الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أنزل كتابًا غيرَ ذي عِوَج، وأرسل رسولَه بالبيِّنات والحُجَج، والصلاةُ والسلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومَن والاه إلى يوم الدِّين.
وبعد:
فإنَّ القرآن كتابُ الله المنزل ومنهجُه القويم، وهو المعجزةُ العُظْمَى والآيةُ الكُبرى إلى يوم الدِّين، مستمرًّا في التحدِّي على مرِّ السنين، ومبكِّتا بالحجة كلَّ المعاندين، آتياً مِن أساليبِ البَلَاغةِ بالعَجَبِ العُجَاب، راقياً مِن ذُرَى الفصاحةِ مَرْقًى لا يُجاب، تحدَّى العرب في أعظمِ شيءٍ بَرَعوا به، فإنَّ العربَ الذين بُعِثَ فيهمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كانوا قد بلَغوا مِن الفصاحةِ والبلاغةِ وأَفانينِ الكلام الغايةَ التي ظنُّوا أنْ ليس بعدَها غاية، فتحدَّاهم أوَّلاً أنْ يأتوا بمثْلهِ فقال:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]، فلمَّا عَجَزوا تحدَّاهم بعشرِ سورٍ فقال:{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13]، ثُم لمَّا ظَهرَ عَجزُهم تحدَّاهم بمقدارِ سورةٍ فقال:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] حتى أَعْجَزَ عن الإتيان بأقصر سورةٍ منه العربَ الفُصَحاء، وأَفْحَمَ مَن رام معارضتَه من البلغاء، فأطبق المعاندون على أن طوقَ البشر قاصِرٌ عن الإتيان بمثله.
فلا عَجَبَ أنْ تسابَقَ العلماءُ وتسارَع الفضلاء منذ فجر الدعوة إلى خدمته، وبيانِ ما دقَّ من معانيه، وفتح ما اسْتَغْلَقَ من مَبَانيه، فأَبدعوا في تفسيره الكثيرَ من المصنفات، التي كان بعضُها مطوَّلاتٍ شِبْهَ الموسوعات، وبعضُها موغلاً في الاختصار، ومنها ما أجاد وأفاد لكنْ قد شابَهُ شيءٌ من دَرَن الإسرائيليات أو دخَن الأفكار.
أمَّا هذا التفسير الذي بين أيدينا فكان وسطاً بين التفاسير بالتوسُّطِ بين الطُّولِ والقِصَر، مع نفي دَخَنَ تلك الفِكَر، وهو مع ذلك جامعٌ للفوائد، مشتمِلٌ على النكت والعوائد، بما أبدعتْهُ قريحةُ مؤلِّفه من الزوائد، وأَوْراهُ زنادُ فكره من الفرائد، هذا مع وضوحِ العبارةِ، وقوَّةِ التَّحريرِ وحُسنِ الإشارة.
وإنَّ الباحث في سيرورةِ مؤلِّفه العلَّامةِ الجليل ابنِ كمال الوزير ليجدُ عنايته الفائقةَ بتفسير القرآن الكريم، واهتمامَه البالغَ ببيان معانيهِ، والدلالةِ على مواطن الإعجاز فيه، فرسائلُه الكثيرة قد خصَّ التفسيرَ بقسطٍ منها كبير، وحتى التي ألَّفها في مسائل أخرى كالنحو مثلاً تجد جانباً كبيراً منها يتناول ما يتعلق بتلك المسألة في الآيات القرآنية.
والمؤلفُ رحمه الله يمكن اعتبارُه من أصحاب المدرسة الزمخشريَّة، التي كان أساسُها "الكشاف"، وكانت منطلَقاً لحركةٍ هائلةٍ في التأليف والتفسير، والتحشية والتعليق والتحرير، وليس تفسيرُ البيضاويِّ والنَّسفيّ، وأبي السُّعود والآلوسيّ، وغيرِها، ومعها مئاتُ الحواشي والتعليقات، سوى نتائج هذه المدرسة، عدا عن أن أكثر مَن جاء بعد الزمخشريِّ قد كان له تأثُّر بهذا التفسير وإن تفاوتت الدرجات، فالمتعمِّق في "بحر" أبي حيان مثلاً يجد تأثير "الكشاف"
فيه واضحاً، فلا تكاد تمر بصحيفةٍ إلا وتجد فيها ذكراً للزمخشري، إمَّا مُقِرًّا أو محسِّناً أو متعقِّباً، عدا عن كثير مما نقله عنه مختاراً لكن دون تصريحٍ به.
وقد بيَّن السيوطيُّ رحمه الله مكانة هذا الكتاب فقال: اشتَهر في الآفاق اشتهارَ الشمس، وجُهر به في محافل الفضلاء من غير همس، واعتنى الأئمةُ والمحقِّقون بالكتابة عليه، وتسارَع العلماء والفضلاء في المناقشة والمنافسة إليه، فمِن مميِّزٍ لاعتزالٍ حادَ فيه عن صَوْبِ الصَّواب، ومن مناقشٍ له فيما أتى به من وجوه الإعراب، ومن مُحَشٍّ وضَّح ونقَّح، وتمَّم ويمَّم، وفسَّر وقرَّر، وحبَّر وحرَّر، وجال وجاب، واستشكل وأجاب، ومن مخرِّج لأحاديثه عزا وأسند، وصحَّح وانتقد، ومن مختصرٍ لخَّص وأوجز، وكمَّل ما أَعْوز
(1)
.
قال: وسيِّد المختصرات منه كتاب "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للقاضي ناصر الدِّين البيضاويّ، لخَّصه فأجاد، وأتى بكلِّ مستَجاد، وماز منه أماكن الاعتزال، وطرح مواضعَ الدسائس وأزال، وحرَّر مُهِمَّات، واستدرك تَتِمَّات، فبرز كأنه سبيكةُ نُضَار، واشْتَهَرَ اشتهارَ الشمس في وسط النهار، وعَكَفَ عليه العاكفون، ولَهِجَ بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكبَّ عليه العلماء والفضلاء تدريساً ومطالعةً، وبادروا إلى تلقِّيه بالقبول رغبةً فيه ومسارعةً، ومرُّوا عليه طبقةً بعد طبقة، ودرجوا عليه من زمن مصنفه إلى زمن شيوخنا متَّسِقة
(2)
.
(1)
انظر: "نواهد الابكار"(1/ 8 - 9).
(2)
المصدر السابق (1/ 13).
فهذان التفسيران قد كانا أساساً لمدرسة في التفسير تعتمد الألفاظَ والتراكيب القرآنية أساساً، وتنطلق منها لبيانِ مواطنِ الإعجاز، واستنباطِ المعاني التي لا تظهر إلا لصاحب القريحة الوقَّادة، والعقل النيِّر، والعلم الغزير باللغة والنحو والمعاني وأساليب العرب في الكلام، وقد رسم معالم هذه المدرسة العلَّامة أبو السعود في خطبةِ "تفسيره"، حيث قسم التفاسير إلى قسمين:
الأول: منهج المتقدِّمين الذين اقتصروا على تمهيدِ المعاني، وتشييدِ المباني، وتبيينِ المرام، وترتيبِ الأحكام، حَسْبَما بلغهم من سيد الأنام.
والثاني: منهج المتأخِّرين المدقِّقين، الذين رامُوا مع ذلك إظهارَ مزاياه الرائقة، وإبداءَ خفاياه الفائقة؛ ليُعاين الناسُ دلائلَ إعجازه، ويشاهدوا شواهدَ فضله وامتيازه
…
، فدوَّنوا أسفاراً بارعة، جامعةً لفنون المحاسن الرائعة، يتضمَّن كلٌّ منها فوائدَ شريفةً تَقَرُّ بها عيون الأعيان، وعوائدَ لطيفةً يتشنَّف بها آذانُ الأذهان، لاسيما "الكشاف" و "أنوار التنزيل"، المتفرِّدان بالشأن الجليل والنعت الجميل، فإن كلًّا منهما قد أحرز قَصَبَ السَّبْق أيَّما إحراز، كأنه مرآةٌ لاجتلاءِ وجهِ الإعجاز
(1)
.
وإذا عُرِفَ أنَّ للمؤلِّفِ رحمه الله حاشيةً على كلِّ واحدٍ من التَّفسيرينِ المذكورَينِ، ثم توَّج ذلك بتفسيره المبارك هذا، مروراً بعشرات الرسائل التي تناولت المعاني القرآنية والملامح الإعجازية، والتي كان من أهم معالمها
(1)
انظر: "تفسير أبي السعود"(1/ 4).
تناوُلُ ما جاء في التفسيرين المذكورين، وما جادت به أكفُّ المحققين من أصحاب الحواشي عليهما؛ كالعلَّامةِ القزوينيِّ، والسعد التَّفتازانيِّ، والشَّريفِ الجُرْجانيِّ، وغيرِهم، ومناقشةُ ما حرَّروه، وتلوينُه بفكره الوقَّاد، مع زيادات كثيرةٍ وترجيحاتٍ وردود، فعند ذلك يتَبيَّن حقيقةُ هذا التفسير ومكانتُه التي يستحقُّها بين التفاسير.
لكن لا بدَّ هنا من التنبيه على حقيقةٍ مهمَّة، وهي أن هذه الطريقة في التفسير ليست بديلاً عن التفسير بالمأثور عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وتابعيهم، بل هي حاجةٌ لمحها المتأخِّرون للعودة بالمسلمين في تعاملهم مع الكتاب الكريم إلى العصر الأول، عصرِ البلاغة والفصاحة، والذين كانوا يفهمون القرآن بالفطرة، لكنْ لما توسَّعتْ رقعة الإسلام، ودانَ به كثيرٌ من غير العرب، واختَلَطَ الحابِلُ بالنَّابِل، وامتَزجَ العربُ بالعجَم، وبَعُدَ بالناس العهد، وتغلغلت ألسنة العجم والكُرد، حتى صارَ كثيرٌ مما في الكتاب خارِجاً عن المألُوف، وأسلُوبهُ في البيانِ غيرَ مُستَوعَبٍ ولا معروف، رام علماءُ البيان بيانَ إعجاز هذا القرآن، فاخترعوا علمَ البلاغة والمعاني، ليكون أَوْصَلَ إلى معرفة التراكيب والمباني، وأَيْسرَ لفهم مَن مِن أجل ذاك يعاني، وبها تدرَك وجوه الإعجاز، ويزول بفهمها كلُّ غموضٍ أو إلغاز.
ولله درُّ أبي السعود، فقد لخَّص كلَّ ما ذكرناه، بكلمة واحدة في قوله الذي نقلناه، حيث قال في وصف منهج المتأخرين:(الذين راموا مع ذلك إظهارَ مزاياه الرائقة .. )، فانظر إلى قوله:(مع ذلك) وقارنه بقوله قبله في وصف المتقدِّمين: (الذين اقتصروا على تمهيدِ المعاني .. )، يظهر لك حقيقة ما أوضحناه، وأن
المنهجين كلٌّ منهما مكمِّل للآخر وليس بديلاً عنه، وأن ما أبدعه الأواخرُ ليس إلا متابعةً لما أسَّسه الأوائل.
ولعل من غرائب التقادير أنَّ الذين انبرَوا للقيام بهذه المهمَّة، وانتدَبوا لتحقيق ذاك المرام، فألَّفوا في مباحث إعجاز القرآن المصنفات، وأبدَعوا في تقعيد علم البلاغة الأمَّهات، كان معظمهم أعجميَّ النسب، وليس من أبناء العرب.
فمؤسِّس علمِ البلاغة وهو أبو بكر عبد القاهر بنُ عبد الرحمن بنِ محمد، مصنِّف "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة"، فارسيُّ الأصل، جُرْجانيُّ الدار، وكانت قد تناثرت كتابات الناس في هذا الفن قبله؛ ولكنها على كثرتها لا تعدُّ شيئًا بجانب ما صنف، فصار يُنسب إليه وحده تأسيسُ هذا العلم وإقامةُ بنيانه، لمَّا كانت له اليد الطولى في ضبطه ونصبِ فسطاطه.
وأمَّا أبو القاسم محمود بنُ عمر بنِ أحمد الزمخشريُّ جارُ الله، صاحبُ "الكشاف" و "أساس البلاغة"، فهو قد ولد بزَمَخْشَرَ من ضواحي خُوارزم، وتوفِّي بقصبة خوارزم، وإن كان قد جاور بمكةَ زمانًا، حتى سمي: جار الله، وأصبح هذا الاسم علمًا عليه.
وكذا يوسف بن أبي بكرٍ محمدِ بن عليٍّ السكَّاكيُّ الخوارزميُّ الحنفيُّ أبو يعقوب، صاحب "مفتاح العلوم"، ولد وتوفِّي بخوارزم.
ومحمد بن عبد الرحمن القزوينيُّ الشافعيُّ صاحب: "الإيضاح في علوم البلاغة" والذي يعدُّ من أوفى الكتب في بحوث البلاغة وأوضحها نظامًا وأسلوبًا أصله من قزوين، وإن كان مولده بالموصل.
ولعل ما يفسر هذا الأمر هو أنهم عاينوا أكثر من غيرهم بعد الناس عن فهم كتاب الله والعيش في ظلاله كما كان عليه الأولون.
وثمة ملاحظة أخرى يجب التنبيه عليها قبل الدخول في الكتاب، وهي أن بيان النِّكات البلاغيَّة والإشارات الخفيَّة في القرآن لم يكن مقتصراً على الزمخشري والبيضاوي، بل إن كل واحد ممن صنف في هذا الفن قد كان له إضافات حسنة تستحق الوقوف عندها، ومنهم المؤلفُ رحمه الله، الذي أبدع الكثير من الاستنباطات التي لم ينتبه إليها الآخرون، كما سيظهر جليًّا لمن يُبحر في هذا السفر الكريم.
وهذا الذي ذكرناه هو تمهيدٌ لا بد منه للدخول في التعريف بهذا الكتاب المفيد والتفسير الفريد، الذي تعمَّق مؤلِّفه في كتب البلاغة، كما يشهدُ لذلك رسائلُه الكثيرة المؤلَّفة في هذا الشأن، كما درَس وتفهَّم كتب التفاسير وخصوصاً "الكشاف" و "البيضاوي" وحواشيهِما كما تقدم وسيأتي في هذه الدراسة، حتى جادت قريحتُه بهذا التصنيف الماتع، وخطَّت يراعُه هذا التفسيرَ الرائع، وسوف نقوم في هذه المقدِّمة بدراسة هذا التفسير من خلال الموضوعات التالية:
أولًا: تأكيد نسبة الكتاب لمؤلفه.
ثانيًا: مصادر نقلت عن هذا التفسير.
ثالثًا: بيان خصائص هذا التفسير وميزاته التي تميز بها عن غيره من التفاسير.
رابعاً: بيان منهج المؤلف الذي سلكه في تأليف تفسيره.
وهذا هو البحث الأهم في هذه المقدمة، ونتناول فيه:
- مصادرُه التي اعتَمد عليها وكيفيَّةُ إفادته منها، وخصوصاً "الكشاف" و "تفسير البيضاوي"، ويتضمَّن بيانَ أسلوبه في الردود والتعقُّبات.
- تفسير القرآن بالقرآن في هذا الكتاب.
- التفسير بالمأثور فيه.
- عقيدته وردوده على المذاهب الفاسدة.
- موقفه من التأويل في المتشابهات.
- منهجه في النحو.
- منهجه في الفقه.
- منهجه في القراءات.
- تعامله مع الإسرائيليات.
- ما جاء فيه من لطائف الإشارات.
خامسًا: المآخذ التي يمكن أن تذكر عليه.
سادساً: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وما يتعلق بها.
سابعاً: عملنا في الكتاب.
ثم سأفرد في نهاية الدراسة ترجمةً للعلامة ابن كمال باشا رحمه الله تعالى.
ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا في هذا إلى رسم الصورة الحقيقية لهذا التفسير، وبيان مكانته التي يستحقُّها بين التفاسير.
وأسأل الله أن يتقبل عملنا هذا، وأن ينفعنا به وأهل العلم أجمعين، ولا أنسى أن أقدم شكري الكبير إلى دار اللباب للدراساتِ وتحقيق التراث والتي ساهمَ فريقها العلمي في نشر هذا الكتاب نسخًا ومقابلةً وإخراجًا، وقامت الدارُ مشكورةً بتوفير النُّسخِ الخطيِّة لهذا الكتابِ، فالله وحده يجزيهم ويثيبهم على حسنِ صنيعِهم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
* * *
أولًا: تأكيد نسبة الكتاب إلى المؤلف
لا شكَّ في نسبة هذا التفسير للعلَّامة ابنِ كمال باشا، حيث أشار لذلك ونبَّه عليه كثيرٌ ممن ترجمه أو نقل عنه:
ففي "الشَّقائق النعمانية": وله من التصانيف تفسيرٌ لطيفٌ حسنٌ قريبٌ من التَّمام، وقد اخترمتْه المنيَّة ولم يُكمله
(1)
.
وذكر العبارة نفسَها الغزِّي في "الكواكب السائرة"
(2)
.
وفي "كشف الظنون": "تفسير ابن كمال باشا" أحمد بن سليمان بن كمال، بلغ فيه إلى سورة الصافات، وهو تفسيرٌ لطيف فيه تحقيقاتٌ شريفة، وتصرُّفات عجيبة
(3)
.
وفي "شَذَرات الذهب": العلَّامة الأوحد، المحقِّق الفهَّامة، صاحبُ التفسير
(4)
.
* * *
(1)
انظر: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 227).
(2)
انظر: "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" لنجم الدين الغزي (2/ 108).
(3)
انظر: "كشف الظنون"(1/ 439).
(4)
انظر: "شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 335).
ثانيًا: مصادر نقلت عن هذا التفسير
وقد نقل عنه جمع من كبار العلماء، وفي نقولهم زيادة تأكيد في نسبة الكتاب للمؤلف، فممن نقل عنه العلَّامة الآلوسيُّ في "روح المعاني" في كثير من المواضع، مع التصريح أحيانًا بأن النقل من "تفسير ابن كمال باشا"، كقوله في تفسير قوله تعالى:{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50]: وذكر ابن كمال في "تفسيره" لبيان الموصول صفية وجُوَيْريَة
(1)
.
وكذا نقل عنه الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي المسماة: "عناية القاضي وكفاية الراضي"، لكن يلاحظ في نقله عدة أمور:
منها: أنه لم يعين المؤلف بالاسم ولا تفسيره لكن من الواضح أن النقل من التفسير، هذا مع العلم أنه قد نقل عنه من كتب أخرى وسماه.
ومنها: أن الغالب في نقله عنه أنه ينقلُه ليردَّه ويدافعَ عن البيضاوي فيما ذهب إليه، فمن الأمثلة على ما ذكرناه:
ما جاء في تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212] قال المؤلف: (وقراءةُ (زيَّن) على البناء للفاعل و (الحياةُ) بالنصب
(2)
على الإسناد المجازيِّ، فإنه تعالى أمهَل المزيَّن له فجَعل إمهاله تزييناً، أو زَّينها حتى استحسَنوها وأحبُّوها، ومَن قال: المزيِّن في الحقيقةِ هو الله تعالى إذ ما من شيءٍ إلا وهو فاعلُه، أخطأ في المدَّعى وما أصاب في الدليل
…
). ثم بيَّن كلَّ واحد منهما.
(1)
انظر: "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"(21/ 386).
(2)
وهي قراءة شاذة كما سيأتي في مكانه.
وهذا الكلام تعقَّب المؤلف فيه البيضاويَّ حيث قال في "تفسيره": والمزيِّن في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، وَيدلُّ عليه قراءة (زَيَّنَ) على البناء للفاعل.
وقد نقل الشهاب في الحاشية كلام المؤلف بحرفه تقريباً ثم رده بقوله: وهذا كله من عدم التأمل؛ لأن الله تعالى نسب التزيين إلى نفسه في مواضعَ؛ كقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] وفي مواضعَ إلى الشيطان كقوله: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] وفي مواضع ذكَره غيرَ مسمًّى فاعله كما هنا، فالتزيين إن كان بمعنى إيجادها وإبداعها ذاتَ زينة كما في قوله تعالى:{زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] فلا شك أنّ فاعله هو الله عند النحويين والمتكلمين، وإن كان بمعنى التحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كقوله تعالى:{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر: 39] فلا شك أنَّ فاعله عندهما الشيطان
…
) إلى آخر ما قال
(1)
.
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} فقد ذكر المؤلف في تفسيرها كلامًا نقله كلٌّ من الشهاب والآلوسي، وقد عزاه الآلوسي لبعض الأجلَّة، وبينما أطال الشهاب في تعقُّبه، اقتصر الآلوسي على القول:(وفيه ما فيه، فتأمل)
(2)
.
وإياه أراد الآلوسي بقوله عند تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ
(1)
انظر: "حاشية الشهاب"(2/ 298).
(2)
انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 164)، و "روح المعاني"(21/ 224).
فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16]: وقال بعض الكاملين: إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" يعني: بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب
(1)
.
فإن قائل ذلك هو المؤلف قاله عند تفسير الآية المذكورة.
* * *
(1)
انظر: "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"(3/ 405).
ثالثًا: بيان خصائص هذا التفسير التي تَميَّز بها عن غيره من التفاسير
يعدُّ العلامة المؤلِّف لهذا التفسير من كبار علماء عصره، وقد ألمَّ بجميع الفنون وصنَّف فيها، حتى قيل في وصفه: قلَّما يوجد فنٌّ من الفنون وليس لابن كمال باشا مصنَّفٌ فيه
(1)
، أضف إلى ذلك أنه من المتأخرين الذين قد اطَّلعوا على قسطٍ كبير من التراث الإسلامي العظيم، ودرسوا كلَّ ما وصل إليهم من تفاسير وأقوالٍ لمن سبقهم من العلماء، هذا مع ما ذكرنا عنه من العناية الفائقة بتفسير القرآن الكريم، فجاء هذا التفسير خلاصةً لما أنتجه فكر هذا العلامة، فإنه كان من أواخر مؤلفاته، حيث اخترمَتْه المنية قبل إتمامه كما تقدم، فلا شك أنه قد اجتمع فيه من الخصائص ما يَندر أن يجتمع في غيره، وقد أشار لهذا مَن ذكروا تفسيره ممن تقدَّم نقلُ كلامهم، وسنذكر بعض هذه الخصائص التي لمسناها من خلال تحقيق هذا السفر الكريم، فأول هذه الخصائص:
1 - المنهج الذي اعتمده المؤلف وسار عليه في الكتاب كلِّه:
وهو المنهجُ الذي يعتمد على استيعاب فكرِ أئمَّةِ النحوِ وأبحاثِ كتبِ المعاني والدراساتِ البلاغيَّةِ، ثُمَّ استعمالِ ذلك والإفادةِ منهُ لإبرازِ خصائصِ التَّعبيرِ القرآنيِّ المعجِزِ وبيانِ مَعانيهِ.
فهو إذاً تفسير يدلُّك على مواطن الإعجاز ومعالم البلاغة في كتاب الله، من خلال الغوصِ في أعماق المعاني، والبحثِ في مدلولات الألفاظ، وليس
(1)
انظر: "الأعلام"(1/ 133).
مجرَّدَ تفسير يشرح المفردات والجمل، وينقل ما جاء فيها من المأثور والأقوال، بل يعلِّم القارئ لكتاب الله كيف يتفكَّر، ويقف عند كلِّ لفظ ويتدبَّر، ويستنبط من كلِّ عبارة، باحثاً فيها ومقارناً بين معانيها، ومنقِّراً - عند اتحاد الموضوع - عن سبب الاختلاف بين لفظٍ وآخَر، أو بين جملةٍ وقرينتها.
وبمعنًى آخَر هو تفسيرٌ يجعل القارئ لكتاب الله يقرأ بعيون الجيل الأول، ويفهم المعاني كما فهموها، ويتدبَّر الإشارات والدلالات كما تدبَّروها، ويتلمَّس عظمة هذا الكتاب كما تلمسوها، فيعيشُ في ظلاله كما عاشوا، ويغوصُ في أعماقه كما غاصوا، ويسترشد به كما استرشَدوا، فيزداد به إيماناً، وبدِينه يقيناً، بعد أن رأى وفهم، ولمس وعلم، أعظم معجزة أوتيها نبي هذه الأمة.
ومن الأساليب التي اتَّبعها المؤلف للوصول إلى هذا الغرض: التنبيهُ على الحكمة من استعمال لفظ دون آخر، أو تقديم لفظ على آخر، أو الاقتصار على لفظ دون غيره، وقد جمع كل ذلك في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء: 74] فمَن منا لم يقرأ هذه الآية مئات المرات، ولم يَفهم - إن كان قد فهم - من قوله تعالى:{فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} أكثر من النصر أو الشهادة، لكن انظر ما ذكر المؤلف فيها، حيث قال: (لم يقل: فيُغلَبْ أو يَغلِبْ؛ إذ حينئذٍ يندرج في الأول الفارُّ من الزحف ولا أجر له، ولم يقل: فيُقتَلْ أو يَقتُلْ؛ للتنبيه على أنه يستحِقُّ الأجر بالغلبة قُتِلَ أو لم يُقتَلْ، وعلى أن حقَّه أن لا يَقصد بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحقِّ وإعزازِ الدِّين، وتقديمُ الأول للدلالة على أنه أولى وأحقُّ بالأجر، والاقتصارُ
عليهما للتنبيه على أن حقَّ المجاهد أن يَثبت في المعركة ولا يَفِرَّ حتى يُعِزَّ نفسه بالشَّهادة أو الدِّينَ بالظَّفَر والغلبة).
وقريبٌ من هذا تنبيهُه على استعمال لفظِ الربِّ دون غيره في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] حيث قال: (وفي عبارة الربِّ إيماءٌ إلى أنه تعالى يُربِّي عبدَه بفضله بلا توقُّفٍ على كسبه، كيف وقد ربَّاه وهو جنين؟ فحقُّه أن لا يتجاوز في طلب المكسبِ عن حدِّ الرُّخصة).
وعكسه: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف: 14] قال: (لم يقل: (ربًا) لأنَّ جهة توحُّده تعالى ألوهيَّةٌ لا ربوبيَّة).
ومن محاسن تنبيهاته تنبيهُه على الحكمة من النداء بـ {يَابَنِي آدَمَ} في قصة إبليس مع آدم، حيث قال:(لا يخفى على الفطِن ما في هذا التعبير من الإشارة إلى أنهم مَظِنَّة الافتتان لكونهم ذريةُ من افتتن).
ومن ذلك قوله: (قال في صفةِ الحور: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] وفي صفة الولدان: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23]، وأشار بذلك إلى أن الحور للصحبة دون الولدان؛ لأنَّ اللؤلؤ للنَّظر لا للذَّوق، والبَيض لهما).
ومن أحسن الأمثلة على هذا المنهج قولُه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ: (وإيلاءُ الضمير حرفَ النفي لتقويةِ الحكم وتأكيدِه، كما في قولِه تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وتقديمُ:{عَلَيْنَا} لمحافظةِ الفاصلةِ، وزيادةُ الباء في {بِعَزِيزٍ} لتأكيد النفيِ، وتنكيرُه للتقليلِ؛ أي: ليسَ لك علينا شيءٌ من جنس العزةِ).
فكيف استنبط من عبارة مؤلفة من أربع كلمات أربعَ حكمٍ وتعليلات، بكلام مقتضب واضح لا إخلال فيه ولا غموض، ولا شك أن ذلك نابع من اليقين بأن كتاب الله هو الكلام المعجز الذي ليس فيه حشوٌ ولا تطويل.
ومنه قوله: ({الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] الإسراء: سير الليل خاصَّة، فقوله: {لَيْلًا} لقَطْع مجاز السير خُفيةً، كما أنَّ قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} بعدَ قوله: {وَلَا طَائِرٍ} [الأنعام: 38] لقطع مجاز السَّير السَّريع).
ومن الاستنباطات من الألفاظ ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] قال: ({فَإِذَا هُمْ}: فاجَؤوا الحُصولَ {بِالسَّاهِرَةِ}؛ أي: وَجهِ الأرْضِ، فالعَربُ تسمي وَجهَ الأرضِ مِن الفَلاة: سَاهرةً؛ أي: ذاتَ سَهرٍ؛ لأنَّه يُسهَر فيها خَوفاً؛ وفيهِ إشارةٌ إلى حصولهم فيها أحياءً).
وفي تفسير {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا} [آل عمران: 100] قال: (والتعبيرُ عن شاسٍ ومَن أعانه فيهِ بالفريقِ يناسبُ قصدَهم إيقاعَ التفرقة بين جمعِ المؤمنين).
وقال في قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]: (أصبح) أصلُه: دخلَ في الصباحِ، ثمَّ أُطلِقَ على الصيرورة أيَّ وقتٍ كان، ففيه باعتبارِ أصلهِ دلالةٌ على خروجهم مِن ظلماتِ الضلالة إلى نور الهداية).
ومنه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] قال: (وإنما قال: {لَهُمْ} تنبيهاً على غاية حماقتهم، حيث عبدوا ما يملكونه).
وكذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
(94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 94 - 95] قال: (لفظة {ثُمَّ} للدلالة على امتداد تلك الحالة، ويؤيده ما في عبارة المكان من الإشعار بالتمكُّن).
ومنه: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف: 136] قال: (في عبارة الانتقام دلالةٌ على أنَّهم أهلكوا بعذابٍ شديدٍ).
ومنها {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} [يس: 57] قال: (عبَّر عن كلِّ ما يُرزقون فيها بالفاكهة؛ للتنبيه على أنَّهم مستغنُون عن حفظِ الصحةِ بالأقوات، بأنَّهم أجسامٌ محكمةٌ مخلوقةٌ للأبد، فكلُّ ما يأكلونه على سبيل التلذُّذ).
ومن ذلك: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73] قال: (والعدولُ عن مقتضَى ظاهرِ السياقِ - وهو: المكذِّبينَ - إلى {الْمُنْذَرِينَ} للتنبيهِ على أن التكذيبَ إنما يستوجِبُ نزولَ العذابِ إذا كان بعدَ الإنذارِ، فاعتبِر هذا اللطفَ، وذُق لطفَ هذا الاعتبارِ).
ومن استنباطاته الحسنة ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قال: (هذا السؤال والذي سبق يدلَّان على أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرةَ، فإنهم لو ماتوا كافرين لكان التوبيخُ على كفرهم).
ونحو ذلك: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] قال: (أقحمَ القلبَ - والمعنى: عليكَ - لأنَّه محلُّ الوحيِ والتَّثبيت، وليُعْلَمَ أنَّ المنزَلَ محفوظٌ
عن المخالطة والمغالطة؛ لوصوله إلى القلب بالذَّات، لا بواسطة الصَّوت وآلة السَّمع، فافهم هذا السِّرَّ الدَّقيقَ).
والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، وسيرد الكثير منها في المواضع الأخرى من هذا البحث.
2 - ومما تميز به هذا التفسير الاختصار والإيجاز اللذين اتسم بهما في جميع المسائل التي يتناولها:
فقد كان واضحاً أن المؤلف قد تعمَّد عدم الإطالة في تفسيره هذا، مع أنه رجلٌ طويل النفَس واسع المعرفة كما يظهر من كتبه ورسائله، لكنه أراد هنا التركيز على الموضوع الأساسي من هذا التفسير، وهو ما فصَّلناه في البند السابق، فإن التطويل قد يضيِّع الفائدة ويقلِّل الاهتمام.
فلا نجده في مسائل النحو مثلاً والإعراب يبالغ في سرد الوجوه أو الإطالة فيها، ولا يتصدَّى للردِّ على فلان، وتفنيدِ قولِ فلان، وتحسين قولِ آخَرَ، والرجوعِ إلى أصول المسائل النَّحوية وتفريعاتها، وعرضِ إشكالاتها، كما نجد ذلك في "البحر المحيط" مثلاً، لكنه مع ذلك لا يهمل ما فيها من أقوال وجيهة، فيعرضُها بدقَّة ووضوح مع الإيجاز غيرِ المخِلِّ.
وكذا في المسائل الفقهية قد يتعرَّض لبعض الآيات التي كانت مداراً لاستدلالات الأئمة المجتهدين، أو سبباً لاختلافهم حَسَب استنباطهم، ولعل من أسبابِ ذلك التنبيهَ على كون هذه الآية لها موقعٌ كبير في كتب الفقهاء، أو الرد على استدلال بالآية في غير مكانه، فيَعْرِض لِمَا استنبطه كلُّ مجتهد منها
في قالب من الإيجاز وعدم التطويل، ولا يذهب مشرِّقاً ومغرِّباً في عرض كل ما يتعلق بها، بل وما له صلة بما يتعلق بها، وباحثاً في الأحكام الفقهية والاختلافات المذهبية البعيدة عنها والقريبة، لمجرَّد أنها ذكرت حكماً فقهيًّا معيَّناً، ولا ناقلاً ما جادت به كتب التفسير والفقه والأصول، لمجرَّد ذكر مسألة فقهيةٍ في الآية، كما يلاحظ في "تفسير القرطبي" مثلاً.
وكذا في المسائل العَقَدية والمذهبية لا يفعل كما فعل الفخر الرازي رحمه الله من عرض الشُّبه والردود مع الإطالة التي تضيِّع القارئ، فلا يدري هل يقرأ تفسيراً أم كتابًا في علم الكلام.
وحتى المواضيع التي تتعلق بالآية والأقوال التي قيلت فيها ليس مَعنيًّا - كما فَعل الَالوسيُّ مثلاً - بعرضها والاستفاضة فيها، وفتح حلقةِ نقاشٍ تذكر فيها الأقوال، ثم ما قيل عليها من تعقبات، ثم ما جاء في الإجابة على تلك التعقبات، ثم الردود على الإجابات، ثم الإيراد على الردود، إلى آخر تلك السلسلة، التي وإن كان فيها تفصيل للمسألة وإشباع البحث فيها لكنها ليست هي مراد المؤلف، بل مراده ما تقدم ذكره مما قد أوضحنا بيانه.
ومن مظاهر الاختصار في هذا الكتاب أنه لا يُكثر من ذكر الأعلام أو المراجع، مع احتوائه على نسبةٍ كبيرة من كلامِ مَن سبَقه من الأعلام، لكنْ لعله - والله أعلم - أراد المبالغة في العناية بغاية الكتاب التي قدَّمناها، فأهملَ كلَّ ما عدَاها؛ اختصاراً واقتصاراً على بيان الفائدة دون الحاجة إلى بيان القائل، وحتى الردودُ والتعقُّبات الكثيرة التي حفل بها الكتاب كغيره من مؤلفاته تجدُه لا يُعنى
فيها بالتفصيلات؛ من ذكر القائل، ثم نقلِ قوله، ثم ذكر الردِّ عليه، بل يتجه مباشرة صوبَ الردِّ بكلمات مقتضَبة لكنها كافيةٌ في أداء الغرض، والأمثلة على ما ذكرناه أكثر من تحصى، وسنسوق - إن شاء اللهُ - الكثير منها عند بيان طريقته في التعامل مع الزمخشري والبيضاوي.
3 - ولعل من أهم ما تميز به هذا التفسير:
أنه تنزه عن متابعة ما تناثر في "الكشاف" من دسائس الاعتزال، وبعض الإساءات الناشئة عن شدة الاعتداد والاختيال، ولم يقع فيها كما وقع غيره من كبار الأئمة كالبيضاوي رحمه الله.
فمن ذلك قول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]: كناية عن الجناية؛ لأن العفو رادف لها، ومعناها: أخطأت وبئس ما فعلت.
فتابعه البيضاوي قائلاً: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} كناية عن خطئه في الإذن، فإن العفو من روادفه.
في حين قال المؤلف في تفسيرها: (ولا يخفى ما في تقديم العفو على ذِكْرِ ما يُوْهِمُ العِتاب من تعظيم شأنه عليه السلام، والتنبيه على لطف مكانه، ومَن لم يتنبَّه لذلك قال: إنَّه كناية عن الجناية، ومعناه: أخطأْتَ وبئسَ ما فعلْتَ. ثم إنه لم يدرِ أنَّ الإذن المذكور مِن قَبِيل الخطأ في الاجتهاد، فهو مظنَّة الثَّواب لا العقاب، والله تعالى أعلم بالصواب).
ومعروف عن الزمخشري رده لبعض القراءات المتواترة كقراءة حمزة:
{وَالْأَرْحَامَ} بالجر، فقال: (والجر على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد
…
).
وقال البيضاوي متابعاً: (وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وهو ضعيف لأنَّه كبعض الكلمة).
وقد شنع العلماء ومنهم أبو حيان في "البحر المحيط" على الزمخشري وغيرِه ممَّن ردَّ هذه القراءة، مع أنها متواترة، وصحيحة على قول الكوفيين، وهو الصحيح في هذه المسألة كما قال أبو حيان.
وكذا فعل المؤلف مثبتاً للقراءة، ومعرِّضا في آخر كلامه بالزمخشري، فقال:(وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وما ذهب إليه البصريون من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجارِّ، والضعفِ في إضماره، يردُّه هذه القراءةُ الثابتة بالتواتر، فإنها مما يُحتج به لا مما يُحتج عليه، إلا عند مَن لا اعتماد له على القراءات الثابتة ولا اعتداد لزعمه الفاسد).
كما أنه نزَّه كتابه عمَّا وقع فيه البيضاويُّ من ذكر الأحاديث الموضوعة في فضل السُّوَر عند نهاية كلِّ سورة، مما نبَّه على وضعه العلماء.
وكان للزمخشريِّ بالمرصاد في تفسير قوله تعالى: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] فقال: (أي: بل أتسمُّونهم شركاءَ بمجرد ظاهر القول، وإطلاق لفظة الشركاء أو الآلهة من غير أن يكون لذلك معنًى وحقيقةٌ من الألوهية والمشارَكة؛ كقوله:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف: 40]،
وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها منادٍ على نفسه بلسانٍ طَلْقٍ ذَلِقِ أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأَنصف مِن نفسه، ومَن زاد على هذا قولَه:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فقد أتى بكلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل، يدندنُ بها مَن هو عن حِليَة الإنصاف عاطل).
معرِّضاً بالزمخشري القائل: وهذا الاحتجاجُ وأساليبه العجيبة التي ورد عليها منادٍ على نفسه بلسان طلقٍ ذلقٍ أنه ليس من كلام البشر لمن عَرف وأَنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد تعقَّبه ابن المنير أيضًا بقوله: هذه الخاتمة كلمةُ حقٍّ أراد بها باطلاً؛ لأنَّه يُعرِّض فيها بخلق القرآن، فتَنبَّهْ لها، وما أسرعَ المُطالعَ لهذا الفصل أن يمرَّ على لسانه وقلبه ويستحسنَه وهو غافلٌ عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ، والله أعلم.
كما شنَّع على الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] فقال: (وأصلُ الرجمِ: الرميُ بالحجارة، وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ما من مولودٍ يولد إلا والشيطانُ يمسُّهُ حينَ يولدُ فيستهِلُّ مِن مسِّهِ، إلا مريمَ وابنَها".
والحديثُ مذكورٌ في الصحيحينِ، ولا صارفَ عن ظاهرِهِ، فمَن تردَّدَ في صحتِهِ ثم أوَّلهُ فقد ضلَّ وأضلَّ).
وهذا تعريض بالزمخشري الذي تردَّد في صحته قائلاً: (اللهُ أعلم بصحَّته)، ثم قال في تأويله ما قال، مما هو جارٍ على طريقة أهل الاعتزال - كما قال أبو حيان - متَّهمًا أهل السنَّة بأنهم أهلُ الحشو.
ومنه عدمُ إعجابه بما ذهب إليه الزمخشري من تعليق قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وهو الوجه الذي اقتصر عليه الزمخشري، وجعله أبو حيان من روائح الاعتزال.
وهذا غيضٌ من فيضٍ، وسيأتي له أمثلة كثيرةٌ أخرى إن شاء الله.
4 - ومن ميزات هذا التفسير أيضًا كثرة الاستنباطات والاجتهادات مما لا يوجد في أي كتاب آخر:
وهذا كثيرٌ جدًّا في هذا الكتاب، وهو نابعٌ من شخصية مؤلفه الموسوعية، ومن قوَّة عقله وعُمق نظره، وسعة علمه وحسن تحريره:
فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] قال: أي: (ولا تكونُنَّ على حالٍ سوى الإسلامِ حينَ الموتِ، فالمنهيُّ كونهم على حالٍ غير الإسلام عندَ موتهم، لا موتُهم.
ثم قال: هذا ما عندَهم، والذي عندي: هو أنَّ النهيَ المذكورَ للتحذيرِ عن الموت على حالٍ سوى الإسلامِ، والحذرُ عنه إنما يكونُ بالاحترازِ عما يُفضي إليهِ، فهو حثٌّ على الثباتِ على الإسلام في جميعِ الأزمانِ على أبلغ وجهٍ، وعلى هذا لا عدولَ عن الظاهرِ، بخلافِ ما قالوه).
وعند تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] قال: (قيل: في ذكر اسم {الرَّحْمَنِ} تنبيهٌ على أنْ لا كالئ غيرُ رحمته العامة، وأنَّ اندفاع البأس عن النَّاس لا يكون إلَّا بها).
ثم تعقب ذلك بقوله: (وعندى أنَّ التَّنبيه فيه على أنَّ رحمته العامة لا تمنعه عن الغضب، فلا تغتروا بها، ولا يخفى أنَّ هذا هو الأنسب للمقام).
وكثيراً ما يستعمل في عرض رأيه بعد إيراده لقول غيره نحو عبارة: (هذا بحسب جليل النظر والذي بحسب دقيقه
…
)، كما جاء بعد ذكره لمسألةٍ في الرضاع حيث قال: (هذا بحسَبِ جليلِ النظر، والذي هو بحسَبِ دَقيقهِ: أنَّ الحرمة في الصورِ المذكورةِ بالمصاهرة دون النسب
…
).
ومنه ما جاء في تفسير آية المداينة، حيث قال:(وإنما قال: {بِدَيْنٍ} - مع أنه مستفادٌ من التدايُن - للتعميم؛ أي: أيِّ دَينٍ كان قليلاً أو كثيرًا، أو لقطعِ احتمال معنًى آخر فإن المدايَنة قد يراد بها المجازاةُ، وأما تنوُّعه إلى المؤجَّل والحالِّ فيُعلم من قوله: {إِلَى أَجَلٍ} ومرجعُ الضمير في {فَاكْتُبُوهُ} لا يلزمُ أن يكون مذكوراً، بل يكفي أن يكون مفهوماً في ضمن الكلام السابق).
ثم قال: (هذا كلُّه بحسب جليلِ النظر، والذي بحسَب دقيقِه هو أنه لا بد مِن ذكر الدَّين ليتعلَّق الجارُّ به، فإنه لو لم يذكر لفُهم تعلُّقه بالتدايُن، ولا وجه له فإنَّ المبايعةَ إلى أَجَلٍ غيرُ مشروعة).
ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [النساء: 157]: (شيءٍ من جنس العلم {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] استثناء منقطع، والمعنى: أنهم مستمرُّون على الشك، لكنْ قد يَلوح لهم أمارةٌ فيحصل ظنٌّ، ثم يزول ويعود الشك، وهذا أدلُّ على شدة الحيرة من استمرار الشك بلا انقطاعٍ).
ثم قال: (هذا ما بحسب جليل النظر، والذي هو بحسَب دقيقه: أن المراد من الشك ما يلزمه من الحيرة التي لا محيص لهم عنها، وعبارةُ (في) الدالةُ على الثبوت والتقريرِ إنما تساعد هذا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] قال: (ولا فرقَ فيه بين المذكَّر والمؤنَّث، وتخصيصُ المحصنات لخصوص الواقعة، أو لأن قذفهنَّ كان أغلبَ.
هذا ما قالوا، وأنا أقول: أُريدَ الأنفسُ المحصنات، كما في قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} فلا تخصيص).
5 - ومن ذلك كثرة التعقبات والردود على بعض الأئمة كالبيضاوي والزمخشري:
وله فيه أسلوب حسن، وهو أنه يَقتصر على ذكر الرد، دون ذكر القائل ودون نقل كلامه بالنص، بل بالاقتصار على ما يفيد الغرض ويوضح الرد، وسيأتي عليه الأمثلة إن شاء الله تعالى.
وهذا يدل على أنه لم تكن غاية المؤلف في ذلك التشهير أو التجريح، بل بيانُ الوجه الصحيح كما يراه هو، مع ما يستلزم ذلك من التعرُّض للوجه المخالف؛ ليتميز الأمر وتكتمِلَ الصورة، لكن دون أيِّ تجريح، بل ولا تصريحٍ بنسبة المردود لقائل، مما يدل على سلامة النية وطهارة الطوِيَّة، والحرصِ على الإخلاص في الأعمال لتكون مقبولةً عند الملك المتعال.
6 - ومما تميز به هذا التفسير أيضًا أنه نقل لنا كثيرًا مما أبدعه مَن تقدَّمه من العلماء الذين لم تصل إلينا كتبهم، أو لا تزال حبيسة المكتبات تنتظر من يمسح عنها الغبار وينقذها من التلف:
فمن ذلك أنه نقل الكثير عن أحد أهم الحواشي على "الكشاف"، وهو كتاب:"الكشف على الكشاف" لسراج الدين عمر بن عبد الرحمن القزويني، لكنه لم يصرِّح به في أيِّ موضع من مواضع نقله، علماً أنه قد صرَّح بالنقل عنه في "أربعينياته" وبعضِ رسائله كرسالته في وضع كاد، ورسالةِ السينات، ورسالةِ نسبةِ الجمع، وغيرها، لكنه هنا لم يصرح بذلك أبدا اتِّباعاً لمنهجه في هذا التفسير من الاقتصار على ذكر الأقوال دون عزوٍ - في الغالب - سواءٌ لهذا الكتاب أو لغيره.
ولرُبَّ سائل يسأل: إذا كان المؤلف لم ينسب الكلام، والمصدرُ غير موجود، فكيف عُرف أن النقل من هذا المصدر؟
فالجواب: أن هذا كان اعتماداً على "روح المعاني" حيث إن الآلوسي رحمه الله قد أكثر كالمؤلف من النقل عن المصدر المذكور، لكنه كان في الغالب يعيِّنه باسمه، وكثيراً ما يتطابق نقله مع نقل المؤلف، ويكون النصُّ منقولاً بالحرف عندهما، فبذلك استدللنا على نقل المؤلف عن ذلك المصدر، فمِن ذلك ما نقلَه عنه عند تفسير قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، وقوله:{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13]، وقوله:{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} [الرعد: 13]، وقوله: {وَجَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33]، وقوله:{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]، وقوله:{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]، وغيرها كثير، وقد بيَّنَّا النقل عند هذه الآيات وغيرها كلٌّ في مكانه، وهذا كله مما هو مشترَك بينه وبين الآلوسي، وهو - مع الأخذِ بعين الاعتبار ما قدَّمناه من منهجه في عدم نسبة الكلام لقائله - يدلُّ على نقله في غير هذه المواضع عن هذا المصدر، كما يدل على نقله عن غيره، والله أعلم.
فهذا ما ألهمَنا الله إياه وعرَّفَنا من ميزات هذا الكتاب، وليس هذا كلُّ ما حفل به هذا السفر الكريم، بل هناك الكثير الذي لا يظهر إلا بخوض غماره، والتأمل في معانيه وإبداعاته.
ولننتقل إلى بحث لا يقل أهمية عنه، بل هو من أهم أبحاث هذه المقدمة، وهو بيان منهج المؤلف في هذا التفسير، والأسسِ التي بني عليها.
رابعاً: بيان منهج المؤلف الذي سلكه في تأليف تفسيره
وسوف نتناول في هذا البحث عدة موضوعات لعلها ترسم الصورة الحقيقية له، وتكونُ كافيةً في بيان طريقة المؤلف التي سلكها في تفسيره هذا، فأول المواضيع التي نبحثها هو:
مصادره التي اعتمد عليها وكيفية إفادته منها
فقد نقل المؤلف عن الجم الغفير من أئمة التفسير واللغة والمعاني، فأولهم الزمخشري والبيضاوي، ثم عن كثير غيرهم كالزجاج والفراء والماتريدي، وأبي علي الفارسي، والراغب والقشيري، وابن عطية والقرطبي، والمرزوقي والجرجاني والواحدي، وأبي حيان والنسفي.
وكلُّهم ممن صرَّح بالنقل عنهم، إلا أنه كان يَنقل دون تصريحٍ في الغالب، لكن يمكن معرفة المصدر من خلال المقارنة والمقابلة.
وسيكون التفصيل الأكثر في علاقته بالزمخشري والبيضاوي من خلال تفسيريهما، وكيفية إفادته منهما، وطريقته في تعقبهما.
ويمكن تلخيص تأثُّر المؤلف بهذين التفسيرين بأمرين: اختيارات وتعقبات، فهو من جانب ينقل منهما وبلفظهما التفسير والقراءات والأخبار وأسباب النزول، ويتابعهما في كثير من الوجوه الإعرابية وتوجيه القراءات والمعاني القرآنية، ومن جانب آخر يُكثر من التعقُّب عليهما وتخطئتهما إلى درجةٍ أصبح معها ردودُه وتعقباته عليهما من أبرز سمات هذا الكتاب:
فمن الأمور التي تابعهما فيها دون النظر إلى ما قاله غيرهما: ما جاء عند
تفسير قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19]، قال في إعرابها:(صفةٌ أُخرى في محلِّ الجرِّ، و (ظلماتٌ) مرفوعٌ بفاعلية الظَّرفِ بالاتِّفاق؛ لاعتمادهِ على الموصوف).
كذا نقل هذا الاتفاق عن الزمخشري في "الكشاف"، وتابعه البيضاوي في "تفسيره"، لكن بالبحث فيما قاله العلماء نجد أن القول بالاتفاق هنا قد يكون مقتصراً على الزمخشري ومتابعيه، بينما أجاز الكثير من العلماء المعتبَرين فيهما الابتداء والخبر، منهم مكيُّ بن أبي طالبٍ والعُكْبريُّ والقرطبيُّ وأبو حيان والآلوسيُّ. وإن كان أبو حيان قد استبعده بقوله: ولا حاجة إلى هذا؛ لأنَّه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأَولى جعْلَها من قبيل المفرد
(1)
.
ومن الأمثلة أيضًا على متابعته لهما ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] حيث نقل بالحرف قول البيضاوي: ({خَيْرٌ} جواب (لو)، وأصله: لأُثيبوا مثوبةً من عند الله خيراً مما شَرَوا به أنفسهم، فحُذف الفعل وركِّب الباقي جملةً اسمية ليدل على ثبات المثوبة والجزمِ بخيريتها، وحُذف المفضَّل عليه إجلالاً للمفضَّل من أن ينسب إليه).
وفي تفسير {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] نقل بالحرف قول
(1)
انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب (1/ 81)، و "الإملاء" للعكبري (1/ 35)، و "تفسير القرطبي"(1/ 327)، و "البحر المحيط"(1/ 241)، و "روح المعاني"(1/ 480).
الزمخشري: (وقرئ: {خُطُوَاتِ} بضمتين، وضمةٍ وسكونِ الطاء، وبفتحتين، وفتحةٍ وسكونها. والخَطْوةُ بالفتح: المرةُ من الخَطْو، وهو نقلُ قدم الماشي، والخُطْوة بالضم: اسم ما بين قدمي الخاطي، وهما كالقَبْضة والقُبْضة).
ومثله في النقل عن الزمخشري قوله: (ثم إنه كنَى بمجموع قوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] عن الجماع، وقد كُني عن الجماع في جميع القرآن بلفظٍ مستحسَنٍ لا يدلُّ على معنى القبحِ مراعاةً للأدب - ولا أدبَ كأدبِ التنزيل - كقوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189]، {بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223]، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]، {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]، إلا هاهنا فإنه كُني عنه بما دلَّ على معنى القبيح استهجاناً واستقباحاً لِمَا ارتكَبوه، ولذلك سمَّاه خيانةً).
والأمثلة على هذا كثيرة لا تحتاج إلى تدليل، ولكن أردنا أن لا نُخْلي البحث من بعض الأمثلة على نقله عن كلِّ منهما، وإنما الذي يُحتاج للوقوف عنده هو ما كان فيه مع النقل زيادةٌ أو تغييرٌ أو تعقُّب، فمن أمثلة الزيادة:
ما جاء في تفسير قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: (مفعول {يَوَدُّ} ، و {مِنْ} الأولى مزيدة للاستغراق، والثانية للابتداء، وفسر الخير بالوحي، والمعنى:
أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة).
وهذا منقول بالحرف من البيضاوي، ثم قال البيضاوي: ولعل المراد به ما يعم ذلك.
وقال المؤلف: (والوجهُ تعميمُه للكلِّ؛ لأنَّه نكرة في سياق النفي بالواسطة).
وقد تكون الزيادة خلال الكلام لا في آخره، ومن ذلك تفسير قوله تعالى:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] قال: (من الأنبياء عليهم السلام، والأممِ من لدُنْ آدمَ عليه السلام، يعني: أنه عبادةٌ قديمة ما أَخْلَى الله تعالى أمَّةً من افتراضها عليهم، ففيه توكيدٌ للحكم، وترغيبٌ على الفعل، وتطييبٌ على النَّفْس).
وهو من البيضاوي دون قوله: (يعني: أنه عبادةٌ قديمة ما أَخْلَى الله تعالى أمَّةً من افتراضها عليهم).
ومن أمثلة التغيير: ما جاء في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] قال: (بالأداء لوقتها والمداوَمةِ عليها. والأمرُ بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يُلهيهم الاشتغالُ بشأنهم عنها).
ومثله في البيضاوي إلا أنه قال: (
…
ولعل الأمر بها
…
)، بزيادة كلمة:(لعل).
ومن أسلوب الزمخشري في "الكشاف" طريقة (فإنْ قيل .. - أو قلتَ .. - قلتُ .. )، لكن المؤلف - ولعله من باب الاختصار - كثيرًا ما يُجمل الكلام
ويجعله خلواً عن الأسلوب المذكور، فمن ذلك تفسير قوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال: (وتنكيرُ الرشد معناه: نوعاً من الرشد، وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو: طرفاً من الرشد حتى لا يُنتظرُ إلى تمامه، ونظم الآية: (إنْ) الشرطيةُ جواب {إِذَا} المتضمنةِ معنى الشرط، والجملة غايةُ الابتلاء، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقِهم دفعَ أموالهم إليهم بشرطِ إيناسِ الرُّشد منهم).
وقال الزمخشري: فإن قلتَ: ما معنى تنكير الرشد؟ قلتُ: معناه: نوعاً من الرشد، وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو: طرفاً من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلتَ: كيف نظم هذا الكلام؟ قلتُ: ما بعد (حَتَّى) إلى {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} جعل غاية للابتلاء، وهي (حتى) التي تقع بعدها الجمل
…
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن {إِذَا} متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط {بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، وقوله:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
فانظر كيف غيَّر المؤلف رحمه الله واختصر، لكن مع المحافظة على المعنى.
ومثله في تفسير قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} قال: (وتنكيرها لأن المطر
يأتي على تناوُبٍ بين البقاع، فتسيل في بعض الأودية دون بعض، وكذا في الممثَّل له ليس كلُّ قلب قابلاً بل بعضٌ منها دون بعض، {بِقَدَرِهَا: بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضارٍّ، أو: بمقدارها في الصِّغر والكبر).
بينما قال الزمخشري: فإن قلتَ: لم نكرت الأودية؟ قلتُ: لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلتَ: فما معنى قوله: {بِقَدَرِهَا} ؟ قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ، ألا ترى إلى قوله:{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} لأنَّه ضرب المطر مثلاً للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف.
فغيَّر المؤلف في الأسلوب، واختصر، وزاد قولاً في آخر كلامه.
لكنه في المقابل لا يقبل كلَّ ما يقوله الزمخشريُّ والبيضاوي، بل يردُّ عليهما في كثير جدًّا من المواضع، وهذا ينقلنا إلى عرضِ طريقته في التعقُّبات والردود، والتي تعدُّ من أبرز السمات في منهج المؤلف كما سيرد في الأمثلة الكثيرة التي سنسوقها:
فمن ذلك ردُّه على كلٍّ من الزمخشري والبيضاوي وشرَّاحهما تأويلاتهم في آية: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]؛ فقال: (والمعنى والله أعلم: ولكنَّ البرَّ هذه العقائدُ الصحيحةُ والأعمالُ الصالحةُ، والوصفُ كما يُذكر في مَقام الموصوف بلا حذفٍ ولا
تجوُّزٍ بحسَب اللفظ كما في قولك: رجلٌ عَدْلٌ، فإن التجوُّز فيه في الإسناد دون المسنَد، كذلك يُذكر الموصوفُ في مَقام الوصف بلا حذفٍ ولا تجوُّزٍ بحسَب اللفظ كالذي نحن فيه تنزيلاً للموصوف مَنزلتَه
…
).
ثم قال: (وفي المصير إلى التقدير في مثلِ هذا المقامِ تنزيلٌ للكلام عن مَنزلته الرَّفيعة، وتغييرٌ لصورته البديعةِ، على أنه إذا قيل: ولكنَّ البرَّ برُّ من اَمن .. إلخ، يُفهم منه عدمُ الاعتبارِ لبِرِّ مَن قصَّر في بعض تلك الأعمال، وإذا قيل: ولكنَّ ذا البرِّ مَن آمَن .. إلخ، يخرج الكلام عن سَنن الانتظام، وأيضاً لو قُصد هذا لكان المناسبُ أن يقال: ولكنَّ البَرَّ، بفتح الباء).
ففي هذا رد على الزمخشري في التقديرين المذكورين، وعلى مَن تابعه كالبيضاوي والنسفي وغيرهما، ولا ندري هل غفل هؤلاء الأئمة عن الوجه الذي نحاه المؤلف في تفسير الآية، أم عرفوه لكنهم ما اعتبروه؟
وعند تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] قال: (نزلت لمَّا قال المشركون أو اليهود: ألَا ترون إلى محمدٍ عليه السلام يأمر أصحابه بأمرٍ، ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. ففي الآية دلالةٌ على جواز النسخ، بل على وقوعه.
قيل (والقائل البيضاوي): وذلك لأن الأحكام شُرعت والآياتِ نزلت لمصالح العباد وتكميلِ نفوسهم فضلاً من الله تعالى ورحمةً، وذلك يَختلِف باختلافِ الأعصار والأشخاص؛ كأسباب المعاش، فإنَّ النافع في عصرٍ قد يَضُرُّ في غيره).
ثم تعقب القيل المذكور بقوله: (وكأنَّ هذا القائلَ غافلٌ عن قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، أو عن دلالته على أنَّ النسخ قد يكون غضباً على قوم.
ثم إنَّ قوله: وذلك يختلف باختلاف الأعصار
…
إلخ، مَبناه الغفولُ عن أن النسخ قد يكون قبل العمل بالمنسوخ).
وانظر إلى قوله: ({الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]: {الْوَصِيَّةُ} فاعلُ {كُتِبَ}، وتأنيثُها ليست بحقيقة فيجوز تذكيرها - ولا حاجة إلى ما قيل: وتذكير الفعل للفاصل، أو لأنها بمعنى: أن يوصيَ، ولهذا ذكِّر ضميرها في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} - والعامل في {إِذَا} مدلولُ {كُتِبَ} لا {الْوَصِيَّةُ}؛ لتقدُّمه عليها).
فقوله: (ولا حاجة
…
) رد على البيضاوي، وقوله: (والعامل
…
) نقله منه بالحرف معتمداً إياه.
وعند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} [البقرة: 188] قال: (تقبيحٌ بليغٌ لِمَا كانوا يتعاطَونه من المنكَرِ في ذلك مع اطِّلاع بعضِهم على حالِ بعضٍ، {بِالْبَاطِلِ}: بالجهة التي ليست مشروعةً؛ كما في العقود الفاسدة، والأكسابِ الخبيثة، وأموالِ الغنيمة قبل القسمة، هذا هو الظاهر من قوله:{أَمْوَالَكُمْ} .
قيل: أي: ولا تأكلوا بعضُكم مالَ بعضٍ. ولا يخفى ما فيه من الصَّرف عن الظاهر بلا داعٍ إليه).
وصاحب القيل المذكور هو الزمخشري، وتابعه فيه البيضاوي.
ومن تعقُّباته على البيضاوي قولُه في تفسير: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ} [النساء: 12]: (أي: ولواحد منهما، فلا ضرورة للحمل على الاقتصار كما ذهب إليه مَن قال: أي: وللرجل، واكتُفيَ بحُكمه عن حُكم المرأة لدلالةِ العطف على تشارُكهما فيه).
والقائل المذكور هو البيضاوي في "تفسيره".
ومن أجمل الأمثلة على تعقُّبه للبيضاوي كلامُه عند تفسير قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] حيث قال: (ومَن قالَ في تفسيره [أي: تفسير الكظم، والقائل هو البيضاوي]: الممسِكينَ عليهِ، الكافِّينَ عن إمضائهِ معَ القدرةِ عليهِ، فلَم يُصِب في اعتبارِه القيدَ الأخيرَ؛ لأنهُ غيرُ لازمٍ في كظمِ الغيظِ، على ما يُفهَم من قولهِ عليه السلام: مَن كظَم غيظاً وهو يقدِرُ على إنفاذِه ملأَ الله قلبَهُ أمناً وإيماناً).
قلتُ: ومراد المؤلف رحمه الله: أن الكف عن إمضاء الغيظ مع القدرةِ عليه ليس داخلاً في معنى الكظم، بدلالة تقييدِه به في الحديث، ولو كان منه لَمَا قيِّد به، والبيضاوي جعله داخلاً في معنى الكظم.
ومن الأمثلة الحسنة أيضًا قولُه عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201]: (إذا نالهم وسوستُه، قيل [والقائل البيضاوي]: كأنه: طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم).
ثم تعقبه بقوله: (ومبناه الغفول عن دلالة المس).
فنسبه إلى الغفلة هنا، وأحياناً ينسبه إلى الوهم كما في تفسير قوله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] قال: (وقوله: {أَبَدًا} منصوب بـ {تُصَلِّ}، وبه صارت الآية محكَمة، لا بـ {مَاتَ} كما توهَّمه مَن قال: فإنَّ إحياء الكافر للتعذيب له دون التمتُّع، فكأنه لم يَحْيَ).
والقائل هو البيضاوي.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] قال: (وهذا السؤال ظاهرٌ في غيبة الشركاء، وقوله تعالى:{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] نصٌّ فيها، فلا وجه لمَا قيل: يجوز أن يَحضروا ويشاهِدوا ولكنْ لمَّا لم ينتفعوا بهم ولم يكن فيهم ما رَجَوا من الشفاعة لهم جُعِلوا كأنهم غُيَّبٌ عنهم، وهو أبلغ في التوبيخ؛ إذ وجودهم أضرُّ من العدم.
وأما ما قيل: يجوز أن يُحال بينهم وبينها حينئذ ليتفقَّدوها في الساعة التي علَّقوا بها الرجاء فيها. فيَرِدُ عليه: أنه حينئذ ينكشف الحال عندهم، ويعلمون أنه لا منفعة لهم في آلهتهم، بل مضرَّة، فلا احتمال للتفقُّد).
وكلا القيلين ذكرهما الزمخشري وتابعه عليهما البيضاوي.
وردَّ عليهما في تفسير قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46] قال: (بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها؛
…
وقد دل الباء السببية على أنهم
يعرفونهم بالأمارات الظاهرة، فلا وجه لِمَا قيل: وعرفانُهم ذلك يجوز أن يكون بالإلهام من الله تعالى، أو بتعريف الملائكة).
وعليهما في تفسير قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101] قال: (بعضَ الملك، وهو مُلك مصر، ومَن قال: أو بعضَ ملك مصر، فكأنه غفل عن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]).
ومثله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] قال: (لئلا يقولوا: لولا أَرسلت إلينا رسولًا فيوقظَنا من سِنَة الغفلة، وينبِّهَنا لِمَا يجب الانتباه له. ومَن قال: وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم السلام إلى الناس ضرورةٌ؛ لقصور الكل عن إدراك جزئيات المصالح، والأكثرِ عن إدراك كلياتها = فلم يتنبه لعدم مساعدة الاقتصار على التبشير والإنذار لذلك، فإن الأهم حينئذ ذكر بيان الأحكام كما لا يخفى على ذوي الإفهام.
وصاحب القول المذكور هو البيضاوي.
وأمَّا ما قيل: واسمع غيرَ مسمعٍ مكروهاً، من قولهم: أسمعه فلان، إذا سبَّه، فيأباه السياق، وكونه على قصد النفاق لا يتحمله السياق لأنهم بقولهم:{وَعَصَيْنَا} أظهروا الخلاف والشقاق).
وهذا المردود هو قول أجازه الزمخشري وتابعه عليه البيضاوي لكنه زاد عليه قصد النفاق.
ومثل ذلك ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} قال: (بكلِّ معبودٍ سوى الله، ولا يلزمُ إطلاق الطاغوت على عزيرٍ وعيسى والملائكة عليهم السلام؛ لأن عبَّادهم ما عبدوهم في الحقيقة، بل عبدوا الشيطان على ما يأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]).
ثم قال: (وبهذا التفصيل
…
تَبيَّن الخللُ فيما قيل: بالشيطان أو الأصنام، أو كلِّ ما عُبد من دون الله، أو صدَّ عن عبادة الله).
وفيه رد على الزمخشري والبيضاوي، حيث قال الزمخشري:(فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام)، وزاد عليها القاضي:(أو كل ما عبد من دون الله، أو صد عن عبادة الله تعالى)، وهي عينها عبارة المؤلف.
ومن ردوده عليهما ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 49] قال: (وجوِّزَ أن يكونَ التقديرُ: (ويقولُ: أرسلتُ رسولاً)، ولا يخفَى ضعفُهُ؛ إذ فيه إضمارُ شيئينِ: القولُ ومعمولُهُ).
والمجوِّز الزمخشري وتابعه البيضاوي.
وفي تفسير: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] قال: (عبارةُ {كُلِّ} للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم؛ كما في قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، وقوله:{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]، ومَن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلَّق بالدِّين، ثم تكلَّف في بيانه
فقال: إذ ما من أمر دينيٍّ إلا وله سندٌ من القرآن بوسطٍ أو بغير وسطٍ، ولم يَدْر أن عبارة التفصيل لا تتحمَّل هذا التأويل.
وقوله: (ومَن لم يتنبه لهذا .. ) أراد به البيضاوي.
وهناك ردود خفيَّةٌ مَطْويَّة في ثنايا الكلام لا يُتنبَّه إليها إلا بالمقارنة والمقابلة، وهي أكثر من أن تُحصى، فمن ذلك:
ما جاء في تفسير: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] قال: (رُوي أنَّ سريَّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك، فهربوا وبقي مرداسٌ ثقةً بإسلامه، فلما رأى الخيلَ أَلجأ غنمه إلى عاقولٍ من الجبل وصعد، فلمَّا تلاحَقوا وكبَّروا كبَّر ونزل وقال: لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسول الله، السلامُ عليكم. فقتله أسامةُ رضي الله عنه واستاق غنمه، فنزلت).
ثم قال: (ولا دلالة فيه على صحة إيمان المكرَه، وإنَّ ما رُوي ليس من الاجتهاد المعهودِ في شيء).
ردَّ على البيضاوي في قوله: وفيه دليل على صحة إيمان المكره، وأن المجتهد قد يخطئ، وأن خطأه مغتفر.
وفي تفسير قوله تعالى: {أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] ذكر سبب النزول، وهو أنه فقِدَت قَطيفةٌ حمراءُ من الغنائمِ يوم بدرٍ؛ فقالَ بعضُ مَن كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: لعلَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخَذَها، فنزَلَتْ.
ثم عقبه بقوله: (وقائلُ ذلكَ مؤمنٌ لم يظنَّ في ذلك حرجًا).
وهذا رد على الزمخشري والبيضاوي في جعل القائل منافقاً.
وفي تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] قال بعد أن ذكر تفسيرها: (ولا يجوز أن يكون معناه: إلا في السَّفر؛ لأن السفر ليس بمرخَّصٍ فيه، والمصيرُ إلى أن المعنى: إذا لم يَجد الماء وتَيمَّمَ، ارتكابٌ لتعسُّفٍ ظاهرٍ).
وفيه رد على البيضاوي القائل: أي: لا تقربوا الصلاة جنباً في عامة الأحوال إلا في السفر، وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم.
ومثله في تفسير: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: (أي: مدعوًّا عليك بـ: لا سمعتَ؛ لصممٍ أو موت، أو: اسمع غيرَ مُجابٍ إلى ما تدعو إليه، أو: اسمع غير مسمَعٍ كلامًا ترضاه
…
وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] قال في نهاية كلامه: (وليس هنا دليل على وجوب الوقوف فيه).
وفيه رد على البيضاوي حيث قال: وفيه دليل على وجوب الوقوف بها؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا} .
وكذا في تفسير قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} قال: (استئنافٌ تعليليٌّ، فلا وجه لتقدير: ولكن).
وفيه رد على البيضاوي في قوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إذ الإِكراه في
الحقيقة إلزامُ الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
…
وكذا في تفسير {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] قال: (بيانٌ وتقريرٌ بنفي السِّنَة والنوم؛ لأن الذي يملكهما وما فيهما يحفظُهما وما فيهما بتدبيره، فلا يمكن أن ينام وإلا لزالَتَا عن النظام، ولهذا تَرتَّبَ على ما قبلَه من غير حرفِ عطفٍ، ولو كان تقريراً لقيوميته كما قيل لاتَّحد مع ما قبله في هذه الجهة، فكان حقَّه أن يُرتَّب عليه بحرفِ عطفٍ).
والكلام رد على ما قاله البيضاوي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تقرير لقيوميتَّه، واحتجاج به على تفرده في الألوهية.
وقال في تفسير قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]: (بسبب ظلمهم، وهو تعنُّتهم في السؤال، فلا دلالة فيه على استحالة المسؤول).
رد للبيضاوي في قوله: {بِظُلْمِهِمْ} : بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها، وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقًا.
وكذا في تفسير قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] قال: (ارتفع {امْرُؤٌ} بمضمر يفسره الظاهر، و {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} صفة له، ولا يجوز أن يكون حالاً عن المستكنِّ في {هَلَكَ} لأنَّه تفسير غيرُ مقصود).
وهو رد على البيضاوي في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} صفة له [يعني: لـ {امْرُؤٌ}] أو حال من المستكن في {هَلَكَ} .
قلت: ومعنى كون {هَلَكَ} تفسيراً غير مقصود: أنه مفسر للرافع لـ {امْرُؤٌ} ، ولذلك فهو غير مقصود.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} [هود: 45]: (أُريدَ النداءُ في نفسهِ، ولا دلالةَ في عطفِ قوله: {فَقَالَ} على تقديرِ الإرادةِ؛ فإنهُ من قَبيلِ عطفِ المفصَّلِ على المجمَلِ، بل نقولُ: لا وجه لتقديرِها؛ لأن الإخبارَ عنها خلوٌ عن فائدةِ الخبرِ ولازِمها).
رد على الزمخشري والبيضاوي؛ إذ الأول قال: فإن قلتَ: فإذا كان النداء هو قوله: {رَبِّ} ، فكيف عطف {فَقَالَ رَبِّ} على {نَادَى} بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء كما جاء قوله:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] بغير فاء.
واختصر كلامه البيضاوي بقوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ: وأراد نداءه، بدليل عطف قوله: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فإنه النداء.
وكثيرًا ما كان يأتي التنبيه على الردود في حواشي النسخ الخطية:
فمن ذلك قوله: ({وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: 7] الذي يجبُ أن يُحمَلَ عليهِ).
جاء في هامش بعض النسخ الخطية: (من قال: أي: لا يهتدي إلى تأويله، فقد ضل؛ لأن الاهتداء لا يجوز إسناده إليه تعالى. منه). وفيه ود بل تشنيع على الزمخشري القائل للعبارة المذكورة.
وكذا قوله: ({وَمَا يَكُونُ لَنَا} وما يصحُّ لنا {أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا} وقتَ {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] عودَنا، هذا هو الذي يقتضيه المساق، وتقدير الخذلان من خذلان التقدير).
جاء في هامش إحدى النسخ: (دس الزمخشري هنا مذهبه الباطل ولم يتفطن البيضاوي. منه).
والمراد قول الزمخشري: فإن قلتَ: فما معنى قوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} والله تعالى متعال أن يشاء ردَّةَ المؤمنين وعودَهم في الكفر؟ قلت: معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً، والعبث قبيح لا يفعله الحكيم.
وتابعه البيضاوي مختصراً كلامه بقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا: وما يصح لنا {أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} خذلانَنا وارتدادنا.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] قال البيضاوي: والإمام اسم لمن يُؤتمُّ به، وإمامته عامةٌ مؤبدة، إذ لم يُبعث بعده نبيٌّ إلا كان من ذريته مأموراً باتباعه.
بينما قال المؤلف: (وإمامتُه عليه السلام مؤبَّدةٌ؛ إذ لم يُبعث بعده نبيٌّ إلا كان مأموراً باتِّباعه).
وجرى التنبيه في هوامش النسخ على الحذف الذي أحدثه المؤلف في عبارة البيضاوي بالقوله: (لم يقل كما قال القاضي: إلا كان من ذريته .. إلخ؛ لأنَّه مع استدراكه في مقام التعليل محل مناقشة. منه).
ومن ذلك قوله: ({فَإِنْ كَانَ}؛ أي: إنْ كان المقتول {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]).
جاء في هوامش بعض النسخ: (مَن زاد على هذا قوله: (المؤمن) فكأنه غافل عن قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . منه).
وهو رد على قول البيضاوي في "تفسيره": أي: فإن كان المؤمن المقتول.
ومما كثر فيه الردود وجرى التنبيه عليه في هوامش النسخ ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] قال المؤلف: (نُهوا عن تَمنِّي ما فضَّل الله به بعضَ الناس على بعضٍ من الجاه والمال والعلم، مع قطع النظر عن كونه ذريعةً إلى التحاسد والتباعد؛ لأن ذلك التفضيلَ قسمةٌ من الله تعالى على ما اقتضتْه حكمتُه، فليَرْضَ كلُّ واحد بما قُسم له، علماً بأنه هو الذي فيه صلاحه.
ولا يَذهَبْ عليك أن موجَبَ هذا أن يكون التمنِّي المذكورُ منهيًّا سواءٌ كان مقارِناً للطلب أو لم يكن، فمَن وفِّق بالتعليل المذكور ثم قال: وأنَّه تَشَهٍّ لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم؛ لأن تَمنِّيَ ما لم يقدَّرْ له معارضةٌ لحكم القدر، وتمنيَ ما قدِّر له بكسبٍ بطالةٌ وتضييعُ حظًّا، وتمنيَ ما قدِّر له بغيرِ كسبٍ ضائعٌ وباطلٌ
(1)
= لم يكن على بصيرةٍ.
ثم إنَّ قوله: معارضةٌ لحكم القدر، مبناه الغفولُ عما بُيِّن في موضعه من أنه لا حكم للقدر، وإلا يلزمُ الجبرُ وَيبطل التكليف.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 71 - 72).
ثم إن الشقَّ الأخير في معرض المنع؛ إذ يحتمل أن يكون ما قدِّر له بغير كسبٍ مشروطًا بالتمني فلا يلزم المحذور المذكور).
وقد جرى التنبيه في هامش إحدى النسخ أن الكلام رد على البيضاوي، وهو كما قال، وهذا نص كلامه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ومن الأمور الدنيوية كالجاه والمال، فلعل عدمه خير، والمقتضي للمنع كونه ذريعةً إلى التحاسد والتعادي، معربةً عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنَّه تشهٍّ
…
- إلى قوله - ضائعٌ وباطلٌ.
ونحوه: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء: 141] قال: (ينتظرون تجدد حال بكم).
جاء في هامش إحدى النسخ (نافعًا كان أو ضارًّا، ومن قال: وقوعَ أمر بكم، فقد خصه بالثاني لأن الوقوع إذا تعدَّى بالباء يختص به على ما ذكره الجوهري، ولا وجه لتخصيص المذكور. منه).
قلت: والقائل المشار إليه هو البيضاوي.
ومن الأمثلة الحسنة أيضًا قول المؤلف: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] حينئذٍ، أو في الدنيا، والمراد بالسبيل: الحجة، ولا متمسَّك فيه لأصحاب الشافعي على فساد شراء الكافر المسلم، ولا للحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد).
جاء في هامش إحدى النسخ: (والمفهوم من كلام القاضي خلاف ذلك. منه).
قلت: فقد قال القاضي: واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلمَ، والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد، وهو ضعيف لأنَّه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الإِيمان قبل مضي العدة.
ومن ذلك قوله في شرح الكلالة: (وهو في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلَال، فاستُعيرت لقرابةٍ لا يقارنُها النسبة).
جاء في هامش بعض النسخ: (من قال: ليست بالبعضية، لم يُصب لأنَّه حينئذ تخرج الأم والجدة من الكفالة. منه).
والقائل المذكور هو البيضاوي، ولفظه: .. فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية؛ لأنها كالة بالإِضافة إليها
…
فانظر إلى هذه الدقة العجيبة عند المؤلف في اختيار الألفاظ، وكيف ينقل العبارة بحرفها لكنه يدقق في كل لفظة فينتقي كلمة يراها هي الأنسب بدل أخرى رآها لا تناسب المقام.
وهذا منهج مطرد عند المؤلف، وقد ورد في هذا الكتاب الكثير من أمثاله، ففي تفسير قوله تعالى:{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} قال: (وفيه دلالةٌ على أن إرادةَ اللهِ تعالى يصحُّ تعلُّقها بالإغواءِ، وأنَّ خلافَ مراده تعالى غيرُ واقعٍ).
فجاء في هامش إحدى النسخ: (عبارة القاضي: محال، ولا دلالة في الكلام المذكور على الاستحالة، منه).
وعبارة القاضي: ( .. وأن خلاف مراده محال)، فوضع المؤلف كلمة (غير واقع) بدل كلمة:(محال) للتعليل المذكور في الهامش.
ومثله ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} قال: (رُوي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل، فأَتْبعهم فرعون وجنوده مشرقين، فلما تراءى الجمعان وهم على شاطئ البحر أوحى الله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]، فضرب فظهر فيه اثنا عشر طريقًا يابسًا، فسلكوها حتى جاوَزوا البحر، ثم وصل إليه فرعونُ ورآه منفلِقًا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين).
فجاء في هامش إحدى النسخ: (فيه رد للقاضي في قوله: وصادفوهم في شاطئ البحر). وفي هامش أخرى: (فيه رد للقاضي في قوله: فصبحهم). وعبارة البيضاوي: (فصبحهم فرعون وجنوده، وصادفوهم على شاطئ البحر).
ومن أمثلة هذا النهج أيضًا ما جاء عند تفسير: {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 281] قال: (كانَ الظاهرُ أن يقالَ: ثم يوفَّى ما كسبَ؛ ليتَّصِلَ بقوله: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} لفظًا، وإنما عدَلَ عنهُ
…
)
فعند كلمة: (كان الظاهر) جاء في هامش بعض النسخ: (عبارة القاضي: وكان اللائق، ولا يخفى أنها ليست لائقة لمقامها. منه).
ومن ذلك قوله: (والواو في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} [النساء: 82] للحال، وغيرُ الله ينتظِمُ الجنَّ والملَك
…
{لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} من جهة فصاحة اللفظ وبلاغةِ النَّظْم وصحةِ المعنى؛ لأن الخطيب الفصيح
البليغ إذا كثُر كلامه اختلَّ نظامه، واختلفت أقسامُه، خصوصًا إذا تطاولت في تفاريق كلامه أيامُه؛ لنقصان قُدرة غير خالق القُوى والقُدَر).
فجاء في هامش بعض النسخ: (من قال: لنقصان القوة البشرية، لم يدر أنه لا يكفي في تمام التقرير على ما نبهت عليه. منه).
والقائل المذكور هو البيضاوي.
وإن مَن يعرف أسلوب المؤلف وينقِّب في ثنايا كلامه يجد أن الكتاب قد امتلأ بالردود والتعقُّبات - كالتي مرت ونحوِها - كما هو شأن كتاباته كلها، فهو أبعد ما يكون عن التسليم لأحد مهما كانت مكانته العلمية، ولعله مِن هنا تستمِدُّ كتاباته تلك المكانة، وهو كونه ليس مجرد ناقل بل محقِّقٌ باحث دأبُه إعمالُ الفكر والعقل، والبحثُ عن مواضع النظر في كلام السابقين.
* * *
تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كمال باشا
لقد عُني العلماء بتفسير القرآن بالقرآن عنايةً كبيرة، حتى عَدُّوه أصحَّ طرق التفسير، كما قال بعضهم: إن أصح الطرق في التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر.
لكن ينبغي التنبيه هنا على أن تفسير القرآن بالقرآن - فيما عدا ما فسره النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك - هو نوعٌ من أنواع التفسير بالرأي، فإن عملية التفسير المعتمِدةَ على الفهم والاجتهاد بين الآيتين، والحكمَ بأن إحداهما مبيِّنةٌ للأخرى، أو
مفصِّلةٌ لمجمَلها، أو مطلِقةٌ لمقيِّدها، أو ناسخةٌ لحكمها، إنما هو من قبيل التفسير بالرأي.
وثمة أمرٌ آخر لا بد من التنبيه عليه أيضًا، أن تفسير القرآن بالقرآن عن طريق الاجتهاد قد يدخله الاختلاف؛ لِمَا جُبل عليه البشر من اختلاف العقول، فالآية التي يجتهد عالم في تفسيرها بآية أخرى قد يجتهد غيره فيفسرها بغيرها، كما أنه ليس كلُّ مَن حمل آيةً على أخرى يُقبل قوله بحجةِ أنه من تفسير القرآن بالقرآن، فإن هذا الأسلوب قد يستعمله أحيانا أهل البدع لتقرير بدعتهم، كما فسر بعض المعتزلة قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] بأنها تنتظِر ثواب ربها، وينفون رؤية الباري، ويستشهدون لذلك بقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، ولو لا قولهم بعدم رؤية الباري لما حملوا هذه الآية على تلك.
وبالعودة إلى هذا التفسير الذي بين أيدينا نجد أن لتفسير القرآن بالقرآن عند هذا العلَّامة نكهةً خاصة، وأسلوبًا متميزًا، فليس أسلوبه مقتصرًا على تفسير الآية بآية أخرى أو آيات، ولا منحصراً في بيان الرابط بينهما، لكنه يذهب إلى أبعد من هذا، حيث يجعل الآيات مكمِّلة لبعضها، وكأنها بمجموعها موضوعٌ واحد، بحيث تؤدِّي كلّ آيةٍ جزءًا من الغرض، ليتكامل باجتماعها الموضوع:
فمن ذلك قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] هذا في حقِّ القَذَفة، وقوله تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآية [يس: 65] في حقِّ المشركين،
فلا منافاة، {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعترفونَ بها بإنطاق الله تعالى، على ما نطَق به قوله تعالى:{قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] بغير اختيارهم على ما دلَّ عليه قولهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] وفي ذلك مزيد تهويلِ العذاب.
فانظر إلى هذا الجمع العجيب والدمج الغريب، والذي لا تجده عند غير هذا العلامة.
ومن ذلك قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} بالأكل من ثمرتها، دلَّ هذا على أن المراد من الأكل في قوله تعالى:{فَأَكَلَا مِنْهَا} [طه: 121] بدايتُه، كما دلَّ هو على أن المراد من الذوق هنا نهايتُه، فالقرآن يفسِّر بعضه بعضًا).
ومن أمثلة عنايته بتفسير القرآن بالقرآن قوله: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : إلا عبد أُرسلت بشيرًا ونذيرًا {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] متعلّق بالبشير، ومتعلَّق النذير محذوف للتعميم؛ لقوله تعالى:{أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2]).
وبعدها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا} [الأعراف: 189]: من جنسها؛ لقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]).
ومنه قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى: بشارةً {لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] متعلِّق بـ {وَبُشْرَى} ، ومن حيث المعنى متعلِّق ب {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أيضًا" لقوله تعالى:{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203]).
وتجده أحيانًا يربط بين الآيتين من خلال اختيار وجه في الأولى
استدلالًا بما في الثانية، ومن أجمل الأمثلة عليه ما جاء عند تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] قال: (هذا ليس بنفي للخرور، بل هو إثباتٌ له ونفيٌ للصَّمم والعَمى .. يعني: أنَّهم إذا ذكِّروا بها خَرُّوا سُجَّدًا وبُكيًّا، سامعينَ بآذانٍ واعيةٍ، مُبصرين بعيونٍ باصرةٍ لِمَا أُمروا به ونُهُوا عنه، لا كالمنافقين وأشباههم، دليله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] فإن القرآن يُفسِّر بعضُه بعضًا).
فانظر إلى روعة الاستنباط، وجمال الاستدلال، وحسن الاختيار.
وأحياناً يكون الأمر على عكس الطريقة السابقة، يعني يردُّ على قولٍ في آية وبفنِّده بدلالةِ آيةٍ أخرى:
فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] حيث قال المؤلف: (قيل: وإسناد المكر إلى الله تعالى للمزاوجة والمشاكَلة، ولا يجوز إطلاقها عليه تعالى ابتداءً؛ لِمَا فيه من إيهام الذَّم، وكأن هذا القائل غافل عن قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]).
وأكثر ما يكون هذا في القصص القرآنية:
ومن أمثلة ذلك ما جاء في آخر تفسير قصة اَدم في سورةْ البقرة، حيث قال: (وأمَّا ما قيل: إنه أخطأ في اجتهاده، حيث ظنَّ أن الإشارة إلى عينِ تلك الشجرةِ فأكل غيرها من ذلك النوع، وكان الإشارةُ إلى النوع، فمردودٌ بقوله: {مَا نَهَاكُمَا
رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} الآيةَ [الأعراف: 20]؛ لأنَّه صريح في أنه كان الإزلال في المنهيِّ عنه).
ومن الأمثلة الحسنة عليه ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] حيث قال: (وكونُ السجود لله تعالى على أن يكون آدمُ عليه السلام قِبلةً يَردُّه قوله تعالى نقلًا عن إبليس: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] لأن الاعتراض بكونه طينًا إنما يتَّجه أنْ لو كان مسجودًا حقيقةً لا قبلةً للسجدة كالكعبة شرَّفها الله تعالى).
وفي تفسير {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] أوردَ قيلًا وردَّه بالطريقة نفسِها فقال: (وقيل: قام عند الباب فناداهما. ويردُّه قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 25] لأن الوسوسة لا تُجامِع النداء).
ثم قيلًا ثانيا فقال: (وقيل: أَرسل بعضَ أتباعه فأزلَّهما. ورجِّح هذا الوجهُ بأنهما يَعْرفانه، وَيعْرفان ما عنده من العداوة والحسد، فيستحيل في العادة أنْ يقبَلا قوله).
قال: (ويردُّه قولُه تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} إلى قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] لأنَّه صريحٌ في مباشَرة الشيطان للإزلال، والله أعلمُ بحقيقة الحال).
وعند تفسير: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] قال: (قيل: والمراد: إلى جنبك تحت العَضُد، دل على ذلك قوله: {تَخْرُجْ}. ويردُّه قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ} [النمل: 12] لأنَّه صريح في أنَّ المراد الدُّخول في الجيب والخروج منه).
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 73]: مِن تعلُّمه .. وقيل: من العمل به في معارضة المعجزة؛ لِمَا روي ألَهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعلَ، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر؛ لأنَّ السَّاحر إذا نام بطل سحرُه، فأبى إلَّا أن يعارضوه.
ويردُّه قوله تعالى: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41]، فإنَّه ظاهر في الرِّضا، وقوله تعالى:{وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، فإنَّ الظَّاهر منه عدمُ علمهم بشأن موسى عليه السلام.
ومثلُه في رد بعض الأخبار الواردة في تفسير آيةٍ بدلالةِ آيةٍ أخرى ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11 - 12] قال: (قيل: لَمَّا نُودِيَ: {يَامُوسَى}، قال: مَن المتكلِّم؛ فقال اللهُ تعالى جلَّتْ عظمتُه: {أَنَا رَبُّكَ}، فوسوس إليه الشَّيطان: لعلَّك تسمع كلام الشَّيطان، فقال: أنا عرفْتُ أنَّه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات، وأسمعه بجميع أعضائي).
ثم تعقبه بقوله: (قوله: أسمعه من جميع الجهات، يردُّه قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]؛ فإنَّه صريح في سماعه النِّداء من جهةٍ واحدةٍ، لا مِن جميع الجهات).
والخبر المذكور أورده البيضاوي وغمز فيه الآلوسي بقوله: في صحة الخبر خفاء، ولم أر له سندًا يعوَّل عليه.
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} قال: (وأمَّا ما قيل: الباء مزيدة، والمعنى: فاتبعهم فرعون جنودَه. فمبناه الغفول عن قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90]، ثمَّ إنَّ فيه إيهامَ عدم اتِّباع فرعون بنفسه).
ومن ردِّ الأقوال بالآيات أيضًا: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} قال: (قيلَ: (أوجسَ) بمعنى: أضمَرَ. ويردُّه قولُه تعالى في سورة الحجر: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52].
وأحيانا يستعمل الأسلوبين، أعني إثبات قول وإبطال آخر بدلالة آياتٍ أُخَر:
ومن أمثلته قوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء لأنَّه أقرب لفظًا ومعنًى، لا إلى البلد على أن الباء للظرفية؛ لقوله:{مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فإن جميع أنواعها لا يخرج في البلد، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] صريح في المعنى الأول، والقرآن يفسِّر بعضه بعضًا).
وفيه ردٌّ خفي على البيضاوي في تجويزه عود الضمير إلى البلد، حيث قال:{فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوق أو بالريح، وكذلك:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ويحتمل فيه عود الضمير إلى الماء
…
).
وفي تفسير: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قال: (أي: نخاف أن يَعْجَل علينا بما يَحول بيننا وبين إتمام الدَّعوة وإظهار المعجزة
…
).
ثم قال: (وإنَّما قلنا: (بما يحول)، ولم نقل:(بالعقوبة) كما قيل؛ لأنَّه مردود بقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35]، فإنَّه مذكور قبل قولهما هذا، بدلالة قوله:{سَنَشُدُّ} ، وقد دلَّ على أنهما محفوظان من عقوبته).
والأمثلة على هذا كثيرة لا تنتهي، ولكن ما ذكرناه كافٍ في بيان المراد، والتعريفِ بسعةِ علم المؤلف، وقوةِ عقله، وأسلوبه الفريد في جمع الآيات والربط فيما بينها.
* * *
التفسير بالمأثور عند ابن كمال باشا
ونعني به: كلَّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من تفسير للقرآن. وقد رسم ابن تيمية معالم التفسير بالمأثور فقال بعد أن ذكر أن أصح الطرق في التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن: فإن أعياك ذلك فعليك بالسنَّة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كلُّ ما حَكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فَهِمَه من القرآن، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]،
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنِّي أوتيت القرآن ومثله معه "
(1)
يعني السنة.
والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تتلى كما يتلى
…
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة
…
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لِمَا شاهدوه من القرآن، والأحوالِ التي اختصُّوا بها، ولمَا لهم من الفهم التامِّ، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين؛ مثل عبد الله بن مسعود
…
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر" فإنه كان آية في التفسير
…
(2)
.
ولكن لا بد هنا من التنويه على أمر هام، وهو: أن السنة بالنسبة إلى القرآن لها تعلقان: خاصّ وعام:
فالأول: هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير لبعض الآيات بعينها، كقوله: "إنَّ في الجنَّةِ لشجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظِلِّها مئةَ سنةٍ، واقرءوا إِنْ شِئْتُم {وَظِلٍّ
(1)
راوه أبو داود (4604) من حديث المقدام بن معدي كرب وضي الله عنه.
(2)
انظر: "مقدمة في أصول التفسير"(ص: 39 - 44).
مَمْدُودٍ} [الواقعة: 35] "
(1)
، وكحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 2] ثُم قال: "أتَدْرُود ما الكوثرُ؟ " فقُلنا اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: " فإنَّه نهرٌ وعَدنيهِ ربِّي عز وجل، عليه خَيْرٌ كثيرٌ
…
"
(2)
.
فهذا وأمثاله مما صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يقدم عليه شيء - والله أعلم - ولو كان من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن هذا نقليّ وذاك يدخله الاجتهاد كما قدمنا.
وأما الثاني: فهو السنن القولية والفعلية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي بمجملها تفسير للقرآن وتبيين له، لكن تعلُّقها بالآيات عامّ غيرُ مباشر، وربطُها بها يكون عن طريق الاجتهاد، مثال ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] بعض المفسرين المتأخرين حملوا هذه الآية على حديث سليمان أنه قال: "والله لأطوفنَّ الليلة على مئة امرأةٍ، تلد كلُّ امرأةٍ منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فنسي فطاف بهن، فلم تأت امرأة منهن بولد إلا واحدة بشق غلام "، فقالوا: إن هذا هو الجسد الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يربط هذا الحديث بالآية، وإنما أخبر بخبرٍ عن سليمان عليه السلام، فحَمْلُ الحديثِ على الآية ليس من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما من عمل المجتهد، فهذا النوع يدخله الاجتهاد،
(1)
رواه البخاري (3252) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (400).
فالمفسِّر هو الذي اجتهد في بيان أن هذا الحديث - الذي لم يرد من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التفسير؛ لأنَّه لم يذكر آيةً يفسرها مفسِّر وموضِّح لمعنىً في هذه الآية.
ومما ورد في هذا الكتاب من التفسير بالمأثور ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] قال: (أي: تحسُّرٌ أو هُلْكٌ، روى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الويل جبل في النار"، وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "واد في جهنم".).
وكلاهما ضعيف كما بيِّن في محله، ولعل هذا هو السبب في أن المؤلف أخرهما.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قال: (وهي صلاةُ العصر؛ لمَا روي أنه عليه السلام قال يوم الأحزاب: "شَغَلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر ملأ الله بيوتَهم نارًا".).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَفْتِنِّي} : ذكر من معانيه: لا تفتنِّي ببناتِ الأصفر؛ قال: لِمَا رويَ: أنَّ جدَّ بنَ قيسٍ قال: قد علمَتِ الأنصارُ أني مستَهْترٌ ببنات الأصفر - يعني: نساء الرُّوم - فلا تفتنِّي بهنَّ، ولكن أُعِيْنُك بمالٍ فاتركني).
كما أنه قد حوى قَدْرًا لا بأس به مما نقل عن الصحابة وخصوصًا ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أيضًا آثار عن بعض التابعين كمجاهد وعكرمة والحسن البصري وغيرهم.
لكننا إذا ما قارنَّا هذا التفسير بالتفاسير التي تصنَّف ضمن التفسير بالمأثور كـ"تفسير الطبري" و"تفسير ابن كثير" و"الدر المنثور" فسوف نجد أنه ليس من التفاسير التي يمكن أن تصنف في هذا الباب، ولعل السبب في ذلك هو ما قدَّمناه من منهج المؤلف المعتمِد على إبراز النواحي البلاغية والجمالية واستنباط المعاني الكثيرة من الألفاظ والعبارات، وهذا الأسلوب كما بينَّا فيما سبق ليس بديلًا عن التفسير بالمأثور ولكنه رديفٌ له ومُعينٌ على فهم القرآن كما فهمه الأوائل من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
* * *
عقيدة المؤلف والرد على الشبه والأباطيل والمذاهب المنحرفة
من المعروف عن المؤلف رحمه الله التزامُه بعقيدة أهل السنة والجماعة ودفاعُه عنها، وإبطالُ المذاهب الفاسدة، والأقاويل الباطلة، وتفنيدُها لكن بالحجة والبرهان لا بسلاطة اللسان.
وقد أكَّد انتماءه لأهل السنة عند تفسير قوله تعالى: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] فقال: (ونحن معاشرَ أهل السُّنَّة نقول بما هو مُوجَب النَّص: مِن أنَّ الإيمان النَّافع مجموعُ الأمرين، فلا حجَّة فيه للمخالف
…
).
وهو في تفسيره هذا لم يَدَعْ آية فيها ردُّ على أهل الباطل، أو إبطالٌ لتأويلهم الفاسد، إلا بيَّنها وبيَّن مذهب أهل الحق فيها، فهو يردُّ على الحشوية والجبرية والكرَّامية والمعتزلة وغيرهم، وللأخيرينَ عنده موقع
خاص في إبطال تأويلاتهم الفاسدة، وسنؤخر إيراد الأمثلة عليهم حتى آخر هذه الفقرة لكثرتها:
فمِن رده على الحشوية قولُه في آخر تفسير قصة آدم في سورة البقرة: (ولا متمسَّك للحشويَّة في هذه القصَّة على عدم عصمةِ الأنبياء عليهم السلام؛ لأن مبناه على أن يكون آدم عليه السلام حينئذ نبيًّا، وأن يكون النهي تكليفًا، وأن لا تكون التوبة إلا عن معصيةٍ، وواحدٌ منها غيرُ مسلَّم).
وبين ضلال المعطِّلة والدهرية في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] قال: (أي: الجهَّال من المعطِّلة والدَّهريَّة، والمشركين الذين لا كتاب لهم).
كما رد على الدهرية في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فقال: (ففيه إشارةٌ إلى قوَّة تصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفورِ اعتقادِهم بنبوَّته، حيثُ صدَّقوه في أخبارٍ لا طريق إلى العلم بصِدْقها لا بالحسِّ ولا بالعقل، لا بالبديهة ولا بالكسب. وعدمُ التعرُّض للتَّصديق بالمبدأ للتنبيه على أنَّ شأنَه تعالى أظهرُ الأمور، بحيثُ كان التصديقُ به تصديقًا بأجلى المعلومات، فلا يناسب ذكره في مقام المدح بالتَّصديق بأخفى المجهولات. وفيه نعيٌ على الدَّهْرية على أبلغ وجهٍ).
وعلى الجبرية فقال في تفسير قوله تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}
[الأعراف: 30]: (بإبطالهم الاستعدادَ الأصلي والقابليةَ الفِطْريةَ لا باقتضاءِ القضاءِ الأزلي كما زعمت الجبريةُ؛ لأن القضاء تابعٌ للمقضيِّ لا متبوعٌ له).
وفنَّد إحدى شُبَه الزمخشريِّ بأنها على طريقة الجبرية المنافية لمذهب الحق مشنِّعًا عليه فيما ذهب إليه، وذلك في تفسير قوله تعالى:{فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] فقال: (ولا دلالة فيه على استقلال العبد في أفعاله؛ إذ يكفي في استحقاقه الملامةَ أن يكون لقدرته الكاسبة مدخلًا فيه [أي: في فعله]، ومَن قال أهو الزمخشري]: وهذا دليل على أنَّ الإنسان هو الذي يختار الشَّقاوة والسَّعادة ويحصِّلهما لنفسه، وليس من الله إلَّا التَّمكين، ولا من الشَّيطان إلَّا التَّزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبِرة
(1)
لقال: فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإنَّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه - فقد خلَّط في كلامه، وخَبط في تمشية مرامه؛ فإنَّ ما ذكره أوَّلًا يساعده فيه أهل الحقِّ، وما ذكره ثانيًا - وهو مذهب الباطل - لا يساعده الشَّيطان أيضًا، وقد نبَّهْت فيما سبق على أنَّه لا دلالة في كلامه عليه، وما ذكره أخيرًا إنَّما يتَّجه على الجبريَّة، لا على أهل الحقِّ القائلين: لا جبرَ ولا تفويضَ، بل أمرٌ بين ذلك).
وفي تفسير: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} قال: (وكون الأمور مقدَّرةً لا تتغير، لا يصلحُ علَّةً لفساد مكرهم؛ لِمَا قرَّرناه في مواضعَ مِن أنَّه لا تأثيرَ في التَّقدير كما زعمتْه الجبريَّة).
وفي تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
(1)
يعني: أهل السنة الملقبين عند الزمخشري بالمجبرة، وقد بيناه في موضعه.
أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] قال: (وفي الآية دلالةٌ على وقوع الحساب، فيكون حجةً على مَن أنكره من المعتزلة والروافض).
وأما الردود على المعتزلة فقد حفل بها هذا التفسير؛ ولعل ذلك لكثرة تأويلهم للقرآن لإثبات مذهبهم، وخفاءِ دسائسهم في كثير من الأحيان، وقد يكون من أسباب ذلك أيضًا شدة التصاقه بـ "كشاف " الزمخشري الذي دسَّ فيه كثيرًا من التأويلات الموافقة لمذهبه، فكان لزامًا على المؤلف الوقوفُ عند كلِّ شبهة، وردُّ كل تأويل يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، فلم يترك آيةً فيها ردٌّ على المعتزلة إلَّا وَقَفَ عندها واسْتَنْبَطَ منها ما يفنِّد مذهَبَهم، أو أبرز ما ينفي فاسدَ تأويلهم، وأظهر الحجة لأهل السنَّة عليهم، وهذه الردود منها ما كان من خلال الردِّ على الزمخشري، ومنها ما هو ردٌّ مباشر عليهم:
فمن ذلك ما جاء في تفسير: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء: 12] قال: (وفي عبارة الفضل إشارة إلى أنَّه لا يجبُ على الله تعالى أن يرزقَ عبادَه، وإنَّما ذلك تفضُّلًا، ففيه رَدٌّ على المعتزلة).
ومنه ردُّه عليهم معرِّضًا بالزمخشري في قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] حيث قال: (وهو حجَّةٌ على مَن منع إيتاءَ اللهِ الملكَ الكافرَ من المعتزلة. والجواب بأن المراد إيتاءُ الأسباب لا يَشْفي كما لا يَخْفَى على ذوي الألباب، وكذا ما قيل: ملَّكه امتحانًا إذ ما من قبيحٍ إلا ويمكن أن يكون فيه غرضٌ صحيح مثل الامتحان).
فقوله: (والجواب بأن
…
) تعريض بالزمخشري حيث ذكر في "الكشاف"
هذين الجوابين في صرف الآية عن ظاهرها دفاعًا عن مذهبه في الاعتزال القائم على وجوب رعاية الأصلح.
ونحوه قوله في تفسير: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]: (أي: بواحدة، هذا بحكم الوعد، لا باقتضاء العدل كما توهَّمه المعتزلة؛ إذ لا حقَّ للخلق على الخالق).
يردُّ بذلك على الزمخشري في قوله: ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل.
ومن بيان دسائسهم قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ؛ أي: ظهر له ظهورَ المرئيِّ للرائي بأنْ خلق الله تعالى فيه حياةً وحسًّا، وهذا المعنى هو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الموافق لمساق الكلام، المطابقُ لأصل أهل السنَّة والجماعة، ومَن صرَفه عن الظاهر فقد دسَّ فيه مذهب الاعتزال).
ومثله في تفسير: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} [التوبة: 115] قال: (ليَخلقَ فيهم الضَّلالة، ومَن قال: يسمِّيهم ضلَّالًا؛ فقد دسَّ فيه مذهب الاعتزال).
وكثيرًا ما يشنِّع عليهم واصفًا إياهم بالزَّيغ والضلال كما في تفسير قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ؛ أي: الذي لا يغني من الحقِّ شيئًا {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} : وما أنتم إلا تخمِّنون وتقدِّرون أنَّ الأمرَ كما زعموا، وليس كذلك " لِمَا مَرَّ مِن بطلان مبنَى ذلك الظنِّ، فلا متمسَّك فيما ذكر لأهل
الزَّيغ والضَّلال من أصحاب الاعتزال، ولا حاجة إلى التَّوجيه والتَّأويل بتقييد المشيئة أوَّلًا؛ أي: فيما مرّ، وإجرائها على إطلاقها آخرًا؛ أي: فيما يستمرّ).
ولعل من أشد ما رد به على الزمخشري ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] حيث قال: (ومن غلاةِ أصحابِ الضلالِ مَن قال: زعمَت المشبِّهةُ والمجبِرةُ أن الزيادةَ النظرُ إلى وجه اللهِ تعالى، وجاءت بحديثٍ مرقوع: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نودوا: أن يا أهلَ الجنةِ! فيُكشفُ الحجابُ فينظُرون إليهِ
…
".).
ثم قال: (قوله: مرقوعٌ، صحَّ بالقاف عندَهُ، ومعناهُ: مرقوعٌ مُفترًى، وأما عند أهل الحقِّ فقد صحَّ بالفاءِ، رواهُ أبو بكر الصدِّيقُ، وأبو موسى الأشعريُّ، وحذيفةُ، وابن عباسٍ، وعكرمةُ، وقتادَةُ والضحَّاكُ، وابن أبي ليلى، ومقاتل. أورده مسلمٌ في "صحيحه" عن صهيبٍ رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم، وأوردَه البخاري في "صحيحه" بلا إسنادٍ، وصححهُ أحمد بن حنبلٍ، والترمذِيُّ، وابن ماجَه. فالحديثُ متفقٌ على صحتِهِ، وذلك المتعصِّبُ طعن في الحديثِ الصحيحِ، والخبرِ الحقِّ الصريح، ترويجًا لاعتقادِه الفاسد، وتصحيحًا لمذهبه الباطلِ، وصحَّفَ المرفوعَ فجعله مرقوعًا ليرقِّعَ به مذهبَهُ المخروقَ، هيهاتَ، اتَّسع الخرقُ على الراقع، والحقُّ الواقعُ {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 8].
وهذا ردٌّ صريح على الزمخشري بأقسى العبارات.
وقول الزمخشري: (المشبِّهة والمجبِرة) يريد أهل السنة القائلين بجواز
رؤيته تعالى ووقوعها في الآخرة، خلاف المعتزلة القائلين بامتناع ذلك.
وقد شنَّع غير المؤلف أيضًا على الزمخشري في ذلك، ومنهم الآلوسي الذي قال: وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله: (إن الحديث مرقوع) بالقاف؛ أي: مفترى، لا يصدر إلا عن رقيع، فإنه متفق على صحته، وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال. نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحا).
وأخيرًا فمن أجمل ما رأيت من تحريراتِ المؤلف أنه ردَّ على اليهود والنصارى والثنوية والمجوس والمعتزلة في آية واحدة، حيث قال في تفسير الآية (111) من سورة الإسراء:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} على الخلوص {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ} كما زعم اليهودُ والنصارى ومشركو العرب في العُزَيْر والمسيح عليه السلام والملائكةِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما زَعَمت الثَّنَويَّة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} كما قالت المجوس: إنَّه تعالى لم يَخلُق الظُّلمة، ولا كما قالت المعتزلة: إنَّه تعالى غيرُ خالقٍ لأفعال العباد.
* * *
موقف المؤلف من التأويل في آيات الصفات
اتَّفَقَ السَّلَفُ والخلَفُ على تنزيهِ الله تعالى عن ظواهِرِ المتشابهاتِ المستحيلةِ على الله تعالى، ثُم اختَلفوا بَعْدُ؛ فأَمْسَكَ أكثرُ السَّلَفِ عن الخوضِ في تعيينِ المُرادِ مِن ذلك المُتشَابِه، وفَوَّضوا عِلْمَه إلى الله تعالى، وهذا أَسْلَمُ لأنَّ مَن أَوَّلَ لم يَأمَنْ مِن أنْ يَذكُرَ معنًى غيرَ مُرادٍ له تعالى فيقعَ
في ورطةِ التَّعيِين وخَطَرِه، وخاضَ أكثرُ الخَلَفِ في التأويلِ، ولكنْ غيرَ جازِمِينَ بأنَّ هذا مرادُ الله تعالى مِن تلك النصوصِ، وإنما قَصَدُوا بذلك صَرْفَ العامَّةِ عن اعتقادِ ظواهِرِ المتشابِه والردَّ على المُبْتَدِعةِ المتمسِّكِين بأكثر تلك الظَّواهرِ المُوافِقةِ لاعتقاداتهم الباطلةِ
(1)
.
والمؤلف رحمه الله على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وهذا واضح في تفسيره، بل بيَّنه هو بقوله:{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيما أشكلَ عليهم بالتَّوفيق للنَّظر الصَّحيح، وللكشف بنور هدايته {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو طريق التَّأويل لِمَا يتشابه بالتطبيق على الأصول المحكمة، فلا يلحقهم حيرة ولا يعتريهم شبهة.
ومن أوضح الأمثلة على مذهب المؤلف هذا ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] حيث قال: (بيانٌ لشمول علمه وإحاطتهِ وسعتهِ وبَسطته، وأنَّه لم يَضِقْ عن السماوات والأرض، على سبيل التمثيل والتخييل، وتصويرِ الأمر المعنويِّ بالصورة الحسِّيَّة، ولا كرسيَّ ثمةَ ولا قعودَ ولا قاعدَ؛ كقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] من غيرِ تصوُّر قبضةٍ وطيٍّ ويمينٍ).
قلت: كذا نقل المؤلف هذا القول عن الزمخشري، وظاهر سياقه اختياره، وكذا يظهر من صنيع البيضاوي حيث قدَّمه، وساق ما بعده بصيغة:(قيل)، على عادته في تضعيف الأقوال حيث يؤخرها ويقدم لهاب (قيل).
(1)
انظر: "مرقاة المفاتيح "(1/ 354).
وهذا القول هو الذي عليه أكثر الخلف كما ذكر الآلوسي حيث قال: وهذا الذي اختاره الجمُّ الغفير من الخلف فرارًا من توهُّم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك، لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم
…
لكن الآلوسي رحمه الله تعقب ما ذهبوا إليه بقوله: وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية، فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة، وتوهُّم التجسيم لا يعبًا به، وإلا لَلَزم نفي الكثير من الصفات، وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له، وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علمًا، وفوَّضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه
(1)
.
* * *
منهج المؤلف في القراءات
أما عن أسلوبه في القراءات فنهجُه أقرب إلى نهج الزمخشري من عدم ذكر صاحب القراءة مع عدم العناية بالتمييز بين المتواتر والشاذ، فتجدُه يذكر ما يَرِدُ من القراءات المتواتر منها والشاذ متداخلةً مع بعضها، بينما نجد البيضاوي يُعنى كثيرًا بنسبةِ كلِّ قراءة لأصحابها من السبعة أو العشرة.
ويظهر إصرار المؤلف على هذا النهج من خلال نقله كثيرًا من قراءاتِ السبعة أو العشرة عن البيضاوي أو النسفي مع حذف القارئ:
(1)
انظر: "روح المعاني"(3/ 397 - 398).
ومثال ذلك عند البيضاوي: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} [النساء: 128] قال: (أن يتصالَحا بأنْ تحطَّ له بعضَ المهر أو القَسْم، أو تَهبَ له شيئًا تستميلُه، وقرئ:{أَنْ يُصْلِحَا} مِن أَصلَحَ بين المتنازعَين
…
).
فهذا الكلام منقول بالحرف من البيضاوي، لكن البيضاوي رحمه الله قال: (وقرأ الكوفيون: {أَنْ يُصْلِحَا} فجعلها المؤلف: (وقرئ
…
) وحذف الكوفيين، والكوفيون هم عاصم وحمزة والكسائي من السبعة.
وانظر هنا كيف تابع البيضاوي أيضًا بالتصدير بقراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو من السبعة.
ومن ذلك قوله: {حَتَّى تَشْهَدُونِ} بكسر النون، والفتحُ لحنٌ؛ لأنَّ النُّون إنَّما تُفتَح في موضع الرَّفع، وهذا موضعُ النَّصب، وأصله؛ تَشهدونني، فحذفت النُّون الأولى للنَّصب، والياءُ لدلالة الكسرة عليها، وبالياء في الوصل والوقف).
والكلام منقول من "تفسير النسفي "، والقراءة بالياء عزاها النسفي ليعقوب، لكن المؤلف حذف كلمة يعقوب مع أنه نقل باقي الكلام بحرفه.
لكن الغالب في القراءات عنده النقل عن الزمخشري سواءٌ المتواترُ والشاذُّ، وكذا توجيهُها، فمن ذلك ما نقله عنه في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} نقل عنه نحو صحيفة كاملةٍ ما جاء في هذه الآية من قراءات مع توجيه كلِّ قراءة منها.
ولا ضرورة للإكثار من الأمثلة فأغلبُ القراءات فيه كذلك، لكن سنقف عند أمر آخر، وهو عدم سكوته على ما وقع من الزمخشري من ردٍّ لقراءاتٍ
ثابتة متواترةٍ لمجرد الرأي أو مخالفة قاعدة نحوية هي عنده مقدَّمة على القراءة المتواترة:
فمن أشد ما ردَّ به عليه عند تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} كلامَه في قراءة ابن عامر: {زَيَّنَ} على البناء للمفعول، وهو القتل، ونصبِ الأولاد، وجرِّ الشُّركاء على إضافة القتل إليه، والفصلِ بينهما بغير الظَّرف، حيث قال:(فقد رُدَّتْ بأن ذلك غير مقبولٍ في مقام الضَّرورة .. فكيف به في غيره؟).
وهذا الكلام هو بعض ما قاله الزمخشري في رد قراءة ابن عامر.
ثم تعقب كلام الزمخشري بقوله: (لكنَّه مردودٌ؛ لأنَّه مختلفٌ فيه بين النَّحويين على ما ذكره أبو حيَّان، ووقوعه في قراءة متواترة دلَّ على الصِّحة؛ لأنَّ العربيَّة تَثبت بالقرآن، وفَهمُ العكس مِن عكس الفهم
…
واعتقاد الضَّعف في مثل تلك القراءة مِن ضعف الاعتقاد، مبناه عدمُ الاعتماد على القراءة والطَّعنُ في الإسناد، ولا يخفى ما فيه من الفساد).
لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤلف رغم كلامه المذكور كان أكثر اعتدالًا ممن ردوا على الزمخشري، فقد شنع عليه العلماء رده لقراءةٍ متواترة، حتى قال أبو حيان: اعْجَبْ لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربيٍّ صريح محضٍ قراءةً متواترة
…
واعجب من سوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيَّرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقًا وغربًا .. إلى آخر ما قال.
وكان الآلوسي رحمه الله أكثر شدة في الرد حيث قال: وقد ركب في هذا
الكلام عمياء وتاه في تيهاء، فقد تخيل أن القراء أئمةَ الوجوه السبعة اختار كلٌّ منهم حرفًا قرأ به اجتهادًا لا نقلًا وسماعًا كما ذهب إليه بعض الجهَلة، فلذلك غلَّط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبيِّن منشأَ غلطه، وهذا غلط صريح يُخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى، فإن القراءات السبعةَ متواترةٌ جملةً وتفصيلًا عن أفصح مَن نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، فتغليطُ شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تغليطِ الله عز وجل، نعوذ بالله سبحانه من ذلك.
قلت: والعجب من البيضاوي على إمامته تأثر بما ذهب إليه الزمخشري، فقال متابعًا له - كما ذكر الشهاب - في تضعيف هذه القراءة: وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر.
ومن تعقباته على الزمخشري ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126]، حيث قال:(وقرئ: (فأطَّرُّه) بإدغام الضاد في الطاء؛ كما قالوا: اطَّجَعَ، نقل سيببويه عن بعض العرب: مطَّجعًا، في مُضْطَجعٍ، وقال: ومضطجع أكثر. فدلَّ على أن (مطَّجعًا) كثير، فلا يكون لغةً مرذولةً).
وفيه رد على الزمخشري في قوله: هي لغة مرذولة.
كما رد عليه في طعنه بقراءة حمزة: {وَالْأَرْحَامَ} بالجر، فقال:(وقرئ بالجر عطفًا على الضمير المجرور، وما ذهب إليه البصريون من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجارّ، والضعفِ في إضماره، يردُّه هذه القراءةُ الثابتة بالتواتر، فإنها مما يُحتج به لا مما يُحتج عليه، إلا عند مَن لا اعتماد له على القراءات الثابتة ولا اعتداد لزعمه الفاسد).
وقد تقدم تفصيل الكلام فيها. وما ذكرناه كاف في بيان المراد، والله وليُّ السداد.
* * *
الإسرائيليات في تفسير ابن كمال باشا
الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبةً إلى بني إسرائيل، وهي معارف اليهود وثقافتهم المتمثلة بالتوراة وشروحها، والأسفارِ وما اشتملت عليه، والتلمودِ - وهي التوراة الشفهية، وهو مجموعةُ قواعدَ ووصايا وشرائع دينية وأدبية ومدنية، وشروح وتفاسير وتعاليم وروايات كانت تتناقل وتدرَّس شفهيًّا من حين إلى آخر - وشروحِه، والأساطيرِ والخرافات، والأباطيلِ التي افترَوها أو تناقلوها عن غيرهم، وهذه كلُّها كانت المنابعَ الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير والتاريخ والقصص والمواعظ، وهذه المنابع إن كان فيها حق ففيها باطل كثير، وإن كان فيها صدق ففيها كذب صُرَاح، وإن كان فيها سمين ففيها غثٌّ كثير، فمِن ثَم انجرَّ ذلك إلى الإسرائيليات، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات، فيجعلها شاملة لما كان من معارف اليهود، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها، والرسل وسيَرهم، ونحو ذلك؛ وإنما سميت إسرائيليات لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل، أو من كتبهم ومعارفهم، أو من أساطيرهم وأباطيلهم.
والحق: أن ما في كتب التفسير من المسيحيات أو من النصرانيات هو شيء
قليل بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات، ولا يكاد يذكر بجانبها، وليس لها من الآثار السيئة ما للإسرائيليات؛ إذ معظمها في الأخلاق، والمواعظ، وتهذيب النفوس، وترقيق القلوب
(1)
.
وقد كثر في كتب التفسير إيراد الإسرائيليات وأكثرها كما تقدم طامات لم ينبِّه ناقلوه على أصله، ولم يوقف على قائله، فكانت مثارًا للشك والطعن والتقوُّل على الإسلام ونبيِّه صلى الله عليه وسلم.
ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام لا حجةَ في ذكرِ أيٍّ منها:
فمنها: ما علِمنا صحته بشرعنا، فما جاء به شرعُنا أولى بالذكر.
ومنها: ما علمنا كذبه لكونه خالف ما عندنا، فلا يجوز ذكره.
ومنها: ما هو مسكوت عنه، فلا نكذبه ولا نصدقه، وتجوز حكايته، لكن لا فائدة فيه تعود على الدين، وإنما لجأ إليه كثير من المفسرين لملء الفراغات التي يتركها القرآن في القصص بأسلوبه المعجز المترفِّع عن إيراد التفصيلات التي لا لزوم لها، بل قد تشتِّت الذهن وتصرف عن العبرة التي سيقت القصة لأجلها.
ومن أهم ملامح هذا التفسير إعراضُه شِبْهُ التام عن الإسرائيليات وتجنُّبُه لذكرها مع ما تحويه من التفاصيل التي لا لزوم لها، وقد أوضح منهجه هذا بقوله عند تفسير قوله تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]: (اختلَفُوا في عدَدِه ولا فائدةَ في تعيينِه).
(1)
انظر: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لمحمد أبو شهبة (ص: 12 - 14).
فأعرَضَ عما اختلفوا فيه عندما رأى أن لا فائدة فيه، بالإضافة إلى عدم ورود شيء يبيِّن ذلك في شرعنا.
وأشار أيضا إلى هذا المنهج في تفسير سورة الصافات فقال في تفسير قصة يونس عليه السلام: (واختُلفَ في مُدَّةِ لبثه في بطن الحوت، ولا طائلَ تحتَ ذِكْرِه).
فهذه الإسرائيليات بما تحويه من التفصيلات لا حاجة لها عند أمثال المؤلف ممن أوتي العلم الواسع والذهن الثاقب والنظر العميق، فهو قادر بما اَتاه الله تعالى من النظر والاستنباط أن يستخرج التفاصيل من ثنايا الألفاظ وخفايا التراكيب.
فلذلك تجده يُهملها حتى في المواضع التي لم يَخْل منها كتاب من كتب التفسير المعروفة، معتمدًا على الاستنباط من ثنايا الألفاظ، وما تُخفيه من دلالات لا تظهر إلا لمن آتاه الله الذوق في الفهم والقدرة على الاستنباط كما سنراه من خلال ذكر بعض الأمثلة عليه:
فمن ذلك قوله تعالى: {أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ} وقال: (العجلُ: ولدُ البقرة، سمِّي بهِ لتعجيل أمرِه بقرب ميلادِه، ولا يخفى لطفُ موقعِه بعد ما فُهمَ من قولِه: {فَمَا لَبِثَ} من معنى العجلةِ).
ومنه: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} [آل عمران: 46] قال: (وذكرَ الناسَ لبيان أن المرادَ التكلُّمُ المعتادُ، فإن الصبيَّ قد يقدر على التكلُّمِ مع أبويهِ وهو طفلٌ، فتكلُّمه مطلقًا في تلك الحالِ ليس بخارقٍ للعادة).
ومنه: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] قال: (قيل: هنا جملٌ محذوفة؛ أي: فجاءهم التابوتُ، وأقرُّوا لطالوتَ بالملك، وتأهَّبوا للخروج، فالفاء فصيحةٌ).
وكذا ما جاء بعده في القصة نفسها: {فَهَزَمُوهُمْ} الفاء فصيحة، وقبله مضمَرٌ؛ أي: فاستجاب الله دعاءهم ونصرهم).
ومثله قوله بعده: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} لم يبيِّن الله تعالى كيفيةَ القتل، إلا أنه أشار في سياقه إلى أنه كان بسهولة).
ومن ذلك ربط القصص القرآنية بعضها ببعضٍ بالتنبيه على فصاحة الواو والفاء الواردة في إحدى القصص معبِّرة عن محذوفٍ يفهم من سياق القصة نفسها في موضع آخر:
فمن ذلك قوله في سورة النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على محذوفٍ، تقديرُه يُفهَم مِن التَّفصيل المذكور في سورة طه، لا على {بُورِكَ}؛ لأنَّ الفصل بينهما بتجديد النِّداء في قوله:{يَامُوسَى} يأباه).
وقريب منه ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] قال: (والباء في: {بِكُمُ} للسببية؛ أي: بسببكم وبسببِ إنجائكم، ولا
يجوز أن يكون للملابَسة؛ أي: مُلْتبِسًا بكم، ولا للاستعانة؛ أي: تسلكونها وتتفرَّقُ بكم كما يتفرَّقُ الشيء بالسكِّين عند قطعه؛ لأن قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] صريحٌ في أن انفصال البحر بعضِه عن بعضٍ وحصولَ المسالك كان بضربِ العصا قبل أخذِهم في السلوك، فإن في الفاء الفصيحة في قوله:{فَانْفَلَقَ} دلالةً على عدم تراخي الانفلاقِ عن الضرب).
وليس ذلك فحسب بل يرد على الروايات والقصص الواردة في تفسير بعض الآيات بآيات القرآن الأخرى:
ومن أجمل الأمثلة وأبينها على ردها بما في القرآن وعدم اعتداده بها: كلامه على ما في سورة يوسف من قوله تعالى: {فَاسْتَعْصَمَ} ، قال: وفي الفاء التعقيبية دلالةٌ على أنه ما صدر عن يوسفَ عليه السلام بين المراودة والاستعصام فعلٌ يفصله عنها، فمِن هنا تَبيَّن أن الواقع من جانبه عليه السلام مجردُ همٍّ غيرِ اختياريٍّ، فما زيدَ على ذلك وذكر في كتب التفاسير والقصص مردود بنصِّ الكتاب فافهم، والله الهادي إلى الصواب).
ومن ذلك ما ذكره من أن قوله تعالى في سورة الحجر: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] يردُّ ما قيل: وإنما قالوا: {لَا تَخَفْ} لأنهم رأوا أثرَ الخوفِ والتغييرِ في وجهه، أو عرَفوه بتعريفِ اللهِ، أو علِموا لأنَّ علمَه بأنهم ملائكة موجبٌ للخوفِ؛ لأنهم كانوا لا ينزِلون إلا بعذابٍ، فقال:(فإن مبنى هذا الغفولُ عن أنه عليه السلام أفصَحَ عن خوفِه بأوضحِ عبارةٍ).
ومثله: {لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] قال: (يعني: بالعذابِ، على ما أفصَحَ عنه في موضعٍ آخرَ بقولِه:{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الذاريات: 33].
قيلَ: وإنما يُقالُ هذا لمَن عرفَهم، ولم يعرِفهم فيمَ أُرسِلُوا. مبناهُ أيضًا الغفولُ عن التفصيلِ الواقعِ في سورة الحجرِ، فإن هذا القولَ منهم بعدَ البشارةِ له عليه السلام بالغلامِ، واستفسارِه بقولِه:{فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الذاريات 31].
وكذا مبنى ما قيلَ هنا: إنَّا ملائكة مرسلةٌ إليهم بالعذابِ، وإنما لم نَمدَّ إليه أيدينا لأنَّا لا نأكُلُ، مبناهُ الغفولُ عما ذكر.
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} يعني: في الخدمةِ، وكانت بمسمَعٍ منهم لا على رؤوسِهم كما قيلَ؛ لأنَّه مردودٌ بقولِه في موضعٍ آخرَ:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات 29]).
* * *
الفقه في تفسير ابن كمال باشا
لم يَترك المؤلف رحمه الله الوقوف عند الآيات التي تتعلق بالأحكام، وبيانَ ما استنبطه منها الأئمةُ المجتهدون، وذكرَ اختلافهم فيها، مع التصريح بمذهبه في أكثر الأحيان، والترجيح له في بعض، سالكًا في ذلك سبيل الإنصاف دون تعصُّبٍ ولا اعتساف، بل قد يتعقَّب أحيانًا أصحاب مذهبه حيق يرى استدلالهم خلاف استدلاله.
فمن أمثلة العرض دون ترجيح وقوفُه عند آيات الحج في سورة البقرة، حيث أكثر من ذكر المذهبين الشافعي والحنفي دون ترجيح كما في تفسيره لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] حيث قال: (فعليه دمٌ بسبب التمتُّع هو هديُ المتعة، وهو نسكٌ عند أبي حنيفةَ لا يذبحُه إلا يومَ النحر ويأكلُ منه، وجُبرانٌ عند الشافعيِّ يجوز ذبحُه إذا أَحرم بحجَّته؛ لأن السبب هو التمتُّع، ولا يتحقَّق إلا به، ولا يأكل منه لأنَّه دمُ جنايةٍ.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ؛ أي: الهدي {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} و: في أيام الاشتغالِ به بعد الإحرام عند الشافعيِّ، وعند أبي حنيفة: في وقت الحج؛ أي: في أشهُره ما بينَ الإحرامين، وأفضلُه اليومُ السابع ويومُ الترويةِ وعرفةَ، ولا يجوز في أيام النحر وأيامِ التشريق عند الأكثر.
{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهليكم، وهو أحدُ قولي الشافعيِّ، أو نفرتُم وفرغتُم من أفعال الحج، وهو قوله الثاني ومذهبُ أبي حنيفة).
ومثله {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]: أَلزمه نفسَه بالإحرام، ولا خلاف فيه، إنما الخلافُ بيننا وبين الشافعيِّ في أن الإحرام يَتمُّ بالنية، أو لا يَتمُّ بل لا بدَّ من التلبية معها أو من سَوقِ الهدي).
وفي تفسير {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} [النساء: 25] قال: (أخذ الشافعي بظاهر الآية وقال: لا يجوز نكاح الأمة إلا بثلاث شرائطَ؛ اثنان في الناكح: عدمُ طَول الحرة وخشيةُ العنت، والثالث في المنكوحة وهي أن تكون مؤمنةً، وهذه الأشياء عندنا للاختيار لا للاشتراط).
ولا يقتصر على المذهبين فقط، ففي تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] قال: (ظاهرٌ في تحريم المتروك عليه اسمُ الله تعالى عمدًا أو نسيانًا، وعليه أحمدُ ومالكٌ وداودُ، خلافا للشافعي؛ لقوله عليه السلام:"ذبيحةُ المسلمِ حلالٌ وإنْ لم يَذكر اسم الله عليه "
(1)
، وفرَّق أبو حنيفة بين العمد والنِّسيان، وأوَّلَه بالميتة وما ذُكر اسمُ غير الله عليه، لقوله:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]).
وقد يلمّح أحيانًا لترجيح مذهبه الحنفي كما في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] حيث قال: (والمعنى: إنْ أُحصِر المحرِمُ وأراد أن يتحلَّلَ تحلَّلَ بذبح هَدْيٍ يُسِّر عليه حيث حُصر عند الشافعي رضي الله عنه، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُحصر بالحديبيَة وذَبح هناك وتحلَّل، وعند أبي حنيفة: لا يَذبح إلا بالحرم، يبعثُه ولا يتحلَّلُ حتى يبلغَ مَحِلَّه، ويُعيِّن للمبعوث على يده يومَ أمارة، ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فإن بلوغ المحلِّ يدلُّ على مسافة بين موضع الحصر وبين المحلِّ، وكذا قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]).
وعند تفسير: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} : قال: {إِلَى} للغاية، فينتهي عندها حكمُ الغَسل عند زفرَ والشافعيِّ ومالكٍ رحمهم الله تعالى، فلا يجب غسلُها لأن الحدَّ لا يدخل تحت المحدود، وعند أئمتِنا الثلاثةِ يجب غسلها؛ لأن ضرب الغاية لا بد له من فائدةٍ، وهي إما مدُّ الحكم عليها، أو إسقاطُ ما
(1)
حديث مرسل معلول كما سيأتي في مكانه.
وراءها، والأول يحصل هاهنا بدونه لأن اليد اسمٌ لذلك العضو إلى الإبط، فتَعيَّن الثاني، ومُوْجَبُه دخول الغاية في حكم المغيَّا، وبهذا التقدير تبيَّن أنه لا حاجة إلى التقدير ولا إلى التغيير).
وجاء عند قوله: إلا حاجة إلى التقدير) في هامش إحدى النسخ: (فيه رد لمن قال: تقديره وأيديكم مضافة إلى المرافق
…
).
وعند قوله: (ولا إلى التغيير) في هامش النسخة المذكورة: (فيه رد لمن زعم أن إلى بمعنى في).
ومن الاستنباطات الحسنة للاستدلال على مذهبه قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} من جماع ودواعيهِ، والخلوةُ الصحيحةُ أقيمت مقامه، ولفظة (ما) تدل على أنَّ يَسير التمتع يوجبُ إيتاء الأجرة).
ثم إنه إذا رأى الآيةَ لا تساعد قولَ إمامٍ نبَّه عليه، ومنه ما جاء في تفسير قوله تعالى من سورة النساء:{مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]، قال:(والشافعي حمله على مؤمنٍ اختلط بأهل الحرب، ويأباه قوله: {مِنْ قَوْمٍ}؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون منهم).
وهذا ينسحب حتى على مذهبه حين يرى أنْ لم يساعد مذهبَه الدليل كما في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] حيث قال: (وقال أبو حنيفة: اللغو أن يحلفَ الرجل بناءً على ظنِّه الكاذب، والمعنى: لا يعاقبُكم بما أخطأتم فيه من الأيمان، ولكنْ يعاقبُكم بما تعمَّدْتم الكذب فيها).
ثم عقبه بقوله: (ولا يساعدُه ظاهر قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
ومما يدل على قوة عقله وتحرره من التقليد الأعمى قوله عند تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]: اختلف مشايخ أصحابنا في أنَّ العبرة لأوَّل طلوعه أم لاستطارَته وانتشارِه؛ قال شمسُ الأئمة الحَلْواني: الأولُ أحوطُ والثاني أوسعُ).
قال المؤلف: (ونحن نقول: إن التشبيه بالخيط للتنبيه على أن العبرة لأوَّلِ طلوعه فلا مساغ للاختلاف المذكور).
ومثله في الآية نفسها: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} قال: (تمسَّكَ أصحابنا بهذا في جواز النيَّة بالنهار في صوم رمضان، ولا وجهَ له، بل هو ظاهر فيما ذكره المخالفُ، حيث قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} ولم يقل: ثم صُوموا، ولولا ما فيه من محذورِ الدلالة على تراخي الشروعِ في الصوم عن طلوع الفجر لَمَا عُدِل عن الأَخْصَر الأظهَر).
لكن تبقى السِّمة العامة لمنهجه في الأحكام الفقهية الاختصارَ وعدمَ الخوض والتوسع في المسائل التي وقع فيها اختلاف بين العلماء وسُطرت في بيانها الصفحات في التفاسير الأخرى، فاكتفَى - مثلًا - في الخلاف الواقع في المؤلفة وإعطائهم من الصدقات بقوله؛ (واختُلف في انقطاع هذا الصِّنف بعزَّة الإسلام وظهوره).
وفي قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] قال: (إمساكُ الكلب
الصيدَ على صاحبه: أن لا يأكل منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "وإنْ أَكَل منه فلا تأكُلْ، إنَّما أمسك على نفسه "
(1)
، هذا في صيد الكلب ونحوِه، فأما صيدُ البازي ونحوِه فأكلُه لا يحرِّمه عندنا، وُيعْرف هذا في الفقهيات).
* * *
النحو في تفسير ابن كمال باشا
من المعروف أنَّ النحو من أهمِّ عناصر تفسير القرآن الكريم، فهو المرقاةُ إلى فهم معاني التنزيل، وبه تظهر وجوه المعاني التي تحتمِلها الآيات، وقد تفاوتت العناية به بين التفاسير، فتلك التي تُعنَى بالمأثور يقلُّ فيها العناية بالإعراب، أما التي تعتمد الاستنباط والتأويل، فلا بد فيها من التوسع في الإعراب وتقليب الوجوه للتوصل بذلك إلى بيان المعاني المختلفة التي تحتملها الآيات.
وعلى كلِّ حالٍ فلا بد للمفسِّر من أن يكون عالمًا بالنحو، متعمِّقاً في مسائله، مطَّلعًا على ما ألِّف فيه، والمؤلِّف رحمه الله إلى جانب تعمُّقه في كتب التفسير، وإلمامه بعلوم القرآن، يُعدُّ من كبار علماء النحوِ المتأخرين كما يشهَد بذلك كتاباتُه ورسائله الكثيرة في مباحث النحو أصوله وفروعه، والتي تدلُّ على تمكنه منه، وجدارتهِ بأن يكون من السابقين المقدَّمين في تفسير القرآن الكريم.
وهذا التفسير خير دليل على ما ذكرنا، فهو لا يُهمل فيه موضعًا يحتاج إلى
(1)
متفق عليه كما سيأتي في مكانه.
الإعراب إلا أعربه، ولا آيةً يتطلب بيان معناها الإعرابَ حتى يُعربها إعرابًا تامًّا ممهِّدًا بذلك لتفسيرها على الوجه الأكمل، مستفيدًا من ذاك الكم الهائل الذي خلَّفه العلماء الأوائل، وما أبدعوه من المسائل:
فمن ذلك قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48](من) لابتداءِ الغاية؛ أي: أممٍ ناشئةٍ ممن معكَ في السفينةِ إلى آخر الدهرِ، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ، ويُرادَ الأممُ الذين كانوا معَهُ في السفينةِ؛ لأنهم كانوا جماعاتٍ، أو لأن الأممَ تتشعَّبُ منه {وَأُمَمٌ} مبتدأ {سَنُمَتِّعُهُمْ} صفة لهُ، والخبر المحذوفُ دلَّ عليهِ {مِمَّنْ مَعَكَ}؛ أي: وممَّن معكَ أمم سنمتِّعُهم).
ومنه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا} [الأنعام: 161] بدلٌ من محل {إِلَى صِرَاطٍ} ؛ لأن معناه: هداني صراطًا؛ لقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 25]، أو مفعولُ فعلٍ مضمَر دلَّ عليه الملفوظ، أو حالٌ من {صِرَاطًا} ؛ لاختصاصه بالصِّفة، أو نصبٌ على المدح؛ أي: أعني - أو: أخصُّ - دينًا
…
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} عطفُ بيان لـ {دِينًا} ، إنَّما ذَكَرَ ذلك حثًّا لهم على اتِّباعه؛ لأنَّه دينُ أبيهم {حَنِيفًا} حال من {إِبْرَاهِيمَ} .
لكنه في إعرابه يُعنى بالاختصار وعدم التطويل مع عدم ترك شيء من الوجوه، ففي تفسير قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37] قال في إعراب {الَّذِينَ} : بدلٌ من قوله: {مَنْ كَانَ} ، أو صفةٌ لـ {مَنْ} ، قال:{مُخْتَالًا} حملًا على لفظ {مَنْ} ، ثم قال:{الَّذِينَ}
حملًا على المعنى، أو نصبٌ على الذمِّ، أو رفعٌ عليه؛ أي: هم الذين، أو مبتدأٌ خبره محذوف، كأنه قيل: الذين يبخلون ويأمرون ويكتمون أحقَّاءُ بالمقت والتعذيب).
ويلاحظ أنه زيادة على الإعراب يُعنى ببيان بعض الفوائد النحوية والقواعد الضرورية، ومنها دقائقُ يصعب العثور عليها في كتب النحو:
فمن ذلك تناوله بعضَ القواعد التي تتعلق بـ (لو) في قوله: (والهمزة في: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} للردِّ والتعجيب، والواوُ للحال؛ أي: أيتَّبعونهم ولو كان آباؤهم {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا}
…
(لو) في مثل هذا التركيبِ تجيءُ تنبيهًا على أنَّ ما بعدها غيرُ مناسبٍ لِمَا قبلها؛ كما في قوله: "أعطوا السائل ولو جاء على فرسٍ"
(1)
، والمعنى: على كلِّ حال، وذلك أنها تجيءُ لاستقصاءِ الأحوال التي يقع عليها الفعل، وتَدلُّ على أن المراد بذلك وجودُ الفعل في كلِّ حال حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعلَ، وإذا قُصد التوبيخ والتعجيب - كما في هذه الآية - لا يكون إيرادُها لاستقصاء الأحوال. ولما كانت الواوُ للحال لم تَحتجْ (لو) إلى جواب؛ لأن الشرط إنما يقع حالًا إذا انسلخ عنه معنى الشرط).
ومنه كلامه في بعض ما يتعلق بأفعل التفضيل في قوله: {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف: 8] قال: (إنما وحَّد {أَحَبُّ} مع كونهما اثنين؛ لأن (أفعلَ من كذا) لا
(1)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 996) عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وانظر تتمة تخريجه في مكانه.
يغيَّر عن صيغة الواحد المذكَّر؛ لأن تمامه بـ (مِن)، ولا يثنَّى الاسم ولا يُجمع ولا يؤنث قبل تمامه، ولا بد في المعرف باللام من المطابقة، وفي المضاف جاز الأمران).
ومن إيراده للفوائد أيضًا قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [التوبة: 36] لما كان جمعُ الحُرُم للقلَّة عاد الضميرُ عليها بالنون، تقول العرب: الجذوع انكسرت؛ لأنَّه جمع كثرة، والأجذاع انكسرْنَ؛ لأنَّه جمع قلَّةٍ.
وفي قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] قال: (وإذا اجتمعَ ضميران وليس أحدُهما مرفوعًا، وقدِّمَ الأعرفُ، جازَ في الثاني الاتصالُ كما وقع هاهنا، والانفصالُ كما لو قيلَ: أنلزِمُكم إياها).
ومن ذلك كلامه في ضمير الفصل في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ} [مريم: 40] حيث قال: ({نَحْنُ نَرِثُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محلِّ الرفع خبرُ (إنَّ)، ولا يجوز أن يكون (نحن) فَصْلًا؛ لأنَّ (نرث) نكرةٌ، والفَصْل لا يقع إلا بين معرفتين، أو قريبين من المعرفة).
وكذا كلامه في علة العطف بالمضارع في قوله تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} بعد الماضي في قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9]، فقال: (على حكايةِ الحالِ الماضيةِ، وقد خُولِفَ به عمَّا قبلَه وما بعدَه إلى المضارع؛ استحضارًا لتلك الصُّورة البديعة الدَّالة على القدرة الباهرة من إثارة الرِّيح السَّحابَ، وما يقارنُه من إنزال المطر وغيره.
وهكذا يُغيَّر النَّظم في كلِّ أمرٍ عجيبٍ وفعلٍ يختصُّ بحالٍ يُستَغرَبُ، أو يهمُّ المخاطِبَ أو المخاطَبَ، أو يتميَّز بنوعِ شرفٍ، وغير ذلك).
ومن الأمثلة الحسنة لوقفات المؤلف النحوية، ولعنايته بالناحية النحوية والإعرابية المتعلقة بالمعاني مع ردِّه لما ذهب إليه الزمخشري والبيضاوي: ما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} [التوبة: 63]، حيث قال:{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} [التوبة: 63] على حذف الخبر؛ أي: فحقّ أنَّ له، أو على تكرير (أنَّ) للتَّأكيد.
قيل [القائل الزمخشري وتابعه البيضاوي]: يجوز أن يكون معطوفًا على {أَنَّهُ} ويكون الجوابُ محذوفًا، تقديره: مَن يحاددِ اللهَ ورسولَه يهلك، فيكون {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في موضع نصب.
وهذا الذي قرَّره لا يصح؛ لأنهم نصُّوا على أنَّه إذا حُذِفَ الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشَّرط ماضيًا في اللَّفظ، أو مضارعًا مجزومًا بـ (لم)، فمن كلامِهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز: إن تفعل، وهنا حذف جواب الشَّرط، وفعلُ الشَّرط ليس ماضيَ اللَّفظ ولا مضارعًا مقرونًا بـ (لم)، وذلك إن جاء في كلامهم فمخصوصٌ بالضرورة، وأيضًا فتجدُ الكلامَ تامًّا دونَ تقدير هذا الجواب).
والكلام هنا منقول من "البحر المحيط"
(1)
.
كما يلاحظ أن منهجه في إيراد الأقوال النحوية هو أنه يجزم بالأقوى والأولى عنده ولا يلتفت إلى غيره بل يهمله ولا يذكره أصلًا، كما في تفسير قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
(1)
انظر: "البحر"(11/ 339).
قال: (و (مِن) للتبعيض، فإن ما يَصلح رزقًا لنا بعضُ الثمرات المخرَجة، ولا يَصلح للتبيين إذ لم يتقدَّم ما يبيَّن).
هذا بينما أجاز الزمخشري: فإن قلت: فيم انتصب رِزْقًا؟ قلت: إن كانت "من" للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبنية، كان مفعولًا لأخرج.
وقال الطيبي معقبا مؤيدا لما ذهب إليه الزمخشري من احتمال (من) للوجهين وموجِّها له: قيل: إذا كانت "من" للتبعيض يكون محلها منصوبا على المفعول به، ورزقا على المفعول له، ومحل "لكم" منصوب على أنه مفعول به لـ "رزقا؛ لأنَّه مصدر، وإن كانت للتبين كانت حالا ورزقا مفعول به، و"لكم " صفة لـ "رزقا ".
ومن ذلك جزمه بوجه مع إهمال غيره، ففي قوله تعالى:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} [البقرة: 96] بأن وجد بمعنى علم ولم يذكر غيره من قريب ولا بعيد، بينما أجاز غيره غير ذلك كما في "البحر"
(1)
.
وكما في تفسير قوله تعالى: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]، حيث قال:{لَمْ يَدْخُلُوهَا} استئنافٌ، أو صفةٌ لـ {أَصْحَابَ}؛ أي: لم يَدْخلوها بعدُ.
كذا اقتصر على هذين الوجهين مع الاختصار في بيانهما، في حين أن
(1)
انظر: "البحر"(2/ 334).
فيها وجوها وتفصيلات ذكرها صاحب "الدر المصون"
(1)
.
وأكثر من ذلك جزمه بوجه مع نفي غيره، كما في {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ} [البقرة: 50]، حيث جزم بكون الباء في {بِكُمُ} للسببية، ونفى أن تكون للاستعانة أو الملابسة، وهو ما أجازه غيره، كما في "روح المعاني"
(2)
.
ومثله ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، حيث قال: و {فِيهِ} متعلق بمحذوف يبيِّنه {الزَّاهِدِينَ} ؛ لأن متعلَّق الصلة لا يتقدَّم على الموصول، وأنَّ ما بعد الجارِّ لا يعمل فيما قبله.
وهذا الذي جزم بنفيه قد أجازه غيره بلا توقف، قال ابن الحاجب: في "أماليه": إنه متعلق بالصلة، والمعنى عليه بلا شبهة، وإنما فروا منه لِمَا فهموا من أنّ صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقا، وبَيْنَ صلة (أل) وغيرها فرْق، فإنّ هذه على صورة الحرف المنزل منزلة جزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "الدر المصون"(5/ 335).
(2)
انظر: "روح المعاني"(2/ 165).
(3)
انظر: "أمالي ابن الحاجب"(1/ 283)، و"فتوح الغيب"(3/ 12)(8/ 283)، و"حاشية الشهاب"(5/ 265)، و"روح المعاني"(12/ 254).
العناية باللغة وشرح الألفاظ
إن من أبرز سمات هذا التفسير عنايته الفائقة بالمعاني اللغوية للألفاظ القرآنية، فلا يمر على لفظ يحتاج إلى شرح وبيان إلا بينه وشرحه شرحا وافيا، وساق تصريفاته إن تطلب الحال ذلك، ومثل هذا لا يحتاج لكثير استدلال لأنَّه سمة ملازمة له من أوله وحتى النهاية، لكن سنسوق بعض الأمثلة زيادة في التوثيق:
فمن ذلك قوله: {وَكَانُوا شِيَعًا} : فرقًا، جمعُ شيعة، وهي الفرقة المُتَّفقة على طريقٍ ومذهبٍ، مِنْ شاعه: إذا تبعَه، وأصله الشِّياع، وهو الحطب الصغار يوقَد به الكبار.
وفي تفسير قوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا} قال: أي: أعرضوا، مِنْ صَدَّ عنه يَصُدُّ صُدودًا، أو: مَنعوا من صدَّه عنه يَصُدُّه صدًا.
وقد جاء فيه بعض المعاني الدقيقة التي لم أجد لها مصدرًا فيما توفر من مصادر:
فمن ذلك: ما ذكره في قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} حيث شرح الفئة فقال: والفئة: الجماعة المنقطِعة عن غيرها، مِنَ الفأو، وهو قطعُ الرَّأس بالسَّيف.
وكذا قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الرِّباط: شدٌّ أيسر من العقد.
وكذا في تفسير سورة إبر اهيم: {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم: 18] قال:
الاشتدادُ: الإسراعُ بالحركة على عظم الحقوة، ومنه: اشتدَّ به الوجع؛ لأنَّه أسرع إليه على قوَّةِ ألمٍ.
فهذه المعاني لم أجد من ذكرها.
وأما قوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} [هود: 34] النصحُ: إمحاضُ إرادة الخيرِ في الدلالةِ.
فقد جاء ما هو قريب منه كقول النسفي: وحقيقة النصح: إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك، أو النهاية في صدق العناية
(1)
.
والأمر فيها واسع حيث قال ابن الأثير: النَّصيحةُ: كلمةٌ يُعَبَّرُ بها عن جملةٍ، هي إرادةُ الخير للمنصوح له، وليس يمكنُ أنْ يُعَبَّر هذا المعنى بكلمةٍ واحدةٍ تجمع معناه غيرِها
(2)
.
ويجزم أحيانًا بمعنى مع وجود معان أخرى، ومن ذلك قوله:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} أمرٌ من الذُّكر الذي هو مضموم الذال، وهو بالقلب خاصةً، فالمراد: الحفظُ الذي يضادُّ النسيان.
بينما قال أبو حيان: الذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد ويكونان باللسان والجنان
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "تفسير النسفي"(1/ 576).
(2)
انظر: "النهاية"(مادة: نصح).
(3)
انظر: "البحر"(1/ 469) و"الدر المصون"(1/ 311)، و"حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي"(2/ 144) و"روح المعاني"(2/ 138).
التفسير الإشاري عند ابن كمال باشا
ولم يخلُ هذا التفسير من بعض العبارات اللطيفة التي قد تكون أقرب إلى كلام أهل الإشارة، لكنها مع ذلك لا تخرج عما في القرآن من العبارة، كما وقع عند بعض المنتمين إلى الصوفية، من الخروج بالكليَّة عن الألفاظ القرآنية والمعاني الربانية، وما ذكره المؤلف بعضُه منقول عن أهل هذا الفن، وبعضه عن غيرهم، ومنه ما هو من إنشاءاته الجميلة وعباراته البديعة.
فمن عباراته الجميلة قولُه في أول الفاتحة ملخِّصًا ما قيل في اشتقاق الإله: فمجموع الأقاويل: هو المعبودُ للخواصِّ والعوامِّ، المفزوعُ إليه عند الأمور العِظامِ، المرتفِعُ عن الأوهامِ، المُحتجِبُ عن الأَفهامِ، الظاهرُ بالأَعلامِ، الذي تحيَّر في صفاته الأَحلامُ، وسَكنَتْ في عبادتِه الأَجسام، ووَلعَتْ به نفوسُ الأنام، وطرِب إليه قلوبُ الكرام.
وقال أيضًا في تفسير سورة الفاتحة: وإنَّما خصَّ إضافةَ (مَلِك) إليه لأنَّ الأملاك يومئذٍ زائلةٌ، قال الله تعالى:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، فكأَنَّه يقول: خلقتكَ أولًا فأنا إلهٌ، ثمَّ ربيتكَ بوجوه النِّعمة فأنا ربّ، ثمَّ عصيتَ فسترتُ عليكَ فأنا رحمن، ثم تُبتَ فغفرتُ لكَ فأنا رحيم، ثمَّ لا بدَّ من إيصال الجزاءِ إليك فأنا مالكُ يوم الدِّينِ.
ومن ذلك قوله: ثمَّ إنَّ ربوبيَّته تعالى بمعنى الخالِقيَّة والمالِكيَّة والسَّيِّديّة والمَعبوديَّة عامَّةُ، وبمعنى التَّربية والإصلاح خاصةٌ، بحسب أنواعِ الموجوداتِ
متفاوتةٌ، فهو مربِّي الأشباحِ بأنواع نِعَمه، ومربِّي الأرواحِ بأصناف كرمِه، ومربِّي نفوسِ العابدِينَ بأحكام الشَّريعة، ومربِّي قلوب العارفينَ بآداب الطَّريقةِ، ومربِّي أسرار الأبرارِ بأنواع الحقيقةِ، ولقد أحسنَ مَن قال: إنّه تعالى يملِك عبادًا غيرَك كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] وأنتَ ليس لك ربّ سواه، ثمَّ إنكَ تتساهل في خدمته كأنَّ لكَ ربًّا غيرُه، وهو يعتَني في تربيتك كأنْ ليس له عبدٌ سِواكَ، يحفظكَ بالنَّهار عن الآفاتِ بلا عِوَضٍ، ويحرسُك باللَّيل عن المخافاتِ من غيرِ غرضٍ، فما أحسنَ هذه التريبة!
ومنه قوله في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]: وزيادة {هُمْ} لأنَّ غيرهم يتَّعظون باختبارهم أنَّ سنَّة الله تعالى أنْ لا يُخْليَ أرباب التكليف من دلائل التَّعريف، والتّحريكِ لهم في كلِّ وقتٍ بنوعٍ من البيان، والتَّعريكِ في كل أوان بضربٍ من الامتحان، فمنهم مَن لا يزداد بإيضاح البرهان إلا زيادة الخذلان، والحجبةَ عن قرائر البيان.
ومنه عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] قال: مما قضَى عليكم مما أشرْتُ به إليكم؛ أي: لا نفعُ ولا أرفعُ إن أراد الله بكم شيئًا، ولم يُرِدْ به اتِّقاء الحذر عن إلقاء النفس إلى محلِّ الخطر، ببيانِ عدم التأثير للتدبير في تغيير ما في التقدير؛ لأنَّه لا يناسب شأن النبيِّ عليه السلام أن يوصيَ بشيء على وجه الاهتمام ببنيه الكرام ثم يبطلَه ويُظهِرَ أنه من خطَرات الأوهام، بل أراد دفع ما يخطر بالبال عند سماع مثل هذا المقال من معارضة التقدير بالتدبير بحسب الظاهر المتبادر إلى الأفهام، بما مرجعه إلى أن الحذر
لا يُغني من القدر، ومع هذا لا بد للعاقل من الحذر عن مظانِّ الضرر، ولذلك أُمرنا به في قوله تعالى:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] ونُهينا عن خلافه في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وقال عند تفسير قوله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} : قيل: لما رأى أمره إلى الكمال، علم أنه على الزوال، فسأل سعادة الانتقال، وليس فيه سؤالُ التوفِّي للحال، بل سؤالُ الختم على الإسلام متى كان، فتوفاه الله طيبًا طاهرًا.
ومن ذلك ما نقله عن القشيري في شرح قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 26] قال: مَن تبرَّأ عن اختياره في احتياله، وصَدَق رجوعه إلى الله تعالى في أحواله، ولم يستعن بغير الله مِن أشكاله؛ آواه إلى كهف أفضاله، وكفاه جميع أشغاله، وهيَّأ له محلًّا يتفيَّا فيه من برد ظلاله بكمال إقباله
(1)
.
وقال في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} : لا دنياهم بكرائمها، ولا عُقباهم بعظائمها
…
لمَّا قصَّر لهم لسان المعارَضة سكتوا متضرِّعين بقلوبهم بين يدي الله تعالى، داعين له بحسن الابتهال، فتولَّى سبحانه وتعالى خصومَتهم فقال:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ} إلخ: لا تنظر يا محمَّد إلى خِرقتهم على ظواهرهم، وانظر إلى حُرقتهم في سرائرهم، كانوا مستورين فشهَرهم الله تعالى
(2)
.
ومنه أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]
(1)
انظر: "لطائف الإشارات"(2/ 382).
(2)
المصدر السابق (1/ 475).
قال: بيَّنَ أنَّ الآيات وإنْ توالَتْ، وشُموسَ البرهان وإنْ تعالَت، فمَنْ قصمَتْه العزَّة، ووكسته القسمة، لم يزدْه ذلك إلا ضلالًا، فلم يَستجدْ إلَّا للقسوة حالًا
(1)
.
وقوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ} بيان أنه رأى الرِّفقَ في الجوار لا في المبارِّ
(2)
.
وصرح بالنقل منه عند تفسير: {مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} ؛ فقال: وقال القشيريُّ: أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم حيث أضافه إلى نفسه بقوله: {مِنْ آيَاتِنَا} ، فقلبُ العادة من الله ليس بمستبدَعٍ
(3)
.
ومما نقل عن النسفي: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] قال: أضاف الإطعام إلى وليِّ الإنعام؛ لأنَّ الرُّكون إلى الأسباب عادةُ الأنعام.
وبعده: {وَإِذَا مَرِضْتُ} لم يقلْ: أَمرضني؛ لأنَّه قصدَ الذِّكْرَ بلسانِ الشُّكر، فلم يُضفْ إليه ما يقتضي الصَّبر، ولأنَّ ذلك لم يكون مقصودًا بذاته كسائر ما ذُكِرَ مِن أفعاله تعالى الكمالية، وإنَّما هو من روادف الطَّعام والشَّراب
(4)
.
فهذا ما وفَّقَنا إليه سبحانه في بيان منهج المؤلف وتوضيحه، ولعله يكون
(1)
المصدر السابق (1/ 495)، ولفظه:"لأن الآيات وإن توالت، وشموس البرهان وإن تعالت، فمن قصمته العزّة وكبسته القسمة لم يزده ذلك إلا حيرة وضلالا، ولم يستنجز إلا للشقوة حالًا".
(2)
المصدر السابق (2/ 256).
(3)
المصدر السابق (2/ 378).
(4)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 568).
كافيًا في إعطاء الوصف الصحيح له، ورسم الصورة التي يستحقُّها، والكلام في هذا طويل، لكن اقتصرنا منه على هذا النَّزْر اليسير، ظنًّا بأنه كافٍ في أداء الغَرض، والله وليُّ التوفيق.
لكن كل عمل مهما بلغ شأنه، وعلا مقدارُه، واتَّسعت فوائدُه، لا بد وأن يكون فيه بعض المآخذ، وأن يقع مؤلفه ببعض السقطات؛ لأن الكمال لم يجعل إلا لكتاب اللهِ وكلامِ رسوله، فرأينا لزامًا علينا التنبيهَ إلى بعض ما ورد فيه من التغريبات، وما وقع فيه مؤلفه من الأخطاء أو السقطات.
* * *
خامسًا: المآخذ التي يمكن أن تذكر على هذا الكتاب الجليل
وهذه المآخذُ منها ما يتعلق بالاستدلال بالأحاديث الموضوعة أو التي لا تعرف، ومنها ما يتعلق ببعض الآراء التي خالف فيها المؤلف العلماء وردوا عليه فيها، ومنها ما تابع عليه غيرَه في سهو أو خطأ، ومنها غير ذلك.
فمن استدلاله بالأحاديث التي لا أصل لها: قوله في مستهلِّ سورة البقرة في تفسير {الم} بعد أن ذكر الوجه الأوجه فيها: والمرويُّ عن الصَّدر الأوَّل في التهجِّي أنَّها أسرارٌ بينَ الله تعالى ونبيِّه، وقال بعضُ الكُمَّلِ: قد يجري بينَ المحرمينِ كلماتٌ مُعمَّاةٌ تُشير إلى سرٍّ بينَهما.
قال: والمقطَّعاتُ في أوائل السُّورِ من هذا القَبيلِ، فإنَّه تعالى قد وضَعَها مع نبيِّه عليه السلام في وقتٍ لا يسعُهُ فيه ملَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل، ليَتكلَّم بها معه على لسان جِبْرائيلَ عليه السلام بأسرارٍ وحقائقَ لا يطَّلعُ عليْها جبرائيل عليه السلام، ويدلُّ على هذا ما رُوي في الأخبار أنَّ جبرائيل عليه السلام لمَّا نَزلَ بقوله تعالى:{كهيعص} ، فلما قال: كاف، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"علمتُ"، فقال: ها، قال:"علمتُ"، فقال: يا، قال:"علمتُ"، فقال: عين قال: "علمتُ"، فقال: صاد، قال:"علمتُ"، فقال جبرائيلُ عليه السلام: كيفَ علمتَ ما لم أعلمْ؟
وهذا الخبر لم أجده في كتاب من كتب الحديث ولا غيره، فلا يصلح هذا حجة لما قاله المؤلف؛ لأن مثله يحتاج لدليل صحيح ثابت.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] قال: وإنَّما ذكر آلة العلم في مقام الامتنان والحثِّ على الشكر دون آلة القدرة تعظيمًا للعلم، وتنبيهًا على أنَّ المقصود من خلق ابن آدم - بل من إيجاد العالم - هو العلمُ، على ما عُلم من قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: ليَعْرِفون، ومن قوله عليه السلام: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببْتُ أنْ أُعْرَفَ
…
" الحديث.
وهذا الحديث قال عنه الزركشي في " اللآلئ المنثورة": قال بعض الحفاظ: ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف
(1)
.
ومن ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] استَدل بحديث نسبه إلى النَّبيِّ عليه الصلاة السلام أنه قال: "اليمين للوضوء واليسار للاستنجاء ".
والحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، وإن كانت قد وردت أحاديث كثيرة لاستحباب استخدام اليمين في الوضوء وما يستحسن، والنهي عن استخدامها في الاستنجاء.
وفي الكلام عن صلاة الخوف في سورة النساء ذكر مذهب أبي حنيفة: أنه يُتمُّ صلاتَه إن كانت ركعتين، ثم تقف هذه بإزاء العدوِّ وتأتي الأخرى فتؤدي الركعةَ بغير قراءةٍ لأنهم لاحقون، ويُتمُّون الصلاة ثم يَحرسون، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءةٍ لأنهم مسبوقون ويُتمون الصلاة.
ثم ختم ذلك بقوله: كذلك رواه ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم.
(1)
انظر: "اللآلئ المنثورة"(ص: 136).
وفي نسبة ما ذكر لحديث ابن مسعود وابن عمر نظر، فليس في حديثهما هذه الهيئة من التنصيص على أن الأولى قضت بلا قراءة والأخرى بقراءة، وإنما هو شيء عزاه الميرغيناني لخبر ابن مسعود، والصواب أنه من كلام أبي حنيفة كما في "أحكام القرآن" للجصاص و"المحلى" لابن حزم وقال ابن حزم: وهي زيادة لم تعرف عن أحد من الأمة قبله
(1)
.
قلت: وحديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وحديث ابن مسعود رواه أبو داود
(2)
.
ومما يؤخذ عليه أيضًا عدمُ تمكنه من معرفة الحديث، فيجعل كلام التابعي حديثاً كما في تفسير قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية [البقرة: 177]، حيث قال في آخرها: فالآيةُ جامعةٌ للكمالات الإنسانيَّة بأسرها، وإليه أشار النبيُّ عليه السلام في قوله:"مَن عَمِلَ بهذه الآيةِ فقد استكْمَلَ الإيمان ".
ولم نجده حديثًا بل رواه ابن أبي شيبة عن أبي ميسرةَ قوله
(3)
.
وأحيانا يقع في عكس هذا حيث ينسب الحديث المتفق عليه لكلام صحابي، كما في تفسير قوله تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] قال:
(1)
انظر: "أحكام القرآن " للجصاص (2/ 257)، و"المحلى" لابن حزم (5/ 39)، و"الهداية" مع "فتح القدير"(2/ 97)، و"نصب الراية"(2/ 243).
(2)
انظر تخريجه في موضعه من التفسير.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3490).
أي: حبِّ المال والشُّحِّ به كما قال عليٌّ رضي الله عنه لمَّا سُئل: أيُّ الصدقة أفضلُ؟: أن تؤتيه وأنت صحيحٌ شحيح تأمُلُ العيش وتخشَى الفقر.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
.
وقد ينسب الصحة إلى الحديث الضعيف كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: وما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه على ما خرَّجه الترمذي - وقال فيه: حسن صحيح - من قوله عليه السلام: "لِسُرادق النَّار أربع جُدُرٍ
…
" يعضدُ ما ذكرنا.
والحديث المذكور قد رواه الترمذي كما قال، لكنه ما صححه ولا حسنة، بل أشار لضعفه بقوله: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تُكُلِّم فيه من قِبَل حفظه
(2)
.
والمؤلف في نقل التصحيح عن الترمذي تابع في ذلك القرطبي
(3)
.
ومما يمكن أن يؤخذ عليه في هذا الباب أيضًا: هو رد الحديث الصحيح بعقله، كما في قوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78] قال: مَوثقًا أن يؤتيَه ذلك، روي أن خبَّاب بن الأرتِّ صَاغَ للعاصِ بنِ وائل حَلْيًا، فاقتضاهُ الأجرَ، فقال: إنَّكم تزعمون أنَّكم تُبعَثون وأنَّ في الجنة ذهبًا
(1)
رواه البخاري (1419)، ومسلم (1032)، وفيهما:"تخشى الفقر وتأمل الغنى"، وفي رواية لمسلم:" وتأمل البقاء".
(2)
"سنن الترمذي"(2584).
(3)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 262).
وفضَّة فأنا أَقضيكَ ثَمَّ؛ فإني أُوتى مالًا وولدًا حينئذٍ.
ثم تعقبه بقوله: وفيه أن قوله: وولدًا، لا يناسب المقامَ ومساقَ الكلام حينئذ.
وهذا الكلام مردود لأن الحديث متفق عليه
(1)
، ولعله ظنه من الأخبار التي يذكرها الزمخشري ولا يعرف لها إسنادٌ، حيث إنه نقله عن الزمخشري.
ومن هذا الباب ما قاله عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11]: أنَّثَ الضَّمير على تأويل الجنَّة أو الطَّبقة، فإنَّه أوسط الجنان وأعلاها طبقةً، ومن هنا تبيَّن أنَّ ما قيل: إنَّهم يرثون من الكفَّار منازلهم فيها حيث فوَّتوها على أنفسهم لأَنه تعالى خلق لكلِّ إنسان منزلًا في الجنَّةِ ومنزلًا في النَّار - لا يُناسِبُ المقامَ.
كذا قال، وفي كلامه نظر، فقد رد به تفسيرًا مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهلُ الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} "
(2)
. وصحح إسناده القرطبي وابن حجر، ولذلك فقد قال الآلوسي بعد ما أتبع الحديث بما اختاره المؤلف ورجحه من أن الإرث مستعار للاستحقاق في نه أقوى أسباب
(1)
رواه البخاري (2591)، ومسلم (2795)، والترمذي (3162)، من حديث خباب رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن ماجه (4341).
الملك: واختير الأول لأنَّه تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي.
قلت: ولعل المؤلف اغترَّ بصنيع البيضاوي حيث قدم ما اختاره المؤلف، وأخر القول بالحديث المرفوع مقدِّما له بـ (قيل) على عادته في تضعيف ما لا يرتضيه من أقوال.
ومما تابع عليه البيضاوي أيضًا قوله في سورة الحجر: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} بالياء مسندًا إلى ضمير اسم الله تعالى.
فتابع المؤلف البيضاوي في قوله: "بالياء مسندًا
…
"، وأُورد عليه: أنَّ قراءة الياء لم يقرأ بها أحد من العشرة، ولم توجد في الشواذ أيضًا، بينما بنى البيضاوي تفسيره عليها، وحكى قراءة السبعة بصيغة التمريض. قال الآلوسي: وهو خلاف ما سلكه في تفسيره، ولعله رحمه الله قد سها
(1)
.
وتابع الزمخشريَّ عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَار} [الأحزاب: 15] فذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: عاهدوا رسولَ اللهِ عليه السلام ليلةَ العقبةِ أن يمنعوه ممَّا يمنعون منه أنفسهم.
فقول ابن عباس هذا قد نقله من "الكشاف"، وفيه نظر من جهتين:
الأولى: في نسبته، فقد ذكره السمعاني والثعلبي والبغوي في تفاسيرهم
(1)
انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(5/ 284)، و"حاشية القونوي على البيضاوي"(11/ 122)، و"روح المعاني"(13/ 430)
عن مقاتل والكلبي لا عن ابن عباس، فنسبته لابن عباس لا تصح؛ وحتى لو كان من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فلا يصح.
وأما الثانية: ففي معناه، فقد قال السمعاني والبغوي: وهذا القول ليس بمرضيٍّ؛ لأن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة لم يكن فيهم شاك ولا من يقول هذا القول.
ومن ذلك متابعة الزمخشري والبيضاوي في التصدير بالقراءة الشاذة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 120] بالتاء. ثم قال: (وقرئ بالياء
…
)، ففي هذا تأكيد على أن المصدَّر بها هي القراءة بالتاء، وهي قراءة شاذة تنسب للحسن بن أبي الحسن، أما المتواتر فهو القراءة بالياء، وكان الأولى بالمؤلف رحمه الله تقديم القراءة المتواترة، لكنه تابع الزمخشري والبيضاوي في التصدير بقراءة الحسن، على عكس أبي حيان والآلوسي اللذين سلكا الجادة في تقديم المتواتر ثم الإشارة إلى الشاذ.
ولا يخلو الأمر من بعض أوهام وقعت له هو نفسه، فمن ذلك: قوله عند تفسير قوله تعالى: {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]: أُعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضيِّ؛ لأنَّها حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، ولم يُقصد الإخبار عن فعل الكلب، وعند الكسائي وهشامٍ، وأبي جعفرٍ من البصريين: كونُه بمعنى المضيِّ غيرُ مانعٍ من العمل.
فقوله: (من البصريين) لعله وهم منه رحمه الله، فالذي في "البحر المحيط" والكلام منه:(ذهب الكسائي وهشام ومن أصحابنا أبو بجعفر بن مضاء)، فلعل
المؤلف استبدل (من أصحابنا) بـ (من البصريين)، والصواب والله أعلم أن مراد أبي حيان بأصحابه هو: الأندلسيون، فأبو جعفر المذكور هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللخمي، وهو قرطبي جَيَّانيُّ الأصل توفي بإشبيلية سنة (592 هـ)، وكان محدثًا مقرئًا مجتهدًا في العربية.
ومما يمكن أن يعدَّ من الأوهام وأن يعدَّ من تحريف النساخ ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3] حيث قال: {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} صفة لـ {خَالِقٍ} ، أو تفسير لعامله إنْ جعلتَه مرفوع المحلِّ بإضمار فعلٍ لا با لابتداءِ، أي: هل يرزقُكُم مِن خالقٍ، أو استئنافٌ دلَّ على أنْ لا خالقَ غير الله، وعلى وجوب شكر نعمتِه، فهو أحسنُ الوجوه، وعلى الوجهَيْن الأخيرَيْن لا محلَّ له من الإعراب {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} جملة منصوبة مثل {يَرْزُقُكُمْ} في الوجه الثَّالثِ ..
قوله: (منصوبة) كذا جاء في أكثر النسخ، وفي إحداها:(منصوب)، وكلاهما تحريف، مع وقوع سقط بعدها يجعل الكلام غير مستقيم، وصواب العبارة كما في "الكشاف" والكلام منه:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} جملة مفصولة لا محل لها، مثل: يرزقكم في الوجه الثالث. اهـ. فتأمل.
ومن أكثر الأمور التي تعقبوه فيها وعدُّوها من غرائبه كلامه عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [فاطر: 11] فإنه بعد أن ذكر أنه مِن بابِ تسميةِ الشَّيءِ بما يَؤُولُ إليه، أي: وما يعمَّرُ مِن أحدٍ، لرجوع الضَّمير في قوله:{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} إليه، والنُّقصانُ مِن عُمرِ المعمَّرِ مُحالٌ، فهو مِن التَّسامحِ في العبارة ثقةً بفهم السَّامع.
عقبه بقوله: هذا بحسب الجليل مِن النَّظر، وأمَّا النَّظرُ الدَّقيقُ فيَحكم بصحَّة أنَّ المعمَّر - أي: الذي قُدِّرَ له عمرٌ طويلٌ - يجوز أنْ يبلغَ حَدَّ ذلك العمرِ وأنْ لا يبلغَ عمرَه، فيزيدُ عمرُه على الأوَّل وينقص على الثَّاني، ومع ذلك لا يلزمُ التَّغييرُ في التَّقدير، وذلك لأنَّ المقدَّرَ لكلِّ شخصٍ إنَّما هو الأنفاس المعدودة، لا الأيَّام المحدودة والأعوام الممدودة، ولا خفاء في أنَّ الأيَّام قَدْرٌ مِن الأنفاسِ يزيدُ وينقصُ بالصِّحة والحضور والمرض والتَّعب. ثم ختم كلامه هذا بقوله: فافهم هذا السِّرَّ العجيبَّ.
ويضاف إلى هذا ما كتب بهامش أكثر النسخ الخطية: (حتى ينكشف لكَ سِرُّ اختيار حبس النفس، ويتضح وجه صحة قوله عليه السلام: الصَّدقة والصِّلة تعمران الدِّيار وتزيدان في الأعمار. منه).
وقول المؤلف قد نقله الشهاب في "الحاشية على البيضاوي" مشنعًا عليه فيما ذهب إليه، لكنه لم يسمه، بل قال: ومن العجيب ما قيل هنا: إنَّ المعمر المقدَّر له عمر طويل، وهو يجوز فيه أن يبلغ فيه حدّ ذلك العمر وأن لا يبلغه
…
- إلى آخر كلام المؤلف - وعدَّه سرًّا دقيقًا، وهو مما لا يعوِّل عليه عاقل، ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود، مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها وقد دعت بطول عمر:"سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة"، وقد أطال المحشي فيه وفي رده وهو غنيٌّ عنه. اهـ.
أما الآلوسي فقد نقل كلامه أيضا معيِّنا إياه باسمه، ونقل كذلك ما ذكر في
حواشي النسخ الخطية، مصدِّرًا كلَّ ذلك بالتعجُّب منه، ومتعقِّبا إياه بما أوردناه من ردِّ الشهاب، وهو - والله أعلم - الموافق للصواب.
ومما قد يؤخذ عليه أيضًا المبالغةُ في الاختصار بحيث يَغمض المعنى ولا يظهر عود الضمائر، فنضرب عليه مثالًا ما جاء في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، قال:{يَلْعَبُونَ} : حالٌ من {ذَرْهُمْ} ، {فِي خَوْضِهِمْ} صلةٌ له، أو لـ {يَلْعَبُونَ} ، أو حال منه، أو من {خَوْضِهِمْ} وهو صلة لـ {ذَرْهُمْ} .
فقوله: (حالٌ من {ذَرْهُمْ} الأَولى أن يقوله: (حال من مفعول {ذَرْهُمْ}) كما هي عبارة "البحر".
وقوله: (و {فِي خَوْضِهِمْ} صلةٌ له)؛ أي: صلة لـ {ذَرْهُمْ} .
وقوله: (أو حال منه)؛ أي: {فِي خَوْضِهِمْ} حال من الضمير في {يَلْعَبُونَ} .
وقوله: (أو من {خَوْضِهِمْ} ؛ أي: {يَلْعَبُونَ} حال من ضمير {فِي خَوْضِهِمْ} .
كل هذا واضح في عبارات "الكشاف" و"البحر المحيط".
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا} [الأعراف: 18] قال: {مَذْءُومًا} مِن ذَأَمه: إذا ذمَّه، وقُرئ:(مَذُومًا) كمَسُولٍ في مسؤولٍ، أو مَكُولٍ في مكيلٍ مِن ذامه يَذيمه ذَيْمًا.
ومعنى الكلام: أن فيه على هذه القراءة وجهين كما قال الآلوسي، ولفظه: فيه احتمالان: الأول أن يكون مخففًا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن
ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع، وكان قياسه على هذا: مذيم كمبيع، إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم: مكول، في مكيل، مع أنه من الكيل
(1)
.
ومما قد يؤخذ عليه أيضًا قلة التحري في اللغة أحيانًا كما في تفسير قوله تعالى: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] قال: وقرئ بفتح الشين وضمِّها، أمَّا الأولُ: فمِن الرَّشَد بالفتح، يقال: رَشِدَ يَرْشَدُ رَشَدًا فهو رَشيدٌ، مِن حدِّ عَلِمَ، وأمَّا الثاني: فمِن الرُّشْد بالضم، يقال: رَشَدَ يَرشُدُ رُشْداً فهو راشدٌ، من حدِّ دَخَل.
فقوله: (من حد علم) يعني في الماضي والمضارع فقط، أما المصدر فمختلف كما هو ظاهر، وكان الأجدر أن يقول: من حد طَرِبَ - كما في "مختار الصحاح " - فهو المطابق له في كل التصريفات.
وقوله: (من حد دخل) يعني في الماضي والمضارع، أما المصدر فمختلف كما هو ظاهر، ولو قال: رَشَد يَرْشُدُ من حدِّ دَخَل رُشْدًا - كما في "مختار الصحاح " لكنه مثَّل بقعد يقعد - لكان أدق وأولى.
فهذه أمثلة على بعض الملاحظات التي يمكن أن تؤخذ على هذا الكتاب، لكنها لا تَغضُّ من قيمته ولا تَحطُّ من مكانته، ولا تُذكر إلى جانب ما حواه من الفوائد، واشتمل عليه من النكت والعوائد.
* * *
(1)
انظر: "روح المعاني"(9/ 55).
سادسًا: وصف النسخ الخطية
تمَّ الاعتمادُ في تحقيق هذا السِّفر العظيم على عدد من النسخ الخطية النفيسة، علمًا أن للكتاب نسخًا كثيرة تزيد عن الأربعين، بعضها يشمل كل ما وجد من التفسير وهو إلى سورة الصافات، وبعضها الآخر يحوي قطعة منه من أوله أو وسطه، وقد زيد في أواخر بعضها تفسير السور التالية: الملك والنبأ والنازعات والطارق جميعها أو بعضها، وكل ما ذكرناه سيظهر من خلال الوصف الآتي للنسخ، ونبدأ بنسختي مكتبة فيض الله:
1 - النسخة الأولى من مكتبة فيض الله في اسطنبول، ورمز لها بالحرف (م)، وتتألف من قطعتين:
القطعة الأولى: وهي قسم من التفسير؛ تحت رقم (51)، تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة يوسف. وجاء على غلافها:"الجلد الأول من تفسير ابن الكمال"، وعليها تملكات، ووقف ونصُّه:"وقف شيخ الإسلام السيد فيض الله أفندي، غفر الله له ولوالديه، بشرط ألا يخرج من المدرسة التي أنشأها بقسطنطينية سنة 1112 هـ"، وفيها تفردات صحيحة، وزيادات كأنَّها شرح، وهي بخطِّ نسخٍ واضح، وعليها تعليقات وتعقبات نفيسة، عدد أوراقها (405) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (33) سطرًا، وفي كل سطر (14) كلمة تقريبًا.
القطعة الثانية: وهي قسم من التفسير؛ تحت رقم (52)، تبتدئ بأول تفسير سورة الرعد، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الصافات. وجاء على غلافها؛ "جلد أخير من تفسير كمال باشا زاده"، وعليها تملكات، ووقف ونصُّه: "وقف
شيخ الإسلام السيد فيض الله أفندي، غفر الله له ولوالديه، بشرط ألا يخرج من المدرسة التي أنشأها بقسطنطينية سنة 1112 هـ".
وهي بخطِّ نسخٍ واضح، وعليها تعليقات وتعقبات نفيسة، عدد أوراقها (323) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (25) سطرًا، وفي كل سطر (10) كلمات تقريبًا.
ثم يأتي عند نهاية سورة الصافات تفسير كلٍّ من السور التالية: (الملك والنبأ والنازعات والطارق)، وجاء في خاتمة ذلك ما نصُّه:"انتهى ما وجد من تفسير المرحوم العلامة ابن كمال باشا رحمه الله تعالى، وكان الفراغ من كتابته في ليلةٍ يُسفر صبحُها عن يوم الثلاثاء، ثاني شهر رجب الفرد الحرام، من شهور سنة أربعين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، بلغ مقابلة حسب الطاقة على أصله المنقول منه، على ما في أصله من بعض التحريفات، مع إصلاح ما فيه من بعض الكلمات، والله الموفق للطاعات ".
2 - النسخة الثانية من مكتبة فيض الله في اسطنبول، ورمز لها بالحرف (ف):
وهي نسخة خطيَّة كاملة للقسم الموجود من التفسير؛ تحت رقم (53)، وهي أيضًا نسخة نفيسة، لكنها حوت مِن التحريفات أكثر مِن باقي النسخ، رغم تفردها بالصواب أحيانًا وكثرة الهوامش، وجاء على غلافها: "تفسير ابن كمال باشا هو الفاضل العلامة شمس الدين أحمد بن سنان، المتوفى سنة أربعين
وتسع مئة، بلغ فيه إلى سورة الصافات"، وعليها تملكات، ووقف ونصُّه: "وقف شيخ الإسلام السيد فيض الله أفندي، غفر الله له ولوالديه، بشرط ألا يخرج من المدرسة التي أنشأها بقسطنطينية سنة 1112 هـ".
وهي تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الصافات، وهي بخطّ فارسيّ واضح، وعليها تعليقات وتعقبات نفيسة، عدد أوراقها (470) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (29) سطرًا، وفي كل سطر (20) كلمة تقريبًا، وجاء في خاتمتها ما نصُّه:"تمَّ الكتاب بعون الملك الوهاب، في صبيحة الإثنين العاشر من شهر شوال من شهور سنة اثنين وتسعين وتسع مئة، أحسن الله ختامها بمحمد وآله وصحبه ".
ثم يأتي بعدها بشكل مستقلٍّ تفسير سورتي الملك والنبأ، وجاء في خاتمة هاتين الرسالتين ما نصُّه:"تمَّ تنميق الرسالتين لأفضل المتأخرين أحمد بن سليمان بن كمال، عفا عنهم الملك المتعال، والحمد لله وحده ".
3 - نسخة كوبريلي في اسطنبول، ورمز لها بالحرف (ك):
وهي نسخة خطيَّة كاملة للقسم الموجود من التفسير، تحت رقم (64)، تبتدئ من أول التفسير، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الصافات، ثم يأتي بعدها بشكل مستقلٍّ تفسير سورة الملك كاملة، وهنا تنتهي هذه النسخة، حيث جاء في خاتمة سورة الملك ما نصُّه: "هذا ما وجد من هذا التفسير، وصلى الله على البشير النذير، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم:
رقم المرجِّي عفوَ ذي الجلال
…
محمدُ بنُ الصالحي الهلالي
يرجو من المولَى بجاهِ المصطفى
…
سحابَ أفضالٍ بعفوٍ وكفَى
وذلك في أواخر سنة (990 هـ)، والحمد لله وحده"، وهي بخطٍّ فارسيٍّ واضح، عدد أوراقها (596) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (25) سطرًا، وفي كل سطر (18) كلمة تقريبًا، وعليها وقف نصُّه: "هذا ما وقفه الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمد عرف بكوبريلي، أقال الله عثاره ".
وهي الوحيدة بين النسخ المعتمدة التي خلت هوامشها تقريبًا من الحواشي أو التعليقات، ويكثر فيها السقوطات مقارنة مع باقي النسخ، وإن كانت قليلة من حيث الواقع.
4 - نسخة الحرم المكي (ح):
وهي قطعة من التفسير؛ تحت رقم (548 عام)، وجاء على غلافها:"الجزء الأول من تفسير ابن كمال باشا رحمه الله ونفع به، آمين "، وعليها تملك ووقف، وبهامشها تعليقات نفيسة، وورد على الوجه الثاني من الورقة الأولى منها - وبخطٍّ مختلف عن خطِّ النسخة الخطية - ترجمة لمؤلِّف هذا التفسير ابن كمال باشا نقلًا عن كتاب "الشقائق النعمانية في الدولة العثمانية".
وهي تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الأنعام، وهي بخطِّ نسخٍ واضح، عدد أوراقها (206) ورقات، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (31) سطراً، وفي كل سطر (16) كلمة تقريبًا، ولم يرد فيها خاتمة.
ويكثر في هو امشها التنبيه على الردود بلفظ: (رد) دون زيادة، كما أنها تشترك مع باقي النسخ عدا (ك) بكثرة التعليقات على الهوامش، وفي هامشها نقل عن "قطف الأزهار" انفردت به. وهو كتاب للسيوطي عنوانه الكامل:" قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة".
5 - نسخة دوغملو باباس في المكتبة السليمانية باسطنبول ورمز لها بالحرف (د):
وهي قطعة من التفسير؛ تحت رقم (5)، وجاء على غلافها:"كمال باشا زاده تفسير"، وعليها تملكات وأوقاف، وبهامشها بعض التعليقات المفيدة، خطها جيد واضح وهي من النسخ الجيدة على ما فيها من بعض التحريفات الواضحة، وجاء في خاتمتها ما نصُّه:"والحمد لله على التمام والصلاة على نبيِّه سيِّد الأنام وعلى آله وصحبه الكرام، ما تعاقب الليالي والأيام، تمَّ الكتاب بعون الله وحسن التوفيق، قد وقع الفراغ من تحرير هذه النسخة الشريفة المباركة على يد العبد الضعيف العبد الفقير الحقير المذنب المحتاج إلى رحمة الله تعالى، قليل الخير والإحسان، كثير الذنب والعصيان، أحمد بن حاجي الأكوز غفر الله له ولوالديه وأحسن إليهما وإليه، في أواسط ربيع الآخر، سنة ثلاث وستين وتسع مئة ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .... ".
وهي تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة آل عمران، وهي بخطِّ نسخٍ واضح، عدد أوراقها (341) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (17) سطرًا، وفي كل سطر (12) كلمة تقريبًا.
حواشيها مليئة بالتعليقات الممهورة بكلمة: منه. وأكثر هذه التعليقات مشترك بين النسخ، وإن كانت هذه النسخة قد تفردت في بعضه، يضاف إلى ذلك كثير من التنبيهات على ما في كلام المؤلف من ردود على من سبق مختصرا ذلك بكلمة: رد. وقد يعيَّن المتعقَّب أحيانا مثل: (رد للتفتازاني) كما في تفسير {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} الورقة (182)، وقد أثبتنا بعضها وأهملنا الكثير لكثرته. ومن الملاحظات عليها وقوع التحريف في كثير من المواضع لت (أي) إلى:(إلى).
6 - نسخة المكتبة السليمانية في اسطنبول ورمز لها بالحرف (س):
وهي قطعة من التفسير؛ تبتدئ من أول تفسير سورة مريم، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الحج، وهي بخطٍّ فارسيِّ واضح، وعليها تعليقات وتعقبات نفيسة، عدد أوراقها (147) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (19) سطرًا، وفي كل سطر (16) كلمة تقريبًا، وجاء في هامش خاتمتها ما نصُّه: "تاريخ الفراغ من تأليف هذه السورة: يوم (13) شهر الله المحرم، من شهور سنة (933)، فهي نسخة نفيسة جدًّا لقدمها فهي منسوخة في حياة المؤلف، وحسبتها أولًا بخط المؤلف لتشابه شكلِ الخطِّ، ثم تبيَّن لي أنها بخطٍّ آخر، لكنها لم تشتمل إلا على قدر يسير من التفسير، وهو الذي ذكرناه.
7 - نسخة يني جامع في المكتبة السليمانية في اسطنبول ورمز لها بالحرف (ي):
وهي نسخة خطية كاملة للقسم الموجود من التفسير؛ تحت رقم (20)، وبهامشها بعض التعليقات المفيدة.
كتب على وجه الورقة الأولى: وقف في (سنة 1137).
وهي تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الصافات، وفيها قطعة من تفسير سورة المائدة حتى نهاية تفسير الآية (12) منها.
ثم يأتي بعد نهاية تفسيرِ سورةِ الصافات تفسيرُ كلٍّ من السور التالية: (الملك والنبأ والطارق والنازعات)، وهي بخطِّ نسخٍ واضح، عدد أوراقها (504) ورقات، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (29) سطرًا، وفي كل سطر (20) كلمة تقريبًا.
وقد بدأنا الاستفادة منها في أول تفسير سورة المؤمنون.
وعلى هامشها كثير من التنبيهات على ردود بلفظ: رد.
وقد جاء خلالها بعض الإشارات إلى كونها منقولة عن نسخة المؤلف؛ بل ومع التنبيه على تصحيح هذا الذي وقع في نسخة المؤلف إن كان فيه خطأ أو تحريف:
ففي تفسير قوله تعالى: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: 2] وقع في متنها: (يصدوكم)، وجاء في هامشها:(هكذا عن نسخة المؤلف، وصوابه: أن صدوكم).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} [لقمان: 22] وقع بعدها في النسخ عدا (ي): "مِن سلم "، وأثبتنا ما جاء في (ي):(من أسلم)، وقد جاء في هامشها:"في نسخة المؤلف: من سلَّم، ولا وجه له ".
وعند تفسير قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] جاء ضمن كلام المؤلف فيها: (فهو أمدحُ لهم مِن أنْ يقول: وأنتم المضعفون). جاء في هامش (ي): "وأنتم، كذا في نسخة المؤلف بالواو، وإن كان الفاء أظهرَ به ".
وفي تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ} [لقمان: 27] قال المؤلف: {وَالْبَحْرُ} بالرَّفع عطفًا على محلِّ (أنَّ)
…
وبالنَّصب عطفًا على اسم (أنَّ)، أو إضمارِ فعلٍ .. ). وقع في النسخ:"وإضمار"، وجاء في هامش (ي):"كذا في نسخة المؤلف، والموافق للقاضي - وهو الظاهر - أن يقال: أو إضمار". وهذا الذي في (ي) هو الصواب، والموافق لما في "تفسير البيضاوي "، فلذلك أثبتناه.
وعند تفسير الآية نفسها ذكر في هامش (ي) تنويهات كثيرة، وفي نهايتها قال:(وبالجملة؛ في هذا المحل غلط كثير إلا أنا اتبعنا أثر المؤلف).
وهذا وغيره مما ذكرناه يدل على نفاسة هذه النسخة، وأنها مصححة ومقروءة على علماء أعلام فضلًا عن كونها منقولة عن نسخة المؤلف.
8 - نسخة عاطف أفندي في المكتبة السليمانية في اسطنبول ورمز لها بالحرف (ع):
وهي نسخة خطية كاملة للقسم الموجود من التفسير؛ تحت رقم (10)، وجاء على وجه الورقة الأولى من الغلاف قائمةٌ بأسماء السور المتضمنة في هذا التفسير، وجاء على وجه الورقة الثانية منها ما نصُّه: "من الكتب التي وقفها فيما
بنى وشاد، لمن طالعها واستفاد من العباد، سائلًا منه أن يذكره بالخير والرحمة، فرحم الله من كان من أهل الخير والرحمة، العبدُ الأقل مصطفى العاطف، كفاه الله تعالى يوم لا عاطف "، وبهامشها بعض التعليقات المفيدة.
وهي تبتدئ بأول تفسير سورة الفاتحة، وتنتهي بنهاية تفسير سورة الصافات، ثم يأتي بعد ذلك تفسيرُ سورة كلٍّ من الملك والنبأ والطارق والنازعات، وهي بخطِّ نسخٍ واضح، عدد أوراقها (496) ورقة، وفي كل ورقة لوحتان، وفي كل لوحة (29) سطرًا، وفي كل سطر (20) كلمة تقريبًا.
وهي نسخة نفيسة تفردت مع النسخة (ي) من بين النسخ باحتوائها على تفسير أول المائدة حتى الآية (12)، كما جاء فيها الكثير من الهوامش التي تتشارك فيها على الأغلب مع النسخ (ف) و (م) و (ي)، أو مع بعضها. وقد وقفنا على هاتين النسختين قُبيل الانتهاءِ من تحقيق الكتاب، وأفدنا منهما كثيرًا وللهِ الحمد.
كما أننا اعتمدنا على النسخةِ الخطيِّةِ لمكتبة بغدادي وهبي في المكتبة السليمانية في اسطنبول تحت رقم (2041)، وذلك في سور (الملك - النبأ - النازعات - الطارق)، ورمزنا لها بالحرف (ب).
*
ملاحظات على النسخ الخطية:
لهذا التفسير الكثير من النسخ الخطية، وقد اطَّلعنا على ما يزيد على أربعين نسخة له بعضُها كامل وبعضها جزئي، ثم اجتهدنا في انتقاء الأحسن والأقرب إلى زمن المؤلف، لكن هناك بعض الملاحظات التي لا بد من بيانها:
فأول هذه الملاحظات: اتفاق هذه النسخ على أن سورة المائدة ليست موجودة في التفسير عدا عن القطعة التي وجدت في نسختي عاطف أفندي (ع) و يني جامع (ي)، وقد تم التأكيد على ذلك في النسخ الأخرى: فقد جاء في هامش (ح) عند تفسير {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] من سورة النساء العبارة التالية: (لم يفسر ابن كمال هذا أواخر سورة النساء ولا جميع سورة المائدة بل هذا القدر هو الذي وجد في نسخ المصنف رحمه الله. لكنها استمرت بعد ذلك حتى سورة الأنعام، مع غياب سورة المائدة بكاملها.
وجاء في نهاية الآية (170) من النساء في هامش (م): "انتهى ما وجد من سورة النساء كما هو في أصله المنقول منه، ويتلوه سورة الأنعام كما هو في أصله أيضًا ".
وفي نفس الموضع في هامش (ك): "آخر النساء وسورة المائدة ساقط من الأصل ".
وأما الملاحظة الثانية: فهي اتفاق النسخ كذلك على انتهاء التفسير عند نهاية سورة الصافات، وقد جاء في هذا الموضع في خاتمة النسخة (ف):"تم الكتاب بعون الملك الوهاب في صبيحة الاثنين العاشر من شهر شوال من شهور سنة اثنين وتسعين وتسع مئة، أحسن الله ختامها بمحمد وآله وصحبه ".
وجاء في خاتمة النسخة (ع): "والمشهور في تفسير المرحوم لابن كمال الوزير تحريره إلى هنا ".
لكن جاء في النسخ في درج الكلام في هذا الكتاب ما يناقض
كِلَا الملاحظتين، ففي تفسير قوله تعالى:{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان: 19] قال المؤلف: (المعنى فقد كذبكم المعبودون وهذه مفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول، وقد سبق تحقيق هذا في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] من سورة المائدة).
وهذا الموضع لم يرد حتى في النسختين (ع) و (ي) حيث إن ما فيهما ينتهي خلال تفسير الآية (12) من سورة المائدة كما تقدم.
ومثله عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] قال: (النكاح: العقد، وتخصيص المؤمنات مع أن الحكم المذكور يستوي فيه المؤمنات والكتابيات تعليم لما هو الأَولى وتحريض عليه، فإن الأَولى بالمؤمن أن يتخيَّر لنطفته ولا يختار للنسل إلا الطيبة الظاهرة، وجاء في المائدة بيان الجواز).
والبيان المذكور لم يرد في القطعة الواردة من تفسير سورة المائدة.
وفي تفسير سورة النازعات قال: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات: 35] عندَ تَمثُّلِ الأعمالِ بصُورِها وهيئاتها على ما نَطقَ به الأحادِيثُ، وسيأتي تَفصيلهُ في سورةِ الزَّلزَلةِ).
وتفسير سورة الزلزلة ليس في هذا التفسير.
والذي يترجحُ لي: أن العلَّامة ابن كمال باشا كتب التفسير كاملًا دون تحرير، ثم حرَّره بخطه ووصل في تحريره وتبييضهِ إلى سورة الصافاتِ ووقف،
يدل لذلك اتفاق جميع النسخ التي وقفنا عليها والتي تزيد عن الأربعين وقوفها عند سورة الصافات، وما جاء في النسخة (ع) أنَّ المشهور في تحرير التفسير إلى هذا القدر. أما ما جاء من قطعٍ أخرى في آخر التفسير من سور (الملك والنبأ والنازعات والطارق) فقد يظهر للمتأمل بعض تفاوتٍ عن باقي التفسير الذي حرَّره، والأمر يحتاج إلى زيادة بحثٍ والله تعالى أعلم.
* * *
سابعًا: عملنا في الكتاب
أما عملنا في الكتاب فكما يلي:
1 -
تم تحقيق الكتاب على عدد من النسخ الخطية النفيسة التي تقدم وصفها آنفًا، وقد حرصنا على إثبات الصواب أو الأنسب بسياق الكلام، مع الإشارة إلى الفروق إن كانت وجيهة في الحواشي، وإهمال الفروق التي التحريف فيها ظاهر ولا فائدة في إثباتها بل تثقل الحواشي بلا داع، مع إثبات أكثر ما جاء في حواشي النسخ الخطية من تعقيبات وتعقبات وإشارات لردود وغير ذلك، ولم نترك إلا القليل مما كثر فيه التحريف أو لم يظهر له ارتباط واضح بالنص.
2 -
ضبط النص وتفصيله وترقيمه بعلامات الترقيم المناسبة التي تساعد على فهمه، مع العناية بضبط المشكل.
3 -
الحرص على أن يكون النص صحيحًا سالمًا من الأخطاء والتحريفات والسقوطات، ومن ذلك مقابلته على المراجع التي اعتاد المؤلف النقل منها، والاستفادة من ذلك في تصحيح التحريف، واستدراك الساقط بين معكوفتين، وشرح المبهم، والتنبيه على الخطأ، وغير ذلك.
4 -
تخريج جميع الأحاديث المرفوعة من مصادر التخريج مقتصرين على الصحيحين أو أحدهما إن وجد فيه الحديث، وإلا فمن باقي الكتب الستة و"مسند الإمام أحمد"، فإن لم يوجد الحديث فيها فمن باقي كتب التخريج، مع شرح ما فيها من غريب، وبيانِ علةٍ إن وجدت.
5 -
تخريج الأخبار والآثار وأسباب النزول الواردة فيه من كتب التخريج والتفسير وأسباب النزول.
6 -
تخريج الشواهد الشعرية وغيرها من كتب دواوين الشعر، فإن تعذَّر فمن باقي كتب الأدب المعتمدة.
7 -
توثيق ما ينقله المصنف من مصادره مع مقابلته على ما جاء في تلك المصادر لضمان صحة النص، وبيان الاختلاف إن وجد وكان وجيهًا.
8 -
تعقب المصنف إن وقع خطأ أو سهو أو سبق قلم، والتعليق في المواضع التي تحتاج إلى تعليق.
9 -
كتابة مقدمة للكتاب تتضمن بيان موقع هذا التفسير وأهم المراجع التي نهل منها، مع ترجمة المؤلف ودراسة وافية لخصائص هذا التفسير ولمنهج المؤلف فيه.
10 -
تذييل الكتاب بالفهارس العلمية المناسبة.
والحمد لله ربِّ العالمين
ماهر حبوش
19/ 2/ 2018
دمشق الشام
حرسها الله من الشرور والآثام
* * *
ترجمةُ العلَّامةِ ابنِ كمال باشا رحمهُ الله تعالى
(1)
قلما اجتمع العلم عند أحد كما اجتمع عند هذا العلَّامة، فكيف إذا رافقَ العلمَ الفضلُ والزعامة؟ وتصديق هذا المقال ما سيأتي في هذه الترجمة من قرائن الأحوال، وسوف نتناول سيرته رحمه الله من خلال المباحث التالية:
أولًا: اسمُه ونسبُه ونشأتُه العلمية.
ثانيًا: مناصبه في التدريس والقضاء.
ثالثًا: مشاهير شيوخه.
(1)
ينظر: "مقدمة تحقيق مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا" الذي أصدرته دار اللباب للدراسات وتحقيق التراث بإسطنبول، وعليها جل الاعتماد في جمع هذه الترجمة. وانظر من مصادر ترجمته التي اعتمدنا عليها:"الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 226)، و"كتائب أعلام الأخيار" للكفوي (4/ 383 - 393)، و"سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة، و"طبقات المفسرين" للأدنه وي (ص: 373)، و"الطبقات السية في تراجم الحنفية" للتميمي (1/ 355)، و"الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" للغزي (2/ 108)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 335)، و"الفوائد البهية" للكنوي (ص: 42)، و"الأعلام" للزركلي (1/ 133)، و"معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة (1/ 238)، و"معجم المفسرين" لعادل نويهض (1/ 39).
رابعًا: مشاهير تلامذته.
خامسًا: مكانتُه العلميَّةُ وثناءُ العلماءِ عليه.
سادسًا: وفاته.
سابعًا: مؤلفاته.
* * *
أولًا: اسمُه ونسبُه ونشأتُه العلمية
هو العلَّامة المحقِّق المدقِّق، شمسُ الدِّين، أحمدُ بنُ سليمان بنِ كمال باشا، المولود بتوقات والمتوفى بقسطنطينيةَ سنة أربعين وتسعِ مئة، عن سبعٍ وستين سنةً، وكان والدُه من الأمراء وجدُّه من الوزراء.
كان إمامًا بارعًا في التفسير والفقه، والنحو والتصريف، والمعاني والبيان، والكلام والمنطق والأصول، وغير ذلك، بحيث إنه تفرَّد في إتقان كلِّ علم من هذه العلوم، وقلَّما يوجد فنٌّ من الفنون إلا وله فيه مصنَّفٌ أو مصنَّفات.
وقد نُسب إلى جدِّه كمال باشا، فعُرف بابن كمال باشا، أو كمال باشا زادَه
(1)
، أو ابن كمالِ الوزير، واشتهر أيضًا بـ (مفتي الثَّقلين)، لسعة اطلاعه على العلوم الشرعية في مختلف فنونها، وقوة محاكماته، وتميُّز تعقُّباته وتحريراته.
(1)
كلمة فارسية معناها: ابن.
ولد سنةَ (873 هـ) بمدينة طُوقاتَ من نواحي سِيواسَ
(1)
، ونشأ في بيتِ عزٍّ وجاه، إذ كان والدُه سليمانُ بنُ كمال باشا من قادة الجنود الإسلاميَّة الخاقانيَّة زمنَ السلطانِ محمَّدٍ الفاتحِ، وكان في فتحِ القُسطنطينيَّة مع جنودِ سنجقِ أماسيَا عام (857 هـ)، وصار بعد الفتحِ وكيلًا لجند السُّلطان برتبةِ صُوباشي؛ أي: منصب مَن تتوفَّرُ فيه الكفايةُ لضبطِ البلدِ من جهةِ السلطانِ، ثُم تُوفِّي في إسطنبول، ودفنَ إلى جانبِ مدرسةِ أبيهِ كمال معه.
وكذلك كان جدُّه من أمراءِ الدَّولة العُثمانيَّة ومربِّيًا لبايزيد الثاني، وكان ذا حَظوةٍ لدى سلاطينِها، حتى صار نِيْشانجِي
(2)
الدِّيوانِ السُّلطانيِّ.
وأما أمُّه فهي بنتُ المولى الفاضلِ مُحيي الدِّينِ محمَّد الشهير بابن كُوبَلو (ت 874 هـ)، وهو من العلماء المشهورين بالفضلِ في زمانهم، جعله السلطان محمد الفاتح قاضيًا بالعسكر بعدما تولَّى بعضَ المناصب، ثم عزلَه في سنة (872 هـ)، وكان للمولى المذكور بنتانِ، تزوَّج إحداهما المولى سِنان باشا، وتزوَّج ثانيتَهما سليمانُ جلبي ابن كمال باشا، فولِد له منها العلَّامة المترجَم أحمد.
نشأ العلَّامة في صباه في هذا العزِّ والجاه، وغلبَ عليه حُبُّ الكمال، فاشتغل وهو شابّ بالعلم ليلًا ونهارًا، وأنفق ربيعَ عمره في تحصيل كلِّ فضيلة، وصرفَ حداثة سنِّه في إحراز كلِّ معرفة، ثُم لحقَ بزمرة أهل العسكر، وانقطع
(1)
طوقات (أو: توقات) وسيواس: مدينتان تقعان شمال شرق تركيا.
(2)
أي: الذي يختم المراسم والمكاتيب بختم السلطان المعروف بطغراء السلطان.
بذلك عن طلب العلم، وظلَّ يشتغل ويترقَّى في رتَبِ الجيش، وكان يُرتقبُ منه أن يغدُوَ قائدًا عسكريًّا حازمًا مثل آبائِه وأجداده، لكنَّ حادثة - سيأتي ذكرُها - غيَّرت ما كان يُرتقب منه، فترك الجيشَ، ولازمَ العلماء، وواظبَ في نهلِه من عذبِ مَوردِ أكابرِ الفضلاء، حتى صار من أكابر المدرسين، ثم نال أعلى المراتب والدرجات، كما سيأتي تفصيله بإذن رب العباد.
يحكي ابن كمالٍ عن نفسِه فيقول: إنَّه كان مع السلطانِ بايزيد خان في سفر، وكان الوزيرُ وقتئذٍ إبراهيمَ باشا بن خليل باشا، وكان وزيرًا عظيمَ الشأن، وكان في ذلك الزمانِ أميرٌ يُقال له: أحمد بك بنُ أَوْرَنُوس، وكان عظيمَ الشأن جدًّا، لا يتصدَّرُ عليه أحدٌ من الأمراء.
قال العلامة رحمه اللهُ تعالى: وكنتُ واقفًا على قدميَّ قدَّام الوزيرِ المزبور، والأميرُ المذكورُ عندَه جالسٌ، إذ جاء رجل من العلماء، رثُّ الهيئة، دنيءُ اللِّباس، فجلس فوق الأمير المذكورِ (أي: متقدمًا عليه في المجلس) ولم يمنعْه أحدٌ عن ذلك، فتحيَّرتُ في هذا، فقلتُ لبعض رفقائي: مَن هذا الذي جلسَ فوقَ هذا الأميرِ؟! فقال: هو رجلٌ عالم مُدرِّسٌ بمدرسةِ فليبه يقال له: المولى لُطفي، قلتُ: كم وظيفتُه؟ قال: ثلاثونَ درهمًا، قلتُ: فكيف يتصدَّرُ هذا الأميرَ ومنصبُه هذا المقدارُ؟! قال رفيقِي: إنَّ العُلماءَ معظَّمونَ لعلمِهم، ولو تأخَّرَ لم يرضَ بذلك الأميرُ ولا الوزير.
قال: فتفكَّرتُ في نفسي فقلتُ: إنِّي لا أبلغُ رتبةَ الأمير المذكور في الإمارة،
وإنِّي لو اشتغلتُ بالعلم يمكنُ أن أبلغَ رُتبةَ العالمِ المذكورِ، فنويتُ أن اشتغلَ بعد ذلك بالعلم الشَّريفِ.
قال: فلمَّا رجعنا من السَّفر وصلتُ إلى خدمةِ المولى المذكورِ، وقد اعطيَ هو عندَ ذلك مدرسةَ دار الحديث بمدينة أدرنةَ، وعُيِّنَ له كلَّ يوم أربعون درهمًا، قال: فقرأتُ عليه حواشِيَ "شرح المطالع ".
قال الكَفوي: أخذ العلَّامةُ العلمَ من أفواه الرجال النَّحارير، وقرأ الفنون على أفاضل الفضلاء المشاهير، منهم المولى لطفي المزبور، والمولى مصلح الدِّين القَسْطَلَّاني، والمولى خطيب زاده، والمولى معرِّف زاده؛ فأخذ علم الفروع والأصول عن المولى القسطلاني، عن المولى خضر بك، عن المولى يكان، عن المولى شمس الدِّين الفَنَاري، عن الشَّيخ أكمل الدِّين، عن الإمام قوام الدِّين الكاكي، عن الإمام حسام الدِّين السِّغْنَاقِي صاحب "النهاية" عن الشَّيخ الإمام حافظ الدِّين الكبير البُخاري، عن شمس الأئمَّة الكَرْدَري، عن شيخ الإسلام برهان الدِّين علي بن أبي بكر المَرْغِيْنَاني صاحب "الهداية"، عن نجم الدِّين النَّسَفِي، عن أبي اليسر البَزْدَوي، عن أبي يعقوب السَّيَّاري، عن أبي إسحاق النَّوْقَدي، عن أبي جعفر الهِنْدُوَاني، عن أبي القاسم الصفَّار، عن نصير بن يحيى، عن محمد بن سَماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
فهذه طريق العنعنات، بلَّغه الله تعالى أقصى درجات الكمال، ومتَّعه بما خوَّله في الحال والمآل.
ولما كان العلامة ابن كمال باشا في فتح مصر مع السلطان سليم خان، كان قاضيًا بالعسكر، فلما دخل القاهرة لقيه أكابر العلماء وأعظم الفضلاء، وناظروه وباحثوه وتكلموا بما عندهم، فامتحنوه فأعجبوا بفصاحة لسانه وحسن كلامه وبلاغة بيانه وبسط مَرامه، وأقروا له بالفضل والكمال، وكانوا يذكرونه بغاية التبجيل والإجلال، ويشهدون أن ليس له في العرب عديل ولا في أفاضل العجم والروم عوض ولا بديل.
لكن بعض الحساد سعوا به عند السلطان سليم فعزله، ثم عاد إليه بالإحسان مبتدرًا لمَّا فطن أنّ أمر الفتوى سيكون متعذرًا، فأعطاه مدرسة دار الحديث بمدينة أَدْرَنة، وعيَّن له كل يوم مئة درهم وعطايا سنية في السنة
…
إلى آخر ما سيأتي من تعيينه مدرسًا بمدرسة السلطان بايزيد خان الثاني للمرة الثانية بمدينة أدرنةَ، انتهاء باستلامه إفتاء الدولة العثمانية.
* * *
ثانيًا: مناصبه في التدريس والإفتاء والقضاء
ظل ابن كمال باشا رحمه الله ينهل من العلم، ويتقلب بين أفاضل العلماء في مصره، حتى اكتمل تكوينُه العلميُّ، وصار من أكابر علماءِ عصره، وبلغَ في العلم منزلةً يُشارُ إليه بالبنان، فكان مُتقنًا للُّغةِ الترُّكيةِ والعربيَّة والفارسيَّة، له في كلٍّ منها مصنفاتٌ تدلُّ على علوِّ كعبه وتقدُّمه في علوم كثيرة، ما جعله يتقلب في مناصب التدريس والقضاء والإفتاء حتى وصل إلى أرفع منصب علمي في السلطنة.
ففي سنةِ (911 هـ) صار مُدرِّسًا بمدرسة علي بك الشهيرةِ بالمدرسة الحجريَّة بأدرنةَ، بثلاثين درهمًا يوميًّا، وكُلِّف في الوقت نفسه من السلطانِ بايزيدَ الثاني أن يكتب تاريخ الدولة العثمانيَّة، بتوصيةٍ من عبد الرَّحمنِ بن عليِّ بن المُؤيَّدِ (922 هـ)، وكانَ قاضيًا بالعسكرِ المنصور في ولايةِ أناطولي آنذاك، ولأجلِ ذلك أعطَى له السلطانُ ثلاثين ألفَ درهمٍ، وقد قام العلَّامةُ ابنُ كمال بهذه المُهمَّة خيرَ قيام، فكتب "تواريخَ آلِ عُثمانَ" باللُّغة التّركيَّة، بدءًا من سنةِ (699 هـ) - وهي تاريخُ قيام الدولة العثمانيَّة، وانتهاءً إلى عامِ (933 هـ)؛ أي: قبلَ تاريخِ وفاتِه بسبعِ سنينَ.
وفي سنةِ (917 هـ) وليَ التَّدريسَ بمدرسةِ إسحاق باشا بمدينة أسكوبَ في البلاد اليونانيَّة، بأربعين درهمًا يوميًّا.
وفي سنة (918 هـ) وليَ التَّدريس بالمدرسةِ الحلبيَّة بأدرنةَ، بستِّين درهمًا يوميًّا.
ثُمَّ صار مُدرِّسًا بإحدى المدرستين المُتجاورتينِ بأدرنةَ.
وبعدَها بإحدى المدارسِ الثَّمانِ بإستانبولَ.
إلى أن أصبحَ مُدرِّسًا بمدرسةِ السلطان بايزيدَ الثاني بأدرنةَ، وهي من أكبرِ المدارسِ العثمانيَّة آنذاك.
وفي سنةِ (922 هـ)، بعدَ عودةِ السلطانِ سليمٍ الأوَّل من سفرِه إلى جالدِرانَ، صارَ قاضيًا لأدرنةَ.
وفي السَّنةِ نفسِها جعلَه السلطانُ سليمٌ الأوَّلُ قاضيًا بالعسكرِ المنصور في ولايةِ الأناضول، وذلك قبلَ (4) جُمادَى الأولى من سنة (922 هـ)، وهو تاريخُ خروجِ السُّلطانِ سليمٍ الأوَّلِ إلى القاهرة، وكان هو مع السلطانِ في هذا السَّفر، وعلى ذلك المنصبِ.
وفي أثناءِ وجوده بمصر مع السُّلطانِ أُسندَ إليه الإشرافُ على تنظيمِ الأمورِ فيها.
وعند عودةِ السلطان من القاهرةِ سنةَ (924 هـ (أُسندَ إليه الإشرافُ على تنظيمِ الأمورِ المِلْكيَّةَ وتحريرِها بمدينةِ قونيَة.
ويرَى البعضُ - ومنهم الكفوي كما تقدم - أنَّه عُزلَ من القضاءِ بالعسكرِ المنصورِ في ولايةِ الأناضُول في سنةِ (925 هـ) بوشايةٍ من حُسَّادِه إلى السُّلطانِ، في حين يرَى آخرونَ أنَّه اعتزلَ من المنصب بطلبٍ منه.
وفي السَّنةِ نفسِها - أي: (925 هـ) - عُيِّن مدرِّسًا في مدرسة دارِ الحديث بأدرنةَ، وعُيِّن له كلَّ يوم مئةُ درهم.
ثُم أعطاه السلطانُ سليمان القانونيُّ مدرسةَ جدِّه السلطان بايزيد خان الثاني للمرة الثانية بمدينة أدرنةَ، وذلك بعد سنةِ (926 هـ)، ومكثَ فيها إلى أن صار مفتيًا بالقُسطنطينيَّة؛ أي: مُفتي الخلافة العليَّة العثمانيَّة، فكان شيخَ الإسلامِ في الدولة العثمانيَّة، وذلك بعدَ وفاة المولَى علاءِ الدِّينِ عليٍّ الجماليِّ الشهيرِ بزنبيلي علي أفندِي في سنة (932 هـ).
ولم يزَل في منصبِ الإفتاءِ معزَّزًا مكرَّمًا محترمًا مقبولًا عند الخاص والعام، ونالت عقود الفضل في زمانه حسن النظام، إلى أن توفِّي رحمه الله في عهدِ السُّلطانِ سليمانَ القانونيِّ.
* * *
ثالثًا: مشاهير شيوخه
1 - المولى لُطفُ الله التُّوقاتيُّ، الشهيرُ بـ (مُلَّا لُطفي) (ت 900 هـ):
قرأ العلومَ على المولى سِنان باشا، وتخرَّج به، وحضَل العلوم الرياضيةَ على عليٍّ القوشجيِّ لمَّا دخل بلادَ الرُّوم، وحصَّلَها سنان باشا بواسطته، وربَّاه سنان باشا حالَ وزارته عند السلطان محمد خان الثاني أبي الفتح، فجعلَه أمينًا على خزانةِ الكتب، فاطَّلعَ على غرائبَ منها، وأُعطِيَ في زمن السلطان بايزيد خان الثاني مدرسةً ببرُوسَة، ثم مدرسةَ دارِ الحديثِ بأدرنةَ، ثم إحدى المدارس الثَّمانِ، ثم مدرسةَ المُراديَّة ببروسة، وكان رحمه الله فاضلًا لا يُجارَى، وعالمًا لا يُبارَى، وله عدَّةُ مصنَّفاتٍ منها: حواشٍ على "شرحِ المطالعِ "، وحواشٍ على "شرحِ المفتاحِ" للسَّيّد الشريف، وغيرِ ذلك.
(1)
2 - المولى مُصلحُ الدِّينِ مصطفى القسطلانيُّ (901 هـ):
قرأَ على علماء الرُّوم، ثم تتلمذَ على خَضِر بك، ودرَّس في عدَّة مدارسَ، ثم في إحدى المدارس الثَّمانِ، ثم صارَ قاضيًا في كلٍّ من أدرنةَ وبرُوسةَ وقُسْطنطينيَّةَ، ثم قاضيًا بالعسكرِ المنصور، وكان عالمًا مشتهِرًا، ذا منزلةٍ خطيرةٍ
(1)
انظر ترجمته في: "كتائب أعلام الأخيار" للكفوي 41/ 386)، و" الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 169 - 171)، و"الفوائد البهية" للكنوي (ص: 21)، و"سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة (3/ 40)، و"الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" للغزي (1/ 302)، و"الأعلام" للزركلي (5/ 242).
بينَ علماء عصره، وكان لا يُدارِي الناس، ويتكلَّمُ بالحقِّ على كلِّ حالٍ، شغلَه التَّدريسُ والقضاءُ عن التَّفرُّغ للتأليف، توفِّي سنةَ (901 هـ)، ودُفن إلى جوارِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه.
ومن مصنَّفاته: حواشٍ على "شرحِ العقائدِ" للسَّعد، وكتبَ رسالةً يذكرُ فيها سبعةَ إشكالاتٍ على "المواقف" و"شرحه"، وكتب حواشٍ على "المقدِّمات الأربع" لصدر الشريعة
(1)
.
3 - المولى مُحيِي الدِّين محمدُ بنُ إبراهيمَ الشَّهيرُ بابن الخطيب، أو بخطيب زادَه (901 هـ):
قرأ على والده العلومَ، وعلى العلَّامة عليٍّ الطُّوسيِّ، والمولى خَضِر بك، ثم صار مدرِّسًا في مدارسَ عديدةٍ، وهو من أول المُدرِّسين بإحدى المدارسِ الثَّمانِ، وكان طليقَ اللِّسان، جريء الجَنان، قويًّا فصيحًا عند المحاورة، ولهذا قهرَ كثيرًا من علماء زمانِه، توفِّي سنةَ (901 هـ).
ومن مصنَّفاته: حواشٍ على "حاشيةِ شرحِ التَّجريدِ" للسَّيِّد الشريف، وحواشٍ على "حاشية الكشاف" للسَّيِّد الشريف، وغير ذلك
(2)
.
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 87 - 89)، و"الفوائد البهية" للكنوي (ص: 21)، و"سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة (3/ 340).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 90 - 92)، و"الفوائد البهية" للكنوي (ص: 254).
4 - المولى سِنانُ الدِّينِ يوسفُ المعروفُ بابنِ المُعَرِّف، أو معرِّف زاده:
وهو من ولايةِ بالي كسر، حصَّلَ العلومَ على علماء عصره، ووصل إلى خدمة المولى خَضِر بك بنِ جلالِ الدِّين، ثم اشتغل مدرِّسًا ببعض المدارس، ثم صار معلِّمًا للسلطان بايزيد خان، ونال عنده القبولَ التَّامَّ، وأحبَّه محبَّةً عظيمةً، وقد عَمِيَ في آخرِ عُمره، وما ترك السلطانُ بايزيد خان صحبتَه إلى أن توفّي، رحمه الله رحمةً واسعةً، ولم يذكُر المؤرِّخون تاريخَ وفاته
(1)
.
* * *
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص:119).
رابعًا: مشاهير تلامذته
1 - المولى مُحيي الدِّين محمدُ بنُ بيرٍ محمد باشا الجمالِيُّ (941 هـ):
حصَّل العلومَ على والده، ثم على المولى الفاضلِ أحمدَ بنِ كمال باشا، ثم على المولى علاءِ الدِّين عليٍّ الجماليِّ المُفتِي، ثم صار مدرِّسًا في المدارس الثَّمانِ، ثم قاضيًا بمدينة أدرنةَ، وتوفِّي وهو قاضٍ بِها، وكان عاليَ الهمَّةِ، رفيعَ القدرِ، عظيمَ النَّفسِ، صاحبَ وقارٍ وأدبٍ، وكان له حظٌّ من العلومِ المُتداولةِ والعلومِ الرياضيَّة
(1)
.
2 - المولى سعدُ الله بنُ عيسى، المعروفُ بسعدِي جَلبِي (945 هـ):
حصَّلَ العُلومَ على علماء عصرِه، ثم وصل إلى خدمة المولى محمدٍ السَّامسوني، ثم انتقلَ مدرِّسًا في مدارسَ عدَّةٍ، ثم صار مُدرِّسًا في إحدى المدارس الثَّمانِ، ثم قاضيًا بمدينة قُسطنطينيَّةَ، وشيخَ الإسلامِ بعدَ وفاةِ شيخِه العلَّامةِ ابنِ كمال باشا، وكان مرضيَّ السِّيرةِ في قضائه، محمودَ الطَّريقة، طاهرَ اللِّسان، لا يذكرُ أحدًا إلَّا بخيرٍ، وكان من جملة الذين صرفوا جميعَ أوقاتِهم في الاشتغالِ بالعِلمِ، له حواشٍ على "تفسيرِ البيضاويِّ "، و"شرحٍ مختصَرٍ للهدايةِ"، و"فتاوى"
(2)
.
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 273 - 274)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 346 - 347).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 265)، و"الطبقات السنية" للتميمي (4/ 27 - 31)، و"الأعلام " للزركلي (3/ 88 - 89).
3 - المولى هدايةُ الله بنُ مولانا بار عليٍّ العجميِّ (948 أو 949 هـ):
قرأَ على علماء عصره، منهم: المولى بير أحمد جَلبي، والمولى مُصلحُ الدِّين مُصطفى بن خليلٍ، والدُ طاشكُبرِي زادَه، والمولى مُحيي الدِّين الفناريِّ، والعلامةُ ابن كمال باشا، ثم اشتغلَ بالتدريس في مدارسَ عديدةٍ، وبإحدى المدارسِ الثَّمانِ، ثُم صار قاضيًا بمكةَ المُكرَّمةَ، ثُم اختلَّت عيناه فتركَ القضاء وذهبَ إلى مصرَ وتوفِّي بها.
وكان عالمًا مُشاركًا في العلوم، وله معرفةٌ بالأصولَين والفقه، أديبًا، لبيبًا، وقورًا، حليمًا، مُتواضعًا، مُتخشِّعًا، كريمَ النَّفسِ، مرضيَّ السِّيرةِ، رحمَه الله تعالى رحمةً واسعةً
(1)
.
4 - المولى مُحيِي الدِّينِ محمدُ بنُ عبد الله الشهيرُ بمحمد بك (950 هـ):
كان من عبيد السلطان بايزيد خان، وسلكَ طريقَ العِلم، وقرأ على علماء عصرِه، منهم المولى الشَّيخُ مُظفَّرُ الدِّين العجميُّ، والمولى مُحيي الدِّين الفناريُّ، والمولى بير أحمد جلبي، ثم وصل إلى خدمةِ العلامة الفاضلِ ابنِ كمال باشا، وصار مُعيداً لدرسِه، ثُم أصبح مدرِّسًا في مدارسَ عديدةٍ، ثُم اختلَّ دماغُه، وتركَ التَّدريس، وسافرَ إلى مصرَ، وأُسرَ في أيدي النَّصارى، واستردَّه بعضُ أصدقائِه منهم، ورجع إلى قُسطنطينيَّةَ، واشتغلَ بالتَّدريس، حتى توفِّي
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 297)، "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" للغزي (2/ 252 - 253)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 399 - 400).
ببلدةِ كُوتاهْيةَ في سنة (950 هـ)، وكان أديبًا، محبًّا للعلمِ وأهله، وله مشاركةٌ في العلوم العقليَّة والرِّياضيَّة
(1)
.
5 - المولى محمدُ بنُ عبد الوهَّاب بنِ عبدِ الكريم (955 هـ):
كان جدُّه عبدُ الكريم قاضيًا بعسكرِ دولةِ السُّلطان محمد خان أبي الفتح، ووليَ أبوه عبدُ الوهَّاب الدَّفتردارَّيةَ في عهد السلطانِ سليم خان.
حصَّلَ العُلومَ على علماء عصرِه، منهم المولى إسرافيل زادَه، والمولى جِوِي زادَه، والمفتي أبي السُّعود، ثم وصل إلى محطِّ رحالِ الرِّجالِ، المخصوصِ في عهده بالإفادة، المولى الشَّهير بكمال باشا زاده، فتبحَّر في العلوم، وغلب على أقرانه، ثُم اشتغل بالتَّدريس والقضاء، ثُم توفِّي وهو في السِّتِّين من عُمره.
وكان رحمه الله يَنظمُ الأبياتَ بعدَّةِ لغاتٍ، وكانت له عدَّةُ مؤلَّفاتٍ، ذكرها ابنُ بالِي
(2)
.
6 - المولى عبدُ الكريمِ الويزَويُّ (961 هـ):
قرأَ على علماء عصره، ثُم وصل إلى خدمة المولى الفاضل ابن كمال
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 294 - 295)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 407 - 408).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 384 - 389)، و"الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" للغزي (3/ 57 - 58)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 555)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 256).
باشا المفتِي، ثُم اشتغلَ بالتَّدريس في المدارسِ المختلفةِ، ثُم صار مُدرِّسًا ومُفتيًا بسلطانيَّةِ مَغنيسَا، وتوفِّي وهو مُدرِّسٌ بها.
وكان رحمه الله عالمًا فاضلًا، قويَّ الطَّبع، شديدَ الذَّكاء، لطيفَ المُحاورة، حسَنَ المُحاضرة، لذيذَ الصُّحبة، وكانت له مشاركةٌ في العُلوم كلِّها، رحمه الله رحمةً واسعة
(1)
.
7 - المولى درويش محمدٌ (962 هـ):
كانت أمُّه بنتُ العالمِ الفاضلِ سِنان باشا، قرأَ على عُلماءِ عصرِه، ثُم وصل إلى خدمةِ العلامة الفاضلِ ابنِ كمال باشا، ثُم اشتغلَ بالتَّدريسِ، وتوفَي وهو مُدرِّسٌ بإحدَى المدرستينِ المُتجاورتينِ بأدرنةَ.
وكان رحمه الله عالمًا فاضلًا، سليمَ النَّفس، مُستقيمَ الطَّبيعة، مُحبًّا للخيرِ وأهله، مُلازمًا لمُطالعة الكتب وتحصيل العُلوم
(2)
.
8 - المولى مُحيِي الدِّين محمدُ بنُ عبدِ القادر، المُشتهِرُ بالمعلُول (963 هـ):
وهو والدُ الفاضلِ السَّيِّد محمدٍ جَلبِي النَّقيبِ في المماليك العثمانيَّةِ في زمنِ الكفويِّ (1069 هـ).
قيل عنه: إنَّه زبدةُ آلِ الرَّسول، وصفوةُ أولادِ العُقول، شريفُ الأصلِ، لطيفُ الشَّمائلِ.
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص:302).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 307).
أخذَ العِلمَ عن علماءِ عصرِه، منهم المولى مُحيي الدِّين الفناريُّ، والعلامة ابنُ كمال باشا، ثُم اشتغل بالتَّدريس، ثُم صار قاضيًا بمصرَ المحروسةِ، ثُم قاضيًا بالعسكرِ المنصورِ في ولاية أناطولِي، تم توفِّي ودُفنَ عند دارِ القُرَّاء التي بناها بإسطنبول.
وكان عالمًا، فاضلًا، صالحًا، مُحقِّقًا، مُدقِّقًا، عالمًا بالعُلوم الشَّرعيَّة والعقليَّة
(1)
.
9 - المولى مُصلحُ الدِّينِ مُصطفى بنُ المولى سيدي المنتشويِّ (964 هـ):
قرأَ على عُلماء عصرِه، ثُم وصل إلى خدمة العلامة الفاضلِ ابنِ كمال باشا، ثُمَّ اشتغلَ بالتَّدريس، وصارَ مُدرِّسًا بإحدَى المدرستينِ المُتجاورتينِ بأدرنةَ، توفِّي وهو مُدرِّسٌ بها.
وكان رحمه الله جيِّدَ القريحةِ، مُستقيمَ الطَّبعِ، مُلازمًا لمطالعةِ الكُتبِ والعُلومِ، وكانت له مُشاركةٌ في العُلومِ
(2)
.
10 - المولى يَحيى جَلبي بنُ أمينٍ نورِ الدَّينِ، الشَّهيرُ بأمين زادَه (964 هـ):
ولد بإسطنبول، وكان أبوه من أمراءِ الدَّولة العثمانيَّةِ، واشتَغل بالعلم،
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 289 - 290).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص:307 - 308).
وحصَّل العلومَ على علماءِ عصره، منهم المولى ابنُ المؤيَّد، والعلامة ابنُ كمال باشا، ثُم وصلَ إلى خدمةِ المولى الفاضلِ علي جَلبِي الجماليِّ المُفتِي بإسطنبول قبل ابنِ كمال باشا، وصار مُعيدًا لدرسِه، واشتغلَ بالتَّدريس والقضاء.
كان رحمه اللهُ تعالى عالمًا، زاهدًا، صاحبَ أدبٍ ووقارٍ، وكان أبعدَ النَّاسِ من ذكرِ مساوِئ النَّاس.
وكانت له معرفةٌ تامَّةٌ بالتَّفسير، وأصولِ الفقهِ، والعلومِ الأدبيَّة بأنواعها، وكتبَ رسائلَ على بعضِ المواضعِ من "تفسير البيضاويّ "، وعلى بعضِ المواضعِ من "وقاية الدِّراية"، وكان له إنشاءٌ بالعربيَّة والفارسيَّة في غايةِ الحُسنِ والقبول
(1)
.
11 - المولى مُحيي الدِّينِ محمَّد بنُ حسامِ الدِّينِ الشَّهيرُ بقُرَّه جَلبِي (965 هـ):
عالمٌ فاضل، له اطِّلاعٌ على عِلم الكلام، ومهارةٌ في الفقه، وكانت له ممارسةٌ في النَّظمِ، واطِّلاعٌ على علمِ التَّواريخ والمُحاضراتِ.
قرأ على والدِه حُسامِ الدِّينِ، والعلَّامة ابنِ كمال باشا، واشتغل بوظيفة التَّدريس والقضاء، وتوفِّي وهو قاضٍ بإسطنبول
(2)
.
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 313 - 314 هـ).
(2)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده=
12 - المولى مُحيِى الدِّينِ الشَّهيرُ بابنِ الإمامِ (973 هـ):
كان أبوه إمامًا في جامعِ محمود باشا، قرأ على العلامة ابن كمال باشا وغيره من أربابِ الفضل والكمال، ثُم اشتغلَ بالتَّدريس والقضاء والإفتاء في أماكنَ عديدةٍ.
وكان من العلماءِ العاملين والفضلاء الكاملين، يُحقِّقُ كلامَ القُدماء، ويُدقِّقُ النَّظرَ في مقالات الفُضلاء، وقد علَّق على أكثرِ الكُتب المُتداولة حواشٍ، إلَّا أنَّه لم يتيسَّر له الجمعُ والتَّرتيب، والتَّبييضُ والتَّهذيب
(1)
.
13 - المولى تاجُ الدِّينِ إبراهيمُ بنُ عبدِ الله (973 هـ):
حصَّل العلومَ على فُضلاءِ عصره، واتَّصل بنورِ الدِّين الشَّهيرِ بصارُو كُوزْ، وصار مُلازمًا له، ثُم اشتغلَ بالتَّدريس والإفتاء، وكتب حاشيةً على صدرِ الشَّريعة، ردَّ فيها على شيخِه ابنِ كمال باشا، وحاشيةً على بعضِ المواضع من "شرح المفتاح"، يردُّ فيها على ابن كمال باشا في المواضعِ التي يدَّعي التَّفرُّدَ فيها، وله عدَّةُ رسائلَ على مواضعَ من "حاشية التَّجريد" للسَّيِّد الشَّريفِ، وله شرحٌ لمتنِ "المراحِ" من علمِ التَّصريف
(2)
.
= (ص:297 - 298).
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 370)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 547).
(2)
انظر ترجمته في: "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" للتميمي (1/ 202 - 253)، و"سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة (1/ 33)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 540)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 27 - 28).
14 - المولى مُصلحُ الدِّينِ المُشتهرُ ببستانِ (977 هـ):
ولدَ بقصبةِ تِيرَةَ، وأخذَ العلمَ عن المولى مُحيِي الدِّين الفناريِّ، والمولى شجاعٍ، ثُم عطفَ الزمامَ نحوَ الاشتغالِ على العلامة ابنِ كمال، ثُم صار مُلازمًا من المولى خيرِ الدِّين معلِّمِ السُّلطانِ سُليمانَ، ثُم اشتغل بالتَّدريس والقضاء بمدينة بروسةَ، وأدرنةَ، وإسطنبول، ثُم ولي قضاءَ العسكرِ بولايةِ أناطولي، وبعدَ عشرةِ أيامٍ توفِّي المولى المُشتهرُ بِجِوِي زادَه وهو قاضٍ بالعسكرِ بولايةِ رُوم إيلِي، فنُقلَ مصلح الدين إلى مكانِه.
كان رحمه الله من أكابرِ العُلماء، والفُحولِ الفضلاء، يغبطُه النَّاسُ على نقاءِ قريحته، وسُرعةِ بديهته، فطنًا ألمعيًّا، لبيبًا لوذعيًّا، فذًّا أديبًا، وكانت المشاهيرُ من كبارِ التَّفاسير مركوزةً في صحيفةِ خاطرِه، وأمَّا العلومُ العقليَّةُ فهو ابنُ بجدتِها، وآخذٌ بناصيتها.
كتبَ حاشيةً على "تفسيرِ البيضاويِّ " لسورةِ الأنعامِ، وعلَّقَ حواشٍ على مواضعَ أُخر. وكان يختمُ القرآنَ الكريم في صلواتِه في كلِّ أسبوعٍ مرَّةً، توفِّي في العشرِ الأخيرِ من رمضانَ سنةَ (977 هـ) رحمه الله رحمةً واسعةً
(1)
.
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 395 - 396)، و"سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة (3/ 337)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 563)؛ و"الأعلام" للزركلي (7/ 40 هـ)، و"هدية العارفين" للبابرتي (2/ 435)، و"معجم المؤلفين" لعمر بن رضا كحالة (12/ 280 - 281).
15 - المولى أبو السُّعودِ بنُ محمَّد بنِ مُصطفى العماديُّ (982 هـ):
كان رحمه الله من تلاميذِ ابنِ كمال باشا الخواصِّ، وهو خاتمةُ العُلماءِ المُحقِّقينَ الذين شرَّفُوا القرنَ العاشرَ بالعِلمِ.
قرأَ على ابنِ المؤيَّدِ، وابنِ كمال باشا، والمولى القَرمانِي، وأعطَى له شهادتَه العِلميَّةَ المُسمَّاةَ (بالإجازةِ) ابنُ كمال باشا، واشتغل مدَّةً بالتَّدريس، ثُم بالقضاءِ بَبرُوسةَ وإسطنبول، ثُم صار قاضيًا بالعسكرِ في رُوم إيلي، وقد نشأ في حلقاتِه العِلميَّة عُلماءُ وأدباءُ وشعراءُ أجلاءُ، مثلُ المولى سعدُ الدِّينِ، والشَّاعرُ المَشهورُ باقي، وابنُ الحِنَّائيِّ.
وله مؤلَّفات عديدةٌ، ورسائلُ مفيدةٌ، من أشهرِها:"إرشادُ العقلِ السَّليمِ إلى مَزايا القُرآنِ الكريمِ "، وهو تفسيرُه المطبوع
(1)
.
16 - المولى تاجُ الدِّينِ إبراهيمُ (994 هـ):
قرأ على علماءِ زمانِه، ووصل إلى خدمةِ العلامة ابن كمال باشا زادَه، فعكفَ على التَّحصيلِ والاستفادةِ، وسعَى في تكميلِ ذاتِه، وبقي مُلازمًا له إلى وفاتِه.
واشتغلَ بالتَّدريس في أماكنَ مُختلفةٍ، ثُم عُيِّنَ مُدرِّسًا للمدرسة التي بناها السلطانُ سليمانُ بمدينةِ دمشقَ، وفوَّضَ إليه الفتوى في هذه الدِّيارِ، فدامَ عليها حتى توفِّي.
(1)
انظر ترجمته في: "سلم الوصول إلى طبقات الفحول" لحاجي خليفة (1/ 94)، "وشذرات الذهب" لابن العماد (10/ 584 - 586)، و"معجم المفسرين" لعادل نويهض (2/ 625 - 626)، و"الأعلام" للزركلي (7/ 59 - 60).
وكان رحمه الله عارفًا بالعلومِ الدِّينيَّة والمسائلِ اليقينيَّة، خُصوصًا الفقه، فإنَّه كان معروفًا بين أصحابِه، ومعدودًا في عدادِ أربابِه، وكان رحمه الله ليِّنَ الجانب، صحيحَ العقيدة، صاحبَ الأخلاقِ الحميدة
(1)
.
17 - المولى بالِي بنُ محمد:
والدُ صاحبِ "العقد المنظوم في ذكرِ أفاضل الرُّوم" عليّ بنِ بالِي (992 هـ)، ولدَ رحمَه اللهُ تعالى سنةَ (901 هـ)، ولم يذكُر ابنُه في ترجمتِه سنةَ وفاتِه، غيَر أنَّه ذكرَ أنَّه توفِّي في شهرِ رجبٍ في قصبةِ جُوْرلي.
وكان رحمه الله حادَّ الذِّهنِ، ذكيَّ القريحة، صحيحَ العقيدة، بحَّاثًا بالعِلم، معروفًا به بينَ الأهالِي.
وقد كتبَ تفسيرًا من المُعتبراتِ بخطِّه، وصبَّ اهتمامَه خصوصًا لمؤلَّفاتِ أستاذِه العلامة ابنِ كمال باشا، حيثُ كتبَ جميعَ كُتُبِه ورسائله، وعلَّقَ حواشٍ على بعضِ المواضعِ من شرحِه الفرائضَ، وعلى بعضِ المواضعِ من "الإصلاحِ والإيضاحِ "، وكان له اليدُ الطُّولَى في الكلام والهيئة والحساب، وكتبَ على بعض المواضعِ منها كلماتٍ لطيفةً، وكان رحمه الله محمودَ السِّيرةِ في قضائه، عاملَه اللهُ بلطفِه يومَ جزائه
(2)
.
* * *
(1)
انظر ترجمته في: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاشكبري زاده (ص: 383)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (10/ 549).
(2)
انظر: "ابن كمال باشا وآراؤه الاعتقادية"(1/ 90).
خامسًا: مكانتُه العلميَّةُ وثناءُ العلماءِ عليه
يكفي العلامةَ ابنَ كمال باشا أنه لما دخل القاهرة منبع العلماء وملتقى الأدباء ومنتهى الفضلاء، أُعجب علماؤها بفصاحةِ لسانه، وحُسنِ كلامِه، وبلاغةِ بيانِه، وأقرُّوا له بالفضلِ والكمالِ، وأجازَ له بعضُ علماءِ الحديثِ بها، وأفادَ واستفادَ، وحصَّلَ بها علوَّ الإسنادِ، وشُهدَ له بالفضائلِ الجمَّة، والإتقانِ في سائرِ العلوم المُهمَّة، وكانوا يذكرونه بغايةِ التَّبجيل والإجلال
(1)
.
وقد صارَ للعلَّامةِ ابنِ كمال اليدُ الطولى في علوم العربيَّة والتفسير والكلام، وما مؤلفاته إلا شواهد ناطقةٌ بتقدمهِ فيها وعلوِّ كعبه بين من يعانيها، وإجالةُ نظرٍ عَجْلى على بعض فيها توقِفُ المرءَ على مكانتهِ العلميَّة الرفيعة، ومن هنا فإنَّنا لا نرى داعيةً إلى الموازنة بين العلامةِ ابنِ كمال باشا وغيرهِ من العلماء؛ كالسّيوطي وأبي السُّعود وطاشكُبري زاده وغيرهم ممن كان في عصره أو يقرُب منه؛ فلكلِّ واحدٍ من العلماء فنّ أتقنهُ وعُرف به، وشاركَ في غيره من الفنونِ وكتبَ فيها وإنْ لم يكن ممن برز فيها.
فالعلامةُ ابنُ كمال رحمه الله أراد أن يبرزَ في العلوم النقلية كما السُّيوطي لكنه وقف دون غايته، والسُّيوطي أرادَ أن يبرز في العلوم العقليَّة فما وصل إلى مَرامه، ونرى أنَّ الموازنة بينهما - إنْ تمت - تكون في كثرةِ التَّأليف وقوةِ التَّحرير بوجهٍ عام، وفي ترجيحِ كفة أحدِهما على الآخَر هاهنا تختلفُ الأنظار
(2)
.
(1)
انظر: "كتائب أعلام الأخيار" للكفوي (4/ 390).
(2)
انظر: "مقدمة مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا". ط دار اللباب.
فقد ذهبَ التَّميميُّ إلى أنَّ ابنَ كمال قد حازَ السَّبقَ على السُّيوطيِّ فقال: وعندي أنَّ ابنَ كمال باشا أدقُّ نظرًا من السُّيوطيِّ، وأحسنُ فهمًا، وأكثرُ تصرُّفًا، على أنَّهما كانا جمالَ ذلك العصرِ، وفخرَ ذلك الدَّهرِ، ولم يخلُف أحدًا منهما بعدَه مثلُه، رحمَهما اللهُ تعالى
(1)
.
أما العلَّامةُ أبو الحسناتِ عبدُ الحيِّ اللَّكنويُّ (1304 هـ) فقد رجَّح كفَّةَ الإمام السُّيوطيِّ، فقال عقبَ كلامِ التَّميميِّ: أقولُ: هو إن كان مساويًا للسُّيوطيِّ في سعة الاطِّلاع في الأدب والأصولِ، لكن لا يُساوِيه في فنونِ الحديثِ، فالسُّيوطيُّ أوسعُ نظرًا، وأدقُّ فكرًا في هذه الفنون منه، بل من جميعِ مُعاصرِيه، وأظنُّ أنَّه لم يُوجد مثلُه بعدَه، وأمَّا صاحبُ التَّرجمةِ فبضاعتُه في الحديثِ مُزجاةٌ، كما لا يخفَى على من طالعَ تصانيفَهما، فشتَّانَ ما بينهما كتفاوتِ السَّماءِ والأرضِ وما بينهُما
(2)
.
قلت: وما قاله هذا العلامة في حقِّ ابن كمال باشا يمكن تلمُّسه في جميع مؤلفاته، حيث يظهر منها ضعفُ الصنعة الحديثية عنده، لكنه في المقابل إمام المباحث العقلية، فكم تعقب من عالم، وكم رد على إمام، وكم أبدع من مسألة، وبحث في موضوع، فأفاد فيما أبدع وأفاض فيما بحث.
وحام حول ما ذكرناه الدكتورُ حسَن عِتر رحمه الله، فقال بعدَ إيرادِ أقوالِ العُلماءِ في مُوازنتِهما: قلتُ: اتَّفقوا على تفضيلهما على جميع علماءِ ذلك العصر، واختلفوا في ترجيح فضلِ أحدهما على الآخر، فإمَّا أن يكون
(1)
انظر: "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" للتميمي (1/ 357).
(2)
انظر: "الفوائد البهية" للكنوي (ص: 22).
أحمدُ بنُ سليمانَ كالسيوطيِّ تماماً، أو أنَّه يليه مباشرةً، فلا يتوسَّطُ بينَهما أحدٌ في العلمِ والفضل، والحقُّ أنَّ لكلٍّ منهما مزيَّتُه ورجحانُه في جانبٍ من العلوم، ولا ريبَ أنَّ السُّيوطيَّ أطولُ باعاً وأعظمُ تضلُّعاً من علوم الحديثِ، وفي كلٍّ منهُما خيرٌ عظيم، وعلمٌ غزير، رحمهما الله وجزاهما خيراً عن الإسلام والمسلمين
(1)
.
هذا وذهبَ كثيرٌ من المؤلِّفينَ إلى تفضيل العلَّامة ابن كمال باشا - لانتشارِ شهرتِه العلميَّةِ في عصرِه - على أكابرِ علماءِ الشَّرقِ، أمثالِ العلَّامةِ التَّفتازانيِّ، والفاضلِ السَّيِّدِ الشَّريفِ الجُرجانيِّ، وفي هذا من المبالغةِ ما لا يخفى على باحثٍ مدقِّق، فقد أمضى العلامةُ ابنُ كمال عمرَه في العيشِ تحتَ كَنفِ عِلمَي هذين العلَمَين وأبحاثِهما، ناقلاً مُسلِّماً، أو مُناقشاً مُتعقباً.
كما يرَونَ تفوُّقَ العلَّامةِ أبي السُّعودِ في الأدبِ، وعظمةِ الأسلوبِ، وتناسبِ البيانِ، والأشعارِ العربيَّةِ.
وهنا لا بدَّ من الإشارةِ أيضاً أنَّ العلامةَ طاشكبري زاده قد مَضى على سَنَنِ العلامةِ ابن كمال باشا، من حيثُ كثرةُ التأليفِ والإفادةِ من كتب ابن كمال ورسائلِه، حتى إنَّ كثيراً من أسماء كتبه ورسائله شابَهتْ رسائلَ ابنِ كمال وكتبَه، تماماً كما ابن طولونَ مع السُّيوطي، رَحمَ اللهُ الجميع.
وبعد، فقد كثُر الثناءُ على العلامةِ ابن كمال باشا قديماً وحديثاً، ومن
(1)
مقدمة "تفسير سورة الملك" لابن كمال باشا، تحقيق: د. حسن عتر (ص: 23 - 24).
أجمل ما قيل فيه قولُ العلامةِ الكَفويّ (990 هـ) في كتابه: "كتائب أعلام الأخيار":
من لطائف صنع الله وألطافه التي جلَّت أن تُعد، وكبرت لعظم شأنها عن أن تُحد: أنه لم يُخلِ في عصر من الأعصار المدائنَ والأمصار عن ذي ذهن وقَّاد، وصاحب طبع نقَّاد، يبذُل جهده في ارتفاع ما يَرفع في الدارين قدرَه، ويطلع من أُفق النَّباهة بدرُه، فتصدَّى لاقتباس العلم ودراسته، واجتهد في صَونه عن الضياع وحراسته، وصرف همَّته إلى تجديد مراسم الشرع، وأجرى سواد الحبر في بياض الورق، ووقفَ نهمتَه على تمهيد قواعد الأصل والفرع، وسوَّد وجهَ الباطل وبيَّض مُحيَّا الحق، به كلُّ من يقتدي يسترشد ويهتدي، وما هو في عهده إلا هذا المولى، سجيَّتُه التأليف والدرس والفتوى، ولا يفتر لمحةَ ناظرٍ عن التأليف والتدريس والإفادة، يقرِّر غاية مَرامه غير مُتلعثم في كلامه:
فسَلْ عن جلايا مجدِه كلَّ شارقٍ
…
وطارِحْ خفايا فضله كلَّ غاسق
أضاءت سماءُ الفضل منه بثاقبٍ
…
تُفدِّيه سيَّاراتُ ذات الطرائق
وليس له ثانٍ من النَّاس كلَّما
…
علا درجاتٍ في بيان الدَّقائق
يذلُّ مصاعيبَ العلوم فتنثني
…
إليه هوادسُها طرو الوسائق
ويسحر في علم البيان محافظًا
…
على نسبٍ يزهى بها وعلائق
ومَنْ لكلام لله يُبدي كنوزَه
…
سواه بكشفٍ للغوامض رائق
وأنفاسُه في روض نعمان عضَّه
…
لواقح قد شقَّت حبوبَ الشَّقائق
تمر سِنُو الدُّنيا فتُخْلِد ذِكْرَه
…
تصانيفُ قد زانت بطون المهارق
(1)
وكذلك وصفَه العلَّامةُ الكَفويُّ بأنَّه: أستاذُ الفضلاءِ المشاهيرِ، إسنادُ العُلماءِ النَّحاريرِ، إمامُ الفروعِ والأصولِ، علَّامةُ المعقولِ والمنقولِ، كشَّافُ مُشكلاتِ الكلامِ القديمِ، حلَّالُ معضلاتِ الكتابِ الكريمِ، فارسُ ميدانِ البلاغةِ والأدبِ، ومؤسِّس طريقةِ الخلافِ والمذهب، مُفتِي الثَّقلينِ، لسانُ الفريقينِ، السائرُ تصانيفُه مسيرَ الخافقينِ، شيخُ الإسلامِ والمسلمينَ، شمسُ الملَّةِ وضياءُ الدِّينِ.
ثم قال: وله تصنيفاتٌ كثيرةٌ معتبرةٌ متداولة بينَ أيدِي العُلماءِ، ومقبولةٌ لدَى الفضلاءِ، كان يكتب ما سنح بباله الشريف بأداءٍ حسنٍ وتحريرٍ لطيف، وقد فتر الليلُ والنهارُ ولم يفتُر قلمُه، ولم يُذكَر في مجلسِه مسألةٌ من كلِّ الفنونِ إلَّا وهو كان يعلمُه.
قال: وكلُّ تصانيفِه مقبولةٌ بينَ الأعيانِ، مُتداولَةٌ بينَ أهالِي الزَّمانِ، وكان عددُ رسائلِه قريباً من مئةِ رسالةٍ، كلٌّ منها جامعةُ الفوائد، عامَّةُ العوائد.
وبالجملةِ أنسَى رحمه الله ذكرَ السَّلفِ بينَ النَّاسِ، وأحيا رباعَ العلمِ بعدَ الاندراسِ، وكان من مفرداتِ الدُّنيا، ومنبعاً للمعارفِ العُليا، شهرتُه تُغنِي عن التَّفصيلِ والإطنابِ، والحاصلُ ما من فنٍّ إلَّا وله فيه حكمةٌ وفصلُ خطابٍ
(2)
.
(1)
انظر: "كتائب أعلام الأخيار" للكفوي (4/ 389).
(2)
انظر: "كتائب أعلام الأخيار" للكفوي (4/ 383 - 393).
وقال العلَّامةُ طاشكُبري زادَه (968 هـ): وكان رحمَه اللهُ تعالى من العلماءِ الذين صرفُوا جميعَ أوقاتِهم إلى العلم، وكان يشتغلُ بالعلمِ ليلاً ونهاراً، ولم يفتُر قلمُه، وصنَّفَ رسائلَ كثيرةً في المباحثِ المهمَّةِ الغامضةِ، وكان صاحبَ أخلاقٍ حميدةٍ حسنة، وأدبٍ تامٍّ، وعقلٍ وافر، وتقريرٍ حسنٍ ملخَّص، وله تحريرٌ مقبولٌ جدًّا؛ لإيجازِه مع وضوحِ دلالتِه على المرادِ.
وكان ابنُ الحنائِيِّ، علاءُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ (979 هـ) اتَّخذَ من أسماءِ المشهورينَ طبقةً في كتابِه "طبقاتُ الحنفية"، وجعلَ العلَّامةَ ابنَ كمال باشا عنوانَ طبقتِه، وإن دلَّ صنيعُه هذا على شيءٍ، فإنَّه يدلُّ على علو كعبه في العلوم، فقال: ثُمَّ انتقلَ الفقهُ إلى طبقةِ المولَى الفاضل مفتي الثقلين أحمدَ بنِ سليمانَ الشهير بابنِ كمال باشا
(1)
.
ووصفَه تلميذُه العلَّامةُ أبو السُّعودِ العماديُّ (983 هـ) بأنَّه: العالمُ الرَّبانيُّ، والعارفُ الخاقانيُّ، فاضلُ الرُّومِ، والفائقُ في جميعِ العلومِ، شيخُ الخافقينِ، ومُفتِي الثَّقلينِ، ابنُ كمالٍ باشا
(2)
.
وقال عنه تقيُّ الدِّينِ التَّميميُّ (1005 هـ): الإمامُ، العالمُ، العلَّامةُ، الرُّحلةُ، الفهَّامةُ، أوحدُ أهلِ عصرِه، وجمالُ أهلِ مصرِه، من لم يُخلَف بعدَه مثلُه، ولم ترَ العيونُ مَن جمعَ كمالَه وفضلَه، كان رحمَه اللهُ تعالى
(1)
انظر: "طبقات الحنفية" لابن الحنائي، المنسوب خطأ لطاشكبري زاده (3/ 82).
(2)
انظر: "رسالة في معرفة لفظ: جلبي) لأبي السعود، تحقيق: صفاء صابر مجيد البياتي، مجلة آفاق الثقافة والتراث (ص: 163 - 164) بالعراق.
إماماً بارعاً في التَّفسيرِ والفقهِ والحديثِ، والنَّحوِ والتَّصريفِ، والمعاني والبيانِ، والكلامِ والمنطقِ والأصولِ، وغيرِ ذلك، حيثُ إنَّه تفرَّدَ في إتقانِ كلِّ علمٍ من هذه العلومِ، وقلَّما يُوجدُ فنٌّ من الفنونِ إلَّا وله مصنَّفٌ أو مصنَّفاتٌ، وصارَ إماماً في كلِّ فنٍّ، بارعاً في كلِّ علمٍ، تُشدُّ الرِّحالُ إليه، وتُعقدُ الخناصرُ عليه
(1)
.
* * *
(1)
انظر: "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" للتميمي (1/ 355 - 356).
سادساً: وفاته
وافت العلامةَ ابنَ كمالٍ المنيةُ يومَ الخميسِ الثَّانِي من شهرِ شوالَ سنةَ (940 هـ)، بعدَ طلوعِ الشَّمسِ، في مدينةِ إسطنبولَ، وصُلِّي عليه بعدَ الظُّهرِ من ذلك اليومِ، في جامعِ السُّلطانِ محمَّد خان عليه الرَّحمةُ والرِّضوانُ.
وقد قيل في تاريخِ وفاتِه حسبَ حِسابِ الجُمَّل:
حَلَّ عليه رحمةُ الحقِّ.
وقيل: ماتَ النِّحريرُ.
وقيل: ارتحلَ العُلومُ بالكمالِ.
وكُتبَ على قبرِه: هذا مقامُ أحمدَ.
وعلى أكفانِه: هي آخرُ اللِّباسِ.
وكلُّها يتضمَّنُ تاريخَ وفاتِه.
وكان يقول رحمَه اللهُ تعالى وهو يُحتضرُ: يا أحدُ نَجِّنا ممَّا نخافُ، فحُسِبَت بعدَ موتِه، فكانت تاريخاً لوفاتِه أيضاً.
وحكى بعضُ المُترجمينَ له أنَّه لمَّا بلغَ خبرُ وفاتِه الدِّيارَ الشَّاميَّةَ، صلَّوا عليهِ غائبةً بجامعِ دمشقَ، وذلك ثانِي ذي القَعدةِ سنةَ (940 هـ)، وكذلك بالمسجدِ الحرامِ، رحمه الله تعالى وغفر له.
* * *
سابعاً: مؤلفاته
يعدُّ المؤلف رحمه الله من العلماء الموسوعيين، والمصنفين المكثرين، الذين لم يدعوا بابًا من أبواب العلم إلا ومدوا إليه يد التأليف، ويشهد لهذا كثرة كتبه ورسائله التي وصلت إلينا، ولكن لا بد هنا من التنبيه على ملاحظة مهمة، وهي أن هذا العلامة قد نسب إليه الكثير من المؤلفات والرسائل التي ليست له، حتى جعلها البعض ومنهم التميمي تزيد على ثلاث مئة، لكن الذي تبين بعد التمحيص والبحث الدقيق، أن ما كان له حقيقة هو أقل بكثير من تلك الأرقام المبالغ فيها، ويمكن أن نرجع هذا الأمر إلى الأسباب التالية:
1 -
ما وقع فيه مُفهرِسو المخْطوطاتِ مثل بروكلمان وآدسز وغيرِهما، الذين نَسبوا إلى العلَّامةِ ابنِ كمالٍ ما ليس له، كما وقع في جملةٍ مِن رسائلِ التفسيرِ، كـ"تفسيرِ سُورةِ الفَجرِ" والتي هي في الحقيقة قطعةٌ من تفسيرِ الإمامِ البَيضاويِّ "أنوارِ التَّنزيل".
2 -
ما وقع فيه المفهرسون أيضاً من ذِكر عناوينَ كثيرةٍ للرسالةِ الواحدةِ، فيُظن أنها رسائل عديدة، في حين أن الأصل واحد.
3 -
ما فعله النُّسَّاخِ من نسبة رسائلَ كثيرةً إلى العلامة ليستْ له جَهلاً أو قَصداً؛ جَهلاً لأنَّ طائفةً منهم يُثبتونَ اسمَ علَمٍ مِن الأعلامِ بمجرَّدِ أنْ يرَوْا اسمَه في رسالةٍ مَذكوراً
(1)
، .........................................
(1)
كما في الرسالة المتعلقة بمعنى لفظ (جلبي) لأبي السعود المفسر، حيث نسبت في كثير من =
وقَصداً بغاية الترويج؛ لِمَا كان للعلَّامةِ ابنِ كمال مِن مَكانةٍ رفيعةٍ في الدَّولةِ العُثمانيَّةِ.
4 -
أن هناك الكثير من الرسائل القصيرة المقتطعة من أخرى أكبر منها، أو من بعض الكتب الكبيرة للمؤلف، فجعلُوها رسائلَ مفردةً، كما جرى في أكثرِ مِن ثلاثينَ رسالةً أُفردتْ مِن هذا التفسير، ومن شرح المؤلف على كتابِ "الهدايةِ" للمرغِينانيِّ، وغيرِها.
وهكذا وبعدَ الوقوفِ على ما يُقارِبُ مِن أربعِ مِئةِ رسالةٍ مَنسوبةٍ إلى العلَّامةِ ابنِ كمال، ومن خلال النَّظرِ الدقيق فيها واحدةً واحدة، تبين أن ما يصح نسبته إليه هو ما يقارب من مئةٍ وأربع عشرة رسالة، وهو مجموع ما نشرته دار اللباب للدراسات وتحقيق التراث في اسطنبول تحت عنوان:"مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا" في ثماني مجلدات، فكان هذا العددِ مُقارِباً لما ذكره العلَّامةِ الكَفويِّ (ت 990 هـ) من أنَّ عددَ رسائلِ ابنِ كمالٍ قَريبٌ مِن مئةِ رسالةٍ
(1)
.
وفنونُ تلك الرسائلِ التي تم نشرها تَندرجُ تحتَ علومٍ ستَّةٍ هي: التفسيرُ وعلومُ القرآن، والحديثُ الشريفُ وعلومُه، والفقهُ، واللغةُ العربيةُ وعلومُها، والعقائدُ، وعلمُ الكلام. وسنذكرها إن شاء الله جميعاً ثم ننتقل إلى كتبه الأخرى التي لم تنشر ضمن المجموع المذكور:
= النسخ الخطية لابن كمال رحمه الله.
(1)
انظر: "كتائب أعلام الأخيار" للكفوي (4/ 393).
أولاً: رسائل التفسير وعلوم القرآن:
1 -
"تفسيرُ سورةِ المُلكِ".
2 -
"تفسيرُ سُورةِ النَّبأ".
3 -
"تفسيرُ سُورةِ النَّازعاتِ".
4 -
"تَفسيرُ سُورةِ الطَّارقِ".
وهذه السور الأربع وقعت مستقلة في بعض المخطوطات، وجاءت كلها أو بعضها ملحقة بكثير من النسخ الخطية المعتمدة في هذا التفسير، ولذلك ألحقناها به.
5 -
"تحقيقُ إعجازِ القُرآنِ".
6 -
"شَرحُ العَشرِ في مَعشرِ الحَشرِ".
7 -
"مقالةٌ في المُغيَّباتِ الخَمسِ".
8 -
"تَحقيقُ القولِ بأنَّ الشُّهداءَ أحياءُ في الدُّنيا".
9 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الغَيبِ".
10 -
"تَعليمُ الأَمرِ في تَحريمِ الخَمرِ".
11 -
"مُختصرُ تَعليمِ الأَمرِ في تَحريمِ الخَمرِ".
ثانياً: الرسائل المتعلقة بالحديثِ النَّبويِّ الشَّريف:
12 -
"مُصطلحاتُ أهلِ الحديثِ".
13 -
"الأَربعونَ حديثًا الأُولى".
14 -
"الأربعونَ حديثاً الثَّانية".
15 -
"الأربعونَ حديثاً الثَّالثة".
16 -
"الأربعون حديثاً الرابعة".
17 -
"حاشية على أوَّلِ صحيحِ البُخاريِّ".
18 -
"رسالةٌ في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: اللَّهمَّ إنَّا نَسْتعِينُكَ ونَسْتَهْدِيكَ ونَسْتَغْفِرُكَ
…
".
19 -
"رسالةٌ في بيانِ قولهِ عليه السلام: كانَ اللهُ ولمْ يكنْ شيءٌ معهُ".
20 -
"رسالةٌ في شرحِ قولهِ عليه السلام: سأُخبرُكم بأوَّلِ أَمري".
ثالثاً: الرسائل المتعلقة بالفقه:
21 -
"رسالةٌ في مَنشَأ الاختلافِ بينَ الأئمَّةِ".
22 -
"رسالةٌ في مِقْدارِ فَرْضِ مَسْحِ الرَّأسِ".
23 -
"رسالة في جَوازِ الجُمعَةِ في مَوْضِعَينِ".
24 -
"الاستِخلافُ للخُطبةِ والصَّلاةِ للجُمُعة".
25 -
"رسالةٌ في جَوازِ الاسْتئجارِ على تَعليمِ القُرآنِ".
26 -
"رسالةٌ في الزَّكاة".
27 -
"رسالةٌ في طبقةِ السُّكْر".
28 -
"رسالةٌ في بيانِ حدِّ الخمرِ".
29 -
"رسالةٌ في بيانِ طبيعةِ الأَفْيُونِ".
30 -
"رسالةٌ في بيانِ حقيقةِ الرِّبا".
31 -
"دُخولُ ولدِ البنتِ في الموقوفِ على الأولادِ".
32 -
"رسالةٌ في تحقيقِ الخِضَابِ".
33 -
"حاشيةٌ على كتابِ أدبِ القاضي مِن الهدايةِ".
34 -
"رسالةٌ في التَّعزيرِ".
35 -
"كشفُ الدَّسائسِ في الكَنائسِ".
36 -
"رسالةٌ في بيانِ الرَّقصِ والدَّورانِ".
37 -
"الفَرائدُ والفَوائدُ".
38 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الصَّبرِ".
39 -
"مَدحُ السَّعي وذَمُّ البَطَالةِ".
رابعاً: الرسائل المتعلقة باللُّغةِ العربيَّةِ وعلومها: وهي رسائل تتعلق بمواضيع البلاغة والنحو واللغة، فرسائل البلاغة:
40 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ التَّغليبِ".
41 -
"رسالةٌ في أقسامِ الاستِعارةِ".
42 -
"رسالةٌ في أنواعِ المجازِ".
43 -
"رسالةٌ في التَّضمينِ".
44 -
"رسالةٌ في اللفظِ المستعمَلِ بطريقِ المجازِ".
45 -
"رسالةٌ في بيانِ أُسلوبِ الحَكيمِ".
46 -
"رسالةٌ في تحقيقِ المُشاكَلة".
47 -
"رسالةٌ في بيانِ تَلوينِ الخِطابِ".
48 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ التَّوسُّعاتِ".
49 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ مَعنى النَّظمِ والصِّياغةِ".
50 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الخَواصِّ والمَزايا".
51 -
"رسالةٌ في علمِ البيانِ".
52 -
"رسالةٌ في الإيجازِ والإطنابِ".
53 -
"رِسالةٌ في تَوجيهِ التَّشبيهِ في: كما صلَّيتَ عَلى إبراهيمَ".
54 -
"تعليقاتٌ على مِفتاحِ العُلومِ".
55 -
"رسالةٌ في مُشاركةِ صاحبِ المَعاني اللُّغويَّ".
أما رسائل النحو واللغة فهي:
56 -
"شَرحُ خُطبةِ شرحِ الكَافيَةِ للمُلَّا الجامِي".
57 -
"شرحُ تعريفِ الكَلمةِ".
58 -
"رسالةٌ في الجَمعِ".
59 -
"رسالةٌ في نِسبةِ الجَمعِ".
60 -
"رسالةٌ في خِطابِ الواحدِ والمثنَّى".
61 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الإِضافةِ".
62 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ وضعِ كادَ".
63 -
"رسالةٌ في دَفعِ ما يتعلَّقُ بالضَّمائرِ".
64 -
"رسالةٌ في (مِنْ) التبعيضيَّةِ".
65 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ السِّيناتِ".
66 -
"رسالةٌ في بيانِ: أَكثَر مِنْ أَنْ".
67 -
"رسالةٌ في بيانِ السَّرابِ والآلِ".
68 -
"التَّنبيهُ على غَلطِ الجاهلِ والنَّبيهِ".
69 -
"رسالةٌ في بيانِ مَزيَّةِ لسانِ الفارِسيَّةِ".
70 -
"تَعليقةٌ على مَرثيَةِ آدمَ ابنَه هابيلَ".
71 -
"إِظهارُ الأَزهارِ على أَشجارِ الأَشعارِ".
خامساً: الرسائل المتعلقة بأبحاث العَقائدِ:
72 -
"مُنيرةٌ في المَواعِظِ والعَقائدِ".
73 -
"رسالةٌ في تَقْريرِ أنَّ القُرآنَ العظيم كلامُ اللهِ القَديم".
74 -
"رسالةٌ في بيانِ مَسألةِ خَلْقِ القُرآنِ".
75 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ مَسألةِ الجَبرِ والقَدرِ".
76 -
"رسالةٌ في بيانِ الأَجل".
77 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ المُعجزةِ".
78 -
"رسالةٌ في أَفضليَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ".
79 -
"رسالةٌ في حقِّ أبوي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ".
80 -
"تَفصِيلُ ما قيلَ في أَمرِ التَّفضيلِ".
81 -
"رسالةٌ في بيانِ عدمِ نِسبةِ الشَّرِّ إلى اللهِ تعالى".
82 -
"رسالةٌ في بيانِ وزنِ الأَعمالِ".
83 -
"تَصحيحُ لَفظِ الزِّنديقِ وتَوضيحُ مَعناهُ الدَّقيقِ".
84 -
"رسالةٌ في حالِ شاهِ إسماعيلَ وأتباعهِ".
85 -
"صورةُ فَتوى في الشَّيخِ ابنِ عربيٍّ".
86 -
"رسالةٌ في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ تَوقيفيَّةٌ".
سادساً: الرسائل في علمِ الكَلامِ:
87 -
"رسالةٌ في زِيادةِ الوجودِ".
88 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الوجودِ الذِّهنيِّ".
89 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ وجوبِ الواجبِ".
90 -
"رسالةٌ في ثُبوتِ الماهيَّاتِ".
91 -
"رسالةٌ في تحقيقِ مَقالِ القائلينَ بالحالِ".
92 -
"رسالةٌ في بيانِ معنى الجَعْلِ وتَحقيقِ أنَّ الماهيةَ مَجعولةٌ".
93 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ الأَيسِ واللَّيسِ".
94 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ أنَّ الممكنَ لا يكونُ أحدُ طرفَيهِ أَولى بهِ لذاتهِ".
95 -
"رسالةٌ في بيانِ قولهِ عليه السلام: الفَقرُ فَخْرِي - تحقيقِ أنّ التَّعلُّقَ بالغيرِ فيمَ؟ وأنّ الحاجةَ إليه بمَ؟ ".
96 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ لُزومِ الإِمكانِ للمُمكنِ".
97 -
"رسالةٌ في أنَّه هلْ يَستَنِدُ القديمُ المُمكِن إلى المُؤثِّر".
98 -
"رسالةٌ في تحقيق أنَّ الله تعالى قادرٌ مُختارٌ".
99 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ مُرادِ القائلينَ بأنَّ الواجبَ تعالى مُوجِبٌ بالذات".
100 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ تَقدُّمِ العِلّةِ التامّةِ على المَعْلولِ".
101 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ حَشْرِ الأَجسادِ".
102 -
"إشاراتٌ لطيفةٌ في عِلم الكلامِ".
103 -
"رسالةٌ في تَحقيقِ نَوْعَي الحصُولِ ما على سبيلِ التَّدْريجِ، وما لا على سبيلِ التَّدْريجِ".
104 -
"رسالةٌ في تحقيقِ حقيقةِ الجِسْم".
105 -
"رسالةُ الرُّوح - أو: رسالةٌ في بيانِ الهيكَلِ المَحْسُوس".
106 -
"رسالةٌ في بيانِ حقيقةِ النَّفسِ والرُّوح".
107 -
"رسالةٌ في بيانِ العَقْلِ الإنسانيِّ".
108 -
"رسالةٌ في حقيقةِ الزَّمانِ".
109 -
"شرح تجويد التجريد".
110 -
"حاشيةٌ على أَوائلِ الأُمورِ العامَّةِ مِن شرحِ المواقفِ".
111 -
"حاشية على أوائلِ الإلهيَّاتِ مِن شرحِ المَواقفِ".
112 -
"شرحُ تحسينِ تَهْذيبِ الكلامِ".
113 -
"رسالةٌ في آدابِ البحثِ".
114 -
"رسالةٌ أُخرى في آدابِ البحثِ"
(1)
.
ومن أهم كتبه الأخرى:
115 -
"حاشية على الكشاف".
116 -
"شرح الهداية" للمرغيناني
(2)
.
117 -
"الإصلاح والإيضاح" كتاب فِي الفِقه متن وشرح.
118 -
"تَغْيِير التَّنْقِيح" كتاب فِي الأصول متن وَشرح أيضاً.
119 -
كتاب في الْمعَاني متن وَشرح أيضاً.
120 -
كتاب فِي الْفَرَائِض متن وَشرح أيضاً.
121 -
"حواش على شرح المِفْتَاح" للسَّيِّد الشريف.
122 -
"حواش على التَّلْوِيح".
123 -
"حواش على التهافت" للمولى خواجه زَاده.
124 -
"حواش على أوائل تفسير البيضاوي".
ومن تصانيفه بالفارسية كتاب سماه:
125 -
"نكارستان"، على منوال كتاب "الكلستان".
(1)
كل ما تقدم منقول من مقدمة "مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا"، والتي أشرف عليها وقدم لها الأستاذ محمد خلوف العبد الله حفظه الله، وقد كان لي شرف تحقيق قسم منها بفضل الله تعالى.
(2)
تقوم دار اللباب على العمل عليه وتحقيقه ولعله يرى النور قريباً بإذن الله.
126 -
"دقائق الحقائق"، أبدع فيه إلى الغاية، حتى قيل: لو لم يكن له في هذا اللسان إلا هذا الكتاب لكفاه.
127 -
وصنف كتاباً بالتركية في تواريخ آل عثمان
(1)
. قال في "الشقائق": أبدع في إنشائه وأجاد.
وقال أيضاً: هذا ما شاع بين النَّاس، وأمَّا ما بقي في المسودة فأكثرُ ممَّا ذكر، وله يدٌ طولَى في الإنشاء والنَّظم بالفارسيَّةِ والتركية
…
وكلُّ تصانيفه مقبولةٌ بين النَّاس، وكان صاحبَ أخلاقٍ حميدةٍ حَسَنةٍ وأدبٍ تامٍّ وعقلٍ وافرٍ وتقريرٍ حسنٍ ملخص، وله تحريرٌ مقبول جدًّا لإيجازه مع وضوح دلالته على المُراد.
* * *
(1)
ذكرت هذه المصنفات في "الشقائق" و"الطبقات السنية".
صور المخطوطات
صورة غلاف النسخة الخطية من مكتبة فيض الله (الأولى)، والمرموز لها بـ (م)
صورة اللوحة الأولى من نسخة فيض الله (الأولى)، والمرموز لها بـ (م)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة فيض الله (الأولى)، والمرموز لها بـ (م)
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة فيض الله (الثانية)، والمرموز لها بـ (ف)
صورة اللوحة الأولى من نسخة فيض الله (الثانية)، والمرموز لها بـ (ف)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة فيض الله (الثانية)، والمرموز لها بـ (ف)
صورة اللوحة الأولى من نسخة كوبريلي، والمرموز لها بـ (ك)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة كوبريلي، والمرموز لها بـ (ك)
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة الحرم المكي، والمرموز لها بـ (ح)
صورة اللوحة الأولى من نسخة الحرم المكي، والمرموز لها بـ (ح)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة الحرم المكي، والمرموز لها بـ (ح)
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة دوغملوا باباس في السليمانية، والمرموز لها بـ (د)
صورة اللوحة الأولى من نسخة دوغملو باباس، والمرموز لها بـ (د)
صورة اللوحة قبل الأخيرة من نسخة دوغملو باباس، والمرموز لها بـ (د)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة دوغملو باباس، والمرموز لها بـ (د)
صورة اللوحة الأولى من نسخة مكتبة السليمانية، والمرموز لها بـ (س)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة مكتبة السليمانية، والمرموز لها بـ (س)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة يني جامع، والمرموز لها بـ (ي) - نهاية سورة الصافات
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة يني جامع، والمرموز لها بـ (ي) - نهاية السور القصار
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة عاطف أفندي، والمرموز لها بـ (ع)
صورة اللوحة الأخيرة من نسخة عاطف أفندي، والمرموز لها بـ (ع) - نهاية سورة الصافات
صورة اللوحة الأولى من نسخة بغدادي وهبي، والمرموز لها بـ (ب) - سورة تبارك
صورة اللوحة الأولى من نسخة بغدادي وهبي والمرموز لها بـ (ب) - سورة النبأ
صورة اللوحة الأولى من نسخة بغدادي وهبي والمرموز لها بـ (ب) - سورة النازعات
صورة اللوحة الأولى من نسخة بغدادي وهبي والمرموز لها بـ (ب) - سورة الطارق