسناد موقُوفًا.
أخرَجَهُ ابن أبي الدُّنيا (69)، وأبو نُعيمٍ (316)، كلاهما في "صفة الجَنَّة".
ورَجَّح المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(4/ 518) وقفَه، وقال:"هو أشبه بالصَّواب".
وطريق المرفُوع والموقُوف واحدٌ، فلعلَّ قائلًا يقول:"لا يَصِحُّ المرفُوع، ولا الموقُوف".
فالجوابُ: إنَّ طريقةَ العُلماء في مِثل هذا أنْ يأخُذُوا بالأقلِّ؛ لأنَّه المُوافِق للاحتياط. واللهُ أعلَمُ.
وللمَوقُوف شاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ..
أخرَجَه ابنُ أبي الدُّنيا في "صفة الجَنَّة"(140، 162) قال: حدَّثَنا سُويدُ بنُ سعيدٍ، ثنا عبدُ رَبِّه بنُ بارِقٍ الحَنَفِيُّ، حدَّثَني خالي زُمَيلُ بنُ سِماكٍ، أنَّه سَمِعَ أباهُ يُحدِّثُ، أنَّهُ لَقِيَ عبدَ الله بنَ عبَّاسٍ بالمدينة بعدما كُفَّ بَصَرُهُ، فقال:"يا ابنَ عبَّاسٍ! ما أرضُ الجَنَّة؟ "، قال:"مَرمَرَةٌ بيضاءُ مِن فِضَّةٍ، كأنَّها مرآةٌ"، قلتُ:"ما نُورُها؟ "، قال:"ما رأيتَ السَّاعة التي يكُون فيها طلوعُ الشَّمس؟ فذلك نورُها، إلَّا أنَّها ليس فيها شمسٌ ولا زمهريرُ"، - قال: - قلتُ: "فما أنهارُها؟ أفي أخدودُ؟ "، قال:"لا، لكنَّها تَجرِي في أرض الجَنَّة، مُستَكِفَّةً، لا تفيض ها هنا ولا ها هنا، قال الله لها: كُونِي. فكانت"، قلتُ:"فما حُلَل الجَنَّة؟ "، قال:"فيها شجرةٌ، فيها ثمرٌ كأنَّه الرُّمَّان، فإذا أراد وليُّ الله منها كسوةً، انحدَرَت إليه من غُصنِها، فانفَلَقَت له عن سَبعِين حُلَّة، ألوانًا بعد ألوان، ثُمَّ تَنطَبِق، فتَرجِع كما كانت".
وتابَعَهُ زيادُ بن يحيَى، قال: ثنا عبدُ ربِّه بنُ بارِقٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "صفة الجَنَّة"(317) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ محمَّد بن جعفرٍ، ثنا مُحمَّدُ بنُ العبَّاس، ثنا زيادُ بنُ يحيَى بهذا.
وابنُ بارقٍ لا بأس به. وقد تكلَّم فيه ابنُ مَعينٍ وأبُو زُرعة.
وزُمَيلٌ هذا ترجَمَه ابنُ أبي حاتمٍ (1/ 2/ 620)، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وسماكُ بنُ حربٍ كان تغيَّر في آخر حياتِهِ.
وحسَّن إسناده المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(4/ 518)! وفيه نَظَرٌ. والله أعلمُ.
ويُعَضِّد هذا الموقُوفَ بعضُ الشَّواهد المقطوعة ..
منها ما: أخرَجَهُ ابن أبي شَيبَة (13/ 97)، وهَنَّاد بن السَّرِيِّ في "الزُّهد"(95، 103)، والمَرْوَزِيُّ (1489)، وابنُ صاعدٍ (1490)، كلاهما في "الزَّوائد على الزُّهد" لابن المُبارَك، وابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(509، 510، 511)، وابن قُتَيبة في "غريب الحديث"(2/ 522)، والبَيهَقِيُّ في "البَعث"(292)، وأبو نُعيمٍ في "صفة الجَنَّة"(315) من طُرُقٍ عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي عُبيدةَ، عن مسرُوقٍ، قال:"أنهار الجَنَّة تَجرِي في غير أُخدُودٍ، وثَمَرُها كالقِلال، كُلَّما أَخَذَ ثمرةً عادت مكانَها أُخرَى، والعُنقودُ اثنا عشر ذراعًا"، قال عَمْرُو بن مُرَّة: فقلتُ لأبي عُبيدة: من حدَّثك؟. فغَضِب، وقال: مسروقٌ!
وسَنَده صحيحٌ.
وأخرَجَ أبو نعيمٍ (318) من طريق إبراهيم بن مُحمَّد بن الحَسَن، ثنا
عبد الجَبَّار بن العلاء، ثنا سُفيان بن عُيَينة، عن عَمْرو بن دِينَار، قال: سَمِعتُ عُبيد بن عُمير، يقول:"أرضُ الجَنَّة مُستَوِيةٌ، لا تُكْلَمُ - يعني: لا تُشقُّ، ولا تُخَدُّ - أنهارُها".
وسندُهُ جيِّدٌ، وإبراهيم بن مُحمَّدٍ ترجمه أبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(1/ 189)، وأثنَى عليه.
واللهُ أعلمُ.
318 - سألني سائلٌ، فقال: سمعتُ بعض الخُطباء يقول أنَّ بعض أهل الجَنَّة يمارس مهنة الفِلاحةِ في الأرض، فهل هذا صحيحٌ؟
• قلتُ: لعلَّ هذا الخطيبَ يقصدُ ما:
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الحرث والمُزارَعة"(5/ 27)، وفي "التَّوحيد" (13/ 487) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن سِنان، حدَّثَنا فُلَيحٌ، حدَّثَنا هلالٌ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي هُريرَة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يومًا يُحدِّث، وعنده رجلٌ من أهل البادية:"أنَّ رجُلًا من أهل الجَنَّة، استأذن ربَّه في الزَّرع، فقال له: أَوَلَستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكنِّي أُحِبُّ أن أزرع. فأسرع، وبَذَر، فتبادرَ الطَّرْفَ نباتُهُ واستواؤُهُ، واستحصادُهُ، وتكويرُهُ أمثالَ الجِبال، فيقول الله تعالى: دُونك يا ابن آدم! فإنَّه لا يُشبِعُك شيءٌ! "، فقال الأعرابيُّ:"يا رسُول الله! لا تَجِد هذا إلَّا قُرَشيًّا أو أنصاريًّا؛ فإنَّهم أصحابُ زرعٍ، فأما نحنُ فلسنا بأصحاب زرعٍ"، فضَحِك رسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجَه البُخاريُّ في "الحَرْث"(5/ 27) قال: حدَّثَني عبد الله بن مُحمَّدٍ ..
وأحمد في "المُسنَد"(2/ 511 - 512)، قالا: ثنا عبدُ الملك بن عَمْرٍو أبو عامرٍ العَقَدِيُّ، قال: ثنا فُليحُ بن سليمان بهذا الإسناد سواء.
319 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا يَدخُل الجَنَّة جسدٌ غُذِّي بالحرام".
• قلتُ: هذا حديثٌ جيِّدٌ.
أخرَجَهُ عَبدُ بن حُميدٍ في "المنتخَب"(3)، وأبو بكرٍ المَرْوَزِيُّ في "مُسنَد أبي بَكرٍ الصِّدِّيق"(51)، وأبو يَعلَى (84) عن أبي داوُد الطيالسي ..
والحاكم (4/ 127)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(5961)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(5760) عن قُرَّة بن حبيبٍ ..
والمَرْوَزِيُّ (50)، وابن حِبَّان في "المجروحين"(2/ 155)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(5/ 1936)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(5759)، عن أبي عُبيدة الحدَّادِ عبد الواحد بن واصلٍ ..
والبَزَّار (43 - البحر) عن أبي عبيدة إسماعيلَ بنِ سِنانَ البَصريِّ، كُلُّهم عن عبد الواحد بن زيدٍ البصريِّ، عن أَسلَمَ الكُوفيِّ، عن مُرَّة الطَّيِّبِ، عن زيد بن أَرقَم، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق مرفُوعًا.
ووقع عند البَيهَقِيُّ سَببُ ذكر هذا الحديثِ، فعنده
…
عن زَيد بن أرقم، قال: كنتُ عند أبي بكرٍ، فأتاه غلامٌ له بطعامٍ، فأهوَى إلى لقمةٍ فأكَلَهَا، ثم سألَه مِن أين اكتسَبَه؟ قال:"كنتُ قِسًّا للقومِ في الجاهليَّة، فأوعَدُونِي، فأطعَمُونِي هذا - يعني: اليوم -"، فقال: "لا أَراك إلَّا
أطعمتني ما حرَّم اللهُ ورسولُهُ"، ثُمَّ أدخَلَ أصبعيه فتقيَّأ، ثم قال: "سمعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّما لحمٍ نبَتَ مِن حرامٍ فالنَّارُ أولَى به".
• قلتُ: ورَبْطُ سببِ الحديثِ به مُنكَرٌ عندي مِن هذا الوَجه، أمَّا الذي ثَبَتَ هو فِعلُ أبي بكرٍ رضي الله عنه ذلك مِن وجهٍ آخَر ..
أخرجَهُ البُخاريُّ في "مَنَاقب الأنصار"(7/ 149) مِن حديثِ يحيَى بن سعيدٍ، عن عبد الرَّحمَن بن القاسِم، عن القاسِم بن مُحمَّدٍ، عن عائِشةَ رضي الله عنها، قالت: كان لأبِي بكرٍ غلامٌ يُخرِج له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكُلُ مِن خَراجِه، فجاء يومًا بشيءٍ، فأكل مِنه أبو بكرٍ، فقال له الغُلامُ:"تَدرِي ما هذا؟ "، فقال أبو بكرٍ:"وما هو؟ "، قال:"كُنتُ، تكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهليَّة، ومَا أُحسِن الكَهانَةَ، إلَّا أنِّي خدعتُهُ، فلَقِيَنِي فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه"، فأدخل أبُو بكرٍ يده، فقاء كلَّ شيءٍ في بطنِه
(1)
.
(1)
قال الحافظُ في "الفَتح": "ووقعَ لأبِي بكرٍ مع النُّعَيمان بن عمرٍو - أحد الأحرار من الصَّحابة - قصَّةٌ ذكَرهَا عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ، أنَّهُم نَزَلوا بماءٍ، فَجَعَل النُّعَيمان يقولُ لهم: "يكُونُ كذا" فيأتُونَهُ بطعامٍ، فيُرسلُهُ إلى أصحابِهِ، فبلَغَ أبا بكرٍ فقال: "أراني آكُلُ كَهَنَةَ النُّعَيمان مُنذ اليَوم"، ثم أدخَلَ يده في حلقه فاستقاء. وفي "الوَرَع" لأحمد عن إسماعيلَ، عن أيُّوب، عن ابن سِيرِين: "لم أعلم أحدًا استَقاء مِن طعام غير أبي بكرٍ، فإنَّهُ أُتي بطعامٍ، فأكله، ثم قيل له:"جاء به ابن النُّعَيمان"، قال:"أطعَمتُمُونِي كَهانَةَ ابن النُّعَيمان! " ثم استَقاء"، ورِجالُه ثقاتٌ، لكنَّه مُرسَلٌ. ولأبي بكرٍ قصَّةٌ أخرَى في نحو هذا، أخرَجَها يعقوبُ بن شيبَةَ في "مُسنَده"، مِن طريق نُبَيحٍ العَنَزِيِّ، عن أبي سعيدٍ، قال: كُنَّا نَنزِلُ رِفَاقًا، فَنزلتُ في رُفقةٍ فيها أبو بكرٍ على أهل أبياتٍ، فيهِنَّ امرأةٌ حُبلَى، ومَعَنا رجُلٌ، فقال لها: "أُبَشِّرُكِ أن تَلِدي ذَكَرًا"، قالت: "نَعَم"، فَسَجَع لها أسجاعًا، =
وقد اختُلِف على عبد الواحد بن زيدٍ في إسناده ..
فرواه أبو عبيدة الحدَّادُ أيضًا، عن عبد الواحد بن زيدٍ، عن فَرقدٍ السَّبَخِيِّ، عن مُرَّة الطَّيِّبِ، عن زيد بن أرقم، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق مرفُوعًا مثله.
فصار شيخَ عبدِ الواحد "فرقدٌ"، لا "أَسلَمَ".
أخرَجَهُ أبو يعلى (83)، وعنه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل" (5/ 1936) قال: حدَّثَنا يحيى بن مَعِينٍ، ثنا أبو عبيدة الحدَّادُ بهذا.
قال الطَّبَرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن أبي بكرٍ إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به عبد الواحد بن زيدٍ".
• قلتُ: وهو ضعيفٌ جدًّا، قال ابن مَعِينٍ:"ليس بشيءٍ"، وقال البُخاريُّ:"تركوه"، وقال النَّسَائِيُّ:"ليس بثقةٍ"، وقال السَّعدِيُّ:"سيِّءُ المذهب، ليس من معادن الصِّدق"، وكان عبدُ الواحد صاحبَ مواعظَ، ولكنَّه غَفَل عن ضبط الحديث، فاستحقَّ التَّركَ، وقد اضطربَ في إسناده، كما قدَّمتُ.
وأسلمُ الكوفيُّ مجهولٌ.
وفرقدٌ السَّبَخِيُّ ضعيفٌ.
ولا يصحُّ الحديث من هذا الوجه بحالٍ. والله أعلَمُ.
وله شاهِدٌ مِن حديثِ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لكَعب
= فأعطتهُ شيئًا، فذَبَحَها وجَلَسنا نأكُلُ، فلمَّا عَلِم أبو بكرٍ بالقصَّة قامَ فتقيَّأ كل شيءٍ أكَلَهُ" انتهَى.
ابن عُجرَةَ: "أَعَاذك اللهُ مِن إمارة السُّفَهَاء"، قال:"وما إمارَة السُّفَهَاء؟ "، قال:"أُمَرَاءُ يكُونُون بعدِي، لا يَقتَدُون بِهَديي، ولا يَستَنُّون بسُنَّتي، فَمَن صدَّقَهُم بِكَذِبِهِم وأعانَهُم على ظُلمِهِم، فأولئك لَيسُوا مِنِّي، ولستُ مِنهُم، ولا يَرِدُوا عَليَّ حَوضي، ومَن لم يُصدِّقهُم بكَذِبِهِم، ولم يُعِنهُم على ظُلمِهِم، فأُولئك مِنِّي، وأنا مِنهُم، وسَيَرِدُوا علَيَّ حَوضِي. يا كعبَ بنَ عُجرة! الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تُطفِئُ الخَطيئةَ، والصَّلاةُ قُربانٌ - أو قال: بُرهانٌ -. يا كَعبَ بن عُجرةَ! إنَّه لا يَدخُلُ الجَنَّةَ لحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ، النَّارُ أولَى به. يا كعبَ بن عُجرة! النَّاسُ غادِيان، فمُبتاعٌ نفسَه فمُعتِقُها، وبائعٌ نفسَه فمُوبِقُها".
أخرَجَه أحمدُ (3/ 321)، ومِن طريقِه البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(6/ 522)، وابنُ حِبَّان (4514)، والحاكِمُ في "الفِتَن"(4/ 422 - المُستدرَك)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(9399)، وفي "الدَّلائِل"(6/ 522)، وفي "الآداب"(404) عن إسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِيِّ، قال: ثنا عبد الرَّزَّاق - وهذا في "مُصنَّفِه"(20719) -، قال: أخبَرَنا مَعمَرٌ، عن عبد الله بن عُثمان بن خُثَيمٍ، عن عبد الرَّحمَن بن سابطٍ، عن جابر بن عبد الله فذَكَرَه بِتمامِه.
قال الحاكِمُ: "صحيحُ الإسناد".
• قلتُ: إسنادُهُ جَيِّدٌ، وابنُ خُثيمٍ صدوقٌ.
ولكن قال ابن مَعِينٍ: "عبد الرَّحمَن بن سابطٍ لَم يَسمع مِن جابِرٍ". وخالَفَهُ أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ - كما في "الجرح والتَّعديل"(2/ 2/ 240)
لولدِهِ -، قال:"عبدُ الرَّحمن بن سابطٍ، عن جابر بن عبد الله: مُتَّصِلٌ"، وقد وَقَعَ تصريحُه مِن جابرٍ بالسَّمَاع عند: أبي يَعلَى، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"، والخطيب في "تلخيص المُتَشابِه"، والبَغَوِيُّ في "شَرح السُّنَّة".
وأخرَجَه الدَّارِمِيُّ (2/ 225 - 226)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(1345)، وابن حِبَّان (1723) عن حمَّاد بن سَلَمَة ..
وابن زنجَوَيه في "الأموال"(1316)، والأصبَهَانِيُّ في "التَّرغيب"(2079) عن داوُد بن عبد الرَّحمن ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(5761)، والخَطيب في "تلخِيص المُتشابه"(2/ 825) عن عليِّ بن عاصمٍ ..
والبزَّارُ (1609 - كشف)، والحاكم في "معرِفَة الصَّحابَة"(3/ 479 - 480) عن وُهَيبٍ بن خالِدٍ ..
وأبُو يَعلَى (1999) عن يحيى بن سُلَيمٍ ..
وأبُو نُعَيمٍ في "الحِلية"(8/ 247) عن زائدة بن قُدامَة ..
والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(8/ 8 - 9) عن زهير بن مُعاوِية، كلُّهُم عن أبي خُثيمٍ بهذا الإسناد، مُطوَّلًا ومُختَصَرًا.
وهو بِتمامِه عند البَيهَقِيِّ (5761)، والبزَّار، والأصبَهَانيِّ، والبَغَوِيِّ، وأبي نُعَيمٍ، وابن حِبَّان (1723). وببعضِه عند الباقين.
ومحلُّ الشَّاهِد منه عند الدَّارِمِيِّ.
وقد وَرَدَ هذا الحديثُ مِن حديثِ كعب بن عُجرةَ نفسِه، وصحَّحه
التِّرمِذيُّ (2259)، وابن حِبَّان (279، 282، 283، 285)، والحاكم (1/ 78 - 79)، وأخرجَه آخَرُون معهم مِن أوَّله حتى قوله:"وَسَيردوا عليَّ الحوض".
ولِحَديث البابِ شاهدٌ عن حُذيفة بن اليَمان رضي الله عنه ..
أخرَجَه الطَّبرانِيُّ في "الأوسَط"(6675) قال: حدَّثنا مُحمَّد بن الحسن بن قُتيبَة، ثنا إبراهيمُ بن خَلَف الرَّمليُّ، ثنا أيُّوب بن سُويدٍ، عن سُفيان الثَّوريِّ، عن عبد المَلِك بن عُمَيرٍ، عن رِبعِيِّ بن حِراشٍ، عن حُذَيفة مرفوعًا:"لا يَدخُل الجَنَّة لحمٌ نبت مِن سُحتٍ".
قال الطَّبَرانِيُّ: "لا يَروِي هذا الحديثَ عن سُفيانَ إلَّا أيُّوب بن سُوَيدٍ. تفرَّد به: إبراهيمُ بن خَلَفٍ".
• قلتُ: وإبراهيمُ هذا قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(10/ 293): "لم أعرفه"، ولم أجِد له تَرجَمةً، وراجَعتُ ترجَمَة أيُّوب بن سُوَيدٍ فرأيتُ في الرُّواة عنه ثلاثةً ممَّن يُسمَّون إبراهيم، فنَظَرتُ في تَراجِمِهم، فرأيتُ في ترجَمَة الثَّاني مِنهم، وهو إبراهيم بن مُحمَّد بن يُوسُف الفِريابِيُّ - وليس ابنًا لصاحِبِ الثَّورِيِّ -، فرأيتُهُ يَروِي عن أيُّوب بن سُوَيدٍ، وعنه: مُحمَّد بن الحَسَن بن قُتَيبَة، فوَقَع في قَلبي أن يَكون هو، ووقَعَ تحريفٌ في اسم أبيه، ولستُ أجزِمُ بذلك. فإن يَكُنهُ فقد قال أبو حاتِمٍ:"صَدُوقٌ"، وَجَرَحه الأزدِيُّ، ورَدَّه الذَّهَبِيُّ.
وآفَةُ هذا الإسناد أيُّوبُ بن سُوَيد؛ اتَّهَمَه ابن مَعِينٍ بِسَرِقة الأحاديث، وقال النَّسائِيُّ:"ليس بِثِقَةٍ"، وضعَّفَهُ أكثرُ النُّقَّاد.
أمَّا الهَيثَمِيُّ فقال (10/ 293): "وهُو مِن روايَة أيُّوب بن سُوَيدٍ، عن الثَّورِيِّ، وهي مُستَقيمَةٌ"!!
كذا قال! ولا أدري وَجهَ استِقامَتِها؟ بل هذا مُنكَرٌ عن الثَّورِيِّ؛ ومِن علامَة المُنكَر أن يَنفَرد ضعيفٌ عن شيخٍ ثِقةٍ له أصحابٌ مُتوافِرُون، مثل الثَّوريِّ. وقد صرَّح الطَّبَرانِيُّ بتفرُّدِه.
وهذا مِثالٌ مِن أمثلةٍ كثيرةٍ تدُلُّ على تساهُل الهَيثَمِيِّ رحمه الله.
ثُمَّ علمتُ مُستندَ الهَيثمِيِّ في ذلك.
قال ابن حِبَّان في ترجَمة أيُّوب بن سُوَيدٍ: "كان رديءَ الحِفظِ، يُخطِئُ. يُتَّقَى حديثُه مِن روايةِ ابنِهِ مُحمَّد بن أيُّوب عنه؛ لأنَّ أخبارَه إذا سُبِرَت مِن غير رِوايَة ابنِهِ عنه وُجِد أكثَرُها مُستَقِيمةً".
فنَظَر الهَيثَمِيُّ في الإسناد، فإذا هو ليس مِن رِوايَة مُحمَّد بن أيُّوب، عن أبيه، فظنَّ أنَّها مُستَقيمةٌ!! وكلامُ ابنِ حِبَّان لا يدُلُّ على أنَّه إذا رَوى عن أيُّوب بن سُوَيدٍ غيرُ ولده مُحمَّدٍ أنَّ الرِّوايَةَ مُستَقيمةٌ، بل قال:"وُجِد أكثرُها مُستقيمةً"، وقد أورَدَ ابن عَدِيٍّ في ترجَمة أيُّوب هذا جُملَةً مِن مناكِيرِه مِن غيرِ رِوايَة وَلَدِه عنه، وخَتَمَ تَرجَمَتَه بقولِهِ: "له حديثٌ صالحٌ، عن شُيُوخٍ معروفين
…
- وذَكَر منهم: الثَّوريَّ. ثُمَّ قال: - ويَقَعُ في حديثِه ما يُوافِقُه الثِّقاتُ عليه، ويَقَعُ فيه ما لا يُوافِقُونَه عليه، ويُكتَب حديثُهُ في جُملة الضُّعَفاء" انتهَى.
يعني: للاعتبار.
وله شاهدٌ مِن حديث عُقبةَ بن عامرٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ البَيهَقيُّ في "الشُّعَب"(5757) مِن طريق أبي حاتمٍ الرَّازِيِّ، ثنا عبد الله بن جعفرٍ، ثنا عُبيد الله بن عمرٍو، عن مُحمَّد بن إسحاق، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عن عبد الرَّحمن بن شُمَاسَةَ، عن عُقبَةَ بنِ عامِرٍ مرفوعًا:"لا يَدخُلُ الجنَّةَ لحمٌ ودمٌ نَبَتَ مِن نجسٍ".
كذلك وَقَعَ في مطبُوعة "الشُّعَب". وراجَعتُ مطبوعة الهند (10/ 330/ 5373)، فرأيتُهُ كذلك، وأظُنُّ صوابَه:"سُحت". والله أعلم.
وهذا سَنَدٌ رجالُهُ ثقاتٌ، ليس فيه عِلَّةٌ إلَّا عنعنةُ ابن إسحاق. والله أعلم.
وله شاهدٌ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ الطَّبرانيُّ في "الأوسَط"(6495) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن عيسى بن شيبَةَ، قال: حدَّثَنا الحَسَن بن عليٍّ الاحتياطِيُّ، قال: حدَّثَنا أبو عبد الله الجُوْزْجانِيُّ رفيقُ إبراهيمَ بنِ أدهَمَ، قال: حدَّثَنَا ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاس، قال: تُلِيَت هذه الآيَةُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، فقام سعدُ بن أبي وقَّاصٍ، فقال:"يا رسُولَ الله! ادعُ الله أن يَجعَلَنِي مُستَجابَ الدَّعوة"، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا سَعدُ! أَطِب مَطعَمَك تَكُن مُستَجَابَ الدَّعوةِ. والذي نفسُ مُحمَّدٍ بيده! إنَّ العبد لَيَقذِفُ اللُّقمَة الحَرام في جَوفِهِ، ما يُتقبَّلُ مِنهُ عملُ أربَعين يومًا. وأيُّما عبدٍ نَبَتَ لحمُهُ من السُّحت والرِّبا فالنَّار أولَى به".
ومِن طريق الطَّبرانِيِّ أخرَجَه عنه ابنُ مَردويه في "تفسيره" - كما في "ابن كثيرٍ"(1/ 292 - طبع الشَّعب) -.
وَعَزَاه المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(2/ 548) لـ "الصَّغير"، وَتَبِعَه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(10/ 291)، وهو وَهَمٌ. وتخلَّص الدِّمياطِيُّ مِن هذا، وعَزاه في "المَتجَر الرَّابح"(1490) للطَّبَرانِيِّ، هكذا دون تعيين الكتاب.
قال الطَّبَرانِيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن ابن جُريجٍ إلَّا بهذا الإسناد. تفرَّد به: الاحتِياطِيُّ".
• قلتُ: وهذا حديثٌ مُنكَرٌ جِدًّا؛ والحَسَنُ بن عليٍّ الاحتِياطيُّ - هكذا وَقَع نَسَبُهُ في هذه الرِّواية، وصوابُ اسمِهِ: الحَسَن بن عبد الرَّحمن بن عبَّادٍ بن الهَيثم بن الحَسَن بن عبد الرَّحمن الفَزَارِيُّ المعروف بالاحتياطِيِّ -، قال ابن عَدي في "الكامل" (2/ 746):"نَسَبَهُ لي مُحمَّدُ بن العبَّاس الدِّمَشقِيُّ. يَسرِقُ الحديثَ. مُنكَرٌ عن الثِّقات"، وساق له أحاديثَ مناكِيرَ عنِ شُيُوخٍ ثقاتٍ، ثُمَّ خَتَمَ تَرجَمَتَه بقولِهِ:"ولا يُشبِهُ حديثُهُ حديثَ أهلِ الصِّدق".
وكذلك تَرجَمَه الخطيبُ في "تاريخه"(7/ 337)، والسَّمعانيُّ في "الأنساب"(1/ 140)، وأورَدَ له الخطيبُ حديثًا باطلًا، وقال:"رَوَى عنهُ غيرُ واحدٍ، فسمَّاه الحُسَين"، ثُمَّ أعاد الخطيبُ ذِكرَه (8/ 57)، ونَقَل عن أبي بكرٍ المَروَزِيِّ أنَّه سأل الإمامَ أحمدَ عن الاحتياطِيِّ:"أتَعرِفُهُ؟ "، قال:"يُقال له: حُسَينٌ. أَعرِفُه بالتَّخليط، وذَكَرَ أنَّه دَخَل مع إنسانٍ في أمر السُّلطان".
وجَرَى الذَّهَبِيُّ على هذا التَّفريقِ في "ميزانه"، وتَبِعه الحافظُ في "لسانه"،
ونَقَل الأوَّلُ منهما في ترجَمَة "الحَسَن" أنَّ الأزدِيَّ قال: "لو قُلتُ: كان كذَّابًا، لَجَازَ"، قال الذَّهَبِيُّ:"هو مُقرِئٌ له مَنَاكيرُ"، ثُمَّ أعاده الذَّهبيُّ فيمن اسمه حُسَين، وقال:"لعلَّه الاحتياطِيَّ؛ فإنَّه غيرُ مُعتَمَدٍ. قال ابن المَدِينِيِّ: تَرَكُوا حديثَه"، ولعلَّ الذي عَناه ابنُ المَدِينِيِّ آخَرَ غير الاحتياطِيِّ، ولم أَرَ أحَدًا نقل كلام ابن المَدِينِيِّ فيه. والله أعلم.
وبالجُملَة، فهذا الاحتياطيُّ ساقطٌ. وخَفِيَ أمرُهُ على ابن حِبَّان، فَذَكَره في "الثِّقات"(8/ 179 - 180)!!
وأبو عبد الله الجُوزْجانِيُّ شيخُ الاحتياطيِّ لم أعرِفه، وله ذِكرٌ في "تاريخ دمشق"(6/ 302) في قصَّة وفاة إبراهيمَ بن أدهم، وذكرها المِزِّيُّ في "التَّهذيب" في ترجمة إبراهيم.
أمَّا شيخُ الطَّبَرانِيِّ فهُو مِن رجال "التَّهذيب". رَوَى عنه النَّسائِيُّ في "حديث مالكٍ"، ولا أعلَم مِن حالِه شيئًا. والله أعلَم.
ووجدتُ لبعضِه طريقًا آخَر عن سعد بن أبي وقَّاصٍ ..
أخرَجَه ابن عساكر في "تاريخِهِ"(22/ 231 - 232) مِن طريق مُحمَّد بن إدريسَ، ثنا مُحمَّد بن عائذٍ الدِّمَشقِيُّ، حدَّثَني الهَيثَم بن حُمَيدٍ، ثنا مُطْعِمٌ - يعني: ابن المِقدام الصَّنعانيَّ -، أنَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ قال:"يا رسُول الله! ادعُ الله أن يستَجيبَ دُعائي"، قال:"يا سَعدُ! إنَّ الله لا يَستَجيبُ دُعاء عبدٍ حتَّى تَطِيبَ طُعمَتُهُ"، قال:"يا رسُول الله! ادعُ الله أن يُطيِّب طُعمَتِي؛ فإنِّي لا أقوَى إلَّا بدُعائك"، فقال:"اللهُمَّ! أَطِب طُعمَةَ سعدٍ"، فإن كان سعدٌ لَيَرَى السُّنبُلَةَ مِن القمحِ في حَشيش دوابِّه
حين أُتي به عليه، فيقُول لهم:"رُدُّوها مِن حيثُ حصدتموها".
وهذا سندٌ رجالُهُ ثقاتٌ، لكنَّه منقطِعٌ؛ والمُطعِمُ بن المِقدام لم يُدرك أحدًا من الصَّحابة.
ومُحمَّدُ بن إدريس هو أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، الإمامُ مُنقَطِع القَرين.
ومُحمَّد بن عائذٍ ثقةٌ، استَغربتُ حُكم الحافظ عليه في "التَّقريب"، فقال:"صَدُوقٌ"، ولَيسَ فيه ثَمَّةَ مَغمَزٍ سوى قول أبي داوُد:"وَلِيَ خَراجًا"، وهذا ليس بجَرحٍ كما لا يَخفَى.
والهَيثَمُ بنُ حُميدٍ وثَّقه النُّقَّاد، ولم يُضَعِّفه إلا أبو مُسهِرٍ، ولم يُبدِ حُجَّةً في تَضعيفه سوى أن قال:"كان صاحبَ كُتُبٍ، ولم يكُن مِن الأثبات ولا مِن أهل الحِفظ، وقد كنتُ أمسكتُ عن الحديثِ عنه؛ استضعفتُهُ"، فكأنَّه استَضعَفَه لأنَّه لم يَكُن يحفظ، وهذا لا شيء فيه إذا كان يُحدِّثُ مِن كتابِهِ، فلو قال:"كان يُحدِّثُ مِن حِفظه، ولم يَكُن جيِّدَ الحِفظ" لَكَان مُحِقًّا في تضعيفِهِ. وقد وثَّقَهُ دُحَيمٌ، وهو أَحَدُ أئمَّة الشَّامِيِّين، وأثنَى عليه أبُو زُرعة الدِّمَشقِيُّ. والله أعلم.
والمَحفُوظ في هذا الحديث ما:
أخرَجَه مُسلمٌ (1015)، والبَيهَقِيُّ (3/ 346) عن حمَّاد أسامة ..
والتِّرمِذِيُّ (2989)، والدَّارِمِيُّ (2/ 210 - 211)، والبُخَاريُّ في
"رفع اليَدَين"(94)، والبَيهَقِيُّ (3/ 346) عن الفَضل بن دُكَين ..
وأحمدُ (2/ 328) قال: حدَّثنا أبُو النَّضر - هو: هاشم بن القاسم - ..
والبزَّار (ج 2/ ق 257/ 2) عن أبي أحمد الزُّبَيريِّ، قالُوا: ثَنا فضيلُ بن
مرزوقٍ، عن عَدِيِّ بن ثابتٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هُريرة رضي الله عنه، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله طيِّبٌ لا يَقبَل إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ الله أَمَر المُؤمِنين بما أمَرَ به المُرسَلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]- ثمَّ ذَكَر الرَّجُلَ يُطيل السَّفَرَ، أشعَثَ أغبَرَ، ثُمَّ يمدُّ يده إلى السَّماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُهُ حرامٌ، ومشرَبُهُ حرامٌ، ومَلبَسُهُ حرامٌ، وغُذِّي بالحَرام، فأنَّى يُستَجابُ لذلك؟! -".
قال البزَّارُ: "لا نَعلَم رواه عن عَدِيِّ ين ثابتٍ إلَّا فُضَيلُ بنُ مرزوقٍ".
ولحديث التَّرجة شاهدٌ خامسٌ عن عبد الرَّحمن سمرة رضي الله عنه ..
أخرَجَه الحاكمُ في "الأطعمة"(4/ 126 - 127) قال: أخبَرَنا أبُو جعفرٍ مُحمَّد بن مُحمَّدٍ البَغداديُّ، ثنا أبو زُرعَة عبد الرَّحمن بن عمرٍو الدِّمَشقِيُّ، ثنا سعيدُ بنُ بَشيرٍ، عن قَتادَة، عن الحَسَن، عن عبد الرَّحمن بن سَمُرة رضي الله عنه، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "أعاذَكَ اللهُ مِن أُمَراء يُكُونُون بعدي"، قال:"ومن هُم يا رسُول الله؟ "، قال:"مَن دَخَل عَليهم فصدَّقَهُم وأعانَهُم في جَورِهِم، فليس مِنِّي، ولا يَرِدُ عليَّ الحَوضَ. اعلم يا عبدَ الرَّحمن! أنَّ الصِّيام جُنَّةٌ، والصلاةَ بُرهانٌ. يا عبدَ الرَّحمَن! إنَّ الله أَبَى عليَّ أن يُدخِل الجَنَّةَ لحمًا نَبَتَ من سُحتٍ؛ فالنَّار أولَى به".
ورواه زيدُ بن يحيى بن عُبيدٍ الدِّمَشقِيُّ، قال: ثنا سعيدُ بن بَشيرٍ بهذا الإسناد، بلفظ: "يا عبدَ الرَّحمن! أعاذَكَ اللهُ
…
الخ".
أخرَجَه الخطيبُ في "تاريخه"(12/ 110) مِن طريق عليِّ بن نوح بن مَعبَدٍ البَغدادِيِّ، ثنا زيدُ بن يَحيَى بهذا.
قال الحاكِم: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد"!
كذا قال! وسعيد بن بشيرٍ مُنكَرُ الحديثِ في قَتادَةَ.
والحَسَن البَصريُّ مُدلِّسٌ، وتوقَّف بعض الحُفَّاظ في سماعِهِ مِن عبدِ الرَّحمن بن سَمُرة، وعِندِي أنَّه سمع. والله أعلم.
وشاهدٌ سادسٌ من حديث ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما ..
أخرَجَهُ ابنُ حِبَّان في "المَجروحين"(1/ 243)، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "المَوضُوعات" (1226) قال: أنبأنا الحُسين بن عبد الله القطَّانُ بالرَّقَّة، ثنا الوليد بن عُتبة، ثنا مُحمَّد بن حِمْيَرٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ، عن حَنَشٍ، عن عكرمة، عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا:"مَن أكل درهمًا من ربًا فهو مثل ستَّةٍ وثلاثين زنيةً، ومَن نَبَت لحمُهُ من السُّحتِ فالنَّار أولَى به".
وسنَدُهُ ساقطٌ؛ لحال حنشٍ هذا. وقد فصَّلتُ حالَهُ في هذا الكتاب برقم (364). وانظُر "تنبيه الهاجد"(1892). والحمدُ لله تعالى.
وخُلاصة الكَلام ..
أنَّه لم يصحَّ مِن هذه الأحاديث إلَّا حديثُ جابرٍ.
والله أعلمُ.
320 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الله تعالى يقولُ: أنا اللهُ، لا إله إلَّا أنا، مالِكُ المُلوك، ومَلِك المُلوك، قلوبُ المُلوك في يَدِي، وإنَّ العباد إذا أطاعُونِي، حوَّلتُ قلوب مُلُوكِهم عليهم بالرَّأفة والرَّحمة، وإنَّ العباد إذا عَصَونِي، حوَّلتُ قلوبهم عليهم بالسَّخْطَة والنِّقمة، فسامُوهُم سوء العذاب، فلا تَشغَلُوا أَنفُسَكم بالدُّعاء على المُلوك، ولكن اشتَغِلوا بالذِّكر والتَّضَرُّع إليَّ، أَكْفِكُم مُلُوكَكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ ابن حِبَّان في "المجروحين"(3/ 76) عن أحمد بن عبد المُؤمِن المَرْوَزِيِّ ..
والطَّبَرانِيُّ في "الأوسط"(8962)، وعنه أبو نُعيمٍ في "الحِلية" (2/ 388) قال: حدَّثَنا مِقدام بن داوُد، قالا: ثنا عليُّ بن مَعْبدٍ الرَّقِّيُّ، ثنا وَهْبُ بنُ راشدٍ، ثنا مالكُ بنُ دينارٍ، عن خِلَاسِ بن عَمْرٍو، عن أبي الدَّرداء، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
…
فذَكَرَه.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن مالك بن دينارٍ إلَّا وهب بن راشدٍ".
وقال أبو نُعيمٍ: "غريبٌ من حديث مالكٍ مرفُوعًا، تفرَّد به عليُّ بن
مَعْبدٍ، عن وهب بن راشدٍ".
• قلتُ: وسَنَده ضعيفٌ جدًّا؛ وآفته وهبُ بنُ راشدٍ.
قال ابن حِبَّان: "شيخٌ يَروِي عن مالك بن دينارٍ العجائبَ، لا تحلُّ الرِّواية عنه، ولا الاحتجاجُ به"، وذكرَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(6/ 206)، وقال:"يرويه وهب بن راشدٍ، وهو ضعيفُ جدًّا، متروكٌ، ولا يصحُّ هذا الحديث مرفُوعًا، ورواه جعفر بن سُليمان، عن مالك بن دينارٍ، أنَّه قرأ في بعض الكُتُب هذا الكلام، وهو أشبه بالصَّواب" انتهى.
321 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّما العلم، بالتَّعلُّم، وإنما الحِلم بالتَّحلُّم، من يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتوقَّ الشَّرَّ يُوقَه، ثلاثٌ من كُنَّ فيه لم يَسكُن الدَّرجات العُلا، ولا أقول لكم الجَنَّة: من تكهَّن، أو استَقْسَم، أو رَدَّه من سفرٍ تطيُّرٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
وقد وَرَد من حديث أبي هُريرَة، وأبي الدَّرداء، ومُعاوية بن أبي سُفيان رضي الله عنهم.
* أوَّلًا: حديث أبي هُريرَة رضي الله عنه.
أخرَجَهُ الخطيب في "تاريخه"(9/ 127) من طريق سعد بن زُنبُورَ، حدَّثَنا إسماعيل بن مُجالِدٍ، عن عبد المَلِك بن عُمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا فذَكَرَه دون قوله: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه
…
الخ".
وإسماعيلُ بنُ مُجالِدٍ مُختلَفٌ فيه، قال أحمد والبُخاريُّ:"صدوقٌ"، ووثَّقَهُ ابن مَعِينٍ في روايةٍ، وضعَّفه النَّسَائِيُّ والعُقيليُّ، وقال الدَّارَقُطنِيُّ:"لا شكَّ أنه ضعيفٌ"، وذَكَرَه ابنُ حِبَّان في "الثِّقات" وقال:"يُخطِئ".
وقد خُولِف في إسناد هذا الحديث ..
خالفه رقبةُ بنُ مَصقَلَة، فرواه عن عبد المَلِك بن عُمير، عن رجاء بن حَيْوَةَ، عن أبي الدَّرداء مرفُوعًا فذَكَرَه بتمامه.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "الأفراد"(ق 266/ 1) من طريق يحيى بن داوُد الواسطيِّ، ثنا إبراهيم بن يزيد بن مَرْدَانْبَةَ، عن رقبة بن مَصْقَلَةَ بهذا.
وهذا لا يَثبُت عن رقبة بن مَصْقَلَةَ؛ وابن مَرْدَانْبَةَ قال البُخاريُّ في "التَّاريخ الأوسط": "لا يَحتَجُّون بحديثه"، وقال أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ:"يُكتَب حديثُه، ولا يُحتجُّ به"، وقال الأَزدِيُّ:"عنده مناكيرُ".
ورواه سُفيان الثَّوْريُّ، عن عبد المَلِك بن عُمير، عن رجاء بن حَيوَة، عن أبي الدَّرداء مرفُوعًا بتمامه.
أخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(2663)، والدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(6/ 219 - 220)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(5/ 174)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 6/ ق 231)، والعسكريُّ في "الأمثال" - كما في "المقاصد الحَسَنة"(ص 107) للسَّخَاوِيِّ -، وابن شاهين في "التَّرغيب"(242)، والخطيب في "تاريخه"(5/ 201) من طريق مُحمَّد بن الحَسَن الهَمْدَانِيِّ، قال: ثنا سُفيان الثَّورِيُّ بهذا.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن سفيان إلَّا مُحمَّد بن الحَسَن".
وقال أبو نُعيمٍ: "غريبٌ من حديث الثَّوْريِّ، عن عبد المَلِك، تفرَّد به: مُحمَّد بن الحَسَن".
• قلتُ: وإسناده ساقطٌ؛ ومُحمَّد بن الحَسَن هو ابنُ أبي يزيد الهَمْدَانِيُّ؛ اتَّهَمه يحيى بن مَعِينٍ بالكَذِب، وقال النَّسَائِيُّ:"متروكٌ"، وقال الذَّهَبيُّ في "تلخيص العِلل المتناهية" (706):"واهٍ".
والحديث مع ضعفه مُنقَطِعٌ.
وقد رواه ابن وهبٍ، قال: ثنا سفيان الثَّوريُّ بهذا الإسناد موقُوفًا.
أخرَجَه ابنُ عبد البَرِّ في "جامع العلم"(903).
وهذا هو المحفوظُ في رواية الثَّوْريِّ.
ويُؤيِّدُه أن جماعةً من الثِّقات رَوَوْا هذا الحديث عن عبد المَلِك بن عُمير، عن رجاء بن حَيْوة، عن أبي الدَّرداء موقُوفًا.
فأخرَجَهُ هناد بن السَّرِيِّ في "كتاب الزُّهد"(1294) عن وكيع بن الجرَّاح ..
وأبو خَيثَمة في "كِتاب العلم"(114)، وابن عبد البَرِّ في "الجامع"(617) عن جرير بن عبد الحميد ..
وابنُ حِبانُ في "روضة العُقلاء"(ص 210) عن أبي عَوَانة وضَّاحٍ اليَشكُرِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ في "المَدخَل"(385) عن عُبيد الله بن عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، كُلُّهم عن عبد الملك بن عُميرٍ بهذا الإسناد موقُوفًا.
ورَوَى ابن أبي شَيبَة في "المُصنَّف"(9/ 43) عن شريكٍ النَّخْعِيِّ، عن عبد المَلِك بن عُميرٍ بسنده: آخِرَه: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه. . .".
قال الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(6/ 219): "الموقوف هو المحفوظ"، وهذا لا يَعنِي أنَّه صحيحٌ، كما فَهِم من صحَّح إسناد الموقوف، فإنَّه لا يصحُّ؛ لأنَّ رواية رجاء بن حَيْوَةَ، عن أبي الدَّرداء، مُنقَطِعةٌ، كما صرَّح الذَّهَبِيُّ بذلك، وهذا يُسمَّى عند عُلماء الحديث بـ "التَّرجيح النَّظَريِّ"، وهو لا يُفيد الحديثَ قوَّةً، ومُرادُهم أنَّه إذا تعارض الرَّفعُ والوقفُ، فلَأَن يكون موقُوفًا أشبهُ، لا أنَّه تصحيحٌ للموقوف.
وقد ألمحَ البُخاريُّ إلى الحديث المرفُوع ..
فعلَّق الفقرةَ الأولى منه: "إِنَّما العلم بالتَّعَلُّم" بصيغة الجزم، في "كتاب العِلم" من "صحيحه"(1/ 160)، فقال: "وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: من يُرِد اللهُ
به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّين، وإنَّما العِلمُ بالتَّعَلُّم".
فعلَّق الحافظُ في "الفتح"(1/ 161) قائلًا: "قولُه: "وإنَّما العلم بالتَّعلُّم"، وهو حديثٌ مرفوعٌ، أورده ابن أبي عاصمٍ، والطَّبَرانيُّ، من حديث مُعاوية، بلفظ: "يا أيُّها النَّاس! تعلَّمُوا، إنَّما العلم بالتَّعلُّم، والفقه بالتَّفقُّه، ومن يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّهه في الدِّين"، إسنادُه حَسَنٌ، إلَّا أن فيه مُبهَمًا، اعتَضَد بمجيئه من وجهٍ آخر" انتهَى.
* ثانيًا: حديثُ أبي الدَّرداء رضي الله عنه:
مرَّ الكلامُ عنه في حديث أبي هُريرة.
* ثالثًا: حديثُ مُعاوية رضي الله عنه:
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 929) قال: حدَّثَنا أحمد بن المُعلَّى الدِّمَشقِيُّ، ثنا هشام بن عمَّارٍ، ثنا صدقة بن خالدٍ، ثنا عُتبة بن أبي حَكِيمٍ، عمَّن حدَّثَه، عن مُعاوية مرفُوعًا:"يا أيُّها النَّاس. . ."، وساقه كما ذَكَر الحافظُ قريبًا.
وإسنادُه ظاهر الضَّعف؛ وهشام بن عمَّارٍ ساء حفظُه، لاسيما في آخر عُمره. وعُتبة بن أبي حَكيمٍ مخُتلَفٌ فيه. ومن حدَّثَهُ مجهولٌ.
وذكر البدرُ العَيْنِيُّ في "عُمدة القاري"(2/ 43)، أنَّ الخطيب البَغداديَّ رواه في "الفقيه والمتفقِّه"، عن مكحُولٍ، عن مُعاوية.
ويُشبهُ أن يكون المُبهَمُ في إسناد الطَّبَرانيِّ هو مكحولٌ الشَّامِيُّ، فإن عُتبة بن أبي حَكِيمٍ يَروِي عنه.
ومكحولٌ لم يَسمَع من مُعاوِية، كما صرَّح بذلك أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ،
على ما في "المراسيل"(ص 212)، ونَقَل ابن أبي حاتمٍ في "المراسيل"(ص 211) عن أبيه، قال:"سألتُ أبا مُسهِرٍ: هل سَمِع مكحولٌ من أحَدٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما صحَّ عندنا إلَّا أنَس بن مالكٍ".
كذا قال في هذا المَوضِعَ، وقد سألَهُ أبُو حاتِمٍ - كما في "الجرح والتَّعديل" (4/ 1/ 408) - فقال له:"هل سمِعَ مكحُولٌ من أحدٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمع من أنسٍ. قلت له: وسَمِعَ من أبي هندِ الدَّارِيِّ؟ فقال: مَن رواه؟ فقلتُ: حَيْوَةُ بنُ شُريحٍ، عن أبي صَخرٍ، عن مكحُولٍ، سَمِعَ أبا هندٍ الدَّاريَّ، يقول: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم. فكأنَّه لم يلتفت إلى ذلك. فقلتُ: فَوَاثِلةُ بنُ الأسْقَعِ؟ فقال: مَن رواه؟ فقلتُ: حدَّثَنا أبُو صالحٍ كاتبُ اللَّيث، قال: حدَّثَنا مُعاوِيةُ بنُ صالحٍ، عن العَلاء بنِ الحارث، عن مكحُولٍ، قال: دخلتُ أنا وأبُو الأزهر على واثِلَةَ بنِ الأسقع. فكأنَّهُ أومأ برأسِهِ، كأنَّه قَبِلَ ذلك".
ونقلهُ عنه ابنُ عساكر في "تاريخه"(63/ 150).
• قلتُ: لكنَّ أبا مُسهِرٍ أنكَرَ سَمَاعَهُ من واثلةَ إنكارًا صريحًا كما في "مراسيل ابنِ أبي حاتمٍ"(ص: 211).
وقال التِّرمِذِيُّ: "سَمِعَ: واثلَةَ، وأنَسًا، وأبا هِندٍ الدَّاريَّ. ويُقال: لم يسمَع من أحدٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرهم".
وكذلك نَقَله ابنُ عساكر في "تاريخه"(63/ 151) عن ابنِ مَعينٍ، وزاد:"وعَمْرَو بنَ أبي خُزاعةَ".
وقال صالحٌ جَزَرَةُ - كما في "تاريخ دمشق"(63/ 151) -: "سمع
أبا أُمامةَ"، وأنكَرَهُ يحيَى بنُ مَعينٍ وغيرُهُ.
وبالجُملة فلا وجهَ لتحسين هذا الإسناد، كما فعل الحافظُ رحمه الله.
وقد رأيتَ الوُجوه الأُخرَى التي أشار إليها الحافظُ، وهي ضعيفةٌ جدًّا، لا تصلح للتَّقوية، والبُخاريُّ يَذكُر في مُعلَّقاته الحديث الصَّحيح، والحَسَن، والضَّعيف، كما يَعرِفُه مَن له عنايةٌ بصحِيحِه.
وقد صحَّت الفقرةُ الأولى منه: "إنَّما العلم بالتَّعلُّم"، عن ابن مسعُودٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ أحمدُ في "الزُّهد"(ص 162 - 163) ..
وابن أبي شَيبَة (8/ 730)، ومن طريقه ابن عبد البَرِّ في "الجامع"(615)، قالا: ثنا وكيعٌ - وهذا في "كتاب الزُّهد"(518) -، قال: حدَّثَنا سُفيان الثَّوْريُّ، ثنا أبو الزَّعْرَاءِ، عن عمِّه أبي الأحوص، عن ابن مسعُودٍ، قال:"إنَّ الرَّجُل لا يُولَد عالمًا، إنَّما العلم بالتَّعلُّم".
وأخرَجَهُ أبو خَيثَمة في "كتاب العِلم"(115) عن وكيعٍ به.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وأبُو الزَّعراء هو الكوفِيُّ، ابنُ أخي أبي الأحوَص الجُشَمِيِّ. وهو ثقةٌ نبيلٌ. وعمُّهُ اسمُهُ عوفُ بنُ مالكٍ بن نَضْلَةَ الجُشَمِيُّ.
وأخرَجَهُ ابنُ أبي شيبة، ومن طريقه ابن عبد البَرِّ (616) قال: ثنا أبو داوُد - وهو الحَفْرِيُّ - ..
والبيهقيُّ في "المَدخَل"(377) عن يعلى بن عُبيدٍ، قالا: ثنا سُفيان الثَّوريُّ، عن عليِّ بن الأقمر، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعُودٍ.
واللهُ أعلمُ.
322 -
سُئلتُ عن حديث: "أَولِيَاءُ عليِّ ين أبي طالبٍ في الجَنَّة، ومُبغِضُوه في النَّار".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
ولم أَقِف عليه بهذا اللَّفظ، ووقفتُ عليه بلفظ:"عليٌّ قسيمُ النَّار، يدخلُ أولياؤُه الجَنَّة، وأعداؤُه النَّار".
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(6/ 273) قال: حدَّثَنا الشَّافِعِيُّ أبو بكرٍ، قال: ثنا مُحمَّد بن عُمَر القَبَلِيُّ، قال: ثنا مُحمَّد بن هاشم الثَّقَفِيُّ، ثنا عُبيد الله بن مُوسَى، ثنا الأعمش، عن إبراهيم التَّيمِيِّ، عن أبيه، عن أبي ذَرٍّ، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
…
فَذَكَره.
قال الدَّارَقُطنِيُّ: "وهذا الحديث باطلٌ بهذا الإسناد، ومَن دُون عُبيد الله ضعفاءُ، والقَبَلِيُّ ضعيفٌ جدًّا، وإنَّما روى هذا الحديثَ: الأعمشُ، عن مُوسَى بن طريفٍ، عن عَبَايَةَ، عن عليٍّ" انتهَى.
والقَبَلِيُّ هذا، ترجَمَهُ الخطيبُ في "تاريخه"(3/ 24)، وأورَدَ في ترجَمَتِهِ حديثًا مرفُوعًا مُنكَرًا جدًّا:"زوَّجَ اللهُ التَّوانِي بالكَسَلِ، فوُلِدَ بينَهُما الفاقَةُ"، ولذلك أورَدَهُ ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعات"(1623).
• قلتُ: وحديثُ الأعمش الذي أشارَ إليه الدَّارَقُطنِيُّ:
أخرَجَه الفَسَوِيُّ في "المعرفة والتَّاريخ"(2/ 764) قال: حدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا عليُّ بن مُسهِرٍ، عن الأعمش، عن مُوسَى بن
طريفٍ، عن عليٍّ، قال:"أنا قسيمُ النَّار، إذا كان يومُ القيامة، قلتُ: هذا لك وهذا لي".
قال الفَسَوِيُّ: سمعتُ الحَسَن بن الرَّبيع، يقول: قال أبو مُعاوية: قُلنا للأعمش: "لا تُحدِّثْ بهذه الأحاديث! "، قال:"يسألُونَنِي، فما أصنع؟ رُبَّما سهوتُ، فإذا سأَلُوني عن شيءٍ من هذا فسهوتُ فذكِّرُوني"، - قال: - فكنتُ عنده يومًا، فجاء رجلٌ فسأله عن حديث:"أنا قسيم النَّار"، قال: فتَنَحنَحتُ، - قال: - فقال الأعمشُ: "هؤُلاء المُرجِئةُ لا يَدَعُون أحدًا يُحدِّث بفضائل عليٍّ، أخرِجُوهُم من المسجد حتَّى أُحدِّثكم".
ورَوَى هذا الأثرَ العُقيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 158) من طريق سلَّامٍ الخيَّاط، عن مُوسَى بن طريفٍ، بهذا الإسناد.
ونَقَل عن عبد الله بن داوُد الخُرَيْبِيِّ، قال: كُنَّا عند الأعمش، فجاء يومًا وهو مُغضَبٌ، فقال:"أَلَا تعجَبُون من مُوسَى بن طريفٍ، يُحدِّث عن عَبَايَةَ، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: أنا قسيم النَّار".
ورَوى أيضًا عن أبي بكرٍ بن عيَّاشٍ، رَوَى عن مُوسَى بن طريفٍ، أنَّه كان يَروِي مثل هذا الكلام يَسخَرُ به ممَّن يَعتَقِدُه.
فهذا يدلُّ على قلَّة مبالاةٍ.
ومُوسَى بنُ طريفٍ أحَد الهلكى، وكذَّبه بعضُ النُّقَّاد، ولا يَثبُت هذا الكلامُ، لا مرفُوعًا، ولا موقُوفًا، وقبَّح اللهُ المُفتَرِين.
323 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا، فلا تَعتَدُوها، وحرَّم أشياءَ، فلا تَنتَهِكُوهَا، وسَكَت عن أشياء رحمةً بِكُم من غير نِسيانٍ، فلا تَبحَثُوا عنها".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَه الدَّارَقُطنِيُّ (4/ 183 - 184)، والحاكمُ (4/ 115)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 589، 221، 223)، وابن بَطَّة في "الإبانة"(400)، والبَيهَقِيُّ (10/ 12 - 13)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(9/ 17)، والخطيب في "الفقيه والمُتفقِّه"(630) من طُرُقٍ عن داوُد بن أبي هندٍ، عن مكحولٍ، عن أبي ثَعلبَة الخُشَنِيِّ مرفُوعًا فذَكَرَه.
وهذا الحديثُ حسَّنه النَّوَوِيُّ في "الأربعين"(ص 40)، وفي "رياض الصَّالحين"(ص 514)، وفي "الأذكار"(ص 353)، وسَبَقَه إلى هذا الحُكم أبو بكرٍ السَّمعَانِيُّ في "الأمالي" - كما ذَكَرَه ابن رَجبٍ في "جامع العُلوم"(ص 242) -، وصحَّحهُ ابنُ كثيرٍ في "تفسيره" (3/ 202 - طبع الشَّعب). وذكر شيخُنا الألبانيُّ رحمه الله في "غاية المرام" (ص 18) أنَّ أبا الفُتُوحِ الطَّائِيَّ خرَّجه في "الأربعين" وقال:"حديثٌ كبيرٌ حَسَنٌ، تفرَّد به داوُدُ عن مكحولٍ".
وقال ابنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ الفقيهُ في "فتح المُبين بشرح الأربعين"(ص 230): "بل صحَّحهُ ابنُ الصَّلَاح. ومِمَّن حسَّنه أيضًا: الحافظُ أبُو بكرٍ بنُ السَّمعانِيِّ
في "أماليه". وقولُ الذَّهبيِّ: إنّ راويه مكحُولًا لم يُدرِك أبا ثَعلَبَةَ، تَبِعَ فيه إنكار أبي مُسهِرٍ لسماعِهِ منه، ووافقه أبُو زُرعة وأبُو حاتِمٍ، فقالا: دخل عليه، ولم يسمع منه. لكن خالَفَهُم ابنُ مَعينٍ، فقال: إنَّه سمع منه. والقاعِدةُ الأُصوليَّة أنَّ الإثبات مُقدَّمٌ على النَّفي، تُرَجِّحُ ما قالَهُ ابنُ مَعِينٍ، فلذا اعتَمَدَه النَّوَوِيُّ في "أربعينه"، وغيرُهُ. ويُؤيِّدُهُ أنَّهُ مُعاصِرٌ له بالسِّنِّ والبَلَدِ، فاحتِمالُ سماعِهِ منه أقربُ من عَدَمِهِ. وكونُهُ مُدلِّسًا لا يُنافِي حُسنَ حديثِهِ ولا صِحَّتَهُ كما هُو مُقرَّرٌ في محِلِّه، ويُحتَمَلُ أنَّ تحسينَ النَّوَوِيِّ له لكونِهِ رُوي من طُرُقٍ بعضُها ضعيفٌ، وبعضُها مُنْقَطِعٌ، فإذا انضمَّ بعضُها إلى بعضٍ قويت، فيكُونُ حَسَنًا لغيره لا لذاته، وإنَّ تصحيحِ ابنِ الصَّلاح أَخَذَهُ من قول البزَّار في روايته: إسنادُها صالحٌ، والحاكِمِ فيها أنَّها صحيحةُ الإسناد" انتهَى.
• قلتُ: كذا قال! وقد نصَّ المِزِّيُّ في ترجمة "أبي ثَعلَبَةَ" أنَّ مكحُولًا لم يسمع منه، وسبقه إلى ذلك أبُو نُعيمٍ الحافظُ، ووافقهُ إبنُ رجبٍ في "جامع العُلوم"، وذكر التِّرمذِيُّ أنَّه لم يسمع إلَّا من ثلاثةٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما مضى في الحديث (321). وقولُ الهيتَمِيِّ إنَّ ابنَ مَعينٍ أثبتَ سماعَ مكحُولٍ من أبي ثَعلَبَةَ ما أُراهُ إلَّا وَهَمًا منه، ولم أر أحدًا نَسَب هذا إلى ابنِ مَعينٍ ولا إلى غيره. ولو سلَّمنا بصحَّة نقله، فإنَّ القاعدة الأُصُوليَّة التي ذَكَرَها تصحُّ إذا لم يكن ثمَّةَ مانعٌ. والمانعُ هنا أنَّ مكحُولًا كان يُرسِلُ ويُدلِّسُ، والمُعاصَرَةُ تنفعُ إذا انتَفَى هذان، ولذا قال العَلائِيُّ في "جامع التَّحصيل" (ص 285 - 286): "روى عن أبي ثَعلَبَةَ حديثَ: إنَّ الله فَرَضَ فرائضَ
…
وهو مُعاصِرٌ له بالسِّنِّ والبلد فيُحتَمَلُ أن يكُون أرسَلَ كعادته، وهو يُدلِّسُ أيضًا" ا. هـ. فمن قوَّى هذا الإسنادَ فلا شكَّ
أنَّه مُخطِئٌ؛ للانقطاع، وهذه عِلَّةٌ لا سبيل إلى جَبرها. وأمَّا ظنُّ الهَيتَمِيِّ أنَّ ابنَ الصَّلاح أخَذَ تصحيح الحديث من قول البزَّار: إسنادُهُ صالحٌ، فإنَّ البزَّار قال هذا في حديث أبي الدَّرداء الذي مرَّ برقم (262)، وليس في حديث أبي ثَعلَبَةَ. واللهُ أعلمُ. وتقدَّم في الحديث (320) أنَّ مَكحُولًا لم يَسمع مِن أحدٍ من الصَّحابَة، إلَّا أنسَ بنَ مالكٍ، كما قال أبُو مُسهِرٍ.
وذَكَر الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(6/ 324) أنَّه اختُلف على مكحولٍ في رفعه ووقفه. فرَفَعَهُ إسحاقُ الأزرقُ، ومُحمَّدُ بن فُضيلٍ، وغيرُهما، عن داوُد. ورواه يزيدُ بن هارُون، وحفصُ بن غِياثٍ، عن داوُد، فوقفاه. ورواية حفصٍ عند البَيهَقِيِّ (10/ 12).
ورواه قَحْذَمُ بن سُليمان، قال: سمعتُ مكحولًا يقول، ولم يتجاوز به. ورجَّح الدَّارَقُطنِيُّ الطَّريق المرفُوع، وقال:"هو أشهر"، وقد مرَّ بك ما أُعِلَّ به.
وله شاهدٌ من حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه، أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط" (7461) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بن إبراهيم الوَشَّاءُ .. وأيضًا في "الصَّغير"(1111) قال: حدَّثَنا نُوحٌ الأُبُلِّيُّ .. قالا: ثنا أبو الأشعث أحمدُ بن المِقدام، نا أصرمُ بنُ حوشبٍ، نا قُرَّةُ بنُ خالدٍ، عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، عن طاوُوسٍ، قال: سمعتُ أبا الدَّرداء مرفُوعًا فذَكَر مثلَه.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن قُرَّة بن خالدٍ إلَّا أصرمُ بنُ حوشبٍ، تفرَّد به أبو الأشعث".
وأصرمُ هذا كذَّابٌ وضَّاعٌ.
ورواه نَهشلُ الخُرَاسَانِيُّ، عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، أنَّه اجتَمَع هو والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن، ومكحولٌ الشَّامِيُّ، وعَمْرُو بنُ دينارٍ المَكِّيُّ، وطاوُوسٌ اليَمانِيُّ، فاجتَمَعُوا في مَسجِد الخَيْفِ، فارتَفَعت أصواتُهم، وكثُر لغَطُهُم في القَدَر، فقال طاوُوسٌ، وكان فيهم مَرضِيًّا:"أَنصِتُوا، حتَّى أخبِرَكم ما سمعتُ من أبي الدَّرداء رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنَّ الله افترض عليكم فرائضَ
…
الحديث"، وفي آخِرِه: نقُول ما قال ربُّنا ونبيُّنا، الأُمُورُ بيد الله، مِن عند الله مصدَرُها، وإليه مَرجِعُها، ليس إلى العِبَاد فيها تفويضٌ، ولا مشيئةٌ"، فقامُوا، وهم راضُون بقول طاوُوسٍ.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ (4/ 297 - 298) من طريق إسحاقَ الأزرقِ، عن أبي عَمْرٍو البَصرِيِّ، عن نهشلَ الخُرَاسَانِيِّ بهذا.
وسَنَدُهُ مِثلُ سابِقه، ساقطٌ؛ ونهشلُ كَذَّبه ابنُ رَاهَوَيهِ، وتَرَكه النَّسَائِيُّ وأبو حاتمٍ، والكلامُ فيه طويلُ الذَّيل.
وللفقرة الثَّالِثَةِ طريقٌ آخرُ عن أبي الدَّرداء، مرَّ برقم (262).
وله شاهدٌ مِن حديثٌ سلمان الفَارِسِيِّ، بسَنَدٍ ضعيفٍ، خرَّجتُهُ فيما مضى برقم (262)، وفي "تنبيه الهاجد"(1162).
324 -
سُئلتُ عن حديث: "أَنهَارُ الجَنَّة تَفَجَّرُ مِن تَحتِ جِبَالِ المِسكِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
أخرَجَهُ ابنُ حِبَّان (2622)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(2/ 326)، والحاكمُ - كما في "حادي الأرواح"(ص 123) -، وأبو نُعيمٍ في "صفة الجَنَّة"(313)، والبَيهَقِيُّ في "البعث"(266) من طُرُقٍ عن أَسَد بن مُوسَى، ثنا عبدُ الرَّحمن بنُ ثابت بن ثَوْبان، عن عطاء بن قُرَّة، عن عبد الله بن ضَمْرة، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"أَنهَارُ الجَنَّة تَفَجَّرُ من تحت تلالٍ - أو: من تحت جبال - المِسك".
ولفظ البَيهَقِيِّ: "مَن سرَّه أَن يَسقِيَهُ اللهُ عز وجل الخمرَ في الآخرة، ليَترُكها في الدُّنيا. ومن سرَّه أن يَكسُوَه اللهُ الحريرَ في الآخرة، فليترُكْه في الدُّنيا. أَنهارُ الجَنَّة تَفَجَّرُ مِن تحت تلال - أو: من تحت جِبال - المِسكِ، ولو كان أَدنَى أهلِ الجنة حِليةً، عَدَلَت بحِلية أهل الدُّنيا جميعًا، لكان ما يُحلِّيه به اللهُ عز وجل به في الآخرة أفضلُ مِن حِلية أهل الدُّنيا جميعًا".
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(ج 2/ ق 266/ 1) قال: حدَّثَنا مِقدامُ، ثنا أَسَدُ بن مُوسَى، ثنا ابنُ ثَوْبان بهذا الإسناد، بالفقرة الأولى والثَّانية.
ثُمَّ قال: "لم يَروِ هذا الحديث عن ابن ثَوْبان إلَّا أسدُ بن مُوسَى".
وهذا سَنَدٌ حَسَنٌ، كما قال العِرَاقِيُّ في "تخريج الإحياء"(4/ 522).
وقال المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(3/ 100، 262): "رواه الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"، ورُواته ثقاتٌ، إلَّا شيخَهُ المقدامَ بنَ داوُد، وقد وثَّقه".
وقد رأيتَ أنَّه لم يتفرَّد به المقدامُ، فتابعه الرَّبيعُ بن سُليمان عند البَيهَقِيِّ على محلِّ الشَّاهد.
واللهُ أعلمُ.
325 -
سُئلتُ عن حديث: أخرجه أبو داوُد من حديثِ عائشة، قالت:"كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التيمُّن ما استطاع في شأنه كلِّه: في طَهُوره، وتَرجُّله، ونَعْلِه، - وزاد: - وسواكه"، فما صحَّةُ هذه الزِّيادة؟
• قلتُ: أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الوُضوء"(1/ 269)، وأبو داوُد (4140)، والبَيهَقِيُّ (1/ 216) عن حفص بن عُمَر الحَوْضِيِّ ..
والبُخاريُّ في "الصَّلاة"(1/ 523)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(6280) عن سُليمان بن حربٍ ..
والبُخاريُّ أيضًا في "الأطعمة"(9/ 526)، والنَّسَائِيُّ (1/ 205) عن عبد الله بن المُبارَك ..
والبُخاريُّ في "اللِّباس"(10/ 309، 368) عن حجَّاج بن مِنهالٍ، وأبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ ..
ومُسلِمٌ في "الطَّهارة"(268/ 67)، وأبو داوُد (4140) معلَّقًا عن مُعاذ بن مُعاذٍ العَنبريِّ ..
والنَّسَائِيُّ (1/ 87، 8/ 185)، وابنُ خُزَيمَة (179)، وعنه ابن حِبَّان (1091) عن خالد بن الحارث ..
وأحمدُ (6/ 94، 187 - 188) قال: حدَّثَنا بهزُ بن أَسَد، وعبدُ الرَّحمن بن مَهدِيٍّ ..
وأحمدُ (6/ 130)، وأبو عَوَانة (1/ 222) عن عفَّان بن مُسلِمٍ ..
وأحمدُ (6/ 147)، والإِسمَاعِيليُّ في "المُستخرَج" - كما في "الفتح"-، عن غُندَرٍ ..
وأحمدُ (6/ 202)، وابن خُزَيمة (244) عن يحيى القَطَّانِ ..
وأبو عَوَانة (1/ 222)، والبَيهَقِيُّ (1/ 216) عن بِشر بن عُمَر الزَّهرَانِيِّ ..
والطَّيَالِسِيُّ (1410)، ومن طريقه أبو عَوَانة (1/ 222)، وإسحاقُ بن رَاهَوَيهِ في "المُسنَد"(1463/ 920)، والخطيبُ في "الجامع"(917) عن النَّضر بن شُميلٍ ..
وابن المُنذِر في "الأوسط"(1/ 386)، والبيهقيُّ (1/ 86) عن أبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ ..
وابنُ سعد في "الطبقات"(1/ 386) قال: أخابرنا يحعى بنُ السَّكَنِ ..
وابن رَاهَوَيهِ في "المُسنَد"(1464/ 921) قال: أخبَرَنا وهبُ بن جَرِيرٍ ..
وأبو الشَّيخ في "أخلاق النَّبيِّ"(ص 282)، عن أبي أُسامة حمَّاد بن أُسامة ..
والبَيهَقِيُّ في "المعرفة"(1/ 316) عن حجَّاج بن مِنهالٍ، قالوا جميعًا - وهم ثمانية عشر راويًا -: ثنا شُعبةُ، عن أشعث بن سُليم، عن أبيه، عن مسرُوقٍ، عن عائشة فذَكَرَته.
قال شُعبة: سمعتُ الأشعثَ بواسطَ يقول: "يُحبُّ التَّيامُن"، فذكر شأنَه كُلَّه، ثُمَّ سمعتُهُ بالكُوفة يقول:"يُحبُّ التَّيامُنَ ما استطاع".
وتابعَهُم مُسلِمُ بنُ إبراهيم، قال: حدَّثَنا شُعبة بهذا الإسناد، إلَّا أنَّه قال:"وسواكه"، ولم يَذكُر قولَه:"في شأنه كُلِّه".
أخرَجَهُ أبو داوُد (4140) قال: حدَّثَنا مُسلِمٌ بهذا.
ورواه جمعٌ تابَعُوا شُعبة عليه، ولم يَذكُروا هذه الزِّيادة.
وسبيل هذه الزِّيادة، عند النَّاظر في هذا التَّخريج، أن تكون شاذَّةً ..
لكنِّي لا أَحكُم بشذُوذِها، لأمرين:
أوَّلهِما: أنَّ مُسلِم بن إبراهيم ثقةٌ مأمونٌ، لم يُختلَف فيه.
الثَّاني: أنَّ زيادة السِّواك داخلةٌ في عُموم قولِه: "في شأنه كُلِّه"، ثُمَّ ذَكَر الطَّهُورَ، والتَّرجُّلَ، والتَّنعُّلَ على سبيل المثال، فلا مَانِع أن يَدخُل فيه السِّواكُ وغيرُه، ولعلَّ أشعثَ بنَ سُليمٍ كان يذكرُها ويترُكها، كما كان يقول في الكوفة:"ما استطاع"، ولا يذكرُها في مرَّةٍ أخرى.
ولستُ ممَّن يرَى قَبُول زيادة الثِّقة بإطلاقٍ، كما يراه جُمهُور الأصوليِّين والفُقهاء، فإن الحُذَّاقَ من أهل الحديث كانوا يُفصِّلون، فتارة يَقبَلُونَها، ويردُّونَها تارةً، ويَدُورُون مع القرائن.
وقد ذكرتُ قرينتين، بل ثلاثةً، تُرَجِّح قَبول زيادةِ مُسلم بن إبراهيم.
والمقامُ يَحتَمِل البسطَ، ولكن الموضعَ هنا لا يسعُهُ.
واللهُ أعلمُ.
326 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن تَرَكَ شَعرَةً لم يُصِبها الماءُ مِنَ الجنابة فَعَل اللهُ به كذا وكذا".
وذكر السَّائلُ أنَّه سمع بعض النَّاس يُصَحِّحُ رواية حمَّاد بن سَلَمة، عن عطاء بن السَّائب، ويقول: إنَّ حمَّادًا سَمِع من عطاءٍ قبل الاختلاط.
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (249)، وابنُ جَرِيرٍ في "تهذيب الآثار"(ص 276 - 277 رقم 42 - مُسنَد عليٍّ) عن أبي سَلَمة مُوسَى بن إسماعيل ..
وابنُ ماجَهْ (599) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ بنُ أبي شيبة - وهذا في "المُصنَّف"(1/ 100) -، قال: حدَّثَنا أسودُ بنُ عامرٍ ..
وأحمدُ (1/ 94، 101) قال: حدَّثَنا حَسَنُ بنُ مُوسَى، وعفَّان بن مُسلمٍ ..
وعبدُ الله بنُ أحمد في "زوائد المُسنَد"(1/ 133) قال: حدَّثَنا إبراهيم بن الحجَّاج، ومُحمَّد بن أبان بن عِمرانَ الوَاسِطِيُّ ..
والدَّارِمِيُّ (1/ 157) قال: أخبَرَنا مُحمَّد بن الفَضل ..
وابنُ جَرِيرٍ في "التَّهذيب"(ص 276/ رقم 41) عن حجَّاج بن مِنهالٍ ..
وأبو نُعيمٍ (4/ 200) عن يحيى القَطَّان ..
والبَزَّار (813 - البحر) عن أبي الوليد الطَّيَالِسِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ (1/ 175) عن عفَّان، وحجَّاجٍ، وعُبيد الله بن عُمَر ..
والطَّيَالسيُّ (175)، ومن طريقه أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(4/ 200)، قالوا: ثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن عطاء بن السَّائب، عن زَاذَانَ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ مرفُوعًا.
قال عليٌّ: "ولذلك عَادَيتُ شَعرِي - أو قال: رأسي -"، وكان يَجزُّ شَعرَه.
قال أبو نُعيمٍ: "هذا حديثٌ غريبٌ، تفرَّد به حمَّادٌ، عن عطاءٍ".
ولم يتفرَّد به، كما يأتي.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ عطاء بن السَّائب كان اختَلَط، وأجمع النُّقَّاد على أنَّ من سَمِع منه قبل الاختلاط فحديثُهُ صحيحٌ، كما قال أحمدُ وابن مَعِينٍ وأبو حاتمٍ والنَّسَائِيُّ والعِجلِيُّ، في آخَرِين. ومن سَمِع منه بعد الاختلاط فحديثُه ضعيفٌ. ومن لم يُتميَّز أَسَمِع منه قبل الاختلاط أَم بَعدَه فالتَّوقُّف في الاحتجاج بحديثه هو المتعيِّنُ المُناسِب للاحتياط.
وقد نصَّ جماعةٌ مِن أهل العلم، كابن مَعِينٍ وأبي داوُد والطَّحَاوِيِّ، أنَّ حمَّاد بن سَلَمة سَمِع عطاءً قبل الاختلاط، ولكن نَقَل العُقيليُّ في "الضُّعفاء" (3/ 399):"عن عليِّ بن المَدِينِيِّ، أنَّه قال ليحيى القطَّان: كان أبو عَوَانة حَمَل عن عطاء بن السَّائب قبل أن يَختَلِط؟ فقال يحيى القَطَّانُ: كان لا يَفصِل هذا من هذا، وكذلك حمَّاد بن سَلَمة".
وقال الحافظُ ابن حَجَرٍ في "التَّهذيب"(7/ 207): "فيَحصُل لنا من
مجمُوع كلامِهِم أنَّ: "سُفيان الثَّوْريَّ، وشُعبةَ، وزُهيرَ، وزائدَة، وحمَّادَ بن زيدٍ، وأيُّوبَ" عنه: صحيحٌ. ومَن عَدَاهُم فيُتَوقَّف فيه، إلَّا حمَّاد بن سَلَمة، فاختَلَف قولُهم، والظَّاهرُ أنَّه سَمِع منه مرَّتين، مرَّةً مع أيُّوب، كما يُوحِي إليه كلامُ الدَّارَقُطنِيِّ، ومرَّةً بعد ذلك لمَّا دخل إليهم البصرةَ، وسَمِع منه جريرٌ وذَوُوْه" انتهَى.
وهذا التَّحقيق من الحافظ هو الصَّواب، مع أنَّه خالف ذلك في "التَّغليق"(3/ 470)، وكذلك شيخُه العِرَاقِيُّ في "نُكتِه على ابن الصَّلاح"(ص 443).
وقد تُوبِع حمَّادُ بنُ سَلَمة ..
تابعه عبد العَزِيز بن أبي روَّادٍ، عن عطاء بن السَّائب بهذا الإسناد.
أخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(7034)، وفي "الصَّغير" (987) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ الأعجم الصَّنعَانِيُّ، ثنا حَرِيزُ بنُ المُسلِم - بالحاء المُهمَلة، ثُمَّ راءٍ، وآخرِهُ زايٌ مُعجَمةٌ -، ثنا عبدُ المَجِيد بنُ عبد العزيز بن أبي روَّادٍ، عن أبيه بهذا الإسناد.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ إلَّا ابنُه. تفرَّد به حَرِيزُ بن المُسلِم".
ورواهُ أيضًا شُعبةُ بنُ الحجَّاج، عن عطاء بن السَّائب بهذا. أخرَجَهُ ابنُ المُظَفَّر في "غرائب شُعبة"(ق 26/ 1)، كما ذَكَرَه مُحَقِّقُ كتاب "الكواكب النَّيِّرات"(ص 330)، ولكنَّهُ لم يَذكُر إسنادَه إلى شُعبة.
ولكن نَقَل صاحبُ "الكواكب" عن يحيى القَطَّان، أنَّ شُعبة سَمِع من عطاءٍ، عن زَاذَانَ، حدِيثَين في الاختلاط، واستَظهَر المُحَقِّقُ أنَّ هذا أحدُهُما.
والصَّوابُ في هذا الحديث الوقفُ، كما رواه حمَّادُ بنُ زيدٍ، عن عطاء بنِ السَّائب بهذا الإسناد، على ما ذَكَره الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(3/ 208).
وحمَّادُ بنُ زيدٍ كان ممَّن سمِع من عطاء بن السَّائب قَبلَ الاختلاطِ، كما قال يَحيَى القطَّانُ، والبُخاريُّ، وغيرُهُما.
وأغرَبَ الحافظُ، فرجَّح في "التَّلخيص"(1/ 142) صِحَّةَ إسناد حديث حمَّاد بن سَلَمة، وبناه على أنَّ حمَّاد بن سلَمة سَمِع من عطاءٍ قَبل الاختلاط، وقد قدَّمنا الجَوابَ عن ذلك.
واللهُ أعلمُ.
327 -
سُئلتُ عن حديث: المسحِ على العَصَائِب والتَّسَاخِين.
* قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (641)، والحاكم (1/ 169)، والطَّبَرانيُّ في "مُسنَد الشَّاميِّين"(477)، والبَيهَقِيُّ (1/ 62) عن أحمد بن حنبل، وهو في "مُسنَده"(5/ 277) ..
وأبو عُبيدٍ في "غريب الحديث"(1/ 187) ..
والطَّبَرانيُّ في "مُسنَد الشَّامِيِّين"(477) عن مُسدَّد بن مُسَرهَدٍ، قال ثلاثتهم: ثنا يَحيَى بنُ سعيدٍ القَطَّان، عن ثَوْر بن يزيد، عن راشد بن سعدٍ، عن ثوبان، قال: بَعثَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم سريَّةً، فأصابَهُم البَرْدُ، فلمَّا قَدِمُوا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، شَكَوا إليه ما أصابهم من البَرْد، فأَمَرَهم أن يَمسَحُوا على العَصَائِب والتَّسَاخِين.
وقال الحاكمُ: "صحيحٌ على شرط مُسلِمٍ".
وليس كما قال؛ فإنَّ ثورًا لم يَروِ له مُسلِمٌ. وراشدُ بنُ سعدٍ لم يحتجَّ به الشيخانِ، كما قال الزَّيلَعيُّ في "نصب الرَّاية"(1/ 165).
وصحَّح النَّوَوِيُّ إسنادَهُ في "المجموع"(1/ 408).
ولكن أعلَّه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "التَّلخيص" بقوله: "هو مُنقَطِعٌ"، ولعلَّه يشيرُ إلى ما نَقَلُوه عن أحمد وأبي حاتمٍ وإبراهيم الحَربِيِّ:"أنَّ راشد بن سعدٍ لم يَسمَع مِن ثوبان".
وخالَفَهُم في هذا الإمامُ البُخاريُّ، فإنَّه ترجم لراشد بن سعدٍ في "التَّاريخ الكبير"(2/ 1/ 292)، وقال:"سَمِع ثوبان"، والبُخاريُّ حُجَّةٌ في هذا الباب. وروى عن حَيْوَةَ، ثنا بقيَّةُ، عن صفوان بن عَمْرٍو، قال:"ذَهَبَت عينُ راشدٍ يوم صِفِّين"، فهذا يردُّ قولَ أَحمدَ ومَن مَعهُ بالانقطاع؛ فإنَّ ثوبان مات سنة أربعٍ وخمسين، ومات راشدٌ سنة ثمانٍ ومائة، فقد عاصَرَه ما يُقارِب عشرين عامًا، ولا يُعلَم عنه تدليسٌ، ولذلك قوَّى الذَّهَبِيُّ في "السِّير"(4/ 491) إسناد هذا الحديث.
واللهُ أعلَمُ.
328 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ مِن أَحسَن النَّاس صوتًا بالقُرآن مَن إِذَا سَمِعتُمُوه يقرأُ حَسِبتُمُوه يخشى اللهَ".
* قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
وَرَدَ من حديث جابرٍ، وابنِ عُمَر، وابن عبَّاسٍ، وأبي هُريرَة، وعائشةَ. ومن مُرسَل طاوُوسٍ، والزُّهرِيِّ.
* أوَّلًا: حديثُ جابرٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ في "خَلق أفعال العِباد"(286) مُعلَّقًا بصيغَة التَّمريض. ووصله: ابنُ ماجَهْ (1339)، والآجُرِّيُّ في "أخلاق حَمَلة القُرآن"(83)، وفي "فوائده"، وابنُ أبي داوُد في "كتاب الشَّريعة" - كما في "إتحاف السَّادة"(4/ 521) - من طُرُقٍ عن عبد الله بن جعفرٍ المَدِينِيِّ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمِّعٍ، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ مرفُوعًا فذَكَره.
قال العِرَاقِيُّ في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 286): "سنَدُهُ ضعيفٌ".
وقال البُوصِيرِيُّ في "الزَّوائد"(436/ 1): "هذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لضعف إبراهيمَ بنِ إسماعيل بن مُجَمِّعٍ، وعبدِ الله بن جعفرٍ".
* قلتُ: وعنعنةُ أبي الزُّبَير أيضًا.
فالصَّوابُ أنَّ السَّند ضعيفٌ جدًّا. واللهُ أعلَمُ.
* ثانيًا: حديثُ ابن عُمَر رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ ابنُ حِبَّان في "المجروحين"(1/ 157) قال: حدَّثَنا أبو بِشرٍ أحمدُ بنُ مُحمَّد بن مُصعَبٍ، قال: ثنا أبي، وعَمِّي، قالا: ثنا أبي، ثنا يحيى بنُ عُثمان، ثنا شُعبةُ، والثَّوْرِيُّ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عُمَر، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل:"أيُّ النَّاسِ أحسنُ صوتًا؟ "، قال:"مَن إِذَا قرأ رأيتَ أنَّه يَخشَى الله عز وجل".
وهذا سَنَدٌ ساقطٌ؛ وأبُو بِشرٍ هذا قال فيه تلميذُهُ ابنُ حِبَّان: "كان ممَّن يَضَعُ المتون للآثار، ويَقلِب الأسانيد للأخبار
…
ولعله أَقلَب على الثِّقات أكثرَ مِن عشرة آلاف حديثٍ".
لكن له طريقٌ آخرُ عن عبد الله بن دينارٍ ..
أخرَجَهُ البَزَّارُ (ج 3/ رقم 2336)، والرُّوْيَانِيُّ في "مُسنَده"(ج 31/ ق 241/ 1)، والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(ج 1/ ق 114/ 2 - 2/ 84/ 1 - 2)، وتمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(1319)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 693)، والخطيبُ في "تاريخه"(3/ 208)، وفي "تلخيص المُتشابه"(129/ 1) من طريق مُحمَّد بن مَعمرٍ البَحرَانِيِّ، نا حُميدُ بنُ حمَّاد بن أبي الخُوَار، عن مِسعَرٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عُمَر، قال: قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أحسنُ صوتًا بالقرآن؟ "، قال:"من إذا سمعتَ قراءَتَهُ رأيتَ أنه يَخشَى الله عز وجل".
قال البَزَّارُ: "لم يُتابَع حُميدٌ على روايته هذه، إنَّما يرويه مِسعَرٌ، عن
عبد الكَريم، عن مُجاهدٍ مُرسَلًا. ومِسعَرٌ لم يُحدِّث عن عبد الله بن دينارٍ بشيءٍ. ولم نَسمَع هذا الحديث إلَّا مِن مُحمَّد بن مَعمَرٍ، أخرَجَه إلينا مِن كتابه".
وقال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن مِسعَرٍ إلَّا حُميدُ بنُ حمَّادٍ. تفرَّد به مُحمَّدُ بنُ مَعمَرٍ".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا عن مِسعَرٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عُمَر، لم يَروِه إلَّا حُميدُ بنُ حمَّادٍ هذا، وقد رُوِي هذا الحديثُ: "عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم المُعلِّمِ، عن طاوُوسٍ، قال: سُئِل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم": مُرسَلٌ، ووَصَلَهُ إسماعيلُ بن عَمْرٍو البَجَلِيُّ، عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ".
وقال الخطيبُ: "تفرَّد بروايته ابنُ خُوَارٍ، وخالفه إسماعيلُ بنُ عَمْرٍو، عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم".
• قلتُ: وحُميدُ بنُ حمَّاد بن أبي الخُوَار - بضمِّ الخاء المُعجَمة، وتخفيف الواو، آخرُه راءٌ - ضعَّفه أبو داوُد، وقال ابنُ عَدِيٍّ:"هو قليلُ الحديث، وبعضُ أحاديثه، على قِلَّتِها، لا يُتابَعُ عليه"، ومن تدبَّر ما أورَدَهُ له ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل" عَلِم أنَّه واهٍ.
وخالفه إسماعيلُ بنُ عَمْرٍو البَجَلِيُّ، كما يأتي إن شاء اللهُ.
ورأيتُ له طريقًا آخر عن ابن عُمَر رضي الله عنهما.
أخرَجَه الخَليليُّ في "الإرشاد"(3/ 969) قال: حدَّثَني أحمدُ بنُ مُحمَّد بن الحُسَين الحافظُ، حدَّثنا أبو مُحمَّدٍ عِصْمَةُ بنُ محمُودٍ البِيْكَندِيُّ، حدَّثَنا
إسحاقُ بن أحمَد بن خَلَفٍ البُخارِيُّ، حدَّثَنا إسحاقُ بن حمزة، حدَّثنا عيسى بنُ مُوسى، عن عبد الله بن كَيْسَانَ، عن يَحيَى بنِ يَعمَر، عن ابن عُمَر، قال: سُئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أحسنُ صوتًا بالقُرآن؟ "، قال:"الذي يَخافُ اللهَ عز وجل".
قال ابنُ عُمَر: "ولا أعلَمُ إلَّا أنَّ طَلْقَ بنَ حبيبٍ مِن أَخوَفِهِم لله تعالى".
قال الخَلِيليُّ: "لم يَروِهِ إلَّا عبدُ الله بنُ كَيْسانَ، وعنه: عِيسَى غُنْجَارُ".
ثُمَّ رأيتُهُ في "عِلَل الحديث"(1850) لابن أبي حاتِمٍ، قال:"سألتُ أبي عن حديثٍ رواه مُحمَّدُ بنُ أميَّة السَّاوِيُّ، عن عِيسَى بن مُوسَى التَّيمِيِّ البُخاريِّ المعروفِ بالغُنْجَارِ، عن عبد الله بن كَيْسانَ، عن يحيى بن يَعمَر، عن ابن عُمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ سُئل: "مَن أحسَنُ النَّاس صوتًا بالقُرآن؟ "، قال: "أخوَفُهُم لله". وقال ابنُ عُمَر: "ولا أعلَمُ إلَّا أنَّ طَلق بن حبيبٍ مِن أخوَفِهِم لله"؟ فسمِعتُ أبي يقولُ: هذا حديثٌ غريبٌ مُنكَرٌ".
فاعتَرَضهُ أبو الفَيضِ الغُماريُّ في "المُداوِي"(1/ 226) قائلًا: "لم يُبيِّن عِلَّته، فهو غيرُ مقبُولٍ؛ إذ الحديثُ كما تَرَى له طُرُقٌ متعدِّدةٌ، لا يَجُوزُ أن يكون مَعَهَا غريبًا منكَرًا".
• قلتُ: وهو مِن أغرَب الاعتِراضَاتِ وأسمَجِها؛ وعِلَّتُهُ ظاهِرَةٌ كالشَّمس، ألَا وهي: عبدُ الله بنُ كَيْسَانَ أبو مُجاهِدٍ. قال البُخارِيُّ: "مُنكَرُ الحَدِيث"، وضعَّفه أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ. وقال النَّسائِيُّ والدَّارَقُطنِيُّ:"ليس بالقَوِيِّ"، وقال العُقَيلي:"في حديثه وَهَمٌ كثيرٌ".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "ولعبد الله بن كَيْسَانَ، عن عِكرِمة، عن ابن عبَّاسٍ، أحادِيثُ غيرُ ما أَمليتُ غيرُ محفُظَةٍ. وعَن ثابتٍ، عن أنسٍ كذلك".
وقد صرَّح الخَلِيلِيُّ أنَّه تفرَّد به، فكيف يكُونُ حديثُ مَن هذا وَصفُهُ؟ وتَسَاهَل الحافِظُ في أمرِهِ فقال في "تقريبِهِ":"صَدُوقٌ يُخطِئُ كثيرًا" وكان يَنبَغِي أن يَجزم بضعفِهِ.
ولا قِيمَةَ لتَوثيق ابن حِبَّان إيَّاه. والله أعلَم.
* ثالثًا: حديثُ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
فيرويه إسماعيلُ بنُ عَمْرٍو البَجَلِيُّ، عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: سُئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَحسَنُ النَّاس قراءةً؟ "، قال:"مَن إِذَا قرأ رأيتَ أنَّه يَخشَى الله عز وجل".
أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(2/ 693)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 5/ رقم 1958)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(4/ 19)، وفي "أخبار أصبهان"(2/ 90)، وابنُ مَرْدَوَيهِ في "أحادِيث أبي الشَّيخ"(5)، والخَطيبُ في "المُتَّفِق والمُفتَرِق"(202).
قال أبو نُعيمٍ: "غريبٌ من حديث مِسعَرٍ، لم يَروِه عنه مرفُوعًا موصُولًا إلا إسماعيلُ" ا. هـ.
وإسماعيلُ هذا مُنكَر الحديث، لذلك قال ابنُ عَدِيٍّ:"والرِّوايتان جميعًا غيرُ محفوظتين"، يعني حديث ابن أبي الخُوَار، وإسماعيل بن عَمْرٍو، كليهما عن مِسعَرٍ.
وخالفهما وكيعُ بنُ الجرَّاح، وجعفرُ بنُ عونٍ، وأبو أُسامة حمَّادُ بنُ
أُسامة، فرَوَوْه عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ، قال: سُئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أحسن النَّاس قراءةً
…
الحديث.
أخرَجَهُ الدَّارِمِيُّ (2/ 338)، وابنُ أبي شيبة (3/ 522، و 10/ 464 - 465)، وابنُ نَصرٍ في "كتاب الصَّلاة" - كما في "إتحاف السَّادة"(4/ 521) -، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(ج 5/ رقم 1959).
قال ابنُ عَدِيٍّ: "الصَّوابُ مُرسَلٌ".
وقال الزَّبِيدِيُّ في "الإتحاف": "هذا مُرسَلٌ حَسَنٌ السَّنَد" كذا!!
وعبدُ الكَريم هو ابنُ أبي المُخَارِق، وهو ضعيفٌ، ومع ضعفه، فإنَّ الإرسالَ هو الصَّوابُ قطعًا.
وقد سُئل الدَّارَقُطنِيُّ - كما في "العِلل"(2/ 38/ 1) -، عن هذا الحديث، فقال:"المحفوظُ: عن مِسعَرٍ، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ: مُرسَلٌ".
وممَّا يُؤيِّد هذا الحُكمَ، أنَّ سُفيانَ بن عُيَينة رَوَى، عن عبد الكَريم، قال: قال لي طاووسٌ وأنا أَطُوفُ معه: "والله! ما سمِعتُ رجُلًا أحسنَ قراءةً مِن طلق بن حبيبٍ"، ورَفَعَ طاووسٌ يديه إلى السَّماء، وسُئل:"أيُّ النَّاس أحسنُ قراءةً؟ "، قال:"مَن إذا سَمِعتَه يقرأُ رأيتَ أنَّه يَخشَى الله. - قال: - وكان طَلْقٌ كذلك".
أخرَجَهُ الفاكِهِيُّ في "أخبار مكَّةَ"(1582) قال حدَّثَنا مُحمَّدُ بن أبي عُمَر - هو العَدَنِيُّ -، قال: ثنا سُفيانُ بهذا.
وأخرَجَهُ عبدُ الله بنُ أحمد في "زوائد الزُّهد"(ص 174)، ومِن طريقه
أبُو نُعَيمٍ في "الحِلية"(3/ 64) قال: حدَّثَنا أبُو مَعمَرٍ، ثنا سُفيانُ، عن عبد الكَريم بن أبي أميَّة، عن طلقٍ، قال:"أحسَنُ النَّاس صوتًا بالقُرآن الذي إذا قرأَ رأيتَ أنَّه يَخشَى الله عز وجل".
قال عبدُ الكريم: وكان طلقٌ كذلك.
قال عبدُ الكَريم: قال طَلقٌ: "إنِّي لأشتهِي أن أقوم حتَّى يَشتكِي صُلبي"، وكان طَلقٌ يفتَتِحُ البَقرةَ، فلا يَركَعُ حتَّى يبلُغ العنكبوتَ.
• قلتُ: كذا رواه أبو مَعمَرٍ، عن سُفيان، فجعله من كلام طلقِ بن حبيبٍ.
وروايَةُ مُحمَّد بن أبي عُمر جيِّدةٌ مُفسِّرَةٌ.
وقَولُه: "إنِّي لأَشتَهِي
…
الخ" ..
أخرَجَه الفاكِهِيُّ (1583) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن أبي عُمَر ..
وأبُو نُعَيمٍ (3/ 64) عن الحُمَيدِيِّ، قالا: ثنا سُفيانُ بهذا.
ومِمَّا يُقَوِّي روايَةَ الإرسالِ أنَّ ابن جُريجٍ رواه، عن عبد الكَريم، عن طاوُوسٍ مُرسَلًا.
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 2/ رقم 4185).
وأخرجه أبو عُبيدٍ في "الفضائل"(ص 80) قال: حدَّثَنا قَبِيصَةُ، عن سُفيانَ الثَّوريِّ، عن ابن جُريجٍ، عن ابن طاوُوسٍ، عن أبيه، وعن الحَسَن بن مُسلِمٍ، عن طاوُوسٍ مُرسَلًا.
وخُولِف أبو عُبيدٍ ..
خالَفَهُ أحمدُ بنُ عُمَر الوَكِيعِيُّ، قال: حدَّثَنا قَبِيصَةُ، ثنا سُفيانُ، عن
ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قال: سُئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أيُّ النَّاس أحسنُ قراءةً؟ "، قال:"إذا قرأَ رأيتَ أنَّهُ يخشى اللهَ".
أخرجه أبُو سعيدٍ النَّقَّاش في "فوائد العِراقِيِّين"(5)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(3/ 317)، وقال:"هذا حديثٌ غريبٌ من حديث الثَّوْريِّ، عن ابن جُريجٍ، عن عطاءٍ. انفرد به أحمدُ بنُ عُمَر، عن قَبِيصَة" ا. هـ.
• قلتُ: والوَكِيعِيُّ وثَّقَه ابنُ مَعِينٍ وغيرُه، ولكن قال ابنُ حِبَّان:"كان يُغرِب"، فرواية أبي عُبيدٍ أرجَحُ من روايته. واللهُ أعلَمُ.
وأخرَجَهُ ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(113) من طريق عُمَر بن سعيد بن أبي حُسينٍ، عن رجُلٍ، عن طاوُوسٍ مُرسَلًا.
وأخرَجَهُ أبو عُبيدٍ في "الفضائل"(ص 80)، وفي "الغريب"(2/ 141)، وعبدُ الله بن أحمدَ في "زوائد الزُّهد"(ص 213) من طريق ليثِ بنِ أبي سُليم، عن طاوُوسٍ، قال:"أحسَنُ النَّاس صوتًا بالقُرآن أخشاهُم لله عز وجل".
وليثٌ ضعيفُ الحديث.
وخالَفَهُم عَمْرُو بنُ دينارٍ، فرواه عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أحسن النَّاس قراءةً مَن إِذَا قرأ تحزَّن".
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 10852)، ومن طريقه أبو نُعيمٍ في "الحِلية" (4/ 19) قال: حدَّثَنا يحيى بنُ عُثمان بن صالحٍ، ثنا أبي، ثنا ابنُ لَهِيعة، عن عَمْرو بن دينارٍ فذَكَرَه.
وابنُ لَهِيعة يُضعَّفُ في الحديث.
ورواه الأحولُ، عن طاوُوسٍ، عن ابن عُمَر، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قيل له:"أيُّ النَّاس أحسنُ قراءةً؟ "، قال:"الذي إذا سمعتَ قِراءَتَهُ رأيتَ أنَّه يخشى الله".
أخرَجَهُ ابنُ نصِرٍ في "قيام اللَّيل"(ص 138)، من طريق مرزُوقٍ أبي بَكرٍ، عن الأحولِ.
والأحولُ هو: عاصمٌ.
ومرزوقٌ أبو بَكرٍ الباهليُّ مُختلَفٌ فيه، فوثَّقَه أبو زُرعَة، وابنُ حِبَّان، وقال:"يُخطِئ". وقال ابنُ خُزَيمة: "أنا بريءٌ من عُهدَتِه"، وهذه عادَتُه فيمن لا يَحتَجُّ به.
ثُمَّ رأيتُ الحديثَ في "المُنتخَب"(802) لعبد بن حُميدٍ، و"أخبار أصبَهَانَ"(1/ 303) لأبي نُعيمٍ، لكنَّهُ سمَّى الأحولَ سُليمانَ.
وسُليمانُ بنُ أبي مُسلِمٍ الأحولُ يَروِي عن طاوُوسٍ أيضًا، وإن كان المذكورُ في ترجمة مَرزُوقٍ الباهليِّ، هو عاصمٌ. فاللهُ أعلَمُ.
وهذه الرِّوايةُ أَولَى مِن رواية ابن لَهِيعة، لكن تَبْقَى المُخالَفةُ.
وذَكَر الزَّبِيدِيُّ في "الإتحاف"(4/ 522)، أنَّ السِّجْزِيَّ رواه في "الإبانة"، من طريق طاوُوسٍ، عن أبي هُريرَة.
فهذا اختلافٌ شديدٌ على طاوُوسٍ.
والصَّوابُ عِندِي في هذا الحديث الإرسالُ.
وقد أخرَجَهُ ابنُ المُبارَك في "الزُّهد"(114)، ومِن طريقِهِ الآجُرِّيُّ في "أخلاق حَمَلة القُرآن"(84) من طريق يُونُسَ بنِ يزيد، عن الزُّهرِيِّ،
قال: بَلَغَنَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مِن أحسن النَّاس صوتًا بالقُرآن الذي إذا سمِعتَه يقرأُ أُرِيْت أنَّهُ يَخشَى الله عز وجل".
وهذا سَنَدٌ مُعضَلٌ، أو مُرسَلٌ.
* رابعًا: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 58) من طريق ابن أَشْكِيبَ، ثنا يحيى بنُ عُثمان بن صالحٍ المِصرِيُّ، ثنا أبي، ثنا ابنُ لَهِيعة، عن يزيد بن يزيد - وهو ابن جابرٍ -، عن ابن شهابٍ، عن عُروة، عن عائشة مرفُوعًا:"إنَّ أحسَنَ النَّاس قراءةً الذي إذا قَرَأَ رأيتَ أنَّه يخشى الله".
• قلتُ: وهذا مِن وُجوه الاختلاف على ابن لَهِيعة فيه.
وقد خالف الطَّبَرانِيُّ ابنَ أَشكِيبَ، فرواه عن يحيى بن صالحٍ المِصرِيِّ، عن أبيه، عن ابن لَهِيعة، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن طاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ كما مرَّ ذِكرُه.
وكُلُّ هذه الوُجُوه ضعيفةٌ، لا يُعتَبرُ بها، ولا يَتَقَوَّى بها الحديثُ؛ لأنَّ طُرُقَه تعدَّدَت من أَثَر اضطراب رُوَاتِه.
والصَّواب في الحديث الإرسالُ، كما قدَّمتُ، ولَم يُصِب مَن قوَّاه.
واللهُ تعالى أعلَمُ.
329 -
سُئلتُ عن حديث: أنَّ صحابيًّا أَذنَب ذنبًا، فهَرَب في الجبال بسببه، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَرسَل في طَلَبِه، وأخبَرَه أنَّ الله غَفَر له، ولمَّا مات هذا الصَّحابيُّ لم يَستَطِع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُشَيِّعه من كثرة مَن حَضَره من الملائكة.
• قلتُ: بحثتُ عن هذه الحِكاية حتَّى ظفرتُ بها، وهي حكايةٌ باطلةٌ، لا يَشُكُّ حديثيٌّ مُبتدِئٌّ في بُطلانها.
فأخرَجَ أبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(3/ 276 - 279)، وأبو عَمْرٍو الدَّرَّاجُ عُثمانُ بنُ عُمَر في "جزءٍ من حديثه"(ق 175/ 2 - 176/ 1 - مجموع 45)، وابنُ شاهين، وابنُ مَندَهْ في "الصَّحابة" - كما في "الإصابة"(1/ 405) - من طريق مَنصُور بن عمَّارٍ، عن المُنكدِر بن مُحمَّد بن المُنكدِر، عن أبيه، عن جابرٍ، أنَّ فتًى من الأنصار، يُقال له ثعلبةُ بنُ عبد الرَّحمن، وكان يَخدُم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجةٍ، فمرَّ بباب رَجُلٍ من الأنصار، فرأى امرأةَ الأنصاريِّ تغتَسلُ، فكرَّر إليها النَّظرَ، وخاف أن يَنزِل الوحيُ على رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ هاربًا على وَجهِه، فأتى جِبالًا بين مكَّةَ والمدينةِ، فوَلَجَها، ففقده رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَربَعين يومًا - وهي الأيَّامُ التي قالوا: وَدَّعَهُ ربُّه وقلاه -، ثُمَّ إنَّ جبريل نَزَل على رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا مُحمَّدُ! إنَّ ربَّك يَقرَأُ عليك السَّلامَ،
ويقول لك: إنَّ الهاربَ من أُمَّتك، بين هذه الجِبال، يتعوَّذُ بي من ناري"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عُمَرُ! ويا سَلمَانُ! انطلِقا، فأتياني بثعلبةَ بنِ عبد الرَّحمن"، فخرَجَا في أنقاب المدينة، فلَقِيَهُما راعٍ من رِعاءِ المدينة، يُقال له ذُفَافَةُ، فقال له عُمَرُ: "يا ذُفافةُ! هل لك علمٌ بشابٍّ بين هذه الجبال؟ "، فقال له ذُفافةُ: "لعلَّك تُرِيد الهاربَ من جهنَّم؟ "، فقال له عُمَرُ: "وما عِلمُك أنَّه هرب مِن جهنَّمَ؟ "، قال: "لأنَّه إذا كان في جوف اللَّيل، خَرَج علينا من بين هذه الجِبَال، واضعًا يده على أُمِّ رأسِه، وهو يقُول: يا ربِّ! ليت قَبَضتَ رُوحِي في الأرواح، وجَسَدِي في الأجساد، ولا تُجَرِّدْني في فصل القضاء"، قال عُمَرُ: "إيَّاه نُرِيدُ"، - قال: - فانطَلَقَ بهم ذُفَافةُ، فلمَّا كان في جَوْف اللَّيل، خَرَج عليهم مِن بين تلك الجبال، واضعًا يده على أُمِّ رأسه، وهو يقُول: "يا ليت قبضتَ رُوحِي في الأرواح، وجَسَدِي في الأجسادِ، ولم تُجَرِّدني لفصل القضاء"، - قال: - فعدا عليه عُمَرُ، فاحتَضَنه، فقال: "الأمانَ! الأمانَ! الخلاصَ من النَّار! "، فقال له عُمَرُ بنُ الخطَّاب: "أنا عُمَرُ بنُ الخطَّاب"، فقال: "يا عُمَرُ! هل عَلِم رسُول الله صلى الله عليه وسلم بِذَنبِي؟ "، قال: "لا عِلم لي، إلَّا أنَّه ذَكَرَك بالأمس، فبَكَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأَرسَلَني وسَلمانَ في طلبك"، فقال: "يا عُمَرُ! لا تُدخِلني عليه إلَّا وهو يُصَلِّي، أو بلالًا يقولُ: قد قامت الصَّلاة"، قال: "أَفعَلُ"، فأقبَلُوا به إلى المدينة، فوَافَقُوا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاه الغَدَاة، فبَدرَ عُمَرُ وسَلمانُ الصَّفَّ فما سَمِع قراءةَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى خرَّ مغشِيًّا عليه، فلمَّا سَلَّم رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"يا عُمَرُ! ويا سَلمانُ! ما فَعَل ثعلبةُ بنُ عبد الرَّحمن؟ "، قالا:"ها هو ذا يا رسُولَ الله! "، فقام رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه، فقال:"يا ثعلبةُ! "، قال:"لبَّيك، يا رسُول الله! "، فنَظَر إليه، فقال:"ما غيَّبَك عنِّي؟ "، قال:"ذَنْبِي يا رسُول الله! "، قال:"أَفَلَا أدلُّك على آيةٍ تَمحُو الذُّنوبَ والخطايا؟ "، قال:"بلى، يا رسُول الله! "، قال:"قُل: اللَّهُمَّ! آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنَةً وقِنا عذاب النَّار"، قال:"ذَنبِي أَعظمُ، يا رسُول الله! "، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"بل كلامُ الله أَعظمُ"، ثُمَّ أَمَرَه رسُول الله صلى الله عليه وسلم بالانصراف إلى مَنزِله، فمَرِض ثمانيةَ أيَّامٍ، فجاء سَلمانُ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسُول الله! هل لك في ثَعلَبةَ؟ فإنه لمًّا به"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قُومُوا بنا إليه"، فلما دَخَل عليه، أَخَذَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فوضعه في حِجرِه، فأزال رأسَه عن حِجرِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لِمَ أزلتَ رأسَك عن حِجرِي؟ "، قال:"إنَّه مِنَ الذُّنُوب ملآنٌ"، قال:"ما تَجِدُ؟ "، قال:"أَجِد مثل دَبِيب النَّمل بين جِلدِي وعَظْمِي"، قال:"فما تَشتَهِي؟ "، قال:"مغفِرَةَ ربِّي"، - قال: - فنزل جِبريلُ على رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنَّ ربَّك يُقرِئُك السَّلامَ، ويقول: لو أنَّ عبدي هذا لَقِيَنِي بقُراب الأرضِ خطيئةً، لَلَقِيتُهُ بقُرابها مغفرةً"، فقال له رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَفَلا أُعلِمُه ذلك؟ "، قال:"بلى"، - قال: - فأعلَمَهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فصاح صيحةً، فمات، فأمَرَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِغَسلِه وكَفْنِه، وصَلَّى عليه، فجَعَل رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَمشِي على أطراف أنامله، فقالوا: "يا رسُولَ الله! رأيناك تَمشِي على
أطراف أناملك؟ "، قال: "والذي بَعَثَنِي بالحقِّ! ما قَدَرتُ أن أَضَعَ رِجلِي على الأرض مِن كَثرَة أجنحة من نَزَل ليشيِّعَه من الملائكة".
قال ابنُ مَندَهْ بعد أن رواه: "تفرَّد به منصورٌ".
وقال الحافظُ في "الإصابة"(1/ 406): "وفيه ضعفٌ، وشيخُه أضعفُ منه".
* قلتُ: أمَّا منصورٌ، فضعيفٌ جدًّا، قال أبو حاتمٍ:"ليس بالقويِّ".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "يَروِي عن ضعفاءَ أحاديثَ لا يُتابَعُ عليها".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "مُنكَر الحديث".
وخَتَم الذَّهَبِيُّ ترجمته في "الميزان"(4/ 188) بقوله: "وساق له ابنُ عَدِيٍّ أحاديثَ تَدُلُّ على أنه واهٍ في الحديث".
أَضِف إلى ما تقدَّم قولَ العُقيليِّ: "فيه تَجَهُّمٌ".
وقال ابنُ أبي شيبة: "كُنَّا عند ابن عُيَينة، فجاء منصورُ بنُ عمَّارٍ، فسأله عن القُرآنِ، فزَبَرَهُ، وأشار إليه بعُكَّازِهِ، فقيل: يا أبا مُحمَّدٍ! إنَّه عابدٌ؟ فقال: ما أراه إلَّا شيطانًا".
وأمَّا شيخُه المُنكدِرُ بنُ مُحمَّد بن المُنكدِر، فقال أبو حاتمٍ:"كان رَجلًا صالحًا، لا يَفهَم الحديث، وكان كثير الخَطَإِ، لم يَكُن بالحافظ لحديث أبيه"، وضعَّفه ابنُ عُيَينة، وابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، وأبو زُرْعَة، وأبو داوُد، والجُوْزْجَانِيُّ، ويعقُوبُ بنُ سُفيان، والعِجِليُّ، وآخَرون. ووَثَّقه أحمد، وابنُ مَعِينٍ في روايةٍ، ولخَّص ابنُ حِبَّانَ حالَه، فقال في "المجروحين" (3/ 42): "كان مِن خيار عِبَاد الله، فقطعته العبادةُ عن مُراعَاة الحِفظ،
فكان يأتي بالشَّيء تَوَهُّمًا، فبَطل الاحتجاجُ بأخباره".
وهناك عِلَّةٌ أخرى تُبطِل هذا الخبرَ ..
فقال ابنُ الأثير في "أُسْد الغابة"(1/ 290): "وفيه نَظَرٌ غيرُ إسنادِه، فإنَّ قولَه تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]، نَزَلت في أوَّل الإسلامِ والوحيِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكَّة، والحديثُ في ذلك صحيحٌ، وهذه القِصَّةُ كانت بعد الهِجرة، فلا يَجتَمِعان".
وقال الحافظ في "الإصابة": "وفي السِّياق ما يَدُلُّ على وَهَن ذلك الخَبَر، لأنَّ نُزُولَ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]، كان قبل الهِجرَة بلا خلافٍ" انتهى.
330 -
سُئلتُ عن حديثٍ: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دَخَلَ عليَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:"ما يُبكِيكِ؟ "، فقلتُ:"سَبَّتنِي فاطمةُ"، قال:"يا بُنيَّةُ! أليس تُحِبِّين ما أُحِبُّ، وتُبغِضِين ما أُبغِضُ؟ "، قالت:"بلى"، قال:"فَأَحِبِّي عائشةَ؛ فإنِّي أُحِبُّها"، فقالت فاطمةُ:"ما أقول لعائشة شيئًا تَكرَهُه أبدًا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ بهذا السِّياق، وقد ورد لبعضه شاهدٌ صحيحٌ، يأتي ذِكرُه إن شاء الله.
فأخرَجَهُ أبو يَعلَى (4955) قال: حدَّثَنا هارُونُ بنُ عبد الله ..
والبَزَّارُ (2661) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجَوهَرِيُّ ..
والرُّوياني، ومن طريقه اللَّالَكَائِيُّ في "شرح الأصول"(2752)، وأبو عَرُوبة الحَرَّانِيُّ في "حديثه" (30) قالا: ثنا أبو كُريبٍ مُحمَّدُ بنُ العلاء - زاد أبو عَرُوبة: ومُحمَّدُ بنُ عُثمان بن كرامة -، قالوا: ثنا أبو أُسامة، عن مُجالِدٍ، عن الشَّعبِيِّ، عن مَسرُوقٍ، عن عائشة.
قال البَزَّارُ: "لا نَعلَمُ رواه عن مُجالِدٍ هكذا إلَّا أبو أُسامَة".
• قلتُ: ومجالدٌ ضعيفٌ، وبه ضعَّف البُوصِيرِيُّ الحديث، كما في "مُختصَر الإتحاف"(9/ 231).
وأمَّا قولُه: "أيْ بُنيَّةُ! ألست تُحِبِّين ما أُحبُّ؟ "، قالت:"بلى"، قال:"فأحِبِّي هذه".
فهذا القدر صحيحٌ، لكنَّه قيل في سياقٍ آخرَ.
فأخرج مُسلِمٌ (2442/ 83)، والنَّسَائِيُّ (7/ 64 - 66)، وفي "الكُبرَى"(8892)، وأحمدُ (6/ 88)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(3017)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 23/ رقم 105) عن صالح بن كَيْسَانَ ..
ومُسلِمٌ، والبَيهَقِيُّ (7/ 299) عن يُونُس بن يزيد ..
والبُخاريُّ في "الأدب المُفرَد"(559)، والنَّسَائِيُّ (7/ 66 - 67)، وأحمدُ (6/ 88) عن شُعيب بن أبي حمزة، ثلاثَتُهم عن الزُّهريِّ، عن مُحمَّد بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشامٍ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أَرسَلَ أزواجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ بنتَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاستأذَنَت، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع عائشةَ في مِرطِهَا، فأَذِنَ لها، فدَخَلت عليه، فقالت:"يَا رسُول الله! إنَّ أَزوَاجَك أرسَلنَنِي إليك، يَسأَلْنَك العدلَ في ابنةِ أبي قُحَافة"، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَي بُنيَّةُ! ألستِ تُحِبِّين ما أحبُّ؟ "، فقالت:"بلى"، فقال:"فأحبِّي هذه" لعائشة، - قالت: - فقامت فاطمةُ، فخرَجَت، فجاءتْ أزواجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فحدَّثَتهُن بما قَالَت، وبما قال لها، فقُلن لها:"ما أَغَنيتِ عنَّا مِن شيءٍ، فارجِعِي إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"، فقالت فاطمةُ عليها السلام:"والله لا أُكلِّمُه فيها أبدًا"، فأرسَلَ أزواجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زينَبَ بنتَ جحشٍ، فاستأذَنَت، فأَذِن لها، فدَخَلت، فقالت: "يا رسُول الله! أرسلنني إليك
أزواجُك، يسألْنَك العدلَ في ابنة أبي قُحافة"، - قالت عائشةُ: - ثُمَّ وَقَعَت بي زينبُ، - قالت عائشةُ: - فطَفِقتُ أَنظُر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَتَى يأذَنُ لي فِيهَا، فلم أَزَل حتَّى عَرَفتُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَكرَه أن أَنتَصِر، - قالت: - فوَقَعتُ بزينَب، فلم أَنشَبْهَا أن أَفحمَتُها، فتبسَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قال: "إنَّها ابنةُ أبي بكرٍ".
وخالَف هؤلاء الثَّلاثةَ مَعمَرُ بنُ راشدٍ، فرواه عن الزُّهرِيِّ، عن عُروة، عن عائشة بطُولِه.
فجَعَل شيخَ الزُّهرِيِّ: "عُروةَ"، بدل "مُحمَّد بن عبد الرَّحمن".
وأخرَجَهُ أحمدُ (6/ 150 - 151)، وإسحاقُ بنُ رَاهَوَيهِ في "المُسنَد"(871)، والنَّسَائِيُّ (7/ 67)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(3016)، وابنُ حِبَّان (7105) عن عبد الرَّزَّاق، وهذا في "مُصنَّفِه" (20925) قال: أخبَرَنا معمرٌ بهذا.
وكلاهُما محفوظٌ عِندِي.
ويؤيِّدُ ثُبوتَه عن عُروة أيضًا، أنَّ هشام بن عُروة، رواه عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ نساء رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزبين، فحزبٌ فيه عائشةُ، وحفصةُ، وصفِيَّةُ، وسَوْدةُ، والحِزبُ الآخرُ أمُّ سَلَمة، وسائرُ نساء رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المُسلِمُون قد عَلِمُوا حُبَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عائشةَ، فإذا كانت عند أحدِهِم هديَّةٌ يُريد أن يُهدِيها إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، أَخَّرَها، حتَّى إذا كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، بَعَث صاحبُ الهديَّة إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلَّم حِزبُ أُمِّ سَلَمةَ، فقُلن لها: "كَلِّمي
رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يُكلِّم النَّاس، فيقول: مَن أراد أن يُهدِي إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم هديَّةً فليُهد حيثُ كان مِن نسائه"، فكلَّمته أمُّ سَلَمةَ بما قُلن، فلم يقل لها شيئًا، فسألنها، فقالت: "ما قال لي شيئًا"، فقُلن لها: "فكلِّمِيه". - قالت: - فكلَّمَتْه حين دار إليها أيضًا، فلم يَقُل لها شيئًا، فسألنها، فقالت: "ما قال لي شيئًا"، فقُلن لها: "كلِّميه، حتى يكلِّمكِ"، فدار إليها فكلَّمَتهُ، فقال لها: "لا تُؤذِينِي في عائشة، فإنَّ الوحي لم يأتِني وأنا في ثوب امرأةٍ إلَّا عائشة"، - قالت: - فقلت: "أَتُوبُ إلى الله مِن أذاك يا رسُول الله! "، ثُمَّ إِنَّهُن دَعَونَ فاطمةَ بنتَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَت إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، تقولُ: "إنَّ نساءك يَنشُدْنَك اللهَ العدلَ في بنت أبي بَكرٍ"، فكلَّمَتْه، فقال: "يا بُنَيَّةُ! ألا تُحِبِّين ما أُحِبُّ؟ "، قالت: "بلى"، فرَجَعَت، ثُمَّ ذكر الحديث.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "كتاب الهِبة"(2581) قال: حدَّثَنا إسماعيلُ، قال: حدَّثَني أخي، عن سُليمان، عن هشام بن عُروة بهذا.
331 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا تُفَتِّشُوا التَّمرَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ أبو بكرٍ الأَبْهَرِيُّ مُحمَّدُ بنُ عبد الله في "الفوائد والغرائب الحِسَان"(ق 340/ 1 - مجموع 46) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عُبيدٍ، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ مَرْوان، عن عُبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"لا تُفَتِّشُوا التَّمر".
وهذا إسنادٌ واهٍ جدًّا؛ ومُحمَّدُ بنُ مَرْوان هو المعروف بالسُّدِّيِّ الصَّغيرِ، ساقطٌ مطروحٌ، قال البُخاريُّ، وأبو حاتمٍ:"لا يُكتَبُ حديثُه البتَّةَ"، زاد أبو حاتمٍ:"ذاهبُ الحديث، متروكٌ"، وقال صالحُ بن مُحمَّدٍ جَزَرَةُ:"كان يضع الحديث"، وكذَّبَه ابنُ نُمَيرٍ، وتَرَكه النَّسَائِيُّ وغيرُه.
وقد وقفتُ له على طريقٍ آخرَ.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "شُعب الإيمان"(5883)، قال: حدَّثَنا أبو عبد الله الحافظُ، أنا أبو بكرٍ بنُ إسحاقَ، أنا مُحمَّدُ بنُ الحُسين الأَنمَاطِيُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ بَكَّارٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ زكريَّا، عن قيس بن الرَّبيع، عن جَبَلَةَ بن سُحَيمٍ، عن ابن عُمَر، أنه قال: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُشَقَّ التَّمرةُ عمَّا فيها.
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير" - كما في "مَجمَع الزَّوائد"(5/ 42) -،
وقال: "فيه قيسُ بنُ الرَّبيع، وثَّقَه شُعبةُ، والثَّوريُّ، وضعَّفه يحيى القَطَّانُ، وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ".
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ أيضًا (5885) من طريق داوُد بن الزِّبْرِقَان، عن عمِّه أبي حفصٍ الكِندِيِّ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن ابن عُمَرَ، قال: نَهَانَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نَدَّهِنَ إلَّا غِبًّا، وأن نَقرِن بين التَّمرَتَين، أو نَشُقَّ عما فيهما.
وهذا إسنادٌ ساقطٌ؛ وداوُدُ بن الزِّبْرِقَان تالفٌ، تَرَكه أبو زُرعة، ويعقُوبُ بنُ شيبة، وأبو داوُد، وضعَّفه ابنُ المَدِينِيِّ جدًّا، بل كذَّبه الجُوْزْجَانِيُّ، وأظُنُّه بَالَغَ، وقال ابنُ عَدِيٍّ، مع توسُّطه:"عامَّةُ ما يرويه عن كُلِّ مَن رَوَى عنه ممَّا لا يُتابِعُه أحدٌ عليه".
ويُنظَر حالُ عمِّه أبي حفصٍ الكِندِيِّ.
وصحَّح الحاكمُ في "المُستدرَك"(1/ 209) سماع حبيب بن أبي ثابتٍ من ابن عُمَر، وكذلك قال العِجلِيُّ، ولكن قال ابنُ خُزَيمة، وابن حِبَّان:"كان مُدلِّسًا".
وقد وَرَد ما يدلُّ على نَكَارَة هذا المتن ..
فقد أخرَجَ أبو داوُد (3832)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب" (5886) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عَمْرو بن جَبَلَةَ ..
وابنُ ماجَهْ (3333)، وأبو الشَّيخ في "أخلاق النَّبيِّ"(ص 221) عن أبي بِشرٍ بَكرِ بنِ خَلَفٍ ..
والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(1462) عن هِلال بن بِشرٍ، قالوا: ثنا
أبو قُتيبةَ سَلْمُ بنُ قُتيبة، عن همَّامٍ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنَس بن مالكٍ، قال: أُتي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرٍ عتيقٍ، فجَعَلَ يُفَتِّشُه؛ يُخرِج منه السُّوسُ.
وسَلْمُ بنُ قُتيبة وثَّقَه أكثرُ النُّقَّاد، وتكلَّم فيه أبو حاتمٍ.
وقد خالفه مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ العَبْدِيِّ، فقال: أخبَرَنا همَّامٌ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَ معناه. فأرسَلَه.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3833)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب" (5887) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ كَثيرٍ بهذا.
قال البَيهَقِيُّ: "وهذا مع إرساله، أصحُّ من حديث. قيس بن الرَّبيع، وداوُدَ بنِ الزِّبْرِقَانَ".
فكأنَّ البَيهَقِيَّ يَذهَبُ إلى ترجيح المُرسَل على الموصول، ولا يَظهَرُ لي ذلك؛ لأنَّ مُحمَّدَ بنَ كَثيرٍ العَبْدِيَّ تَكلَّم فيه ابنُ مَعِينٍ، فقال:"لم يَكُن بالثِّقة"، وقوَّاه آخَرُون، وقال ابنُ حَجَرٍ:"لم يُصِب من ضعَّفه".
وعِندِي أنَّ حديث سَلْم بن قُتيبة جيِّدُ الإسناد، ولا مانِع من وُرُود الحديثِ موصُولًا ومُرسَلًا.
وقد تأوَّل البَيهَقِيُّ حديثَ النَّهي عن تفتيش التَّمر، على فرض صِحَّته، بأن يَكُون جديدًا، أمَّا إذا كان عتيقًا، كما في حديث أنَسٍ، فلا بأس بذلك، وقد عَلِمتَ أنَّ حديث النَّهي عن التَّفتيش مُنكَرٌ.
واللهُ أعلَمُ.
332 -
سُئلتُ عن حديث: "نَهَى عَن كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع، ومِخْلَبٍ مِن الطَّير".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
قد وَرَد عن جماعةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم، مِنهُم ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ..
يرويه أبو عَوَانة وضَّاحُ بنُ عبد الله اليَشْكُرِيُّ، عن أبي بِشرٍ جعفر بن إياسٍ، عن ميمُونَ بنِ مِهران، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1934/ 16) قال: حدَّثَني أبو كاملٍ الجَحدَرِيُّ ..
وأبو عَوَانة في "المُستخرَج"(7613) عن حجَّاج بن مِنهالٍ، ومُوسى بن داوُد، وأحمد بن عبد المَلِك الحَرَّانيِّ ..
وأبو داوُد (3803)، وأبو عَوَانة (7614) عن مُسَدَّد بن مُسَرهَدٍ ..
وأحمدُ (1/ 327)، وابنُ الجَارُود في "المُنتقَى"(892) عن عفَّان بن مُسلِمٍ ..
وأحمدُ (1/ 244) قال: حدَّثَنا يُونُسُ بنُ مُحمَّدٍ ..
والدَّارِمِيُّ (2/ 12) قال: أخبَرَنا يحيى بنُ حمَّادٍ ..
وابنُ أبي شَيبَة (5/ 399) قال: حدَّثَنا يحيى بنُ آدمَ ..
وأبو عَوَانة (7614)، والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(4/ 190)، وفي "المُشكِل"(3475) عن يحيى بن حسَّان ..
وابنُ حِبَّان (5280) عن إبراهيم بن الحَجَّاج النِّيْلِيِّ ..
والطَّحَاوِيُّ في "الشَّرح"(4/ 190) عن عليِّ بن الحسن بن شقيقٍ ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12995) عن مُحمَّد بن الفضل عارمٍ، قالوا: ثنا أبو عَوَانة وضَّاحٌ اليَشكُرِيُّ بهذا.
وتُوبِع أبو عَوَانة ..
تابَعَهُ هُشيمُ بنُ بَشِيرٍ، فرواه عن أبي بِشرٍ، عن مَيمُونَ بنِ مِهرَانَ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ، قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ حنبلٍ، ويحيى بنُ يحيى - فرَّقَهُمَا - ..
وابنُ أبي شيبة في "المُصنَّف"(5/ 399)، والطَّحَاوِيُّ في "الشَّرح"(4/ 190)، وفي "المُشكِل"(3474) عن سعيد بن مَنصُورٍ ..
والبَيهَقِيُّ (9/ 315) عن يحيى بن يحيى، قال أربعتُهم: ثنا هُشيمُ بنُ بَشِيرٍ بهذا الإسناد.
وتُوبِع أبو بِشرٍ جعفرُ بنُ إياسٍ ..
تابَعَهُ الحَكَمُ بن عُتَيبة، فرواه عن مَيمُون بن مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ فذكره.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1934/ 16)، وأبو عَوَانَة (7609)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(11/ 234) عن مُعاذ بن مُعاذٍ العَنبَرِيِّ ..
ومُسلِمٌ أيضًا، عن سهل بن حمَّادٍ ..
وأبو عَوَانَة (7607، 7608، 7610، 7611) عن عبد الوهَّاب بن عطاءٍ، ويزيدَ بنِ زُريعٍ، ويحيى بنِ سعيدٍ، وعُثمانَ بنِ جَبَلَةَ ..
وأحمدُ (1/ 289)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(3477، 3478)،
عن عبد الله بن المُبارَك، كلُّهم عن شُعبة، عن الحَكَم بن عُتيبةَ بهذا.
• قلتُ: هكذا رواه مُعاذُ بنُ مُعاذٍ، وسهلُ بنُ حمَّادٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، ويزيدُ بن زُريعٍ، وعبدُ الوهَّاب بنُ عطاءٍ، وعثمانُ بنُ جَبَلةَ، وابنُ المُبارَك، كُلُّهم يرويه عن شُعبة، عن الحَكَم بن عُتيبة، عن مَيمُونَ بنِ مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُم أبو قُتَيبة سَلْمُ بنُ قُتَيبة، فرواه عن شُعبة، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن مَيمُونَ بنِ مهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
فجَعَل شيخَ شعبةَ: "عَمْرَو بنَ دينارٍ"، بدل "الحَكَم".
أخرَجَه الطَّبَرانيُّ في "المُعجَم الكبير"(ج 12/ رقم 12996) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ الحُسَين بن مُكْرِمٍ، ثنا سُليمانُ بنُ عُبيد الله الغَيْلَانِيُّ، ثنا أبو قُتَيبة بهذا.
ورِوايةُ الجَمَاعة هي المحفوظةُ، وسَلْمُ بنُ قُتَيبة وإن وثَّقَه غيرُ واحدٍ، فقد قال أبو حاتمٍ:"كثيرُ الوَهَمِ، يُكتَبُ حديثُه"، فلا يُحتمَلُ منه مخالفةُ واحدٍ من هذا الجَمع، فضلًا عنهم.
وتُوبِع شعبةُ على الوجه الأول ..
تابَعَهُ أبو عَوَانة، فرواه عن أبي بِشرٍ، والحَكَم بن عُتَيبة معًا، عن ميمونَ بنِ مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَره.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1934/ 16)، وأبو عَوَانة (7612)، وأحمدُ (1/ 302، 373)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(3476)، والبَيهَقِيُّ (9/ 315)، والخَطِيبُّ في "تاريخه"(7/ 278) كُلُّهم عن أبي داوُد الطَّيَالِسِيِّ
- وهذا في "مُسنَده"(2745) -، قال: حدَّثَنا أبو عَوَانة بسَنَده سواء.
ورواه سُفيانُ بنُ حُسين، عن الحَكَم بن عُتيبة بهذا.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 12/ رقم 12994) من طريق سُويد بن عبد العزيز، عن سُفيان بن حُسينٍ بهذا.
وسُويدٌ ضعَّفُوه.
• قلتُ: هكذا رواه شُعبة، وأبو عَوَانة، وسُفيانُ بن حُسينٍ، ثلاثتهم عن الحَكَم بن عُتيبة، عن مَيمُونَ بنِ مهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُم إسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ، فرواه عن الحَكَم، عن مِقسَمٍ، عن ابن عبَّاسٍ.
فجعل شيخَ الحَكَم "مِقسَمًا"، بدل "ميمونَ".
أخرَجَهُ ابنُ أبي عُمَر العَدَنِيُّ في "مُسنَده" - كما في "المطالب العالية"(2354) -، قال: حدَّثَنا مَرْوانُ بنُ مُعاوِية، ثنا إسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ بهذا.
وهذه مخالَفةٌ واهيةٌ؛ وإسماعيلُ بنُ مُسلِمٍ هو المكيُّ ضعيفٌ، بل لعلَّه واهٍ، وقد تَرَكَه جماعةٌ من النُّقَّاد.
• قلتُ: هكذا رواه أبو بِشرٍ، والحَكَمُ بنُ عتيبة، عن مَيمُونَ بنِ مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُما عليُّ بنُ الحَكَم، فرواه عن مَيمُونَ بنِ مهرانَ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ.
فزاد في الإسناد: سعيدَ بنَ جُبيرٍ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3805)، وابنُ ماجَهْ (3234)، وأبو يَعلَى (2690)،
والبَزَّارُ (4999 - البحر) عن مُحمَّد بن أبي عَدِيٍّ ..
والنَّسَائِيُّ (7/ 206) عن بِشر بن المُفضَّل ..
وأحمدُ (1/ 339)، وابنُ الجَارُود في "المُنتقَى"(893) عن رَوْح بن عُبادة ..
وأحمدُ أيضًا (1/ 339) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ جعفرٍ ..
والطَّحَاوِيُّ في "الشَّرح"(4/ 190)، وفي "المُشكِل"(3479) عن خالد بن الحارِث، كُلُّهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن عليِّ بن الحَكَم بهذا.
قال البَزَّارُ: "وهذا الحديثُ لا نَعلَمُ أحدًا رواه عن مَيمُونَ بنِ مِهرانَ، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ، إلَّا عليَّ بن الحَكَم. وقد رواه أبو بِشرٍ، والحكَم، عن مَيمُونَ بن مهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ، ولم يَذكُرَا سعيدَ بن جُبيرٍ، بين مَيمُون بن مهران، وابنِ عبَّاسٍ" انتهى.
فنَظَر أهلُ العِلم في هذا الاختلاف ..
فقد أَورَدَ عبدُ الحَقِّ الأَشبِيلِيُّ هذا الحديثَ في "الأحكام الوُسطَى"(7/ 78)، فتعقَّبَهُ ابنُ القَطَّان في "الوهم والإيهام" (2/ 450) قائلًا: "كذا ذَكَرَه، وسَكَت عنه، ولم يَضَع فيه نظرًا؛ لَمَّا كان مِن عِند مُسلِمٍ، وهو مِن أفراد مُسلِمٍ، ولم يُخَرِّجهُ البُخاريُّ
…
- قال: - ولم يَسمَعهُ مَيمُونُ بنُ مهرانَ من ابن عبَّاسٍ، بل بينهما فيه سعيدُ بنُ جُبيرٍ. - ثم قال: - وعليُّ بنُ الحَكَم ثقةٌ، أخرَجَ له البُخاريُّ، ومُسلِمٌ، وممَّن وثَّقه النَّسائيُّ رحمه الله" انتهى.
• قلتُ: وليس في يد ابن القَطَّان دليلٌ على الانقطاع، إلَّا وجودُ الواسطة، وهذا ليس بكافٍ، وإنَّما هو أَمَارَةٌ حسبُ؛ لاحتمال أن يَسمَع الرَّاوِي الحديثَ بواسطةٍ عن شيخٍ، ثُمَّ يسمَعُهُ من هذا الشَّيخ، وهذا الاحتمال مؤيَّدٌ بعشرات، بل مئات الأمثلة. هذا أوَّلًا.
وثانيًا: فإنَّ مُسلِمًا لم يُخَرِّج لعليِّ بنِ الحَكَم البُنَانِيِّ شيئًا.
وثالثًا: فقد خُولِف ابنُ القَطَّان في حُكمِه هذا ..
فخالفه مُسلِمٌ، إذ صحَّح رِواية مَيمُونَ بنِ مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ، دُون واسطةٍ.
وخالَفَهُ أيضًا الخطيبُ البَغدَادِيُّ، فنَقَل المِزِّيُّ في "الأطراف"(5/ 253)، أنَّ الصَّحيح في هذا الحديث أنَّهُ:"مَيمُونُ، عن ابن عبَّاسٍ".
وخالفه أيضًا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ، فقال في "النُّكَت الظِّراف" (5/ 253):"وقال البَزَّارُ: "تفرَّد عليُّ بنُ الحَكَم بإدخال سعيدٍ بين ميمونَ وابن عبَّاسٍ"، وعليُّ بنُ الحَكَم قال فيه أبو حاتمٍ: "صالحُ الحديث"، ووثقه جماعةٌ، وضعَّفه أبو الفتح الأَزدِيُّ. وخالفه الحَكَمُ بنُ عُتيبة، وأبو بِشرٍ جعفرُ بنُ أبي وحشيَّة، فلم يَذكُرَا سعيد بن جُبيرٍ، وهما أحفظُ مِن عليِّ بن الحَكَم، فروايتُه شاذَّةٌ. وتابَعَهُما جعفر بن بَرْقَانَ وغيرُه، فلهذا جَزَم الخطيبُ بأنَّ رواية عليِّ بن الحَكَم من المَزِيد" انتهَى.
ولم أَر أحدًا تابَع أبَا الفتح الأَزدِيَّ على جَرحِ عليِّ بن الحَكَم.
والصَّواب في ذلك عِندِي هو صحَّةُ الرِّوايتين جميعًا.
وعليُّ بنُ الحَكَم وثَّقه سائرُ النُّقَّاد.
ثُمَّ رأيتُ ابنَ أبي حاتمٍ ذَكَر حديث عليِّ بن الحَكَم في "العِلل"(1506)، ونَقَل عن أبيه، أنَّهُ قال:"وهو عندي محفوظٌ"، فدلَّ هذا على صِحَّة الرِّوايتين جميعًا.
ولا يَظهَرُ من كلام أبي حاتمٍ أنه يُرجِّح حديث عليِّ بن الحَكَم على حديث أبي بِشرٍ، والحَكَمِ بن عُتيبة، وإلَّا لَقَال:"وهو المحفُوظ". واللهُ أعلَمُ.
ولا يُعِلُّ الحديثَ قولُ شُعبة في روايةٍ لأحمد (1/ 289): "رَفَعَهُ الحَكَمُ، - قال شُعبةُ: - وأنا أكرَهُ أن أُحدِّث برفعِه. - قال شُعبَةُ: - وحدَّثَنِي غَيلانُ، والحجاجُ - يعني: ابنَ أرطاةَ -، عن مَيمُونَ، عن ابن عبَّاسٍ، لم يَرفَعْه" انتهَى.
فقد رواه أكثرُ من نفسٍ عن شُعبة، وصرَّح برفعِه، فكأنَّه كان يتهيَّب أحيانًا أن يرفعَهُ.
ثُمَّ إنَّ سُفيان الثَّوْريَّ رواه عن حجَّاج بن أرطاة، وجعفرِ بن بَرقَانَ، عن مَيمُونَ بنِ مِهرانَ، عن ابن عبَّاسٍ، قال أحدُهما:"نَهَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الآخرُ:"نَهَى".
كذا ذكر المِزِّيُّ في "الأطراف"(5/ 253).
وله طريقٌ أُخرَى عن ابن عبَّاسٍ، يرويها مُجاهِدٌ عنه، قال:"نَهَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنينٍ عن بيع الغنائم، حتى تُقسَم، وعن الحَبَالَى أن يُوطَئن، حتَّى يَضَعن ما في بُطونهن، وقال: "أَتَسقِي زرع غيرك؟ "، وعن لُحُوم الحُمُر الإِنسيَّة، وعن كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع".
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ (7/ 301) ..
والدَّارَقُطنِيُّ (3/ 68 - 69) قال: حدَّثَنا أبو بكرٍ النَّيسَابُورِيُّ ..
والحاكمُ (2/ 56، 137) عن مُحمَّد بن مَحْمَوَيْهِ ..
والطَّبَراني في "الأوسط"(6981) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عليٍّ المَرْوَزِيُّ، قال أربعتُهم: ثنا أحمدُ بنُ حفص بن عبد الله، حدَّثَني أبي، ثنا إبراهيمُ بنُ طَهمَان، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عَمْرو بن شُعيبٍ، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عَمْرو بن شُعيبٍ إلَّا يحيى بنُ سعيدٍ، ولا عن يحيى إلَّا إبراهيمُ بن طَهمان. تفرَّد به حفصُ بنُ عبد الله".
كذا قال! ولم يتفرَّد به حفصٌ ..
فتابَعَهُ أزهرُ بنُ سُليمان، قال: ثنا إبراهيم بنُ طَهمان بهذا.
أخرَجَهُ الحاكمُ (2/ 55 - 56).
وانظُر ما كتبتُه في "تنبيه الهاجد"(2040).
وقال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد".
ورواه عبدُ الرَّحمن بن الحارث المَخزُومِيُّ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
أخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(4/ 190، 204) قال: حدَّثَنا يُونُس بنُ عبد الأعلى، ثنا ابنُ وَهبٍ، قال: أخبَرَني يحيى بنُ عبد الله بن سالمٍ، عن عبد الرَّحمن بن الحارث المَخزُوميِّ، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَرَه.
• قلتُ: هكذا وَقَع في "كتاب الطَّحَاوِيِّ": "عبدُ الرَّحمن بنُ الحارث، عن مُجاهدٍ"، والصَّوابُ أنَّه:"عبدُ الرَّحمن بنُ الحارث - وهو ابنُ عبد الله بن عيَّاشٍ -، عن عبد الله بن أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ".
هكذا أخرَجَهُ أبو يَعلَى (2414) قال: حدَّثَنا مُصعَبٌ الزُّبَيرِيُّ، ثنا المُغيرةُ بنُ عبد الرَّحمن، وعبدُ العزيز بنُ مُحمَّدٍ، كلاهما عن عبد الرَّحمن بن الحارث بهذا.
وأَستَبعِدُ أن يكون اختلافًا في الإسناد؛ لوُجُود مِثلِ هذا السَّقط من مطبوعة "كتاب الطَّحَاوِيِّ". واللهُ أعلَمُ.
وعبدُ الرَّحمن بنُ الحارث مُتكَلَّمٌ فيه. ولكنه مُتابَعٌ كما رأيتَ.
وأخرَجَهُ أحمدُ (1/ 326) ..
وأبو يَعلَى (2491) قال: حدَّثَنا أبو بَكرٍ بنُ أبي شيبة، قالا: ثنا يحيى بنُ آدم، ثنا شَريكٌ، عن الأعمش، عن مُجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ فذكره.
وشَرِيكٌ ضعيفُ الحِفظِ. والأعمشُ مُدَلِّسٌ.
وأخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق (8707)، وعنه أحمدُ (1/ 332) قال: أخبَرَنا مَعمَرٌ، عن قَتَادة، عن رجُلٍ، عن ابن عبَّاسٍ به.
وضَعفُه ظاهرٌ.
وفي الباب عن أبي ثَعلَبَة الخُشَنِيِّ، في "الصَّحيحين". وعن أبي هُريرَة، عند مُسلِمٍ. وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وجابر بن عبد الله، والحديثُ عنهما ضعيفٌ.
وله طُرُقٌ تُجمَعُ. واللهُ أعلَمُ.
333 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن قَلَّم أَظفَارَهُ يَومَ الجُمُعَةِ، وُقِيَ مِن السُّوءِ إلى مِثلِها".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(4746) قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّحمن بنُ سَلْمٍ، قال: نا أحمدُ بنُ ثابتٍ فَرْخَوَيْهِ الرَّازِيُّ، قال: نا العلاءُ بنُ هلالٍ الرَّقِّيُّ، قال: نا يزيدُ بنُ زُريعٍ، عن أيُّوب، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشةَ مرفُوعًا فذَكَرَته.
قال الطَّبَرانيُّ: "لم يَروِ هذا الحديث عن أيُّوب إلَّا يزيدُ بنُ زُريعٍ، ولا عن يزيدَ بنِ زُريعٍ إلَّا العلاءُ بنُ هلالٍ الرَّقِّيُّ. تفرَّد به فَرخَوَيهِ".
• قلتُ: أمَّا فَرْخَوَيْهِ، فترجمه ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(1/ 1/ 44) ونقل عن أبي العبَّاس بن أبي عبد الله الطِّهْرَانِيِّ، أنَّه قال:"كانُوا لا يَشُكُّون أن فَرْخَوَيْهِ كذَّابٌ"، وأقرَّه في "الميزان"(1/ 86)، وفي "اللِّسان"(1/ 143)، وبه أعلَّه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(2/ 171)، لكنَّه ضعَّفه فقط، وحالُه أدنَى مِن هذا كما ترى.
والعلاءُ بنُ هلالٍ هو ابنُ عُمَر بن هلالٍ الرَّقِّيُّ. ترجمه ابن أبي حاتمٍ في "الجرح"(3/ 1/ 361 - 362) ونقل عن أبيه، قال:"مُنكَرُ الحديث، ضعيفُ الحديثِ، عنده عن يزيد بن زُريعٍ أحاديثُ موضوعةٌ".
وقال ابنُ حِبَّان في "المجروحين"(2/ 184): "كان مِمَّن يَقلِب الأسانيد، ويُغيِّر الأسماء، لا يَجُوز الاحتجاجُ به بحالٍ".
وقال النَّسَائِيُّ: "روى عن أبيه غيرَ حديثٍ مُنكَرٍ، فلا أدري، مِنهُ أتى أو مِن أَبيه؟ "، فمِن عَجَبٍ، أن يقول الحافظُ في "التَّقريب":"فيه لينٌ"، وهذه العبارة تُقال فيمن فيه بعضُ التَّماسُك، وقد رأيتَ كلام العُلماء فيه، وحديثُه هنا عن يزيد بن زُريعٍ، وقد تقدَّم في كلام أبي حاتمٍ أنَّه يروي عنه أحاديثَ موضوعةً.
والله أعلمُ.
334 - سألني سائلٌ، فقال: سمعتُ في خُطبة الجُمُعة وصيَّةَ الخَضِر لموسى، فهل صحَّت؟ وما نصُّها؟
• قلتُ: هي وصيَّةٌ باطلةٌ موضوعةٌ، لا يَشكُّ في ذلك من له أدنى إلمامٍ بالحديث.
فأخرج هذا الحديثَ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(6908)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1072) من طُرُقٍ عن زكريَّا بن يحيى الوَقَارِ، قال: قُرئ على عبد الله بن وهبٍ وأنا أسمعُ، قال الثَّوْريُّ، قال مُجالِدٌ، عن أبي الوَدَّاكِ، قال: قال أبو سعيدٍ الخُدريُّ: قال عُمَرُ بن الخطَّاب، قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم:"قال أخي مُوسى عليه السلام: "يا ربِّ! أَرِنِي الذي كُنتَ أريتني في السَّفينة"، فأوحَى اللهُ إليه: "يا موسى! إنَّك ستراه"، فلم يَلبَث إلَّا يَسيرًا، حتَّى أتاه الخَضِرُ، وهو طيِّبُ الرِّيح، حَسَنُ بياض الثِّياب، فقال: "السَّلامُ يا مُوسَى بنَ عِمرانَ! إنَّ ربَّك يَقرأُ عليك السَّلامَ ورحمةَ الله"، قال مُوسَى: "هو السَّلامُ، ومنه السَّلامُ، وإليه السَّلامُ، والحمدُ لله ربِّ العالمين، الذي لا أُحصِي نعمَهُ، ولا أَقدِرُ على شُكرِه إلَّا بِمَعُونَتِه"، ثُمَّ قال مُوسَى: "أُرِيدُ أن تُوصِينِي بوصيَّةٍ، يَنفَعُني اللهُ بها بعدَك"، فقال الخَضِرُ: "يا طَالِب العِلم! إنَّ القائل أقلُّ ملالةً من المُستَمِع، فلا تُملَّ جُلساءَك إذا
حدَّثتَهم. واعلم! أنَّ قلبك وِعاءٌ، فانظُر ماذا تَحشُو به وعاءَك. واعزِف عن الدُّنيا، وانبِذها وراءَك، فإنَّها ليست لك بدارٍ، ولا لك فيها مَحَلُّ قرارٍ، وإنَّها جُعِلت بُلْغةً للعبَّاد، وليَتَزَوَّدُوا منها للمعاد. ويا مُوسَى! وطِّن نفسك على الصَّبر، تُلَقَّى الحِكَمَ. وأَشعِر قلبكَ التَّقوَى، تَنَلِ العِلمَ. وَرُضْ نَفسَك على الصَّبر، تَخلَصُ من الإثم. يا مُوسَى! تَفَرَّغ للعلم إن كُنتَ تُريدُه، فإنَّما العِلمُ لمن يَفرُغ له، ولا تكونَنَّ مِكثارًا بالمَنطِق مهدارًا، إنَّ كثرة المَنطِق تُشينُ العُلماء، وتُبدِي مساوئَ السُّخَفاء، ولكن عَلَيك بذِي اقتصادٍ، فإنَّ ذلك من التَّوفيق والسَّداد. وأَعرِض عن الجُهَّال، واحلُم عن السُّفهاء، فإنَّ ذلك فضلُ الحُكماء، وزَيْن العُلماء، إذا شَتَمَك الجاهلُ فاسكُت عنه سِلمًا، وجانِبه حَزْمًا، فإنَّ ما بَقِي من جهلِهِ عليك، وشتمِهِ إيَّاكَ، أكثَرُ وأعظمُ. يا ابنَ عِمرانَ! أَلَا ترَى أنَّك أُوتِيتَ من العِلم قليلًا، فإنَّ الاندِلَاثَ والتَّعَسُّفَ من الاقتحام والتَّكَلُّف. يا ابنَ عِمرانَ! لا تفتحنَّ بابًا لا تَدرِي ما غَلْقُه، ولا تُغلِقنَّ بابًا لا تدري ما فَتحُه. يا ابنَ عِمرانَ! من لا تَنتَهِي من الدُّنيا نهمَتُهُ، ولا تَنقَضِي منها رغبَتُهُ، كليف يكُون عابدًا؟ مَن يَحقِر حالَهُ، ويتَّهمُ اللهَ بما قَضَى له، كيف يكُون زاهدًا؟ هل يَكُفُّ عن الشَّهوات من قد غَلبَ عليه هواهُ؟ وينفَعُه طلبُ العِلم، والجهلُ قد حواه؟ لأنَّ سَفَرَه إلى آخرَته، وهو مُقبلٌ على دنياه. يا مُوسَى! تَعَلَّم ما تَعَلَّمَنَّ لتَعمَل به، ولا تَعَلَّمَهُ ليُتَحدَّث به، فيكونُ عليك بَوْرُهُ، ويكون لغيرك نُورُهُ. يا مُوسَى بنَ
عِمرانَ! اجعل الزُّهدَ والتَّقوى لباسَك، والعِلمَ والذِّكرَ كلامَك، واستَكثِر من الحَسَنَاتِ، فإنَّك مُصِيبُ السِّيِّئات، وزَعزِع بالخوف قَلبَك، فإنَّ ذلك يُرضِي ربَّك، واعمَل خيرًا، فإنَّك لا بُدَّ عاملٌ سِواه. قد وُعظتَ إن حَفِظتَ"، فتولَّى الخَضِرُ، وبقي مُوسَى حزينًا مكرُوبًا".
• قلتُ: وزكريَّا بنُ يحيى الوَقَارُ، قال ابنُ عَدِيٍّ:"يَضَعُ الحديث، وأخبَرَني بعضُ أصحابنا، عن صالحٍ جزرةَ، أنَّه قال: "كان من الكذَّابين الكِبار"، - ثُمَّ قال في آخر التَّرجمة: - سمعتُ مشايخَ مِصرَ يُثنُون عليه في باب العِبادة والاجتهاد والفَضل، وله حديثٌ كثيرٌ، وبعضُها ما ذكرتُ وغيرُ ما ذكرتُ، موضوعاتٌ، كان يُتَّهَم الوَقَارُ بوضعِها، لأنَّهُ يَروِي عن قومٍ ثقاتٍ أحاديثَ موضُوعاتٍ. والصَّالِحُون قد وُسِمُوا بهذا الرَّسم، أن يَروُوا في فضائل الأعمال أحاديثَ موضوعةً بواطيلَ، وبينهم جماعةٌ مِنهُم تَضَعُها" انتهى.
ثُمَّ أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ، قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ نصرٍ الخوَّاصُ، أنا الحارثُ بنُ مِسكِينَ، وأبو الطَّاهر، قالا: ثنا ابنُ وهبٍ بهذا.
فتخلَّص الوَقَارُ من تَبِعةِ الحديث.
ولكنَّ الخوَّاصَ ما عَرَفتُ مِن حاله شيئًا.
وآفة هذا الإسناد مُجالِدُ بنُ سعيدٍ، فقد كان أحمدُ بنُ حنبل لا يراه شيئًا، ووهَّاهُ يحيى بنُ مَعِينٍ، وقال:"كان يحيى بنُ سعيدٍ يقول: لو أردتُ أن يَرفَع لي مجالدٌ حديثَه كُلَّهُ لرفعه. قيل له: لم؟ قال: لضَعفِه".
وكان عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ لا يَروِي عنه.
وكلام النُّقَّاد يَدُور حول رداءة حِفظِه، وقلبِه للأسانيد، فكأنَّ هذا الحديثَ مِن الإسرائِيليَّات، التي رفعها مُجالِدٌ وهو لا يَدرِي.
واللهُ أعلَمُ، فهو مُنكَرٌ جدًّا.
335 -
سُئلتُ عن حديث: أَنَّ رجُلًا وقع على أهله في نهار رمضان، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فَجَرَ ظهرُك، فلا يَفجُرْ بطنُك".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ ابن عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1071)، وعنه أبو سعدٍ المَالِينِيُّ في "حديثه" (ق 162/ 1) قال: حدَّثَنا عبدُ الكَريم بنُ إبراهيم بنِ حَيَّانَ المُرَادِيُّ بمِصر، ثنا أبو يحيى زكريَّا بنُ يحيى الوَقَارُ، أخبَرَني العبَّاسُ بن طالبٍ، عن أبي عَوَانة، عن قتادة، عن أنَسٍ فذَكَرَه.
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا الحديثُ، بهذا الإسناد "عن أبي عَوَانة، عن قتادة، عن أنَسٍ": باطلٌ. والعبَّاسُ بنُ طالبٍ صدوقٌ بصريٌّ، سَكَن مِصر، لا بأس به" انتهَى.
وآفةُ هذا الإسناد هو الوَقَارُ هذا، وقد مَضَى ذكرُ حالِه في الحديث الفائت.
والحمدُ لله.
336 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن شَتَم الأنبياءَ قُتِل، ومن شتم الصَّحابةَ جُلِدَ".
• قلتُ: هذا خَبَرٌ كَذِبٌ.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(4602)، وفي "الصَّغير"(659)، ومن طريقه الخطيبُ في "السَّابق واللَّاحق"(ص 84)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" (ج 10/ ق 734) قال: حدَّثنا عُبيدُ الله بنُ مُحمَّدٍ العُمَرِيُّ القاضي، قال: نا إسماعيلُ بنُ أبي أُويسٍ، قال: حدَّثَني مُوسَى بنُ جعفر بن مُحمَّدٍ، عن أبيه جعفرٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن الحُسين بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن أبي طالبٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
قال الطَّبَرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن عليٍّ إلَّا بهذا الإسناد. تفرَّد به ابنُ أبي أُويسٍ".
وسَنَده ساقطٌ؛ وشيخُ الطَّبَرانيِّ كذَّبه النَّسَائِيُّ.
وذَكَرَ الخطيبُ مُتابَعتين واهيتين.
والحديثُ حكم عليه شيخُنا الأَلبَانِيُّ في "الضَّعيفة"(206) بالوضع.
337 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن دَخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمنٌ".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "الجهاد"(1780/ 84) قال: حدَّثَنا شَيبانُ بنُ فَرُّوخٍ، حدثنا سُليمانُ بنُ المُغيرة، حدَّثَنا ثابتٌ البُنانيُّ، عن عبد الله بن رباحٍ، عن أبي هُريرة، قال: وَفَدَت وفودٌ إلى مُعاويةَ، وذلك في رمضانَ، فكان يَصنَعُ بعضُنا لبعضٍ الطَّعامَ، فكان أبو هُريرَة ممَّا يُكثِر أن يَدعُونا إلى رَحلِه، فقلتُ:"أَلَا أَصنَعُ طعامًا فأدعُوهُم إلى رَحلِي؟ "، فأمَرتُ بطعامٍ يُصنَعُ، ثُمَّ لقيتُ أبا هُريرَة من العَشِيِّ، فقلتُ:"الدَّعوةُ عِندِي اللَّيلة"، فقال:"سَبَقتَنِي! "، قلتُ:"نعم! "، فدعوتُهم، فقال أبو هُريرَة:"ألا أُعْلِمُكم بحديثٍ مِن حديثِكُم، يا معشر الأنصار؟ "، ثُمَّ ذَكَر فتحَ مكَّة، فقال:"أَقبَل رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى قَدِم مكَّةَ، فبعث الزُّبيرَ على إِحدى المُجَنِّبَتَين، وبعث خالدًا على المُجَنِّبة الأُخرَى، وبعث أبا عُبيدة على الحُسَّر، فأَخَذُوا بطن الوادي، ورسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في كتيبةٍ، - قال: - فَنَظَر، فرآني، فقال: "أبو هُريرَة؟ "، قلتُ: "لبَّيك، يا رسُول الله! "، فقال. "لا يأتيني إلَّا أنصاريٌّ"، - زاد غيرُ شيبانَ: فقال: "اهتف لي بالأنصار"، قال: - فأَطافُوا به، ووَبَّشت قريشٌ أوباشًا لها وأتباعًا، فقالوا: "نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لَهُم شيءٌ كُنَّا مَعَهُم، وإن أُصِيبُوا أَعطَيْنا الذي سُئِلنا"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَرَون إلى أوباشِ قُريشٍ
وأتباعِهم؟! "، ثُمَّ قال بيديه، إحداهما على الأُخرَى، ثُمَّ قال: "حتَّى تُوافُونِي بالصَّفا"، قال: فانطلقنا، فما شاء أَحَدٌ مِنَّا أن يَقتُل أحدًا إلَّا قَتَلَه، وما أحدٌ مِنهُم يُوجِّه إلينا شيئًا، - قال: - فجاء أبو سُفيان، فقال: "يا رسُول الله! أُبِيحَت خضراءُ قُريشٍ، لا قُريشَ بعد اليوم! "، ثُمَّ قال: "من دَخَل دار أبي سُفيان فهو آمنٌ"، فقالت الأنصارُ بعضُهم لبعضٍ: "أمَّا الرَّجُل فأدركته رغبةٌ في قريَتِه، ورأفةٌ بعشِيرَتِه! "، - قال أبو هُريرَة: - وجاء الوحيُ، وكان إذا جاء الوَحيُ لا يَخفَى علينا، فإذا جاء فليسَ أحَدٌ يرفَعُ طَرْفَه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى ينقضي الوَحيُ، فلمَّا انقضَى الوحيُ، قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار! "، قالوا: "لبَّيك، يا رسُول الله! "، قال: "قُلتُم: أمَّا الرَّجُلُ، فأدركته رغبةٌ في قريته؟ "، قالوا: "قد كان ذاك! "، قال: "كلَّا! إنِّي عبدُ الله ورسُولُه، هاجرتُ إلى الله وإليكم، والمحيا مَحيَاكُم، والمماتُ مماتُكُم"، فأقبَلُوا إليه يبكُون، ويقُولون: "والله! ما قُلنا الذي قُلنَا إلَّا الضَّنَّ بالله وبرسُولِهِ"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ ورسُولَه يُصَدِّقَانِكُم، ويَعذِرَانِكُم"، - قال: - فأقبل النَّاسُ إلى دار أبي سُفيان، وأَغلَق النَّاسُ أبوابَهُم، - قال: - وأقبَل رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى أَقبَل إلى الحَجَر، فاستَلَمه، ثُمَّ طاف بالبيت، - قال: - فأتى على صَنَمٍ إلى جنب البَيت، كانوا يَعبُدُونه، - قال: - وفي يَدِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قوسٌ، وهو آخذٌ بسِيَةِ القوسِ، فلمَّا أتى على الصَّنَم، جَعَل يطعَنُه في عَينِه، ويقُول: "جاء الحَقُّ وزَهَق الباطلُ"، فلمَّا فَرَغَ من طوافه، أتى الصَّفا، فعلا عليه، حتَّى نَظَر إلى البيت، ورَفَع يديه فَجَعَل
يَحمَدُ اللهَ، ويَدعُو بما شاء أن يَدعُو".
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(5/ 56 - 57) من طريق أبي عبد الله مُحمَّد بن إبراهيم العَبْدِيِّ، قال: ثنا شَيبانُ بنُ فَرُّوخٍ بهذا الإسناد.
وأخرَجَهُ مُسلِمٌ (1780/ 85)، وأبو داوُد (1872)، وأحمدُ (2/ 538)، وابنُ خُزَيمة (2758) عن بَهزِ بن أَسَدٍ ..
وأبو عَوَانة في "المُستخرَج"(4/ 229 - 232)، والبَيهَقِيُّ (5/ 55 - 56، و 9/ 117 - 118)، وابنُ عَسَاكر في "تاريخ دمشق"(ج 9/ ق 192) عن الطَّيَالِسِيِّ، وهذا في "مُسنَده"(2442) ..
والنَّسَائِيُّ في "التَّفسير"(11298 - الكبرى) عن زيد بن الحُباب ..
وأحمدُ (2/ 538) قال: حدَّثَنا هاشمُ بنُ القاسم ..
وابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(14/ 471 - 473) قال: حدَّثَنا أبو أُسامة ..
وابنُ خُزَيمة (2758) عن أسد بن مُوسَى ..
وأبو عَوَانة (4/ 229 - 232) عن عَمْرو بن عاصمٍ ..
والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 324 - 325) عن يحيى بن زكريَّا بن أبي زائدة ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7267) عن شبَابَةَ بنِ سوَّارٍ، كُلُّهم عن سُليمان بن المُغيرة، عن ثابتٍ البُنانِيِّ، عن عبد الله بن رباحٍ، عن أبي هُريرَة، مُطوَّلًا ومُختصَرًا.
ورواه حمَّادُ بنُ سَلَمة، عن ثابتٍ البُنانِيِّ بنحوِه.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (1780/ 86)، ومن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"
(11/ 151 - 152) عن يحيى بن حسَّان ..
وأحمدُ (2/ 292) قال: حدَّثَنا يزيدُ بنُ هارون ..
وأبو عَوَانة (4/ 232 - 233)، والدَّارَقُطنِيُّ (3/ 60) عن مُوسَى بن داوُد ..
وأبو عَوَانة أيضًا، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7266) عن مُحمَّد بن كَثيرٍ ..
والبَيهَقِيُّ (6/ 34 و 9/ 118) عن عفَّان بن مُسلِمٍ، كُلُّهم عن حمَّاد بن سَلَمة بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا سلَّامُ بنُ مِسكينٍ، عن ثابتٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ النَّسائيُّ في "التَّفسير"(11298 - الكُبرى) عن زيد بن الحُباب ..
وأبو يَعلَى (6647)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(1738)، وابنُ حِبَّان (4760)، والحاكمُ (2/ 53)، والدَّارَقُطنِيُّ (3/ 60)، وابنُ عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 9/ ق 191 - 192) عن هُدبةَ بن خالدٍ ..
وأبو داوُد (3024)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ (9/ 118) قال: حدَّثَنا مُسلِمُ بنُ إبراهيم ..
والحاكمُ (2/ 53) عن مُحمَّد بن الفضل عارمٍ، كُلُّهم عن سلَّام بن مِسكينٍ بهذا.
وأخرَجَهُ الطَّحاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 325)، والبَيهَقِيُّ في
"الدَّلائل"(5/ 57 - 58)، وفي "السُّنَن الكَبير"(9/ 118) مِن طريق القاسمِ بنِ سلَّام بن مِسكينٍ، عن أبيه سَلَّام بن مِسكينٍ، عن ثابتٍ بهذا.
وله شاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
يرويه عبدُ الله بنُ إدريسَ، عن مُحمَّد بن إسحاق، عن الزُّهرِيِّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبَة عن ابن عبَّاسٍ.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3021)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(486)، والبَيهَقِيُّ في "المعرفة"(13/ 297)، وفي "الدَّلائل"(5/ 31) عن يحيى بن آدم ..
والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 319 - 322) عن يُوسُف بن بُهْلُولَ، كِلَيهما عن عبد الله بن إدريسَ بهذا.
وأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ (ج 8/ رقم 7264) عن مُحمَّد بن سَلَمة ..
والبَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(5/ 27 - 29) عن يُونُس بن بُكيرٍ، كِلَيهما عن ابن إسحاقَ بهذا الإسناد مُطوَّلًا.
وصرَّح ابنُ إسحاق بالتَّحديث في رواية يُونُسَ.
وتابَعَهُما زيادُ بنُ عبد الله البَكَّائِيُّ، عن ابن إسحاقَ بسَنَده سواء.
أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الدَّلائل"(5/ 31 - 32).
قال الطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 322): "هذا حديثٌ مُتَّصلُ الإسناد، صحيحٌ".
واختُلِف فيه على ابن إسحاق ..
فرواه سَلَمةُ بنُ الفضل، عن ابن إسحاق، عن العبَّاس بن عبد الله بن
مَعبَدٍ، عن بعض أهلِه، عن ابن عبَّاسٍ فذَكَره.
أخرَجَهُ أبو داوُد (3022)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "المعرفة"(13/ 297 - 298)، وفي "السُّنن الصَّغير" (3/ 405 - 406) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ، ثنا سَلَمةُ بنُ الفَضل بهذا.
والوَجهُ الأوَّل أقوى، لاسيما وقد تُوبِع ابنُ إسحاق عليه ..
تابعه جَعفَرُ بنُ بَرقَانَ، فرواه عن الزُّهريِّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عبَّاسٍ بطوله.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 8/ رقم 7265) من طريق يُونُس بنِ بُكيرٍ، عن جعفر بن بَرقَانَ بهذا.
وله شاهدٌ أيضًا من حديث أنَسٍ رضي الله عنه ..
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ أيضًا (7268) من طريق الحَكَم بن عبد المَلِك، عن قَتادة، عن أنَسٍ، قال: لمَّا كُنَّا بِسَرِفَ، قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أبا سُفيانَ قريبٌ مِنكُم، فاحذَرُوه"، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَسلِم، يا أبا سُفيانَ! "، قال:"يا رسُول الله! قومي قومِي! "، قال:"فإنَّ قَومَك من أغلق بابَه فهو آمنٌ"، قال:"اجعل لي شيئًا"، قال:"مَن دَخَل دارك فهو آمنٌ".
والحَكَمُ بنُ عبد المَلِك رَوَى عن قتادة أحاديثَ لا يُتابَعُ عليها، وضعَّفه ابنُ مَعِينٍ، وأبو حاتمٍ، والنَّسَائِيُّ، وأبو داوُد، وابنُ خِراشٍ، ويعقُوبُ بنُ شيبة جدًّا، والبَزَّارُ، وغيرُهُم.
338 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن غَيَّر البياضَ سوادًا، لم يَنظُر اللهُ إليه يوم القِيامَة".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
فأخرَجَهُ الحارثُ بنُ أبي أُسامة في "مُسنَده"(580 - زوائده) ..
وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(6/ 2114) قال: حدَّثَنا الهيثمُ بنُ خَلَفٍ الدُّورِيُّ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ بكَّارٍ، ثنا أبو سعيدٍ المُؤدِّبُ مُحمَّدُ بنُ مُسلِمٍ، ثنا مُحمَّدُ بنُ عُبيد الله، عن عَمْرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه عبدِ الله بن عَمْرو بن العاص مرفُوعًا فذَكَره.
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا المتنُ لا أعرفُهُ إلَّا مِن هذا الوجه".
وآفةُ هذا الحديث مُحمَّدُ بنُ عُبيد الله العَرْزَمِيُّ، فإنه واهٍ، فقد ترَكَه جماعةٌ، وضعَّفه عامَّةُ النُّقَّاد، وختم ابنُ عَدِيٍّ مع توسُّطه، ترجمته بقوله:"عامَّةُ رواياتِه غيرُ محفوظَةٍ".
واللهُ أعلمُ.
339 -
سُئلتُ عن حديث: أنَّ رجُلًا دخل على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أبيضَ الرَّأس واللِّحية، فقال له:"أَلَستَ مُسلِمًا؟ "، قال:"بلى"، قال:"فاختَضِب".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى في "مُسنَده"(3494) قال: حدَّثَنا الجرَّاحُ بنُ مَخلَدٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ عبد المَجِيد بن عبد الرَّحمن العِجليُّ، حدَّثَنا عليُّ بنُ أبي سارَّة، عن ثابت بن أَسلَمَ البُنَانِيِّ، عن أنَسٍ رضي الله عنه فذَكَرَه.
وإسنادُه ضعيفٌ جدًّا؛ وعليُّ بنُ أبي سارَّة متروكٌ، مُنكَرُ الحديث عن ثابتٍ، وقد أعلَّ الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(5/ 160) هذا الحديثَ به، وعدَّهُ الذَّهَبِيُّ من مُنكَراته، كما في "الميزان"(3/ 130).
واللهُ أعلَمُ.
340 -
سُئلتُ عن حديث: "مَن شَابَ في الإسلام شيبةً، كانت له نُورًا يوم القِيامة، ما لم يُغَيِّرْها".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ بهذا التَّمام.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى - كما في "المطالب العالية"(2262) - قال: حدَّثَنا إسحاقُ بنُ أبي إسرائيل، عن عبد الصَّمَد، ثنا سالمٌ أبو غِياثٍ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن جدَّتِه أُمِّ سليمٍ مرفُوعًا.
وسالمٌ أبو غِياثٍ ترجَمَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(2/ 1/ 190 - 191)، ونَقَلَ عن ابن مَعِينٍ، قال:"لا شيء".
وإسحاقُ بنُ عبد الله بن أبي طلحة لم يَسمَع من جدَّتِه أُمِّ سُليمٍ، كما قال أبو حاتمٍ الرَّازِيِّ، على ما في "كتاب المراسيل"(ص 13) لوَلَدِه عبدِ الرَّحمن.
فالسَّنَدُ واهٍ.
والمُنكَرُ في هذا الحديث قولُهُ: "ما لم يُغَيِّرها".
وقد وجدتُ شاهدًا لهذا القدر المُنكَر.
فأخرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ (1248)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب" (6389) قال: حدَّثَنا عبدُ الجَليل بنُ عطيَّة، عن شهر بن حَوْشبٍ، عن عَمْرو بن عَبْسَةَ مرفُوعًا: "مَن شاب في الإسلام شيبةً - أو قال: في
سبيل اللّه -، كانت له نُوْرًا يوم القيامة، ما لم يُخَضِّبْهَا، أو يَنتِفها".
وهذا إسنادٌ واهٍ أيضًا؛ وشهرُ بنُ حَوْشَبٍ فيه مقالٌ مشهورٌ، وقد تفرَّد بهذا، ثُمَّ إنَّه لم يَسمَع من عَمْرِو بن عَبْسَة، كما قال أبو حاتمٍ، وأبو زُرعة الرَّازِيَان، على ما في "المراسيل"(ص 89).
وأوَّلُ الحديث صحيحٌ عن عَمْرو بن عَبْسة رضي الله عنه.
وقد رواه عنه شُرَحبِيلُّ بن السَّمْط، وآخرُون عنه.
وصحَّح التِّرمذِيُّ طريقَه.
وثَبتَ أيضًا مِن حديث عبد اللّه بن عَمْرو بن العاص.
وقد استوفيتُ الإشارة إلى جُملة ما رُوِي في هذا المعنى في "جُنَّة المُرتَاب"(ص 469 - 476)، فانظُرهُ غيرَ مأمورٍ.
341 -
سُئلتُ عن حديث: "اختضبُوا بالحِنَّاء، فإنه طَيِّبُ الرِّيح، يُسَكَنُ الدَّوْخَة".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى (3621) قال: حدَّثَنا محُمَّدُ بنُ أبي بكرٍ المُقَدَّمِيُّ ..
وتمَّامٌ الرَّازِي في "الفوائد"(1056 - ترتيبه) عن نصر بن عليٍّ أبي عَمْرٍو،
قالا: ثنا الحَسَنُ بنُ دِعَامَة، عن عُمَر بن شريكٍ، عن أبيه، عن أنَسٍ رضي الله عنه مرفُوعًا.
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(5/ 160): "رواه أبو يَعلَى من طريق الحَسَن بن دِعَامةَ، عن عُمَر بن شريكٍ. قال الذَّهَبِيُّ: مجهولان".
ووقع في "فوائد تمَّام": "الزَّوجة" بدل "الدَّوْخة"، وهو تصحيفٌ.
والدَّوْخة: وَجَع في الرَّأس، ودُوارٌ يعتريه.
سُئلتُ عن الأحاديث:
342 -
"إذا رأيتَ الأسَد، فكبِّر ثلاثًا، وقل: أعوذ باللّه مِن شَرَ ما أخافُ وأُحاذِرُ".
343 -
"إذا أكلتَ، فابدأ بالمِلحِ؛ تُشفَ من سبعِين داءً".
344 -
"مَن قَرَأَ سورة {يس} نال عَشرَ بَرَكاتٍ".
• قلتُ: هذه الأحاديثُ الثَّلاثة هي في حقيقتها حديثٌ واحدٌ، لكنَّه باطلٌ موضوعٌ.
أخرَجَهُ الحارثُ بنُ أبي أُسامة في "المُسنَد"(469 - زوائد) قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّحيم بنُ واقدٍ، ثنا حمَّادُ بنُ عَمْرٍو، عن السَّرِيِّ بن خالد بن شدَّادٍ، عن جعفر بن مُحَمَّدٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليٍّ، أنَّه قال: قال لي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عليٌّ! إذا توضأت فقُل: "بِسم اللّه! اللَّهُمَّ! إنِّي أسألُك تمام الوُضوء، وتمام الصَّلاة، وتمام رِضوَانِك، وتمام مغفرَتِك"؛ فهذه زكاة الوُضوء. وإذا أَكَلت، فابدأ بالمِلح، واختِم بالمِلح؛ فإن في المِلح شفاءً من سبعين داءً، أوَّلها الجُذام، والجُنون، والبَرَصُ، ووَجَعُ الأضراس، ووَجَعُ الحَلْق، ووَجَعُ البَصَر. ويا عليُّ! كُل الزَّيتَ، وادَّهِن بالزَّيت؛ فإنَّه من ادَّهَن بالزَّيت لم يَقرَبهُ الشَّيطان أربعين ليلةً. ويا عليُّ! لا تَستَقبِل الشَّمسَ؛ فإن استقبالها داءٌ، واستدبارَها دواءٌ. ولا تُجامِع
امرأتَك في نِصف الشَّهر، ولا عِند غُرَّة الهلال؛ أَمَا رأيتَ المجانين يُصرَعون فيها كثيرًا. يا عليُّ! إذا رأيتَ الأَسَد، فكبِّر ثلاثًا، تقُول:"اللّهُ أكبر، اللّهُ أكبر، اللّهُ أكبرُ، اللهُ أعزُّ مِن كُلِّ شيءٍ وأكبرُ، أعوذُ باللّه مِن شَرِّ ما أخافُ وأُحاذِرُ"؛ فإنَّك تُكفَى شَرُّه، إن شاء اللّه. وإذا هَرَّ الكلبُ عليك، فقُل:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. يا عليُّ! إذا كُنتَ صائمًا في شهر رمضان، فقُل بعد إفطارِك:"اللَّهُمَّ! لك صُمتُ، وعليك توكَّلتُ، وعلى رِزقِك أفطرتُ"، يُكتَبُ لك مِثلُ مَن كان صائمًا، مِن غَير أن يَنتَقِص من أجورهم شيئًا. يا عليُّ! واقرأ سُورة {يس}؛ فإن في {يس} عَشرُ بَرَكَاتٍ: ما قرأها جائعٌ إلَّا شَبع، ولا ظمآنُ إلَّا رَوِي، ولا عارٍ إلَّا كُسِي، ولا عَزَبٌ إلَّا تزوَّج، ولا خائفٌ إلَّا أَمِن، ولا مسجونٌ إلَّا خرَج، ولا مُسافرٌ إلَّا أُعِين على سَفَره، ولا من ضلَّت له ضالَّةٌ إلَّا وجدها، ولا مريضٌ إلَّا بَرِئ، ولا قُرِئت عند ميِّتٍ إلَّا خُفِّف عنه".
وهذا إسنادٌ ساقطٌ؛ مُسلسَلٌ بالمجروحين، فشيخُ الحارث بن أبي أُسامة، قال الخطيبُ في "تاريخه" (11/ 85):"في حديثه مناكيرُ، لأنَّها عن ضُعفاءَ، ومَجاهِيل"، وقد يُفهَم من هذا القول أن العُهدة على مَن فوقه.
وحمَّادُ بنُ عَمْرٍ والنَّصِيبِيُّ كذَّبه الجُوْزْجَانِيُّ، وقال ابنُ حِبَّانَ:"كان يَضَع الحديثَ وضعًا"، ووهَّاهُ أبو زُرعة، وترَكَه النَّسَائِيُّ.
وقال البُخاريُّ: "مُنكَرُ الحديث".
والسُّرِيُّ بنُ خالدٍ، قال الأَزدِيُّ:"لا يُحتَجُّ به".
وقال الذَّهَبِيُّ في "الميزان"(2/ 117): "لا يُعرَف"، وترجمه ابنُ أبي حاتمٍ (2/ 1/ 284)، ولم يَذكُر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وكأنَّ هذا إسنادُ نُسخَةٍ إلى جعفرٍ الصَّادقِ، فقد رَوَى الحارثُ بنُ أبي أُسامة بهذا الإسناد، عن جعفر بن مُحمَّدٍ، جُملةً من الأحاديث.
وقد أورد ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(2/ 289) من وجهٍ آخرَ، بعض هذا الحديث، ثُمَّ قال:"هذا حديثٌ لا يصحُّ عن رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم، والمُتَّهَمُ به عبدُ الله بنُ أحمد بن عامرٍ، أو أبوه، فإنَّهما يرويان نُسخةً عن أهل البيت، كُلُّها موضوعةٌ".
واللهُ أعلمُ.
345 -
سُئلتُ عن حديث: "تَمَعدَدُوا، وَاخشَوْشِنُوا، وانتَعِلُوا، وامشُوا حُفَاةً".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(6061)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(4/ 2361) عن صفوان بن عيسى ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 19/ رقم 84)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(5801)، وأبو الشَّيخ في "كتاب السَّبق"، وابنُ شاهين في "الصَّحابة" عن يحيى بن زكريَّا بن أبي زائدة ..
وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُعجَم الصَّحابة"(1655، 1987)، ومِن طريقه أبو نُعيمٍ في "المعرفة"(5800) عن إسماعيل بن زكريَّا، ثلاثتهم عن عبد اللّه بن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن أبيه، عن القَعقَاع بن أبي حَدْرَدٍ مرفوعًا به.
ووقع عند البَغَوِيِّ: "ابنُ أبي حَدْرَدٍ" غيرَ مُسمًّى، وسمَّاه البَغَوِيُّ مرَّةً:"عبد الله"، ومرَّةً:"قعقاعَ".
ونقلَ السِّيُوطِيُّ في "الجامع الكبير"(12850/ 526) عن ابن عساكر، قال: "اعتَقَدَ البَغَوِيُّ أن ابن أبي حَدْرَدٍ هو عبدُ الله، فأخرَجَه في ترجمَتِه، وإنَّما هو القعقاعُ بنُ عبد الله بن أبي حَدْرَدٍ، وكذلك رواه صفوانُ بن
عيسى، ويحيى بنُ زكريَّا بن أبي زائدة، عن عبد الله بن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، فيكون الحديثُ مُرسَلًا؛ لأنَّ القعقاع لا صُحبَة له، وعبدُ الله بنُ سعيدٍ ضعيفٌ بمرَّة" انتهى.
• قلتُ: وقد اختُلِف في إسناده ..
فرواه صفوانُ بن عيسى، ويحيى بنُ زكريَّا، وإسماعيلُ بنُ زكريَّا، ثلاثتهم عن عبد الله بن سعيدٍ، عن أبيه، عن القَعقَاع بن أبي حَدْرَدٍ.
وخالفهم عبدُ الرَّحيم بنُ سُليمانَ، فرواه عن عبد الله بن سعيدٍ، عن أبيه، عن رَجُلٍ من أسلمَ، يُقال له ابنُ الأَدرَعِ مرفُوعًا فذكره.
أخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ في "الآحاد والمثاني"(2386) ..
والرَّامَهُرمُزِيُّ في "الأمثال"(136) قال: حدَّثَنا محُمَّدُ بنُ عبد الله الحَضرمِيُّ، قالا: ثنا أبو بَكرٍ بنُ أبي شيبة - وهذا في "المُصنَّف"(9/ 22)، وفي "المُسنَد"(597) -، قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّحيم بنُ سُليمان بهذا.
وأخرجه الطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 885) من طريق سعيد بن سُليمان، عن إسماعيل بن زكريَّا، عن عبد الله بن سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي حَدْرَدٍ مرفوعًا.
وهذا اضطرابٌ شديدٌ، وآفتُه عبدُ الله بنُ سعيدٍ، فإنَّه واهٍ متروكُ الحديث.
وقد صحَّ هذا عن عُمَرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه، قال: "أمَّا بعدُ! فاتَّزِرُوا، وارتَدُوا، وانتَعِلُوا، وارْمُوا بالخِفَاف، واقطعوا السَّرَاويلاتِ، وعَلَيكُم
بلباس أبيكم إِسماعِيلَ، وإيَّاكم والتَّنَعُّمَ وزيَّ الأَعاجِم، وعَلَيكُم بالشَّمس، فإنَّها حمَّامُ العَرَب، وتمَعدَدُوا، واخشَوْشنُوا، واخلَوْلَقُوا، وارمُوا الأغراضَ، وانزُوا نَزوًا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحريرِ، إلَّا هكذا - أصبعيه السَّبَّابة والوُسطى -"، قال: فما عَلِمنا أنَّه يَعنِي: إلَّا الأعلام.
أخرَجَهُ أبو القاسم البَغَوِيُّ في "الجعديَّات"(1030) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ الجعد ..
وابنُ حِبَّان (5454) عن عيسى بن يُونُس، كليهما عن شُعبَةَ، عن قتادة، قال: سمِعتُ أبا عُثمانَ النَّهديَّ، يقول: أتانا كِتابُ عُمَرَ، ونحن بأَذرِبِيجَانَ، مع عُتبة بن فَرْقدٍ: "أمَّا بعدُ!
…
الخ".
وأخرَجَهُ البَغَوِيُّ أيضًا (1031) قال: حدَّثَنا عليُّ بنُ الجعد ..
والبَيهَقِيُّ (10/ 14) عن آدم بن أبي إياسٍ، عن شعبَة، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي عُثمانَ النَّهدِيِّ، عن عُمَر نحوَه، وزاد:"وتعلَّمُوا العربيَّةَ".
وتُوبع شُعبَةُ على هذا الوجه ..
فأخرَجَهُ البُخاريُّ في "اللِّباس"(10/ 284)، ومُسلِمٌ (2069/ 12)، عن زُهير بن مُعاوِية ..
وأحمدُ (1/ 43) قال: حدَّثَنا يزيدُ بنُ هارُون ..
وأبو يَعلَى (213) عن حمَّاد بن سَلَمة، ثلاثتهم عن عاصمٍ الأحوَلِ، عن أبي عُثمان النَّهْدِيِّ، عن عُمَر نحوه، مطوَّلًا ومُختصَرًا.
وأخرجه أبو عُبيدٍ في "غريب الحديث"(3/ 325) قال: حدَّثَنا
أبو بَكرٍ بنُ عيَّاشٍ، عن عاصم بن أبي النُّجُود، عن أبي العَدَبَّسِ الأَسَدِيِّ، عن عُمَر نحوَه.
وأبو العَدَبَّس فيه جهالةٌ.
وأخرَجَهُ البُخاريُّ (10/ 284) عن سُليمان التَّيمِيِّ، عن أبي عُثمان، قال: كُنَّا مع عُتبةَ - يعني: ابنَ فَرْقَدٍ -، فكتب إليه عُمَرُ، فذَكَرَ بضَعه مرفُوعًا:"لا يُلبَسُ الحَريرُ في الدُّنيا، إلَّا لم يُلبَس منه شيءٌ في الآخرة".
346 -
سُئلتُ عن حديث: أن أَخَوين، مات أحدُهُما قبل الآخر بجُمعةٍ، ففضَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الذي مات أوَّلًا، وقال:"إنَّه صلَّى بعده أربعينَ صلاةً".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ مُحمَّد بن أبي ثابتٍ في "الأوَّل من الفوائد"(ق 83/ 2) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ بَكرٍ البَالِسيُّ، ثنا داوُدُ بنُ الحَسَن، ثنا مُبارَكُ بنُ فَضالة، عن الحَسَن البصريِّ، عن أنَس بن مالكٍ فذَكَرَه.
وهذا إسنادٌ مُسلسَلٌ بالعِلل؛ فأحمدُ بنُ بكرٍ البَالِسِيُّ
(1)
ترجمه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(1/ 191)، وقال:"قال لنا عبدُ المَلِك بنُ مُحَمَّدٍ: أحمدُ بنُ بكرٍ البَالِسِيُّ روى أحاديثَ مناكيرَ عن الثِّقات".
(1)
ثُمَّ رأيتُ في "السَّادس من الفوائد المنتقاة"(ق 189/ 2) لأبي طاهرٍ المخلِّص، أنَّه قال: حدّثنا يحيى - هو ابنُ صاعدٍ -، قال: حدَّثنا أحمدُ بن بكرٍ أبو سعيدٍ ببَالسَ، قال: ثنا محمَّد بنُ عبيدٍ، قال: ثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حَازمٍ، قال: ذُكر عند أبي سعيدٍ الخُدريِّ ركعتين بعد العصر، فقال أبو سعيدٍ:"نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهما، فجيؤونا بمن يخبرُنا أنَّه أمر بهما بعد ذلك".
قال ابنُ صاعدٍ: "لا أعرف علَّة هذا الحديث".
فهل هذا تقويةٌ من ابن صاعدٍ للبالِسيِّ، أو أنَّه يرى الحديثَ معلًّا لكنَّه لا يدري من عِلَّتُه؟ الذي يظهر لي هو الثَّاني. واللّه أعلم.
ونسب الذَّهَبِيُّ في "الميزان"(1/ 86) هذا القول لابن عَدِيٍّ، ولم يتعقَّبهُ في "اللِّسان"(1/ 237)، وقد رأيتَ أنَّه قولُ شيخِ ابن عَدِيٍّ.
ونَقَلَ في "اللِّسان" أن الدَّارَقُطنِيَّ ضعَّفه، بل قال أبو الفتح الأَزدِيُّ:"كان يضع الحديث"، ولعلَّه بالَغَ كعادته.
وأمَّا ابنُ حِبَّان فقد ذَكَرَه في "الثِّقات"(8/ 51) وقال: "كان يُخطِئ".
وداوُد بنُ الحسَن لم أَجِد له ترجمةً، فليُحَرَّر.
ومُبارَكُ بن فَضالة ضعيفٌ، وكان يُدلِّس.
والحَسَن البصريُّ لم يَسمَع من أنَس بن مالكٍ.
فالإسنادُ ساقطٌ كما رأيتَ.
واللهُ أعلَمُ.
347 -
سُئلتُ عن حديث: "حَيَاتِي خيرٌ لَكُم، ومماتي خيرٌ لَكُم، تُعرَضُ عليَّ أعمالُكم، فما وجدتُ مِن خيرٍ، حمدتُ الله عليه، وما رأيتُ من شرٍّ، استغفرتُ الله لَكُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ البَزَّار (1925 - البحر) قال: حدَّثَنا يُوسُفُ بنُ مُوسى، قال: نا عبدُ المَجِيد بنُ عبد العزيز بن أبي روَّادٍ، عن سُفيان، عن عبد الله بن السَّائب، عن زَاذَانَ، عن ابن مسعُودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن لله ملائكةً سيَّاحين، يُبَلِّغُونِي عن أمَّتي السَّلامَ".
قال: وقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لَكُم
…
الحديث".
قال البزَّارُ: "وهذا الحديثُ آخِرُه لا نَعلَمُه يُروَى عن عبد الله إلَّا مِن هذا الوجه بهذا الإسناد".
فاعلم أيُّها المُستَرشِد! أنَّ جماعةً من ثقاتِ أصحاب سُفيان الثَّوْريِّ، رَوَوْا هذا الحديثَ عنه، عن عبد الله بن السَّائب، عن زاذانَ، عن ابن مسعُودٍ، بأوَّله حسبُ، ولم يَذكُر واحدٌ منهم آخرَه.
فأخرَجَهُ النِّسَائِيُّ (3/ 43)، وأحمدُ (1/ 452) عن مُعاذ بن مُعاذٍ العَنبرِيِّ ..
والنَّسَائِيُّ، وأبو يَعلَى (5213)، وابن أُبي شَيبَة (2/ 517)، وابنُ حِبَّان (914) عن وكيع بن الجَرَّاح ..
والنَّسَائِيُّ (3/ 43)، والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 10/ رقم 10529) عن عبد الرَّزَّاق، وهذا في "المُصنَّف"(2/ 215) ..
والدَّارِمِيُّ (2/ 225) قال: حدَّثَنا محُمَّدُ بنُ يُوسُف الفِريَابِيُّ ..
وأحمد (1/ 387) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ نُميرٍ ..
والنَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(66) عن ابن المُبارَك، وهو في "كتاب الزُّهد"(1028) ..
وأحمدُ (1/ 441) قال: حدَّثَنا وكيع، وعبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ ..
والهيثمُ بن كُليبٍ في "المُسنَد"(825) عن زيد بن الحُباب ..
والبَزَّارُ (1923)، وإسماعيلُ القاضي في "فضل الصَّلاة على النَّبيِّ"(21) عن يحيى القَطَّان ..
والهيثمُ بن كُليبٍ (826)، والطَّبَرَانِيُّ (10530) عن فُضيل بن عياضٍ ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعب"(1582)، وفي "الدَّعَوات الكبير"(159)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(3/ 197) عن أبي نُعيمٍ الفضلِ بن دُكينٍ ..
وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(4/ 201) عن محُمَّد بن كَثيرٍ ..
والحاكمُ (2/ 421)، وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 205) عن أبي إسحاق الفَزَارِيِّ ..
والبَيهَقِيُّ في "الدَّعوات الكبير"(159)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(3/ 197) عن عُبيد الله بن مُوسَى، كُلُّهم عن سُفيان الثَّورِيِّ، عن عبد الله بن السَّائب، عن زاذان، عن ابن مسعُودٍ مرفُوعًا، بالفقرة
الأولى من الحديث، دُون قولِه: "حياتي خيرٌ لَكُم
…
الخ".
فقد رأيتَ، أراك اللهُ الخيرَ، أن يحيى القَطَّانَ، وعبدَ الرَّحمن بنَ مَهدِيٍّ، ووكيعَ بن الجرَّاح، وابنَ المُبارَك، وعبدَ الرَّزَّاق بنَ همَّامٍ، ومُعاذَ بن مُعاذٍ العَنبَرِيَّ، ومُحمَّدَ بنَ يُوسف الفِريَابِيَّ، وعبدَ اللّه بنَ نُميرٍ، وزيدَ بنَ حُبابٍ، وعُبيدَ اللّه بنَ مُوسَى، وأبا نُعيمٍ الفَضلَ، وفُضيلَ بنَ عِياضٍ، ومُحمَّدَ بنَ كَثيرٍ، وأبا إسحاق الفَزَارِيَّ، وعُدَّتُهم أربعةَ عشر نفرًا، قد رَوَوْه عن الثَّوْريِّ، فلم يَذكُروا قولَه: "حياتي خيرٌ لَكُم
…
".
وخالَفَهُم عبدُ المجيد بنُ عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ، فرواه عن الثَّوْريِّ، بهذا الإسناد، فذَكَرَه.
وقد عَلِمنا مِن قول البَزَّار أنَّهُ تَفَرَّد به عن الثَّوْريِّ.
ولا يَشُكُّ حديثيٌّ - وهو المبتدئُ - أن رِواية عبد المجيد مُنكَرَةٌ، فلو لم يَكُن فيه مغمَزٌ، رُبَّما احتُمل منه، لكن تَكلَّم فيه غيرُ واحدٍ من العُلماء، منهم الحُمَيدِيُّ، وقال أبو حاتمٍ:"ليس بالقويِّ، يُكتَب حديثُه"، وقال الدَّارَقُطنِيُّ:"لا يُحتَجُّ به، يُعتَبر به"، وضعَّفه أبو زُرعة، وابنُ سعدٍ، وابنُ أبي عُمَر، وغَلَا فيه ابنُ حِبَّان فتَرَكَه، ووثَّقَه آخرُون، ولم يَروِ له مُسلِمٌ إلَّا حديثًا واحدًا، في "كتاب الحجِّ"(1299/ 179) مقرونًا بهشام بن سُليمان المخزوميِّ، ولو سَلَّمنا أن مُسلِمًا رَوَى له محُتجًّا به، فلا بأس بِصَنيعِه؛ لأنَّه رَوَى هذا الحديثَ عن عبد المَجيد بن عبد العزيز، عن ابن جُريجٍ، وكان عبدُ المَجيد من أَثبَت النَّاس في ابن جُريجٍ، كما قال ابنُ مَعِينٍ، والدَّارَقُطنِيُّ، وابنُ عَدِيٍّ، وغيرُهُم، وحديثُهُ هذا ليس عن
ابن جُريجٍ، مع مُخالَفته لنجوم أصحاب الثَّوْريِّ، فحريٌّ أن لا يُقبَل منه ما زاده عليهم، لا سيَّما وقد رواه الأعمشُ، عن عبد الله بن السَّائب، عن زاذانَ، عن ابن مسعُودٍ مرفوعًا، بالحديث الأوَّل وحده.
أخرَجَهُ الحاكمُ (2/ 421) عن عُثمان بن أبي شيبة ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 10/ رقم 10528) قال: حدّثَنا هاشمُ بن مَرثَدٍ الطَّبَرانيُّ ..
وأبو نُعيمٍ في "أخبار أصبهان"(2/ 205) عن أبي سيَّارٍ محُمَّد بن عبد اللّه البَغدَادِيِّ، قالوا: ثنا أبو صالحٍ محبوبُ بنُ مُوسَى الفرَّاءُ، ثنا أبو إسحاق الفَزَارِيُّ، عن الأعمش بهذا.
ومحبوبُ بنُ مُوسَى وثَّقه أبو داوُد، والعِجليُّ، وقال ابنُ حِبَّان:"مُتقِنٌ فاضلٌ".
وكذلك رواه حُسينٌ الخُلْقَانِيُّ، عن عبد الله بن السَّائب بهذا الإسناد، بالحديث الأوَّل.
أخرَجَهُ البَزَّارُ (1924) ..
والخطيبُ في "تاريخه"(9/ 104) من طريق سعيد بن الحسَن بن عليٍّ، قالا: ثنا يُوسُف بنُ مُوسَى القطَّان، ثنا جَريرُ بنُ عبد الحميد، عن حُسينٍ الخُلْقَانِيِّ بسَنَده سواء.
والخُلْقَانيُّ ما عَرَفتُه، فليُحَرَّر.
وبعد هذا التَّحرير، تَعلَمُ خطأ مَن صحَّح إسنادَ هذا الحديث، كالسِّيُوطِيِّ في "الخصائص"(2/ 491)، أو من جوَّده، كالوَلِيِّ العِراقِيِّ
في "طرح التَّثريب"(3/ 297)، وأخفُّ من قولهما، وإن كان مُوهِمًا، قولُ الهَيثَمِيِّ في "المَجمَع" (6/ 24):"رواه البَزَّارُ، ورِجالُه رجالُ الصَّحيح"، وقولُ شيخِه العِرَاقِيِّ في "تخريج الإحياء" (4/ 128):"رجالُه رجال الصَّحيح، إلَّا أن عبد المَجيد بن أبي روَّادٍ، وإن أَخرَج له مُسلِمٌ، ووثَّقه ابنُ مَعِينٍ، والنَّسَائِيُّ، فقد ضعَّفه بعضُهم" انتهَى.
وله شواهدُ لا يُفرَح بها ..
من ذلك حديثُ أنَسٍ رضي الله عنه مرفُوعًا: "حَيَاتِي خيرٌ لكم - ثلاث مرَّاتٍ -، ووفاتِي خيرٌ لكم - ثلاث مرَّاتٍ -"، فسكت القومُ، فقال عُمَرُ بن الخَطَّاب:"بِأبِي أنتَ وأُمِّي! كيف يكُونُ هذا؟! قُلتَ: "حياتِي خيرٌ لكم" ثلاث مرَّاتٍ، ثمَّ قلتَ: "موتي خيرٌ لكُم" ثلاث مرَّاتٍ"، قال:"حياتي خيرٌ لكُم: ينزِلُ عليَّ الوحيُ مِن السَّماء فأُخبِرُكم بما يَحِلُّ لكم وما يَحرُمُ عليكُم. وموتي خيرٌ لكم: تُعرَضُ عليَّ أعمالُكُم كلَّ خميسٍ، فما كان مِن حَسَنٍ حمدتُ الله عليه، وما كان مِن ذنبٍ استوهَبتُ لكم ذُنُوبَكم".
أخرَجَهُ أبُو طاهِرٍ المُخلِّصُ في "الفوائد"(ج 10/ ق 250/ 1) قال: حدَّثَنا يحيى - هو ابنُ صاعِدٍ -، حدَّثَنا يحيى بنُ خِذامٍ في مَسجِدِ الجامِع بالبَصرة في سنة خمسين ومِئَتَين، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله بن زيادٍ أبُو سَلَمة الأنصاريُّ، حدَّثنا مالِكُ بنُ دينارٍ، عن أنَس بن مالِكٍ.
قال الغُمارِيُّ في "المُداوِي"(3/ 426)، وهو يَرُدُّ على المُناوِيِّ: "فإنَّ الحديثَ رُوي عن أنسٍ بسندٍ نظيفٍ، مِن غير طريق ابن خِراشٍ
…
- ثُمَّ ساق إسنادَ المُخلِّص هذا، ثمَّ قال: - وأبُو سَلَمَة الأنصاريُّ ضعيفٌ".
• قلتُ: كذا قال! ولا يَستَقيم أن يكون الإسنادُ نظيفًا مع ضعف أحد رُواتِهِ. وحتَّى لو التَمَسنا العُذرَ للغُمارِيِّ وقُلنا: "إنَّه حَكَمَ بنَظافَتِه مُقارَنَةً بحديثِ خِراشٍ مولَى أنَسٍ؛ فإنَّه ساقطٌ" فإنَّه لَم تَجرِ عادَةُ العُلماء أن يُصرِّحُوا بنظافَة الإسناد، إنَّما يقُولُون:"هذا إسنادٌ ساقطٌ، والآخر ضعيفٌ" فقط. ولَو تَسامحَنا على إغماضٍ، وسلَّمنا بهذا الاصطلاحِ فإنَّ أبا سلَمَة الأنصاريَّ ليس ضعيفًا فقط، ولكنَّه واهٍ ..
قال ابنُ حِبَّان في "المَجروحِين"(2/ 266): "مُنكَرُ الحديث جدًّا.
يَروِي عن الثِّقات ما ليس مِن حديثِهِم. لا يَجُوزُ الاحتِجاجُ به حالٍ" ..
وقال العُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(5/ 309): "مُنكَر الحديث" ..
وقال الحاكِمُ: "يَروِي أحاديثَ موضوعةً" ..
وكذَّبَهُ ابنُ طاهرٍ ..
قال الذَّهبِيُّ في "الميزان": "وله طامَّاتٌ
…
- ثُمَّ قال: - رَوَى بِقِلَّةِ حياءٍ، عن حُميدٍ الطَّويل، عن أنَسٍ".
والرَّاوِي عنه، يحيى بنُ خِذامٍ. مِن شُيوخ ابن ماجَهْ. ذَكَره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(9/ 266)، وليس فيه توثيق آخرُ مُعتَبرٌ.
وَنَقَل المِزِّيُّ في "تَهذيبه"(31/ 291) عن الحاكِم أبي أحمد، أنَّه قال في "الكُنَى" في ترجَمة أبي سَلَمَة الأنصارِيِّ هذا.:"روَى عنه يحيَى بنُ خِذامٍ، عن مالِك بن دينارٍ أحاديثَ مُنكَرَةً. فالله أعلم: الحملُ فيه على أبي سَلَمَة، أو على ابن خِذامٍ" انتهَى.
• قلتُ: وتَعصيبُ الجِنايَة بالأضعَف هو اللَّائقُ، وقد ذَكَرنا لك فيما
مَضَى حالَ أبي سَلَمَة الأنصاريِّ.
وقد عَرَفتَ على كُلِّ حالٍ أن الإسنادَ ضعيفٌ جدًّا، لا يَجُوزُ أن يُقال فيه "نظيفٌ" ولا ما يُقاربُهُ.
وقد رُوي عن أنسٍ مِن وجه آخر ..
ذَكَرَه ابنُ عَدِيٍّ في "الكامِل"(3/ 945) عن أبي سَعيدٍ الحسن بن صالح بن زكريَّا بن يحيى بن صالح بن زُفَرَ العَدَوِيِّ، قال: مررتُ بالبَصرة بأبي عُثمانَ بن أبي العاص الثَّقَفِيِّ، فإذا النَّاسُ مُجتَمِعون في مَنخَل طحَّانٍ عَلَى رجُلٍ، فمِلتُ إليه كما يَنظُرُ الغِلمان، فإذا أنا بهذا الشَّيخ، فقلتُ:"مَن هذا؟ "، فقالُوا:"خِراشُ بنُ عبد الله، خادِمُ أنَس بن مالكٍ"، قلتُ:"كم له مِن سنةٍ؟ "، قالوا:"ثمانون ومئةٌ"، فزَحَمتُ النَّاسَ، فدَخَلتُ إليه، وبين يديه جماعَةٌ يكتُبُون عنه والباقي نَظَّارةٌ، فأخذتُ قَلَمًا مِن يد رجُلٍ وكَتَبتُ هذه الأربعةَ عشر حديثًا في أسفل نَعِلي، وذلك في سنة اثنين وعِشرين ومئتين، وأنا ابنُ اثنتي عشرة سنةً. قال: ثنا خِراشٌ، ثنا مَولاي أنَسُ بنُ مالكٍ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"حياتي خيرٌ لكُم، وموتي خيرٌ لكم. أمَّا حَياتِي فأُحَدِّثُ لكُم، وأمَّا موتي فتُعرَضُ عليَّ أعمالُكُم عَشِيَّة الاثنَين والخميسٍ، فما كان مِن عملٍ صالحٍ حمدتُ اللّه عليه، وما كان مِن عملٍ سيِّءٍ استغفرتُ لكم".
وعزاه شيخُنا رحمه الله في "الضَّعيفة"(975) إلى أبي مَنصورٍ الجَربَاذْقَانِيِّ في "الثَّاني من عروس الأجزاء"(ق 2/ 139)، وعبدِ القادر بن مُحمَّدٍ القُرشيِّ الحَنَفِيِّ في "جزءٍ له"(2/ 2).
قال ابنُ عَدِيٍّ بعدما رَوَى نُسخةً لخِراشٍ هذا: "قرأتُ هذه الأحاديثَ في المُحرَّم سنة سِتِّين وثلاثمئة. وخِراشٌ هذا مجهُولٌ ليس بمَعرُوفٍ، وما أعلَم حدَّثَ عنه ثقةٌ أو صَدُوقٌ، إلَّا الضُّعَفاء. وهذه الأحاديثُ عن أنسٍ عامَّةُ مُتُونِها صالحِةٌ، قد رُوي مِن غَير هذا الوَجه في بعض هذه المُتون مَنَاكيرُ، فإذا لم يُعرَف الرَّجُلُ وكان مجَهُولًا، كان حديثُهُ مثلَهُ. والعَدَوِيُّ هذا كُنَّا نتَّهِمُهُ بوضع الحديث، وهو ظاهرُ الأمر في الكَذِب".
وقال ابنُ حِبَّان (1/ 241) في تَرجَمة الحسن بن علي العَدَويِّ هذا: "مِن أهل البَصرة. سَكَن بغدَادَ. يَروِي عَن شُيوخِ لم يَرَهُم، ويَضَعُ على مَن رآهُم الحديثَ. كان ببغدادَ في أحياءِ أيَّامِنا، فأَردتُ السَّماعَ منه للاعتبار، فأخذتُ جُزءًا مِن حديثِهِ، فرأيتُهُ حدَّث عن أبي الرَّبيع الزَّهرانِيِّ، ومحُمَّد بن عبد الأعلَى الصَّنعانيِّ، قالا: ثنا عبدُ الرَّزَّاق، أنبأ معمرٌ، عن الزُّهريِّ، عن عُروة، عن عائِشَة، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، قال: قال رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "النَّظَر إلى وجه عليٍّ عليه السلام عبادةٌ"، وهذا شيءٌ لا يشُكُّ عوامُّ أصحاب الحديث أنَّه موضوعٌ، ما رَوَى الصِّدِّيقُ هذا الخَبَر قطُّ، ولا الصِّدِّيقةُ رَوَته، ولا عُروةُ حدَّث به، ولا الزُّهرِيُّ ذَكَره، ولا مَعمَرٌ قالَه. فمَن وَضَع مثل هذا على الزَّهرانِيِّ والصَّنعانِيِّ - وهُما مُتقِنا أهل البَصرة - لَبِالحرِيِّ أن يُهجَر في الرِّوايات. وروَى عن أحمدَ بن عَبدة الضَّبِّيِّ، عن ابن عُيَينة، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، قال: "أَمَرَنا رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نَفرِض على أولادَنا حُبَّ عليِّ بن أبي طالِبٍ"، وهذا أيضًا باطلٌ، ما أَمرَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بهذا مُطلَقًا، ولا جابِر قالَهُ، ولا
أبو الزُّبَير رواه، ولا ابنُ عُيَينة حدَّث به، ولا أحمدُ بنُ عَبدَة ذكره بهذا الإسناد، فالمُستمِعُ لا يشُكُّ أنَّه موضوعٌ. فلَم أذهَب لهذا الشَّيخ، ولا سمعتُ منه شيئًا. ثُمَّ تتبَّعتُ عليه ما حدَّث به، فلقيتُهُ قد حدَّث عن الثِّقات بالأشياء المَوضوعات ما تزيدُ على ألف حديثٍ، سوى المَقلوباتِ، أكرَه ذِكرَها كراهية التَّطويل" انتهَى.
• قلتُ: فحديثُ أنسٍ رضي الله عنه ساقطٌ عن حدِّ الاعتبارِ به لشِدَّة ضعفِهِ.
وله شاهِدٌ مُرسَلٌ ..
أخرَجَه ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(2/ 194) قال: أخبَرَنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ المؤدِّبُ ..
وإسماعيلُ القاضي في "فضل الصَّلاة على النَّبيِّ"(25) قال: حدَّثَنا سُلَيمانُ بنُ حربٍ، قالا: ثنا حمَّادُ بنُ زيدٍ، قال: ثنا غالبٌ القطَّانُ، عن بَكر بن عبد اللّه المُزَنِيِّ، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "حَياتِي خيرٌ لكم؛ تُحدِثُون ويُحدَثُ لكم. فإذا أنا مِتُّ كانت وفاتي خيرًا لكم؛ تُعرَضُ عليَّ أعمالُكُم، فإن رأيتُ خيرًا حمدتُ الله، وإن رأيتُ غير ذلك استغفرتُ الله لكم".
قال شيخُنا: "ورِجالُهُ كُلُّهم ثقاتٌ، رجالُ الشَّيخَين".
• قلتُ: وإسنادُهُ جيِّدٌ. وغالبٌ القطَّانُ قويٌّ مُتماسكٌ، كما بيَّنتُهُ في "تنبيه الهاجِد"(355 - مِن الطَّبعة الجَديدة).
وله طريقٌ آخَر ..
أخرَجَه إسماعِيلُ القاضي أيضًا (26) قال: حدَّثَنا الحجَّاجُ بنُ المِنهال،
قال: حدَّثَنا حمَّادُ بن سَلَمَة، عن كَثيرٍ أبي الفَضل، عن بَكر بن عبد اللّه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذَكَره.
قال شيخُنا رحمه الله: "هذه طريقٌ أُخرَى إلى بكرٍ بن عبد الله، وهي جيِّدةٌ، رجالهُا رجالُ مُسلمٍ غيرُ كثيرٍ أبي الفَضل - واسمُ أبيه: يَسَارٌ -، أورَدَه ابنُ أبي حاتِمٍ (3/ 2/ 158)، ولم يَذكُر فيه جَرحًا ولا تَعديلًا، وقال ابنُ القَطَّان: "حالُهُ غيرُ معروفٍ"، وردَّه ابنُ حجرٍ في "اللسان" بقوله: "بل هو معروفٌ"، ثمَّ أطال في بيان ذلك، ومِمَّا قاله إنَّه ذكره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"، ورَوَى عن عشرة أنفُسٍ" انتَهى.
وله طريقٌ ثالثةٌ عن بَكرٍ مُرسَلًا ..
أخرَجَه الحارِثُ بن أبي أُسامَةَ في "مُسنَده"(953 - زوائده) قال: حدَّثَنا الحَسَنُ بنُ قتَيبة، ثنا جِسرُ بن فَرقَدٍ، عن بكر بنَ عبد اللّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
فذكره.
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ وجِسرٌ هذا تكلَّم فيه ابنُ مَعِينٍ، والبُخاريُّ، وأبو حاتِمٍ، والنَّسائِيُّ، وغَيرُهُم. وهُو مُتابعٌ على كُلِّ حالٍ.
فتبيَّن مِن هذا أنَّه لا يَصِحُّ هذا الحديثُ إلَّا مُرسَلًا.
وقد قال شيخُنا في "الضَّعيفة"(975): "فلعلَّ هذا الحديث الذي رواه عبدُ المَجِيد موصُولًا عن ابن مَسعودٍ، أصلُهُ هذا المُرسَلُ عن بَكرٍ، أخطأ فيه عبدُ المَجيد، فوَصَله عن ابن مَسعُود، مُلحِقًا إيَّاه بحديثهِ الأوَّل. والله أعلم".
• قلتُ: وهذا التَّرجِّي من شَيخِنا رحمه الله فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ أسانيد المُرسَل
خاليةٌ مِن ذِكر عبد المَجيد، فلو اختَلَف الرُّواةُ عليه لأَمكَنَ ذلك. والله أعلم.
وممَّا يدلُّ على نَكَارة هذا الحديث ..
ما أخرَجَهُ البُخاريُّ في "أحاديث الأنبياء"(6/ 386 - 387، 478)، وفي "التَّفسير"(8/ 286، 437 - 438)، وفي "الرِّقاق"(11/ 377)، ومُسلِمٌ (2860/ 58)، والنَّسَائِيُّ (4/ 117)، والتِّرمِذِيُّ (2423)، وأحمدُ (1/ 223، 229، 235، 253)، والدَّارِمِيُّ (2/ 233 - 234)، والطَّيَالِسِيُّ (2638)، وابنُ أبي شيبة في "المُصنَّف"(11/ 571، و 13/ 247، و 14/ 117)، وابنُ حِبَّان (7347) وغيرُهم من طريق المُغيرة بن النُّعمان، عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ، فذكر حديثًا، وفيه:"أَلا وإنَّه سيُجَاءُ برجالٍ من أُمَّتي، فيُؤخَذُ بهم ذاتَ الشِّمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تَدرِي ما أَحدَثُوا بعدَك".
فهذا الحديثُ دليلٌ على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَعلَمُ أعمال أُمَّتِه بعدَه.
ويدلُّ على ذلك أيضًا، قولُ عيسى عليه السلام:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
واللهُ أعلمُ.
348 -
سألني سائلٌ عن: كلام لابن عبد البَرِّ، أعلَّ به حديثَ عِمران بن حُصينٍ رضي الله عنه مرفوعًا:"خَيرُ النَّاس قرني، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ يجيءُ أقوامٌ، يَتَسَمَّنُون ويُحِبُّون السِّمَنَ، يُعطُون الشَّهادة قبل أن يُسأَلُوها"، مع أن هذا الحديث في "الصَّحيحين".
ويقول: هل لابن عبد البَرِّ مُستنَدٌ صحيحٌ في هذا الإعلال؟
• قلتُ: أخرَجَ ابنُ عبد البر في "كتاب التَّمهيد"(17/ 298 - 299) من طريق زُهير بن حربٍ، ثنا وكيع، ثنا الأعمشُ، ثنا هلالُ بنُ يَسَافٍ، عن عِمران بن حُصينٍ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ النَّاس قرني، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ يجيء قومٌ يتَسَمَّنُون، ويُحِبُّون السِّمَن، يُعطُون الشَّهادةَ قبل أن يُسألُوها".
ثُمَّ رواه ابنُ عبد البَرِّ، مِن طريق أحمد بن زُهير بن حربٍ، حدَّثنا أبي، حدَّثَنا ابنُ فُضيلٍ، عن الأعمش، عن عليّ بن مُدرِكٍ، عن هلال بن يسافٍ، عن عِمران، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوِه.
قال ابنُ عبد البَرِّ: "أدخل ابنُ فُضيلٍ بين الأعمش، وبين هلالٍ، في هذا الحديث: "عليَّ بنَ مُدْرِكٍ"، وتابَعَهُ على ذلك عبدُ الله بنُ إدريسَ، ومنصورُ بنُ أبي الأسود، وهو الصَّواب. وهذا عِندي، واللهُ أعلَمُ، إنَّما
جاء مِن قِبَل الأعمش؛ لأنَّهُ كان يُدَلِّس أحيانًا. وقد يُمكِن أن يكُون مِن قَبَلِ حِفظِ وكيعٍ لذلك، وإن كان حافظًا، أو من قِبَل أبي خيثمة؛ لأنَّ فيه:"حدَّثَنا هلالُ بنُ يَسَافٍ"، وليس بشيءٍ، وإنَّما الحديث للأعمشِ، عن عليِّ بن مُدرِكٍ، عن هلالٍ، والله أعلم. وقد رَوَى الأعمشُ، عن هلال بن يَسَافٍ، غيرَ ما حديثٍ. وقد رَوَى هذا الحديثَ شعبةُ، عن عليّ بن مُدرِكٍ، عن هلال بن يَسَافٍ، عن رَجلٍ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَقُل: عن عِمران بن حُصين".
قال ابنُ عبد البَرِّ: "هذا الحديثُ في إسناده اضطراب، وليس مثلُه يعارَض به حديثُ مالِكٍ؛ لأنَّه مِن نَقلِ ثقات أهل المدينة، وهذا حديثٌ كُوفيٌّ، لا أصل له، ولو صحَّ، كان معناه كمعنى حديث ابن مسعُودٍ، على ما فَسَّره إبراهيمُ النَّخْعِيُّ، فقيه الكُوفة".
• قلتُ: وفي كلامه نظرٌ من وُجوهٍ ..
الأوَّل: أنَّه رجَّح رواية من رواه عن الأعمش، عن عليّ بن مُدرِكٍ، عن هلال بن يَسَافٍ، عن عِمران.
وهذا الوجه أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (2221، 2302) قال: حدَّثَنا واصلُ بنُ عبد الأعلى ..
وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(1471) قال: حدَّثَنا ابن نُميرٍ، قالا: ثنا مُحمَّدُ بنُ فُضيلٍ، ثنا الأعمشُ بهذا.
وتابعه منصُورُ بنُ أبي الأسود، عن الأعمش بسَنِده سواء.
أخرَجَهُ ابنُ أبي عاصمٍ (1470) ..
والطَّبَرانيُّ في الكبير (ج 18/ رقم 583) قال: حدَّثَنا علي بن عبد العزيز ..
والخطيبُ في "الكفاية"(ص 47) عن محُمَّد بن يُونُس، قالوا: ثنا أبو الرَّبيع الزَّهْرَانيُّ، ثنا منصورُ بنُ أبي الأسود.
وخالفهم جماعةٌ من أصحاب الأعمش، فرَوَوْه عنه عن هِلال بن يَسَافٍ، عن عِمران بن حُصينٍ مرفُوعًا.
فأخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (2221، 2302) قال: حدَّثَنا الحُسينُ بنُ حُرَيثٍ ..
وأحمدُ (4/ 426)، وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(1472)، وابن حِبَّان (7229)، والطَّبَرانِيُّ (585) عن ابن أبي شيبة، وهو في "المُصنَّف"(12/ 176) ..
والطَّبَرانِيُّ (585) عن سهل بن عُثمان ..
والآجُرِّيُّ في "الشَّريعة"(1152) عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِيِّ، قالوا: ثنا وكيع، ثنا الأعمشُ، ثنا هِلالُ بنُ يَسَافٍ، عن عِمران مرفُوعًا.
وأخرَجَهُ الحاكم (3/ 471)، والطَّبَرَانِيُّ (586) عن يَعلَى بن عُبيدٍ ..
والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(2465) عن عيسى بن يُونُس ..
والطَّبَرانِيُّ أيضًا (584) عن شيبان بن عبد الرَّحمن، كُلُّهم عن الأعمش، عن هِلال بن يَسَافٍ، عن عِمران بن حُصينٍ.
وأفاد ابنُ أبي حاتمٍ (2603) أن الثَّوْريَّ رواه عن الأعمش كذلك.
فمن نظر في هذا التَّخريج لا يَمتَرِي في تقديم رِواية الجماعة عن الأعمشِ، وكلُّهم ثِقاتٌ أثباتٌ، وفيهم المُقدَّم في الأعمش.
وابنُ فُضيلٍ ومنصورٌ، وإن كانا من الثِّقات، فلا يَجرِيَان في مِضمار مَن
ذَكَرناهم، ولذلك رجَّح التِّرمِذِيُّ هذا الوجهَ، فقال بعد رواية حديث وكيعٍ:"وهذا أصحُّ عِندِي من حديث مُحمَّد بن فُضيلٍ".
وخالَفَهُ أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ - كما في "العِلل"(2603) -، "فرجَّح رواية ابن فُضيلٍ ومنصُورٍ، كما قال ابنُ عبد البَرِّ.
ومُستنَدُ أبي حاتمٍ، فيما أرى، أَفصَحَ عنه ابنُ عبد البَرِّ، كما يأتي في ..
الوجه الثَّاني: أن ابن عبد البَرِّ رجَّح حديثَ الأعمش، عن عليّ بن مُدرِكٍ، قائلًا:"لأنَّ الأعمش كان يُدلِّسُ أحيانًا"، وهو يعني أنَّه يُحتمَل أن يكون الأعمشُ أَسقَط عليَّ بنَ مُدرِكٍ، ورواه عن هلال بن يَسَافٍ مُباشَرةً، وهذا كلامٌ صحيحٌ، ولكن يَدفَعُه أن الأعمش قال:"ثنا هِلالٌ"، فأجاب ابنُ عبد البَرِّ بأنَّ هذا التَّصريح ليس بشيءٍ، والمُخطِئُ فيه إمَّا أن يكون زُهيرُ بنُ حربٍ، أو وكيعٌ.
والجواب: أنَّه لا وجه لتخطَئة واحدٍ مِنهُما ..
فأمَّا زُهير بن حربٍ، فقد تابعه أحمدُ بنُ حنبل، وابنُ أبي شيبة، وأبو عمَّارٍ حُسينُ بنُ حُريثٍ، وسهلُ بنُ عُثمان.
وأمَّا وكيعٌ، فقال ابنُ عبد البَرِّ:"وقد أن يكون مِن قِبَل حفظ وكيعٍ، وإن كان حافظًا".
فهذا كلامٌ غريبٌ، لأنَّنا لا نُنكِر إن الحافظُ الثَّبتُ في بعض ما يَروِيه، ولكن يبقى السُّؤال: ما الدَّليل على وَهَمِه؟ وليس في يد ابن عبد البَرِّ حُجَّةٌ على ما ادَّعاهُ، إلَّا ثبوتُ واسطةٍ بين الأعمش، وبين هلال بن يَسَافٍ، وهذا ليس بكافٍ في التَّخطئة.
ولو كان الذي ذَكَر تصريح الأعمشِ بالتَّحديث مِمَّن يُخطِئُ، أو صاحبُ أوهامٍ، لكان الكلام مقبولًا، أَمَا وهو وكيعُ بنُ الجرَّاح، العَلَمُ الشَّامِخُ، لا سيَّما في حديث الأعمش، فلا.
الوجه الثَّالث: أنَّ قولَه: "في إسناده اضطرابٌ" فليس كذلك.
وليس كلُّ اختلافٍ مما يضعَّفُ به الحديثُ.
والاختلافُ المُضِرُّ الذي يُسمِّيه العُلماء اضطرابًا، هو الذي تَتَسَاوَى فيه وُجُوهُ الرِّواية، وليس ثمَّ مُرجِّحٌ، فحينئذٍ تتساقطُ كُلُّها، وينتفي هذا الاضطرابُ، بالجمع أو التَّرجيح. والجمعُ هنا أَولَى، بل هو الرَّاجحُ، ولا مانع أن يَروِيه الأعمش على الوجهين.
ولو جاز لنا أن ندَّعِي اضطرابًا في هذا الحديث، لكان في الوجه الذي اختارَه ابنُ عبد البَرِّ ..
فقد أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "كتاب القضاء"(3/ 494/ 6030)، ومِن طريقه ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد" (17/ 300) قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، حدَّثَنا ابنُ أبي عَدِي، عن شُعبة، عن عليّ بن مُدرِكٍ، عن هِلال بن يَسَافٍ، قال: قَدِمتُ البَصرَةَ، فإذا رَجلٌ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - ليس أنسَ بن مالكٍ -، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم:
…
فذَكَرَه.
فها هو شُعبةُ أَبهَم صحابيَّ الحديثِ.
ولكن ليس في الحديث اضطرابٌ بحمد الله تعالى، وانتظر ما يأتي.
الوجه الرَّابع: أن ابنَ عبد البَرِّ خَتَم بحثَهُ قائلًا: "وهذا حديثٌ كُوفيٌّ، لا أصل له"، فهذا أبعدُ عن الصَّواب مِن كُلِّ ما مضى.
وقد رواه عن عِمران بن حُصينٍ آخرُون، غيرُ هلال بن يَسَافٍ، منهم:
1 - زَهْدَمُ بنُ مُضرِّبٍ.
وهذا يرويه شُعبَةُ بنُ الحجَّاج، قال: سمِعتُ أبا جَمْرَة - وهو نصرُ بن عِمرانَ -، قال: سمعت زَهْدَمَ بنَ مُضرِّبٍ، قال: سمعتُ عِمرانَ بن حُصينٍ يُحدِّثُ، أن رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ خيرَكم قَرنِي، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم - قال عِمرانُ: فلا أَدرِي، قال رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرَّتين أو ثلاثة -، ثُمَّ يكونُ بَعدَهم قومٌ، يَشهَدُون ولا يُستَشهَدون، ويَخُونُون ولا يُتَّمَنُون".
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الرِّقاق"(11/ 244)، ومُسلِمٌ في "فضائل الصَّحابة"(2535/ 214)، وأحمدُ (4/ 427)، وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(1469)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 18/ رقم 582) عن مُحمَّد بن جعفرٍ غُندرٍ ..
والبُخاريُّ في "الأَيْمان والنُّذور"(11/ 580 - 581)، ومُسلِمٌ، وأحمدُ (4/ 436)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(8/ 391) عن يحيى بن سعيدٍ القطَّان ..
والبُخاريُّ في "كتاب الشَّهادات"(5/ 258 - 259)، وفي "التَّاريخ الكبير"(1/ 1/ 188)، والبَيهَقِيُّ (10/ 123) عن آدم بن أبي إياسٍ ..
والبُخاريُّ في "فضائل الصَّحابة"(7/ 3) عن النَّضر بن شُميلٍ ..
ومُسلِمٌ (2535/ 214)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "مُسنَد ابن الجعد"(1328)، والبَيهَقِيُّ في "السُّنَن الكبير"(10/ 74)، وفي "الصَّغير"
(4/ 116)، وفي "الدَّلائل"(6/ 552) عن بهز بن أَسَدٍ ..
ومُسلِم، وأبو القاسم البَغَوِيُّ (1330) عن شبَابَةَ بن سوَّارٍ ..
وأبو القاسم البَغَوِيُّ (1323)، والطَّبَرَانِيُّ (18/ رقم 581)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 66) عن عليّ بن الجعد ..
والنَّسَائِيُّ (7/ 17 - 18) عن خالد بن الحارث ..
وأحمدُ (4/ 427) عن حجَّاج بن مُحمَّدٍ الأعورِ ..
والطَّيَالِسِيُّ في "مُسنَده"(841)، ومن طريقه أبو القاسم البَغَوِيُّ (1329)، وأبو عَوَانة في "المُستخرَج"(6412) عن أبي زيدٍ النَّحْوِيِّ .. والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(4/ 151) عن بِشر بن ثابتٍ البَزَّار .. والطَّبَرانِيُّ (581) عن عَمْرو بن حكَّامٍ ..
وابنُ النَجَّار في "ذيل تاريخ بغداد"(3/ 28) عن أسد بن مُوسَى، قالوا جميعًا: ثنا شُعبةُ بهذا.
وتُوبع شعبةُ ..
تابعه أبانُ بن يزيدَ العَطَّار، فرواه عن أبي جَمرَة بهذا الإسناد.
أخرجه البُخاريُّ في "الكبير"(1/ 1/ 188)، والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 18/ رقم 585) عن مُسلِم بن إبراهيم ..
وابنُ أبي عاصمٍ (1468)، وابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(6/ 1)، والطَّبَرانيُّ (18/ 580) عن إبراهيم بن الحجَّاج السَّامِيُّ ..
والحاكمُ في "علوم الحديث"(ص 46) عن مُوسَى بن إسماعيل، قالوا: ثنا أبانُ بنُ يزيدَ العَطَّارُ بهذا.
2 - زُرارةُ بنُ أوفَى.
وهذا يرويه قتادةُ، عن زُرَارَة بن أوفَى، عن عِمران بن حُصينٍ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أُمَّتِي القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم - قال: واللّهُ أَعلَمُ، أَذكَر الثَّالث أم لا؟ -، ثُمَّ ينشأُ قومٌ، يَشهَدُون ولا يُستَشهَدُون، ويَنذِرُون ولا يُوفُون، ويَخُونُون ولا يُتَّمَنُون، ويَفشُو فيهم السِّمَنُ".
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (2535/ 215)، وأبو داوُد (4657)، والتِّرمِذِيُّ (2222)، وأحمدُ (4/ 440)، وابنُ حِبَّان (6729)، والبَزَّارُ (3521 - البحر)، والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(4/ 151)، والطَّبَرانِيُّ (ج 18/ رقم 527) عن أبي عَوَانة ..
ومُسلِم أيضًا، وأحمدُ (4/ 426)، والبَزَّارُ (3603)، والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(2464)، والطَيَالِسِيُّ (852)، والطَّبَرَانِيُّ (529)، والبَيهَقِيُّ (10/ 160)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(2/ 259 - 260)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(14/ 67) عن هشامٍ الدَّستوائِيِّ ..
والطَّحَاوِيُّ في "المُشكِل"(2463) عن شُعبة بن الحَجَّاج ..
والطَّبَرانيُّ (526)، وأبو نُعيمٍ في "الحِلية"(2/ 78) عن همَّام بن يحيى ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(528)، وفي "الأوسط"(5526، 8868)، وأبو عَمْرٍو الدَّانِيُّ في "الفِتن"(316) عن مَطَرٍ الورَّاقِ، كُلُّهم عن قتادة بهذا الإسناد.
قال التِّرمِذِيُّ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
• قلتُ: وبعد هذا التَّخريج، ظَهَرَ لك أن الحديث صحيحٌ، وحَسبُك أن صَاحِبَيْ "الصَّحيح" اتَّفَقَا على تخريجِه، فكيف يُقالُ: لا أصل له؟!
الوجهُ الخامسُ: أن ابن عبد البَرِّ طَعَنَ على حديث عِمرانَ هذا، لأنَّه نَصَبَ التَعارُض بينه وبين حديث زيد بن خالدٍ الجُهَنِيِّ، مرفُوعًا:"أَلا أُخبِرُكم بخير الشُّهداء؟ الذي يأتي بالشَّهادة قبل أن يُسألها"، وهو حديثٌ صحيحٌ، أخرَجَهُ مُسلِمٌ في "الأقضية"(1719/ 19).
وقد وقع في إسناده اختلافٌ، ليس هذا موضعُ بيانه.
فقد أجاب أهل العِلمِ بأجوبةٍ، ساقها الحافظُ في "الفتح"(5/ 259 - 260)، فقال:"واختَلَف العُلماءُ في ترجيحهما - يعني: حديث عِمران، وزيد بن خالدٍ -، فجَنَحَ ابنُ عبد البَرِّ إلى ترجيح حديث زيدِ بن خالدٍ؛ لكونه مِن رواية أهل المَدِينة، فقَدَّمه على رواية أهل العِراق، وبالَغَ فَزَعَم أن حديث عِمران هذا لا أصل له. وجَنَحَ غيرُه إلى ترجيح حديثِ عِمران؛ لاتِّفاق صاحبي "الصَّحيح" عليه، وانفرادِ مُسلِمٍ بإخراج حديث زيد بن خالدٍ. وذهب آخرون إلى الجمع بينَهما، فأجابوا بأجوبةٍ، أحدِها أن المُرادَ بحديث زيدٍ: "من عنده شهادةٌ لإنسانٍ بحقٍّ، لا يَعلَمُ بها صاحبُها، فيأتي إليه فيخبُرُهُ بها، أو يموتُ صاحبُها العالِمُ بها، ويُخَلِّفُ ورثةً، فيأتي الشَّاهِدُ إليهم، أو إلى من يَتَحَدَّثُ عنهم، فيُعْلِمُهم بذلك"، وهذا أَحسَنُ الأجوبة، وبهذا أجاب يحيى بنُ سعيدٍ شيخُ مالكٍ، ومالكٌ، وغيرُهما. ثانيهما: أنَّ المُراد به "شهادةُ الحِسبة"، وهي ما
لا يَتَعلَّق بحقوق الآدميِّين، المُختصَّةِ بهم محضًا، ويَدخُلُ في الحِسبة ممَّا يتعلَّق بحق اللّه، أو فيه شائبةٌ منه، كالعتاق، والوقف، والوصيَّة العامة، والعِدَّة، والطَّلاق، والحُدود، ونحو ذلك، وحاصلُه أن المُرادَ بحديث ابن مسعُودٍ:"الشَّهادةُ في حقوق الآدميِّين"، والمُرادَ بحديث زيد بن خالدٍ:"الشَّهادةُ في حقوق اللّه". ثالثها: أنَّه محمولٌ على المُبالَغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدَّة استعدادِه لها كالذي أدَّاها قبل أن يُسأَلهَا، كما يقال في وصف الجَوَاد:"إنَّه لَيُعطِي قبل الطَّلَب"، أي يُعطِي سريعًا عَقِب السُّؤال من غير توقُّفٍ. وهذه الأجوبة مبنيَّةٌ على أن الأصل في أداء الشَّهادة عند الحاكم أن لا يَكُون إلَّا بعد الطَّلب مِن صاحب الحقِّ، فيُخَصُّ ذمُّ من يشهدُ قبل أن يُستَشهَد، بمن ذُكِر ممَّن يُخبِرُ بشهادةٍ عنده، لا يَعلُم صاحبُها بها، أو شهادة الحِسبة. وذَهَبَ بعضُهم إلى جواز أداء الشَّهادة قبل السُّؤال، على ظاهر عُمُوم حديث زيد بن خالدٍ، وتأوَّلُوا حديث عِمرانَ بتأويلاتٍ، أحدِها: أنَّه محمولٌ على شهادة الزُّور، أي:"يُؤدُّون شهادةً لم يَسبِق لهم تحمُّلُها"، وهذا حكاهُ التِّرمذيُّ عن بعض أهل العلم. ثانيها: المرادُ بها: "الشَّهادةُ في الحَلِف"، يدلُّ عليه قولُ إبراهيم، في آخر حديث ابن مسعُودٍ:"كانوا يضربونَنَا على الشَّهادة"، أي قول الرَّجل:"أشهدُ باللّه! ما كان إلَّا كذا"، على معنى الحَلِف، فكُرِه ذلك، كما كُرِه الإكثارُ من الحَلِف، واليمينُ قد تُسمَّى شهادةً، كما قال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وهذا جواب الطَّحاويِّ. ثالثها: المرادُ بها: "الشَّهادة على المُغيَّب من أمر النَّاس"، فيشهدُ على قومٍ أنَّهم
في النَّار، وعلى قومٍ أنَّهم في الجَنَّة، بغير دليلٍ، كما يصنعُ ذلك أهلُ الأهواء، حكاه الخطَّابيُّ. رابعُها: المرادُ به: "من يَنتَصِب شاهدًا، وليس من أهل الشَّهادة". خامسها: المراد به: "التَّسارُع إلى الشَّهادة، وصاحبُها بها عالمٌ، مِن قبل أن يُسألَه". واللّهُ أعلَمُ "انتهَى.
فهذا ما ظَهَرَ لي من الجَوَاب عن إعلال ابن عبد البَرِّ رحمه الله.
واللّهَ أسألُ أن يَرزُقَنا فَهمًا في كتابه، وفي سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
واللهُ أعلمُ.
349 -
سألني سائلٌ، فقال: سمعتُ أحدَ الشُّيوخ وهو يتكلَّم عن فضل الدُّعاء، يقول:"إنَّ الدُّعاء يُمكِن أن يُخرج العبد من النَّار، وإن وَجبت له"، واستدلَّ بحديثٍ رواه التِّرمِذِيُّ - كما قال -، أن امرأةً كان لها ولا يُقال له حارثةُ بنُ النُّعمان، قُتِل يوم بدرٍ، فقالت أُمُّه للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أخبِرنِي عن حارثةَ؛ لئن كان أصاب خيرًا احتَسَبتُ وصبَرتُ، وإن لم يُصِب خيرًا اجتهدتُ في الدُّعاء"
…
الحديث، فهل الحديثُ صحيحٌ؟
• قلتُ: هذا الحديثُ صحيحٌ، لكنَّ هذه اللَّفظةَ التي احتجَّ بها الشيخُ لا تصحُّ، وجزَم الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "الفتح"(6/ 27) أنَّها خطأٌ، ولو سلَّمنا أن ثَمَّ خطأٌ لم يَقَع، فهي لفظَةٌ شاذَّةٌ.
وإليك البيانُ:
فأخرَجَ التِّرمِذِيُّ (3174) قال: حدَّثنا عَبْدُ بنُ حُميدٍ، قال: حدَّثَنا رَوْحُ بنُ عُبَادة، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنَسٍ، أنَّ الرُّبَيِّعَ بنتَ النَّضر أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان ابنُها حارثةُ بنُ سُرَاقة أُصِيب يوم بدرٍ، أصابه سهمٌ غَرْبٌ
(1)
، فأتَت رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "أَخبِرنِي عن
(1)
قال الحافظُ: "الثابت في الرِّواية التَّنوينُ وسكونُ الرَّاء. وأنكره ابنُ قتيبة، فقال: كذا تقولُ العامَّةُ، والأجدرُ فتحُ الرَّاء والإضافةُ. وقال ابنُ زيدٍ: إن جاء مِن حيث لا يُعرَف =
حارثةَ؛ لئن كان أَصَابَ خيرًا احتسبتُ وصَبَرتُ، وإن لم يُصِب الخير اجتهدتُ في الدُّعاء"، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أُمَّ حارثةَ! إِنَّها جنانٌ في جَنَّةٍ، وإنَّ ابنَكِ أَصَابَ الفردوسَ الأعلى، والفردوسُ رَبوَةُ الجَنَّة، وأوسَطُهَا، وأفضَلُها".
• قلتُ: هكذا رواه عَبْدُ بنُ حُميدٍ، عن رَوْحٍ.
ورواه مُحمَّدُ بنُ مرزُوقٍ، ثنا رَوْحُ بنُ عُبَادة بهذا الإسناد، دون القِصَّة.
أخرَجَهُ ابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(15/ 436 - طبع هَجَر).
وقد رواه يزيدُ بنُ زُريع، قال: ثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبة بهذا الإسناد، بلفظ:"أَنبِئْنِي عن حارثةَ، أُصِيبَ يوم بدرٍ، فإن كان في الجَنَّة صَبَرتُ واحتسبتٌ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ في البُكاء".
أخرَجَهُ ابنُ خُزَيمة في "التَّوحيد"(590/ 24) قال: حدَّثَنا أبو مُوسَى - هو مُحمَّد بن المُثنَّى - ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 24/ رقم 665)، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ عبد الله الحَضرَمِيُّ، قالا: ثنا عبَّاسُ بنُ الوليد، ثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ بهذا.
وأخرَجَهُ ابن حِبَّان (958)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 3/ رقم 3235)، وأبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(1970) من طريق مُحمَّد بن المِنهال الضَّرير، ثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ، ثنا سعيدُ بن أبي عَرُوبة بهذا دون القِصَّة،
= فهو بالتَّنوين والإسكان، وإن عُرِف راميه لكن أصاب مَن لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الرَّاء - أي: سهمٌ غَرَبَ -. وقال ابنُ سِيدَه: أصابه سهمٌ غَرْبٌ وغَرَبٌ: إذا لم يَدرٍ مَن رماه، وقيل: إذا قصد غيره فأصابه. - قال الحافظ: - وقصَّة حارثة مُنزَلَةٌ على الثاني، فإن الذي رماه قصد غِرَّته، فرماه وحارثةُ لا يَشعُر به".
وزاد: "فَإِذَا سألتُمُ الله عز وجل، فاسألوه الفِردَوس الأعلى".
وهي زيادةٌ ثابتةٌ، ومحُمَّدُ بنُ المِنهال ثقةٌ ثَبْتٌ، كان أثبتَ النَّاس في يزيد بن زُريعٍ، كما قال أبو يَعلَى المَوْصِليُّ.
وكذلك رواه بلفظ "البُكاء" بدل "الدعاء" أصحابُ قتادة ..
منهم: شيبانُ بنُ عبد الرَّحمن.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "الجهاد"(6/ 25 - 26)، وأحمدُ (3/ 260)، وابنُ خُزَيمَة (588/ 20)، والبَيهَقِيُّ (9/ 167).
ورواه أبانُ بنُ يزيدَ العَطَّارُ، عن قتادة بهذا اللَّفظ: البُكاء.
أخرَجَهُ أحمدُ (3/ 283) قال: حدَّثَنا عَفَّانُ بنُ مُسلِمٍ ..
وابنُ خُزَيمة (588/ 21) عن مُسلِم بن إبراهيم، قالا: ثنا أبانُ العَطَّارُ.
ولم يَذكُر ابنُ خُزَيمة لفظَهُ.
ورواه أيضًا أبو هلالٍ الرَّاسِبِيُّ، عن قتادة، عن أنَسٍ بهذا اللَّفظ.
أخرَجَهُ أحمد (3/ 210) قال: حدَّثَنا عبدُ الصَّمَد، وحَسَن بن مُوسى .. وابن خُزَيمة في "التَّوحيد"(588/ 22) عن سلميان بن حربٍ، قالوا: ثنا أبو هلالٍ. واللَّفظ لأحمد.
والرَّاسِبِيُّ يُضعَّف.
ورواه الحَكَمُ بنُ عبد المَلِك - وهو شبه المتروكٍ -، عن قتادة، عن أنَسٍ مثلَه.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(1971).
وأبو هلالٍ والحكم، مُتابَعان كما ترَى.
وكذلك رواه أصحابُ أنَسٍ رضي الله عنه ..
فأخرَجَهُ البُخاريُّ في "المغازي"(7/ 304)، و في "كتاب الرِّقاق"(11/ 415) عن أبي إسحاق الفَزَارِيِّ إبراهيم بن مُحَمَّدٍ ..
والبُخاريُّ أيضًا في "الرِّقاق"(11/ 418)، والنَّسَائيُّ في "المناقب"(5/ 64 - 65)، وأحمدُ (3/ 264)، وأبو القَاسِم البَغَوِيُّ في "مُعجَم الصَّحابة"(ق 54/ 2)، وابنُ حِبَّان (7391)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(1972) عن إسماعيل بن جعفرٍ ..
وابنُ مَلَّاسٍ
(1)
في "جزئه"(14)، والحاكمُ (3/ 208)، والبَيهَقِيُّ في "البعث"(224) عن مَرْوان بن مُعاويةِ ..
وابنُ أبي شَيبَة (5/ 289 - 290)، وعنه أبو يَعلَى (3730) قال: حدَثَنا أبو خالدٍ الأحمرُ ..
وابنُ أبي عاصمٍ في "الأوائل"(136) مُختَصَرًا عن مُعتمِر بن سُليمان ..
والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 3/ رقم 3236)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(1972) عن عبد العزيز بن مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَردِيُ، كلهم عن حُميدٍ الطَّويل، قال: سمعتُ آنسًا، يقول: أُصِيب حارثةُ يوم بدرٍ، وهو غلامٌ، فجاءت أُمُّه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي خالدٍ الأحمر: ولم يكن لها غيرُهُ -،
(1)
وهو محمَّدُ بنُ هشام بن مَلَّاسٍ الدِّمشقيُّ. وهو من مشايخ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ، وأبي عوانة الاسفرايينيِّ، وابنِ صاعدٍ، وغيرِهم. قال أبو حاتمٍ - كما في "الجرح والتَّعديل" (4/ 1/ 116):"صدوقٌ"، وقال الذَّهبيُّ في "السِّير" (12/ 353):"له جزءٌ عالٍ".
• قلتُ: وهو هذا الجزء الذي خرَّجنا منه هذا الحديث.
فقالت: "يا رسُول اللّه! قد عرفتَ منزلة حارثة مِنِّي، فإن يَكُ في الجَنَّة أَصبِرُ وأَحتَسِبُ، وإن تَكُن الأخرى، تَرَى ما أصنعُ - يعني من البُكاء -، فقال: "ويحك! أَوَهَبِلتِ
(1)
! أَوَجَنَّةٌ واحدةٌ هي؟! إنَّها جِنانٌ كثيرةٌ، وإنَّه لفي جَنَّة الفِردَوس".
وكذلك رواه ثابتٌ البُنانِيُّ، عن أنَسٍ مثلَه.
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "المناقب"(8232)، وأحمدُ (3/ 215، 282 - 283)، والطَّيَالِسِيُّ (2029)، وابنُ المُبارَك في "الجهاد"(83)، وابنُ أبي شيبة (14/ 385 - 381)، وابنُ حِبَّان (4664)، والحاكمُ (3/ 208) عن سُليمان بن المُغِيرة ..
وأحمدُ (3/ 124، 272)، وابنُ سعدٍ في "الطَّبَقات"(3/ 510 - 511)، وابنُ خُزَيمة في "التَّوحيد"(2/ 873)، وأبو يَعلَى (3500)، وابنُ أبي عاصمٍ في "الجهاد"(159)، والطَّبَرانيُّ في "الكبير"(ج 3/ رقم 3234)، والبَيهَقِيُّ في "البعث"(223)، وأبو نُعيمٍ في "المعرفة"(1969) عن حمَّاد بن سَلَمة، كلاهما، عن ثابتٍ البُنَانِيِّ، عن أنَسٍ.
ووقع في رواية الطَّبرَانِيِّ: "أنَّه قُتِل يوم أُحُدٍ"، وهو خطأٌ محضٌ، فقد اتَّفقت كلُّ الروايات أنَّه أتاه سهمٌ، فقتله يوم بدرٍ.
فقد رأيتَ، أراك اللهُ الخيرَ، أن لفظ الحديث، على اختلاف طُرُقه، إنَّما هو "البكاء"، ويدلُّ عليه ما وقع في بعض طُرُقه: "اجتهدتُ عليه
(1)
"الهَبَلُ" - بفتح الهاءِ والباء المُوحَّدة - هو: الثُّكلُ، الذي هو فقدان الوَلَد؛ لأنَّ المرء إذا فقد حبيبًا ذهل عقلُهُ، حتّى يصير كأنَّه شبهُ المجنون.
في الثُّكْل"، وأمَّا لفظةُ "الدُّعاء"، فهي إمَّا خطأٌ وَقَع في نَسخ الكتاب، وإمَّا شاذَّةٌ، وهذا الثَّاني أقربُ، ولا يُحكَم بالأوَّلٍ إلَّا بعد مُراجَعة النُّسَخ العتيقة من كتاب التِّرمِذِيِّ.
واللهُ أعلَمُ.
350 -
سُئلتُ عن حديث: "الزَّهَادَةُ والدُّنيَا تُرِيحُ القلبَ والبَدَنَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
فأخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(6120)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(4/ 394)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(10538) عن يحيى بن بِسطَامَ ..
وابنُ عَدِيِّ في "الكامل"(1/ 367)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(10538)، وابنُ الجَوزِيِّ في "الواهيات"(2/ 318) عن يحيى بن مُحمَّدٍ العَبْدِيِّ، قالا: ثنا أَشعَثُ بن بَرَازٍ الهُجَيمِيُّ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن سعيد بن المُسيَّب، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا.
واللَّفظ للعُقيليِّ.
وهذا حديثٌ غيرُ محفُوظٍ، كما قال العُقيليُّ؛ والأشعثُ بنُ بَرَازٍ - بالباء المُوحَّدة، بعدها راءٌ، وآخرُهُ زاي مُعجَمَةٌ - تَرَكَهُ النَّسَائِيُّ وغيره، وضعَّفه عَمْرُو بنُ عليٍّ الفَلَّاسُ جدًّا، وقال البُخاريُّ:"مُنكَرُ الحديث"، وقال ابنُ عَدِي:"عامَّة ما يرويه غيرُ محفُوظٍ، والضَّعف بيِّنٌ على روايته".
أمَّا الهَيثَمِيُّ، فقال في "المَجمَع"(7/ 142، و 10/ 286): "لم أعرفه"، وقد رأيتَ أنَّه معروفٌ، ولكن بالضَّعف الشَّديد، نسأل اللّه العافية.
وقال ابنُ الجوزِيِّ: "هذا حديثٌ لا يصحُّ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قال
أحمدُ: عليُّ بنُ زيدٍ ليس بشيءٍ، وقال يحيى: عليٌّ وأشعثُ ليسا بشيءٍ".
• قلتُ: لا ذنب لعليِّ بن زيدٍ فيه.
أمَّا المُنذِرِيُّ، فقال في "التَّرغيب" (4/ 157):"إسناده مُقارِبٌ".
وهو عَجَبٌ، بعدما رأيتَ عِلَّته.
وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن عَمْرٍو مرفُوعًا: "الزُّهدُ في الدُّنيا يُرِيحُ القلبَ والبَدَنَ، والرَّغبةُ في الدُّنيا تُكثِر الهمَّ والحَزَنَ، والبَطَالَةُ تُقَسِّي القَلبَ".
أخرَجَهُ القُضَاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(278) من طريق أبي عُتبَة أحمد بن الفَرَج، ثنا بقيَّةُ بنُ الوليد، عن بكر بن خُنَيسٍ، عن مُجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عَمْرٍو بهذا.
وإسناده واهٍ؛ وبقيَّةُ يُدلِّسُ التَّسويةَ.
وبكر بن خُنَيسٍ ضعيفٌ، بل تَرَكَهُ غيرُ واحدٍ. والله أعلم.
وأخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا في "ذمِّ الدُّنيا"(289) قال: حدَّثَني مُحمَّدُ بنُ عليّ بن الحَسَن، ثنا إبراهيمُ بنُ الأشعث، قال: سمعت الفُضَيل بن عِيَاص، يَذكُر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَرَ مثل حديث عبد الله بن عَمْرٍو، دون قوله: "والبَطَالَة
…
".
وإسنادُه مُعضَلٌ.
وأخرَجَهُ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(10609) من طريق ابن أبي الدُّنيا، ثنا مُحمَّدُ بنُ ناجحٍ، ثنا بقيَّةُ بنُ الوليد، عن مُحمَّد بن مَسَرَّة التُّستَرِيُّ، قال: قال عُمَر بن الخطَّاب: فذَكَر مثل حديث أبي هُريرَة.
وإسناده ضعيفٌ ومُنقطِعٌ.
وأخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا في "ذمِّ الدُّنيا"(131)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب" (10536) قال: حدَّثَنا الهَيثَمُ بنُ خالدٍ البَصرِيُّ، ثنا الهيثمُ بنُ جميلٍ، نا مُحمَّدُ بنُ مُسلِمٍ، عن إبراهيم بن مَيسَرَة، عن طاوُوسٍ، قال: قال رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم:
…
فذَكَرَ مثل حديث عبد اللّه بن عَمْرٍو، دُون آخرِه.
قال البَيهَقِيُّ: "مُرسَلٌ".
• قلتُ: ومحُمَّد بن مُسلِمٍ هو الطَّائِفِيُّ، يتكَلَّمُون فيه.
وهذا الوجهُ هو أقوى الوُجُوه كُلِّها.
واللهُ أعلَمُ.
351 -
سُئلتُ عن حديث: "لا تَنتَهِي البُعُوثُ عن غَزوِ بيت اللّه تعالى، حتَّى يُخسَفَ بجيشٍ مِنهُم".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ (5/ 206 - 207)، ومِن طريقه تمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(1725) ..
والفَاكِهِيُّ في "أخبار مَكَّة"(753) ..
والحاكمُ (4/ 430) قال: حدَّثَني عبدُ الرَّحمن بنُ الجَلَّاب، قال ثلاثَتُهم: ثنا أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، ثنا عُمَرُ بنُ حفص بن غِيَاثٍ، ثنا أبي، عن مِسعَرٍ، عن طلحة بن مُصَرِّفٍ، عن أبي مُسلِمٍ الأغرِّ، عن أبي هُريرَة مرفوعًا فذَكَرَه.
قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ غريبٌ صحيحٌ، ولم يُخَرِّجاه. لا أعلم يحدِّث به غيرَ عُمَرَ بن حفص بن غِيَاثٍ، يرويه عنه الإمامُ أبو حاتمٍ".
• قلتُ: وقولُ الحاكم معناه أن أبا حاتمٍ الرَّازِيَّ تفرَّد به عن عُمَر بن حفصٍ، وليس كذلك ..
بل تابعه عُبيدُ بنُ غنَّام بن حفص بن غِيَاثٍ، قال: وجدتُ في كتاب عمِّي عُمَر بن حفصٍ، ثنا أبي بسَنَدِه سواء.
أخرَجَهُ أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(7/ 244).
وقال: "تفرَّد به حفصٌ، عن مِسعَرٍ. وسَنَدُه صحيحٌ".
352 -
سألني سائلٌ، فقال: قد أُشكل عليَّ حديثٌ في الرُّقية من احتباس البَوْل: هل الاختلافُ الواقعُ فيه يضرُّه من جِهة صِحَّته أم لا؟
• قلتُ: هذا الحديثُ لا يَثبُتُ.
فهذا الحديثُ أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(1038)، والحاكمُ (4/ 218 - 219) عن سعيد بن الحَكَم بن أبي مريم ..
وأبو داوُد (3892)، ومن طريقه اللَّالَكَائِيُّ في "شرح الاعتقاد"(648)، وابنُ حِبَّان في "المجروحين"(1/ 308)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(3/ 1054) عن مُحمَّد بن الحَسَن بن قتيبة، قالا: ثنا يزيدُ بنُ خالد بن مَوْهَب ..
والحاكمُ (1/ 343 - 344) عن يحيى بن بُكير ..
وابنُ عَدِيٍّ (3/ 1054) عن خالد بن قاسمٍ ..
والطَّبَرانِيُّ في "الأوسط"(8636) عن عبد الله بن صالح، قالوا: ثنا اللَّيثُ بنُ سعدٍ، قال: حدَّثَني زِيَادَةُ بنُ مُحَمَّدٍ الأنصاريُّ، عن مُحمَّد بن كعبٍ القُرَظِيِّ، عن فَضَالةَ بن عُبيدٍ، عن أبي الدَّرداء، أنَّه أتاه رجلٌ فذَكَر له أنَّه احتبَسَ بَوْلُه، فأصابته حصاةُ البَوْل، فعلَّمَهُ رُقيةً سَمِعَها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ربَّنا الله الذي في السَّماء، تَقَدَّس اسمُك، أَمرُك في السَّماء والأرض، كما رحمتُك في السَّماء، فاجعل رحمتَك في الأرض، واغفر لنا
حَوْبَنَا وخطايانا، أنت ربُّ الطيِّبين، فأَنزِل شفاءً مِن شفائِك، ورحمةً من رحمتك على هذا الوَجَعِ فيبرأُ"، وأَمَرَه أن يرقيه بها، فرقاه فبرِئ.
وقال الطَّبَرانيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن أبي الدَّرداء إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به اللَّيثُ بنُ سعدٍ".
فقد رواه عن اللَّيث بن سعدٍ جماعةٌ، منهم: يزيدُ بنُ خالدٍ، ويحيى بن بُكيرٍ، وعبدُ اللّه بنُ صالحٍ، وخالدُ بنُ قاسمٍ.
وخالفهم ابنُ وهبٍ، فرواه عن اللَّيث بن سعدٍ، وابنِ لِهيعَة، كِلَيهِما عن زيادة بن مُحَمَّدٍ، عن مُحمَّد بن كعبٍ القُرَظِيِّ، عن أبي الدَّرداء فذَكَرَه.
فسَقَطَ ذِكرُ: "فَضَالة بن عُبيدٍ".
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(1037) قال: أخبَرَنَا يُونُسُ بن عبد الأعلى ..
وابنُ عَدِيٍّ (3/ 1054) عن أحمد بن عَمْرٍو، وأحمد بن سعيدٍ، قالوا: ثنا ابنُ وهب بهذا.
وأبهم النَّسَائِيُّ ذِكرَ ابن لهيعة، كعادته في ترك تسميتِه لضَعفِهِ الشَّديد عِندَه.
وصحَّح الحاكمُ إسنادَهُ! وليس كما قال؛ فقد صرَّح أنَّ زِيادَةَ بنَ مُحمَّدٍ قليلُ الحديث، ومع قِلَّة حديثِه، فقد طَعَن العُلماءُ عليه.
قال البُخاريُّ: "مُنكَرُ الحديث".
وقال ابنُ حِبَّان: "مُنكَرُ الحديث جدًّا، يَروِي المناكيرَ عن المشاهير، فاستحقَ التَّركَ".
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "لا أَعرِف له إلَّا مقدارَ حديثين أو ثلاثة، ومقدارُ مَا لَهُ لا يُتابَع عليه".
والرَّجل إذا كان قليلَ الحديث، ومع ذلك لا يُتابَعُ على رواياته فهو مَتروكٌ، وبهذا حَكَم البُخاريُّ وغيرُهُ.
وله إسنادٌ آخرُ.
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ في "اليوم واللَّيلة"(1035) قال: أخبَرَنا عبدُ الحميد بنُ مُحَمَّدٍ، قال: ثنا مخَلدٌ، قال: حدَّثَنا سُفيانُ، عن منصورٍ، عن طَلْقٍ، عن أبيه، أنَّه كان به الأسرُ فانطلق إلى المدينة والشَّام يَطلُب من يُدَاوِيه، فلقي رجلًا، فقال: ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ، سَمِعتهنَّ من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ربَّنا اللّهَ الذي في السَّماء، تقدَّس اسمُك، أَمَرُك في السَّماء والأرض. كما رحمتُك في السَّماء، اجعل رحمتَك في الأرض. اغفر لنا حَوْبَنَا وخطايانا. أنت ربُّ الطَّيِّبِين، أَنزِل رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرأ".
والأَسْرُ، هو احتباس البَوْل.
ووالد طَلْق بن حبيبٍ لا صُحبة له.
وقد رواه شعبةُ بنُ الحَجَّاج، قال: أخبَرَني يُونُسُ بن خبَّابٍ، قال: سمعتُ طلقَ بنَ حبيبِ، عن رَجُلٍ من أهل الشَّام، عن أبيه، أن رجُلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان به الأسرُ
…
الحديث.
أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ أيضًا (1036).
وصحَّح الحافظُ في "الإصابة"(1/ 310) هذه الرواية، وَوَهَاؤُها
ظاهرٌ؛ فيُونُس بنُ خبَّابٍ، فيه مقالٌ مشهور. وفي الإسناد مجهُولَان.
وليس المقصُودُ من تصحيح الحافظ لهذا الوجه أنَّه صحيحٌ، فإنَّ ضعف السَّنَد أو وهاءَه، لا يَخفَى على صِغار الطَّلَبة، فضلًا عن الحافظ وهو العَلَمُ المُفرَدُ، وإنَّما معناه أنَّه أولى بالتَّصويب من الوجه الآخر، لا أنَّه صحيحٌ، وهذه جادَّةٌ مطروقةٌ عند عُلماء الحديث، فيَذكُرُون حديثًا ما وقع فيه اختلافٌ، وكلُّ أسانيدِه لا تَثبُت، فيقولون عن وجهٍ منها:"هذا أصحُّ شيءٍ"، ويَعنُون أقلَّه ضعفًا، فهو بالنِّسبة لما هو أضعفُ منه يُعدُّ صحيحًا، لا أنه صحيحٌ في نفسه، كما تقول أنت إذا مدحت رجُلًا:"أعورُ بين عِميانَ"، فلا شكَّ أن الأعورَ أصحُّ من الأعمى، وإن كان الأعورُ مَعِيبًا بذلك في نَفسِه إذا قيس بالصَّحيح.
وبالجُملة فلا يَثبُت هذا الحديث.
واللهُ أعلَمُ.
353 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ الغَيرَى لا تُبصِرُ أسفلَ الوادي مِن أعلاه".
• قلتُ: هذا حديثٌ مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ أبو يَعلَى في "المُسنَد"(4670)، قال: حدَّثَنا الحَسَنُ بنُ عُمَر بن شقيقِ بن أسماءَ الجَرمِيُّ البَصرِيُّ، حدَّثَنا سَلَمَةُ بنُ الفَضل، عن مُحمَّد بن إِسحاق، عن يَحيَى بن عبَّاد بن عَبد الله بن الزُّبير، عن أبيه، عن عائشةَ، أنَّها قالت: كان مَتَاعي فيه خِفٌّ، وكان على جَمَلٍ ناجٍ، وكان مَتَاعُ صَفِيَّةَ فيه ثِقَلٌ، وكان على جَمَلٍ ثقالٍ بطيءٍ يتبطَّأُ بالرَّكب، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:"حَوِّلُوا متاع عائشة على جَمَلِ صَفِيَّة، وحَوِّلُوا متاع صَفِيَّة على جَمَلِ عائشة، حتَّى يمضيَ الرَّكبُ"، - قالت عائشةُ: - فلَّما رأيتُ ذلك قُلتُ: "يَالَعِبَادِ اللّه! غَلَبَتنَا هذه اليَهُودِيَّةُ على رسولِ الله! "، - قالت: - فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا أُمَّ عبد اللّه! إنَّ متاعَكِ كان فيه خِفٌّ، وكان متاعُ صَفِيَّة فيه ثقلٌ، فأبطأَ بالرَّكب، فحَوَّلنَا متاعَهَا على بعيرِك، وحَوَّلْنَا متاعكِ على بعيرها"، - قالت: - فقلتُ: "أَلستَ تَزعُم أنَّك رسول اللّه؟! "، - قالت: - فتبسَّم، وقال:"أَوَفِى شكٍّ أنتِ، يا أُمَّ عبد اللّه؟! " - قالت: - قُلتُ: أَلستَ تَزعُم أنَّك رسول الله؟! أَفَهَلَّا عَدَلتَ؟! "، وسمِعَني أبو بكرٍ، وكان فيه غَربٌ - أي: حِدَّةٌ -، فأقبل عليَّ، فلَطَم وَجهِي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مَهلًا يا أبا بكرٍ! "، فقال:
"يا رسُولَ اللّه! أَمَا سَمِعتَ ما قالت؟! "، فقال رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الغَيرى
…
" الحديث.
وأخرَجَهُ أبو الشَّيخ الأَصبَهَانِيُّ في "الأمثال"(56) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ مُحمَّد بن الحارث، حدَّثَنا حَسَنُ بنُ عُمَر بن شَقِيقٍ بهذا الإسناد بطُولِه.
وهذا سَنَدٌ ضعيفٌ، وسَلَمةُ بنُ الفَضْل ضعَّفه النَّسَائِيُّ وغيرُه، وقال البُخَارِيُّ:"في حديثه بعضُ المناكير"، ومشَّاه غيرُهم.
وابنُ إسحاق مُدَلِّسٌ، وقد عنعنه.
وفى المَتنِ نَكَارَةٌ ظاهرةٌ، مِن جهة قول عائشة:"أَلستَ تَزعُم أنَّك رسُول اللّه؟! ".
والحديثُ ضَعَّفه البُوصِيرِيُّ.
أمَّا الحافظ ابنُ حَجَرٍ، فقال في "الفتح" (9/ 325):"إسنادُهُ لا بأس به"، وقد عرَّفناك ما فيه من البأْس!
354 - سُئلتُ: هل وَرَد في الأخبار الصَّحيحة أن ذِئبًا تكلَّم؟
• قلتُ: قد صحَّ في ذلك أحاديثُ.
منها ما: أخرَجَهُ البُخَارِيُّ في غيرِ ما موضعٍ من "صحيحه"، مِنها ما في "كتاب الأنبياء"(6/ 512)، ومُسلِمٌ في "كتاب فضائل الصَّحابة"(2388/ 13) مِن حديث أبي هُريرة رضي الله عنه، قال: صلَّى رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصُّبح، ثُمَّ أَقبَل على النَّاس فقال:"بينَا رَجَلٌ يسوقُ بقرةً، إذ رَكبَها، فضَرَبَها، فقالت: إنَّا لم نُخلَق لهذا، إنَّما خُلِقنَا للحَرثِ"، فقال النَّاس:"سبحان الله! بَقَرَةٌ تتكلَّمُ؟! "، قال:"فإنِّي أُومِنُ بهذا، أنا، وأبو بكرٍ، وعُمَرُ - وما هما ثَمَّ -. وبَينَما رَجُلٌ في غَنَمِه، إذ عدا الذِّئبُ، فذَهَب منها بشاةٍ، فطلِبَ، حتَّى كأنَّه استَنقَذَها منه، فقال له الذِّئبُ: هذا استنقَذَهَا مِنِّي، فمَن لها يوم السَّبُع، يوم لا راعي لها غَيرِي؟ "، فقال النَّاسُ:"سُبحان الله! ذئبٌ يتكلَّم؟! "، قال "فإني أُومِنُ بهذا، أنا، وأبو بكرٍ، وعُمَرُ - وما هما ثَمَّ - ".
355 -
سُئلتُ عن حديث: "اتَّخِذُوا تَقوَى اللّه تِجارةً، يأتِكُم الرِّبحُ بلا بِضاعةٍ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 20/ رقم 195)، وأبو الشَّيخ في "الأمثال"(55)، وعنه أبو نُعيمٍ في "الحِلية"(6/ 96) من طريق إسماعيل بن عَمْرٍو، ثنا سلَّام الطَّويلُ، عن ثَوْر بن يزيدَ، عن خالد بن مَعدان، عن مُعاذ بن جَبَلٍ، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"يا أيُّها النَّاسُ! اتَّخِذُوا تقوى اللّه تجارةً، يأتِكُم الرِّبحُ بلا بِضاعةٍ، ولا تِجارَةٍ، - ثُمَّ قرأ: - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ".
وسَنَدُهُ ضعيفٌ جدًّا؛ وسلَّامٌ الطَّويلُ تَرَكَه النَّسَائِيُّ وغيرُه، وقال ابنُ مَعِينٍ، وأبو زُرعةَ:"ضعيفٌ"، زاد ابنُ مَعِينٍ:"لا يُكتَب حديثُه"، وقال أحمد:"مُنكَرُ الحديث"، والكلامُ فيه طويل.
وخالد بن مَعدَان وإن كان ثقةً، لكن قيل إنَّه لم يَسمَع من مُعاذٍ.
والحديثُ ضعَّفَه الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(7/ 125).
356 -
سُئلتُ عن حديث: "أَبغِنِي حَبيبًا هو أحبُّ إليَّ مِن نَفسِي".
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
وهو جُزءٌ من حديثٍ طويلٍ رائعٍ، أخرَجَهُ مُسلِم في "كتاب الجهاد"(1807/ 132) من طريق إياس بن سَلَمَة بن الأَكْوَعِ، عن أبيه، قال: قَدِمْنا الحُدَيبِيَةَ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونَحنُ أربعَ عشرةَ مِئةً،
…
- وفى الحديث، قال سَلَمَةُ: - ثُمَّ إنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشَّجَرة، - قال: - فبايَعتُهُ أوَّلَ النَّاس، ثُمَّ بَايَع وبَايَع، حتَّى إذا كان في وَسَطٍ من النَّاس، قال:"بَايع يا سَلَمةُ! "، - قال: - قُلتُ: "قد بَايَعتُك يا رسول الله في أوَّل النَّاس! "، قال:"وأيضًا"، - قال: - ورآني رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَزِلًا - يعني: ليس معه سِلاحٌ، قال: - فأعطاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً أو دَرَقَةً. ثُمَّ بَايَع، حتَّى إذا كان في آخر النَّاس، قال:"ألا تُبَايِعُني يا سَلَمةُ؟ "، - قال: - قُلتُ: "قد بَايَعتُك يا رسول الله في أوَّل النَّاس، وفى أوسط النَّاس! "، قال:"وأيضًا"، - قال: - فبَايَعتُه الثَّالثة، ثُمَّ قال لي:"يا سَلَمةُ! أين حَجَفَتُك أو دَرَقَتُك التي أعطيتُك؟ "، - قال: - قُلتُ: "يا رسول اللّه! لقِيتُ عَمِّي عامرًا عَزِلًا، فأعطيتُه إيَّاها"، فضَحِك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"إنَّك كالذي قال الأوَّلُ: اللَّهُمَّ! أَبغِنِي حبيبًا، هو أحبُّ إليَّ مِن نفسي". وساق الحديثَ.
وهو جديرٌ بالمُراجَعَة.
وأخرَجَهُ مُطَوَّلًا ومُختصَرًا أبو عَوَانة (4/ 127 - 129، 130)، والنَّسَائِيُّ في "السُّنَن الكُبرى"(8665)، وابنُ ماجَة (2846)، وأحمدُ (4/ 49، 54)، وابنُ حِبَّان (4860)، والحاكمُ (3/ 36)، والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(3/ 209، 260)، وفى "المُشكِل"(3916، 3917)، والطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(6237، 6238)، والبَيهَقِيُّ (9/ 129) مِن طُرُقٍ عن عِكرمة بن عَمَّارٍ، ثنا إياسُ بنُ سَلَمَة به.
357 -
سُئلتُ عن حديث: "إنَّ تَركَ الخطيئةِ أَهوَنُ مِن طَلَب التَّوْبة".
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ.
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ في "الأمثال"(189) قال: حدَّثَنا عبدُ الرَّحمن بنُ الحَسَن، ثنا عبدُ الرَّحيم بنُ سلَّامٍ الوَاسِطِيُّ، ثنا قرةُ بنُ عيسى، حدَّثَنا الرُّكَينُ بنُ عبد الله بن سعدٍ الدِّمَشقِيُّ، عن مكحُولٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ مرفُوعًا: "تَركُ الخطيئة
…
الحديث".
وسَنَدُهُ واهٍ جدًّا؛ ورُكَينُ - ويُقال: رُكْنُ - ابنُ عبد اللّه ترَكَه النَّسَائِيُّ، والدَّارَقُطنِيُّ وغيرُهُما، وقال أبو أحمد الحاكمُ:"يَروِي عن مكحُولٍ أحاديثَ موضُوعَةً"، وقال ابنُ مَعِينٍ:"ليس بشيءٍ".
والرَّاوِي عنه قُرَّةُ بنُ عيسى لم أَجِد له ترجمةً، إلَّا في "تاريخ واسطَ" (ص 172) قال:"قُرَّةُ بنُ عِيسَى بن إسماعيل العَبْديُّ"، ولم يَذكُر فيه جرحًا، ولا تعدِيلًا، وهو من شُيُوخ شُيوخ بحشلَ، صاحبِ "تاريخ واسطَ". ووجدته يَروِي عن: الأعمش، وأبي بكرٍ الهُذَلِيِّ، وسَلَمةَ بن نُبَيْطٍ، ويُوسُفَ بن إبراهيم، وأبي العلاء الخَفَّاف، والرَّبيع بن أبي صالحٍ. ورَوَى عنه من شُيُوخ بحشلَ: عليُّ بن مَطَرٍ، ومُحمَّدُ بنُ عبادة، ويحيى بنُ رُزَيق، وأحمدُ بنْ سهلٍ، وعُمَرُ بنُ سَلْمٍ.
وكذلك عبدُ الرَّحيم بن سلَّامٍ الواسطيُّ، تَرجَمَهُ بحشلُ في "تاريخ
واسطَ" (ص 231)، قال: "أبو عليٍّ عبدُ الرَّحيم بنُ سلَّام بن المُبارَك بن بَنَان، كان يُخَضِّبُ"، ولم يَزِد على ذلك، فكِلَاهُمَا مجهولٌ.
فإذا أضفتَ إلى ذلك أن مكحُولًا الشَّاميَّ لم يَسمَع من عليّ بن أبي طالبٍ، عَلِمتَ أن السَّنَد ظُلُمَاتٌ بعضُها فوق بعضٍ.
وقد أخرَجَهُ ابنُ المُبارَك في "كتاب الزُّهد"(850) قال: أخبَرَنا أبو جنابٍ الكَلبِيُّ، قال: قال حُذيفةُ بنُ اليمَان: "إنَّ الحقَّ ثقيلٌ، وهو مع ثِقَلِهِ مَرِيءٌ، وإنَّ الباطل خفيفٌ، وهو مع خِفَّتِهِ وَبيءٌ، وتَركُ الخَطِيئَةِ أَيسَرُ - أو قال: خيرٌ - مِن طَلَب التَّوبة، ورُبَّ شَهوَةِ ساعةٍ أَورَثَت حُزنًا طويلًا".
وسَنَدُه ضعيفٌ؛ وأبو جنابٍ الكَلبِيُّ اسمُه يحيى بنُ أبي حيَّةَ، مُتكلَّمٌ فيه، ثُمَّ هو لم يَسمَع مِن أحدٍ من الصَّحابة. واللهُ أعلَمُ.
ووجدتُهُ في "حِلية الأولياء"(5/ 167) لأبي نُعيمٍ الأصبَهَانيِّ، رواه مِن طريق ابن وهبٍ، قال: أخبَرَنِي إبرإهيمُ بنُ نُشَيطٍ، عن عمَّار بن سعدٍ، عن شُفَيِّ بن ماتعٍ الأصبَحِيِّ، قال:"تَركُ الخطِيئَةِ أيسَرُ من طَلَب التَّوبة".
وهذا إسنادٌ لا بأس به، وإبراهيمُ بنُ نُشَيطٍ ثِقَةٌ.
وعمَّار بن سعدٍ هو السَّلْهَمِيُّ المُرَادِيُّ المِصرِيُّ، ذَكَرَهُ ابنُ يُونُس في "تاريخ مِصر"، وقال:"كان فاضلًا" وذكره ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(7/ 284).
فالصَّوابُ أن هذا القولَ من كلام شُفَيِّ بن مَاتِعٍ. واللهُ أعلَمُ.
358 -
سُئلتُ عن حديث: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يَختَصِم النَّاسُ في رَبِّهم".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ الأصبَهَانِيُّ في "الطَّبَقات"(2/ 61) مُعلَّقًا، ووَصَله ابنُ عبد البَرِّ في "جامِع العِلْم"(2/ 935)، وأبو إسماعيل الهَرَوِيُّ في "ذمِّ الكلام"(ق 46/ 1) من طريق أبي قِلابةَ الرَّقَاشِيِّ، ثنا حُسينُ بن حَفصٍ، ثنا سُفيانُ الثَّورِيُّ، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُريرَة مرفُوعًا:"لا تَقُوم السَّاعةُ حتَّى تَكُون خُصُومَاتُهم في ربِّهم".
وهذا الحديثُ أخطأ فيه أبو قِلابة الرَّقَاشِيُّ، واسمُه عبدُ المَلِك بنُ مُحمَّد بن عبد الله بن مُحمَّد الرَّقَاشِيُّ، قال الدَّارَقُطنِيُّ:"لا يُحتَجُّ بما يَنفَرِد به"، ونَقَل عن أبي القاسم البَغَوِيِّ أنَّه قال:"كان يُحَدِّث مِن حِفظِه، فكَثُرت الأوهامُ فيه".
وقد صَرَّح أبو الشَّيخ في ترجمة: "حُسين بن حفصٍ" بِخَطَإِ أبي قِلابة، فقال:"كان الحُسينُ بنُ حَفصٍ صاحبَ كتابِ قليلٍ، يُخطِئُ عليه الغُرَباءُ، ومن ذلك حديثٌ رواه أبو قِلابة، في إسناده - ثُمَّ ذَكَر هذا الحديثَ - ".
وصَرَّح الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلل"(10/ 167) أن أبا قِلابة وَهِمَ فيه.
والصَّوَابَ أنَّه مِن قول مُحمَّد بن الحَنَفِيَّة.
وسَبَقَ الدَّارَقُطنِيَّ إلى ذلك عليُّ بن المَدِينِيِّ، كما نقله عنه أبو إسماعيل الهَرَوِيُّ في "ذمِّ الكَلَام".
واللهُ أعلمُ.
359 -
سألني سائلٌ يُدَرِّس الحديثَ، فقال: تباحثتُ مع بعض أساتذة الحديث من إخواننا في اختلافٍ على سُفيان الثَّوْرِيِّ، في حديث بُرَيدَة بن الحَصِيب رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأ يوم الفَتحِ، ومَسَحَ على خُفَّيه، وصلَّى الصَّلَواتِ بَوُضوءٍ واحدٍ، فقال له عُمَرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه:"يا رسُول اللّه! إنَّك فعلتَ شيئًا لم تَكُن تفعلُه؟ "، فقال:"إنِّي عَمدًا فَعَلتُه يَا عُمَرُ"، فقد اختَلَف الرُّواةُ على الثَّوْرِيِّ، كما فَهِمنَا مِن كلام التِّرمِذِيِّ، لكنَّنَا لم نَستِطع فَهْم الخِلاف على وجهه لقِلَّة المَرَاجِع، فنَرجُو تَبِيينَ هذا البَحثِ.
• قلتُ: هذا الحديثُ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مُسلِمٌ (277/ 86)، وأبو داوُد (172)، والنَّسَائِيُّ (133)، ومن طريقه الحَازِمِيُّ، في "الاعتبار"(171)، وأحمدُ (5/ 350)، وابنُ خُزَيمَة في "صحيحه"(رقم 12)، وابنُ الجارُود في "المُنتقَى"(1)، وابنُ جَريرٍ في "تفسيره"(6/ 72 - 73)، والبَيهَقِيُّ (1/ 271)، وابنُ عبد البَرِّ في "التمهيد"(18/ 239) مِن طريق يحيى بن سعيدٍ القَطَانِ ..
وأخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (61) وقال: حَسَنٌ صحيحٌ -، وأحمدُ (5/ 358)،
وأبو عُبيدٍ في "كتاب الطَّهُور"(ق 6/ 2)، وابنُ خُزيمة (12)، وابنُ الجارُود (1)، وابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ في "تفسيره"(6/ 72 - 73)، وابنُ عبد البَرِّ (18/ 240) من طريق عبد الرَّحمن بن مَهدِيٍّ، كلاهما عن سُفيان الثَّورِيِّ بسَنَدِه سواء.
وذكر ابنُ الجارُود بعد الحديث أن عبدَ الله بنَ هاشمٍ - وهو شيخُهُ في هذا الحديث - لم يَذكُر: "ومسَحَ على خُفَّيه". وهذا يعني أن شيخَهُ عبدَ الله بنَ هاشمٍ لم يذكُر المسحَ عن يحيَى القطَّانِ.
وقد وافَقَهُ على عدم ذِكر المَسح: عُبيدُ الله بنُ سعيدٍ، عند "النَّسائِيِّ". وأحمدُ في "المُسنَد".
ورواهُ مُحمَّدُ بنُ حاتِمٍ عند "مسلم"، ومُسَدَّد بن مُسَرهدٍ، عند "أبي داوُد"، كلاهما عن يحيى القَطَّان، فذَكَرَا:"ومَسَح على خُفَّيه".
فكأنَّ يحيى القَطَّان كان يَذكُرها مرَّةً، ويدَعُهَا أُخرى.
وأَخرَجَهُ مُسلِمٌ (277/ 86)، وأبو عَوَانَة (1/ 237)، والدَّارِمِيُّ (1/ 134)، وأحمدُ (5/ 351)، وعبدُ الرَّزَّاق (ج 1/ رقم 158)، وابنُ أبي شَيبة في "المُصنَّف"(1/ 177)، وابنُ حِبَّان (1706، 1808)، والسَّرَّاجُ في "مُسنَده"(ج 10/ ق 188/ 2)، وابنُ جريرٍ في "تفسيره"(6/ 73)، وأبو بَكرٍ القَطِيعِيُّ في "جُزء الألف دينارٍ"(226)، وابنُ المُنذِر في "الأوسط"(1/ 108 - 109)، والطَّحَاوِيُّ في "شرح المعاني"(1/ 41)، وأبو جعفرٍ النَّحَّاسُ في "النَّاسخ والمنسوخ"(422)، والبَيهَقِيُّ (1/ 118، 162، 271)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(1/ 448)
من طُرُقٍ عن سفيان الثَّوْرِيِّ، عن علقمة بن مَرثَدٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن أبيه فذَكَرَهُ، مُطَوَّلًا ومُختصَرًا.
ورواه عن الثَّوْرِيِّ هكذا جماعةٌ، مِنهُم:"عبدُ اللّه بن نُمَيرٍ، ووكيعٌ، ويحيى بنُ آدم، وقَبِيصَةُ بن عُقبة، ومُحمَّدُ بن يُوسُف الفِريَابِيُّ، وعبدُ الرَّازَّق، وعُبيدُ الله بن مُوسَى، ومُعاويةُ بنُ هشامٍ، وعبدُ الله بنُ الوليد العَدَنِيُّ، وأبو عامرٍ العَقَدِيُّ، وأبو عاصمٍ النَّبيلُ، والضَّحَّاكُ بن مَخلَدٍ، وأبو حُذَيفة النَّهْدِيُّ مُوسَى بنُ مَسعُودٍ، وابنُ وهبٍ، وابنُ المُبارَك، وإسحاقُ الأزرقُ، وأبو بَكرٍ الحَنَفِيُّ، والقاسمُ بن يزيدَ الجَرْمِيُّ، وأبو داوُد الطَّيَالِسِيُّ".
وتَابَعَهُم عليُّ بنُ قادمٍ، قال: ثنا سُفيانُ بسَنَدِه سواء نحوه، وزاد: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأ مرَّةً مرَّةً.
أخرَجَهُ الرُّوْيَانِيُّ في "مُسنَده"(ج / 16 ق 3/ 1)، وتمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(171، 172)، وابنُ المُقرِئ في "المُعجَم"(ج 2/ و 33/ 1)، وأبو الحَسَن النِّعَالِيُّ في "جزءٍ من حديثه"(ق 63/ 2)، والبَيهَقِيُّ (1/ 271) مِن طُرُقٍ عن عليّ بن قادمٍ.
وقد نبَّه التِّرمِذِيُّ على هذه الزِّيادة.
ولم يتفرَّد بها عليٌّ، بل تابعه الفِريَابيُّ، عن الثَّوْرِيِّ بهذه الزِّيادة.
أخرَجَهُ ابنُ عديٍّ في "الكامل"(6/ 2236).
وخالَفَهُم مُعاويةُ بنُ هشامٍ، فرواه عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن أبيه نحوه.
أخرجه ابنُ جريرٍ (6/ 73) قال: حدَّثَنا أبو كُريبٍ، ثنا أبو مُعاوِية بهذا.
ومُعاويةُ تَكَلَّم فيه ابنُ مَعِينٍ، وأحمدُ، وابنُ حِبَّان، وقال ابنُ عَديٍّ في "الكامل":"أَغرَبَ عن الثَّوْرِيِّ بأشياءَ، وأرجو أنَّه لا بأس به".
ولكنَّه لم يَتَفرَّد به ..
فتابعه مُعتَمِرُ بنُ سُليمان، فرواه عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارب بن دِثارٍ، عن ابن بُريدة، عن أبيه مُختصَرًا.
أخرَجَهُ ابنُ خُزَيمَة (13)، والبَزَّارُ (ج 3/ ق 138) قالا: حدَّثَنا عليُّ بن الحُسين الدَّرَاهِمِيُّ - زاد ابنُ خُزيمة: بخَبَرٍ غريبٍ غَريبٍ - ..
والرُّويانِيُّ في "مُسنَده"(68) قال: أخبَرَنا عَمْرُو بن عليٍّ، قالا: ثنا مُعتَمرُ بن سُليمان بهذا.
ولفظُ الرُّويانِيِّ: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتوضَّأُ عِند كُلِّ صلاةٍ، إلَّا أنَّه يوم الفتح شُغِل، فجَمَع بين الأُولَى والعصر بوُضُوءٍ واحدٍ".
وتابعه أيضًا وكيعُ بنُ الجرَّاح، فرواه عن الثَّوْرِيِّ، مثلَ رواية مُعتَمِرٍ.
أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (510).، وابنُ أبي شَيبة (1/ 29)، وابنُ خُزَيمَة (14)، وابنُ حِبَّان (1707)، وابنُ شاهِين في "النَّاسخ والمنسوخ"(88).
ورواه عن وكيعٍ هكذا: "ابنُ أبي شيبة، وعليُّ بن مُحَمَّدٍ الطُّنَافِسِيُّ، وأبو كُريبٍ مُحمَّدُ بن العلاء، ومُحمَّدُ بن إسماعيل بن سَمُرةَ الأحمَسِيُّ".
• قلتُ: فنَظَر أهلُ العِلم في هذا الاختلاف ..
فقال التِّرْمِذِيُّ: "وروى سُفيانُ الثَّوْرِيُّ هذا الحديثَ أيضًا، عن
مُحارِب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُريدة، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَتَوَضَّأُ لكُلِّ صلاةٍ. ورواه وكيع، عن سُفيانَ، عن مُحارِب، عن سُليمان بن بُريدَة، عن أبيه، -قال:- ورواه عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ وغَيرُهُ، عن سُفيان، عن مُحارب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُريدَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مُرسلًا، وهذا أصحُّ مِن حديث وكيعٍ" ا. هـ.
وقال ابنُ أبي حاتمٍ في "العِلل"(1/ 58 - 59/ 152): "سُئل أبو زُرعة عن حديثٍ رواه أبو نُعيمٍ، عن سُفيان، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُريدة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه صلَّى خمس صَلَوَاتٍ بوُضوءٍ واحدٍ. ورواه وكيعٌ، عن سُفيان، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن ابن بُريدَة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو زُرعَة: حديث أبي نعيمٍ أصحُّ" ا. هـ.
وقال ابنُ خُزَيمة: "لم يُسنِد هذا الخبرَ عن الثَّورِيِّ أحدٌ نَعلَمه، غيرُ المُعتَمِر، ووكيعٌ. ورواه أصحاب الثَّوْرِيِّ وغيرُهما، عن سُفيان، عن مُحارِبٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فإن كان المُعتَمِر، ووكيعٌ، مع جَلَالَتِهِمَا حَفِظا هذا الإسناد، واتِّصالَه، فهو خبرٌ غريبٌ غَريبٌ" ا. هـ.
وحاصلُ الكلام:
أن الثَّوْرِيَّ رَوَى هذا الحديثَ عن شيخين له، وهما عَلقَمَة بن مَرثَدٍ، ومُحارِبُ بن دِثارٍ.
فقد رواه عامَّةُ أصحاب سُفيانَ، وفيهم وكيعٌ عنه، عن عَلقَمَة بن مَرثَدٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن أبيه مرفُوعًا.
ورواه وكيعٌ مرَّةً أُخرى، ومُعتَمِرُ بنُ سُليمان، عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُريدة مثلَه.
ولا شكَّ أنَّ القاعدة العامَّة تَقضِي بترجيح رِواية الأكثرين، إلَّا إذا قامت قرينةٌ مع رِواية الأقلِّ، فنَسلُك سبيل الجَمع. وقد وَرَدت القرينةُ هنا، وهي أن وكيعًا رواه عن سُفيان على الوجهين معًا، ورواه عن وكيعٍ على الوجهين ثِقَاتُ أصحابِه وحُفَّاظُهم. ووكيعٌ كان من الأثبات في الثَّوْرِيِّ. ثُمَّ الثَّوْرِيُّ واسعُ الرِّواية، ولا مانع أن يَكُون الخَبَرُ الواحدُ عنده عن شيخين وأكثر. فإذا أَضَفتَ إلى ذلك أن مُعتَمِر بن سُليمان، وهو من الحُفَّاظ، وافق وكيعًا على جَعلِ شيخِ الثَّوريِّ مُحارِبَ بنَ دِثارٍ، عَلِمتَ أن هذا من اختلاف التَّنَوُّع، الذي يَزِيد الحديثَ قُوَّةً، وليس هو من اختلاف التَّضَادِّ بسبيل.
ولكن وقع في رواية الثَّوْرِيِّ عن مُحارِب بن دِثارٍ اختلافٌ، يَقدَحُ في كونها محفوظةً، كما رأيتَ في كلام الحُفَّاظ.
وبيانُ ذلك:
أنَّ وكيعًا، ومُعتَمِرَ بنَ سُليمان، ومُعاويةَ بنَ هشامٍ، رَوَوْا الحديثَ عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه مرفُوعًا.
وخالَفَهُم عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ، فرَوَاهُ عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِب بن دِثارٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا ..
أخرَجَهُ أبو عُبيدَ في "كتاب الطَّهُور"(ق 6/ 2 - 7/ 1) ..
وابنُ جَريرٍ (6/ 73) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، قالا: ثنا عبد الرَّحمن
ابن مَهدِيٍّ به.
وأخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(157) عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِبٍ، عن سليمان بن بُرَيدة، لكن زاد المُحَقِّقُ في الإسناد:"عن أبيه"، ووَضَع الزِّيادة بين مَعقُوفَتينِ، إشارةً منه إلى أن هذه الزِّيادة لم تَقع في "الأصل"، ولم يُحسِن بصنيعه هذا، والصَّواب أن رواية عبد الرَّزَّاق مُرسَلَةٌ، لا مَوصُولَةٌ.
ويُضافُ إليهما: أبُو نُعيمٍ الفضلُ بنُ دُكينٍ، فإنَّه رواه عن الثَّوْرِيِّ بسَنَدِه مُرسَلًا، كما وَقَع في "علل الحديث" لابن أبي حاتمٍ.
فرَجَّح التِّرْمِذِيُّ وأبو زُرعَة، وكأنَّ ابن خُزيمة يَمِيلُ إليه، أن الرِّواية المُرسَلةَ أقوى.
بينما اعتَرَض أبو الأشبال أحمدُ شاكر رحمه الله على هذا التَّرجِيح، فقال في "شرح التِّرْمِذِيِّ" (1/ 90) مُتَعَقِّبًا التِّرْمِذِيَّ:"وهذه الرِّوايةُ - يعني: رواية وكيعٍ - جَعَلَها التِّرْمِذِيُّ مرجُوحةً، ورأى أن رواية من رواه عن الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِبٍ، عن سليمان مُرسَلًا: أَصَحُّ. ولسنا نُوافِقُه على ذلك؛ لأنَّ الحديث معرُوفٌ عن سُليمان، عن أبيه. ووكيعٌ ثِقَةٌ حافظٌ، فالظَّاهر أن الثَّوْرِيَّ كان تارةً يروى الحديث عن مُحارِبٍ موصُولًا، كما رواه وكيعٌ عنه، وتارةً مُرسَلًا، كما رواه عنه غيرُه" ا. هـ.
والأشبهُ ما رجَّحه التِّرْمذِيُّ وأبو زُرعَة، لاتِّفاق ثلاثةٍ من الحُفَّاظ عليه، وليس ببعيدٍ ما ذَكَرَهُ الشَّيخُ أبو الأشبال. والله أعلم.
وهذا التَّرجيح في خُصوص رواية الثَّوْرِيِّ، عن مُحارِب بن دِثارٍ، وإلَّا
فرِواية الثَّوْرِيِّ، عن عَلقَمَة، سالمةٌ منه، لا سِيَّما وقد تُوبِع الثَّوْرِيُّ على هذا الوجه ..
تابَعَهُ قيسُ بنُ الرَّبيع، عن علقمة، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يوم فَتح مَكَّة خمسَ صَلَواتٍ، بوُضُوءٍ واحدٍ.
أخرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ (805)، وأبو القاسم البَغَوِيُّ في "الجعديَّات"(2172)، وعنه ابنُ شاهينَ في "النَّاسخ والمنسوخ" (89) قالا: حدَّثَنا يحيى بنُ عبد الحَمِيد الحِمَّانِيُّ، ثنا قيسٌ.
ويحيى وقيسٌ، ضعيفان. ويحيى أضعفُ الرَّجُلين.
وتابعه -أعني: الثَّوْرِيَّ- أيضًا: عَمْرُو بنُ قيسٍ، فرواه عن عَلقَمَة بن مَرثَدٍ، عن سُليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، أن رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم توضَّأ، ومَسَح على الخُفَّين، وصَلَّى الصَّلَوات بوُضُوءٍ واحدٍ، فقال له عُمَرُ:"لقد صنعتَ شيئًا لم تَكُن تصنَعُهُ؟ "، قال:"عمدًا صنعتُه في عُمَرُ".
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(4032) قال: حدَّثَنا عليُّ بن سعيدٍ، قال: نا إسماعيلُ بن بهرَامَ بالرَّيِّ، قال: وجدتُ في كتاب أبي: عن عَمْرَو بن قيسٍ.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ عن عَمْرٍو إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به إسماعيلُ بن بهرَامٍ".
• قلتُ: وإسماعيلُ صَدُوق، متماسكٌ. لكني لم أَعرِف أباه بَهرَامَ بنَ يَحيى. وبقيَّةُ رجال الإسناد مشاهيرُ. والله أعلم.
يبقى قولُ البُخَارِيِّ في "التَّاريخ الكبير"(2/ 2/ 4): "سُليمانُ بنُ
بُريدة لم يَذكُر سماعًا من أبيه".
فالجواب: أن البُخَارِيَّ رحمه الله إذا لم يَقِف على سَنَدٍ فيه سماعُ الرَّاوي مِن شيخه، فإنَّه يَحكُم بالانقطاع، أو يتوقَّف في الحُكم بالاتِّصال. ولكنَّ هناك صُوَرًا لا يَسَعُنا إلا قَبُولُهَا، وإن لم نَقِف في سَنَدٍ من الأسانيد على سماع الرَّاوي مِن شيخه؛ لوُجود القرينة القويَّة التي تدلُّ على السَّماع، مثل رواية أصحاب البَلَد الواحد عن بعضهم، مع الضَّبط والعدالة والبراءة من التَّدليس، ومثل رواية الوَلَد عن أبيه، إذا عاشَرَهُ طويلًا.
وقد احتجَّ البُخَارِيُّ في "صحيحه" برواية عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه، في مَوضِعين من "كتاب المَغازي" ..
الموضع الأوَّل: "باب بَعثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ، وخالدَ بنَ الوليد، إلى اليَمَن، قبل حَجَّة الوَدَاع"(8/ 65 - فتح).
الموضع الثَّاني: في آخر "كتاب المَغَازِي"(8/ 135): "بابُ كم غزا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ".
ومن المَعلُوم أن عبد الله بن بُريدَة وسُليمان، وُلِدَا في بطنٍ واحدٍ، لثلاث سِنِين خَلَونَ مِن خلافة عُمَرَ، وأَكثَرُ العُلماء على أن سُليمان أوثقُ مِن عبد اللّه، وأصحُّ حديثًا، وقد صاحَبَ سُليمانُ أباه أكثرَ مِن أربعين سنةً، فكيف يُقالُ: لم يَسمَع منه؟! وقد أكثَر مُسلِمٌ في "صحيحه" مِن التَّخريج لسُليمَان بن بُرَيدة، عن أبيه. والحمدُ لله.
فهذا ما بدَا لي من النَّظَر في هذا الاختلافِ، على وجه الاختصار، وإلَّا فالمقام يَحتَمِلُ البَسطَ، كما لا يَخفي. والعِلمُ عند الله تعالَى.
360 -
سُئلتُ عن حديث: "لَا يَخرُجُ الرَّجُلَانِ، كَاشِفَينِ عَن عَورَتَيهِمَا، يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ الله يَمقُتُ على ذَلِكَ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو داوُدَ (15)، والنَّسَائِيُّ في "الكُبرَى"(1/ 70)، وابنُ ماجَهْ (342)، وأحمدُ (3/ 36)، وابنُ خُزَيمَةَ (ج 1/ رقم 71)، وابُن حِبَّان (1422)، وابنُ المُنذِر في "الأوسط"(1/ 323، 340)، والدُّولَابِيُّ - كما في "بيان الوهم والإيهام"(5/ 259) -، والحاكمُ (1/ 157)، وأبو نُعَيمٍ في "الحِلية"(9/ 46)، والخطيبُ في "المُوضِح"(2/ 310)، والبَيهَقِيُّ (1/ 99 - 100)، والبَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة"(1/ 381) من طُرُقٍ عن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن هلال بن عيَاضٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا فذَكَرَهُ.
وفي لفظٍ: "نَهَى المُتغَوِّطَيْنِ أن يَتَحَدَّثَا؛ فإنَّ الله يمقُتُ ذلك".
ورواه عن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ هكذا: "سُفيانُ الثَّورِيُّ، وأبو حُذَيفَةَ، وعبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ، وعبدُ الله بنُ رَجاءٍ، وإسماعيلُ بنُ سِنان". وتَابَعَهُم عبدُ المَلِك بنُ الصَبَّاح، عن عِكرِمَةَ بسَنَدِه سواء، بلفظ: "إِذَا تَغَوَّطَ الرَّجُلان فليَتَوَارَ أحدُهُما عن صاحبه، ولا يَتَحَدَّثان عَلَى طَوْفِهِما
(1)
؛
(1)
"الطَّوف" معناه: الحَدَثُ من الطعام، والمقصود: الغائط.
فإن الله يَمقُتُ ذلكَ".
أخرَجَهُ الخطيبُ (12/ 122).
وخالَفَهُم في إسناده سَلْمُ
(1)
بنُ إبراهيمَ الوَرَّاقُ، قال: ثنا عِكرِمَةُ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عِياض بن هِلالٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ به.
فصارَ شيخُ يحيَى هو "عِياضُ بنُ هلالٍ"، وليس "هِلالَ بنَ عِياضٍ". أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (342/ 2)، وابن خُزَيمَةَ (1/ 39)، والحاكمُ (1/ 157 - 158)، والبَيهَقِيُّ (1/ 100)، والمِزِّيُّ في "التَّهذيب"(11/ 213) من طُرُقٍ عن سلْمٍ به.
ونقل ابنُ ماجَهْ، عن شيخِهِ مُحمَّد بن يحيى الذُّهليِّ، قال:"وهو الصَّوابُ"، يعني أن صوابَ الاسمِ: عِياضُ بنُ هلالٍ، وليس هلالَ بنَ عياضٍ.
وكذلك، رجَّحَهُ البُخارِيُّ، وابنُ خُزَيمَةَ، وقال الأخير:"وأَحسِبُ الوهمَ من عِكرِمة بن عمَّارٍ"!
كذا! وليس كما قال لما يأتي إن شاء الله.
وقال أبو داوُد: "هذا لم يُسنِدهُ إلَّا عكرمةُ بنُ عمَّارٍ".
وليس كما قال لما يأتي.
وقال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحٌ، مِن حديث يَحيَى بن أبي كثيرٍ، عن عِياض بن هِلالٍ الأَنصَارِيِّ. وإنَّما أَهمَلَاه؛ لخلافٍ بَينَ أصحاب
(1)
وقع في "البيهقي": مسلم، وهو تصحيف.
يَحيَى بن أبي كَثيرٍ فيه، فقال بعضُهُم:"هلالُ بنُ عياضٍ". وقد حَكَم أبو عبد اللّه مُحمَّدُ بنُ إسماعيل في "التَّاريخ" أنَّه عِياضُ بن هِلالٍ الأَنصَارِيُّ. سَمِعَ أبا سعيدٍ. سَمِعَ منه يحيى بنُ أبي كثيرٍ. قاله: هِشامٌ، ومَعْمَرٌ، وعليُّ بنُ المُبارَكِ، وحَربُ بنُ شَدَّادٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ. وسمعتُ عليَّ بنَ حَمْشَاذٍ، يقولُ: سَمِعتُ موسى بنَ هارُونَ، يقولُ:"رواه الأَوزَاعِيُّ مَرَّتَين، فقال مرَّةً: عن يَحيَى، عن هِلالِ بن عِياضٍ".
وقد حَدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ الصَّبَّاح، ثنا الوليدُ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ، عن رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا. وقد كان عبدُ الرَّحمن بن مَهْدِيٍّ يُحدِّثُ به، عن عِياضِ بن هلالٍ، ثُمَّ شكَّ فيه، فقال:"أو هِلالِ بن عِياضٍ". رواه عن عبد الرَّحمن بن مَهدِيٍّ: عليُّ بنُ المَدِينِيِّ، وعُبيدُ الله بنُ عُمَر القَوَارِيرِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ المُثَنَّى. فاتَّفَقُوا على عِياضِ بن هلالٍ، وهو الصَّوَاب.
- قال الحاكمُ: - وقد حَكَمَ به إمامان مِن أَئِمَّتِنا، مثلُ البُخارِيِّ، ومُوسَى بن هارُونَ، بِالصِّحَّةِ؛ لقول مَن أقام هذا الإسنادَ: عن عِياضِ بن هلالٍ الأَنصارِيِّ. وذَكَرَ البُخارِيُّ فيه شَوَاهِدَ، فصَحَّ به الحديثُ. وقد خرَّج مُسلِمٌ مَعنَى هذا الحديثِ، عن أبي كُرَيبٍ، وأبي بكرٍ بن أبي شَيبَةَ، عن زَيدِ بن الحُبَابِ، عن الضَّحَّاك بن عُثمانَ، عن زَيد بن أَسلَمَ، عن عبدِ الرَّحمن بن أبي سَعِيدٍ، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يَنظُرُ الرَّجُلُ إلى عَورَةِ الرَّجُلِ، ولا تَنظُر المرأةُ إلى عَورَةِ المرأة
…
الحديث" انتهَى.
هكذا قال الحاكمُ: إِنَّهُ صحيحٌ.
والحديثُ ضعيفٌ لِأُمُورٍ، منها:
* الأوَّلُ: أن في رواية عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، خَلَلًا واضطِرَابًا كثيرًا، كما نَصَّ على ذلك أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ، وابنُ المَدِينِيِّ، والبُخارِيُّ، وأبو داوُد، وأبو حاتِمٍ، والنَّسَائِيُّ، وغيرُهُم.
وذَكَرَ ابنُ القَطَّانِ الفَاسِيُّ في "بيان الوهم والإيهام"(3/ 143 - 144) كلامَ عبدِ الحَقِّ الإِشبِيليِّ في "الأحكام": "لم يُسنِدهُ غيرُ عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، وقد اضطُرِبَ فِيهِ"، فرَدَّ عليه ابنُ القَطَّان، قائلًا:"لم يَزِد عَلَى هذا! وبَقِي عليه أَن يَذكُر عِلَّتَه العُظمَى، وهي مَن رَوَاهُ عَنه يَحيَى بنُ أبي كَثيرٍ، وهو مَحَلُّ الاضطراب الذي أشار إليه. وذَلِكَ أنَّهُ حديثٌ يرويه عِكرِمَةُ بن عمَّارٍ، عن يحيَى بن أبي كَثِيرٍ، في روايةٍ عنه: عن عِياضِ بن هلالٍ، وفي رِوايةٍ عنه: عن هِلالِ بن عِياضٍ، وفي روايةٍ عَنهُ: عن عِياضِ بن أبي زُهَيرٍ، وهو مع ذلك كُلِّه مَجهُولٌ، لا يُعرَف، ولا يُعرَف بغير هذا، فأمَّا لَو كَانَ هذا الرَّجُلُ معرُوفًا، ما كانَ عِكرِمَةُ بنُ عمَّارٍ له بِعِلَّةٍ؛ فإنَّهُ صَدُوقٌ حافظٌ، إلَّا أنَّهُ يَهِمُ كثيرًا في حديث يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ، فأمَّا عن غَيرِه فلا بأس به، وأَمرُهُ مبسوطٌ في كُتُب الرِّجال" انتهَى.
• قلتُ: وهذا الحديثُ رواه عِكرِمَةُ بنُ عمَّارٍ، عن يحيَى بن أبي كَثِيرٍ. فأيُّ معنًى لِقَولِهِ:"صدوقٌ حافظٌ، إلَّا أنَّهُ يَهِمُ كثيرًا فِي حديثِ يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ"؟
وزَعَمَ أبو مُحَمَّدٍ بنُ حَزمٍ أن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ كذَّاب!! فأَنكَرَهُ عليه ابنُ الصَّلَاح، وقال:"وهذا من جَسَارَته".
• قلتُ: إنَّمَا كَذَّبَهُ ابنُ حَزمٍ - ولم يُصِب - للحديث الذي رَوَاهُ مُسلِمٌ (2501/ 168)، وأبو الشَّيخ في "الأخلاق"(رقم 94) مِن طريق عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، حدَّثَنِي أبو زمَيْلٍ الحَنَفِيُّ، حدَّثَنِي ابنُ عبَّاسٍ، قال: كان المُسلِمُونَ لا يَنظُرُون إلى أبي سُفيانَ، ولا يُقَاعِدُونَهُ، فقال:"يا رسُولَ الله! ثلاثٌ أَعطِنِيهِنَّ"، قال:"نَعَم"، قال:"عِندِي أَحسَنُ العَرَبِ، وأجَمَلُه، أمُّ حَبِيبَةَ، أُزَوِّجُكَها"، قال:"نعم"
…
الحديث.
فأَنكَرَ ابنُ حَزمٍ هذا الحديثَ، وذلك لأنَّ أهلَ التَّارِيخِ أَجمَعُوا على أن أُمَّ حَبِيبَةَ كانت تحت عَبدِ اللّه بن جَحشٍ، وَوَلَدَت له، وهَاجَرَ بها، وهُمَا مُسلِمَان، إلى أَرضِ الحَبَشَةِ، ثُمَّ تَنَصَّرَ هناك، وبَقِيَت أُمُّ حَبِيبَةَ على دِينِها، فبَعَث رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى النَّجَاشِيِّ يَخطِبُهَا عليه، فزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وكان ذلك في سَنَةِ سَبعٍ من الهِجرَةِ. وجاء أبُو سُفيَانَ في زَمَن الهُدنَةِ، في صُلح الحُدَيبِيَةِ، فدَخَلَ على أُمِّ حَبِيبَةَ، فثَنَت البِساطَ حتَّى لا يَجلِسَ عليه. ولا خِلَافَ أن أبا سُفيانَ، ومُعَاوِيةَ أَسلَمَا في فَتحِ مَكَّةَ، سنةَ ثَمَانٍ. ولا يُعرَفُ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّرَ أَبَا سُفيانَ.
ولذلك، قال الذَّهَبِيُّ في "السِّيَر" (7/ 137):"مُنكَرٌ".
وقد أَجَابَ العُلماءُ بأجوِبَةٍ، ذَكَرتُها في تعليقي على "الدِّيبَاج على صَحِيح مُسلِمِ بن الحجَّاج" للسِّيُوطِيِّ، فانظُرهُ.
* الأَمرُ الثَّاني: أن هِلالَ بنَ عِياضٍ - أو عِياضَ بنَ هلالٍ - لا يُعرَفُ، كما قال الذَّهَبِيُّ.
وقال الحافظ في "التَّقرِيب": "مَجهُولٌ".
وقال ابن القَطَّان في "الوهم والإيهام"(3/ 144): "مجَهُولٌ، لا يُعرَفُ، ولا يُعرَفُ بغير هذا".
وقال المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(1/ 137): "وعِيَاضٌ هذا رَوَى له أصحابُ السُّنَن. ولا أَعرِفُه بِجَرحٍ، ولا عَدَالَةٍ؛ وهو في عِدادِ المجهولين".
وقد وَقَعَ في اسمه خِلافٌ. والرَّاجِحُ فيه: عِياضُ بنُ هلالٍ. نَصَّ على ذلك الذُّهْلِيُّ، والبُخَارِيُّ، وابنُ خُزَيمَةَ، وأبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، وابنُ حِبَّان، والخطيبُ في "المُوضِح"، وسَبَقَهُ إلى ذلك مُسلِمٌ في "الوُحدَانِ"، والدَّارَقُطنِيُّ أيضًا، والحَاكِمُ.
قال الحاكمُ: "وقد كان عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ يُحَدِّثُ به، عن عِياض بن هلالٍ، ثُمَّ شَكَّ فيه، فقال: "أو هلال بن عياضٍ". رواه عن عبد الرَّحمن بن مَهدِيٍّ: عليُّ بن المَدِينِيِّ، وعُبيد الله بن عُمَر القَوَارِيرِيُّ، ومُحمَّدُ بنُ المُثَنَّى. فاتَّفَقُوا على عياض بن هلالٍ، وهو الصَّوَابُ" ا. هـ.
وقال ابنُ خُزَيمَةَ: "أَحسِبُ الوهمَ مِن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ". ونَقَلَهُ عنه البَيهَقِيُّ في "السُّنَن".
وفي هذا القَولِ نَظَرٌ؛ فقد ذَكَرَ الخطيبُ في "المُوضِح"(2/ 310) أن أَبَانَ بنَ يَزِيدَ العَطَّارَ رواه عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، مثلَ رواية عِكرِمَةَ ..
وأخرَجَهُ الخطيبُ أيضًا في "تاريخِهِ"(12/ 122) من طريق الأَوزَاعِيِّ، عن يحيَى، مِثلَ رواية عِكرِمَةَ ..
كُلُّهم يقولُ: هلالُ بن عِياضٍ.
وخَالَفَهُم حربُ بنُ شَدَّادٍ، وعليُّ بنُ المُبارَك، وهِشامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ،
والثَّورِيُّ - على اختلافٍ فيه -، فَرَووهُ جميعًا عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن عِياضِ بن هلالٍ، عن أبي سعيدٍ مرفُوعًا.
فالأَشبَهُ أن يُقالَ إنَّ الوَهمَ مِن يحيى بن أبي كَثيرٍ.
ونصَّ على ذلك ابنُ القَطَّان، فقال في "الوهم والإيهام" (5/ 257 - 258):
"أن عبدَ الحَقِّ ذَكَرَ عِكرِمةَ على أنَّه عِلَّتَهُ، - قال: - وهو صَدُوقٌ، ليس به بأسٌ. قاله ابنُ مَعِينٍ. وقال البُخَارِيُّ: "لم يَكُن عندَهُ كتابٌ". ولم يَضُرَّهُ ذلك؛ فإنَّهُ كان يَحفَظُ، إلَّا أنَّهُ غَلَطَ فيما يَروِي عن يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ، وكان أيضًا مُدلِّسًا. وبالجُملَةِ، فلو لم يَكُن بالحديثِ إلَّا هذا لم يَكُن مَعلُولًا، وإنَّما عِلَّتُه الكُبرَى أَنَّ رَاوِيهِ عن أبي سعيدٍ لا يُعرَف مَن هُوَ، وذلك أنَّهُ يَروِيهِ عِكرِمَةُ بن عمَّارٍ، عن يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ، عن هلال بن عِياضٍ. وكذا رواه عن يَحيَى بن أبي كَثِيرٍ أبانُ بنُ يزيدٍ، قالا جميعًا: عَنهُ، عن هلال بن عِياضٍ. ورَواهُ جماعةٌ عن يحيَى بن أبي كَثِيرٍ، فقالوا: عِياض بن هلالٍ. كذا رواه عنهُ: هِشَامٌ الدَّستُوَائِيُّ، وعليُّ بنُ المُبارَك، وحَرْبُ بن شَدَّادٍ، كُلُّهم عَكسَ ما قال عِكرِمَةُ بن عمَّارٍ، وأبانُ بن يَزِيدَ، فقالُوا: عن عِياض بن هلالٍ. ورواه عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، فقال: حدَّثَنِي عياضُ بن أبي زُهيرٍ. وهذا كُلُّهُ اضطرابٌ، لكنَّهُ على يحيى بن أبي كَثِيرٍ، لا على عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ. فيُحتَمَلُ أن يَكُونَ ذلك مِن يحيى بن أبي كَثِيرٍ نَفسِه، ويُحتَمَلُ أن يَكُونَ مِن أصحَابِهِ المختَلِفين عليه. فقول أبي مُحَمَّدٍ: "لم يُسنِد هذا الحديثَ غيرُ عِكرِمَةَ بن
عمَّارٍ، وقد اضطرب فيه" يَنبَغِي أن يَكُون ضبطُه "اضطُرِبَ" مَبنِيًّا لما لم يُسَمَّ فَاعِلُه؛ فإنَّهُ إِن أَسَنَد الفِعلَ إلى عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ كان خطا. ويَحيَى بن أبي كَثِيرٍ أحد الأَئِمَّة، ولكنَّ هذا الرجلَ الذي أَخَذَ عنه هذا الحديثَ هو من لا يُعرَفُ، ولا يَحصُلُ مِن أمرِهِ شيءٌ. وهكذا هو عند مُصَنِّفِي الرُّواةِ، لم يَعرِفُوا منه بِزِيَادَةٍ على هذا" انتهى.
• قلتُ: وهو تحقيقٌ نَفِيسٌ، بعد أَن ذَكَرَ اضطرابَ رِواية عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، وأنَّ يَحيَى هذا كان مُدلِّسًا، قال:"لو لم يَكُن بالحديثِ إلَّا هذا لم يَكُن معلُولًا"، وهذا عجيبٌ؛ فالعِلَّتَان اللَّتان ذَكَرَهُمَا لا شكَّ أنهما يُسقِطان أيَّ خَبَرٍ. واللّه أعلم.
ومَالَ الحافظُ في "التَّهذيب" إلى ما قاله ابنُ القَطَّان، مِن أن هذا الاضطرابَ يُحتَمَلُ أن يَكُونَ من يحيى بن أبي كَثِيرٍ، فقال في "التَّهذيب":"وقَولُ ابن خُزَيمَةَ: أن الوهمَ فيه مِن عِكرِمَةَ فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ الأَوزَاعِيَّ سمَّاهُ أيضًا فِي رِوَايَتِهِ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ: عياضَ بنَ هلالٍ مرَّةً، وهِلالَ بنَ عِياضٍ مرَّةً. وكذا اختَلَفَ فيه بقِيَّةُ أصحاب يحيى بن أبي كَثِيرٍ، فقال حَربٌ وهِشامٌ وغيرُهُمَا: عِياضٌ، وقال ابنُ العَطَّار: هِلالٌ. فالظَّاهرُ أن الاضطرابَ فيه مِن يحيى بن أبي كَثِيرٍ" ا. هـ.
ورَجَّحَ ذلك أيضًا ابنُ التركُمَانِيِّ في "الجَوهَرِ النَّقِيِّ"(1/ 100).
ومِن أَوجُهِ الاضطِرَابِ فيه:
ما أخرَجَهُ الحاكمُ (1/ 158)، والبَيهَقِي (1/ 100) مِن طريق محُمَّد بن الصَّبَّاح، ثنا الوليدُ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن
رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا.
هَكَذَا رواه الوَلِيدُ بنُ مُسلِمٍ، عن الأَوزَاعِيِّ.
وخالَفَهُ مِسكِينُ بنُ بُكَيرٍ، فنَقَلَهُ إلى مُسنَدِ جابرٍ.
أخرَجَهُ ابنُ السَّكَنِ في "صحيحه" - كما في "بيان الوهم والإيهام"(5/ 260) - قال: "حدَّثَنا يحيى بنُ مُحمَّد بن صالحِدٍ، حدَّثَنا الحَسَنُ بن أحمدَ بن أبي شُعَيبٍ الحَرَّانِيُّ، حدَّثَنا مِسكِينُ بن بُكَيرٍ، عن الأَوزَاعِيِّ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن مُحمَّد بن عبد الرَّحمن، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا تغوَّط الرَّجُلَان فَليَتَوارَ كُلُّ واحدٍ مِنهُما عن صاحِبِه، ولا يَتَحَدَّثَان على طَوفِهِمَا؛ فإنَّ اللّهَ يَمقُتُ على ذلك".
- قال ابنُ السَّكَن: - رواه عِكرِمَةُ بنُ عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن هلال بن عِياضٍ، عن أبي سَعِيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَرجُو أن يَكُونَا صحيحين" انتهَى كلامُه.
وانفَصَلَ ابنُ القَطَّان على أن إِسنادَ هذا الحديثِ جَيِّدٌ، ورَدَّ على مَن يَتَوَهَّمُ أن ابنَ السَّكَن صَحَّحَ الإسنادين جَمِيعًا، فقال: "وليس فيه تَصحِيحُ حديث أبي سعيدٍ الذي فَرَغنَا مِن تَعلِيلِهِ، وإنَّمَا يَعنِي أن القَولَين عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ صَحِيحان، وصَدَق في ذلك؛ صَحَّ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ أنَّهُ قال: عن مُحمَّد بن عبد الرَّحمن، عن جابرٍ، أنَّهُ قال: عن عِياضٍ، أو هِلال بن عِياضٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ. ولا يُمكِن أن يُصَحِّحَ ابنُ السَّكَنِ حديثَ أبي سعيدٍ أصلًا، ولو فَعَلَ، كان ذلك خَطَأً من القَولِ، وإنَّما يَصِحُّ مِن حديث جابرٍ. ومُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن بن
ثَوبانَ ثِقَةٌ، وقد صَحَّ سماعُهُ من جابرٍ. وقد بَيَّنَّا ذلك فيما تَقَّدَمَ. ومسكِينُ بنُ بُكَيرٍ، أبو عبد الرَّحمن الحَذَّاءُ، لا بأس به. قاله ابنُ مَعِينٍ. وهذا اللَّفظُ هو مِنهُ مُؤنِسٌ، بيَّنَ ذلك بِنَفسِهِ، وأخبَرَ أنَّهُ إذ قال في رَجُلٍ: لا بأس به، فهُو عِندَهُ ثِقَةٌ. وكذا أيضًا قال فيه أبو حَاتِمٍ. والحَسَنُ بن أَحمَد بن أبي شُعيبٍ، أبو مُسلمٍ، صَدُوقٌ، لا بأسَ بِهِ. وسَائِرُ مَن في الإسناد لا يُسأَلُ عنه. وعن يحيى بن أبي كَثِيرٍ في هذا المعنى غيرُ هذا، ممَّا قد ذَكَرَهُ الدَّارَقُطنِيُّ عنه في "عِلَلِهِ"، إلَّا أنَّهُ لم يُوصِل به إليه الأسانيدَ. ولا حاجَة بنا أيضًا إلى شيءٍ منه، فلذلك لم نَعرِض له" انتهَى.
• قلتُ: كذا قال ابنُ القَطَّان. ومِسكِينُ بنُ بُكيرٍ لم يَنقُل فيه إلَّا قولَ ابن مَعِينٍ، وقد قال أحمدُ في روايةٍ:"لا بأس به، ولَكِن في حديثِهِ خَطَأٌ".
وقال الحاكمُ أبو أحمدَ: "كان كَثِيرَ الوَهَمِ وَالخَطإِ". وذَكَرَهُ العُقَيليُّ في "الضُّعَفاء". وقد وَثَّقَه آخَرُون.
ولكن في باب المُخالَفَةِ لا يُمكِنُ إغفالُ الجرحِ، حتَّى وَلَو كان مجُمَلًا.
إذا تَقَرَّر هذا، فالوليد بن مُسلِمٍ أَقوَى مِنهُ، وكان كَثِيرَ الرِّوايةِ عن الأَوزَاعِيِّ، وقد أَرسَلَ الحديثَ، وصَحَّحَ أبو حاتِمٍ المُرسَلَ، كما في "علل وَلَدِه"(88).
ورواه عبدُ المَلِك بنُ الصَّبَّاح، قال: ثنا الأَوزَاعِيُّ، عن يحيى، وعِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن هلال بن عِياضٍ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ مرفُوعًا:"إذا تَغَوَّطَ الرَّجُلان فليتَوَارَ أحدُهُمَا عن صاحِبِهِ، ولا يَتَحَدَّثَان على طَوفِهِمَا؛ فإنَّ الله يَمقُتُ عليه".
أخرَجَهُ الخَطِيبُ (12/ 122) مِن طريق أبي الحَسَنِ عليّ بن يحيى بن الخَلِيل بن زَكَرِيَّا، ثنا أبو العَبَّاس الفَضلُ بن مُوسى البَصرِيُّ، ثنا عبدُ المَلِكِ بن الصَّبَّاح بهذا الإسناد.
وعبدُ المَلِك بن الصَّبَّاح وثَّقَهُ أكثرُ العُلَماء.
والفَضلُ بنُ مُوسَى هو ابنُ عِيسَى بن سُفيَان، أبو العَبَّاس. ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(9/ 7)، والخطيبُ في "تاريخه"(12/ 366 - 367)، وقال:"مَا عَلِمتُ مِن حالِهِ إلَّا خَيرًا".
وأمَّا عليُّ بنُ يحيى بن الخليلِ فتَرجَمَهُ الخطيبُ في مَوضِعِ الحديثِ، ولم يَذكُر فيه جَرحًا ولا تَعدِيلًا.
• قلتُ: فقد رأيتَ أنَّهُ اختُلِف عَلَى الأَوزَاعِيِّ فِيهِ. ولا يَصِحُّ عنه إلَّا المُرسَلُ، كما قال أبو حاتِمٍ. فأنَّى لإِسنَادِهِ الجَودَةُ، كما قال ابنُ القَطَّان؟!
ووَجهٌ آخرُ من الاختلافِ.
فرَوَاهُ عليُّ بنُ أبي بَكرٍ، عن الثَّورِيِّ، عن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عِياض بن عبد اللّه، عن أبي سَعِيدٍ نحوَهُ.
فجَعَلَ شيخَ يحيى "عياضَ بنَ عبدِ اللّه"، بَدَلَ "عِياض بن هلالٍ".
أخرَجَهُ ابنُ ماجَهْ (3/ 342) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ حُمَيدٍ، ثنا عليُّ بن بَكرٍ.
وشيخُ ابن ماجَهْ واهٍ. وهذه الرِّوايَةُ وَهَمٌ.
وخالَفَ كُلَّ من تَقَدَّم: عُبيدُ بنُ عَقِيلٍ، قال: حَدَّثنا عِكرِمَةُ بن عَمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُرَيرَة مرفُوعًا: "لا يَخرُج
اثنان إلى الغَائِطِ، يجلسان، يتَحَدَّثَان، كاشفان عَورَتَهُما؛ فإنَّ اللّه عز وجل يَمقُت على ذلك".
أخرَجَهُ النَّسائِيُّ في "الكُبرَى"(1/ 70)، والطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"(ج 2/ رقم 1286) من طريق مُحمَّد بن عبد اللّه بن عُبَيد بن عَقِيلٍ المُقرِئِ، قال: حدَّثَنَا جَدِّي عُبَيدُ بن عَقِيلٍ بسَنَدِه سواء.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن عِكرِمَةَ، عن يحيى، عن أبي سَلَمة، عن أبي هُرَيرَة، إلَا عُبيدٌ".
قال المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(1/ 137): "إِسنادُهُ لَيِّنٌ".
وقال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(1/ 207): "رجالُهُ مُوَثَّقُونَ".
• قلتُ: ومُحمَّدُ بنُ عبد اللّه بن عُبَيدٍ وثَّقَهُ مَسلَمَةُ بنُ قاسمٍ. وقال النَّسَائيُّ: "لا بأس به".
وجَدُّهُ عُبيدُ بن عَقِيلٍ وثَّقَهُ ابنُ حِبَّان. وقال أبو حَاتِمٍ: "صَدُوقٌ".
وقال أبو داوُد: "لا بأس به".
ووَجهٌ آخرُ من الاختلاف.
أخرَجَهُ الدُّولَابِيُّ في "الكُنَى"(1/ 75 - 76/ 168) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بن هَانئٍ أبُو إِسحاقَ النَّيسَابُورِيُّ ببغدادَ، قال: ثنا مُحمَّدُ بن يزيدَ بن سِنانَ، قال: أنا يزيدُ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، قال: أخبَرَنِي خَلَّادٌ، أنَّهُ سَمِع أباه يقولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خَرَجَ أحدُكُم يتغَوَّطُ، أو يَبُولُ، فلا يَستَقبِل القِبلَة، ولا يَستَدبِرهَا، ولا يَستَقبِل الرِّيحَ، وليتَمَسَّح ثلاثَ مِرَارٍ، وإذا خَرَج الرَّجُلان جميعًا فليَتَفَرَّقا، ولا يَجلِس أحدُهُما
قريبًا مِن صَاحِبِه، ولا يتَحَدَّثان؛ فإنَّ اللّه يَمقُتُ على ذلك".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جِدًّا، ومُحمَّدُ بنُ يزيدَ واهٍ.
وشَيخُهُ يزيدُ أَظُنُّهُ أباه، فإن يَكُنهُ فهو ضعيفٌ. وهو خيرٌ مِن ابنِهِ.
ورواه أبانُ بنُ يزيدَ العَطَّارُ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عبدِ اللّه بن أبي قَتَادَةَ، عن أبيه.
ذَكَرَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلَل"(11/ 298).
فالصَّحِيحُ في هذَا: ما رواه الجَمَاعةُ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن عِياض بن هلالٍ، عن أبي سَعِيدٍ مرفُوعًا.
ورَجَّحَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "العِلَل"(11/ 298)، فقال:"وَأَشبَهُهَا بالصَّوَابِ حَدِيثُ عِياض بن هلالٍ، عن أبي سَعِيدٍ" انتهَى.
ثُمَّ بَعدَ كُلِّ ما تقدَّمَ، فيحيى بنُ أبي كَثيرٍ مُدَلِّسٌ، ولم أَرَهُ صَرَّح بالتَّحدِيثِ في شيءٍ مِن الطُّرُق التي وَقَفتُ عليها.
فالحديثُ إذن مُعَلٌّ بِعِدَّةِ عِلَلٍ:
الأُولَى: ضَعفُ رواية عِكرِمة بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ.
الثَّانية: جَهَالَةُ هلال بن عِياضٍ.
الثَّالثَةُ: اضطرابُ سَنَدِه.
الرَّابِعَةُ: تدليس يحيى بن أبي كَتِيرٍ.
والخَامِسَةُ: اضطرابُ مَتنِهِ.
قال ابن القَطَّان: "وللحديث مع ذلك عِلَّةٌ أُخرَى، وهي اضطرابُ مَتنِهِ. وبيانُ ذلك، هو أن ابنَ مَهدِيٍّ رواه، عن عِكرِمَةَ بن عمَّارٍ، فقال
في لفظِهِ: جَعلَ المَقتِ على التَّكَشُّفِ والتَّحَدُّثِ في حال قضاء الحَاجَةِ. - ثُمَّ ذَكَرَ الحديثَ مِن طَرِيقِ - أبي حُذَيفَةَ، ثنا عِكرِمَةُ بن عمَّارٍ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن هلال بن عِياضٍ، عن أبي سعيدٍ، قال:"نَهَى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَينِ أن يَقعُدَا جميعًا يتَبَرَّزَان، يَنظُر أحدُهُمَا إلى عَورَةِ صاحِبِهِ؛ فإنَّ اللّهَ تبارك وتعالى يَمقُت على هذا". - قال: - هذ رِوايَةُ أبي حُذَيفَةَ، عن عِكرِمَةَ، جَعَل التَّوَعُّدَ فيها على التَّكَشُّفِ والنَّظَر، ولم يَذكُر التَّحَدُّث. - ثُمَّ ذَكَر الحديث، عن الدُّولَابِيِّ، بإسنادِهِ إلَى - أبي سعيدٍ، قال:"نَهَى رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المُتَغَوِّطَينِ أن يَتحَدَّثا؛ إنَّ اللّهَ يَمقُتُ على ذلك". فالتَّوَعُّدُ في هذا الحديث على التَّحَدُّثِ فحسب. واضطرابُهُ دليلُ سُوءِ حال رَاوِيهِ، وقِلَّةِ تحصِيلِه، فكيفَ وهُو مَن لا يُعرَف؟! " انتَهَى.
فاستِدلَالُ الشَّوكَانِيِّ به في "السَّيل الجَرَّار"(1/ 68) على تَحرِيمِ التَّحَدُّثِ حالَ قضاء الحَاجَةِ فيه نَظَرٌ. وقد دَفَعَ التَّضعِيفَ بقولِهِ: "وكَون في إسناده هِلالُ بنُ عِياضٍ، أو عِياضُ بنُ هلالٍ - وقد ضَعَّفَهُ بعضُهُم - لا يَقدَحُ في الاستدلال بِهِ على التَّحرِيمِ؛ فإنَّهُ قد ذَكَرَهُ ابن حِبَّان في "الثِّقاتِ"". ا. هـ.
كذا قال! وَهُوَ دَفعٌ ضعيفٌ مُتَهَافِتٌ؛ وذِكرُ ابن حِبَّان لَهُ في "الثِّقَات" لا يُخرِجُهُ عن حدِّ الجَهَالة، كما ذَكَرَ الشَّوكَانِيُّ غيرَ مَرَّةٍ في مُصَنَّفَاتِه.
والحديثُ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ أيضًا في "المَجمُوعِ"(2/ 88)!
وما تَقَدَّمَ من التَّحقِيقِ يَرُدُّهُ.
واللّه أعلَمُ.
361 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا آمَنَ بِالقُرآنِ مَنِ استَحَلَّ مَحَارِمَهُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ".
أخرَجَهُ التِّرمذِيُّ (2918)، وابنُ أبي شَيبَةَ (10/ 537) مِن طريق وَكيعٍ، حدَّثَنَا أبو فَروَةَ يزيدُ بنُ سِنانَ، عن أبي المُبارَكِ، عن صُهيبٍ به.
قال التِّرمذِيُّ: "هذا حديثٌ ليس إسنادُهُ بِالقَوِيِّ. وقد خُولِف وكيعٌ في روايتِهِ".
ونَقَلَ المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(211) عن التِّرمذِيِّ قولَهُ: "هذا حديثٌ غريبٌ"، ولم يَذكُر:"وقد خُولِف."
…
• قلتُ: خَالفَهُ أبو خالدٍ الأَحَمرُ، فرواه عن يزيدَ بن سِنانَ، عن أبي المُبارَك، عن عطاءٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ فذَكَرَهُ.
فجَعَلَ شيخَ أبِي المُبارَك "عطاءً"، ونَقَلَهُ إلى مُسنَد أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيبَةَ (10/ 537)، وعبدُ بنُ حُمَيدٍ في "المُنتَخَب"(1003)، والقُضَاعِيُّ في "مُسنَد الشهاب"(777).
وخالَفَهُمَا مُحمَّدُ بنُ يزيدَ بن سِنانَ، قال: سَمِعتُ أبي، يقولُ: سَمِعتُ عطاءً، يقُولُ: سَمِعتُ مُجاهِدًا، يقولُ: سَمِعتُ سعيدَ بنَ المُسَيِّبَ، يقولُ: سَمعتُ صُهيبًا، يقولُ:
…
فذَكَرَهُ.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكَبير"(ج 8/ رقم 7295)، وفي "الأَوسَط"(ج 1/ ق 265/ 1)، وأبو الشَّيخ في "الطَّبَقَات"(4/ 302)، وابنُ عَدِيٍّ
في "الكامِل"(7/ 2724)، والخَطِيبُ في "التَّاريخ"(6/ 127)، وفي "التَّلخِيص"(357/ 1)، والقُضَاعِيُّ في "مُسنَد الشِّهاب"(775، 776، 778)، والرَّافِعِيُّ في "أخبار قَزوِينَ"(2/ 368)، والشَّجَرِيُّ في "الأَمَالِي"(1/ 114 - 115).
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لا يُروَى هذا الحديثُ إلَّا بهذا الإِسنَادِ. تَفَرَّدَ به مُحمَّدُ بنُ يزيدَ بن سِنانَ".
قال التِّرمِذِيُّ، بعد أن أَشارَ إلى هذه الرِّواية: "ولا يُتابَعُ مُحمَّدُ بنُ يزيدَ على روايته. وهو ضَعِيفٌ
…
- قال: - وقال مُحُمَّدٌ - يعني: البُخَارِيَّ -: أبو فَروَةَ يزيدُ بنُ سِنانَ الرُّهَاوِيُّ ليس بحديثِهِ بأسٌ، إلَّا روايةُ ابنِهِ مُحَمَّدٍ، عنه؛ فإنَّه يَروِي عنه مَناكِيرَ" ا. هـ.
وقال ابنُ عَدِيٍّ: "هذه الرِّوايةُ غيرُ محفُوظَةٍ".
ولكن له طريق آخرُ أَصلَحُ من هذا ..
فأخرَجَهُ الدُّولَابِيُّ في "الكُنَى"(2/ 69) من طريق النَّسَائِيِّ، قال: أخبَرَنِي أحمدُ بنُ سَعِيدٍ، قال: حدَّثَنَا صَدَقَةُ بنُ سابِقٍ، قال: حدَّثَنا مُفَضَّلٌ أبو عبد الرَّحمن، عن مُجاهِدٍ، عن سعيد بن المُسَيَّبِ، قال: سمعتُ صُهَيبًا
…
فذَكَرَ مرفُوعًا.
• قلتُ: وهذا سَنَدٌ رجالُهُ ثقاتٌ، غيرُ صدَقَةَ بن سابِقٍ الكُوفِيِّ، فتَرجَمَهُ البُخَارِيُّ (2/ 2/ 298)، وابنُ حاتِمٍ (2/ 1/ 434)، ولم يَذكُرَا فيه جُرحًا ولا تعدِيلًا. وذَكَرَ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 320).
أمَّا رواية أبي خالدٍ الأَحمرِ فغَيرُ محفُوظَةٍ أيضًا، كما قال ابنُ عَدِيٍّ.
ولعلَّ هذا الاضطرابَ مِن يَزيدَ بن سِنانَ، فقد ضَعَّفَهُ أحمدُ، وابنُ المَدِينِيِّ، وأبو داوُد، والدَّارَقُطنِيُّ. وقال ابنُ مَعِينٍ:"ليس حديثُهُ بشيءٍ". وقال أبو حاتِمٍ: "مَحِلُّهُ الصِّدقُ، وكان الغالبُ عليه الغَفلَةَ".
وأمَّا رِوايَةُ وكيعٍ فلا تَصِحُّ أيضًا؛ وأبو المُبارَك رجُلٌ مجهُولٌ، كما قال التِّرمِذِيُّ.
فلا يَصِحُّ هذا الحديثُ بوجهٍ من الوُجُوه.
واللهُ أَعلَمُ.
362 -
سُئلتُ عن حديث: "إِنَّ نَاسًا مِن أَهلِ الجَنَّةِ يَنطَلِقُونَ إِلَى أُنَاسٍ مِن أَهلِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: بِمَ دَخَلتُمُ النَّارَ؟ فَوَاللّه! مَا دَخَلنَا الجَنَّةَ إِلَّا بِمَا تَعَلَّمنَا مِنكُم! فَيَقُولُونَ: إِنَّا كنَّا نَقُولُ، وَلَا نَفعَلُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفُ جِدًّا.
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 405)، وفي "الأوسط"(ج 1/ ق 8/ 2)، والخطيبُ في "الاقتضاء"(73) من طريق زُهَير بن عبَّادٍ، ثنا أبو بكرٍ الدَّاهِرِيُّ عبدُ اللّه بنُ حَكِيمٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن الشَّعبِيِّ، عن الوليد بن عُقبَةَ فذَكَرَهُ.
قال الطَّبَرَانِيُّ: "لم يَروِ هذا الحديثَ عن إِسماعِيلَ، إلَّا أبو بكرٍ. تفرَّدَ به زُهيرٌ".
• قلتُ: أمَّا زُهيرُ بن عبَّادٍ فوَثَّقَهُ أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ - كما في "الجرح والتَّعديل"(1/ 2/ 591) لوَلَدِه عبدِ الرَّحمن -، وجهَّلَهُ الدَّارَقُطنِيُّ، ورَجَّح الذَّهَبِيُّ توثيقَهُ.
ولكن آفةُ هذا الإسناد أبو بكرٍ الدَّاهِرِيُّ، فإنَّهُ تالفٌ، وضعَّفَهُ الهَيثَمِيُّ جِدًّا، كما في "المَجمَع"(1/ 185، و 7/ 276).
والحديثُ ضعَّفَهُ السِّيُوطِيُّ - كما في "الدُّرِّ المنثُورِ"(1/ 65) -.
وله شاهدٌ مِن حديث جابرٍ مرفُوعًا: "اطَّلَعَ قومٌ من أهل الجَنَّة على قومٍ مِن أهل النَّارِ، فقالُوا: بم دخلتُم النَّارَ وإنَّما دَخَلْنَا الجَنَّة بتعلِيمِكُم؟! قالوا: إنَّما كُنَّا نأمُرُكم، ولا نَفعَلُ".
أخرَجَهُ الخطيبُ في "الاقتضاء"(72)، وأبو عليٍّ بنُ شاذَانَ - كما في "إتحاف السَّادة"(1/ 371) للزَّبِيدِيِّ -، ومن طريقه ابنُ عساكر في "المجلس الرَّابع عشر"(ق 3/ 2)، وابنُ النَّجَّار في "ذيل تاريخ بغدادَ" - كما في "الدُّرِّ المنثُور"(1/ 65) - من طريق أبي العَينَاءِ
(1)
، قال: ثنا أبو عاصمٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن أبي الزُّبَيرِ، عن جابرٍ.
قال أبو عليٍّ بنُ شَاذَانَ: "غريبٌ. تفرَّدَ به أبو العَينَاءِ، عن أبي عاصمٍ".
• قلتُ: وأبو العَينَاءِ هو مُحمَّدُ بنُ القاسم بن خَلَّادٍ. ضعَّفَهُ الدَّارَقُطنِيُّ.
وقد اعتَرَفَ أنَّهُ وَضَعَ حديثًا، هو والجاحِظُ.
فإذا تَفَرَّد مِثلُهُ بحديثٍ، عن مِثلِ أبي عاصمٍ النَّبِيلِ، دَلَّ يقينًا على أنَّهُ غيرُ محفُوظٍ.
وانظُر الحديثَ رقم (46).
(1)
وقع في "إتحاف السادة": أبي الضياء، وهو تصحيف.
363 -
سُئلتُ عن حديث: "مَا مِن عَبدٍ يَخطُبُ خُطبَةً إِلَّا اللّهُ عز وجل سَائِلُهُ عَنهَا".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أحمدُ في "الزُّهد"(323)، ومِن طريقِهِ البَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(1787) ..
وابنُ أبي الدُّنيا في "الصَّمت"(510 - بتحقيقي) قال: حدَّثَنِي هارُون بنُ عبد الله، قَالَا: ثنا سَيَّارٌ، قال: ثنا جَعفَر - هو ابن سُليمان -، عن مالكِ بن دينارٍ، عن الحَسَن البَصِريِّ، أنَّهُ قال: قال رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:
…
فذَكَرَهُ.
قال جَعفَرٌ: فكان مالكٌ إذا حدَّثَنِي بهذا بَكَى، ثُمَّ يقولُ:"أتَحسبُون أن عَينِي تَقَرُّ بكلامي عليكُم، وأنا أعلمُ أن الله سَائِلي عنه يوم القِيامة: ما أردتَ به؟ ".
زاد ابنُ أبي الدُّنيا: "أنتَ الشَّهِيدُ على قَلبِي! لو أَعلَمُ أنَّهُ أحبُّ إليك لم أَقرَأْ على اثنين أبَدًا".
وهذا إسنادٌ مُرسَلٌ؛ فإنَّ الحَسَنَ من التَّابِعين.
وذَكَرَهُ المُنذِرِيُّ في "التَّرغيب"(215)، وقال:"مُرسَلٌ. إسنادُهُ جَيِّدٌ"، يعني: إلى مَن أَرسَلَهُ.
364 -
سُئِلتُ عن حديث: "مَن جَمَع بَينَ صَلَاتَينِ مِن غَيرِ عُذرٍ فَقَد أَتَى بَابًا مِن أَبوَابِ الكَبائِرِ".
• قلتُ: هذا حديث مُنكَرٌ.
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (188) قال: حدَّثَنا أبو سَلَمَة يحيى بنُ خَلَفٍ البَصريُّ ..
وأبُو يَعلَى (2715) قال: حدَّثَنا عُبيدُ الله بنُ عُمرَ ..
والبزَّارُ (1356 - كشف) قالا: حدَّثَنا عمرُو بنُ عليٍّ ..
والبَيهَقِيُّ (3/ 169)، والدَّارَقُطنِيُّ (1/ 395) عن يعقوبَ بن إبراهيمَ ..
والحاكمُ (1/ 275) عن بَكرِ بن خَلَفٍ، وسُوَيدِ بن سعيدٍ ..
وابنُ أبي حاتِمٍ في "تفسيره" - كما في "ابن كَثيرٍ"(2/ 242 - طبع الشَّعب) -، والبَيهَقِيُّ (3/ 169)، والخطيبُ في "المُوضِح"(2/ 34) عن نُعَيم بن حمَّادٍ .. والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11540) عن عارمٍ أبي النُّعمان .. وابنُ حِبَّانَ في "المَجروحِينَ"(1/ 243) عن ابن أبي السَّرِيِّ، قالُوا: ثنا مُعتَمِرُ بن سُليمان، عن أبيه، عن حنش - هو: حُسَينُ بنُ قيسٍ الرَّحْبِيَّ -، عن عِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ مرفُوعًا فذَكَرَه.
وفي لفظٍ: "جَمعٌ بين صَلاتين
…
الخ".
ورواه عبدُ الحكِيم بنُ منصُورٍ، عن حُسَين بن قيسٍ بهذا الإسناد.
أخرَجَهُ ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضوعات"(2/ 101) مِن طريق ابن شاهين، قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بن عليِّ بن مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ، قال: حدَّثَنا عمَّارُ بن خالدٍ التَّمَّارُ، قال: حدَّثنا عبدُ الحكيمِ بنُ منصُورٍ بهذا.
زاد أبُو يَعلَى: "وَمَن كتَمَ الشَّهادَةَ اجتاح بها مالَ امرئٍ مُسلمٍ، أو سَفَكَ بها دَمَهُ، فقد أوجَبَ النَّار".
وهذه الزِّيادةُ عند الطَّبرانِيِّ في "الكبير"(ج 11/ رقم 11541).
وزاد البزَّارُ على هذا: "وَمَن شَرِبَ شَرابًا حتَّى يَذهَب عقلُهُ الذي رزقه اللهُ، فقد أتَى بابًا من أبواب الكبائر".
قال التِّرمذِيُّ: "وحَنَشٌ هذا هو أبو عليٍّ الرَّحْبِيُّ، وهو حُسَينُ بنُ قيسٍ، وهو ضعيفٌ عند أهل الحديث، ضعَّفَهُ أحمدُ وغيرُهُ. والعَمَلُ على هذا عند أهل العِلم، أنَّهُ لا يُجمَعُ بين الصَّلاتَين إلَّا في السَّفر أو بعَرفَةَ".
وقال الدَّارَقُطنِيُّ: "وحَنَشٌ هذا أبو عليٍّ الرَّحْبيُّ: متروكٌ".
وقال البزَّارُ: "لا نَعلَمُهُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الإسنادِ. وحنشٌ هو ابنُ قيسٍ الرَّحبيُّ. رَوَى عنه التَّيمِيُّ، وخالدُ بنُ عبد اللّه وغيرُهُما. وليس بالقَوِيِّ".
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ في "التَّمهيد"(5/ 77): "هذا حديثٌ، وإن كان فيه مَن لا يُحتَجُّ بمِثلِه من أجل حنشٍ هذا، فإنَّ معناه صحيحٌ من وُجوهٍ".
وقال البَيهَقِيُّ: "تفرَّد به حُسَينُ بنُ قيسٍ أبو عليٍّ الرَّحْبِيُّ، المعروفُ بـ "حَنَشٍ"، وهو ضعيفٌ عند أهل النَّقل، لا يُحتَجُّ بخَبَرِه".
وقال ابنُ الجوزِيِّ: "أمَّا حُسَينُ بنُ قَيسٍ فقد كذَّبَهُ أَحمَدُ بنُ حنبلٍ، وقال مرَّةً: متروكُ الحديث. وكذلك قال النَّسائِيُّ. وقال يحيى: ليس بشيءٍ. وقال العُقَيليُّ: وهذا الحديثُ لا أصلَ له".
أمَّا الحاكِمُ فهو في وادٍ آخرَ، حيث قال عَقِبَ الحديث:"حنشُ بنُ قيسٍ الرَّحْبِيُّ، يقال له: أبُو عَليٍّ، مِن أهل اليَمَن، سكَن الكُوفَةَ. ثقةٌ".
فردَّه الذَّهَبِيُّ بقوله: "بل ضَعَّفُوهُ".
وذَكَر العُقَيليُّ في "الضُّعفاء"(1/ 248) هذا الحديث، قال:"رواه عِكرِمةُ، عن ابن عبَّاسٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "جمع بين صلاتَين من الكَبائر". - قال: - حُسينُ بنُ قيسٍ الرَّحْبيُّ لا يُتابَعُ عليه، ولا يُعرَفُ إلَّا به. - قال: - ولا أصلَ له. وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ بإسنادٍ جيِّدٍ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَع بين الظُّهر والعَصر، والمَغرِب والعشاء".
وتعقَّب السِّيوطِيُّ في "اللَّالئ"(2/ 23) ابنَ الجَوزِيِّ في دَعوَى وضع هذا الحديثِ. ولخَّص كلامَه المُناوِيُّ في "فيض القدير"(1/ 190 - 191)، وخَتَمَ كلامَه بقوله:"وَحَكَمَ ابنُ الجَوزِيِّ بوضعه، ونُوزِع بما هو تَعَسُّفٌ للمُصنِّفِ - يعني: السِّيوطِيَّ -. فإن سُلِّم عدمُ وضعِهِ، فهو واهٍ جدًّا".
ونَقَل كلامَ المُناوِيِّ أبُو الفَيض الغُمارِيُّ في "المُداوِي"(6/ 249)، ورَدَّ عليه قائلًا:
"قلتُ: حَنَشٌ قد وَثَّقَهُ غيرُ الحاكِم، فقال أبُو محِصَنٍ حُصَينُ بنُ نُميرٍ: "حدَّثَنا حُسينُ بنُ قيسٍ أبُو عليٍّ الرَّحبيُّ، وهو شيخٌ صَدُوقٌ"، فَوَصَفَهُ بالصِّدق، وهو قد عاشَرَهُ ورَوَى عنه، فقولُهُ مُقدَّمٌ على مَن ضعَّفُوهُ لمُجرَّد خِلافِهِ في الأحاديث، فإنَّهُم يفعلُون ذلك بنِاءً على أن حديثَهُ مُنكَرٌ لكونِهِم لم يَعرِفُوا مَعناه ولا الجَمعَ بينه وبين الأحاديث الصَّحيحة كهذا الحديثِ، فإنَّ أوَّلَ مَن صرَّح بأنَّه لا أصل له ذاك العُقَيليُّ، الذي لا يَعرِفُ إلَّا الحديثَ والرِّجال، ولا قَدَمَ له في العِلم، فإنَّه استَدَلَّ على كونِهِ لا أصلَ له بقولِهِ: "وقد صحَّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه جَمَع بين الصَّلاتَين"، فبهذا استَدَلَّ على بُطلانِهِ، ولم يُتابِعهُ على ذلك إلَّا ابنُ الجَوزِيِّ، الذي هو مِثلُهُ، بعيدٌ عن النَّظَر والفَهم في الجَمع بين الأحاديث المُتعارِضة ظاهِرًا. ولا تَعَارُضَ؛ لِحَملِ هذا على جَمع الصَّلاتَين التي لم يأت الشَّرعُ بجواز الجَمع بينهما، كالصُّبح والظُّهر، والعصر والمَغرب، والعشاء والصُّبح. وحديثُ ابن عبَّاسٍ في الجَمع على العُذر، ولو كان ضعيفًا، كما فصَّلنا في "إزالَة الخَطَر في الجَمع بين الصَّلاتَين في الحَضَر". وبذلك يندفع التَّعارُضُ. والمُصنِّف لم يتعسَّف، ولا صرَّح بصِحَّتِهِ أو حُسنِه، بل ذَكَر في تعقُّبه على ابن الجَوزِيِّ - الذي أتَى به من عند ابن شاهينَ - أن الحديثَ خرَّجَهُ التِّرمِذِيُّ وضعَّفَهُ، ثُمَّ قال: "والعَمَلُ على هذا عند أهل العِلم"، وأخرَجَهُ وقال: "حُسينٌ أبو عليٍّ الرَّحْبِيُّ، من أهل اليَمَن، سَكَن الكُوفة. ثقةٌ"، وإنَّ الدَّارَقُطنِيَّ والبَيهَقِيَّ خرَّجاه أيضًا في سُنَنَيهما وضعَّفاه، فهو حُكمٌ مِن كبار الحُفَّاظ، إمَّا بصِحَّتِهِ أو بضَعفِهِ، لا بِوَضعِهِ الذي انفَرَد به العُقَيليُّ وتَبِعَهُ ابنُ الجَوزِيِّ" انتهَى.
والجَوابُ على هذا الخَطَل من وُجُوهٍ:
* الأوَّلُ: أنَّه رجَّح تَوثيقَ الحاكِمِ لحنشٍ، وعضَّدَه بقول حُصَينُ بن نُمَيرٍ:"هو شيخُ صدقٍ"، ثُمَّ علَّل ذلك بقوله:"وهو قد عاشَرَهُ ورَوَى عنه، فقولُهُ مُقدَّمٌ على مَن ضعَّفوه".
وهذا قولٌ لا يَقُولُه عالِمٌ أبدًا؛ لأنَّ الحاكِمَ مُتساهِلٌ في التَّوثيق والتَّصحيح، وشُهرَةُ ذلك لا تَحتاجُ إلى إثباتٍ - والمُعتَرِضُ كثيرُ الدَّندنة حول هذا المعنى في كُتُبه -، وإن كان هو في باب التَّوثيق أكثرَ تماسُكًا منه في باب التَّصحيح.
وحُصَينُ بن نمَيرٍ هو مُجرَّدُ راوٍ، ولا يُعرَفُ وزنُهُ في النَّقد، ووَصفُهُ لحنشٍ بأنه شيخُ صدقٍ ليس فيه أكثرُ من نفي الكذب عنه، دون إثبات الضَّبط له، هذا لو سَلَّمنا أن حُصَينًا هذا له قدمٌ في النَّقد، كيف وهو ليس كذلك، بل قولهما مُعارِضٌ لكلام أساطين النُّقَّاد الذين فسَّرُوا جَرحَهُم له؟ فاسمَع ما قال الأئمَّةُ في هذا "الحنش"!!
قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: "ليس حديثُهُ بشيءٍ. لا أروِي عنه" ..
وقال البُخارِيُّ في "تاريخه": "ترك أحمدُ حديثَهُ" ..
وقال عبدُ الله بنُ أحمد بن حنبلٍ، عن أبيه:"مترُوكُ الحديث. ضعيفُ الحديث. وله حديثٌ واحدٌ حَسَنٌ. رَوَى عنه التَّيمِيُّ في قصَّة الشُّؤم".
قال عبدُ اللّه: "واستَحسَنَهُ أبي" ..
وقال عبَّاسٌ الدُّورِيُّ، عن يحيى بن مَعِينٍ، وأبُو زُرعة:"ضعيفٌ" ..
وقال مُعاوِيةُ بن صالحٍ، عن يحيَى:"ليس بشيءٍ" ..
وقال عبدُ الرَّحمن بن أبي حاتِمٍ، عن أبيه:"ضعيفُ الحديث. مُنكَر الحديث"، قيل له:"أكان يَكذِبُ؟ "، قال:"أسألُ اللّهَ السَّلامَةَ. هو ويحيَى بنُ عُبيد الله مُتقارِبَان"، قيل:"هو مِثلُ الحُسين بن عبد الله بن ضُمَيرَةَ؟ "، قال:"شبيهٌ به" ..
وقال البُخارِيُّ: "أحاديثُهُ مُنكَرَةٌ جدًّا، ولا يُكتَبُ حديثُهُ" ..
وقال النَّسائِيُّ: "مترُوكُ الحديث" ..
وقال في مَوضِعٍ آخر: "ليس بثقةٍ" ..
وقال العُقَيليُّ: "له غيرُ حديثٍ لا يُتابَعُ عليه ولا يُعرَفُ" ..
وقال أبُو أحمدَ بنُ عَدِيٍّ: "هو إلى الضَّعف أقربُ منه إلى الصِّدق" ..
وقال أبو يَعلَى المَوصِليُّ: "حدَّثَنا مُحمَّدُ بن عُقبة، قال: حدَّثَنا أبُو محِصنٍ حُصَينُ بن نُمَيرٍ، قال: حدَّثَنا حُسَينُ بن قيسٍ أبُو عليٍّ الرَّحْبِيُّ. قال: وزَعَمَ أبُو محِصَنٍ أنَّه شيخُ صِدقٍ، فذَكَر عنه حديثًا" ..
وقال الجُوزْجانِيُّ في "أحوال الرِّجال": "أحادِيثُهُ مُنكَرَةٌ جدًّا، فلا تُكتَبُ" ..
وقال التِّرمِذِيُّ في "جامعه": "هو ضعيفٌ عند أهل الحديث، ضعَّفه أحمدُ وغيرُهُ". وقال في موضعٍ آخر منه: "يُضعَّف في الحديث مِن قِبَل حفظه" ..
وقال مُسلِمٌ في "الكُنَى": "مُنكَرُ الحديث" ..
وتركَهُ السَّاجِيُّ، والدَّارَقُطنِيُّ ..
وقال عبدُ الله بن عليِّ بن المَدِينِيِّ، عن أبيه:"ليس هو عِندِي بالقويِّ"،
وكذلك قال أبُو أحمدَ الحاكِمُ ..
وقال ابنُ حِبَّان في "المَجروحين": "كان يَقلِبُ الأخبارَ ويلزقُ روايَةَ الضُّعَفاء. كذَّبَهُ أحمدُ بن حنبلٍ. وتَرَكَهُ يحيَى بنُ مَعِينٍ".
• قلتُ: فهل هُناك عالِمٌ ومُنصِفٌ يَعلَمُ أنَّه موقُوفٌ بين يدي الله غدًا، يَرُدُّ قول كُلِّ هؤلاء العُلماء، لقول اثنين: أحدُهما مُتساهلٌ، والآخرُ مُجرَّدُ راوٍ؟!
* الثَّانِي: أن شهوَةَ المُعارَضة جَعَلَته يصفُ العُقَيليَّ وابنَ الجَوزِيِّ بأنَّهما لا فِقهَ عندَهُما ولا بَصَرَ إلَّا بالرِّجال فحسبُ، أمَّا الفِقهُ فلهُ وحده ومَن على شاكِلَتِهِ. وسَأُبَيِّنُ لك الآن قدرَ فِقهِهِ!!
أمَّا كلامُ العُقَيليِّ فصحيحٌ تمامًا حديثِيًّا وفِقهِيًّا ..
أمَّا حديثِيًّا فالأمرُ ظاهرٌ من حال حُسين بن قيسٍ، وقد مَضَى ذِكرُ أقوال العُلماء فيه.
والثَّابتُ عن ابن عبَّاسٍ، قال:"صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الظُّهر والعصر جميعًا، والمَغربَ والعِشاءَ جميعًا، في غير خَوفٍ ولا سَفَرٍ".
قال أبُو الزُّبير: فسألتُ سعيدَ بنَ جُبيرٍ: لم فَعَل ذلك؟ فقال: سألتُ ابنَ عبَّاسٍ كما سألتَنِي، فقال:"أرادَ أن لا يُحرِجَ أحدًا من أُمَّتِهِ".
وهذا ثابتٌ عن ابن عبَّاسٍ، ومُعاذ بن جَبَلٍ، وأبي هُريرَةَ، في "صحيح مُسلمٍ" وغيرِهِ.
فالحديثُ من مُسنَد ابن عبَّاسٍ، وكلاهُمَا يُعارِضُ الآخرَ بظاهِرِه، فأبان العُقيليُّ عن هذه المُعارَضةِ بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَع بين الصَّلوات، وسَنَدُهُ
أقوَى وأمتَنُ من الحديث الذي يَنهَى عن ذلك. فأين الخطأُ الذي ارتَكَبَهُ العُقيليُّ حتَّى يقول فيه هذا الجَرِيءُ المُعتَدِي على الأئِمَّة "ذاك العُقَيليَّ" احتقارًا له واستِخفَافًا بعلمه؟!
أمَّا فِقهيًّا فقد رأيتَ أنَّ مُطلَقَ الجَمع جائزٌ للحاجة، كما وَقَعَ في تعليل ابن عبَّاسٍ:"أراد أن لا يُحرِجَ أحدًا من أُمَّتِهِ". والجَمعُ لغير الحاجَة معصيةٌ كبيرةٌ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقد ثَبَتَ في عِدَّة أحاديثَ أن جبريل عليه السلام وَقَّتَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوقاتًا للصَّلَوات، مَن جَاوَزَها بغير عُذرٍ فقد ضيَّعَها بلا شكٍّ.
والذي جَعَل العُقيليَّ يقول ما قال، أن اللَّفظ الذي وَقَع له ليس فيه ذِكرُ العُذر وهو:"جَمع بين الصَّلاتَين من الكَبائِر"، فَخَشِي العُقيليُّ أن يَتَوَهَّم مُتَوهِّمٌ أن هذا الحديثَ يُعارِضُ الحديثَ الصَّحيح في الجَمع، فقال:"لا أصل له"، يعني: من الصِّحَّة.
وذَكَر التِّرمِذِيُّ في "سُننِه" أن الجَمع إمَّا يكونُ في السَّفر أو في عرفة. ورَدَّ عليه النَّوَوِيُّ في "شرح مُسلمٍ"(5/ 218 - 219) قائلًا:
"وقد قال التِّرمذِيُّ في آخِر كتابِه: "ليس في كتابي حديثٌ أجمَعَت الأمَّةُ على ترك العَمَل به إلَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ في الجَمع بالمَدينة مِن غير خوفٍ ولا مَطَرٍ، وحديثُ قتلِ شاربِ الخَمر في المَرَّة الرَّابعة". وهذا الذي قالَه التِّرمِذِيُّ في حديث شارِب الخَمر هو كما قاله، فهُو حديث منسُوخٌ، دلَّ الإجماعُ على نَسخِهِ. وأمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ فَلَم يُجمِعُوا على ترك العَمَل به، بل لهُم أقوالٌ. مِنهُم مَن تأوَّلَهُ على أنَّهُ جَمَعَ بعُذر المَطَر، وهذا مشهُورٌ
عن جماعَةٍ مِن الكبار المُتقدِّمين، وهو ضعيفٌ بالرِّوايَة الأخرَى:"مِن غير خوفٍ ولا مَطَرٍ". ومِنهُم مَن تأوَّلَهُ على أنَّه كان في غَيمٍ، فصلَّى الظُّهر، ثُمَّ انكَشَفَ الغَيمُ وبَانَ أن وقت العَصر دخل فصلَّاها، وهذا أيضًا باطلٌ؛ لأنَّه - وإن كان فيه أدنى احتمالٍ في الظُّهر والعصر - لا احتمال فيه في المَغرب والعِشاء. ومِنهُم مَن تأوَّله على تأخير الأُولَى إلى آخِر وقتِها فصلَّاها فيه، فلمَّا فرَغَ منها دَخَلَت الثَّانية فصلَّاها، فصارَت صلاتُهُ صُورةَ جَمْعٍ
(1)
، وهذا أيضًا ضعيفٌ أو باطلٌ؛ لأنَّه مخُالِفٌ للظَّاهر مُخالَفَةً لا تُحتَملُ، وفِعلُ ابن عبَّاسٍ الذي ذَكَرناهُ حين خَطَبَ واستدلالُهُ بالحديث لِتَصويب فِعلِه، وتصديقُ أبي هُريرَةَ له وعدمُ إنكارِهِ، صريحٌ في ردِّ هذا التَّأويل. ومِنهُم مَن قال: هو مَحمُولٌ على الجَمعِ بعُذر المَرَض أو نَحوِه ممَّا هو في مَعناه من الأعذار، وهذا قولُ أحمدَ بن حنبَلٍ والقاضِي حُسينٍ من أصحابِنا، واختارَهُ الخطَّابِيُّ والمُتوَلِّي والرُّوْيانِيُّ من أصحابِنا، وهو المُختارُ في تأويلِهِ لِظاهِرِ الحديث ولِفِعلِ ابن عبَّاسٍ ومُوافقةِ أبي هُريرَةَ، ولأنَّ المَشقَّة فيه أشدُّ من المَطَر. وذَهَب جماعَةٌ من الأئمَّة إلى جَواز الجَمع في الحَضَر للحاجَةِ لمن لا يتَّخِذُهُ عادةً، وهو قولُ ابن سِيرِينَ وأشهبَ من أصحاب مالكٍ، وحكاهُ الخطَّابِيُّ عن القفَّال والشَّاشِيِّ الكَبير من أصحاب الشَّافِعِيِّ، عن أبي إسحاق المَروَزِيِّ، عن جَماعَةٍ من أصحاب الحَديث، واختَارَه ابنُ المُنذِر، ويُؤيِّدُهُ ظاهِرُ قولِ ابن عبَّاسٍ:"أراد أن لا يُحرِج أُمَّته" فَلَم يُعلِّله بمَرَضٍ ولا غَيرِهِ. والله أعلم" انتهَى.
(1)
كما هو مَذهَبُ الحَنَفِيَّة، الذي نَصَره الطَّحاويُّ وغيره.
وقال الخطَّابِيُّ في "مَعالِم السُّنَن"(1/ 265 - 266):
"هذا الحديثُ لا يقُولُ به أكثرُ الفُقهاء. وإسنادُهُ جيِّد، إلَّا ما تُكلَّم فيه مِن أمر حبيبٍ، وكان ابنُ المُنذِر يقولُ ويَحكيه عن غير واحدٍ من أصحاب الحديث. وسمعتُ أبا بكرٍ القَفَّالَ يحكيه عن أبي إسحاق المَروَزِيِّ. قال ابنُ المُنذِرِ: ولا مَعنَى فيه لحَمل الأمر فيه على عُذرٍ من الأعذار؛ لأنَّ ابنَ عبَّاسٍ قد أَخبَرَ بالعِلَّة فيه، وهو قولُهُ: "أراد أن لا يُحرِج أمَّتَهُ". وحَكَى عن ابن سِيرينَ أنَّه كان لا يَرَى بأسًا أن يَجمَعَ بين الصَّلاتَين إذا كانت حاجةٌ أو شيءٌ ما لم يُتَّخَذ عادَةً. قلتُ: وتأوَّلَهُ بعضُهم على أن يكون ذلك في حال المَرَض، قال: وذلك لما فيه من إرفاق المَريضِ ودَفعِ المَشَقَّة عنه، فَحَملُهُ على ذلك أولَى من صَرفِهِ إلى مَن لا عُذر له ولا مَشقَّة عليه من الصَّحيحِ البَدَنِ المُنقَطِعِ العُذرِ. وقد اختَلَف النَّاسُ في ذلك، فرخَّص عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ للمَريض في الجَمع بين الصَّلاتَين، وهو قولُ مالكٍ وأحمدَ بن حنبلٍ. وقال أصحابُ الرَّأي: يجمَعُ المَريضُ بين الصَّلاتَين، إلَّا أنَّهم أباحُوا ذلك على شَرطِهِم في جَمع المُسافِر بينهما. ومَنَع الشَّافِعِيُّ من ذلك في الحَضر إلَّا للمَمطُور" انتهَى.
• قلتُ: والصَّحيحُ الذي يُوافِقُ أصُولَ الشَّريعة هو ما ذَهَب إليه ابنُ سِيرِينَ، أن الجَمع جائزٌ للحاجَة، ما لم يَتَّخِذ ذلك عادةً له، وليس مُقيَّدًا بعُذرٍ من الأعذار؛ إذ أعذارُ النَّاس كثيرةٌ ويَعسُرُ ضبطُها، فإذا لم يَجِد أمامه خيارًا: إمَّا أن يُضيِّع وقتَ الصَّلاة أو يَجمَع، فالجَمعُ أولَى بلا شكٍّ.
فلو افتَرَضنا أن طبيبًا سيُجري جراحَةً لمريضٍ من بعد صلاة الظُّهر إلى ما قبل مُنتَصَف اللَّيل، فماذا يفعلُ هذا الطَّبيبُ؟ أيُضيِّعُ صلاتي الظُّهر والعَصر أم يَجمعهُما؟ ولا أتصوَّرُ قائلًا يمنعُ الجَمع هنا. والله المُوَفِّقُ.
* الثَّالث: أنَّ الغُمارِيَّ زَعَمَ أن العُقيليَّ قال: إنَّ الحديث موضوعٌ، وعبارَتُهُ - أعني الغُماريَّ -:"فهو حُكمٌ مِن كبار الحُفَّاظ، إمَّا بصِحَّتِهِ أو بضَعفِهِ، لا بِوَضعِهِ الذي انفَرَد به العُقَيليُّ وتَبِعَهُ ابنُ الجَوزِيِّ"، فهل قول العُقيليِّ:"لا أصل له" معناه أنَّه موضوعٌ؟ ومَن سبقَ الغُمارِيَّ إلى هذا الفَهم من أهل العِلم؟ ثُمَّ من صَحَّحَهُ من كبار الحُفَّاظ باستثناء الحاكم؟
* الرَّابع: أن قولَ التِّرمذِيِّ: "والعَمَلُ على هذا عند أهل العِلم" هو نفسُهُ قولُ ابن عبد البَرِّ المُتقدِّم: "هذا الحديثُ، وإن كان فيه مَن لا يُحتَجُّ بمِثِلِه، فإنَّ معناه صحيحٌ من وُجوهٍ" ..
فمَعنَى قولهِما: إنَّ الحديثَ، وإن لم يَصِحّ لفظًا، فقد صحَّ معنًى لظواهر ومعاني نصوصٍ أُخرى، وليس بشرطٍ أن يأتي دليلٌ خاصٌّ لكلِّ حُكمٍ جُزئِيٍّ. وهذا كثيرٌ في كلامِهِم، خُصُوصًا من تَعانَى الفقهَ منهم. والله أعلم.
أمَّا هذا القولُ فقد صحَّ عن أمير المُؤمنين عُمرَ بن الخَطَّاب رضي الله عنه ..
فأخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(ج 2/ رقم 4422) عن مَعمَرٍ، عن أيُّوبَ، عن قَتادَةَ، عن أبي العالِية، أن عُمر كَتَب إلى مُوسَى:"واعلَم! أنَّ جَمعًا بين الصَّلاتَين من الكَبائر، إلَّا مِن عُذرٍ".
وأخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ في "المُصنَّف"(2/ 459) قال: حدَّثَنا وكيعٌ، ثنا سُفيانُ، عن هشام بن حسَّان، عن رجُلٍ، عن أبي العالِية، عن عُمر، قال:"الجَمعُ بين الصَّلاتَين من غير عُذرٍ من الكَبائر".
وأخرَجَهُ البيهَقِيُّ (3/ 169) من طريق الحُسين بن حفصٍ، عن سُفيان - هو الثَّوْرِيُّ -، عن سعيدٍ، عن قتادَةَ، عن أبي العالِيةَ، عن عُمر مثلَه.
قال البيهَقِيُّ: "قال الشَّافِعِيُّ في "سُنن حَرمَلَة": ليس هذا بثابتٍ عن عُمر. هُو مُرسَلٌ".
قال البيهَقِيُّ: "وهو كما قال الشَّافِعِيُّ. والإسنادُ المَشهُورُ لهذا الأثر هو مُرسَلُ أبي العالِية، ولَم يَسمَع من عُمر رضي الله عنه. وقد رُوي ذلك بإسنادٍ آخر"
…
ثمَّ رواهُ البيهَقِيُّ من طريق عبد الرَّحمن بن بشرٍ، ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن يحيى بن صُبَيحٍ، قال: حدَّثَنِي حُميدُ بنُ هلالٍ، عن أبي قَتادَة - يعني: العَدَوِيَّ -، أن عُمر بن الخَطَّاب كَتَب إلى عامِلٍ له:"ثلاثٌ من الكبائر: الجمعُ بين الصَّلاتَين إلَّا في عُذرٍ، والفرارُ من الزَّحف، والنُّهبَى".
قال البَيهَقِيُّ: "أبُو قَتادَة العَدوِيُّ أدرَكَ عُمرَ رضي الله عنه. فإن كان شهِدَهُ كَتَبَ: فهو موصُولٌ، وإلَّا فهو إذا انضمَّ إلى الأوَّل صار قويًّا" انتهَى.
وأخرَجَ ابنُ أبي شَيبَةَ (2/ 459) قال: حدَّثَنا وكيعٌ، ثنا أبُو هلالٍ، عن حَنظَلَة السُّدُوسِيِّ، عن أبي مُوسَى، قال:"الجَمعُ بين الصَّلاتَين من غير عُذرٍ من الكَبائر".
وفي إسناده ضعفٌ؛ أمَّا أبُو العالِية - واسمُهُ: رُفَيعُ بنُ مِهرَانَ - فقد ذَكَرَ المِزِّيُّ أنَّه أسلَمَ بعد موت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بسَنَتَين، ودَخَل على أبي بكرٍ، وصلَّى خلف عُمر. ولو ثَبَتَ هذا لكان الإسنادُ مُتَّصِلًا على رأي مُسلمٍ، كما قال ابنُ التُّركُمانِيِّ في "الجَوهَر النَّقِيِّ".
ولكن وَرَدَت عباراتٌ عن بعض الأئمَّة وحِكايَة عن أبي العالِيةَ بضِدِّ ذلك ..
فقد قال عبَّاسٌ الدُّورِيُّ كما في "تارِيخِه"(2/ 166) لابنِ معِينٍ:
"سمع أبُو العالِيةَ من أبي ذَرٍّ؟ "، قال:"لا" ..
وقال شُعبةُ وابنُ معينٍ: "أدرَكَ عليًّا ولم يَسمَع منه" ..
ورَوَى شُعبةُ، عن عاصمٍ، قال: قلتُ لأبي العالِيةَ: "مَن أكبَرُ مَن لقيتَ؟ "، قال:"أبُو أيُّوب". فعلَّق العَلائِيُّ في "جامع التَّحصيل"(190) قائِلًا: "وهذا عجيبٌ؛ فقد قالَت حفصةُ بنتُ سيرينَ: قال لي أبُو العالِية: قرأتُ القرآن على عُمرَ ثلاث مرَّاتٍ".
• قلتُ: وقد رأيتُه هكذا في "تاريخ دمشق"(20/ 135) لابن عساكر بإسنادٍ قَوِيٍّ.
نعم! رأيتُه عند ابن عساكر (20/ 137) بسندٍ جيِّدٍ أيضًا، عن أبي العاليةَ، قال:"قرأتُ القُرآن على عهد عُمرَ ثلاث مرَّاتٍ".
والفَرقُ بين النَّصَّين كبيرٌ.
فَرَجُلٌ مُخَضرِمٌ كيف لا يَسمَعُ مِن مِثل عُمرَ رضي الله عنه؟ فالرَّاجح عندي أنَّه سمع منه، ورأيتُهُ نصًّا لعليِّ بن المَدِينِيِّ وذَكَر أبا العالِيةَ - كما في "تاريخ
دمشق" (20/ 137) - قال: "أبُو العالِيةَ سمع عُمرَ بنَ الخطَّاب، ومِن عليٍّ، ومن أبي مُوسَى، وابنِ عُمَر".
أمَّا قولُ عاصمٍ لأبي العاليةَ: "مَن أكبر من لقيتَ؟ "، قال:"أبو أيُّوب"، فلعلَّ جواب أبي العاليةَ خَرَجَ على اعتبار الزَّمان الذي سألهُ فيه عاصمٌ، لا مُطلَقًا.
واللّه أعلم.
365 -
سُئلتُ عن حديث: "آكُلُ كما يأكلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ.
أخرَجَهُ أبو الشَّيخ في "الأخلاق"(617)، ومن طريقه البَغَوِيُّ في "شرح السُّنَّة" (13/ 247 - 248) قال: أخبرنا أبو يَعلَى، وهذا في "مسنده" (ج 8/ رقم 4920) قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ بكَّارٍ ..
وابنُ سَعدٍ في "الطَّبَقَات"(1/ 381) قال: أخبَرَنا هاشمُ بنُ القاسم، قالا: أخبَرَنا أبو مَعشَرٍ، عن سعيدٍ المَقبُرِيِّ، عن عائشَة رضي الله عنها، قالت: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشةُ! لو شِئتُ لسَارَت مَعِي جبالُ الذَّهَب. جاءَنِي مَلَكٌ، إنَّ حُجْزَتَهُ لتُسَاوِي الكَعبَةَ، فقال: إنَّ رَبَّكِ يَقرَأُ عليكَ السَّلامَ، ويقُولُ: إن شئتَ نبيًّا عبدًا، وإن شِئتَ نبيَّا ملِكًا؟ فنَظرتُ إلى جبريلَ عليه السلام، فأشارَ إليَّ: أنْ ضَعْ نفسَكَ، فقلتُ: نبيًّا عبدًا".
قالت: وكان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكُلُ مُتَّكِئًا، يقول:"آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ".
قال الهَيثَمِيُّ في "المَجمَع"(9/ 19): "إسنادُهُ حَسَنٌ".
كذا قال! وهو مع ضَعفِ أبي مَعشَرٍ -واسمُهُ نَجِيحٌ-، فهو مُنقَطِعٌ؛ لأنَّ سعيدًا المَقبُرِيَّ لم يسمَع من عائشَةَ رضي الله عنها، كما قال أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ. واللهُ أعلمُ.
وأخرَجَه أبو الشَّيخ في "أخلاق النَّبيِّ"(140)، ومن طريقه البَغَوِيُّ في "شرحِ السُّنَّة" (11/ 287) قال: حدَّثَنا إبراهيمُ بنُ مُحمَّد بن الحارِثِ، نا سهلُ بنُ عُثمانَ العَسكَرِيُّ، قال: حدَّثَنِي المُحارِبِيُّ، عن عُبَيدِ الله بن الوليد الوَصَّافِيِّ، عن عبدِ الله بنِ عُبيدٍ قال: أُتِيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بطعامٍ
…
فَذَكَرَهُ.
أخرجَهُ ابنُ المبارَك في "الزُّهد"(193 - زوائد نعيمٍ).
والوَصَّافِيُّ ترَكَه عَمرُو بنُ عَليٍّ الفَلَّاسُ، والنَّسائيُّ، وابنُ حِبَّانَ، وضعَّفَهُ أحمدُ، وابنُ معينٍ، وأبو زُرعَةَ، والدَّارقطنيُّ، وغيرُهُم.
فالإسنادُ ضعيفٌ جدًّا.
ولَهُ شواهدُ عن جماعَةٍ من الصَّحَابة رضي الله عنهم.
* أولًا: حديثُ جابرٍ رضي الله عنه.
فأخرَجَه أبو الشَّيخ في "الأخلاق"(614) قال: حدَّثنا محمَّدُ بنُ عبد الله بن رُسْتَةَ، نا مُحمَّدُ بنُ عُبَيد بن حِسَابٍ، نا حمَّادُ بنُ زَيدٍ، عن سعيدِ بن أبي صَدَقَةَ، عن يَعلَى بن حكيمٍ، عن جابرِ بنِ عبد الله، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا عبدٌ، آكُلُ كما يأكُلُ العَبدُ، وأجلسُ كما يجلس العبدُ".
وإسنادُهُ ضعيفٌ؛ لانقطاعه. ويَعلَى بنُ حكِيمٍ لم يُدرِك أحدًا من الصَّحابَة. واللهُ أعلَمُ.
* ثانيًا: حديثُ أنَسٍ رضي الله عنه.
أخرَجَهُ ابنُ عَديٍّ في "الكامل"(5/ 1971) قال: حدَّثَنا الحُسَينُ بنُ
مُوسَى بن خَلَفٍ، ثنا إسحاقُ بنُ رُزَيقٍ، ثنا إبراهيمُ بنُ سليمانَ الزَّيَّاتُ البَلْخِيُّ، ثنا عبدُ الحكَمِ، عن أنَسٍ، قال: جاء جبريلُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يأكُلُ مُتَّكِئًا، فقال:"التَّكِأَةُ من النِّعمَة"، فاستَوَى قاعدًا، فما رُؤِيَ بعدَ ذلك مُتَّكِئًا، وقال:"إنَّما أنا عبدٌ، آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأشرَبُ كما يشربُ العبدُ".
وإبراهيمُ بنُ سُلَيمانَ الزَّياتُ: تَرجَمَهُ ابنُ عَديٍّ (1/ 264)، وقال:"ليسَ بالقويِّ"، وروَى لهُ حديثًا عن الثَّورِيِّ واتَّهَمَهُ بسرقَتِهِ. وتَرجَمَهُ الخَلِيليُّ في "الإرشاد"(ص 924)، وقال: "صَدُوقٌ، سمع بالعِراق عبدَ الحَكَمِ صاحبَ أنَسٍ
…
سألتُ عنهُ الحاكمَ أبا عبدِ الله فقال: "محِلَّهُ الصِّدقُ". وتَرجَمَهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(8/ 65). وذكَرهُ ابنُ أبي حاتِمٍ (1/ 1/ 103) وقال فيه: "الدَّبَّاسُ" ولم يحك فيه شيئًا.
ولَم يتفرَّد بالحديث، فتابعهُ قرَّةُ بنُ حبيبٍ، قال: حدَّثَنا عبدُ الحَكَم، فرواه عن أنَسٍ مثلَهُ.
أخرَجَهُ ابنُ شاهينَ في "النَّاسخ والمنسُوخِ"(637) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مَسْعَدَةَ الأصبَهَانِيُّ، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ مُحمَّد بن عليٍّ الخُزَاعِيُّ، قال: حدَّثَنا قُرَّةُ بنُ حبيبٍ، قال: حدَّثَنا عبدُ الحَكَم، عن أنَسٍ بهذا.
وقُرَّةُ بنُ حبيبٍ ثقةٌ، كان تغيَّر، لكنَّهُ لم يَكُن يُحدِّثُ إلَّا في حُضُور ولَدِهِ.
والخُزاعيُّ ترجَمَهُ أبو الشَّيخِ في "الطَّبَقات"(3/ 414) وقال: "مِن
أهل المدينةِ، فانتَقَلَ إلى اليهُودِيَّةِ
(1)
. ثقَةٌ مأمونٌ، عندهُ أحاديث غرائب".
والعُهدَةُ في هذا الإسنادِ على عبدِ الحَكَم بنِ عبد الله القَسْمِليِّ صاحبِ أنَسٍ؛ فإنَّهُ مُنكَرُ الحديث، كما قال البُخارِيُّ وأبو حاتِمٍ، وزاد:"ضعيف الحديث"، قال لهُ وَلَدُهُ:"يُكتَبُ حديثُهُ؟ "، قال:"زحفًا". وقال ابنُ السَّعدي: "عامَّةُ حديثِهِ لا يُتابَعُ عليه".
فالسَّند ضعيفٌ جدًّا.
* ثالثًا: حديثُ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ البزَّارُ (2469 - كشف)، ومن طريقه أبو نُعَيمٍ في "أخبار أصبَهانَ" (2/ 273) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ المُعلَّى، ثنا حفصُ بنُ عَمَّارٍ الطَّاحِيُّ، ثنا مُبارَكُ بنُ فَضَالَةَ، عن عُبيد الله بنِ عُمَرَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَر، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّما أنا عبدٌ، آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ".
قال البزَّارُ: "لا نعلَمُهُ يُروَى عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ مُتَّصِلٍ عنه، إلَّا من هذا الوجه عن ابنِ عُمَر. ولا رواهُ عن عُبَيدِ الله إلَّا مُبارَكٌ، ولا عنهُ إلَّا حفصُ بنُ عَمَّارٍ، ولم يُتَابَع عليه".
• قلتُ: وهذا مُنكَرٌ عن عُبَيدِ الله بنِ عُمَرَ؛ ومُبارَكُ بنُ فَضالَةَ ضعيفٌ مُدَلِّسٌ. والرَّاوِي عنه: حفصُ بنُ عمَّارٍ، ترجَمَهُ ابنُ عَدِيٍّ (2/ 799)، ورَوَى لهُ عِدَّةَ أحاديثَ مَنَاكِيرَ، وقال الذَّهَبِيُّ في "الميزان":"مجهُولٌ".
(1)
ظنَّ محُقِّقُ كتاب "النَّاسخ والمنسوخ" لابن شاهين، أنَّ:"اليهوديَّة" هي الدِّيانةُ، وأنَّ الرَّجل تهوَّد بعد إسلامه! وإنَّما اليهوديَّة اسمُ مكانٍ يتبعُ المدينةَ، انتَقَل إليه الخُزاعيُّ، وإلَّا فكيف يروِي له أبو نُعيمٍ أو غيرُهُ بعدما كفر؟!
وقال الهَيثَمِيُّ (9/ 21): "حفصُ بنُ عُمارَةَ الطَّاحِيُّ لم أعرفهُ. وبقيَّة رجاله وُثِّقُوا".
كذا وقع في "المَجمَع": "عُمارة"، والصَّوابُ:"عمَّارٍ"، وكأنَّهُ تصَحَّفَ على الهَيثَمِيِّ، فلذلك لم يعرفه.
وأحمدُ بنُ المُعلَّى: هو ابنُ يزيدَ الدِّمَشقِيُّ، مُتَرجَمٌ في "تاريخ ابن عساكر"(6/ 82 - 83)، ولم يَذكُر فيه شيئًا. وهو من شُيُوخ النَّسائِيِّ، ونَقَلَ الحافظُ في "التَّهذيب" عنه أنَّهُ قال:"لا بأس به".
وتعقَّبتُ البَزَّارَ في هذا الحديث في "تنبيه الهاجدِ"(1109)، ثُمَّ تبيَّنَ لي أنِّي كُنتُ واهمًا في ذلك، فحذفتُهُ، واللهُ يغفِرُ لي.
والحديثُ ضَعَّفَهُ العِرَاقِيُّ في "تخريج الإحياء"(2174 - المستخرَج منه).
ولَهُ طريقٌ آخرُ عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما.
أخرَجَهُ تمَّامٌ الرَّازِيُّ في "الفوائد"(501) قال: أخبَرَنا أبو القَاسِمِ خالدُ بنُ مُحمَّد بن خالد بن محمَّد بن يحيَى بنِ حَمزَةَ الحَضْرَمِيُّ بِبَيتِ لَهْيَا، ثنا جَدِّي لأُمي أبُو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن يحيَى بن حَمزةَ، ثنا أبو اليَمَانِ الحَكَمُ بنُ نافعٍ، ثنا سعِيدُ بنُ سِنانَ، عن أبي الزَّاهِرِيَّةَ حُدَيرِ بنِ كُرَيبٍ الحَضرَمِيِّ، عن كَثِيرِ بنِ مُرَّةَ الحَضرَمِيِّ، عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لَبِسَ الصُّوفَ، وانتَعَلَ المَخصُوفَ، ورَكِبَ حِمَارَهُ، وحَلَبَ شَاتَهُ، وأَكَلَ مَعَهُ عيَالُهُ، فقد نَحَّى اللهُ عز وجل عنه الكبرَ. أنا عبدٌ ابنُ عبدٍ، أجلِسُ جِلسَةَ العَبدِ -إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَطْعَمْ طعامًا إلَّا وهو
جاثٍ على رُكبَتَيه-. إنِّي قد أُوحِيَ إليَّ: أن تَواضَعُوا، ولا يَبغِي أحدٌ على أَحَدٍ. إنَّ يَدَ الله عز وجل مبسُوطَةٌ في خلقِهِ، فمن رفَعَ نفسَهُ وَضَعَهُ اللهُ عز وجل، ومن وضَعَ نفسَهُ رفَعَهُ الله عز وجل. ولا يمشِي امرُؤٌ على الأرضِ شبرًا يبتَغِي به سُلطانَ الله عز وجل إلَّا كبَّهُ الله عز وجل".
• قلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ؛ وسعيدُ بنُ سنانَ رَمَاهُ الدَّارَقطنِيُّ بوَضعِ الحديث، وتَرَكَهُ غيرُهُ.
وأحمدُ بنُ يحيى الدِّمشقِيُّ: قال أبو أحمدَ الحاكِمُ: "فيه نَظَرٌ"، وذَكَرَ لهُ الذَّهَبِيُّ بَواطِيلَ في ترجَمَتِهِ.
ولصَدرِهِ في فضل "لُبس الصُّوفِ" شواهدُ باطِلَةٌ، منها: عن أبي هُريرَةَ، عند ابنِ عَدِيٍّ (4/ 1623). وعن السَّائِبِ بن يزيدَ، عند الطَّبَرَانِيِّ في "الكبير"(6668).
* رابعًا: حديثٌ عن رَجُلٍ من بني سالمٍ -أو: فَهْمٍ-: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بهديَّةٍ، فَنَظَرَ، فلَم يَجِد شيئًا يَجعَلُها فيه، فقال:"ضَعهُ بالحَضِيضِ، فَإنَّما هو عَبدٌ، يأكُلُ كما يأكُلُ العَبدُ. ولو كانت الدُّنيا تَزِنُ عندَ الله جَنَاح بَعُوضَةٍ، ما سَقَى منها كافرًا شَربَةَ ماءٍ".
أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبَة في "كتابِ الزُّهدِ"(13/ 225 - المصنف) عن عبدِ الله بنِ إدريسَ، عن مُحمَّد بن عُمَر، عن عبدِ الله بنِ عبد الرَّحمن بن مَعمَرٍ، عن رجُلٍ من بنِي سالمٍ -أو: فَهْمٍ- ....
ولا يَثبُتُ الحديثُ من هذا الوجه.
وقولُهُ: "ضعه بالحَضِيضِ" يعنى بالأرض.
وقد وجدتُ لهذا القَدرِ من الحديث شاهدًا من حديث أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، قال: إنَّ رَجُلًا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بطعامٍ، فقال:"ضَعهُ بالحَضِيضِ، أو بالأرضِ".
أخرَجَهُ البزَّارُ (2869 - كشف)، قال: حدَّثنا سهلُ بنُ بَحرٍ، ثنا عبدُ الله بنُ رُشَيدٍ، ثنا أبُو عُبيدَةَ البصريُّ -واسمُهُ: مُجَّاعةُ-، عن قتادةَ، عن زُرارَةَ، عن أبي هُريرَة.
قال البزَّارُ: "قد رواهُ الحَسَنُ مُرسَلًا. ورُوي عن ابنِ عُمرَ. وأظُنُّ أنَّ فيه: فإنَّما أنا عبدٌ، آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ".
وقال الهَيثَميُّ في "المَجمع"(5/ 24): "فيه عبدُ الله بنُ رُشيدٍ، ومُجَّاعَةُ أبو عُبَيدَة البَصرِيُّ، ولم أَعرِفْهُما، وبقيَّةُ رجالِهِ ثقاتٌ" انتهى.
كذا قال! ومُجَّاعَةُ البَصرِيُّ هذا هو مُجَّاعَةُ بنُ الزُّبَير، يروِي عن ابنِ سِيرِينَ وقتادةَ. قال أحمدُ:"لم يَكُن به بأسٌ في نفسه". وضعَّفَهُ الدَّارَقُطنِيُّ. وقال ابنُ عَدِيٍّ: "هو ممِّن يُحتَمَلُ ويُكتَبُ حديثُهُ".
وعبدُ الله بنُ رُشَيدٍ تَرجَمَهُ ابنُ حِبَّانٌ في "الثِّقات"(8/ 343) وقال: "مِن أهل جُنْدَيْسَابُورَ. يَروِي عن مُجَّاعَةَ بنِ الزُّبَيرِ
…
مُستقِيمُ الحديثِ". أمَّا البَيهَقيُّ فقال في "سُنَنِهِ" (8/ 106): "لا يُحتَجُّ به".
أمَّا ما أشارَ إليه البَزَّارُ من مُرسَل الحَسَن:
فأخرَجَهُ هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ في "الزُهدِ"(799)، والحُسينُ المَروَزِيُّ في "زوائده على زُهد ابنِ المُبارَك" (995) قالا: ثنا أبو مُعاوِيةَ، عن إسماعيلَ بنِ مُسلمٍ، عن الحسَن، قال: كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يركَبُ الحِمارَ،
ويلبَس الصُّوفَ، ويلعَق أصابِعَهُ، ويأكُلُ على الأرض ويقُولُ:"إنَّما أنا عَبدٌ، آكُلُ كَما يأكل العبدُ".
وهذا، مع إرساله، لا يصِحُّ إلى الحَسَنِ؛ وإسماعيلُ بنُ مُسلمٍ المَكيُّ ضعيفٌ، أو شِبهُ المترُوكِ.
ثمَّ رأيتُهُ في "الزُّهد"(ص 5 - 6) للإمام أحمدَ، قال: حدَّثنا عبدُ الرَّحمن ابنُ مَهدِيٍّ، عن جرير بن حازِمٍ، قال: سمعتُ الحَسَن، يقُولُ: كان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتيَ بطعامٍ أَمَرَ به فأُلقِيَ علىَ الأرض، وقالَ:"إنَّمَا أنا عبدٌ، آكُلُ كما يأكُلُ العَبدُ، وأجلِسُ كما يجلِسُ العبدُ".
وهذا سَندٌ مُرسَلٌ لا بأسَ به.
وله شاهدٌ من مُرسَل عطاءِ بن أبي رَباح، قال: دَخَلَ رجُلٌ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مُتَّكئٌ على وِسادَةٍ، وبين يَدَيهِ طَبَقٌ عليه رَغيفٌ، قال: فَوَضَعَ الرغيفَ على الأرضِ ونحَّىَ الوِسادَةَ، وقال: فذَكَرَ مِثلَه.
أخرَجَهُ أحمدُ في "الزُّهد"(ص - 5) قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ يزيدَ الوَاسِطِيُّ، حدَّثَنا عَبدَةُ بنُ أيمَنَ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ به.
وعَبدَةُ هذا ما عَرَفتُهُ، وأخشى أن يكُون مُصَحَّفًا.
وأخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق في "المصنَّف"(19554)، ومن طريقه البَيهَقِيُّ في "الشِّعَبِ"(5975) ..
وابنُ سَعدٍ في "الطَّبَقات"(1/ 371) عن ابن المبارك، كلاهما (يعني: عبدَ الرَّزَّاق وابنَ المُبارَك)، عن مَعمَرٍ، عن يحيى بنِ أبي كَثيرٍ، أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"آكُلُ كما يأكُلُ العَبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العَبدُ، فإنَّما أنا عبدٌ".
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجلِسُ مُحْتَفِزًا.
وهذا إسنادٌ مُعضَلٌ.
وأخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاقُ (ج 10/ رقم 19543) عن مَعمَرٍ، عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أكَلَ احْتَفَزَ، وقال: "آكُلُ
…
الخ".
وهذا مُعضَلٌ أيضًا.
وبالجُملَةِ: فهذا الحديثُ لا يصِحُّ شيءٌ من طُرُقِهِ، إلَّا مُرسَلًا أو مُعضَلًا. واللهُ أعلَمُ.
أمَّا قولُهُ في آخِرِ حديث الرَّجُل من بني سالمٍ: "لو كانت الدُّنيَا تَزِنُ عندَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ" .. ، فهو حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ مسلمٌ وغيرُهُ.
واللهُ أعلَمُ.
366 -
سُئلتُ عن حديثٍ: ورد فيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رابعُ من يشفعُ يوم القيامة، فهل هذا صحيحٌ، مع أنَّنا نعلمُ أنَّه أوَّلُ من يشفع يوم القيامة؟
• قلتُ: هذا القدرُ من الحديثُ مُنكَرٌ، ولأكثره شواهدُ.
يَروِيهِ أبُو الزَّعرَاءِ: ذَكَرَوا عِندَ عَبدِ الله بن مَسعُودٍ رضي الله عنه الدَّجَّالَ، فقَال: تَفتَرِقُونَ أيُّهَا النَّاسُ ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرقَةٌ تَتبَعُهُ، وَفِرقَةٌ تَلحَقُ بأَرضِ آبَائِهَا مَنَابِتِ الشِّيْحِ، وَفِرقَةٌ تَأخُذُ شَطَّ هذا الفُراتِ، يُقَاتِلُهُم ويُقَاتِلونَهُ، حتَّى يَجتَمِعَ المؤمِنُونَ بِغَربِيِّ الشَّامِ، فَيَبعَثُونَ إِلَيهِ طَلِيعَةً فِيهِم فارِسٌ على فَرَسٍ أَشقَرَ أو أبلَقَ، فَيُقتَلونَ لا يَرجِعُ إلَيهِم شَيءٌ.
قال: وحدَّثَني أبو صَادِقٍ، عَن رَبِيعَةَ بنِ ناجِذٍ، عن عبدِ الله، قال:"فَرَسٍ أَشقَرَ".
قال عبدُ الله: "ويَزعُمُ أهلُ الكتَابِ أنَّ المَسيحَ يَنزِلُ، فيَقتُلُهُ -ولم أسمَعهُ يُحدِّثُ عن أهل الكتاب حديثا غيرَ هذا-.
ثمَّ يخرُجُ يأجُوجُ ومأجُوجُ، فَيَمُوجُونَ في الأرضِ، فيُفسِدُونَ فيها -ثُمَّ قَرَأَ عبدُ الله:- {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96]، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ عليهِم دابَّةً مثلَ هذا النَّغَفِ، فَتَلِجُ أسماعَهُم ومَنَاخِرَهُم، فيمُوتُونَ، فَتَنتِنُ الأرضُ مِنهُم، فيُرسِلُ اللهُ مَاءً، فيُطَهِّرُ الأرضَ مِنهُم.
ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ ريحًا فيهَا زَمهَريرٌ باردةٌ، فلا يدَعُ على وجه الأرضِ مُؤمنًا
إلَّا كَفَتَتهُ تِلكَ الرِّيحُ، ثُمَّ تَقومُ السَّاعَةُ على شِرارِ النَّاسِ.
ثُمَّ يقومُ مَلَكٌ بالصُّورِ بينَ السَّمَاء والأرضِ، يَنفُخُ فيه، فلا يَبقَى خَلقٌ في السَّماوات إلَّا مَاتَ، إلَّا مَن شاءَ رَبُّك.
ثمَّ يَكونُ بينَ النَّفخَتَينِ ما شاءَ اللهُ أن يكونَ. -قال:- فَلَيسَ مِن بني آدَمَ خَلقٌ إلَّا في الأرضِ منهُ شيءٌ.
ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ تبارك وتعالى من تحتِ العَرشِ ماءً كَمَنِيِّ الرِّجَال، فَتَنبُتُ أجسَامُهُم ولُحَمانُهُم من ذلِكَ كَمَا تَنبُتُ الأرضُ منَ البَذرِ، -ثُمَّ قَرَأَ عبدُ الله:- {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9].
ثمَّ يَقومُ مَلَكٌ بالصُّورِ بينَ السَّماءِ والأرضِ، فَيَنفُخُ فيهِ، فَتَنطَلِقُ كلُّ نَفسٍ إلى جَسَدِهَا حتَّى يَدخُلَ فيه، فيَقومونَ فيُحَيُّونَ تحيَّةَ رجُلٍ واحدٍ قياما لرَبِّ العَالمَينَ.
ثمَّ يتَمَثَّلُ اللهُ تبارك وتعالى للخَلقِ فَيَلقَاهُم، فلَيسَ أحدٌ منَ الخَلقِ يعبُدُ من دونِ الله شيئًا إلَّا هو مرتَفعٌ لهُ يتبَعُهُ، فيلقَى اليهودَ فَيَقولُ:"ما تَعبدونَ؟ "، قالوا:"نَعبدُ عُزَيرًا"، قالَ:"هل يسُرُّكُمُ الماءُ؟ "، قالوا:"نعم"، فيُريهِم جَهَنَّمَ كَهيئةِ السَّرابِ -ثمَّ قَرَأَ عبدُ الله:- {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]، -قال:- ثمَّ يَلقَى النَّصَارَى فيقولُ: "ما تعبُدُونَ؟ "، قالوا:"المسيحَ"، فيقولُ:"هل يَسُرُّكُمُ الماءُ؟ "، قالوا:"نعم"، -قال:- فيُريهِمُ اللهُ جَهَنَّمَ كَهَيئةِ السَّرابِ، وكذلك لمَن كَانَ يَعبدُ من دون الله شيئًا، -ثمَّ قرأ عبدُ الله:- {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
حتّى يمُرُّ المسلِمونَ فيَلقاهُم، فيقولُ:"من تعبدونَ؟ "، فيقولونَ:"نَعبُدُ اللهَ لا نُشرِكُ به شيئًا"، فَينتَهرُهُم مرَّةً أو مرَّتَين، فيَقولونَ:"نَعبدُ اللهَ لا نُشرِكُ بِهِ شيئًا"، فَيَقولُ:"هل تَعرِفونَ رَبَّكُم؟ "، فيقولونَ:"سُبِحَانَهُ، إذا اعتَرَفَ لنا عرِفنَاهُ"، فعِندَ ذَلِكَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ، فَلا يَبقَى مُؤمنٌ إلَّا خَرَّ لله سَاجِدًا، ويَبقَى المُنَافِقونَ ظُهُورُهم طَبَقًا واحِدًا، كَأنَّما فيهَا السَّفَافِيدُ، فيَقولونَ:"رَبَّنا". فيقُولُ: "قَد كُنتُم تُدعَونَ إلىَ السُّجُودِ وأَنتُم سَالمُون".
ثُمَّ يأمُرُ بالصِّراط، فَيُضرَبُ على جهَنَّمَ، فَيَمُرُّ النَّاسُ بأعمَالهِم زُمَرًا، أوائلُهُم كَلَمحِ البَرقِ، ثمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثمَّ كمَرِّ الطَّير، ثمَّ كأسرَعِ البهائم. -قال:- ثمَّ كذلك حتَّى يجئ الرَّجُلُ سَعيًا، ثمَّ يجيءُ الرَّجلُ مَشيًا، حتَّى يكونُ آخِرُهُم رَجُلًا يتَلَقَّى على بَطنِهِ، فيَقُولُ:"يا رَبِّ، أبطأتَ بي"، فيقولُ:"إنَّما أَبطَأ بكَ عمَلُك".
ثمَّ يَأذَنُ اللهُ في الشَّفاعَة. فيكونُ أوَّلَ شافع يومَ القِيامَةِ جَبْرَئِيْلُ، ثمَّ إبراهيمُ خَليلُ الله، ثُمَّ مُوسى -أو قال: عيسى. قال سَلَمَةُ: لا أدري أيَّهُمَا قال-، ثمَّ يَقومُ نَبِيُّكُم صلى الله عليه وسلم رابعًا، لا أحَدًا بَعدَهُ فِيما يُشْفَعُ فيه، وهوَ المَقَامُ المَحمودُ الذي وَعَدَهُ اللهُ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
فلَيسَ من نَفسٍ إلَّا تَنظُرُ إلى بيتٍ في الجنَّة وبيتٍ في النَّارِ، وهُوَ يومُ الحَسرَةِ، قال: فَيَرَى أهلُ النَّار البيتَ الذي في الجَنَّة فَيُقَالُ: "لو عملتُم! "، ويَرَى أهلُ الجنَّة البيتَ الذي في النَّار، فَيُقَالُ:"لولا أنْ مَنَّ اللهُ عليكُم! ".
ثمَّ يَشْفَعُ الملائِكَةُ والنَّبيُّونَ والشُّهَداءُ والصَّالحِونَ والمؤمنونَ، فَيُشَفِّعُهُمُ اللهُ، ثمَّ يقولُ:"أنا أرحَمُ الرَّاحمينَ"، فَيُخرِجُ منَ النَّارِ أكثَرَ ممَّا أَخرجَ من جَميعِ الخَلقِ برَحمَتِهِ، حتَّى ما يَترُكُ فيهَا أحدًا فيهِ خَيرٌ -ثمَّ قَرَأَ عبدُ الله:- قل يا أَيُّهَا الكُفَّار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]، -وعَقَدَ بيَدِهِ، قال:- {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 43 - 46]-وَعَقَدَ أربَعًا. وقال سُفيَانُ بيدِهِ: ضَمَّ أربَعَ أصابِعِهِ. ووصَفَهُ أبو نُعَيمٍ، ثمَّ قال: تَرَونَ في هَؤلاءِ أحدا فيهِ خَيرٌ، حتَّى ما يَترُكُ أحَدًا فيهِ خَيرٌ! -.
فإذا أرادَ اللهُ أن لا يُخرِجِ منهَا أحدًا غَيَّرَ وجوهَهُم وألوَانَهُم، فيَجيُء الرَّجلُ منَ المؤمنينَ، فَيَشفَعُ، فَيُقَالَ لَهُ:"مَن عَرَفَ أحَدًا فَليُخرِجهُ"، فَيَجيءُ الرَّجُلُ، فيَنظُرُ، فلا يعرفُ أحَدًا، فَيَقولُ الرَّجُلِ للرَجُلِ:"يا فُلانُ! أنا فُلانٌ! "، فَيَقولُ: ما أعرِفُكَ، فَيَقولونَ:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، فَيَقولُ:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، -قَالَ:- فإذا قال ذَلِكَ طُبِقَت علَيهِم، فَلَم يَخرُج منهم بَشَرٌ.
أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبَةَ في "الفتن"(5/ 191 - 195 - المصنَّف) قال: حَدَّثَنَا عبدُ الله بنُ نُمَيْر ..
والطَّبَرانِيُّ في "الكبير"(ج 9/ رقم 9761)، والعُقَيليُّ في "الضُّعَفَاء"(2/ 314 - 316) عن أبي نُعَيمٍ الفضلِ بن دُكَينٍ ..
والحاكمُ في "الفِتَن"(4/ 496 - 498 - المُسْتَدرَك)، وفى "الأهوال"(4/ 598 - 600) عن الحُسَين بن حفصٍ، قالوا: ثنا سُفيانُ الثَّورِيُّ،
عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ، عن أبي الزَّعراء، عن ابنِ مسعُودٍ موقُوفًا.
وأخرَجَهُ نُعيمُ بنُ حمَّادٍ في "الفتَن"(1567 - 1645) قال: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ نُمَيرٍ ..
وابنُ خُزَيمَة في "التَّوحِيد"(252/ 7) عن يحيى القطَّان ..
وابنُ جَرِيرٍ في "تفسيره"(15/ 97) عن عبدِ الرَّحمن بنِ مهدِيِّ ..
وابنُ أبي الدُّنيا في "الأهوال"(82)، والحاكمُ في "التَّفسير"(2/ 507 - 508) عن ابن المُبارَك ..
وفى "الفتن"(4/ 556) عن مُحمَّد بنِ كَثيرٍ، وأبي نُعَيمٍ الفَضلِ ..
وابنُ مَندَهْ في "الرَّدِّ على الجَهمِيَّة"(3) عن عبدِ الرَّزَّاق، قالُوا جميعًا: ثَنَا سُفيانُ الثَّورِيُّ بهذا الإسنادِ ببعضِهِ.
وتُوبِعَ سُفيَان ..
تَابَعَهُ شُعْبَةُ، فرواهُ عن سَلَمَةَ بن كُهَيلٍ، قال: سَمعتُ أبا الزَّعرَاء، عن عبدِ الله في قِصَّةٍ ذَكَرَهَا، قال: أوَّلُ شافِعٍ يومَ القِيامَةِ جِبرِيلُ عليه السلام رُوحُ القُدُسُ، ثُمَّ إبراهيمُ عليه السلام، ثُمَّ موسى أو عيسى -قال أبو الزَّعْرَاءِ: لا أَدْرِى أَيَّهُمَا قَالَ. قَالَ:- ثُمَّ يقُومُ نَبِيُّكُم صلى الله عليه وسلم رابِعًا فلا يَشفَعُ أحدٌ بمثلِ شَفَاعَتِهِ، وَهُوَ وَعْدُهُ المَحْمُودُ الذي وُعِدَهُ.
أخرَجَهُ النَّسائِيُّ في "التَّفسير"(6/ 1129 - الكُبْرَى) قَالَ: أخبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ بشَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، نا شعْبَةُ، عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ بِهَذَا.
وتُوبع مُحمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ ..
تابَعَهُ مُسلمُ بنُ إبراهيم، ثنا شُعبةُ بهذا الإسناد، مخُتَصَرًا جدًّا، بذكر
الصُّور وحده.
أخرَجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا في "الأهوال"(48) قال: ثنا عُبيدُ الله بنُ جَريرٍ، ثنا مُسلمُ بنُ إبراهيم بهذا.
ورواه يحيَى بنُ سلَمة بنِ كُهَيلٍ، عن أبيه بهذا، مثل رواية شُعبةَ. أخرَجَهُ الطَّيالسِيُّ (389).
ويحيَى واهٍ، لكنَّه مُتابَعٌ كما رأيتَ.
وهذا القدرُ الذي سأَل عنه السَّائلُ، وهو أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رابعُ من يشفعُ يوم القيامة مُنكَرٌ.
قال ابنُ كَثيرٍ في "النِّهاية في الفتن": "غريبٌ جدًّا".
أمَّا الحاكمُ فقال: "صحيحٌ على شرط الشَّيخين"، فردَّهُ الذَّهبيُّ بقوله:"ما احتجَّا بأبي الزَّعراء".
وهذا تقصيرٌ من الذَّهبيِّ رحمه الله في الاستدراك على الحاكم؛ لأنَّه عندما يقُولُ: "لم يحتجَّا" فلا يدُلُّ هذا على ضعف الحديث، ولا نَكَارَتهِ؛ لأنَّ الشَّيخين تَرَكا من الثِّقات كثيرين، فيكونُ الإسنادُ حينئذٍ صحيحًا مُطلَقًا غيرَ مُقيَّدٍ بشرطِهِما أو بشرط واحدٍ منهما. ولو سلَّمنا أنَّ أبا الزَّعراء قد احتجَّا به، فإنَّ الحسينَ بنَ حفصٍ لم يروِ له البُخارِيُّ شيئًا، وروَى له مُسلمٌ عن الثَّورِيِّ حديثًا واحدًا مُتابَعةً في "كتاب القدر"(2662/ 31)، وهو حديثُ:"إنَّ الله خَلَقَ للجنَّة أهلًا وهُم في أصلاب آبائِهِم." .. ، فلا يكونُ على شرطه أيضًا.
فثبت بهذا خطأُ حكمِ الحاكمِ، وقد رأيتَ أنَّ الحديثَ مُنكَرٌ لأنَّه
يُخالِفُ أحاديثَ صحيحةً، منها: حديثُ أنسٍ مرفُوعًا: "أنا أوَّلُ النَّاس يشفعُ في الجَنَّة، وأنا أكثرُ الأنبياء تَبَعًا".
أخرَجَهُ مُسلمٌ في "الإيمان"(196/ 330) واللفظُ له، وأبُو عَوانَةَ (1/ 158)، وأحمدُ (3/ 140)، والدَّارميُّ (1/ 31)، وابنُ أبي شَيبَةَ (12/ 436، و 14/ 95)، وابنُ خُزيمةَ في "التَّوحيد"(2/ 618)، وأبُو يَعلَى (3959، 3968، 3973)، وابنُ أبي عاصمٍ في "السُّنَّة"(796)، وفي "الأوائل"(8)، والآجُرِّيُّ في "الشَّريعة" (ص: 461)، وابنُ مَندَهُ في "الإيمان"(886، 887، 889، 890) من طُرُقٍ عن المُختار بنِ فُلفُلٍ، عن أنسٍ به.
ولهُ طُرقٌ أخرى عن أنسٍ، وشواهدُ عن أبي هُريرَةَ، وأبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنهم، في أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوَّلُ من يشفعُ يوم القيامة، وأوَّلُ مَن يَهُزُّ حِلَقَ الجَنَّة بيده، لا يسبِقُهُ أحد من الخَلق إلى شيءٍ من هذا.
وأبُو الزَّعراء راوِي هذا الحديث: ترجَمَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في "الجرح والتَّعديل"(2/ 2/ 195)، ونَقَل عن عليِّ بنِ المُدِينيِّ أنَّه قال:"لا أعلمُ رَوَى عن أبي الزَّعراء إلَّا سَلَمةُ بنُ كُهَيلٍ. وعامَّةُ روايةِ أبي الزَّعراءِ: عن عبدِ الله بنِ مسعُودٍ".
وكذلك ترجمهُ البُخارِيُّ (3/ 1/ 221)، وذَكَر له هذا المَقطَع المُنكَرَ من الحديث، وقال:"لا يُتابَعُ عليه".
وعن البُخارِيِّ أخذَ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(4/ 1549)، والعُقَيليُّ في "الضُّعفاءِ"(3/ 359)، ونقل ابنُ عَدِيٍّ عن النَّسائِيِّ أنَّهُ
قال: "أبو الزَّعرَاءِ لا يُعلَمُ أحدٌ رَوَى عنه، غيرُ سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ".
قال ابنُ عَدِيٍّ: "وهذا الذي قاله النَّسائِيُّ كما قال: يَروِي سَلَمَةُ، عن أبي الزَّعراءِ، عن عبد الله بنِ مسعُودٍ -إنْ كان سَمِعَ عبدَ الله بنَ مسعُودٍ-. ويَروِي عن أبي الأَحوَص، عن أبِيهِ".
فتعقَّبَهُ المِزِّيُّ في "التَّهذيب"(16/ 242) قائلًا: "هكذا قال ابنُ عَدِيٍّ! وذلك وَهَمٌ، إنَّما الذي يَروِي عن أبي الأَحوَصِ وغَيرِهِ: أبو الزَّعرَاءِ الأَصغَرُ
(1)
، واسمُهُ: عَمْرُو بنُ عَمْرٍو. ويَروِي عنه: سُفيانُ بنُ عُيَينةَ وغيرُهُ، كما هو مذكُورٌ في ترجَمَتِهِ. وأمَّا أبو الزَّعرَاءِ الأَكبَرُ هذا، فلا تُعرَفُ له روايَةٌ، إلَّا عن ابن مسعُودٍ، وعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، ولا يُعرَفُ له راوٍ إلَّا سَلَمَةُ بنُ كُهَيلٍ، ولم يُدرِكهُ سُفيانُ بنُ عُيينَةَ، ولا أحدٌ من أقرانِهِ".
وقد تقدَّم ذِكرُنا لأبي الزَّعراء برقم (213)، ونقلنا فيه توثيقَ ابنِ سعدٍ، والعِجِليِّ، وابنِ حِبَّانَ، وروايته لهذا الحديث لا ينبَغِي أن تُسقِطَ كُلَّ ما رَوَى، لاسيَّما وأنَّهم ذَكَرُوأ أنَّه لم يروِ إلَّا عن ابنِ مسعُودٍ، وقد سمع منه. واللهُ أعلمُ.
(1)
تقدَّم ذكرُهُ في الحديث رقم (321).
367 -
سُئلتُ عن حديثٍ: عن أنس، قال: قَدِمَ رَهطٌ مِن عُرَينَةَ وَعُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاجَتَوَوُا المَدِينَةَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَو خَرَجتُم إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَشَرَبتُم مِن أَبوَالهِا وَأَلبَانِهَا"، فَفَعَلُوا، فَلمَّا صَحُّوا، عَمَدُوا إِلَى الرُّعَاةِ، فَقَتَلُوهُم، وَاستَاقُوا الإِبِلَ، وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِم، فَأُخِذُوا، فَقَطَعَ أَيدِيَهُم وَأَرجُلَهُم، وَسَمَلَ أَعيُنَهُم، وَألقَاهُم فِي الشَّمسِ حَتَّى مَاتُوا.
• قلتُ: هذا حديثٌ صحيحٌ.
أخرَجَهُ البُخارِيُّ في "الدِّيَات"(12/ 230 - 231) والسِّياقُ لهُ، وَمُسلِمٌ (1671/ 10)، وأَحمَدُ (3/ 186)، وأبو يَعلَى (2816)، وابنُ حِبَّانَ (4470)، والطَّحاوِيُّ في "المُشكَلِ"(1816) عن إسمَاعِيلَ بن عُلَيَّة .. والبُخارِيُّ في "المغَازِي"(7/ 458)، وأبو عَوَانةَ في "الحُدُودِ" -كَمَا في "إتحَافِ المهَرَةِ"(1/ 82) - عَن حَمَّاد بن زَيدٍ ..
والنَّسَائِيُّ (7/ 93 - 94) عن يَزِيدَ بن زُرَيعٍ، جَمِيعًا عَن الحَجَّاجِ بنِ أبي عُثمَانَ الصَّوَّاف، قال: حَدَّثَنِي أبو رَجَاءٍ -من آلِ أبي قِلَابةَ-، حَدَّثَنِي أبُو قِلَابَة، أنَّ عُمَرَ بن عَبدِ العَزِيزِ أبرَزَ سَريرَهُ يَومًا للنَّاسِ، ثمَّ أذِنَ لهم، فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في القَسَامةِ؟ قَالُوا: نَقُولُ: القَسَامَةُ القَوَدُ بها
حَقٌّ، وقَد أَقَادَت بها الخُلَفَاءُ. قَالَ لي: مَا تَقُولُ يا أبا قِلَابةَ؟ ونَصَبَني للنَّاسِ، فَقُلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ! عِندَكَ رُؤُوسُ الأجنَاد وَأَشرَافُ العَرَبِ، أرَأَيتَ لو أنَّ خَمسينَ منهُم شَهِدوا على رَجُلٍ محُصَنٍ بدمَشقَ أنَّهُ قد زَنَى، لم يَرَوهُ، أكُنتَ ترجُمهُ؟ قال: لا. قُلتُ: أَرَأَيتَ لو أنَّ خَمسِينَ منهُم شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بحِمصَ أنَّهُ سرَقَ، أَكُنتَ تَقطَعُهُ ولَم يَرَوهُ؟ قَالَ: لا. قُلتُ: فَوَالله! مَا قَتَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا قَطُّ، إلَّا في إحدَىَ ثَلاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نفسِهِ فقُتِل، أو رَجُلٌ زَنَى بعدَ إحصَانٍ، أو رَجُلٌ حَارَبَ اللهَ ورسُولَهُ وارتدَّ عن الإسلام. فقال القَومُ: أَوَلَيسَ قد حدَّثَ أنَسُ بنُ مالكٍ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في السَّرَقِ، وسَمَرَ الأَعيُنَ، ثُمَّ نَبَذَهُم في الشَّمسِ؟ فَقُلتُ: أنا أُحَدِّثُكُم حَدِيثَ أنَسٍ: حدَّثَني أنَسٌ، أنَّ نَفَرًا مِن عُكَلٍ ثَمَانيةً قَدِموا على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبايَعُوهُ على الإسلامِ، فَاسْتَوخَمُوا الأرضَ، فسَقَمَت أجسامُهُم، فشَكَوْا ذلك إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أَفلا تَخرُجُوُنَ مَعَ رَاعِينَا في إبِلِه، فتُصيبُونَ من ألبَانِهَا وأبوالهِا؟ "، قالوا:"بلى"، فَخَرَجوا فشَرِبُوا من ألبانهَا وأبوالِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلوا رَاعِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَطرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ في آثارِهِم، فَأُدرِكُوا، فجيء بهم، فَأَمَرَ بهم، فَقُطِّعَت أيدِيهِم وأَرجُلُهُم، وسمَرَ أَعيُنَهُم، ثُمَّ نَبَذَهُم في الشَّمسِ، حتَّى ماتُوا. قُلتُ: وأيُّ شيءٍ أشَدُّ ممَّا صَنَعَ هؤلاء؟! ارتَدُّوا عن الإسلام، وقَتَلُوا وسَرَقُوا. فقال عَنبَسَةُ بنُ سَعيدٍ:"والله! إنْ سَمِعتُ كَاليَومِ قَطُّ! "، فقُلتُ:"أتَرُدُّ عليَّ حَدِيثي يا عَنبَسَةُ؟ "، قال: "لا، ولَكَن جِئتَ
بالحَدِيثِ على وَجهِهِ. والله! لا يزَالُ هذَا الجُندُ بخَيرٍ ما عَاشَ هذَا الشَّيخُ بَينَ أظهُرِهِم." .. الحديث.
وتُوبِعَ حجَّاجٌ الصَّوافُ ..
تَابَعَهُ أيُّوبُ السَّختيَانيُّ، قالَ: حَدَّثَني أبو رجاءٍ بهذا، نَحوَهُ.
أَخرَجَهُ البُخاريُّ في "الوُضوء"(1/ 335)، وفي "المَغازِي"(7/ 458)، وفي "الحُدُود"(12/ 112)، ومُسلمٌ (1671/ 11)، وأبُو داوُد (4364)، وأبو عَوَانةَ، عن حمَّاد بن زَيدٍ ..
والبُخاريُّ في "الجهَاد"(6/ 153)، وفي "الحُدود"(12/ 111)، وأبو داوُد (4365)، وأبُو عَوَانَةَ، عن وُهَيبِ بنِ خَالدٍ ..
والطَّحاوِيُّ في "شَرحِ المعَانِي"(3/ 180)، وفي "المُشكِل"(1810، 1831)، وأبو عَوَانَةَ، عن جَريرِ بنِ حازِمٍ، وسُفيانَ الثَوريِّ ..
وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(17132)، وأبو عَوَانَة، عن مَعمَرِ بن راشدٍ ..
والطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(573) عن مُعاوِيَة بنِ أبي العَبَّاس، كُلُّهُم عن أيُّوبَ السَّختِيَانِيِّ بهذا.
وكذلك رواهُ عبدُ الله بنُ عَونٍ، أبي رَجاءٍ بهذا.
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّفسير"(8/ 273 - 274) عَن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الله الأنصارِيِّ ..
ومُسلِمٌ (1671/ 12)، وأبو عَوَانَة في "الحُدُودِ"، عن مُعَاذ بن مُعَاذٍ ..
ومُسلمٌ أيضًا، عن أَزهَرَ بنِ السِّمَّان، ثَلاثتُهُم عن عبد الله بن عَوْنٍ بهذا.
وتُوبِعَ أبو رَجَاءٍ مَولَى أبي قِلَابَة ..
تَابَعَهُ يحيى بنُ أبي كَثيرٍ، قالَ: حدَّثَني أبو قِلَابَة، عن أنَسٍ بهذا.
أخرجه البُخارِيُّ في "الحُدُود"(12/ 109)، وأبو داوُد (4366)، وأبو عَوَانَة، والنَّسائيُّ (7/ 94) عن الوليد بنِ مُسلِمٍ ..
وأخرَجَهُ مُسلمٌ (1671/ 12) عن مِسكين بنِ بُكيرٍ ..
وَمُسلِمٌ، والنَّسَائِيُّ (7/ 94) عن مُحمَّد بنِ يُوسُفَ الفِريَابِيِّ ..
والطَّحاوِيُّ في "المُشكِل"(1812)، وأبو عَوَانَةَ، عن بشْرِ بنِ بَكرٍ ..
وأبو عَوَانَة أيضًا، عن أيُّوبَ بنِ خالدٍ، كلُّهم عن الأوزاعِيِّ، عن يحيَى بنِ أبي كثيرٍ بهذا.
وقد روى هذا الحديث عن أنسٍ: ثابتٌ البُنانيُّ، وحُميدٌ الطَّويلُ، وقتادةُ، وعبدُ العزيز بنُ صُهَيبٍ، والزُّهْرِيُّ، ومُعاوِيةُ بنُ قُرَّةَ، وغَيلانُ بنُ جَريرٍ، وسُليمانُ التَّيمِيُّ، ويحيَى بنُ سعيدٍ الأَنصَارِيُّ، وأبو سعدٍ البَقَّالُ في آخَرين، خرَّجتُ أحاديثَهم في "غَوثِ المَكدُود"(846)، وزِدتُهُ كثيرًا في "عُدَّةِ أهلِ التُّقَى بِتَخرِيجِ أحاديثِ المُنتَقى"(913).
والحمدُ لله تعالى.
368 -
سُئلتُ عن حديث: "يا عُمرُ! إنَّك لا تُسألُ عن أعمال النَّاس، ولكن تُسألُون عن الصَّلاة".
• قلتُ: هذا حديثٌ ضعيفٌ بهذا اللفظ، يعني:"الصَّلاة".
أخرَجَهُ أحمدُ بن مَنيعٍ في "مُسنَده" -كما في "المطالب العالية"(887) - قال: حدَّثنا الحَسَنُ بنُ سوَّارٍ أبُو العَلاء، حدَّثَنا ليثُ بنُ سعدٍ، عن مُعاوية بنِ صالحٍ، قال: إنَّ أبا عبدِ الرَّحمن الأزديَّ حدَّثَهُ، قال: سمعتُ ابنَ عائِذٍ، يقول: خرج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجلٍ من الأنصار، فلمَّا وُضِع قال عُمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه:"يا رسُول الله! لا تُصلِّ عليه؛ فإنَّه رجُلٌ فاجرٌ"، فالتَفَت رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل رآه أحدٌ منكم على شيءٍ مِن عَمَلِ الإسلام؟ "، فقال رجُلٌ:"نعم يا رسُول الله! حَرَسَ معنا ليلةً في سبيل الله تعالَى"، فصلَّى عليه، وحَثَى عليه التُّراب، وقال:"أصحابُكَ يظُنُّون أنَّك من أهل النَّار، وأنا أشهدُ أنَّك من أهل الجنَّة"، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عُمرُ! إنَّك لا تُسألُ عن أعمال النَّاس، ولكن تُسألون عن الصَّلاة".
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لإرساله؛ وعبدُ الرَّحمن بنُ عائذٍ لم يُدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم. وأبُو عبدِ الرَّحمن الأزديُّ لم أجد له ترجمةً.
ورأيتُهُ موصُولًا من وجهٍ آخر ..
أخرَجَه أبُو يَعلَى -كما في "المَطالب العالية"(888) - قال: حدَّثَنا
هارُونُ بنُ معرُوفٍ ..
وأبُو نُعيمٍ في "معرفة الصَّحابة"(6927) عن أبي بلالٍ الأشعريِّ، قالا: ثنا إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ، عن بَحِيرِ بنِ سعدٍ، عن خالد بنِ مَعدانَ، عن أبي عطيَّة، أنَّ رجُلًا تُوفِّي على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهُم:"يا رسُول الله! لا تُصلِّ عليه"
…
الحديث، وفي آخره: قال: "يا عُمرُ! إنَّك لا تُسألُ عن أعمال النَّاس، ولكن تُسألُ عن الفطرة".
وعزاه الحافظُ في "الإصابة"(12/ 450) للبَغَوِيِّ، وأبي أحمدَ الحاكمِ من طريق إسماعيل بنِ عيَّاشٍ بهذا.
زاد في رواية البَغَوِيِّ: "يعني: الإسلامَ".
وهذا إسنادٌ شاميٌّ جيِّدٌ. وإسماعيل بن عيَّاشٍ روايته عن الشَّاميِّين مستقيمةٌ.
وأخرَجَهُ الطَّبرانِيُّ في "الكبير"(ج 22/ رقم 945)، ومن طريقه ابنُ الأثير في "أُسد الغابة"(5/ 216) من طريق بقيَّة بنِ الوليد، ثنا بَحِيرُ بنُ سعدٍ، عن خالد بنِ مَعدانَ، قال: قال أبُو عطيَّة.
وبقيَّة بن الوليد لم يُصرِّح بالتَّحديث في جميع الإسناد، لكنَّه مُتابَعٌ كما ترى.
وأبُو عطيَّة ذَكَرَهُ الطَّبرانِيُّ، ومُطيَّنٌ، وأبُو نُعيمٍ وغيرُهُم، في الصَّحابة.
369 -
سُئلتُ عن حديثٍ: "إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى الصَّلاةَ، ومَا فَاتَهُ مِن وَقتِهِا أَفْضَل منْ أهْلِهِ ومَالِهِ".
• قلتُ: هذا حديثٌ حَسَنٌ إن شاء الله.
أخرَجَهُ أبو القاسِمِ البَغَوِيُّ في "الجَعدِيَّات"(2936)، ومن طريقه ابنُ عبدِ البَرِّ في "التَّمهيد"(2/ 105، 226 - شروح المُوطَّإ) قال: حدَّثَني جَدِّي، ثنا يعقُوبُ بنُ الوليد عن ابن أبي ذِئبٍ، عن المَقبُرِيِّ، عن أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا.
قال ابنُ عبد البَرِّ: "إسنادُهُ ليسَ بالقَوىِّ".
• قلتُ: وهذا تضعيفٌ هيِّنٌ، والصَّوابُ أنَّ الإسناد ضعيفٌ جدًّا؛ ويعقوبُ بنُ الوليد أحدُ الهَلكَى، قال أحمدُ:"خَرَقنا أحاديثَهُ منذُ دَهرٍ، كان من الكَذَّابين، وكان يضَعُ الحديثَ". وكذلكَ رمَاهُ بالكَذِبِ ووَضعِ الحديث: أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ، وابنُ حِبَّانَ. وتَرَكَهُ آخرون.
ولكنَّهُ لم يتفرَّد به ..
فتابَعَهُ إبراهيمُ بنُ الفَضل، فرواهُ عن المَقبُريِّ بهذا، بلَفظِ:"إنَّ أَحَدَكُم لَيُصَلِّي الصَّلاة لِوَقتِهَا، وقَد تَرَكَ منَ الوَقتِ الأوَّلِ ما هوَ خَيرٌ لَهُ من أهلِهِ ومالِهِ".
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ (1/ 248) من طريقِ عُبيدِ الله بنِ مُوسَى، نا إبراهيمُ بنُ الفَضلِ بهذا.
وسَنَدُهُ واهٍ؛ وإبراهيمُ مُنكَرُ الحديث، متروكٌ.
ولهُ شاهدٌ من حديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما ..
أخرجَهُ ابنُ نَصرٍ في "تعظيم قدرِ الصَّلاة"(1043) قال: حدَّثَنا إسحاقُ -هو ابنُ راهَوَيه-، قال: أخبَرَنا وكيعٌ، قال: أخبَرَنا شُعبةُ، عن سعد بن إِبراهِيمَ، عن الزُّهرِيِّ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا:"إنَّ الرَّجلَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ، ومَا فَاتَهُ مِن وقتِهَا خَيرٌ من أَهلِهِ ومَالِهِ".
وهذا إسنادٌ ما أجوَدَهُ لولا أنَّهُ مُنقَطِعٌ؛ والزُّهرِيُّ لم يَسمَع ابنَ عُمَرَ.
ولَهُ طريقٌ آخَرُ عن ابن عُمَر ..
أخرَجَهُ ابنُ نَصرٍ أيضًا (1044) قال: حدَّثَنَا يحيَى بنُ يحيَى، قال: أخبَرَنا هُشَيمٌ، عن يعلَى بنِ عَطاءٍ، عن الوليدِ بنِ عبدِ الرَّحمن الجُرَشِيِّ، عن ابن عُمَر مرفُوعًا مثلَهُ.
وهذا إسنادٌ قوىٌّ، لولا عَنعَنَةُ هُشَيمٍ.
والوليدُ بنُ عبدِ الرَّحمن أدرَكَ ابنَ عمر.
ورأيتُ لهُ حديثًا عن ابنِ عمرَ ..
أخرَجَهُ التِّرمذِيُّ (3886) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ ..
وأحمدُ (2/ 2)، وعبدُ الرَّزَّاق في "المُصنَّف"(7260)، والحاكمُ (2/ 510 - 511) عن عمرو بن عونٍ، قال أربعتُهُم: ثنا هُشَيمٌ، عن يعلَى بنِ عطاءٍ، عن الوليد بنِ عبدِ الرَّحمن الجُرَشِيِّ، عن ابنِ عُمَر: أنَّهُ مَرَّ بأبي هُريرَة وهو يُحدِّثُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قال:"مَن تَبعَ جِنَازَةً فصلَّى عليهَا فَلَهُ قِيراطٌ، فإنْ شَهِدَ دَفَنَهَا فَلَهُ قِيراطَان، القِيرَاطُ أعظَمُ من أُحُدٍ"،
فقال له ابنُ عُمَر: أبا هِرٍّ! انظُر ما تُحَدِّثُ عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم! فقام إليه أبو هُريرةَ، حتَّى انطَلَق به إلى عائشة، فقال لها: يا أُمَّ المُؤمِنِين! أَنشُدُكِ بالله! أسَمِعتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَن تَبعَ جِنَازَةً، فَصلَّى عليهَا فَلَهُ قِيراطٌ، فإن شَهَدَ دَفنَهَا فَلَهُ قِيراطان"؟ فقالت: اللَّهُمَّ نَعَم! فقالَ أبو هُريرَة: إنَّهُ لم يَكُن يَشغَلُني عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم غَرسُ الوَدِيِّ، ولا صَفقٌ بالأسواق، إنِّي إنَّما كنتُ أطلُبُ من رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً يُعلِّمُنيهَا، وأكلَةً يُطعِمُنيهَا. فقال لهُ ابنُ عُمرَ: أنتَ يا أبا هُريرَة كنتَ ألزَمَنا لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وأعلَمَنا بحديثه.
وهو عند التِّرمِذِيِّ بآخِرِه فقط، وقال:"حديثٌ حسنٌ".
وقال الحاكمُ: "صحيحُ الإسناد".
وصرَّحَ هُشيمٌ بالتَّحديثِ عند التِّرمِذِيِّ وعبدِ الرَّزَّاق.
• قلتُ: ووجدتُ لحديث التَّرجمة شاهدًا مُرسَلًا يتقوَّى به ..
يرويه يحيَى بنُ سعيدٍ الأَنصارِيُّ، أنَّ مُحمَّد بنَ المنكدر أخبَرَهُ أنَّ يعلَى -رجلٌ من أهل الدِّيوان- أخبرَهُ، سَمِعَ طَلقَ بنَ حبيبٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الرَّجلَ ليُصلِّي، ومَا فَاتَهُ من وَقتِهَا أعظَمُ من أهله ومالِهِ".
أخرَجَهُ البُخاريُّ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 2/ 417) عن يزيدَ بنِ هارُونَ ..
وأبُو يَعلَى -كما في "المَطالِب العالية"(271) - عن عبدِ الرَّحيم بنِ سُليمانَ ..
وابنُ نَصرٍ في "تعظيم قدر الصَّلاة"(4110) عن جعَفَر بنِ عَونٍ،
قال ثلاثتُهُم، ثنا يحيَى بنُ سعيدٍ بهذا.
وخَالَفَهُم اللَّيثُ بنُ سَعدٍ، فرواهُ عن يحيَى بنِ سعيدٍ، عن يَعلَى بنِ مُسلِمٍ، عن طَلقِ بن حبيبٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا.
فسقط ذِكْرُ: "ابن المُنكَدر".
أخرجَهُ ابنُ نَصرٍ (1040) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ سَيَّارٍ، ثنا يحيَى بنُ عبد الله بن بُكَيرٍ، حدَّثني اللَّيثُ بهذا.
وتُوبِع اللَّيثُ على هذا ..
تابَعَهُ ابنُ أبي سَبْرَةَ -وهو مترُوكٌ-، فرواهُ عن يحيى بنِ سَعِيدٍ، عن يعلَى، عن طَلْقٍ مُرسَلًا.
أخرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاق (2225).
وخالَفَهُم حمَّادُ بنُ زيدٍ، فرواهُ عن يحيَى بنِ سعيدٍ، عن ابن المُنكَدِر، عن طَلْقِ بن حبيبٍ مُرسَلًا.
فسَقَطَ ذِكرُ: "يعلى بنِ مُسلِمٍ".
أخرَجَهُ ابنُ نَصرٍ (1042) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ سَيَّارٍ، قال: ثنا سُلَيمانُ بنُ حربٍ، قال: حدَّثَنا حمَّادُ بنُ زيدٍ بهذا.
ورواهُ ابنُ عَجلَانَ، عن ابنِ المُنكَدِرِ، عن يعلَى بنِ مُسلِمٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فسَقَطَ ذِكرُ: "طَلقِ بنِ حبيبٍ".
أخرَجَهُ البُخارِيُّ في "التَّاريخ الكبير"(4/ 2/ 217) قال: حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ المُثنَّى، عن يحيى بن سعيدٍ، عن ابن عَجلَانَ بهذا.
وخَالَف الجميعَ مالِكٌ، فرواهُ عن يحيَى بنِ سعيدٍ، قال: "إنَّ المُصَلِّي لَيُصَلِّي الصَّلاةَ وما فاتَهُ
…
الخ".
أخرَجهُ في "الموطَّإ"(1/ 12).
قال ابنُ عبد البَرِّ: "وهذا موقُوفٌ في "الموطَّإ"، ويَستَحِيلُ أن يكُون مثلُهُ رأيًا".
• قلتُ: وأقوَى الوُجُوه عندي في هذا الاختلافِ هو الوجهُ الأوَّلُ، الذي يرويه يزيدُ بنُ هارُونَ ومَن مَعَهُ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن ابنِ المُنكَدِرِ، عن يعلَى، عن طَلقٍ.
وقد جاء مُسَلسَلًا بالسَّماع عندَ البُخارِيِّ.
{تنبيه}
قال ابنُ عبد البَرِّ في "التَّمهيد"(1/ 227 - 228):
"وكان مالكٌ -فيما حَكَى ابنُ القاسمِ عنه- لا يُعجِبُهُ قَولُ يحيَى بنِ سعيدٍ هذا.
قال ابنُ عبد البَرِّ: أظنُّ ذلك -واللهُ أعلَمُ- من أجلِ قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بَينَ هَذَين وَقتٌ"، فَجَعَلَ أوَّلَ الوَقتِ وآخرَهُ وقتًا، ولَم يَقُل: إنَّ أوَّلَهُ أفضَلُ.
والذى يَصحُّ عِندِي من تركِ مالكٍ الإعجابَ بهذا الحديثِ؛ لأنَّ فيه: "وما فاتَهُ مِن وقتهَا أفضَلُ من أهلِهِ ومالِهِ -أو: أشدُّ عليه من ذَهَابِ أهلِهِ ومالِهِ-"، وهذَا اللَّفظُ قد ثَبتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال فيمَن فَاتَتهُ صلاةُ العصر فَوْتًا عند أهل العلم كُلِّيًا حتَّى يَخرُجَ وقتُهَا كلُّهُ، ولا يُدرِكُ منها
ركعةً قبلَ الغُروبِ.
وهذا المعنى يُعارِضُ ظاهرَ قولِهِ في هذا الحديث: "ومَا فاتَتهُ، ولما فاتَهُ مِن وقتِهَا"؛ لأنَّ قولَهُ "فَاتَهُ وَقتُهَا"، غيرُ قَولِهِ:"فاتَهُ من وقتِهَا".
فكأن مالكًا رحمه الله لم يَرَ أنَّ بين أوَّلِ الوَقتِ ووسطِهِ وآخرِهِ من الفضلِ ما يُشبهُ مُصِيبَةَ مَن فاتَه ذلك بمصيبة مَن ذَهَبَ أهلُهُ ومالُهُ؛ لأنَّ ذلك إنَّما وَرَدَ في ذَهاب الوقت كلِّه.
هذا عندي معنَى قولِ مالكٍ، واللهُ أعلم؛ لأنَّ في هذا الحدِيثِ أنَّ فواتَ بعضِ الوَقتِ كَفَوَاتِ الوقت كُلِّه، وهذا لا يقُولُهُ أحد من العُلماء، لا مَن فضَّل أوَّلَ الوقت على آخرِهِ، ولا من سوَّى بينهُما؛ لأنَّ فَوْتَ بعضِ الوَقتِ مُباحٌ، وفَوْتَ الوقتِ كُلِّه لا يجُوزُ، وفاعِلُهُ عاصٍ لله إذا تعمَّدَ ذلكَ، وليسَ كذلك مَن صَلَّى في وسطِ الوقتِ وآخِرِه، وإن كان مَن صَلَّى في أوَّل الوَقتِ أفضَلَ منه، وتدبَّرْ هذا تَجده كذلك إن شاء اللهُ" انتهَى كلامُهُ.
تمَّ بحمد الله تعالى
السِّفرُ الثَّالث من: "إسعاف اللَّبيث"
وهو آخِرُ الكِتابِ
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه
استِدرَاكاتٌ
بسم الله الرحمن الرحيم
استِدرَاكاتٌ
1 -
قلتُ في (1/ 85): "لم أقِف على تَرجَمةٍ لمَحمُود بن عبدِ الرَّحمن، ويَغلُب على ظَنِّي أنَّه مُصحَّفٌ". ثمَّ قلتُ: "تبيَّن أنَّه مُصحَّفٌ عن: مُحمَّد بن عبدِ الرَّحمن. وقد وثَّقه أبُو زُرعَةَ".
• قلتُ: لم يقع ثَمَّةَ تصحيفٌ، وإنَّما اختَلَفَ الرُّواةُ في اسمِهِ، فمِنهُم مَن سمَّاهُ: محمُودًا، ومنهُم مَن سمَّاهُ: مُحمَّدًا. وذَكَرَ ذلكَ الخطيبُ في "المُدرَج"(1/ 419 - 424).
وسَبَقَهُ البُخارِيُّ إلى ذِكرِ اختِلافِ الرُّواةِ فيه. فقال في "التَّاريخِ الكبيرِ"(1/ 148/1): "مُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن بن عمرِو بنِ الجَمُوح. عن جابرٍ: دُفِنَ سعدُ بنُ مُعاذٍ ونحنُ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالهُ: إبراهيمُ، وزيادٌ، وبَكْرٌ، عن ابنِ إسحاقَ. وقال يحيَى بنُ مُحمَّدٍ، عنْ ابنِ إسحاقَ: محمُود ابنُ عبدِ الرَّحمن".
وذَكَرَ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(5/ 373) محمَّدَ بنَ عبدِ الرَّحمن بن عمرِو بن الجَمُوح، وقال:"يروي عن: جابر بنِ عبدِ الله. روَى عنه: مُحمَّدُ بنُ إسحاقَ، عن مُعاذِ بنِ رفاعَةَ، عنه".
وفي "تعجيل المَنفَعَة"(1010) قال: "محمُودُ بنُ عبدِ الرَّحمن بن عمرِو بن الجَمُوح
…
-وذَكَرَ نَسَبَه، إلى أن قال:-
…
وأمَّا محمُودٌ، فجاءت الرِّوايَةُ عند ابنِ إسحاقَ من روايَتِهِ، عن مُعاذِ بنِ رِفاعَةَ. ومُعاذٌ
ضعيفٌ. روَى عن جابرٍ في دفنِ سعدِ بنِ مُعاذٍ. روَى عنه: مُعاذُ بنُ رفاعَةَ، فيه نظرٌ". هذا كلامُ الحُسَينِيِّ.
قال الحافظُ: "لم يَذكُرهُ البُخارِيُّ، ولا مَن تبِعَهُ، بل ذَكَرُوا: محمُودَ بنَ عبدِ الرَّحمن بنِ سعدِ بنِ مُعاذٍ، وذَكَر في الرُّواة عن:
…
مُحمَّد بن عبدِ الرَّحمن بن عمرِو بنِ الجَمُوح. فلعلَّةُ تحرَّف اسمُهُ، أو هُما أَخَوان".
• قلتُ: إنَّما هذا من اختِلافِ الرُّواة في اسمِهِ كما هو ظاهرٌ. ولا يَظهَرُ لي أنَّهما أَخَوَان. واللهُ أعلمُ.
يبقَى كلامُ الحُسَينِيِّ في "الإكمال"(825) في تضعيفِهِ لمُعاذِ بنِ رفاعةَ، فليس كما قالَ، وإنَّما هُو مُختلَفٌ فيه. فضعَّفه ابنُ مَعِينٍ، وقال الأَزْدِيُّ:"لا يُحتَجُّ به"، ووثَّقَهُ ابنُ حِبَّان، وقال أبُو داوُد:"ليس به بأسٌ". فإطلاقُ تضعِيفِهِ ليس بصوابٍ.
أمَّا محمُودُ بنُ عبدِ الرَّحمن بنِ عمرِو بنِ الجَمُوح، فقال الحُسَينِيُّ في "التَّذكِرة" (6486):"فيه نَظَرٌ". وقد ذَكَرنا اختلافَ الرُّواة في اسمِهِ، وأنَّ أبا زُرعةَ الرَّازيَّ وثَّقَهُ.
* * *
2 -
قلتُ في (1/ 267) عن الحديث رقم (64) أنَّ الخَلِيليَّ أخرَجَه، ولم أذكُر إسنادَهُ.
وقد أخرَجَهُ الخَلِيليُّ في "الإرشاد"(3/ 950) قال: حدَّثَنا أبي وجَماعةٌ، قالُوا: حدَّثَنا عليُّ بنُ إبراهِيمَ القطَّانُ، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ مُحمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ السَّاوِي بقزوِينَ، حدَّثَنِي أبي، حدَّثَنا مُحمَّدُ بنُ أميَّةَ، حدَّثَنا
نَوفَلُ بنُ سُلَيمانَ، عن عُبيدِ الله بنِ عُمر، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمر مرفُوعًا: "في بعضِ ما أنزَلَ اللهُ على أنبيائِهِ: ابنَ آدَمَ! أخلُقُكَ وأرزُقُكَ وَتَعبُدُ غيرِي!
…
".
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ شِبهُ المَوضُوع؛ ونَوفَلُ بنُ سُليمان ضعَّفَهُ أبُو حاتِمٍ والدَّارَقُطنِيُّ، وقال ابنُ عَدِيٍّ:"حدَّثَ عن ابنِ أُميَّةَ بأحادِيثَ غيرِ محفُوظةٍ، ويُشبِهُ أن يكون ضعيفًا".
وذَكَرَ له الحافظُ في "اللِّسان"(8/ 300 - 301) هذا الحديثَ عن "كتاب الخَلِيليِّ"، إشارَةً منه إلى أنَّه مِن مُنكَراتِهِ، وساقَ له حديثًا حَكَمَ عليه أبُو حاتِمٍ بالوضع، وآخَرَ موضُوعًا. فظاهر من هذا أنَّه هالكٌ.
واللهُ أعلمُ.
* * *
3 -
قلتُ في (1/ 438): "وأبُوَ يُوَسف الصَّيدلانِيُّ: ما عرفتُهُ".
وهو أحدُ الثِّقات. من رجال "التَّهذيب". من شُيوخ النَّسائِيِّ، وابنِ ماجَهْ. واسُمُه: مُحمَّدُ بنُ أحمد بنِ محمَّدِ بن الحَجَّاج بن مَيسَرَةَ الجزَرِيُّ. أحدُ حُفَّاظ أهل الجَزيرة ومتقنِيهِم.
* * *
4 -
وذكرتُ في (2/ 46) الحديثَ: "إنَّ العبدَ لَيُعالِجُ كُرَبَ الموتِ
…
"، ولم أذكُر له إسنادًا، إلَّا العزوَ إلى بعض كُتب الحديث.
وقد أخرَجَهُ السِّلَفِيُّ في "الطُّيورِيَّات"(301) من طريقِ الخَضِر بنِ أبانَ، قال: حدَّثَنا أبُو هُدبَةَ، عن أنسٍ مرفُوعًا.
وذَكَرتُ حالَ أبي هُدبَةَ.
والرَّاوِي عنه: الخَضِرُ بنُ أبانَ، قال الحاكمُ في "سُؤالاتِهِ" (268):"سمعتُ الدَّارَقُطنِيَّ يقولُ عن شُيُوخِهِ: إنَّهم رأوا الخَضِرَ بنَ أبان يروِي عن أبي مُعاوِية، وأبي بكرٍ بنِ عيَّاشٍ، والنَّاسِ من كتابه، فاستَلُّوه منه، فإذا هو سَمَاعُهُ من أحمد بن عبدِ الله بنِ يُونُس عن هؤلاء الشّيُوخ. ترك أحمدَ بنَ يُونُسَ من الوسط، وحدَّث عنهم".
وضعَّفَهُ الدَّارَقُطنِيُّ، كما نقله عنه الحاكمُ أيضًا (98).
* * *
5 -
وقلتُ في (2/ 78) عند الحديث (158) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى بعد الجُمعة في المسجد صلَّى أربعًا، وإذا صلَّى في بيتِهِ صلَّى ركعتين. فقلتُ:"لا أعلمُ له أصلًا".
وكان مَقصِدِي، والذي فهمتُهُ من سؤال السَّائل، أنَّ الرَّكعتين تكُونان عِوَضًا عن الأربعِ التي في المَسجد. أمَّا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي في بيتِهِ ركعتَين بعد الجُمعة فثابتٌ في "الصَّحيحين" وغيرهما. وقد خرَّجتُهُ في "غوث المَكدُود"(276)، و"تَعِلَّة المَفؤُود"(304).
* * *
6 -
ويُزادُ في آخر الحديث (173):
وثَبَتَ هذا الكلامُ عن بلال بنِ سعدٍ رحمه الله.
أخرَجَهُ الخَرَائِطِيُّ في "مَساوِئ الأخلاق"(425)، والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(7196 - طبع الهند) عن ابنِ المُبارَك -وهو في "الزُّهد"
(1350)
- ..
وأبُو نُعَيمٍ في "الحِلية"(5/ 222) عن أبي المُغيرَةَ ..
والبَيهَقِيُّ في "الشُّعَب"(7196) عن بِشر بن بكرٍ ..
والمِزِّيُّ في "التَّهذيب"(4/ 294) عن الوليد بنِ مُسلمٍ، قالُوا: ثنا الأوزَاعِيُّ، قال: سمعتُ بلالَ بنَ سعدٍ، يقوُلُ:"إنَّ المعصيةَ إذا خَفِيَت، لم تَضُرَّ إلَّا عامِلَها، وإذا أُظهِرَت ولم تُغيَّر، ضرَّت العامَّةُ".
وعند الخَرائِطِيِّ: "ضرَّت الخاصَّ والعامَّ".
وإسنادُهُ صحيحٌ.
* * *
7 -
وقلتُ في (3/ 29): "وأُمُّ كَثيرٍ الأنصارِيَّةُ: لم أعرِفها".
وأَزِيدُ هنا: قد رأيتُ لها ذِكرًا في "تاريخ واسط"(ص 70). ذَكَرَها بَحشَلُ من جُملة الرُّواة من النِّساء عن أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
ولا نَعرِفُ عنها شيئًا، إنَّما ذكرتُ هذا للفائدةِ.
واللهُ المُوفِّق.
* * *
8 -
وقلتُ في (3/ 92) عند الحديث (278) أنَّ ابنَ عساكر ذَكَرَه في "تاريخ دمشقَ" عن الحَسَن البَصرِيِّ مُرسَلًا.
وأزيدُ هنا: أنَّ أبا بكرٍ ابنَ العَرَبِيِّ ذَكَرَ في "أحكام القُرآن" في سورة الأنعام، عند قوله تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، قال: رَوَى المَنصُورُ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن ابنِ عبَّاسٍ
مرفُوعًا: "هِمَّةُ السُّفهاء الرِّوايةُ، وهِمَّةُ العُلماء الدِّراية".
وعَزَاهُ المَاوَردِيُّ في "أدب الدُّنيا والدِّين" إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومِثلُ هذه الأسانيد المُسَلسَلة بالخُلفاء والأُمراء لا تصِحُّ. وفيهم مَن ليس أهلًا أن يُروَى عنه.
واللهُ أعلم.
* * *
9 -
قلتُ في (3/ 237): "لولا أنَّ أبا رباحٍ شيخَ الثَّورِيِّ: ما عرَفتُهُ"، ثمَّ ذكرتُ احتمالَين في تعيِينه.
ثمَّ رأيتُهُ عند الدَّارِمِيِّ في "المُقدِّمة"(1/ 96) قال: حدَّثَنا قَبِيصَةُ، عن سُفيان، عن أبي رَباحٍ -شيخٍ من آلِ عُمر-، قال: رأى سعيدُ بنُ المسيَّب
…
فذَكَرَه.
وأخرَجَ الدُّولابِيُّ في "الكُنى"(1/ 177 - 178) قال: حدَّثنا العبَّاسُ ابنُ مُحمَّدٍ -وهذا في "تاريخِهِ"(3/ 276) -، قال: سألتُ يحيَى بنَ مَعِينٍ عن حديثِ سُفيانَ، عن أبي رَباحٍ، عن أبي عمرٍو الشَّيبَانِيِّ، قال: أتيتُ عبدَ الله -يعني: ابنَ مَسعُودٍ-
…
وساق كلامًا، قال العَبَّاسُ: فقلتُ له: "مَن أبُو الرَّباحِ؟ " قال: "كُوفِيٌّ".
وأخرَجَهُ الفَسَوِيُّ في "تارِيخِهِ"(3/ 83) قال: حدَّثَنا أبُو نُعيمٍ، وقَبِيصَةُ، قالا: ثنا سُفيانُ، عن أبي رَباحٍ -كوفيٌّ-، عن أبي عمرٍو الشَّيبانِيِّ ....
ويُشبِهُ أن يكون أبُو رباحٍ هذا هو: عبدُ الله بنُ رباحٍ، الذي تَرجَمَهُ
ابنُ أبي حاتِمٍ في "الجَرح والتَّعديل"(2/ 2/ 52) قال: "عبدُ الله بن رباحٍ، أبُو رباحٍ القُرَشِيُّ الكُوفيُّ. روَى عن: أبي عمرٍو الشَّيبَانِيِّ، ورِياحِ ابنِ الحارث. رَوَى عنه: مِسعَرٌ، والثَّورِيُّ"، ولم يَذكُر فيه شيئًا.
ورأيتُهُ في "التَّاريخ الكبير"(3/ 1/ 85) للبُخارِيِّ، وقال:"كنَّاهُ مُحمَّدُ بنُ يُوسُف، عن سُفيان، عن أبي رباحٍ، عن أبي عمرٍو".
وذَكَرهُ ابنُ حِبَّان في "الثِّقات"(7/ 34).
ويُؤيِّدُ هذا، أنَّ البُوصِيرِيَّ في "إتحاف الخِيَرَة"(2862) نقل عن "مُسنَد إسحاقَ بنِ راهَوَيه"، قال: أنبأنا يحيَى بنُ آدمَ، حدَّثَنا سُفيانُ، عن أبي رَباحٍ -وهو عبدُ الله بنُ رباحٍ-، عن أبي عمرٍو الشَّيبانِيِّ ....
فهذا يدُلُّ على أنَّ أبا رباحٍ الذي رَوَى عن سعيد بنِ المُسيَّب، هو عبدُ الله بنُ رباحٍ. ولم يُوثِّقه إلَّا ابنُ حِبَّان كما رأيتَ. واللهُ أعلمُ.
وقد وجدتُ لأَثَر سعيدِ بنِ المُسيَّب هذا إسناداً آخرَ.
أخرَجَهُ الخطيبُ في "الفقيه والمُتفقِّه"(387) من طريق أبي الأصبع القَرْقَسَانِيِّ، قال: نا مَخلَدُ بنُ مالكٍ الحَرَّانِيِّ، نا عطَّافُ بنُ خالدٍ، عن عبدِ الرَّحمن بنِ حَرمَلَة، أنَّ سعيد بن المُسيَّب نظر إلى رجُلٍ صلَّى بعد النِّداء مِن صلاة الصُّبح، فأكثر الصَّلاةَ، فَحَصَبَهُ، ثُمَّ قال:"إذا لم يكُن أحدُكُم يعلمُ، فليسأل. إنَّه لا صلاةَ بعد النِّداء إلَّا ركعتين"، -قال:- فانصَرَفَ، فقال:"يا أبا مُحمَّدٍ! أتَخشَى أن يُعذِّبَنِي اللهُ بكثرة الصَّلاة؟! "، قال:"بل أخشَى أن يُعذِّبك بتركِ السُّنَّة".
وإسنادُهُ حَسَنٌ. ورجالُهُ رجالُ "التَّهذيب"، حاشا أبا الأصبع،
واسمُهُ: مُحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمن بن كاملٍ الجزَرِيُّ القَرقَسَانِيُّ -بفتح القافين، بينهما راءٌ مُهمَلةٌ-. ترجَمَهُ أبُو أحمدَ الحاكمُ في "الكُنى" (2/ 32) وقال:"كنَّاه وسمَّاه لنا أبُو مُحمَّدٍ يحيَى بنُ مُحمَّد بنِ صاعدٍ" انتهى.
وذكره السَّمعانِيُّ في "الأنساب"(10/ 107) وقال: "كان ثقةً، حَسَنَ الحديث. تُوُفِّي سنة سبعٍ وثمانين ومئتين".
والحديثُ الذي اتَّكأ عليه ابنُ المُسيَّب في النَّهي أخرَجَهُ البَيهَقِيُّ (2/ 466) من طريق الحُسين بن حفصٍ، ثنا سفيانُ، ثنا عبدُ الرَّحمن بنُ حَرمَلَةَ، عن سعيدِ بنِ المُسيَّب، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بعد النِّداء إلَّا سجدتين".
وهذا مُرسَلٌ حَسَنُ الإسناد.
قال البيهَقِيُّ: "ورُوي موصُولًا بذِكرِ أبي هُريرَة فيه. ولا يصِحُّ وصلُهُ".
• قلت: وقد وَرَد موصُولًا عن بعض الصَّحابة. ولا يَصِحُّ منها شيءٌ.
واللهُ أعلمُ.
* * *
10 -
ووقع في (3/ 307): "إنَّها لَسائِمَةٌ على الأرض". وصوابُ اللَّفظة: "إنَّها لَسَائِحَةٌ
…
".
* * *
11 -
وقلتُ في (3/ 370): "ويُنظَرُ حال أبي حفصٍ الكِندِيِّ".
وأبُو حفصٍ هذا هو: أغلبُ بنُ تميمِ بنِ النُّعمان الكِندِيُّ. يُكنَى: أبا حفصٍ. تَرجَمَهُ ابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(1/ 406 - 407)، ونَقَلَ عن
ابنِ مَعِينٍ قال: "ليس بشيءٍ"، وعن البُخارِيِّ قال:"مُنكَرُ الحديث"، وخَتَمَ ابنُ عَدِيٍّ تَرجَمتَهُ بقوله:"عامَّةُ أحادِيثِهِ غيرُ محفُوظةٍ. وهو مِن جُملة من يُكتَبُ حديثُهُ"، وسائرُ العُلماء على تضعيفِهِ. فهو شبهُ المَترُوك.
واللهُ أعلمُ.
* * *
12 -
قلتُ في (3/ 385): "ولكنَّ الخوَّاصَ ما عرَفتُ مِن حالِهِ شيئًا". وهو من شُيُوخ ابنِ عَدِيٍّ كما رأيتَ.
وقد قال ابنُ عَدِيِّ (2/ 777) في ترجَمَة الحُسَين بن عليِّ بن الحسن أبي عليٍّ الفرَّاء: "سمعتُ مُحمَّد بن نَصرٍ الخوَّاص، وكان من عباد الله الصَّالحين".
وهذا الوصفُ لا يلزمُ منه توثِيقُهُ ولا قُبولُ حديثِهِ كما هو معلومٌ؛ إذ قد يُستَمطَرُ بدعاء الرَّجُل لصَلاحِهِ، ولا تُقبَلُ منه كلمة لسوء حِفظِهِ، أو شِدَّةِ غفلته.
واللهُ أعلمُ.
* * *
13 -
ويُزاد عند الحديث (341):
وعزاهُ السِّيُوطيُّ في "الجامع الصَّغير" للحاكمِ في "الكُنَى". وعنده: "ويُسكِّن الرَّوعَ" بدل "الدَّوخَة".
* * *
14 -
قلتُ في (3/ 408): "وداوُد بنُ الحَسن: لم أجد له ترجمةً".
فقد رأيتُ له حديثًا آخر.
يرويه أبُو إسحاق إبراهيمُ بنُ مُحمَّدٍ -الذي خرَّجتُ حديث التَّرجَمة من "فوائِدِهِ"، يرويه بذات الإسناد هنا. كما في "ذيل تاريخ بغداد"(4/ 29 - 30) لابنِ النَّجَّار-، عن أبي بكرٍ البالِسيِّ، قال: ثنا داوُد بن الحَسَن المَدِينِيُّ، ثنا المُبارَك بنُ فَضَالة، عن الحَسن، عن أنس بن مالكٍ مرفُوعًا:"رأيتُنِي على حوضٍ، فَوَرَدَتْ غنمٌ سُودٌ وبِيضٌ. فأوَّلتُ السُّودَ العَرَبَ، والعُفرَ العَجَمَ. فجاء أبُو بكرٍ فأخذ الدَّلو فنَزَعَ ذَنُوبُا أو ذَنُوبَين، وفي نَزعِهِ ضعفٌ، واللهُ يَغفِرُ له. ثُمَّ جاء عُمرُ، فملأ الحِياضَ وأروَى الوارِدَ".
وهذا حديثٌ مُنكَرٌ بهذا التَّمام من هذا الوَجه.
ويَظهَرُ أنَّها نُسخة يرويها أبُو إسحاق، عن البالِسِيِّ. واللهُ أعلمُ.
وقد رواهُ حُميدٌ الطَّويلُ وغيرُهُ، عن الحَسَن مُرسَلًا.
أخرَجَهُ أبُو يعلَى (904)، وابنُ أبي عاصِمٍ في "الآحاد والمَثانِي"(951). وهو عندهما وفي "مُسند أحمد"(5/ 455) عن أبي الطُّفيل عامر بن واثلة.
وفي إسنادِهِ عليُّ بن زيد بن جُدعَان، وهو ضعيفٌ.
واللهُ أعلمُ.
* * *
15 -
وقلتُ في (3/ 412): "والخُلقانِيُّ ما عرفتُهُ".
ورأيتُ الدَّارَقُطنيَّ قال في "العلل"(3/ 206): "والحُسَينُ الخُلقانِيُّ
ما نَسَبَهُ أحدٌ".
وإنَّما ذكرتُ هذا للفائدة، وإلَّا فهو كما قلتُ.
واللهُ أعلمُ.
* * *
16 -
وقلتُ في (3/ 446): "قال الحافظُ في "الفتح": إسنادُهُ لا بأس به".
يُزاد بعدها: وتبعه الصَّالحِيُّ في "سبُل الهُدى والرَّشاد"(11/ 182، و 19/ 71).
* * *
17 -
قلتُ في (3/ 451): "وَقُرَّةُ بنُ عيسى: لم أجد له ترجمةً إلَّا في "تاريخ واسط".
وقد ترجَمَهُ أيضًا ابنُ سعدٍ في "الطَّبقات"(7/ 314) وقال: "قُرَّة بن عيسى. وقد رَوى عن الأعمش" ولم يَزِد على ذلك.
* * *
18 -
قلتُ في (3/ 462): "لكِنِّي لم أعرف أباه بهرامَ بنَ يحيَى".
وقد ترجمه الحافظُ في "اللِّسان"(2/ 367) وقال: "بَهرامُ بنُ يَحيَى الكَشِّيُّ الخَزَّارُ الكُوفِيُّ. ذَكَرَهُ الطُّوسِيُّ في "رجال الشِّيعة" من الرُّواة عن جعفرٍ الصَّادق"، ولم يزد على ذلك. فالظَّاهر أنَّه مجهُولٌ.
واللهُ أعلم.