الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورةُ النِّسَاءِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} خطابٌ عامّ يتناول الموجودين في زمان الخطاب ومَن بعدَهم
(1)
دون المنقرِضين.
{اتَّقُوا رَبَّكُمُ} في مخالفة أمره ونهيه.
{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدمَ عليه السلام، ترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لِمَا فيها من الدلالة على أن
(2)
قدرته تعالى على إهلاكهم وإنشاءِ خَلْقٍ آخَرين
(3)
على أسهل وجه، لا
(4)
لِمَا فيها من الدلالة على القدرة العظيمة، وإلا لكان خلقُ السماوات والأرض أحقَّ بالذِّكر.
وما في ذكر الربِّ من الإشارة إلى نعمة التربية الموجبةِ للطاعة لتضمين الترهيب معنى الترغيب.
(1)
في (م): "بعده".
(2)
"أن ": ليست في (م).
(3)
في (م): "آخر".
(4)
"لا": ليست في (م).
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حوَّاءَ، خلقها من ضِلَعٍ من أضلاع آدم عليه السلام.
بيانُ خَلْقهم من نفسٍ واحدة على وجه الاستئناف؛ كأنه قيل: إنهم خُلقوا من ذكرٍ وأنثى لا من ذكَرٍ وحده؟ فأُجيب بأن تلك الأنثى قد خُلقت منه، فالواو استئنافيةٌ لا عاطفة؛ لِمَا عرفتَ أن مدخولها مقرِّر ومبيِّنٌ لِمَا تقدم، والعاطف لا يَتخلَّل بين الشيء ومقرِّره.
وعلى تقدير العطف على محذوفٍ - أي: خلَقها وخلَق منها زوجها - يندفع المحذور
(1)
المذكورُ، إلا أنه لا دخل للمقدَّر في تقريرِ ما ذُكر، ومن شرائط البلاغة تجريدُ الكلام عمَّا لا يقتضيه المقام
(2)
.
{وَبَثَّ مِنْهُمَا} ؛ أي؛ نشر
(3)
من النَّفْسين المذكورَين من جهة التناسُل والتوالُد، أراد بيانَ كيفية توالُدهم ولذلك قال
(4)
:
{رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} دون: ذكوراً كثيراً وإناثاً، ومَن لم يتفطَّن لهذه الدقيقة الأنيقة قال في تفسيره: بناتٍ وبنينَ كثيرةً
(5)
.
وذكِّر {كَثِيرًا} حفلاً على معنى الجمع، وحُذف وصف النساء لدلالة وصفِ قرينِها
(6)
عليه.
(1)
" المحذور ": من (م).
(2)
في هامش (ح) و (ف) و (م): "رد لصاحب الكشاف ". زاد في (م): "والقاضي ".
(3)
في (ح): "نثر".
(4)
"أراد بيان كيفية توالدهم ولذلك قال" من (ك) و (م)، ووقعت في (ح) و (ف) قبل كلمة "الدقيقة" الآتية، وهو خطأ ظاهر.
(5)
في هامش (ح) و (ف): "رد للقاضي ". وفي هامش (م): "رد للبيضاوي ".
(6)
في (ح) و (ف): "قرينتها". وسقطت كلمة "وصف" من (ف)، وفي هامشها: "وأما ما قيل: إن=
وقُرئ: (وخالق
…
وباثٌّ)
(1)
على حذف مبتدأ، تقديره: وهو خالقٌ وباثٌّ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} ؛ أي: يسأل بعضكم بعضاً به، فيقول: أسألك بالله.
أو: تسألون غيرَكم، فجيء بـ (تَفَّاعَلُون)
(2)
موضع (تَفْعلون) للكثرة، وَيعضُده قراءة:(تَسْألون)
(3)
.
وأصله: تتساءلون، فأُدغمت التاء الثانية في السين، وقُرئ بطرحها
(4)
.
{وَالْأَرْحَامَ} بالنصب عطفٌ على محلِّ الجارِّ والمجرور، وينصره قراءة:(تَسْألون به وبالأرحام)
(5)
، أو على {اللَّهَ}؛ أي: اتَّقوا الله واتَّقوا الأرحام فصِلوها ولا تقطعوها.
وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرور
(6)
.
وما ذهب إليه البصريون من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجارِّ، والضعفِ في إضماره، يردُّه هذه القراءةُ الثابتة بالتواتر، فإنها مما
= الحكمة تقتضي أن يكون الرجال أكثر فوجهه غير ظاهر. منه".
(1)
تنسب لخالد الحذاء. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24).
(2)
في النسخ عدا (ف): "فجيء يتفاعلون "، والمثبت من (ف).
(3)
تنسب لابن مسعود والأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24).
(4)
أي: {تَسَاءَلُونَ} بتخفيف السين، وهي قراءة عاصم وحمزة والكسَائِي، وقرأ باقي السبعة بتشديد السين. انظر:"التيسير"(ص: 93). وانظر كذلك: "الكشاف"(1/ 462)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 58).
(5)
تنسب لابن مسعود والأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24).
(6)
وهي قراءة حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 93).
يُحتج به لا مما يُحتج عليه، إلا عند مَن لا اعتماد له على القراءات الثابتة ولا اعتداد لزعمه الفاسد
(1)
.
وقرئ: بالرفع على أنه مبتدأٌ محذوف الخبر
(2)
، تقديره: والأرحامُ كذلك؛ أي: مما يُتَّقَى، أو مما يُتساءل به.
وقد نبَّه تعالى إذ قَرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكانٍ منه
(3)
، وعنه عليه السلام:"الرحم معلَّقةٌ بالعرش تقول: ألَا مَن وَصَلني وَصَلَه اللهُ، ومَن قَطَعَني قَطَعَه الله"
(4)
.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} : حافظاً مطَّلعاً.
* * *
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} كما بلَغوا إنْ أُونس منهم الرُّشدُ، ولذلك أَمر بابتلائهم صغاراً، واليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه، مِن اليتم وهو الانفراد - ومنه: الدُّرَّة اليتيمة، إذا انفَردت في صَدَفها - إمَّا على أنه لمَّا جرى مجرى الأسماء كفارسٍ وصاحبٍ جُمع على يتائم ثم قُلب فقيل: يتامى، أو على أنه
(1)
يعرض بالزمخشري الذي ردها. انظر: "الكشاف"(1/ 462)، وقد تأثر كثيرون بكلام الزمخشري منهم البيضاوي فضعفها. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 58).
(2)
انظر: "المحتسب"(1/ 179).
(3)
"منه "ليست في (ح) و (ف).
(4)
رواه البخاري (5989)، ومسلم (2555)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
جُمع على يَتْمَى كأسرى لأنَّه من باب الآفات، ثم جُمع
(1)
يَتْمَى على يتامى؛ كأسرى وأَسارى.
وحقُّ هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار؛ لبقاء معنى الانفراد عن الآباء
(2)
، إلا أنه قد غلب أن يسمَّوا به قبل أن يبلغوا مبلَغَ الرجال، فإذا بلغوه زال عنهم هذا الاسم، وعلى وفق هذا ورد عُرفُ الشرع
(3)
، قال عليه السلام
(4)
: "لا يُتْمَ بعد الحُلُمِ"
(5)
، أي: لا يجري عليه أحكام اليتيم ولا يحتاج إلى الولي، والمراد في الآية البالغُ على الاتِّساع؛ لقُرب عهدهم بالصغر
(6)
، حثاً على أن تُدفع إليهم أموالهم أولَ بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم
(7)
.
روي: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخٍ له يتيمٍ، فلما بلغ طلب المال منه فمنعه، فنزلت فلمَّا سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله، نعوذ بالله من الحوبِ الكبير
(8)
.
(1)
"جمع": من (ك) و (م).
(2)
وقع بين كلمة "عن " وكلمة "الآباء" في (ح) و (ف): "اعتبار الأخذ والإعطاء من الولي بالنظر إلى حال نفسه، ومراد القائل اعتباره بالنظر إلى حال اليتيم فدائرة الرد على الفهم لا على المفهوم "، وما بين معكوفتين كلمة لم تجود.
(3)
في (م): "ورد عرف اسم الشرع "، وفي (ك):"ورد الشرع ".
(4)
في (م) و (ك): "قال النبي صلى الله عليه وسلم ".
(5)
رواه أبو داود (2873) من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً، وعبد الرزاق في "المصنف" (11451) عن علي موقوفًا عليه. والمرفوع كما قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/ 101): أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذري وغيرهم، وحسنه النووي متمسكاً بسكوت أبي داود.
(6)
في (ح) و (ف): "بالصلاة"، وهو تحريف.
(7)
في هامش (ف): "وما زاد على هذا في عبارة الكشاف فغير معتبر في زواله. منه ".
(8)
انظر: "الكشاف"(1/ 464)، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 142) عن مقاتل والكلبي.
{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ؛ أي: لا تستبدلوا
(1)
الحرام وهو مالُ اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب
(2)
، والتفعُّل بمعنى الاستفعال كثير.
أو
(3)
: ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم، وتُعطوا الخسيس مكانه.
ورُدَّ بأنه تبديل لا تبدُّلٌ، فإن في التبدُّل وكذا في الاستبدال ما دخلتْه الباء متروكٌ، وما تعدَّى إليه الفعل بنفسه مأخوذ، وفي التبديل بالعكس.
ومبناه على اعتبار الأخذِ والإعطاء من الوليِّ بالنظر إلى حالِ نفسه، ومرادُ القائل اعتباره بالنظر إلى حال اليتيم، فدائرة الردِّ على الفهم لا على المفهوم.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ؛ أي: لا تضمُّوها إلى أموالكم في الأكل
(4)
، فدلَّ
(5)
قوله: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} على أن المخاطبين أغنياءُ، وذلك لأنَّه إذا كان فقيراً يجوز أن يأكل بالمعروف، وفيه تعريضٌ بأنهم كانوا يفعلون كذلك.
وفائدةُ التقييد بالمعيَّة: الدلالةُ على غاية قبح فعلهم، حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها ولم يميزوا بينها وبينها، كما هو حال البهائم، وقُصد بذلك تشهيرُ ما كانوا عليه من ارتكاب هذه الأمور القبيحة
(6)
؛ ليكون أزجرِ لهم
(7)
،
(1)
في (ك): "تتبدلوا".
(2)
قوله: "الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب" من (م) و (ك).
(3)
في (ك): " قيل ". وتحرفت في (م) إلى: (قليل).
(4)
في هامش (ف): "وسائر وجوه الإنفاق تحال على الدلالة، فلا ضرورة لحمل الأكل على الإنفاق مجازاً. منه".
(5)
في (م): " ودل ".
(6)
من قوله: "وفائدة التقييد .. " إلى هنا ليس في (م) و (ك).
(7)
في هامش (ف): "وأما زيادة القبح فيه مع قطع النظر عن التعريض المذكور فلا يصلح ومنها=
ولهذا عُدل عن مقتضَى الظاهر، وهو نهيُ الغنيِّ عن أكل مال اليتيم مطلَقاً.
{إِنَّهُ} الضمير للأكل.
{كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} : ذنباً عظيماً، والحوب: مطلَقُ الإثم، قال عليه السلام:"ربَّ تَقبَّلْ توبَتي واغْسِلْ حَوْبَتي"
(1)
؛ أي: إثمي، ولو اعتُبر فيه العِظَمُ لَمَا وُصف بالكبير
(2)
، فتدبر.
وقرئ: (حَوباً) وهو مصدر حابَ
(3)
، وكذا:(حاباً)، وقد قُرئ به أيضاً؛ كقال قولاً وقالا
(4)
.
* * *
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ؛ أي: إنْ خفتُم أنْ لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوَّجتُم بهن.
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فتزوَّجوا ما حلَّ لكم من غيرهن.
كان الرجل يجدُ اليتيمة لها مالٌ وجمالٌ، أو يكون
(5)
وليَّها، فيتزوَّجها ضِنًّا بها
= للعدول عن مقتضى الظاهر فإن القبح في أكل الغنى مال اليتيم وجوه أريد واعتبار غنائه لا يقتضي التغيير بالوجه المذكور. منه ".
(1)
رواه الترمذي (3551) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: حسن صحيح.
(2)
في (م) و (ك): "بالكبر".
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24)، و"الكشاف"(1/ 466).
(4)
انظر: "الكشاف"(1/ 466).
(5)
في النسخ عدا (م): "ويكون "، والمثبت من (م) وهو الموافق لما في "الكشاف"(1/ 467)،=
عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشرٌ منهن، فيُخاف لضعفهن وفَقْدِ مَن يغضب لهن أن يَظلمهن حقوقهنَّ ويفرِّط فيما يجب لهن، فقيل لهم:[إن خفتُم أن لا تُقسطوا في يتامى النساء فانكحوا مِن غيرهنَّ ما طاب لكم].
وإنما عبِّر عنهنَّ بـ {مَا} ذهاباً إلى الصفة.
وقرئ: (تَقْسِطوا) بفتح التاء
(1)
على أن (لا) مزيدةٌ مثلَها في: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29]؛ أي: إن خفتُم أن تَجُوروا.
{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} منصوبةٌ على الحال من فاعل {طَابَ} ، معدولةٌ عن أعدادٍ مكرَّرة: ثنتين ثثتين وثلاثةً ثلاثةً وأربعةً أربعةً، غيرُ منصرفةٍ لوجود العدل والوصفِ، فإنها بُنيتْ صفاتٍ وإن كانت أصولها لم تُبْنَ لها
(2)
.
ومعناها: الإذن في الجمع بأن ينكح ما شاء من العدد المذكور متَّفقينَ فيه ومختلفينَ
(3)
؛ كقولك: اقتسموا هذه البذرة درهمين درهمين وثلاثةً ثلاثةً، ولو أفرد كان المعنى تجويزَ الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع، ولو عطف ب (أو) لذهب تجويز الاختلاف في العدد.
= والكلام وما سيأتي بين معكوفتين منه.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24)، و"الكشاف"(1/ 466).
(2)
في هامش (ح) و (ف): "هذا هو الوجه المطابق لما نزل، والذي ذكره القاضي لا يطابقه كالاسم، وأما الوجهان الآخران المذكوران في الكشاف وتفسير القاضي فلا يخفى بعدهما. منه".
(3)
في (ح) و (ف): "مختلفين "، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" (2/ 59). وعبارة الزمخشري في "الكشاف" (1/ 468) أكثر تفصيلاً حيث قال:(وتحريره: أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون مَن أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك).
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} فيما فوقه.
{فَوَاحِدَةً} : فالزموا - أو: فاختاروا - واحدة وذرُوا الجمع، وقرئ بالرفع
(1)
على أنه فاعلُ فعلٍ محذوف أو خبره
(2)
، تقديره: فتكفيكم واحدةٌ، أو فالمَقْنَعُ واحدةٌ.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} سوَّى بين المنكوحة الواحدة وبين الإماء مطلقاً واحدةً كانت أو متعدِّدةً بلا حصرٍ ولا تعيينِ عددٍ في التسرِّي والترخُّص، لخفَّةِ مؤنتهن، وعدمِ شرطِ العدلِ بينهنَّ لا في القَسْم ولا في العزل، ونسبة هذا المِلك إلى اليمين للفرق والتفاوُت بينه وبين مِلك اليد.
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي.
{أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أقربُ من أنْ لا تميلوا فتَجُوروا، يقال: عال الميزان، إذا مال، وعال الحاكم: إذا جار.
وفسِّر بـ: أن لا تَكثُر عيالُكم، على أنه من عال الرجلُ عيالَه يَعُولهم: إذا مانهم، فعبّر عن كثرة العيال بكثرةِ المؤن على الكناية، ويؤيِّده قراءة:(أنْ لا تُعيلوا)
(3)
مِن أعال الرجل: إذا كثر عيالُه، ووجهُه على تقدير أن تكون الإشارةُ إلى التسرِّي: أن العزل يجوز، فهو مَئِنَّةُ قلَّة الولد.
* * *
(1)
هي قراءة أبي جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 247).
(2)
قوله: "فاعل فعل محذوف أو خبره"، كذا في النسخ، وصوابه:(فاعل محذوف أو خبره) بإسقاط كلمة (فعل) ليستقيم المعنى، وكذا جاءت العبارة على الصواب في "تفسير البيضاوي" (2/ 59). ولو قال:(فاعل فعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف) لاستقام المعنى أيضاً.
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24)، و"الكشاف"(1/ 469).
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} مهورَهنَّ، والخطابُ للأزواج، وقيل: للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون مهور مَوْليَّاتهم
(1)
.
{نِحْلَةً} عطية، يقال: نَحله كذا نِحْلةً ونُحْلاً: إذا أعطاه إياه عن طِيبِ نفسٍ بلا توقُّعِ عِوَضٍ، ونصبُها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء.
وقيل: معناه: نحلةً من الله؛ أي: إعطاءً
(2)
من عنده وتفضُّلاً منه عليهن.
وقيل: ديانة، على أنه مفعولٌ له أو حالٌ من الصدقات؛ أي: دِيناً من الله مشروعاً مفروضاً.
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} الضمير في {مِنْهُ} جارٍ مجرى اسم الإشارة في التذكير على ما ذكره رؤبة، وقد سبق في تفسير سورة البقرة
(3)
، كأنه قيل: عن شيء من ذلك؛ أي: ما ذكر من الصَّدُقات.
(1)
بفتح الميم وتشديد الياء؛ أي: من كن في ولايتهم. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 102).
(2)
في (م) و (ك): "عطاء".
(3)
انظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، وقد جرت في هذا قصة بين أبي عبيدة ورؤبة. انظر:"مجاز القرآن"(1/ 44)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 60)، وفيه: الضمير للصداق حملاً على المعنى، أو مُجرًى مجرَى اسم الإِشارة كقول رؤبة:
كأَنَّه في الجلْد تَوْليْعُ البَهَق
إذ سئل فقال: أردت: كأن ذاك. وجاء في هامش (ح) و (ف): "وإنما جعل الحجة ما ذكره رؤبة لا نفس السبب لاحتمال أن يكون تذكير الضمير باعتبار الخبر، فالقاضي لم يصب في الاحتجاج بنفس البيت. منه".
أو يرجع إلى ما دلَّ عليه الصَّدُقات من الصَّداق.
و {نَفْسًا} تمييز
(1)
لبيان الجنس، ولذلك وُحِّد.
والمعنى: فإن أعطين لكم من الصداق عن طيبِ نفسٍ، لكنْ جَعَل العِدةَ طِيبَ النفس للمبالغة، وعدَّاه ب (عن) لتضمين معنى التجافي والتجاوُز.
وفيه دليل على وجوب الاحتياط في ذلك، وضِيقِ المسلَك في قبول شيءٍ من الصَّداق منهن؛ لأنَّه بنَى الشرطَ على طِيب النفس الذي هو أمرٌ خفيٌّ يطرق بها أنْ تدَّعيَ أنها ما طابت نفساً إن ندمَتْ، ولهذا لم يقل: فإن وهبت، أو: سمحت؛ إشعاراً بأن الشرط تجافي نفسها عن الموهوب من طيبةٍ لا من ضرورة، ثم قال:{عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} بعثاً لها على تقليل الموهوب.
{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أما صفتان للمصدر؛ أي: أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حالان من ضمير (كلوه)؛ أي: كلُوه في حالة كونه هنيئاً مريئاً
(2)
.
والهنيء: ما يَلَذُّه الآكل، والمريء: ما يحمد عاقبته، وقد سبق ما في الأكل من الدلالة على سائر وجوه الإنفاق.
رُوي أن ناساً [كانوا]
(3)
يتأثَّمون أن يَقبل أحدهم من زوجته شيئاً مما ساق إليها، فنزلت.
* * *
(1)
في (م): "ونفساً تفسير تمييز".
(2)
من قوله: "إما صفتان للمصدر
…
" إلى هنا من (م) و (ك).
(3)
من "الكشاف"(1/ 471)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 60).
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الخطاب للأولياء بدلالة السباق واللحاق - {السُّفَهَاءَ} : هم الذين ينفقون أموالهم فيما لا ينبغي من وجوه التبذير، ولا يمكنهم
(1)
إصلاحُها بالتثمير، والتصرُّفُ فيها بالتدبير
(2)
- وإضافةُ الأموال إليهم لأنها في تصرُّفهم وتحت ولايتهم.
أو لأنَّه لم يُقصد بها
(3)
الخصوصيةُ الشخصية، بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاش وتميل إليه القلوب، وهي بهذا المعنى لا تختصُّ باليتامى كما قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] قصداً إلى جنس التقوِّي
(4)
، وهذا
(5)
أوفق لقوله:
{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ؛ أي: تقومون بها وتنتعشون.
وعلى الأول يؤوَّل بأنها التي من جنس ما جعَل الله لكم قياماً، سمي ما به القيام قياماً للمبالغة.
(1)
في (م) و (ك): "يمكن ".
(2)
في (م) و (ك): "بالتبذير"، ولعله تحريف.
(3)
"بها"من (م).
(4)
يعني: أن المراد بالمال جنسه مما به تعيش الناس، فنسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة، وإنما المخصوص بواحد دون واحد شخص المال، فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك، والدليل على ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال، كما أنّ المراد بالنفس في الآية جنسُها مما يقال له: نفس، فإنَّ الشخص لا يقتل نفسه بل غيره. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 105).
(5)
في (م) و (ك): "وهو".
وقرئ: {قِيَامًا}
(1)
بمعناه كعِوَذٍ بمعنى عِيَاذ.
وقرئ: (قِوَاماً)
(2)
وهو ما يُقام به.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} الظرف متعلِّق بالمعطوفَين كما في قوله تعالى: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ} [الأنعام: 158]، وإنما قال:{فِيهَا} ولم يقل: منها؛ تنبيهاً على ما قال عليه السلام: "ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلُها الزكاةُ"
(3)
فعلى هذا يكون الرزق والكسوة من الأرباح لا من أصل المال فيأكلَه الإنفاق.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : كلاماً يُؤْنسهم ويؤلِّفُ قلوبهم، ومنه عِدَةٌ جميلةٌ وكلُّ ما سكنت إليه النفسُ واستحسنَتْه لحسنه عقلاً أو شرعاً أو عرفاً فهو معروفٌ، وكلُّ ما نَفَرتْ عنه
(4)
وكرهتْه فهو منكَر.
* * *
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} : واختبِروا عقولهم بتصرُّفاتهم قبل البلوغ.
(1)
هي قراءة نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 94).
(2)
تنسب لابن عمر رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 24)، و"الكشاف"(1/ 471).
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 251)، وعبد الرزاق في "المصنف"(6990)، عن عمر رضي الله عنه قوله. ورواه الطبراني في "الأوسط"(4152) من حديث أنس رضي الله عنه، ونقل الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 57) عن شيخه أن إسناده صحيح.
(4)
في (م) و (ك): "منه ".
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} بلوغُ النكاح كنايةٌ عن البلوغ؛ لأنَّه يصلُح النكاح عنده.
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}
(1)
: فإن تبينتم منهم رشداً؛ أي: اهتداء إلى مصالحهم.
و قرئ: (أَحَسْتُم) بمعنى: أحسستم
(2)
.
{فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} من غير تأخيرٍ عن وقت البلوغ.
وتنكيرُ الرشد معناه: نوعاً من الرشد، وهو الرشد في التصرُّف والتجارة، أو: طرفاً من الرشد حتى لا يُنتظرُ إلى تمامه.
ونظم الآية: (إنْ) الشرطيةُ جواب (إذا) المتضمنةِ معنى الشرط، والجملة غايةُ الابتلاء، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقِهم دفعَ أموالهم إليهم بشرطِ إيناسِ الرُّشد منهم.
ويجوز أن تكون (إذا) لمجرَّد الظرفية ليست متضمِّنةً لمعنى الشرط؛ أي: ابتلُوهم إلى وقت البلوغ.
وفي الآية دلالة على أن لا يُدفع إليهم مالهم قبل البلوغ
(3)
، وأمَّا عدمُ دفعه إليهم بعد البلوغ قبل الإيناس فلا دلالة عليه: أمَّا منطوقاً فظاهر، وأمَّا مفهوماً فلأنَّ مفهوم قوله:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} عدمُ الدفع على الفور، لا عدمُ الدفع مطلقاً
(4)
.
(1)
في (م) زيادة: "الإيناس الإبصار بالحس".
(2)
تنسب لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 257)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 61).
(3)
"وفي الآية دلالة على أن لا يدفع إليهم مالهم قبل البلوغ" من (ك) و (م).
(4)
في هامش (ح) و (ف): "فلا ينافي قول أبي حنيفة في هذه المسألة بل يؤيده، يعني: على تقدير تسليم حجية المفهوم. منه".
{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} ؛ أي: مجاوزةً عن الحد.
{وَبِدَارًا} ؛ أي: مبادَرةً، وهي المسارعة.
{أَنْ يَكْبَرُوا} : أن يَبلغوا؛ أي: لا تأكلوا مسرفينَ ومبادرينَ، وهو كقولك: بادرتُ مجيءَ زيد؛ أي: فعلتُ قبل مجيئه، والمعنى: لا تأكلوا
(1)
قبل بلوغهم واستردادِهم ما لهم منكم، وليس هذا قصرَ التحريم على الإسراف وعلى مبادرةِ البلوغ دون غيرهما، بل هو ذكرُ غالبِ الحال؛ كما في قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33].
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} في تقييد
(2)
النهي بالإسراف والبِدار إيماءٌ إلى أن للأوصياء حقًّا، فقُسم الأمر بين أن يكون الوصيُّ غنيًّا وبين أن يكون فقيرًا، فاُمر
(3)
الغنيُّ بالاستعفاف من أكل مال اليتيم إلى ماله، وتركِ الطمع في مال اليتيم، والاقتناعِ بما رزقه الله تعالى من ماله؛ إشفاقًا على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقيرُ بالأكل بالمعروف؛ أي: بأكله قُوتًا مقدَّرًا محتاطًا في تقديره على وجه الأجرة لقيامه عليه بحفظه وتثميره، وعلى اليتيم بتسديده وتدبيره.
وفي الاستعفاف مبالغةٌ، كأنه مأمور بطلب زيادة العفَّة، ولو قال: فليَعْفِفْ، لم يكن فيه ذلك.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} بأنهم تسلَّموها وقبضوها وبَرِئتْ عنها
(1)
في (ح) و (ك) و (م): "تأكلون"، والمثبت من (ك).
(2)
تحرفت في النسخ عدا (م) إلى: "تغيير"، والمثبت من (م).
(3)
في (م): "إذ أمر".
ذممُكم؛ لئلا يَتوجَّه اليمينُ عليكم عند التناكُر، ولتظهر أمانتكم وتَبرَأَ ساحتُكم عن التهمة، فالأمر بالإشهاد
(1)
هنا كالأمر به في قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، فلا دلالة فيه على أن القيِّم لا يصدَّق في دعواه إلا بالبيِّنة.
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} : كافيًا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو: محاسبًا يحاسبُكم
(2)
بالبراءة وعدمها والقبضِ وعدمه، فعليكم بالتصادُق وإياكم والتكاذُبَ.
* * *
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} يريد بهم المتوارتينَ بالقُرابة
(3)
، قيل: كان اليونانُ يعطون جميعَ المال للبنات؛ لأنَّ الرجل لا يعجز عن الكسب والمرأةَ تعجز، وكانت العرب لا يعطون البنات، فردَّ الله تعالى على الفريقين، فكان المقام مقامَ التفصيل والإطناب.
وفي عبارة (الرجال) إشارة إلى أن قدرتهم على الكسب غيرُ مانعٍ لاستحقاقهم، فإذا كان الرجل مع قدرته على الكسب مستحِقًّا للنصيب، فالصبيُّ مع عجزه عنه يكون مستحِقًّا له بطريق الأَولى.
{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدل من (ما ترك) بإعادة العامل.
(1)
في (ك): "بالشهادة".
(2)
"محاسبًا" ليست في (ك).
(3)
"بالقرابة" من (م).
وتقديمُ الظرف على المبتدأ في (الرجال) و (النساء) تخصيصٌ لكلِّ واحدة
(1)
من القبيلتين بنصيبٍ مفروضٍ على ما فَرض الله مُؤذِنٌ بأنْ لا بد لكلٍّ منهم ما خصَّه الله به لا يستأثرُ به غيرهم ولا يغلبه عليه، ثم أكَّده بقوله:
{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} نصبٌ على الاختصاص؛ أي: أعني نصيبًا مقطوعًا واجبًا، أو على أنه مصدر مؤكِّد كقوله:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11]، كأنه قيل: قسمةً مفروضةً، أو حال إذ المعنى: ثبت لهم مفروضًا نصيب.
وإنما ذُكِر النصيب على الإبهام لأن التعيين خارج عما سِيق له الكلام في هذا المقام، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ؛ أي: قسمة التركة.
{أُولُو الْقُرْبَى} ممن لا يرث {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} من الأجانب.
فرَّق بين مَن لا يرث من الأقارب وبين مَن يرث بقوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} حيث لم يعيِّن لهم نصيبًا، وندب إلى أن يُرضخوا بقليلٍ منه إيماءً إلى أنْ لا حق لهم فيه، ألا ترى كيف جعل أموال اليتامى للسفهاء مكان رزقهم حيث قال:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} لأنها حقُّهم؟
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} وهو أن يدْعوا لهم، ويَستقلُّوا ما أعطَوهم، ولا يمنُّوا
(1)
في "ك": "واحد".
عليهم، والأمرُ للندب، والمأمور البالغ من
(1)
الورثة، قالوا: ولو كان فريضةً لضُرب له حدٌّ ولو إجمالًا، كالمتعة حيث قال:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} أَمر الأوصياء بالخشية متمثِّلين
(2)
في أنفسهم حالَ اليتامى بحالِ أولادهم على الصفة المذكورة ليخشَوا الله في رعايتهم أو أكلِ مالهم، أو متمثِّلين
(3)
المتوفَّى وأبنائه بحالهم وذرياتُهم خَلْفَهم على تلك الصفة، فيَرِقُّوا لهم، وهذا الوجهُ هو الأنسبُ الأَلْيَقُ بنَظْم الكلام من بينِ الوجوه المذكورة في التفاسير، فيكونُ قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} تتمةً له، وتصريحًا بحال الأوصياء لو خالفوا مقتضَى الشفقة وأكلوا مال اليتيم، وتهديدًا لهم على ذلك.
و {الَّذِينَ لَوْ} بما في حيِّزه صلةٌ لـ {الَّذِينَ} ، أي: وليخشَ الذين
(4)
حالُهم وصفتُهم أنهم لو شارفوا لأنْ يتركوا خلفَهم ذريةً ضعافًا خافوا عليهم الضَّياعَ لفَقْدِ كافلِهم وكاسبِهم، وفي ترتيب الأمر عليه إشارةٌ إلى المقصود منه والعلَّةِ فيه، وبعثٌ على الترحُّم وأن يُحِبَّ لأولاد غيره ما يحبُّ لأولاده.
(1)
في (ك) و (م): "البلغ عن".
(2)
في (ف): "ممتثلين".
(3)
في (ح) و (ف): "ممثلين"، وفي (م):"ممتثلين".
(4)
في (م) و (ك): "وليخشوا الذين".
{فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}
(1)
أَمَرَهم بالتقوى الذي هو غاية الخشية بعد ما أَمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهَى إذ لا ينفع الأول بدون الثاني، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} : ظالمين، أو: على وجه الظلم.
{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ملءَ بطونهم.
{نَارًا} تهويلٌ في الردع، ومبالغة في التهديد، بجعلِ بطونهم ظروفًا مملوءةً نارًا، ولمَّا أراد أن يصوِّر سرعة جَرِّ
(2)
ما يأكلون أنفسَهم إلى النار جَعَلهم يأكلون النار كأنه نارٌ بالحقيقة، ونكَّرها؛ أي: نارًا
(3)
تتعاظَمُ عن الوصف، وقوَّاهُ بتنكير {سَعِيرًا} في قوله:
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ؛ أي: سعيرًا لا
(4)
يُحتمل سماعُ وصفه، فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، من: سَعَرتُ النار، بمعنى: ألهَبْتُها، وقرئ:(سيُصلون) بضم الياء وتخفيف اللام
(5)
.......................
(1)
بعدها في (م): "أي".
(2)
في (ك): "حر".
(3)
في (م) و (ك): "نار".
(4)
سقطت كلمة "لا" من (ح) و (ف).
(5)
هي قراءة ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، وقرأ باقي السبعة:{وَسَيَصْلَوْنَ} بفتح الياء. انظر: "التيسير"(ص: 94).
وتشديدها
(1)
، تقول: صَلِيَ
(2)
النار: قاسَى حرَّها، وصَلَيْتُه: شَوَيْتُه، وأَصْلَيْتُه وصَلَّيْتُه: ألقَيْتُه فيها.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} : يأمرُكم وَيعْهَدُ إليكم.
{فِي أَوْلَادِكُمْ} : في شأن ميراثهم، وهو إجمالٌ تفصيلُه:
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} التعريف في الموضعَين للعهد، والمعهود: الذَّكر والأنثَيان من الأولاد، ولا
(3)
حاجة إلى تقدير: منهم.
وتخصيصُ الذَّكَرِ بالتنصيص على حظِّه لفضله على الأنثى، وإنما لم يقل: للذَّكَر مِثْلَا حظِّ الأنثى، أو: مِثْلَ حظَّي الأنثى؛ لأنَّه حينئذ لا يُعلم عدم نقصان حصة الابن عند تعدُّد البنت، فإنها إذا تعدَّدتْ ينتقصُ حصة سائر العصبات، فيجوِّز العقلُ أن تَنقص حصتُه أيضًا إذا تعدَّدت
(4)
.
(1)
أي: (وسيُصَلَّون)، وعزاها ابن خالويه في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 24) لأبي حيوة.
(2)
في النسخ عدا (م): "يصلى"، والمثبت من (م).
(3)
في (م): "فلا".
(4)
في هامش (ح) و (ت): "وأما ما قيل: ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث، وهو سبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع=
وأمَّا العكسُ فغير محتمَلٍ، فبعبارة المنزَل عُلم حدُّ حصةِ الابن مع البنتين
(1)
، وبدلالته عُلم حصتُه مع الواحدة.
وأدنى الاختلاطِ: أن يجتمع ابنٌ وبنتٌ، وللابن حينئذ الثلثان، فعُرف بهذه الإشارة أن للبنتين الثلثين
(2)
في الجملة، وليس ذلك إلا في حالة انفرادهما عن الأب، ولمَّا كان حكم الاثنتين
(3)
حالةَ الانفراد معلومًا بهذه الإشارة رتَّب عليه بيانَ حكمها إذا كانت فوق اثنتين بقوله:
{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} {كُنَّ} ضميرُ الأولاد طابَق به الخبر
(4)
؛ كما في قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78]
(5)
، أو على تأويل المولودات؛ أي إن كانت الأولاد نساءً خلصًا ليس معهنَّ رجل.
{فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} خبر ثانٍ لـ (كان)، أو صفة للنساء؛ أي: زائدات على اثنتين.
{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} المتوفَّى منكم، يدلُّ عليه المعنى.
{وَإِنْ كَانَتْ} ؛ أي: المولودة {وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وقرئ: {واحدةٌ}
= إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به= فلا يصلح وجهًا لترجيح المنزل على المتروك وهو: للأنثيين مثل حظ الذكر، ونحوه. منه".
(1)
في (ك): "البنت".
(2)
في (ح) و (ف): "الثلثان".
(3)
في (ح) و (ف): "الاثنين".
(4)
في (م): "ضمير للأولاد طابق الخبر".
(5)
وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)} [الأنعام: 78].
بالرفع على أن (كان) تامةٌ
(1)
، والنصبُ أوفق لقوله:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} .
ولا يجوز أن يكون الضميران في {كُنَّ} و {كَانَتْ} مبهَمَين مفسَّرَينِ بـ {نِسَاءً} و {وَاحِدَةً} منصوبَين على التفسير على أنَّ (كان) تامةٌ؛ لأن (كان) ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرًا
(2)
يفسره ما بعده، بل هذا مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما.
اختلف في الثنتين، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: حكمُهما حكمُ الواحدة؛ لأنَّه تعالى جعل الثلثين لمَا فوقهما
(3)
.
وقال الباقون: حكمُهما حكمُ ما فوقَهما؛ لِمَا قرَّرناه فيما سبق، وقولُه تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لبيانِ أنَّ كثرة عددِهن لا يزيد على ما لهنَّ عند التعدُّد والانفراد عن الذكور، فشرطُ المفهوم مفقودٌ، على أنه لا يعارض المنطوقَ، والوجهُ الذي قدَّمنا
(4)
من قَبيل المنطوق.
وأمَّا ما قيل: إنَّ البنتين أمسُّ رَحمًا من الأختين اللتين تُحرزان الثُّلثين، فهما أولى بذلك الإحراز.
فيَرِدُ عليه: أن الابن مع كونه أمسَّ رحمًا من ابن الأخ قد لا يحرِز ما يُحرزه، كما
(1)
هي قراءة نافع، وقرأ باقي السبعة بالنصب. انظر:"التيسير"(ص: 94).
(2)
في (ح) و (ف): "ضميرًا".
(3)
ذكره ابن عبد البر في "التمهيد"(5/ 323) وقال: هذه الرِّوَايَةُ مُنْكَرَةٌ عندَ أهلِ العلمِ قاطِبَةً، كُلُّهُم ينكرها ويدفعها بما رواه ابن شِهَابٍ عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بن عتبة بن مسعود عن ابن عبَّاس أَنَّهُ جَعَلَ للبنتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وعلى هذا جماعةُ النَّاسِ، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أخبارِ الآحادِ العُدُولِ مِثْلُ ما عليه الجماعَةُ في ذلك.
(4)
في (م) و (ك): "قدمناه".
إذا كانت البنت فوق الأربع، وإذا جاز ذلك في
(1)
العصبة - والمعتبر فيه قوةُ القرابة - فلَأنْ يجوزَ فيمَن لا يُعتبر فيه تلك القوةُ من أصحاب الفرائض بطريقِ الأَولى.
وكذا ما قيل: إن الأخت إذا كانت مع أخيها وجب لها الثلثُ، فبالأَولى أن يجبَ لها ذلك إذا كانت مع أختٍ أخرى مثلِها - غيرُ تامٍّ؛ لأن مَبْناه أيضًا على أن مَن أخذ سهمًا مع وارثٍ يأخذ ذلك السهم مع وارثٍ
(2)
آخَرَ دونه بطريقِ الأَولى، وقد عرفتَ عدمَ
(3)
صحة ذلك المبنَى.
{وَلِأَبَوَيْهِ} ؛ أي
(4)
: ولأبوي الميت.
{لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} بدلٌ منه بتكرير العامل، وفائدتُه: التنصيص على استحقاق كلِّ واحدٍ منهما السُّدسَ، والتفصيل بعد الإجمال للتأكيد.
{السُّدُسُ} مبتدأٌ {وَلِأَبَوَيْهِ} خبرُه، والبدل متوسِّطٌ بينهما للبيان.
{مِمَّا تَرَكَ} ؛ أي: من جُملته.
{إِنْ كَانَ لَهُ} ؛ أي: للميت.
{وَلَدٌ} ذكرٌ أو أنثى، وولدُ الابن وإنْ سَفلَ يقومُ مَقام الصُّلبيِّ
(5)
عند عدمه للإجماع، غير أن الأبَ يأخذ مع الأنثى ما بقي من الفروض بالعُصوبة بعد أخذه فرضَه.
(1)
في (ف): "من".
(2)
"يأخذ ذلك السهم مع وارث" ليست في (ح) و (ف).
(3)
"عدم" ليست في (ك).
(4)
"أي": ليست في (م) و (ك).
(5)
في (ح) و (ف): "الصلب"، وفي (ك):"الصبي".
{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}
(1)
فحسبُ.
{فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} مما ترك.
لم يذكر حصَّةَ الأب؛ لأنَّه لمَّا فُرِض أن الوارث أبواه فقط، وعُيِّن نصيب الأم، عُلم أن الباقيَ للأب، ولم يعكس مع كونه أحقَّ ببيان نصيبه أصالةً لفضله؛ لأنَّه يَلزم حينئذٍ أن يكون هو صاحبَ فرض وصاحبتُه عصبة، وهو خلاف وضع الشرع
(2)
.
ومعنى القيد: أنه إذا ورث مع أبويه أحدُ الزوجين لم يكن لها الثلثُ مما ترك، بل ثلثُ ما بقي بعد فرضه كما هو مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى: أن الأبوين إذا انفردا بالإرث تقاسَما الميراث للذَّكَر مثلُ حظ الأنثيين
(3)
، ولذلك لزم أنهما إذا كانا مع أحد الزوجين كان لها ثلثُ ما بقي، وإلا انقلب الفاضل مفضولًا فيما إذا كانا
(4)
مع الزوج؛ لأن فرضه النصف، فلو فُرض لها الثلثُ بقي للأب السدسُ مع كونه أقوى، وكونهِ ذا فرض وتعصيب.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ} ؛ أي: للميت، والفاءُ هنا أيضًا لترتيب أحد القسمين على الآخر.
{إِخْوَةٌ}
(5)
المراد منها ما يعمُّ الأخوات على طريقة عموم المجاز، لا على طريقة التغليب؛ إذ حينئذ لا يتناول الأخوات المنفردةَ، وهذا التعميمُ لا بد
(1)
في هامش (ح) و (ت): "الفاء لترتيب أحد القسمين على الآخر. منه".
(2)
من قوله: "لم يذكر حصة الأب لأنَّه لما فرض
…
" إلى هنا، وقع في (ح) و (ف) بعد ما سيأتي من قوله: "وكونه ذا فرض وتعصيب"، لكن فيهما: "
…
أن يكون هو صاحب فرض وهي صاحبة عصبة وهو خلاف
…
".
(3)
في هامش (ح) و (ف): "على وفق قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. منه".
(4)
في (م): "كان".
(5)
بعدها في (م): "فلأمه السدس".
منه عند الجمهور خلافًا لابن عباس، ومن صيغة الجمع ما يتناولُ المثنَّى، وفيه خلافٌ لابن عباس
(1)
.
وإطلاقُ الإخوة يدلُّ على أنهم يردُّونها من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون كما إذا كانوا مع الأب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم يأخذون السدس الذين حجَبوا عنه الأم، فالجمهور على أن الاثنين من الإخوة أو من الأخوات أو منهما سواءٌ كانا من الأعيان أو من العَلَّات أو من الأَخياف، متَّفقَينِ أو مختلفَين، محجوبَينِ أو غير محجوبَين يردُّونها من الثلث إلى السدس.
(1)
اختلفوا في حَجْبِ الأُمِّ بالأَخَوينِ في قولهِ تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فذهَبَ جُمهورُ العُلماءِ إلى أنَّ الأَخَوينِ يَرُدَّانِ الأمَّ عن الثُّلثِ، بخلافِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فإنَّه جَعَلَ الثَّلاثةَ مِن الإخْوةِ والأَخَواتِ حاجبة للأُمِّ دونَ الاثْنَينِ، فلها مَعَهُما الثُّلثُ عندَهُ بناءً على أنَّ الإخْوةَ صِيغةُ الجمعِ فلا يَتَناوَلُ المثنَّى، وله في خِلافهِ مع عُثْمانَ في هذهِ المسألةِ قصَّةٌ رَوَاها الطَّبريُّ في "تفسيره"(6/ 465)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(6/ 227).
أمَّا الجمهورُ فقد ذكر الآلوسي رحمه الله أنهم قالوا: إن حُكْمَ الاثْنينِ في بابِ الميراثِ حُكْمُ الجماعةِ، أَلا يُرى أنَّ البِنْتينِ كالبناتِ والأُخْتَينِ كالأخواتِ في اسْتِحقاقِ الثُّلُثَينِ فكذا في الحَجْب، وأيضًا معنَى الجمعِ المُطلَقِ مُشترَكٌ بينَ الاثْنَينِ وما فوقَهُما، بل قال جمع: إنَّ صيغةَ الجمعِ حقيقةٌ في الاثْنينِ كما فيما فوقَهُما في كلامِ العربِ، فقد أَخْرجَ الحاكِمُ في "المستدرك"(7961)، والبَيْهقيُّ في "السنن الكبرى"(6/ 227) عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّه كانَ يَحجُبُ الأمَّ بالأَخَوينِ، فقالوا لهُ: يا أبا سعيدٍ، إنَّ اللهَ تعالى يقولُ:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أنتَ تَحجُبُها بأَخَوينِ؟ فقال: إنَّ العربَ تُسمِّي الأَخَوينِ إخْوةً. ومن هنا اخْتَلفَ النَّاسُ في مدلولِ صيغةِ الجمعِ حقيقةً، وصرَّحَ بعضُ الأصوليِّينَ أنَّها في الاثْنينِ في الموَاريثِ والوَصَايا ملحقةٌ بالحقيقةِ، والنُّحاةُ على خلافِ ذلك. انظر:"روح المعاني"(5/ 357).
قلتُ: وقد وقعَ عندَ النَّحويِّينَ أيضًا اختِلافٌ في عَدِّ الاثْنينِ جمعًا، وينظر في ذلك رسالة العلامة المؤلف التي بحث فيها خِطابَ الواحدِ بخطابِ الاثْنينِ، ومُعامَلةَ المثنَّى مُعامَلةَ الجمعِ، وهي مطبوعة ضمن "مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا"، وانظر فيها ما قدمناه لتلك الرسالة.
{فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
(1)
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} متعلق بجميعِ ما تقدم
(2)
من قسمةِ المواريث كلِّها؛ أي: هذه الأنصِباءُ للورثة من بعد ما كان من وصيةٍ يوصي بها أو دين.
وإنما قال بـ {أَوْ} التي للإباحة - ومعنى الإباحةِ هنا: التسويةُ في الوجوب
(3)
- دون الواو؛ للدلالةِ
(4)
على أنهما متساويان في التقدُّم على القسمة مجموعَين ومنفردَين، وإن لم يكونا متساويين في التعلُّق بالتركة، فإن الدَّين لا يسقط منه شيءٌ بذهاب بعض المال بخلافِ الوصية.
وإنما قدِّمت على الدَّين وهي متأخِّرة عنه في الحكم؛ لأن مَظِنَّة الاشتباه
(5)
تقديمها، فكان هو أحوجَ إلى البيان، وأما كونها مشبَّهةً بالميراث فيَشُقُّ إخراجُها على الورثة، فلا يَنتظِم بعض الوصايا كالوصية للحج.
ثم أكَّد أمرَ
(6)
الوصية ورغَّب فيها بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} معترِضًا
(7)
؛ أي: هم نصحاؤكم وأهلُ شفقَتِكم ومحبَّتِكم لا يريدون بكم إلا خيرًا، باعثًا لهم على إمضائها، مبيِّنًا ذلك المعنى بقوله:
{لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} : أيُّ الفريقين منهم أنفعُ لكم: أهو مَن أَوصى
(1)
"فلأمه السدس": ليست في (م).
(2)
في (م) و (ك): "تقدمه".
(3)
"ومعنى الإباحة هنا التسوية في الوجوب": ليست في (م) و (ك).
(4)
في (ح) و (ف): "الدالة".
(5)
في (م): "اشتباه".
(6)
"أمر" ليس في (ح) و (ف).
(7)
في (ح) و (ف): "معترض".
منهم أم
(1)
مَن لم يُوصِ؟ لأنَّ مَن أوصى عرَّضكم لثواب الآخرة بإمضائها، وهو وإن كان آجلًا فهو بالحقيقة أقربُ لكم نفعًا وأوفرُ جَدْوى لأنَّه خيرٌ وأبقى، ومَن لم يُوصِ أبقاكم على خيرِ الدنيا، وهو وإن كان عاجلًا لكنه في الحقيقة أبعدَ نفعًا وأقربَ ضرًّا وأقل جَدْوى لأنَّه سيزول ويفنى.
{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هم آباؤكم وأبناؤكم {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ} بيانٌ لحالهم، أو مبتدأ خبره {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ} .
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} في موقع المصدر المؤكِّد؛ أي: فرضَ ذلك فرضًا، أو حالٌ مؤكِّدة بمعنى: مفروضةً؛ أي: لكم الأنصباءُ المذكورةُ بيَّنَّاها مفروضةً.
ولمَّا فَرَض أنصباءهم، وأَثبتَ الوصيةَ
(2)
، وسلَب علمَهم به، قال:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} ؛ أي: بمصالح
(3)
دُنياكم وأُخراكم.
{حَكِيمًا} في كل ما
(4)
فَرض وقَسَم من المواريث، وحَكَم به من الوصية وغيرها.
(12) - {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ
(1)
في (ك): "أو".
(2)
في (ح) و (ف): "الفرضية".
(3)
في (م) و (ك): "لمصالح".
(4)
"ما" من (م).
بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} ؛ أي: ولدٌ وارثٌ، ذكرًا كان أو أنثى، منكم أو من غيركم، وولدُ الابن وإنْ سفلَ يقوم مقام الصُّلبيِّ في الحجب المذكور عند عدمه بالإجماع.
يستوي الواحدةُ والعددُ منهنَّ في الرُّبع والثُّمن، فَرَض للرجل بحقِّ الزواج ضعفَ ما للمرأة كما في النسب، قيل: وهكذا قياسُ كلِّ رجل وامرأةٍ اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى عنه إلا أولادُ الأم والمعتَق والمعتَقة.
وفي الحصر نظر؛ فإن الأبوين أيضًا من هذه الجملة.
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ} ؛ أي: الميت.
{يُورَثُ} ؛ أي: يورَث منه، مِن وَرِثَ، صفةٌ لـ {رَجُلٌ} .
{كَلَالَةً} خبر {كَانَ} ، أو {يُورَثُ} خبرُه و {كَلَالَةً} حال من الضمير فيه، وهو مَن لم يخلِّف ولدًا ولا والدًا، أو مفعول له، والمراد بها قرابةٌ ليست من جهة الوالد والولد.
ويجوز أن يكون
(1)
الرجلُ الوارثَ، و {يُورَثُ} من أَوْرَثَ، {كَلَالَةً} مَن ليس بوالدٍ ولا ولد.
وقرئ: (يُورثُ) على البناء للفاعل
(2)
، فالرجلُ الميتُ، {كَلَالَةً} يحتمِلُ المعانيَ الثلاثَة، وعلى الأول خبرٌ أو حالٌ، وعلى الثاني: مفعول
(3)
له، وعلى الثالث: مفعول به.
وهو في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلَال، فاستُعيرت لقرابةٍ
(4)
لا يقارنُها النسبة
(5)
، لأنها كالَّةٌ
(6)
ضعيفة بالنسبة إلى التي تقارنها النسبةُ، ثم وُصف بها المورِّثُ والوارثُ
(7)
بمعنى: ذي كلالةٍ، كقوله: فلان من قرابتي؛ أي: من ذي قرابتي، ويجوز أن تكون صفةً، كأنه من غايةِ الضعف نفسُ الكلالة.
{أَوِ امْرَأَةٌ} عطف على {رَجُلٌ} .
{وَلَهُ} ؛ أي: ولواحدٍ منهما، فلا ضرورةَ للحمل على الاقتصار؛ كما ذهب
(1)
في (م) زيادة: "يكون".
(2)
وهما قراءتان على البناء للفاعل: الأولى بتخفيف الراء، والثانية بتشديدها. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 25)، و"المحتسب"(1/ 182).
(3)
في (م) و (ك): "المفعول".
(4)
في (م): "للقرابة التي".
(5)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: ليست بالبعضية، لم يصب لأنَّه حينئذ تخرج الأم والجدة من الكفالة. منه". والقائل المذكور هو البيضاوي في "تفسيره"(2/ 64).
(6)
في (م) و (ك): "كلالة"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(7)
"والوارث" من (م)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
إليه مَن قال: أي: وللرجل، واكتُفيَ بحُكمه عن حُكم المرأة لدلالةِ العطف على تشارُكهما فيه
(1)
.
{أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ؛ أي: من الأمِّ، على ما نُصَّ عليه في قراءة:(وله أخٌ أو أختٌ من الأمِّ)
(2)
- وقد ذُكر في آخر السورة أن
(3)
للأختين الثلثين، وللإخوة الكلَّ، وهو لا يليق بأولاد الأم، وما قُدِّر هاهنا فرضُ الأم
(4)
، فيناسبُ أن يكون لأولادها.
{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} سوَّى بين الذَّكَر والأنثى لأن الإدلاء بمحضِ
(5)
الأنوثة، وقد عَرَفْتَ أن الكلالة استُعيرت لقرابة لا تقارنها
(6)
النسبة، فينتظِم قرابةَ الأمِّ والجدَّة دون البنت وبنتِ الابن؛ لأن النسب إلى الآباء دون الأمهات، فلا تخصيص فيَ مفهوم الآية
(7)
.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} ؛ أي: لورثته، وذلك أن يوصيَ بزيادةٍ على الثلث، أو يوصيَ بالثلث فما دونه ونيَّتُه
(8)
مضارَّةُ ورثته لا وجهُ الله تعالى.
(1)
القائل المذكور هو البيضاوي في "تفسيره"(2/ 64).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 486) عن أبي رضي الله عنه، وفيه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:(من أم)، ورواها عن سعد الطبري في "تفسيره"(6/ 483).
(3)
في (م): "في آخر السورة أن للأخت الواحدة النصف أي أن"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 64).
(4)
"الأم " من "ك"، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(5)
في (ف): "بمحضر"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(6)
في "ك": (تفارقها)، وهو تصحيف.
(7)
"الآية" من (ك) و (م)، وهو الصواب. ولفظ البيضاوي:(ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن، فخص فيه بالإِجماع).
(8)
في (ك): "ونيته".
وعن الحسن: المضَارَّة في الدَّين أنْ يوصيَ بدَينٍ ليس عليه، ومعناه: الإقرارُ.
اعتبر المضارَّة في الدَّين أيضًا بناءً على تأخير الحال عنهما، واعتبر الإيصاء فيه أيضًا بناءً على عطفه على {وَصِيَّةً}؛ كأنه قيل: أو دَين يوصَى بها، على قاعدةِ تقييد المعطوف بما قيِّد به المعطوف عليه.
{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} مصدرٌ مؤكِّد، أو منصوبٌ بـ {غَيْرَ مُضَارٍّ} على المفعول به، ويؤيدُه القراءة بإضافة (مُضارِّ) إلى (وصيةٍ)؛ أي:(غيرَ مضارِّ وصيةٍ)
(1)
؛ [أي: لا يضارُّ وصيةً] من الله، وهو الثلث فما دونه بالزيادة، أو بوصيةٍ منه بالأولاد بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب
(2)
.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمن جار ومَن عدل في وصيته.
{حَلِيمٌ} عن الجائر؛ إذ لا يعاجِلُه بعقوبة، وهذا وعيد بليغ.
{تِلْكَ} إشارةٌ إلى الأحكام التي تقدَّمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث.
{حُدُودُ اللَّهِ} : شرائعُه التي كالحدود المحدودةِ التي لا يجوزُ مجاوَزتها.
(1)
تنسب للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 25)، و"المحتسب"(1/ 183).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 486)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 64)، وما بين معكوفتين منهما. والعبارة الأخيرة جاءت في "الكشاف" بلفظ:( .. أو وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية).
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} حَمل أولًا على لفظ {وَمَنْ}
(1)
في قوله: {يُطِعِ} {يُدْخِلْهُ} فأَفرد، ثم حَمل على المعنى في قوله:
{خَالِدِينَ فِيهَا} فجَمع، وانتصابُه على الحال المقدَّرة، ويجوز أن يكون صفةً لـ {جَنَّاتٍ} على مذهب الكوفيين، وبه أخذ الزجَّاج هنا
(2)
، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير عندهم إذا
(3)
لم يَلتبس.
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي تُستحقَرُ دونه الدنيا وما فيها.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} زاد هاهنا على العصيان تعدِّيَ الحدود - وهو في الأعمال - صرفًا للعصيان إلى ما يكون في العقائد، وفائدتُه: التنبيه على أن المراد من الإطاعة في قسيمه ما يكون في العقائد، وأنَّ الموعود مِن دخول الجنة ليس بمشروطٍ بالعمل
(1)
في (ح) و (ف): "لفظه".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 27) وقد اقتصر الزجاج هنا على الحال المقدرة، لكنه أجاز الوجهين - الحال والصفة - في قوله:{خَالِدًا} في الآية التي بعدها، ولعل ما نقله المؤلف هنا عن الزجاج تابع فيه أبا حيان في "البحر" (6/ 498). وكلمة:"هنا" سقطت من (ح) و (ف)، وكذا سقط منهما قوله:"فجمع وانتصابه على الحال المقدرة، ويجوز أن يكون صفة لجنات على مذهب الكوفيين وبه أخذ".
(3)
في (م) و (ك): "إذ".
الصالح، وذلك في مقابلةِ الإهانة؛ لأنَّه لا يتعدَّاها إلا مَن اغترَّ فناسبه
(1)
الإهانة، والمراد غايتُها، وهذا مستفادٌ من توصيف العذاب به، فإنه ظاهرٌ بحيث لا فائدة في ذكره ما دام محمولًا على إطلاقه، فيحمل على الكمال ليفيد.
وأفرد هنا {خَالِدًا} وجمع فيما قبله إشارةً إلى ما في حقِّ المطيعين من لذةٍ روحانيةٍ ومن حظ الاستئناس، وما في حقِّ العاصين من ألم روحانيٍّ وهو عذاب الوحشة.
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} : يفعلن الفعلة القبيحة
(2)
، والمراد الزنا؛ لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} ؛ أي: فاطلبوا أيها الأئمةُ الذين إليكم إقامةُ الحدود.
{أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} من الرجال المؤمنين
(3)
ليشهدوا عليهن بالزنا
(4)
.
{فَإِنْ شَهِدُوا} عليهنَّ به.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} فخلِّدوهن محبوساتٍ.
(1)
في (ح) و (ف): "اعتبر مناسبة"، ولعله تصحيف.
(2)
في (ح) و (ف): "يفعلن القبيح".
(3)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: ممن قذفهن، ففد أتى بتخصيص بلا مخصص من الكلام، ولا اقتضاء من المقام. منه".
(4)
في (م) و (ك): "بالزنا".
{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ} : يستوفي أرواحهن {الْمَوْتُ} ، أو: يتوفاهنَّ ملائكة الموت.
قيل: كان ذلك عقوبتَهن في أوائل الإسلام فنُسخ بالحد.
{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} كتعيين الحد المخلِّص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السِّفاح.
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} يعني: الزاني والزانية، وُصِفَا بما يُوصَف به الذَّكَران تغليبًا للذَّكر على الأنثى، والظاهرُ من زيادة {مِنْكُمْ} ) هنا، ومن زيادة {مِنْ نِسَائِكُمْ} فيما سبق، تخصيصُ الحكم بالمسلمين والمسلمات.
{فَآذُوهُمَا} بالتوبيخ والتقريع.
قال الحسن: أولُ ما نزل من حدِّ الزنا الأذى، ثم الحبسُ، ثم الجلد، فكان ترتيبُ النزول على خلاف ترتيب التلاوة.
وقال الضحاك: كان الرجل إذا زنَى بامرأة وكانا بِكرين حُبس كلُّ واحد منهما في بيت، ثم لا يمر بهما مارٌّ إلا آذاهما بالتعيير.
وعلى هذا يكون الأذى مع الحبس مشروعَين في وقتٍ واحد في حقِّ الرجل والمرأة جميعًا.
وقال مجاهد: آيةُ الأذى في الرجلين؛ أي: الذَّكَرُ يفعل ذلك بالذَّكَر وهو اللِّواطة
(1)
.
(1)
روى عنه الطبري في "تفسيره"(6/ 499) قوله في تفسيرها: (الرجلان الفاعلان، لا يكني)، وفي رواية:=
قال أبو منصور: آيةُ الأذى هذا يكون حجةً لأبي حنيفة في أنه يعزَّر ولا يحدُّ بالجَلد أو الرَّجم
(1)
.
{فَإِنْ تَابَا} عن المعصية {وَأَصْلَحَا} : وغيَّرا الحالَ إلى العفاف.
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} بالإغماض والسَّتر، واقطعوا عنهما الأذى.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا} يَقبل توبة التائب {رَحِيمًا} فلا يعذِّبه، وهو علةُ الأمر بالإعراض وتركِ المذمَّة.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} مِن تاب الله عليه: إذا قبل توبته، لا مِن تاب العبد: إذا رجع إليه.
{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} مُلْتبسين بها، وليست هي عدمَ العلم بأنه ذنبٌ؛ لأنَّه عذرٌ، لكنها تركُ التفكُر في العاقبة كفعلِ مَن يجهلُه.
{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} : من زمانٍ قريب؛ أي: قبل حضور الموت؛ لقوله عليه السلام: "إن الله يقبلُ توبة عبده ما لم يُغَرغِرْ"
(2)
وسماه قريبًا لأنَّ أمد الحياة قريبٌ.
= (الزانيان)، وحمل الراغب قول مجاهد هذا على اللواطة. لكن ذكر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" (ص: 306) ما قد يكون تفسيرًا مخالفًا لما ذهب إليه الراغب في الخبر المذكور، حيث ذكر عن مجاهد أن قوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} عامٌّ لِكُلِّ مَن زَنَى مِن الرجالِ ثَيِّبًا كانَ أو بِكْرًا.
(1)
انظر: "تأويلات أهل السنة" لأبي منصور الماتريدي (3/ 67).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(23068) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي (3537) وحسنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وابن ماجه (4253) من حديث=
وفي عبارة {ثُمَّ} إشارة إلى أنه لم يُرَدْ من القربِ القربُ من عمل السوء حقيقةً.
{فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وعد بالوفاء بما وَعد به وكتب على نفسه بقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} .
وفائدة (أولئك) والفاءِ: أنهم إذا تابوا في هذا الزمان تَسبَّب
(1)
توبتُهم للقبول.
ومعنى الحصرِ في {إِنَّمَا التَّوْبَةُ} : التي كتب الله على نفسه قبولَها ليست إلا هذه، فيلزم أن لا يَقبل غيرها، ولهذا فصَل الآية بقوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} ؛ أي: بالتوبة الموصوفة بما يقتضي القبول، والتي لم تتصف به، {حَكِيمًا} لا يقبل إلا الأولى، فإنه تهديد ووعيد، وما يناسب القبول ترغيبٌ ووعد، فلو لم يكن الحصرُ والسببيةُ لكان ينبغي أن يقول: وكان الله غفورًا رحيمًا.
ولذلك
(2)
وللفرق بين التوبتين صغَّر المعصية هنا بتوحيد السوء والتقييد بالجهالة؛ أي: الغفلة، وقيَّد مجال التوبة بالقرب، وعظَّمها في قوله:
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} حيث جمع السيئات، وبعَّد مجال التوبة بحرف الغاية، وأضاف إلى المحتضَر قول التوبة لا نفسها، وزاد قوله:
= عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1)
في (ح): "بسبب"، وفي (ك):"نسب"، وفي (م):"نسبت".
(2)
في (م) زيادة: "أي".
{الْآنَ} ، وسوَّى بين الذين سوَّفوا توبتهم
(1)
إلى ذلك الأمد البعيد الذي هو حضرة الموت وبين الذين ماتوا على الكفر، مبالغةً في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وأكَّد الوعيد بقوله:
{أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ؛ أي: الموصوفون بأحد الوصفين: التوبةِ وقتَ الاحتضار، والموتِ على الكفر، استحَقُّوا عذابًا أليمًا بسبب اتِّصافهم بما ذُكر، وفخَّم وعيدَهم بتقديم الظرف وتنكير العذاب، ووصفَه بالألم، فافهم.
والإعتاد: التهيئة، من العتَاد وهو العُدَّة.
وقيل: أصله: أَعْدَدنا، فأُبدلت الدالُ الأولى تاءً.
وإنما لم يقل: إذا حضرهم
(2)
الموت؛ لأن المتبادِر منه الموتُ النادر، وهو أن يموت جماعةٌ معًا، وذلك لا يناسب مقام التغليظ للتقصير.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} كان الرجل إذا مات وله عصبةٌ، ألقى ثوبه على امرأته، وقال: أنا أحقُّ بها، ثم إنْ شاء تزوَّجها بصَداقها الأول، وإن شاء زوَّجها غيرَه وأَخذ صَداقها، وإن شاء عضَلها لتفتديَ بما ورثت من زوجها،
(1)
في (م): "بتوبتهم".
(2)
في (م): "لم يقل: إذا حضروا، وقال: إذا حضر أحدهم".
فنُهوا عن ذلك، وقيل لهم: لا يحلُّ لكم أن تَحوزوها على سبيلِ الإرث كما يُحاز الميراث وهن كارهاتٌ لذلك، أو مكرَهاتٌ
(1)
عليه.
والتقييدُ بالكره لتقرير معنى الأخذِ على سبيل الإرث، وإظهارِ ما فيه من القبح، فلا دلالةَ فيه على جوازه إذا كان طوعًا.
وقرئ: {كَرْهًا}
(2)
وهما لغتان فيه، وقيل: بالضم المشقَّةُ، وبالفتح ما يُكره عليه.
{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} تم الكلام عند
(3)
{كَرْهًا} ، ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل وهو الحبسُ والتضييق، ومنه: عضَّلَتِ المرأةُ بولدها: إذا اختنقت رحمُها به فخرج بعضه وبقي بعضه.
كان أحدهم إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العِشرة معها وشكاسةِ الخُلق حتى تفتديَ منه بمالها وتختلع، فمُنعوا منه وقيل لهم: ولا تحبِسوهنَّ لتأخذوا منهن بعضَ ما آتيتُموهن من الصَّداق.
والواوُ لعطف الجملة، وأمَّا عطفه على {أَنْ تَرِثُوا} على أن يكون الخطابُ لمَن خوطب فيما سبق، فيأباه قوله:{بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} ، ولا يَنتظِم مع قوله:
{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الاستثناءُ من أعمِّ عامِّ الظرف أو المفعول له، تقديره: ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقتَ أن يأتين الفاحشةَ، والمراد بها: شَكَاسةُ الخُلق، وإيذاءُ الزوج وأهلِه بالبَذاء والسَّلَاطة، ويدلُّ عليه قراءة:(إلا أنْ يَفْحُشْنَ عليكم)
(4)
.
(1)
في (م): "مكروهات".
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي، وباقي السبعة بفتح الكاف. انظر:"التيسير"(ص: 95).
(3)
في (م) و (ك): "بقوله".
(4)
تنسب لأبيٍّ رضي الله عنه. انظر: "الكشاف"(1/ 490).
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} : بالإنصاف في الفعل والإجمالِ في القول.
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} قوله: {فَعَسَى} إلخ علةٌ للجزاء أُقيم مقامه لاستلزامه إياه؛ أي: فلا تُفارقوهن لكراهة النفس وحدَها، واصبروا عليهن مع الكراهة، فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، ونوِّن {خَيْرًا} تعظيمًا، ووصفُه بالكثرة مبالغةٌ.
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} ؛ أي: إن عزَمْتُم على أن تأتوا بزوجٍ مكانَ زوجٍ مستبدِلين بها إياها، وتصويرُ الكلام في هذه الصورة لتعيينِ أن يكون التطليق لرغبته في تجديد الفراش، لا لسببٍ من جهتها فإنه حينئذ يجوز أخذُ المال في مقابَلة الطلاق.
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ} : إحدى الزوجات، جَمع الضمير لأنَّه أراد بالزوج الجنس.
{قِنْطَارًا} : مالًا كثيرًا، ضمِّن الكلام الإشارةَ إلى جواز المغالاة في الصَّدُقات، ولهذا تعرَّض لكثرة ما أَعطى، والإشارةَ إلى جواز الاستبدال مع تعدُّدها، ولهذا أتى بعبارةٍ تُفصح عنه، وكان يكفي أن يقول: وأتيتم إياها.
{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ} : من القنطار {شَيْئًا} قليلًا.
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} باهتينَ وآثمين، والاستفهامُ للإنكار والتوبيخ؛ أي: أتفعلون هذا مع ظهور قُبحه.
قيل: يحتمل انتصابها على العلَّة وإن لم تكن غرضًا، كقولهم: قعدتُ عن الحرب جبنًا.
وفيه: أن الإثم ليس بعلة للأخذ، بل الأمر بالعكس.
وتخصيص البهتان بالذكر لأنهم كانوا إذا أرادوا جديدةً بَهتوا التي تحتهم بفاحشةٍ حتى يُلْجئوها إلى الافتداء منهم بما أعطَوها ليَصْرِفوه إلى تزوُّج الجديدة، فنُهوا عن ذلك.
والبهتانُ أفحش الكذب؛ لأنَّه إذا كان عن قصدٍ يكون إفكًا، والإفكُ إذا كان على الغير يكون افتراءً، والافتراءُ إذا كان بحضرة المقولِ فيه يكون بهتانًا؛ لأنَّه يدهشه ويتركه متحيِّرًا، من بهتَ: إذا دَهِشَ وتَحيَّر.
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار لاسترداد المهر.
{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} : والحالُ أن معكم ما يَصرف عنه، والإفضاءُ هو الخلوة، من الفضاء: وهو المفازة الخالية، كذا فسَّره الكلبي، وهو حجةُ أصحابنا في أن المهر يتأكَّد بالخلوة الصحيحة من غير وطءٍ.
{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} الميثاق: العهد الوثيق، والغليظ: المبالغةُ فيه، وهو قوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] واللهُ تعالى أخذ هذا
(1)
الميثاق على عباده لأجلهنَّ فهو كأَخْذِهن.
(1)
"هذا" من (م).
وقيل: هو قول الولي عند العقد: أُنكحكَ على ما في كتاب الله من إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسانٍ، وكان ذلك معتادًا في السلف.
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ} : التي نكح.
{آبَاؤُكُمْ} وإنما ذكر {مَا} دون: مَن؛ لأنَّه أريدَ به الصِّفةُ.
وقيل: مصدريةٌ على إرادة المفعول من المصدر، فلا يأباه البيانُ بقوله:
{مِنَ النِّسَاءِ} وِزانُه وِزانُ {فِي الْأَرْضِ} في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] ففائدتُه تأكيد ما في {نَكَحَ} من العموم.
{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قيل: استثناءٌ من المعنى اللازم للنهي؛ كأنه قيل: تستحقُّون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد مضى قبل التحريم، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم؛ كقوله:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم
…
بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائب
(1)
والمعنى: ولا تنكحوا حلائلَ آبائكم إلا ما قد سلف إنْ أمكنكم أن تنكحوه
(2)
.
(1)
البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (ص: 11).
(2)
يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه، وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيضَّ القارُ، وحتى يلج الجمل في سَم الخياط. انظر:"الكشاف"(1/ 493) وعنه نقلنا هذا الشرح، و"تفسير البيضاوي"(2/ 67) وعنه نقل المؤلف.
وقيل: الاستثناء منقطع، ومعناه: ولكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لأنَّه مغفور
(1)
، وتقف على أن هذا هو الوجه
(2)
.
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} علةٌ للنهي، وزيادة {كَانَ} للدلالة على أنه لم يرخَّص فيه في شريعةٍ من الشرائع.
{وَمَقْتًا} : ممقوتًا، والمقت: البغضُ باستحقار.
{وَسَاءَ سَبِيلًا} سبيلُ مَن يراه ويفعلُه.
وكانوا ينكحون روابَّهم
(3)
، وناسٌ من ذوي مروءاتهم يمقُتونه ويسمُّونه
(4)
: نكاحَ المقت، وكان المولود عليه يسمَّى: المَقْتيَّ، ولذلك قيل:{فَاحِشَةً وَمَقْتًا} ؛ أي: في دِين الله تعالى مُفْرِطةَ القبح، مقتًا في المروءة والعرف، ولا مزيدَ على ما يجمع القبحين شرعًا وعرفًا، وبه زاد على الزنا، فإنه تعالى قال فيه:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
(1)
في هامش (ح) و (ف): "عبارة القاضي: لأنَّه مقرر، والصواب ما قررنا على ما ستقف عليه. منه". قلت: ولعل الصواب في عبارة القاضي: (لا أنه مقرَّر)، كما جاء في حاشية السيوطي على البيضاوي المسماة "نواهد الأبكار"(3/ 143)، و"حاشية شيخ زاده على البيضاوي"(3/ 289)، وحاشية الشهاب على البيضاوي المسماة "عناية القاضي وكفاية الراضي"(3/ 120)، و"حاشية القونوي على البيضاوي"(7/ 87)، وكذا نقله الطيبي عن البيضاوي في حاشيته على "الكشاف" المسماة "فتوح الغيب" (4/ 500). وقال شيخ زاده في شرح جملة (لا أنه مقرر):(لأنَّه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدًا على نكاح امرأة أبيه وإن كان واقعا فيما مضى من زمن الجاهلية).
(2)
انظر ما سيأتي عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} .
(3)
الروابُّ: جمع رابة، وهي امرأة الأب. انظر:"فتوح الغيب"(4/ 487).
(4)
في (م): "وسمي"، وقال في الهامش: في نسخة: "ويسمونه".
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} أراد تحريم التمتُّع بهن؛ لأن المفهوم في العرف مِن حُرمته
(1)
: عينُ حرمةِ ما هو المقصود منه، ويلزمه حرمة النكاح؛ لأنَّه موضوعٌ لملك المتعة فلا يصح بدونه.
والأم حقيقةً: هي الوالدة، وفي معناها: كلُّ امرأة
(2)
رجع نسبُك إليها بالولادة من جهةِ أبيك أو من جهةِ أمك.
والبنت: هي كلُّ ابنة ولدْتَها، وفي معناها: كلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة؛ بدرجةٍ أو درجات، بإناثٍ أو ذكور.
والأختُ: كلُّ مَن جمعك وإياها صُلبٌ أو بطنٌ.
والعمة: كلُّ مَن جمع أباك وإياها صلبٌ أو بطنٌ، وفي معناها: مَن جمع جدَّك - قريبًا كان أو بعيدًا - وإياها صلبٌ أو بطنٌ.
والخالة: مَن جمع أمَّك وإياها صلبٌ أو بطنٌ، وفي معناها: مَن جمع جدتكَ - قريبةً كانت أو بعيدةً - وإياها صلبٌ أو بطنٌ.
(1)
في (م) و (ك): "حرمت".
(2)
في (ك): "أنثى".
ونوافلُ الأخ والأخت وإن بَعدت داخلاتٌ في الحكم بالذكور يُدْلِين، أو بالإناث والإخوة من أيِّ جهة كانت.
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} نزَّل الله تعالى تعالى الرَّضاعةَ منزلةَ النسب، حتى سمَّى المرضعةَ: أمًّا، والمراضِعةُ: أختًا، فلزم منه أنَّ زوج المرضعة أبوه، وأبويه جدَّاه، وأختَه عمتُه، وكلّ ولدٍ وُلد له من غير المرضعة
(1)
قبل الرضاع وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه
(2)
، وأمّ المرضعة جدتُه، وأختها خالتُه، وكلّ مَن ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومَن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه، ومنه قوله عليه السلام:"يَحْرُمُ من الرَّضاع ما يَحْرُمُ مِن النَّسَب"
(3)
.
وقالوا: تحريم الرَّضاع كتحريم النَّسب إلا في مسألتين:
إحداهما: أنه لا يجوزُ للرجل أن يتزوَّج أخت ابنه من النسب، ويجوزُ أن يتزوج أخت ابنه من الرَّضاع؛ لأن المانع في النسب وطؤه أمَّها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
والثانية: لا يجوز أن يتزوَّج أمَّ أخيه من النسب، ويجوز في الرَّضاع؛ لأن المانع
(1)
في (ح) و (ف): "المراضعة"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصادر. انظر:"الكشاف"(1/ 494)، و"البحر المحيط"(6/ 546)، و"تفسير أبي السعود"(2/ 161)، و"روح المعاني"(5/ 418).
(2)
بعدها في (ك): "وأمه ومَن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأبيه"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصادر السابقة.
(3)
رواه البخاري (2146)، ومسلم (9/ 1445)، من حديث عائشة رضي الله عنها. ورواه البخاري (2645)، ومسلم (1447/ 13)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
في النسب وطءُ الأبِ إياها، وهذا المعنى غيرُ موجود في الرَّضاع.
وفي الحصر نظرٌ؛ لأن أمَّ النافلةِ - أي: زوجةَ الابن
(1)
- وجدةَ الولد أيضًا يَحرمان من
(2)
النسب؛ لأن أمَّ النافلة زوجةُ الابن، وجدةَ الولد أمُّ الزوج، ولا يحرمان من الرضاع؛ كمَن أرضعت ولد ولدِك، وكأمٍّ
(3)
أجنبيةٍ أرضعت
(4)
ولدك.
هذا بحسَبِ جليلِ النظر، والذي هو بحسَبِ دَقيقهِ: أنَّ الحرمة في الصورِ المذكورةِ بالمصاهرة دون النسب، فلا حاجة إلى الاستثناء أصلًا.
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ذكر أولًا محرَّمات النسب، ثم الرَّضاعةِ لأنها لُحمةٌ كلُحمة النسب، ثم محرَّمات المصاهرة فإن تحريمهنَّ عارض لمصلحة الزواج.
والربائب: جمع رَبيبة، والربيبُ ولد المرأة من آخَرَ، سُمي به لأنَّه يربِّيه كما يربي ولدَه في غالب الأمر، فَعيلٌ بمعنى مفعولٍ، وإنما لحقه التاءُ لأنَّه صار اسمًا لولد المرأة وإنْ لم يُربِّه.
وقوله: {فِي حُجُورِكُمْ} كنايةٌ عن كونهنَّ في ولايتهم وحمايتهم، وقالوا: إنَّ ذِكره خَرج مَخرجَ العادة لا مخرجَ الشرط، ولهذا اكتُفي في موضع الإحلال بنفي الدخول، وهذا ما بحسب جليلِ النظر، والذي هو بحسبِ دَقيقه هو أنه تقويةُ العلة
(5)
وتكميلُها.
(1)
"أي زوجة الابن" من (م).
(2)
في (م): "في".
(3)
في (م): "وكان"، وقال في الهامش:"الصواب كانت".
(4)
في (م): "أو أرضعت".
(5)
في (ك) و (م): "للعلة".
والمعنى: إذا دخلتم بأمهاتهنَّ وهنَّ في احتضانكم، أو من شأنهنَّ وحقِّهنَّ الكونُ فيه، قَوِيَ الشبهةُ بينها وبين أولادكم، فصارت أحقَّاءَ بأن تُجروها مجراهم، وعلى هذا - أي: على تقدير أن يكون المعنى ما
(1)
قرَّرناه من تعميم المراد للَّتي مِن شأنها أن تكون في احتضانهم كما هو مقتضَى كونِ الوصف المذكور لتقوية العلَّة - يكون ذلك الوصفُ للحرمة
(2)
، والاكتفاءُ في موضع الإحلال بنفي الدخول لاستلزام انتفائه انتفاءه
(3)
.
و {مِنْ نِسَائِكُمُ} حال من {وَرَبَائِبُكُمُ} أو صفةٌ، أو من جملة الصلة؛ أي: اللاتي من نسائكم، وهو أولى بنظم الكلام.
والباء في {بِهِنَّ} للتعدية، والمعنى: أدخلتُموهنَّ السِّتر، وهي كنايةٌ عن الجماع، وعندنا يقوم اللَّمس مقامه.
ولا يجوز أن يكون {اللَّاتِي} وصفًا لـ {نِسَائِكُمْ} من قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} لعدم الحاجة في إفادةِ المعنى المراد إلى قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ} ، والكلامُ البليغ يجب صونُه عن الحشو.
والرسول عليه السلام فرَّق بين أمِّ المرأة وبنتِها فقال [في] رجلٍ
(4)
تزوَّج امرأة
(1)
في (م): "على ما".
(2)
في (م): "الوصف تقييدًا للحرمة".
(3)
في (ك) و (م): "بنفي الدخول لا يستلزم انتفاءه". وقد وضح الآلوسي هذه المسألة بقوله: (وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول، دون كون الربائب في الحجور، وإلا لقيل: فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم، أو: فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم). انظر: "روح المعاني"(5/ 432).
(4)
في (ح) و (ف): "ورجل"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(1/ 495)،=
وطلقها قبل أن يدخل بها: "لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحلُّ له أن يتزوج أمها"
(1)
، وهذا الدخولُ
(2)
شرط بالإجماع، بخلاف كون الربائب في حجورهم فإنه خرج على الأغلب، وليس بشرطٍ عند عامة العلماء.
{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أريدَ استمرارُ النفي لا نفيُ الاستمرار، فمعنى الكون مقدَّم في الاعتبار.
{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ؛ أي: في نكاح الربائب، وهذا البيانُ مهمٌّ عند مَن لا يقول بحجِّيَّة المفهوم، وعند مَن قال بها فائدتُه دفعُ القياس.
{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} : زوجاتُهم، سُميت حليلةً لحقَها لزوجها، أو لحُلولها معه في محلٍّ
(3)
.
{الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} بالذات أو بالواسطة، احترز به عن المتبنَّى؛ لأنهم كانوا يجعلونه كولدِ الصُّلب، لا عن الابن من الرضاع.
= و"تفسير البيضاوي"(2/ 68)، وما بين معكوفتين منهما.
(1)
رواه الترمذي (1117) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، فَلْيَنْكِحْ ابْنتهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا". قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالمُثَنَّى بْنُ الصَبَّاحِ عن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، والمُثَنَّى بنُ الصَّبَّاحِ وَابْنُ لَهِيعَةَ يُضَعَّفَانِ فِي الحَدِيثِ، والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ، قَالُوا: إذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَة ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بها حَل لَهُ أَنْ يَنْكِحَ ابْنَتَها، وإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجلُ الابنةَ فطَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بها لَمْ يَحِلَّ له نكاحُ أمِّها؛ لقولِ اللهِ تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} .
(2)
"الدخول" من (م).
(3)
في (ح) و (ف): "المحل".
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في محل الرفع عطفٌ على ما قبلَه من المحرَّمات؛ أي: وحرِّم عليكم الجمع بين الأختين في التمتُّع، ويلزمُه حُرمةُ الجمع بينهما بالنكاح - لِمَا قدَّمناه - دون مِلك اليمين؛ لأنَّه يُجامع حرمةَ التمتُّع؛ كما في الأمَة المجوسية، والأختِ رضاعًا، ولا دلالةَ في قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على حلِّ المملوكة على كلِّ حال، فلا يعارض هذا القولَ الدالَّ على حرمتها في بعض الأحوال حتى يحتاج إلى الترجيح.
{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منقطع معناه: لكنْ ما قد سلف منكم مغفورٌ
(1)
؛ لقوله:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وروَى هشامٌ عن محمد بن الحسنِ أنه قال: كان أهل الجاهلية لا
(2)
يعرفون هذه المحرَّمات إلا ثنتين: نكاحَ امرأة الأب، ونكاحَ الأختين معًا، فلذلك قال هناك:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، وقال هاهنا:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}
(3)
.
(1)
في (ك) و (م): "مغفور له". وجاء في هامش (ف): "من تنبه لهذه الدلالة ثم جوز الاتصال في الاستثناء لم يكن على بصيرة. منه".
(2)
كلمة: "لا"، سقطت من (ح) و (ف). وانظر التعليق الآتي.
(3)
انظر: "تفسير أبي الليث"(1/ 292)، و"تفسير القرطبي"(6/ 197). وسقطت من مطبوعيهما كلمة (لا) أيضًا، لكن الصواب إثباتها؛ إذ بحذفها ينقلب المعنى ويصبح خلاف المراد. وقد روى الطبري في "تفسيره"(1/ 549)، وابن المنذر في "تفسيره"(1523) عن ابن عباس نحو ما ذكر عن محمد بن الحسن، ولفظه:(كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما حرَّم الله إلا امرأة الأب والجمعَ بين الأختين، فلما جاء الإسلام أنزل الله عز وجل: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}، و {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}). وروَى الطبري عن قتادة نحوه. وهو يؤيد ما ذكرناه من وجوب إثبات (لا)، وهناك احتمال آخر أقوى منه، وهو أن تكون كلمة (يعرفون) الواردة في=
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} بفتح الصاد، أي: أَحصنَهنَّ التزويج، وقُرئ بكسرها
(1)
؛ أي: اللاتي أَحصَنَّ فروجهنَّ بالتَّزويج
(2)
.
والإحصان: العفَّة، وتحصينُ النفس من الوقوع في الحرام.
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: من اللاتي سُبِيْنَ وأُخْرجن
(3)
بدون أزواجهنَّ، فإن الفُرقة إنما تقع بتبايُنِ الدارين لا بالسَّبْي، ولا تَجلب العِدَّةَ، وتحل للغانم بملكِ اليمين بعد الاستبراء، ولا مساغَ لأخذِه على عمومه، فإنها إذا كانت مجوسيةً أو محرَّمةً بسبب الرضاع أو المصاهرة، أو بسببٍ آخر، أو مشتراةً وهي ذاتُ زوج، لا
= كلام محمد محرفةً عن كلمة: (يحرمون) الواردة في خبر ابن عباس.
وجاء في هامش (ف): "هذا هو الموعود فيما سبق. منه".
قلت: يشير إلى ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، من قوله:"وقيل: الاستثناء منقطع، ومعناه: ولكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لأنَّه مغفور، وتقف على أن هذا هو الوجه".
(1)
تنسب لطلحة بن مصرف. انظر: "الكشاف"(1/ 487)، والمشهور في هذه الآية القراءة بالفتح، وما جاء في بعض نسخ البيضاوي من عزو القراءة بالكسر للكسائي خطأ نبه عليه الشهاب في "الحاشية"(3/ 122).
(2)
في (م): "بالتزوج".
(3)
في (ح) و (ف): "أو أخرجن".
تَحلُّ لمالكها، فلا يكون حجةً على أبي حنيفة في قوله: لو سُبي الزوجان معًا لا يرتفعُ النكاح ولا تَحلُّ للسَّابِي.
{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكِّدٌ؛ أي: كَتب الله ذلك عليكم كتابًا، وهو تحريمُ ما حرَّم.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ} عطفٌ على (كَتَب) المقدَّرِ الناصبِ، يدلُّ عليه قراءةُ:(كَتَبَ الله عليكم وأَحَلَّ لكم)
(1)
.
وقرئ: (كُتُبُ اللهِ) بالجمع والرفع
(2)
، أي: هذه فرائضُ الله عليكم.
ومَن قرأ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} على البناء للمفعول
(3)
عَطَفه على {حُرِّمَتْ} .
{مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : ما سوى المذكورِ من الأصناف المحرَّمة
(4)
بالنسب أو الرَّضاع أو المصاهرة أو الجمع، وما ثَبت حرمتُها بالسُّنَّةَ ليست بخارجةٍ منها.
الكافُ والميم في {ذَلِكُمْ} خطابٌ للرجال، والذالُ إشارةٌ إلى المذكورِ قبله من المحرَّمات، ولو أشار إليها لقال: وراء تِلْكُم.
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} مفعولٌ له، أي: لِأنْ تبتغوا بأموالكم ما أُحلَّ لكم من النساء، ويجوز أن يكون بدلًا من {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على الاشتمال، والأفصحُ أن لا يقدَّر المفعول؛ أي: ليَصدُر منكم الابتغاءُ بأموالكم، وهو إخراجُها في مهور النساء واشتراءِ الإماء.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 25)، و"الكشاف"(1/ 487).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 487).
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي وحفص، وقرأ باقي السبعة بالبناء للفاعل. انظر:"التيسير"(ص: 95).
(4)
"المحرمة" من (م).
{مُحْصِنِينَ} حالٌ {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} صفةٌ، أو حالٌ أخرى.
والمعنى: بيِّن لكم ما يحلُّ مما يحرمُ لكيلا تضيِّعوا أموالكم فيما لا يحلُّ لكم، فتخسروا في دنياكم ودينكم، وتجمَعوا بين الخُسرانين.
والسِّفاح: الزنا، من السَّفْح: وهو صبُّ المائع بإطلاق، ومنه: السَّفَّاح، وهو المسرِفُ في القتل، وفي الزنا: تضييعُ الماء؛ لعدمِ ثبوت النسب به، وفي الآية دلالةٌ على أنه لا نكاحَ إلا بمهرٍ من جنس المال.
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} من جماع ودواعيهِ، والخلوةُ الصحيحةُ أقيمت مقامه، ولفظة (ما) تدل - على أنَّ يَسير التمتع يوجبُ إيتاء الأجر
(1)
.
{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} : مُهورَهنَّ، والأجر بدل منافع العين في الإجارة، وبدل منافع البضع في النكاح.
{فَرِيضَةً} حالٌ من الأجور بمعنى: مفروضة، أو مصدر وُضع موضع: إيتاءً؛ لأن الإيتاء مفروضٌ، أو مصدرٌ مؤكِّد؛ أي: فَرض الله ذلك فريضةً مفروضة.
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} مِن حطِّ شيءٍ منها، أو هِبَتِها كلِّها منه، أو من زيادته عليها، أو فيما تراضَيا به من نفقةٍ أو مُقامٍ أو فراق.
وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثةَ أيام حين فتحت مكةُ ثم نسخت، وهي غيرُ النكاح المؤقَّت على ما بُيِّن في محله.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح {حَكِيمًا} فيما شرع من الأحكام.
(1)
في (ف): "الأجرة".
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} : غنًى، وأصله: الفضل والزيادة.
{أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} : لأنْ ينكحَ الحرائرَ؛ لقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} يعني: الإماءَ
(1)
{الْمُؤْمِنَاتِ} .
قال الشافعي: لا يجوز نكاحُ الأمَة الكتابية بناءً على مفهوم الوصف، ولا نكاحُ الأمَة المسلمة عند القدرة على مهر الحرة ونفقتِها بناءً على مفهوم الشرط، وكِلَا المفهومَين ليس بحجة عندنا، على أن اللازم على تقديرِ حجيَّة المفهوم عدمُ إباحة نكاحهما، ويجوز أن يكون ذلك لكراهيته لا لعدم صحته، ونحن لا ننازع فيها.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} تأنيسٌ بنكاح الإماء وإزالةِ الاستنكاف منه؛ أي: أعلمُ بتفاصيل ما بينكم وبين أرقَّائكم في الإيمان، فربما كان إيمانُ الأمَة أرجحَ من إيمان الحرة، وإيمانُ الحرَّة
(2)
أرجحَ من إيمان الرجل، ولا ينبغي للمؤمِن أن يطلب الفضلَ والرجحان إلا باعتبارِ الإيمان والإسلام، لا بالأحساب والأنساب، وقولُه:
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} تأكيد لذلك المعنى؛ أي: أنتم وأرقَّاؤكم متواصلون ومتناسبون، نسبُكم من آدم عليه السلام، ودينُكم الإسلام.
(1)
"يعني الإماء" من (ك) و (م).
(2)
في (ك): "المرأة".
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ؛ أي: مَواليهِنَّ، اعتبارُ إذنهم دون مباشرتهم ظاهرٌ في انعقاد النكاح بعبارتهن، إذ لو كانت مباشرتُهم أو مباشرةُ وكيلهم شرطًا لكان المهمُّ ذكرَها لا ذكرَ الإذن؛ لأن ذكره لا يُغني عن ذكرها، وهذا ظاهرٌ، والمنكِر مكابرٌ، وذكرُها يغني عن ذكره.
{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وأَتوا مواليَهُنَّ مُهورهن، وحُذف
(1)
لأنهنَّ وما في أيديهن ملكُ الموالي، فكان الأداء إليهنَّ أداءً إلى الموالي، وقال مالك: ليس للسيد أن يأخذ مهرَ أَمَته
(2)
ويدَعها بلا جَهَاز
(3)
.
{بِالْمَعْرُوفِ} بغيرِ مَطْلِ وضررٍ ونقصانٍ.
{مُحْصَنَاتٍ} عفائفَ.
{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} : غير مجاهرات بالسِّفاح.
{وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} : أخلَّاءَ في السرِّ.
{فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالتزويج.
{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} : بزنًا.
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} يعني: الحرائرَ.
{مِنَ الْعَذَابِ} ؛ أي: ما على الحرائر من الحدِّ وهو الجلدُ؛ لأنَّ الرجم
(1)
في النسخ عدا (م): "وخفف"، والمثبت من (م).
(2)
في النسخ: "مهرًا منه"، والمثبت من المصادر. انظر:"المدونة"(14/ 316)، و"المحرر الوجيز"(2/ 38)، و "تفسير القرطبي"(6/ 235)، و"البحر"(6/ 577).
(3)
في هامش (ح) و (ف): "هذا ما نقله القرطبي في تفسيره عن مالك، وأما الذي ذكره القاضي فالظاهر منه أن يكون المهر كله ملكًا للأمة دون المولى ولا وجه له. منه".
لا يتنصَّف، والعذاب المعهود هاهنا هو الحد، قال تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
كان زناهنَّ في الجاهلية من وجهين: بالسِّفاح وهو بالأجر لكلِّ
(1)
مَن رغب فيها، والمخادَنةِ وهي في صديق لها على الخصوص، وكان الأول يقع إعلانًا والثاني سرًّا.
وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ليس لنفي الحدِّ عنها إذا لم تُنكح، بل لبيانِ أنها بالنكاح لا يزداد حدُّها.
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى نكاحِ الإماء.
{لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} : خاف الإثم الذي قد يقع فيه مِن غلبةِ الشهوة.
والعنت في الأصل: انكسار العظم بعد الجبر، مستعارٌ لكلِّ مشقَّةٍ قادحةٍ؛ لاشتراكهما في التضرُّر والألم، ولا ضررَ أعظمُ من تَبِعة المأثم
(2)
بأفحشِ القبائح.
وقيل: المراد الحد.
أخذ الشافعي بظاهر الآية وقال: لا يجوز نكاح الأمة إلا بثلاث شرائطَ؛ اثنان في الناكح: عدمُ طَول الحرة وخشيةُ العنت، والثالث في المنكوحة وهي أن تكون مؤمنةً، وهذه الأشياء عندنا للاختيار
(3)
لا للاشتراط.
{وَأَنْ تَصْبِرُوا} ؛ أي: صبرُكم عن نكاح الأمة.
(1)
في (ح) و (ف) و (م): "بكل".
(2)
في (م): "مواقعة المأثم".
(3)
في (م): "للاحتياط".
{خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ لأن فيه إرقاقَ الولد، وقال عليه السلام:"الحرائرُ صلاحُ البيوت، والإماءُ هلاكُ البيوت"
(1)
.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ} للزنا بإقامة الحد إذا احتَسَب ذلك.
{رَحِيمٌ} إذ جعل العذاب عليه الحدَّ في الدنيا لا العقوبةَ في الآخرة.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ما هو خفيٌّ عنكم من مصالح دِينكم، أصله: يريد الله أنْ يبيِّن لكم، فزيدت اللام لتأكيد إرادةِ التبيين كما زيدت في: لا أبا لك لتأكيد إضافةِ الأبِ لا لتأكيدِ معنى الاستقبال اللازمِ للإرادة، فإنه لا ينبغي أن يَخطر بالبال في مثل هذا المقال.
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : مناهجَ مَن تَقدَّمَكم من أهل الرشد لتسلكوا طريقهم.
{وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} : ويقبلَ توبتكم إذا رجعتم إليه بسلوك مناهجهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده.
{حَكِيمٌ} فيما شرَع لهم.
(1)
رواه الثعلبي من حديث أبي هريرة، وفي إسناده أحمد بن محمد اليمامي وهو متروك وكذبه أبو حاتم، ويونس بن مرداس قال الحافظ: لا أعرفه. انظر: "الكاف الشاف"(ص: 42).
{وَاللَّهُ يُرِيدُ} تقديمُ اسم الله على الفعل للاختصاصِ مع تقوِّي الإسناد؛ أي: واللّهُ خاصةً يريد إرادةً تامة.
{أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} بسلوك طريقِ الحقِّ التي هداكم إليها.
{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} يعني: الفَجَرةَ أتباعَ الشهوة في كلِّ حالٍ مذموم؛ لأن ذلك ائتمارٌ لها من حيث ما دعت الشهوةُ إليه، أمَّا إذا كان الاتِّباع من حيث العقلُ أو الشرعُ فذلك هو اتِّباعٌ لهما لا للشهوة.
وقيل: اليهود. وقيل: المجوس
(1)
، فإنهم يُحلُّون
(2)
الأخواتِ من الأب
(3)
، وبناتِ الأخ والأخت.
{أَنْ تَمِيلُوا} إلى الباطل عن القصد والحقِّ بموافقتهم على اتِّباع الشهوات.
{مَيْلًا} التنكير للتكثير.
{عَظِيمًا} توصيفه بالعِظَم للمبالغة، فإنه فوق الكثير
(4)
، وهو المناسبُ بمقام التنفير والتحذير.
(1)
في النسخ: "وقيل المجوس وقيل اليهود"، وهو وهم من البيضاوي الذي نقل عنه المؤلف، والمثبت من "الكشاف"(1/ 501)، ومثله في تفاسير البغوي والرازي وأبي حيان وابن عادل والنيسابوري وأبي السعود وحقي والآلوسي.
(2)
في (ك) و (م): "يحللون"، والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لما في المصادر السابقة.
(3)
في (م): "الآباء"، والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لما في المصادر السابقة.
(4)
في (م): "الكبر".
ولقوة إرادته تعالى، وضعفِ إرادتهم، واستلزامِها للمراد، وتخلُّفِ مُرادهم عن إرادتهم، قدَّمه على الفعل وأخَّرهم عنه.
(28) - {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} .
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} بإحلال نكاح الإماء وسائر الرُّخص.
{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} لا يصبر عن الشهوات، ولا يتحمَّل مشاقَّ التكاليف.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بالوجه الغيرِ المشروع، كالشركة والمضارَبة الفاسدتين، والربا والقمار، وأما السرقةُ والغصب ونحوُهما فلا يناسبها قوله:{بَيْنَكُمْ} .
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: ولكنْ كونُ تجارةٍ عن تراضٍ غيرُ مَنْهيٍّ عنه؛ أو
(1)
: اقْصدوا كونَ تجارةٍ.
و {عَنْ تَرَاضٍ} صفةُ {تِجَارَةً} ؛ أي: تجارةٌ صادرةٌ عن تراضي المتعاقدَينِ، وخَصَّ التجارة بالذكر لأن أكثر أسباب الرزق يتعلَّق بها.
(1)
في (ح) و (ف) ت "أي"، وفي (م):"إذ"، وسقطت الجملة من (ك)، والتصويب من "الكشاف"(1/ 502)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 70)، وعنه نقل المؤلف.
وقرئ: {تِجَارَةً} بالنصب
(1)
على (كان) الناقصة، وإضمارِ الاسم؛ أي: إلا أن تكون التجارةُ - أو: الجهةُ - تجارةً.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : مَن كان مِن جنسكم من المؤمنين، فإنهم كنفسٍ واحدةٍ.
أو: ولا تقتلوا أنفسَكم بالبَخْع
(2)
كما يفعلُه بعض الجَهَلة.
أو: بإلقاءِ النفس إلى التهلكة، ويؤيِّده ما رُوي أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه تأوَّله في التيمُّم لخوف البرد، ولم ينكِر عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
أو: بارتكاب ما يؤدِّي إلى قتلِها.
جمع في التوصية بين حفظ النفس والمالِ الذي هو شقيقُها من حيث إنه سببُ قوامها؛ استبقاءً لهم ريثما تستكمل النفوس وتستوفي فضائلها رأفةً بهم ورحمةً؛ كما أشار إليه بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ما نهاكم عمَّا يضرُّكم إلا لرحمته عليكم.
وقيل: معناه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ} يا أمَّةَ محمدٍ {رَحِيمًا} لمَّا أَمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي وعاصم، وقرأ باقي السبعة بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 95).
(2)
البخع بالباء الموحدة والخاء المعجمة والعين المهملة: قتل النفس غمًّا، ومراده به مطلق القتل. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 129).
(3)
رواه أبو داود (334)، وعلقه البخاري قبل الحديث (345).
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} إشارةٌ إلى قتل النفس؛ أي: مَن يُقْدِم على قتل النفس
(1)
.
{عُدْوَانًا وَظُلْمًا} لا اقتصاصًا وعدلًا، والمراد من العدوان: التعدِّي على الغير، ومن الظلم: الإتيان بما لا يستحق.
{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} ) نُدخله إياها، وقرئ بالتشديد مِن صَلَّى، وبفتح النون مِن صَلَاه يَصْليهِ، ومنه: شاةٌ مَصْلِيَّةٌ، و (يَصْليهِ) بالياء على أن الضمير لله تعالى، أو لـ {ذَلِكَ} من حيث إنه سببُ الصُّلِيِّ
(2)
.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا عسرَ فيه ولا صارفَ عنه.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الاجتناب: التَّباعُد، والكبائر: جمع كبيرةٍ، وهي الفعلةُ العظيمة الإثمِ، وقد أضافها إلى جميع المنهيَّات، وقرئ:(كبيرَ) على إرادة الجنس
(3)
.
{نُكَفِّرْ} نَستر {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} من الصغائر، والكبيرةُ والصغيرةُ وُضعت كلُّ واحدةٍ منهما بالقياس إلى صاحبتها، فكلُّ ما كانت المخالفةُ فيها أكثرَ والنهيُ
(1)
"أي من يقدم على قتل النفس" من (م).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 503)، وجميعها من الشواذ، والثانية في "المختصر في شواذ القراءات" (ص:25).
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 25).
عنها أغلظَ كان أكبرَ وبالعكس، والتكفيرُ مبالغةٌ في سترها بجعلها كأنْ لم تكن حيث لا عقاب عليها.
وعن أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه: الكبائرُ سبعٌ: الشركُ بالله، والقتلُ، والقذفُ، والربا، وأكلُ مال اليتيم، والفرارُ من الزحف، والتعرُّبُ بعد الهجرة
(1)
.
وزاد ابن عمر رضي الله عنهما: السحر، واستحلال البيت الحرام
(2)
.
وابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعِ مئةٍ أقربُ؛ لأنَّه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار
(3)
، وفيه ما فيه.
وقيل: أراد بها هاهنا أنواع الشرك؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وفيه نظر، وكأن هذا القائل غافلٌ عن الفرق بين {دُونَ ذَلِكَ} وبين: غير ذلك، ولم يتنبَّه لوجه العدول عن الثاني - مع كونه أخصرَ وأظهرَ - إلى المنزل
(4)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 503)، ورواه الطبري في "تفسيره"(6/ 643) عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة، وعليٌّ يخطب الناسَ على المنبر، فقال:(يا أيها الناس، إن الكبائر سبعٌ .. ) فذكره وزاد: (فقلت لأبي: يا أبهْ، ما التعرّب بعد الهجرة، كيف لَحِقَ هاهنا؟ فقال: يا بنيّ، وما أعظمُ من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سَهمه في الفيء ووَجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه، فرجع أعرابيًّا كما كان؟)
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 503)، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(8)، والطبري في "تفسيره"(6/ 646 - 647)، ورواه أبو داود (2875) من حديث عمير بن قتادة رضي الله عنه مرفوعًا.
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 503). ورواه الطبري في "تفسيره"(6/ 651)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 934). وانظر كلام المؤلف عليه في الحديث التاسع من الأربعين الأولى من أربعينيات المؤلف، المطبوعة مفردة وضمن مجموع رسائله.
(4)
في هامش (ح) و (ف): "وهو الإشارة إلى أن في المقام ما يساوي الشرك فلا يغفر، كإنكار تبعة نبي=
أضاف السيئات إلى المخاطبين؛ لأن المراد الذنوبُ التي فعلوها، ولم يضف الكبائر إليهم؛ لأن المراد منها ما اجتنبوا عنها، وفي عبارة الاجتناب إشارةٌ إلى أن تلك الكبائر مما يَعترض
(1)
للناس في طرق معاشه ومكاسبه ومعاملته، فالاحترازُ عنها لا يخلو عن مشقَّةٍ وكُلفةٍ، فتلك الكفارة جزاؤه، ولو قيل: إن لم تفعلوا، لفاتت تلك الفائدة.
{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} بضمِّ الميم، وهو مصدرٌ، أو مكانُ الإدخال وهو الجنة، وبفتحها
(2)
وهو مكان الدخول، أو مصدر منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديره: فتدخلوا مَدخلًا، حُذف لدلالة الفعل المطاوع عليه.
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} نُهوا عن تَمنِّي ما فضَّل الله به بعضَ الناس على بعضٍ من الجاه والمال والعلم، مع قطع النظر عن كونه ذريعةً إلى التحاسد والتباعد
(3)
؛ لأن ذلك التفضيلَ قسمةٌ من الله تعالى على ما اقتضتْه حكمتُه، فليَرْضَ كلُّ واحد بما قُسم له، علمًا بأنه هو الذي فيه صلاحه.
= من الله شارع، وإنكار ما هو من ضروريات الدين. منه".
(1)
في "ك": (تعرض).
(2)
هي قراءة نافع، وقرأ باقي السبعة بضم الميم. انظر:"التيسير"(ص: 95).
(3)
في النسخ عدا (م): "ذريعة إلى التجارة"، والمثبت من (م)، وجاء في هامشها:"رد للبيضاوي"، وهو كما قال، وانظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 71)، وسنذكر كلامه في التعليق الآتي.
ولا يَذهَبْ عليك أن موجَبَ هذا أن يكون التمنِّي المذكورُ منهيًّا سواءٌ كان مقارِنًا للطلب أو لم يكن، فمَن وفِّق بالتعليل المذكور ثم قال: وأنَّه تَشَهٍّ
(1)
لحصول الشيء له من غير طلبٍ وهو مذموم؛ لأن تَمنِّيَ ما لم يقدَّرْ له معارضةٌ لحكم القدر، وتمنيَ ما قدِّر له بكسبٍ بطالةٌ وتضييعُ حظٍّ، وتمنيَ ما قدِّر له بغيرِ كسبٍ ضائعٌ وباطلٌ
(2)
= لم يكن على بصيرةٍ.
ثم إنَّ قوله: معارضةٌ لحكم القدر، مبناه الغفولُ عما بُيِّن في موضعه من أنه لا حكم للقدر، وإلا يلزمُ الجبرُ وَيبطل التكليف.
ثم إن الشقَّ الأخير في معرض المنع؛ إذ يحتمل أن يكون ما قدِّر له بغير كسبٍ مشروطًا بالتمني فلا يلزم المحذور المذكور
(3)
.
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} بيانٌ لذلك؛ أي: لكلٍّ من الرجال والنساء نصيبٌ مقدَّرٌ على ما تقتضيه الحكمة
(4)
، فلا ينبغي للمفضول أن يتمنى نصيب الفاضل.
(1)
في النسخ عدا (ك): "تشهي"، والمثبت من (ك)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 71)، وهذا نص كلامه:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} من الأمور الدنيوية كالجاه والمال، فلعل عدمه خير، والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنَّه تشه .. ) إلى آخر ما قال مما نقله عنه المؤلف.
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 71 - 72).
(3)
من قوله: "ثم إن الشق الأخير
…
" إلى هنا وقع في النسخ قبل ما سيأتي من قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} ، لكن جرى التنبيه في هامش (م) أن موضعه هنا، وهو الصواب.
(4)
في هامش (ف): "فيه رد لمن قال: فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالحسد والتمني. منه".
وفيه أيضا: "من قال: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض، فكأنه لم يعرف أن المعرف لا ينسب إليه تعالى. منه".
ونَسب الكسبَ إليهم وجَعل النصيبَ منه لأنَّه جَعل سعيَه سببًا لوصول ما قدِّر له إليه.
{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} ؛ أي: لا تتمنَّوا أنصباءَ غيركم من الفضل فإنه طلبٌ للمُحال، ولكن سَلُوا الله من خزائن جُوده التي لا تَنفَدُ
(1)
.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وهو يعلم ما يستحقُّه كلُّ إنسان، فيفضِّل عن علم وتبيان.
رُوي أن أمَّ سلمة قالت ونسوةٌ معها: ليتَ الله كتب علينا الجهاد كما كتب على الرجال، فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لهم، فنزلت
(2)
.
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} {مِمَّا تَرَكَ} صفةٌ لـ (كلٍّ} مبيِّنةٌ له؛ أي: لكلِّ شيء مما ترك الوالدان جعلنا ورَّاثًا يَلُونه ويُحرزونه، و (لكلٍّ) أحدُ مفعولي (جعَل).
أو صفةٌ لمحذوفٍ على أن {جَعَلْنَا مَوَالِيَ} صفةٌ لـ (كلّ)؛ أي: ولكلِّ قوم جعلناهم موالي نصيبٌ مما ترك الوالدان، والراجع محذوفٌ وهو أحد مفعولي
(1)
في النسخ عدا (م): "تتغير"، والمثبت من (م). وجاء في هامش (ف):"فيه رد لمن قال: أي: لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله مثله من خزائنه. منه".
(2)
رواه بنحوه الترمذي (3022)، والإمام أحمد في "المسند"(26736) من طريق مجاهد عن أم سلمة رضي الله عنها، وفيه انقطاع بينهما نبه عليه الترمذي.
(جعل)، و (لكلٍّ) خبر مبتدأ محذوفٍ وهو (نصيبٌ).
ولا يجوز أن يكون المعنى: ولكلِّ ميت جعلنا وارثًا مما تركه، إذ لا يلزم أن يكون لكلِّ ميت وارثٌ فضلًا أن يكون وارثًا من الوالدين والأقربين.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مولى الموالاة
(1)
، كان الحليفُ يورَّث السدسَ من مال حليفه، فنسخ بقوله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ} [الأنفال: 75].
وعند أبي حنيفة: إذا تعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا
(2)
صح وورث بحق الموالاة، خلافًا للشافعي.
وحملُه على الأزواج على أن العقد عقد نكاح يأباه قوله: {أَيْمَانُكُمْ} ، وهو مبتدأ ضمِّن معنى الشرط، وخبره:{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، أو منصوب بمضمرٍ يفسِّره ما بعده؛ كقولك: زيدًا فاضربه، أو معطوف على {الْوَالِدَانِ} ، وقوله:{فَآتُوهُمْ} جملة مسبَّبةٌ عما تقدم، والضمير للموالي.
وقرئ: {عَقَدَتْ}
(3)
بمعنى: عقدت
(4)
عهودَهم أيمانُكم، فحُذف العهود وأُقيم الضمير المضافُ إليه مقامه، ثم حُذف كما حذف في القراءة الأخرى
(5)
.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} تهديدٌ لمن خالَف الأمر.
(1)
قوله: "مولى الموالاة"، كذا وقع في النسخ بالمفرد، وجاء في "الكشاف"(1/ 504)، و"تفسير البيضاوي" (2/ 72):(موالي الموالاة) بالجمع، وهو الأنسب بلفظ الآية.
(2)
في هامش (ف): "الإسلام على يده ليس بشرط. منه". قلت: فيه تعريض بالبيضاوي حيث قال: (وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا
…
).
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي وعاصم، وقرأ باقي السبعة:(عاقدت). انظر: "التيسير"(ص: 96).
(4)
في النسخ: "عاقدت"، والمثبت من "الكشاف"(1/ 505)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 72).
(5)
في (ك): "الأولى".
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يقومون عليهنَّ آمرينَ ناهينَ كالولاة، وعلَّل ذلك بأمرين: مَوهبيٍّ وكَسبيٍّ فقال:
{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بسبب تفضيل الرجال على النساء، والتعبير عنه على وجه الإبهام للإيهام بأن هذا التفضيل من جملة التفضيلات الواقعةِ في القِسْمة الأزلية على مقتضَى الحكمة المذكورِ فيما تقدم بقوله:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وفيه دليلٌ على أن الرجال إنما يستحِقُّون الولاية عليهن بالفضل لا بالتغلُّب
(1)
والقهر، وهو كمالُ العقل وحُسن التدبير، وقوةُ العزم والحزم، ومَزيدُ القدرة على الطاعات وسائرِ الأعمال، ولذلك خُصُّوا بالنبوَّة والإمامة والولاية، وإقامةِ الشعائر، ووجوبِ الجهاد والجمعةِ ونحوها.
{وَبِمَا أَنْفَقُوا} وبسبب ما أخرجوا في نكاحهن.
{مِنْ أَمْوَالِهِمْ} في مهورهن ونفقاتهن، رُوي أن سعد بن ربيع نَشزت عليه امرأتُه فلطَمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكَى، فقال عليه السلام:"لتقتصَّ منه" فنزلت فقال: "أردْنا أمرًا وأرادَ الله أمرًا، والذي أرادَ اللهُ خيرٌ"
(2)
.
(1)
في (ك): "بالتغليب".
(2)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 151) عن مقاتل، ورواه الطبري في "تفسيره"(6/ 886) =
ثم بيَّن أن النساء نوعان، فالفاء في قوله:
{فَالصَّالِحَاتُ} لتفصيل المجمل المفهومِ مما تقدَّم.
{قَانِتَاتٌ} ؛ أي: النساءُ الموصوفاتُ بالصلاح هنَّ المطيعاتُ لله تعالى، القائماتُ بحقوق الأزواج.
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} ؛ أي: لغَيبة الأزواج، والمعنى: بمواجب الغيبة، أي: يحفَظْنَ في غَيبة الأزواج ما يجب عليهن حفظُه من الفروج والأولاد والبيوت والأموال.
وقيل: لما غاب من الحسِّ من أسرارهم، والوجه هو الأول لما روي عنه عليه السلام:"خيرُ النساءِ امرأةٌ إنْ نَظرتَ إليها سَرَّتْكَ، وإنْ أَمرْتَها أطاعَتْكَ، وإذا غِبْتَ عنها حَفِظَتْكَ في مالها ونَفْسِها" وتلا الآية
(1)
.
{بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} بحفظِ الله إياهنَّ، يعني: أن حفظهنَّ للغيب ليس من قِبَلِ أنفسهنَّ، بل ذلك بحفظِ الله إياهنَّ لذلك.
وقيل: [بحفظ الله إياهن] بالأمر بحفظ الغيب والحثِّ عليه بالوعد والوعيد.
ويَرِدُ عليه: أنه لا اختصاص بحفظ الله تعالى بهذا المعنى بالنوع الأول منهنَّ، ومن رام الإصلاح بزيادة قوله: والتوفيقِ له
(2)
، لم يَدْرِ أن الذي زاده وجهٌ مستقلٌّ، ومعنًى تامٌّ.
= عن الحسن مختصرًا دون ذكر الأسماء.
(1)
رواه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(8912)، والطبري في "تفسيره"(6/ 693)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه أبو داود (1664).
(2)
الذي رام الإصلاح بهذه الزيادة هو البيضاوي. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 73)، وما تقدم بين معكوفتين منه.
وقرئ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} بالنصب
(1)
على أنَّ (ما) موصولةٌ، أي: بالأمر الذي يحفظُ حق الله وأمانةَ الله، وهو التعفُّفُ والتحصُّنُ والشفقةُ على الرجال.
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} عصيانهنَّ وترفُّعَهنَّ
(2)
عن مطاوعة الأزواج، من النَّشز
(3)
.
{فَعِظُوهُنَّ} قال الإمام أبو منصور: العظَةُ كلامٌ يُلين القلوبَ القاسية، ويرغِّب الطبائعَ النافرةَ، وهو بتذكير العواقب
(4)
.
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ؛ أي: إذا لم ينفع الوعظُ وظهر النشوزُ فأدِّبوهن بالهجر، وهو القطع، والمضاجع: جمع مَضجعٍ، وهو موضعُ وضعِ الجَنْب للنوم، ولم يُرِدْ به تبعيدَها عن مضجعه، ولذلك لم يقل: عن المضاجع، بل أراد أن يُوليَها ظهرَه وهما في مضجعٍ
(5)
واحدٍ، إعلامًا بالعتب والمؤاخذة
(6)
.
{وَاضْرِبُوهُنَّ} ؛ أي
(7)
: إذا لم تقع الكفايةُ بالهجران فأدِّبوهن بالضرب لإصرارهن على النشوز، وهو ضربٌ غير جارحٍ ولا خادشٍ ولا شائنٍ.
وما ذُكر من الترتيب مع النظم بالواو مستفادٌ من قرينة المقام وسَوقِ الكلام؛ للرفق في إصلاحهن وإدخالهن تحت الطاعة
(8)
.
(1)
هي قراءة أبي جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 249).
(2)
في (م): "وترفعن".
(3)
بسكون الشين وفتحها. انظر: "روح المعاني"(6/ 13).
(4)
انظر: "تأويلات أهل السنة"(3/ 162).
(5)
في (ك): "موضع".
(6)
في (ك): "والموجدة".
(7)
في (م) و (ك): "يعني".
(8)
"الطاعة" من (ك) و (م).
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} : فلا تتعرَّضوا لهن بالأذى والتوبيخ، واجعلوا ما كان منهنَّ كأنْ لم يكن بعد الرجوع إلى الطاعة وتركِ النشوز.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} يعني: إنكم تَعْصونه تعالى مع علوِّ شأنه وكبرياءِ سلطانه، ولا يؤاخذكم بأول الحال، ويدعو إلى التوبة ويقبل إذا تاب، ولا يؤاخذُ بما قد كان، والعبدُ أحقُّ بذلك.
وفي ذكر علوِّه تعالى وكبريائه تحذيرٌ للعبد، ومنعٌ عن مجاوزة الحد فيما يقيمه عليها على
(1)
وجه التأديب.
* * *
{وَإِنْ خِفْتُمْ} الخطاب لوُلاة الأمر.
{شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} خلافًا بين المرأة وزوجها، أضمَرهما قبل الذِّكر لذكر ما يدلُّ عليهما، وأصل الشقاق: أن يصير أحدهما في شقٍّ والآخَرُ في شقٍّ بالمخالَفة والمباعَدة، وإضافتُه إلى الظرف إمَّا لإجرائه مجرى المفعول كقوله: يا سارقَ الليلة، أو الفاعل كقولهم: نهارُه صائمٌ.
{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} متى اشْتبَه عليكم حالُهما؛ لتبيين
(2)
(1)
في (م): "من".
(2)
في (ح) و (ك)(م): "ليتبين"، وفي (ف):"لتبين"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 73) والكلام منه.
الأمر أو إصلاح
(1)
ذات البين، رجلًا عدلًا مرضيًا به يصلُح للحكومة والإصلاح من أهله، وآخَرَ من أهلها؛ لأن الأقارب من الطرفين أعرف ببواطن الأحوال، وأَطلَبُ للصلاح، وتَسكُنُ إليهم نفوسُ الزوجين، ولا يَحتشِمان من إبراز ما في ضمائرهما من الحبِّ والبغض، وإرادةِ الصحبة والفرقة، وهذا على وجه الاستحباب، فلو نصِّبا من الأجانب جاز.
وقيل: الخطاب للأزواج والزوجات، ولا يساعدُه نظمُ الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
واختُلف في أنهما يليان الجمع والتفريق بينهما بحسَب ما رأَيا، أو لا إلا بإذن الزوجين؟ والأصح أن ذلك إليهما، وما جُعلا حكَمين إلا وإليهما بناءُ الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما، وبه استُدل على جواز التحكيم.
{إِنْ يُرِيدَا} ؛ أي: الحكمان {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} لذات البَيْنِ {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ؛ أي: أوقع الله بحُسن سعيهما الموافقةَ بين الزوجين.
وقيل: الضميران كلاهما للحكَمين؛ أي: إنْ قصدا
(2)
الإصلاح يوفِّق الله بينهما لتتَّفق كلمتهما، ويحصل مقصودُهما.
وقيل: للزوجين؛ أي: إن أرادا الإصلاح وزوالَ الشقاق أوقع الله بينهما الأُلفة والوفاق.
وفيه تنبيهٌ على أنَّ مَن أَصلح نيَّته فيما تحرَّاه أَصلح الله مُبتغاه.
(1)
في (م): "وإصلاح". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي".
(2)
في (ح) و (ف) و (ك): "أي قصة"، وهو تحريف ظاهر، وفي (م):"أي قصدا"، وقال في الهامش:"لعل لفظ إن ساقط". والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 73) والكلام منه.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} بالظواهر والبواطن، فيعلمُ كيف يُرْفَعُ الشقاقُ ويُوْقَعُ الوفاق به.
إنما ذكر إرادة الإصلاح والتوفيق بينهما، وأهمل ذكر التفريق - مع كون الحكمين منصوبَين لِمَا رأيا من الأمرين جميعًا - حثًّا لهما وبعثًا للزوجين على الوفاق والجمعية والألفة، وردعًا لهما عن الخلاف والتقاطع والفُرقة، وترجيحًا للأول على الثاني.
* * *
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} من الأشياء في العبادة، أو: شيئًا من الإشراك جليًّا أو خفيًّا.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ؛ أي: وأَحْسِنوا بهما إحسانًا.
{وَبِذِي الْقُرْبَى} بكلِّ مَن بينكم وبينه قرابةٌ، عَطَف بتكرير الجارِّ ليُفيد أن إحسان ذي القربى بالأصالة لا بالتبعيَّة.
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الذي قَرُبَ جوارُه، وليس له اتصالٌ بنسب، وإلا لَمَا فُصِل بينه وبين ذي القربى بالأجنبيِّ.
وقرئ: (الجارَ ذي القربى) نصبًا على الاختصاص
(1)
؛ تعظيمًا لحقِّ الجوار.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القرآن"(ص: 27)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 454)، و"الكشاف"(1/ 509)، و" البحر" (7/ 54). ووقع في النسخ عدا (ك):"ذي القربى"، والمثبت من (ك) والمصادر.
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} : الذي بَعُد جِوارُه ولا قرابةَ له، قال النبيُّ عليه السلام:"الجيرانُ ثلاثةٌ: جارٌ له حقٌّ واحد وهو حقُّ الجِوار وهو الجارُ المشرِك، وجارٌ له حقَّان حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام وهو الجار المسلم، وجار له ثلاثةُ حقوق حقُّ الجار وحقُّ الإسلام وحقُّ القرابة وهو الجارُ المسلمُ القريب"
(1)
.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} هو الذي
(2)
صَحِبَك بأنْ حصَل بجنبك: إمَّا رفيقًا في سفرٍ، أو شريكًا في تعلُّمِ علمٍ أو حِرفة.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر، والضيفُ في حكمه.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من الرقيق.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} تيَّاهًا يتكبَّر عن إكرام أقاربه وجيرانه وأصحابه ومماليكه فلا يلتفتُ إليهم، وقد سبق أنَّ عدم المحبة عبارةٌ عن البغض.
{فَخُورًا} يتفاخر عليهم.
* * *
(1)
رواه البزار (1896 - كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنه، وفي إسناده عبد الله بن محمد الحارثي، وهو وضاع كما في "مجمع الزوائد" (8/ 300). ورواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص: 40 - 41)، والبيهقي في "الشعب"(9560)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي إسناده مجموعة من الضعفاء، لكنهم غير متهمين بالوضع كما قال البيهقي.
(2)
في (ك): "من".
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بما مُنحوا به
(1)
{وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ} أمرَ إرشاد {بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : الغنى والعلم.
بدلٌ من قوله: {مِنْ كَانَ} ، أو صفةٌ لـ {مَنْ} قال:{مُخْتَالًا} حملًا على لفظ {مَنْ} ، ثم قال:{الَّذِينَ} حملًا على المعنى، أو نصبٌ على الذمِّ، أو رفعٌ عليه؛ أي: هم الذين، أو مبتدأٌ خبره محذوف، كأنه قيل: الذين يبخلون ويأمرون ويكتمون أحقَّاءُ بالمقت والتعذيب.
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} يُهانون به في الآخرة غايةَ الإهانة
(2)
، وهذا يُستفاد من جَعل الوصف أمرًا ظاهرَ اللزوم للموصوف بحيث لا فائدةَ في ذكره إن لم يُحمل على المبالغة
(3)
، والمعنى: أعتدنا لهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47].
والعدول عن المضمَر إلى الظاهر للإشعار بأنَّ أمرهم الناسَ بالبخل، وإخفاءَهم ما أنعم الله تعالى عليهم من المال وسعةِ الحال، أثرُ الكفر.
وفيه تنبيهٌ على أن الكفران لنعمة الله تعالى من وادي الكفر، قال طاوسٌ: البخلُ هو أن يبخل الإنسان بما في يده، والشحُّ هو أن يَشحَّ بما في أيدي الناس، فهم جامعون بين البخل والشح.
(1)
في (ك): "منه".
(2)
وهذا التعبير شائع في سائر الألسنة أيضًا.
(3)
في (ح) و (ف): "البالغ".
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} ؛ ليقال: ما أسخاهم وما أَجْوَدهم، لا ابتغاءَ وجه الله.
عطفٌ على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ، وإنما شاركهم في الذمِّ والوعيد؛ لأنَّ البخل والسَّرَفَ - الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي - من حيث إنها طرفُ إفراطٍ وتفريطٍ سواءٌ في القبح واستجلابِ الذم.
أو مبتدأ خبره محذوفٌ مدلولٌ عليه بقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ} .
{وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ليتحرَّوا بالإنفاق مَراضِيَه وثوابَه، ونفقةُ مَن لا يؤمن لا تكون لرضا اللهِ، بل تكون لتزيين الشيطان، ولذلك ختم الآيةَ بقوله:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} حيث حملهم على البخل والرِّياء وكلِّ رذيلة، أو حين يُقرَن بهم في النار فيكون وعيدًا لهم.
في {فَسَاءَ} ضميرٌ مبهَمٌ {قَرِينًا} تفسيرُه وبيانُه، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ؛ أي: الشيطان.
* * *
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} : وأيُّ تَبعةٍ ووبالٍ في الإيمان والإنفاق في سبيل الله، والمرادُ: الذمُّ والتوبيخ على الجهل بمكان المنفعة
(1)
،
(1)
في النسخ عدا (م): "النفقة"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 74).
والاعتقادِ في الشيء على خلافِ ما هو عليه، وإيهامٌ أنهم في الاعتياد بالرذائل والشَّغَف بالكفر والقبائح كأنهم يعتقدون أنهم مُثابون على ذلك، ومُعاقَبون على أضدادها من الفضائل والإيمان والمحاسن، وتحريض على الفكر
(1)
في طلب الجواب لعله يؤدِّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة، والعوائد
(2)
الجميلة، وتنبيهٌ على أنَّ المدعو إلى أمر لا ضررَ فيه
(3)
ينبغي أن يجيب إليه احتياطًا، فكيف إذا تضمَّن المنافع.
ولمَّا قَصد في الآية الأولى إلى ذمِّهم بالإنفاق رياءً لكونهم غيرَ مؤمنين، قدَّم ذكره وجعل قوله:{وَلَا يُؤْمِنُونَ} في موضع الحال تنبيهًا على أن ذلك منهم لكونهم غيرَ مؤمنين، ولمَّا حثَّهم في هذه الآية على ما يجب أن يتَّخذوه ابتدأ بذكر الإيمان تنبيهًا على أن إنفاقهم غيرُ معتدٍّ به إلا بعد الإيمان.
{وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} أي: أنشأهم على علمه بأنهم لا يؤمنون؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تَضرُّه
(4)
.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ؛ أي: لا يَنقصُ من الثواب الموعود ولا يَزيدُ في
(1)
في (ح) و (ف): "الكفر"، وهو تحريف شنيع.
(2)
في (ك): "والفرائد". ووقع قبلها في (ح) و (ف): "وتنبيه"، ولا معنى لها هنا، وليست في "تفسير البيضاوي"(2/ 74)، والكلام منه.
(3)
في (ح) و (ت) و (ك): "وتنبيه على المدعو إلى الله لا حذر فيه"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي".
(4)
في هامش (ف): "ولو قصد الوعيد لهم كما زعمه القاضي لذكر تعلق العلم بأعمالهم لا بهم. منه".
العقاب المعهود أصغرَ شيءٍ كالذرَّة، وهي النملةُ الصغيرة، ويدلُّ عليه قراءةُ (مثقالَ نملة)
(1)
.
والمثقال: مِفعالٌ من الثِّقَل، وفيه تنبيهٌ على أن الأعمال صورٌ مثاليةٌ لها ثقلٌ وخفَّةٌ، وإيماءٌ إلى حكمة الميزان
(2)
.
{وَإِنْ تَكُ} مثقالُ ذرَّة {حَسَنَةً} وتأنيثُ الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى الذرة، وحُذف النون من غيرِ قياسٍ تشبيهًا بحروفِ العلة.
وقرئ: {حَسَنَةً} بالرفع على كان التامَّة
(3)
.
{يُضَاعِفْهَا} : يضاعِفْ ثوابَها، وقرئ:{يُضَاعِفْهَا}
(4)
والمعنى واحد.
{وَيُؤْتِ} ؛ أي: صاحبَها.
{مِنْ لَدُنْهُ} من عنده تفضُّلًا
(5)
، وفيه تنبيه على أنَّ إطلاق الأجر عليه بحسَب الوعد لا ينافي كونَه تفضُّلًا في الحقيقة.
{أَجْرًا عَظِيمًا} ما وصفَه الله تعالى بالعظم فمَن يعرفُ مقداره؟ مع أنه سمَّى الدنيا وما فيها قليلًا، وسمَّى هذا الفضل عظيمًا.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 26).
(2)
في هامش (ف): "وأما الإيماء إلى [
…
] ذكره القاضي فوجهه غير ظاهر. منه". وما بين المعكوفتين كلمة لم تجود، والذي قاله القاضي هنا:(والمثقال مفعال من الثقل، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه).
(3)
هي قراءة ابن كثير ونافع، وقرأ باقي السبعة بالنصب. انظر:"التيسير"(ص: 96).
(4)
هي قراءة ابن كثير وابن عامر، وقرأ باقي السبعة:{يُضَاعِفْهَا} .
انظر: "التيسير"(ص: 81).
(5)
في هامش (ف): "من زاد على هذا قوله: زائدًا على ما وعد في مقابلة العمل، فقد احتاج في ارتكاب التعسف في توجيه الأجر. منه". والمقصود البيضاوي.
(41) - {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} .
{فَكَيْفَ} حالُ هؤلاء الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم.
{إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السالفة.
{بِشَهِيدٍ} يَشهدُ عليهم بما فَعلوا وهو بينهم.
و {إِذَا} إشارة إلى وقت المجيء بالرسل للشهادة، والعامل في الظرف مضمونُ المبتدأ والخبر من هول الأمر وتعظيمِ الشأن.
{وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {عَلَى هَؤُلَاءِ} ؛ أي: هذه الأمَّةِ {شَهِيدًا} ؛ لقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
* * *
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} ؛ أي: خالفوا أمره ونهيه.
{لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} بيانٌ لحالهم حينئذ؛ أي: يودُّ الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول في ذلك الوقت ويتمنَّون أنْ تسوَّى بهم الأرض بأنْ يكونوا من جملةِ الأرض ترابًا، قال الله تعالى:{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] وهذا لأن الأرض إنما تسوَّى بشيء منها
(1)
.
{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} عطفٌ على {يَوَدُّ} ؛ أي: يَودُّون ذلك ولا يقدِرون كتمانَه؛ لأن جوارحَهم تشهدُ عليهم بذلك.
(1)
في (م): "منهما".
وقيل: الواو للحال؛ أي: يودُّون أن تُسوَّى بهم الأرض، وحالُهم أنهم لا يكتمون من الله حديثًا ولا يَكْذِبونه بقولهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؛ إذ رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهدُ عليهم جوارحُهم، فيَشتبِهُ الأمر عليهم، فيتمنَّون أن تُسوَّى بهم الأرض.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ؛ أي: لا تَدْنوا إلى مواضع الصلاة - وهي المساجدُ - حالةَ السُّكر؛ لعطف قوله: {وَلَا جُنُبًا} عليه، وهو نهيُ الجنُب عن قُربان المساجد؛ لأنَّ الاستثناء بقوله:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} في حقِّ المساجد دون الصلاة، ولا يجوز أن يكون معناه إلا في السَّفر؛ لأن السفر ليس بمرخَّصٍ فيه، والمصيرُ إلى أن المعنى: إذا لم يَجد الماء وتَيمَّمَ
(1)
، ارتكابٌ لتعسُّفٍ ظاهرٍ.
ثم إنه على تقدير اعتبار الشرط المذكور لا يبقى فرق بين المسافر والمقيم.
والنهيُ عن قُربان المساجد حالةَ السُّكر نهيٌ عن الصلاة في تلك الحال على أبلغِ وجهٍ بطريق الدلالة؛ لأن حرمةَ موضعها لحُرمتها، ثم إنَّ النهي ليس عن الصلاة لأنها عبادةٌ لا يُنهى عنها، بل هو نهيٌ عن الإفراط في الشرب في وقتٍ يلزمُه أداء
(1)
قائله البيضاوي في "تفسيره"(2/ 76). ولفظه: (أي: لا تقربوا الصلاة جنبًا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم).
الصلاة حالةَ السُّكر فما ذُكر ينطبق على سببِ النزول دلالةً وإنْ لم ينطبق عليه
(1)
عبارةً، وهو ما رُوي أنَّ عبد الرحمن بنَ عوفي رضي الله عنه صنع مائدةً ودعا نفرًا من الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمرُ مباحةً، فأكلوا وشربوا حتى ثَملوا، وجاء وقتُ صلاة المغرب، فتقدَّم أحدهم ليصلِّيَ بهم، فقرأ: أعبدُ ما تَعبدون، فنزلت
(2)
.
وقرئ: (سَكَارَى) بالفتح، و:(سَكْرَى) على أنه جمعٌ كـ: هلكى، أو مفردٌ بمعنى: وأنتم قوم سَكْرَى
(3)
، و:(سُكْرَى) كحُبْلَى على أنه صفةُ الجماعة
(4)
. والسُّكْر من السَّكْر وهو السَّدُّ.
{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} بيَّن
(5)
أن السكر المانع هو أن يصيرَ بحالٍ لا يَعلم ما يقول.
{وَلَا جُنُبًا} عطفٌ على قوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إذ الجملة مع الواو في موضع النصب على الحال
(6)
، والجنب: الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، والواحد والجمع؛ لأنَّه يجري مجرى المصدر.
(1)
في (م) و (ك): "عليها".
(2)
رواه أبو داود (3671)، والترمذي (3026)، من حديث علي رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(3)
في النسخ: "سكارى"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(1/ 514)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 75).
(4)
انظر هذه القراءات في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 26)، و"المحتسب"(1/ 188)، و"الكشاف"(1/ 514)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 75).
(5)
في (ف): "يبين".
(6)
في هامش (ح) و (ف): "المفرد المنصوب إذا وقع موقع الجملة لم يصح معه الواو فدل على أنه واقع موقع الجملة والواو جميعًا. منه مذكور في التيسير".
{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} متعلِّقٌ بقوله: {وَلَا جُنُبًا} استثناءٌ من أعمِّ الأحوال؛ أي: لا تقربوا المسجد في عامةِ الأحوال إلا في حالِ العبور، أو صفةٌ لقوله:{جُنُبًا} ؛ أي: جنبًا غيرَ عابري سبيل.
قيل في نزوله: إن رجالًا من الأنصار كانت أبوابُهم في المسجد، وكانت
(1)
تصيبهم جنابةٌ ولا ماءَ عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فأنزل الله:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}
(2)
.
وإضافةُ العابر إلى السبيل لتخصيصِ الرُّخصة بحالِ الضرورة، بأنْ لا يكونَ له سبيلٌ إلا في المسجد، ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز له المرورُ في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق
(3)
.
{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غايةُ النهي عن القربان حالةَ الجنابة، والتيمُّمُ بدلٌ عنه، فذكرُ الاغتسال يُغني عن ذكره.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} مرضًا
(4)
يمنعُه عن استعمال الماء حقيقةً؛ كما إذا لم يكن ماءٌ، ولا يقدر على الحركة، وليس عنده مَن يأتي به، أو حُكمًا كما إذا كان مرضُه يشتدُّ باستعمال الماء أو يمتدُّ.
{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ؛ أي: مسافرين، أراد به البُعدَ من العُمران ومواضعِ الماء، ولم يُردْ به كمال مدةِ السفر، ولا مسافرًا يجد الماء.
(1)
في (م) و (ك): "فكانت".
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 514)، ورواه الطبري في "تفسيره"(7/ 57) عن يزيد بن أبي حبيب، وهو مرسل.
(3)
في هامش (ح) و (ف): "ومن لم ينتبه لهذا زعم أن ظاهره ينطبق على قول الشافعي. منه".
(4)
في (ف): "مريضًا".
ولمَّا ثبت أنَّ الحكم لم يتعلَّق بعين المرض والسفر بل بمعنًى فيهما، وهو العجز عن استعمال الماء، وإنما علِّق بهما ظاهرًا لأن العجز عنه يقعُ فيهما غالبًا، ثبت أن الحكم كذلك في كلِّ موضع تحقَّق العجزُ، وظهر به صحةُ قول أبي حنيفة في إجازة التيمُّم للجنابة في المِصر إذا عَدِمَ الماءَ الحارَّ، وخاف أن يضرَّه الاغتسالُ بالماء البارد.
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الغائط: المكان المطمئنُّ من الأرض، وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة قبل اتِّخاذ الكنيف في البيوت، والمجيءُ منه كنايةٌ عن الحَدَث، ولمَّا كان الاجتماعُ في السفر مندوبًا - بخلافِ التغيُّطِ فإن المندوب فيه الانفرادُ - غيَّر الأسلوب، ولم يقل: أو جئتم من الغائط.
وأمَّا قولُه: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فعلى طريقةِ مقابَلة الجمع بالجمع، ففيه أيضًا رُوعي
(1)
ما هو المندوب.
وقرئ: {لَمَسْتُمُ}
(2)
؛ أي: جامعْتُم فاجتَنبتُم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الملامسةُ واللمس والمباشرة والإفضاء كناياتٌ عن الجماع
(3)
.
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} حقيقةً أو حكمًا؛ كما إذا يكن مقدورَ الاستعمال لمانعٍ، أو يكون في استعماله نوعُ حرجٍ لضررِ بدنٍ
(4)
أو مالٍ.
بقي هاهنا إشكال، وهو أن الجمع بين الأمور المذكورة في الشرط المرتَّب عليه جزاءٌ واحدٌ وهو الأمر بالتيمم عند فقدان الماء، مع أن سببية الأوَّلَينِ إنما هي
(1)
في (ف): "رعي".
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ باقي السبعة:{لَامَسْتُمُ} . انظر: "التيسير"(ص: 96).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(7/ 64 - 67)، وابن المنذر في "الأوسط"(1/ 116).
(4)
في (ح) و (ك): "لضرورة بدن"، وفي (ف): "لضرورة بدون.
للترخُّص، والثالثِ لوجوب الوضوء، والرابعِ لوجوب الغسل، وليس الأمر بالتيمُّم معنًى واحد
(1)
يعم الكل.
ووجهُ حلِّه: هو أن القصد إلى الترخُّص في التيمُّم بالتراب مَن وجَب عليه التطهير ولم يجد الماء، فقيدُ عدم الوجدانِ راجعٌ إلى الكل، وقيدُ وجوب التطهير المكنيِّ عنه بالمجيء من الغائط والملامسةِ اللَّذينِ هما من أغلب أسباب وجوب التطهير معتبرٌ في الكلِّ حتى المرضى والمسافرين
(2)
، وذكرُهما تخصيصٌ قبل التعميم بناءً على زيادةِ استحقاقهما للترخيص بغلبة المرض والسفر على سائر أسباب الرخصة، فكأنه قيل: إن جاء أحد منكم
(3)
من الغائط أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء خصوصًا المرضى والمسافرين فتيمَّموا، ووجهُ سببيَّةِ مضمونِ الشرط لمضمونِ الجزاء ظاهرٌ.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} التَّيمُّم: القصدُ، والصَّعيد: وجهُ الأرض، والطيِّب: الطاهرُ.
ويجوز التيمُّم بكلِّ ما كان من أجزاء الأرض عند أبي حنيفة؛ لَزِقَ بالكفِّ أو لم يَلْزقْ؛ عملًا بإطلاقِ النص.
وعند محمدٍ كذلك لكنْ إذا لزق بالكفِّ، لقوله في المائدة:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]؛ أي: من بعضه.
وعند أبي يوسف: الصعيدُ هو الترابُ والرمل.
(1)
في النسخ عدا (م): "واحد"، والمثبت من (م).
(2)
في هامش (ف): "لا بد من هذا التعميم ليفيد الترخيصُ المريضَ الواجدَ للماء العاجز عن الاستعمال، ويصح أن المرض من الأسباب الغالبة، وإلا فهو باعتبار العجز عن الحركة والوصول إلى لماء من الأسباب النادرة لا غالب. منه".
(3)
في (ف): "أحدكم".
وعند الشافعيِّ: هو التراب لا غير، والطيِّب: المنبِتُ من الأرض عنده.
واللائق بموضع الطهارة إنما هو المعنى الأولُ
(1)
.
وشرط (مِن) التبعيضيةِ - وهو صحة وضع (بعض) موضعَها - منتَفٍ هاهنا؛ إذ لو قيل: فامسحوا وجوهكم وأيديكم بعضَه، أفاد أن المطلوب جعلُ الصعيد ممسوحًا والعضوِ ماسحًا
(2)
، وهو فاسدٌ بالاتِّفاق
(3)
.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}
(4)
لأنَّه بدلٌ
(5)
عن الوضوء، فيتقدَّر بقَدْرِ
(6)
الأصل، ولأنه عليه السلام تيمَّم ومسح يديه إلى مرفقيهِ.
ومسحُ الشيء: إمرارُ اليد على الشيء
(7)
، تقول: مسحتُ برأسه، ومسحتُ رأسَه، بمعنًى.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} إشارةٌ إلى وجه الترخُّص والتيسير؛ لأن مَن كانت عادته العفوَ عن الخطَّائينَ والغفرانَ عن المذنبين فلَأنْ يكونَ ميسِّرًا غيرَ معسِّر أَحْرَى.
(1)
في هامش (ف): "فيه تنبيه على أن التمسك لمحمد لا للشافعي؛ لأن الضمير للصعيد لا للتراب، والله أعلم بالصواب. منه".
(2)
قوله: "ماسحًا" جاء في (م) بدلًا منه: "من آلته". وسقط من (ك).
(3)
في هامش (ف): "رد للقاضي، حيث فسر الطيب بالطاهر ثم زعم أن الآية حجة للشافعي. منه".
(4)
في جميع النسخ جاءت الآية هكذا: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ) وهذه آية المائدة، والصواب المثبت حيث إن المؤلف بصدد شرح آية النساء.
(5)
في (ح): "خلف"، وفي (ك):"خلق".
(6)
في (ح) و (ف): "بتقدير".
(7)
في (ح) و (ف) و (ك): "إمرار الماء إليه على الشيء".
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا} كلمةُ تعجُّبٍ عن أمر قد بلغ المخاطَبَ، فيُخْرجُ مُخرجَ التذكير، أو لم يبلغه فيُخرج مُخرج التعليم، من رؤية البصر؛ أي: ألم تنظُرْ إليهم، أو القلب وتعديتُه بـ (إلى) لتَضمُّنه معنى الانتهاء.
{نَصِيبًا} : حظًّا، وتنكيره يَحتمِل التعظيمَ والتحقير.
{مِنَ الْكِتَابِ} ؛ أي: التوراة، أو جنسِ الكتب السماوية
(1)
، و {مِنَ} للتبعيضِ أو للبيان.
{يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ} : يستبدِلون اليهودية التي هم عليها بالهدى الذي
(2)
هو دينُ الإسلام؛ لتَمكُّنهم منه بعد ما تبيَّن لهم من علم الكتاب أنه الحقُّ.
{وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا} أيها المؤمنون {السَّبِيلَ} : سبيلَ الحق، وتَنخرِطوا في سِلكهم.
* * *
(45) - {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} .
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ} منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} أخبرهم بعداوتهم وما يريدون بهم تحذيرًا
(3)
إياهم.
(1)
في هامش (ح) و (ف): "وكون المراد أخبار اليهود لا ينافي إرادة جنس الكتب، على أن تلك الإرادة غير متعينة. منه".
(2)
في (م): "بالذي"، وفي (ك):"الذي"، وليس فيهما:"بالهدى".
(3)
في (ح) و (ف): "أخبر بعداوتهم
…
تحذيره".
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمركم {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} ينصركم عليهم، فثِقوا عليه واكتفُوا به عن غيره. والباء تزاد في فاعل (كفى) لتوكيد الاتصال الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ.
* * *
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} بيان لـ {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} ؛ لأنَّه متناوِلٌ لليهود والنصارى، والجمل الثلاث توسَّطت بينه وبين المبيَّن على سبيل الاعتراض: الأولى للتصريح بما أومن
(1)
إلى سببه لأن المخالفة في الدين سببُ العداوة، والباقيتان لتشجيعهم وتقوية قلوبهم في عدم الميَلان بأعدائهم، ولذلك كرَّر {وَكَفَى بِاللَّهِ} لتقرير معنى كفايةِ الله تعالى عنهم في تقوُّلهم، وأن ولاية الله تعالى بالانفراد كافيةٌ لهم كما أن نصرةَ الله تعالى وحدها كافية.
أو بيان لـ (أعدائكم) وما بينهما اعتراضٌ.
ويجوز أن يكون صلةً لـ {نَصِيرًا} ؛ أي: ينصركم من الذين هادوا؛ كقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77]، أو كلامًا مبتدأً على أنَّ {يُحَرِّفُونَ} صفةُ مبتدأ محذوفٍ تقديره: من الذين هادوا قوم.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} ؛ أي: يُميلونه.
(1)
في (م): "أوقن".
{عَنْ مَوَاضِعِهِ} التي وضعه الله تعالى فيها، بإزالتهِ عنها وإثباتِ غيره فيها، أو يؤوِّلونه على ما يشتهون فيُميلونه عمَّا
(1)
أنزل الله فيه.
والكَلِمُ والكَلِمةُ كالتَّمْرِ والتَّمْرةِ، على أنه اسمُ جنس فُرِّق بينه وبين واحدِه بالتاء، لا على أنه جمع، ولهذا ذكِّر الضمير
(2)
، وأمَّا جمع المواضع فلتكرُّره في التوراة
(3)
في مواضعَ بحسب الجنس.
وقرئ: (الكِلْمَ) بكسر الكاف وسكونِ اللام على أنه جمعُ كِلْمةٍ تخفيفَ كَلِمةٍ
(4)
، وتذكير الضمير على هذه القراءة لإرادةِ جنس الكَلِم.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولَك {وَعَصَيْنَا} أمرَك
(5)
.
{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} ؛ أي: مدعوًّا عليك بـ: لا سمعتَ لصممٍ أو موت، أو: اسمع غيرَ مُجابٍ إلى ما تدعو إليه، أو: اسمع غير مسمَعٍ كلامًا ترضاه، أو: اسمع كلامًا
(6)
غير مسمَعٍ إياك لأن أُذنك تنبو عنه، فيكون مفعولًا به.
وأمَّا ما قيل: واسمع غيرَ مسمعٍ مكروهًا
(7)
، من قولهم: أسمعه فلان، إذا
(1)
في (م): "على ما".
(2)
في (م) و (ك): "ضميره".
(3)
في (ك): "التورية".
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 26)، و"الكشاف"(1/ 517).
(5)
في هامش (ف): "قد صرحوا بالكفر والعصيان في قولهم: عصينا، وأما بالشتم والذم فلم يصرحوا خشية منه وخوفًا من بطش المؤمنين.
منه".
(6)
في (ك): "كلام"، وسقطت من باقي النسخ، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(1/ 517)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 77).
(7)
في (ف): "مكرهًا"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب. انظر المصدرين السابقين. وجاء في =
سبَّه، فيأباه السياق، وكونه على قصد النفاق لا يتحمله السياق لأنهم بقولهم وعصينا أظهروا الخلاف والشقاق.
{وَرَاعِنَا} : انظُرنا نكلِّمْك ونفهمْ كلامك.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} : فتلًا بها وصرفًا للكلام إلى ما يُشبِهُ السبَّ، حيث وضعوا (راعنا) موضع (انظُرنا)، و (غيرَ مسمَعٍ) موضع: لا أُسمعتَ مكروهًا
(1)
.
{وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} كانوا يقولون له عليه السلام: السَّام عليك، فيخرجون ويقولون:{لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]؛ أي: لو كان هو على الدِّين الحقّ
(2)
فلماذا [لا]
(3)
يعذِّبنا الله بهذا؟
{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} {أَنَّهُمْ قَالُوا} فاعلُ فعلٍ محذوف دلَّ عليه معنى الثبوت والتحقُّق
(4)
في (إنَّ)؛ أي: ولو ثَبتَ أنهم قالوا، يعني: ولو ثبت قولُهم هذا مكان ما قالوا.
والضمير المستكنُّ في {لَكَانَ} يرجع إلى هذا القول.
{خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} : وأعدل.
{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} : خذلهم الله، وأبعدهم عن الهدى.
= هامش (م): "رد للبيضاوي"، والواقع أنه رد لكليهما أعني الزمخشري والبيضاوي، فإن الثاني إنما أخذه من الأول، لكنه زاد عليه قصد النفاق الآتي ذكره.
(1)
في هامش (ف): "وأما الاستهزاء والسخرية فليس من قبيل الطعن في الدين. منه".
(2)
"الحق" من (م) و (ك).
(3)
ما بين معكوفتين زيادة يقتضيها السياق، وقد تمت الإشارة إليها في هامش (م) حيث جاء فيه:"لعل لفظ لا ساقط".
(4)
في (ف): "والتحقيق".
{بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرهم.
{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} : إلا إيمانًا قليلًا لا يُعبأ به، وهو الإيمان ببعض الكتب والرسل.
ويجوز أن يراد بالقلة: العدمُ؛ لأنَّه رديفُها في الغالب؛ أي: لا يؤمنون إلا إيمانًا معدومًا، على طريقة:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]؛ أي: إن كان الإيمان المعدوم إيمانًا فهم يُحدثون شيئًا من الإيمان، فهو في المعنى تعليق بالمحال بكون ما بعد (إلا) موافقًا لِمَا قبلها في المعنى
(1)
، ولا يجوز ذلك في الاستثناء، وكذا لا يجوز أن يكون المعنى: إلا قليلًا منهم آمنوا، أو: سيؤمنوا؛ لعدم صحة تسبُّبه عمَّا تقدَّم، فافهم.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} خطاب لليهود والنصارى.
{آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} وهو القرآن.
{مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب الذي أنزل على نبيَّكم، يعني: التوراةَ والإنجيلَ متضمِّنًا صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحةَ ما جاء به.
(1)
في هامش (ف): "وبهذا التفصيل اندفع ما قيل: إنه حينئذ يكون {إِلَّا قَلِيلًا} لغوًا لا فائدة فيه إذ الانتفاء منه قد فهم من قوله: {فَلَا يُؤْمِنُونَ}، وأيضًا يؤدي إلى أن يكون ما بعد {إِلَّا} موافقًا لما قبلها في المعنى، وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد أداة الاستثناء موافقًا لما قبلها، ومنشأ ما ذكره ثانيًا عدم الفرق بين السالبة والموجبة التي محمولها معدولة، فإن (إلا) على ما ذُكر موجبة، فلا يخالف قاعدة الاستثناء. منه". وفوقه: "رد لأبي حيان".
{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} : مِن قبلِ أن نمحوَ تخطيطَ صورها ونجعلَها على هيئة أدبارها، يعني: الأقفاء، أو نُنكِّسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة
(1)
.
وأصل الطمْس: محوُ الأثر وإزالةُ الأعلام، وقد يُطلق بمعنى الطَّلْس
(2)
في إزالة الصورة، ولمطلَق القلب والتغيير، ولذلك قيل: معناه: من قبلِ أن نغيِّر وجوهًا فنسلبَ وَجاهتَها وإقبالها ونكسوَها الصَّغار والإدبار، أو نردَّها حيث جاءت منه، وهي أذرعاتُ الشام، يعني: إجلاءَ بني النضير.
أو: من قبل أن نطمس وجوهًا بأنْ نُعْميَ الأبصار عن الاعتبار، ونُصِمَّ الأسماع عن سماع الحق بالطبع، ونردَّها عن الهداية إلى الضلالة.
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} : نُخزيَهم بالمسخ كما أخزينا به
(3)
أصحاب السبت، أو باللعن المتعارَف.
والضميرُ لأصحاب الوجوه؛ لأن المعنى: من قبل أن نطمس وجوهَ قوم، أو لـ {الَّذِينَ} على طريقة الالتفات، أو للوجوه إنْ أريد الوجهاء.
وعطفُه على الطمس بالمعنى الأول يدلُّ على أن المراد به ليس مسخَ الصورة
(1)
قوله: "أو ننكسها
…
الخ"؛ أي: نجعل العيون وما معها في القفا فنقلب صورهم، وهذا إما مسخ في الدنيا، أو أنه يكون في الآخرة لتشهيرهم. انظر: "حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي" (3/ 144).
(2)
في (ف) و (م): "الطمس"، والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" (2/ 77). والطلس: محو النقوش والصور، ولذا أريد به مطلق التغيير سواء كان عن هيئة له أو صفة. انظر:"حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي"(3/ 144).
(3)
"به" من (م).
في الدنيا، ومَن حمل الوعيدَ على تغيير الصورة في الدنيا قال: إنه بعدُ مترقَّبٌ، أو كان وقوعه مشروطًا بعدم إيمانهم وقد آمَن بعضهم.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} بإيقاع شيء.
{مَفْعُولًا} كائنًا، إنما المنتظَر إبداؤه بالنظر إلى المقيدين بقيد متى
(1)
، لا إبداعُه المجردُ عنه.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} لأنَّه بتَّ
(2)
الحكم على خلود عذابه، ويشاركُه في الحكم المذكورِ ما في منزلته وهو سائر وجوه الكفر، فإن الحكم على خلود عذابها أيضًا قد ثبت
(3)
، ولوجود هذا القسم قال:
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ} ولم يقل: يغفر غيره، مع أنه أخصرُ وأظهرُ دلالةً على المراد، على تقديرِ عدمِ قسمٍ آخَرَ
(4)
، فتدبَّر والله الهادي إلى الرَّشاد.
وإنما قال: {لِمَنْ يَشَاءُ} مع أنه معلوم أن المغفرة لا تكون إلا بمشيئةِ الله تعالى؛ للدلالةِ على أنها لا تعمُّ، والإشارةِ إلى أنَّ ما دون الشرك يخالفه من
(5)
(1)
في (ك): "المقيدين بقيدين".
(2)
في (ح) و (ف): "بث"، وفي (ك) و (م):"ثبت"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 78).
(3)
في (ح) و (ف): "بث".
(4)
في هامش (ح) و (ف): "ومن لم ينتبه لهذا الدقيقة الأنيقة قال ما قال وماذا بعد الحق إلا الضلال. منه". وفوقها فيهما: "يعني المعتزلة".
(5)
"من" من "م".
حيث إن المشيئة لا تتعلق بمغفرته
(1)
أصلًا.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى} : فقد ارتكب مفتريًا؛ أي: مفتعِلًا ما لا يصحُّ كونُه.
{إِثْمًا عَظِيمًا} تستحقَر دونه الآثام.
ويجوز أن يكون المعنى: فقد افترى أمرًا
(2)
عظيمًا، وذلك الأمرُ لكونه سببًا للإثم عبِّر عنه بالإثم مبالغةً، كما عبِّر بالنار عن موجَبها في قوله:{فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24]، وهذا أبلغ، وفيه إشارةٌ إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب.
* * *
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] و: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24]، و: إنَّا نعلِّم أبناءَنا الصغارَ التوراة فتكفَّر بذلك ذنوبنا فنصير كأننا لا ذنب
(3)
لنا، وفي ذلك غضٌّ
(4)
على من يزكي نفسه بزيادة الطاعة والتقوى.
{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} {بَلِ} إضرابٌ عن
(5)
تزكيتِهم أنفسَهم، وإنما قدِّم {اللَّهُ} على الفعل للتخصيص، أي: لا يزكِّي أحدٌ نفسَه ولا غيرَه، فإنه غيرُ معتبرٍ ولا معتدٍّ به، إذ لا علمَ لأحدٍ بما ينطوي عليه الإنسانُ من حُسنٍ وقبحٍ، بل الله خاصةً يزكِّي.
(1)
في النسخ عدا (م): "بمعرفته"، والمثبت من (م).
(2)
في (ك): "إثمًا".
(3)
في (ك): "كأنا لا ذنوب".
(4)
في (ح): "خص"، وفي (ف):"حض".
(5)
في (م): "اضطراب من"، وفي "ك":"إضراب من".
{مَنْ يَشَاءُ} من المرتضَينَ من عباده الذين عَرف منهم الزَّكاء، وأصل التزكية: نفي ما يُستقبح فعلًا أو قولًا.
{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ؛ أي: أقلَّ قليلٍ من الظلم، والفتيل - وهو
(1)
ما يُفتل من الوسخ عند دَلْكِ الأصبع بالأصبع - مَثَلٌ في القِلَّة؛ أي: يثابون على زكائهم ولا يُنقص من ثوابهم الموعودِ شيء.
* * *
(50) - {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} .
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بقولهم
(2)
: نحن عند الله أزكياءُ.
{وَكَفَى بِهِ} : بافترائهم هذا.
{إِثْمًا مُبِينًا} من جملة آثامهم.
* * *
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} قد سبق تفسيرُه في هذه السورة.
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الجبتُ في الأصل: اسم صنم، ثم أُطلق على كلِّ ما عُبد
(3)
من دون الله، والطاغوت: الشيطان، وكلُّ رأس في الضلال.
(1)
في (ح) و (ف): "هو".
(2)
في هامش (ف): "لا بزعمهم كما زعمه الزمخشري والقاضي؛ لأن الكذب من أوصاف القول لا الاعتقاد، فإن وصفه البطلان دون الكذب، وكذا الافتراء يكون بالقول دون الاعتقاد. منه".
(3)
في (م): "يعبد".
نزلت في يهودٍ كانوا يقولون: إن عبادة الأصنام أرضَى عند الله مما يدعو إليه محمد
(1)
.
{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : لأَجْلهم وفيهم.
{هَؤُلَاءِ} إشارةٌ إليهم.
{أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} حذفوا
(2)
المفعول لا اختصارًا بل احتقارًا.
{سَبِيلًا} أرشدُ دينًا وأقومُ طريقًا.
* * *
(52) - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} يمنع العذاب عنه بالنصرة، والخطابُ لكلِّ أحد
(3)
.
* * *
(53) - {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} .
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} {أَمْ} منقطعةٌ، ومعنى الهمزة إنكارُ أن يكون لهم نصيبٌ من الملك، والتنكيرُ في {نَصِيبٌ} للتحقير، ففيه جحدٌ
(4)
على أبلغ وجهٍ لِمَا زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم.
(1)
رواه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(11643)، وابن حبان في "صحيحه"(6572)، والطبري في "تفسيره"(7/ 142)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
في (م) و (ك): "حذف".
(3)
والشفاعة ليست منها. منه.
(4)
في النسخ: "حجة"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 79)، و"روح المعاني"(6/ 85)، وهو الأنسب بسياق الكلام.
{فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} النقير: النُّقرة في ظهر النَّواة، ومعنى (إذًا): أنه لو كان لهم نصيب من الملك فإذًا لا يُؤتون أحدًا مقدارَ نقيرٍ لفَرْط بخلهم، وهذا هو الإغراقُ في بيان شحِّهم، فإنهم إذا بخلوا بالنقير وهم ملوك، فما ظنُّكم
(1)
بهم إذا كانوا أذلَّاء متفاقرين.
و (إذًا) إذا وقع بعد الواو والفاء لا لتشريكِ مفردٍ جاز فيه الإلغاء والإعمال، ولذلك قرئ:(لا يؤتوا) بالنصب
(2)
.
ثم انتقل من هذه الخصلةِ الذَّميمة إلى خصلةٍ أشدَّ منها وهي الحسد، فإن البخل: مَنْعُ البخيلِ
(3)
وصولَ خيرٍ من نفسه إلى الغير، والحسدَ: تَمنِّي زوال ما أَعْطَى الله تعالى الغيرَ من الخير، فقال:
* * *
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} إنكارٌ لحسدهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من النُّصرة والغلَبة، وازديادِ العزِّ والقوة والتقدُّم كلَّ يوم.
واللام في {النَّاسَ} للماهية، كأنهم الناسُ بالحقيقة وما عدَاهم من اليهود ليس بالناس
(4)
.
(1)
في (ح) و (ف): "ظنك".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 273)، و"والكشاف" (1/ 522). ووقع في (ك) و (م):"على النصب".
(3)
"البخيل": ليست في (م).
(4)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: لأن من حسد النبوة فكأنما حسد الناس كلهم، فقد =
{عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يعني: النبوةَ والكتاب والنصرةَ والإعزاز.
{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} إلزامٌ لهم بما عرَفوه من إيتاء الله تعالى الكتابَ والنبوَّةَ والملكَ العظيم إلى آل
(1)
إبراهيمَ الذين
(2)
هم أسلافُ محمد عليه السلام، وأنَّه ليس ببِدْعٍ أن يؤتيَه اللّه تعالى مثلَ ما أُوتي أسلافه
(3)
.
* * *
(55) - {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} .
{فَمِنْهُمْ} : فمن اليهود {مَنْ آمَنَ بِهِ} : بما ذُكر من حديث آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} وأنكر مع علمِه بصحته.
أو: فمِنهم مَن آمَنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن أنكر نبوته.
أو: من آل إبراهيم عليه السلام مَن آمَن بنبوَّته، ومنهم مَن كفر، فلا تتعجَّب من قومك فإن أحوال جميع الأمم هكذا، وذلك تسليةٌ له عليه السلام.
{وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} نارًا مسعورةً يعذَّبون بها إن لم يُعجَّلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أُعد لهم من سعير جهنم.
* * *
= ضيع هذه النكتة. منه".
(1)
"آل" من (م).
(2)
في (ف): "الذي".
(3)
في (ف): "أسلافهم".
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} كالبيان والتقرير لذلك، وتنكير {نَارًا} للتعظيم.
قال سيبويه: (سوف) كلمة تُذكر للتهديد والوعيد [وينوبُ عنها السين]، وقد يزادان
(1)
في الوعد أيضًا
(2)
.
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} ؛ أي: بلغت إلى حدٍّ لا يتأثَّر من الإحراق.
{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} ؛ أي: أعدْنا تلك الجلودَ غيرَ محترقةٍ، قال ابن عباس رضي الله عنه:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] إن الأرض تلك الأرض لكن بدِّلتْ آكامُها وجبالها وأنهارها وأشجارها.
والجملة في محل النصب على الحال من الضمير المنصوب في {نُصْلِيهِمْ} .
{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} : ليتجدَّد لهم ذَوقُ العذاب، ولما كان تأثُّر الذائقة أسرعَ وأقوى من تأثُّر
(3)
اللامسة استُعير الذوق لإدراك اللامسة
(4)
مبالغةً في التأثُّر
(5)
عن العذاب.
وقيل: يخلقُ مكانه جلدًا آخَر.
والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدرِكة لا لآلةِ إدراكها، فلا محذور.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} العزيز: القادر الغالب، والحكيم: الذي لا يفعل إلا الصواب.
(1)
في (ح) و (ف): "تردان".
(2)
انظر: "الكليات" لأبي البقاء (ص: 500)، وما بين معكوفتين منه.
(3)
في (م): "تأثير" في الموضعين.
(4)
في (ح) و (ف): "الملامسة".
(5)
في (ف): "التأثير".
إنما قاله لأنَّه قد يقع في القلب تعجُّب من كون الكريم الرحيم يعذِّب الشخص الضعيف إلى هذا الحدِّ العظيم أبدَ الآباد، فقيل: ليس هذا بعجَبٍ؛ لأنَّه القادر على ذلك، وكما أنه رحيم فهو أيضًا حكيم، والحكمة تقتضي ذلك.
* * *
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} الوعد والوعيد متعاقبان في الذكر غالبًا، وقدِّم الوعيد هاهنا لأن الكلام في الكفار.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} قد سبق تفسيره.
{لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} صفةٌ مشتقَّةٌ من لفظ الظلِّ لتأكيدِ معناه، كما يقال: ليلٌ أليلُ، ويومٌ أَيْوَمُ، وهو ما كان مُطْبِقًا لا فُرجةَ فيه، ودائمًا لا يُنسخ، وسَجيجًا لا حرَّ فيه ولا بردَ.
ولمَّا
(1)
كانت بلادُ العرب في غاية الحرارة، كان الظلُّ عندهم من أعظم أسباب الراحة، ولهذا جعلوه كنايةً عن الراحة، قال عليه السلام:"السلطانُ ظلُّ اللهِ في الأرض"
(2)
فلا يتَّجهُ السؤال بأنْ يقال: إذا لم يكن في الجنة شمسٌ تؤذي بحرِّها فما فائدةُ وصفها بالظلِّ الظليل؟
(1)
في النسخ عدا (م): "ولما"، والمثبت من (م).
(2)
رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(1024) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وله شواهد تنظر في "المقاصد الحسنة"(ص: 181).
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا} بأنْ تؤدُّوا.
{الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} خطابٌ يعمُّ المكلَّفين والأمانات وإن كان سببُ النزول خاصًّا، وهو أخذُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من سادنيها
(1)
وردُّه لهم بعد نزول هذه الآية.
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا} بأنْ تحكموا.
{بِالْعَدْلِ} العدل يقابله الجَور، والإنصاف يقابله الظلم.
{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} (ما) في {نِعِمَّا} نكرةٌ موصوفةٌ منصوبةٌ؛ أي: نِعْمَ شيئًا يعظُكم، أو معرفةٌ موصولةٌ مرفوعة؛ أي: نعمَ الذي يعظُكم به.
والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ؛ أي: ذلك، يعني: المأمور به من أداء الأمانات إلى أهلها والحكمِ بالعدل.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا} بأقوالكم وأحكامكم
(2)
.
{بَصِيرًا} بما تعملون في الأمانات.
* * *
(1)
في (م): "أسادنتها".
(2)
في (ف): "لأقوالكم وأحوالكم".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} كرِّر لفظ {وَأَطِيعُوا} تعظيمًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا - أي: لِمَا ذُكر من أن تكرُّره للتعظيم - تُرك إعادتُه في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} فرقًا بين المطاعَين في التعظيم
(1)
.
لمَّا أَمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكمِ بالعدل، أَمر الناس بأن يُطيعوهم ويمتثِلوا أمرهم، والمراد بهم أمراء المؤمنين القائمون بالعدل الثابتون على الحق، لا أمراءُ الجور، على ما ستقف على وجهه فيه.
وفي قوله: {مِنْكُمْ} تمهيدٌ للرخصة في المنازعة المفروضة في قوله:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} لمَّا كان في الأمر بالطاعة لأُولي الأمر إشعارٌ باشتراطِ العدالة وكونِهم على الحق، وفيما تقدم من قوله:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ} الآيةَ نوعُ تمهيدٍ لذلك، رتب الشرطية المذكورة على ما قبله.
{فِي شَيْءٍ} من أمور الدِّين وأمور الدنيا.
{فَرُدُّوهُ} : فراجعوا فيه
(2)
.
{إِلَى اللَّهِ} : إلى كتابه
(3)
تعالى.
{وَالرَّسُولِ} : إلى سنَّته قوليةً كانت أو فعليةً أو تقريريةً، هذا يَنتظِم حالتي حياتهِ ومماته
(4)
.
(1)
في هامش (ف): "وهكذا ترك عند عدم الحاجة إلى الفرق بين المطاعين كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} وفي قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا}. منه".
(2)
"فيه": ليست في (م).
(3)
في (م): "كتاب الله".
(4)
في هامش (ف): "قيل: بالسؤال عنه في زمانه، ويردُ عليه أن المراجعة إليه عليه السلام في حياته لا =
{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإنَّ الإيمان بالمبدأ والمَعاد يوجبُ ذلك.
صدر الأمر بطاعة أولي الأمر بأمرهم بالحكم بالعدل، وقيَّده
(1)
بجمعهم مع الله ورسوله في العطف وتخصيصِهم بقوله: {مِنْكُمْ} ، وذَنَّبه بالأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنَّة فيما أَشكَل واختُلفَ فيه، إعلامًا بأنَّ طاعة المتغلِّبة من أمراء الجور الذين هم على خلافِ ذلك ليست بواجبةٍ، بل الواجب مخالفتُهم وعصيانُهم فيما لا يطابق الكتابَ والسنَّة من أحكامهم.
واحتجَّ بالآية المذكورة منكِرو القياس، حيث حَصَر المرجعَ إليه في الكتاب والسُّنَّة، ولم يَذكر القياس، لكنها حجةٌ عليهم لا لهم؛ لأنَّه تعالى أَوجب في كل متنازَعٍ فيه الردَّ إليهما، ولا يوجد في كلِّ حادثةٍ نصٌّ ظاهر، فعُلم أنه أمرٌ
(2)
بالنظر في مُوْدَعاته، والعملِ بمدلولاته ومقتضياته.
{ذَلِكَ خَيْرٌ} لكم
(3)
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبةً.
* * *
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ
= يلزم أن تكون بالسؤال عنه، بل يجوز أن يعلم من قبله أو تقريره أو قوله للغير. منه".
(1)
في (م) و (ك): "وقيد".
(2)
"أمر": ليست في (م) و (ك).
(3)
"لكم": ليست في (م).
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن منافقًا خاصم يهوديًّا، فدعاه اليهودي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه
(1)
المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكَما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودي، فلم يَرض المنافق، وقال: نتحاكمُ إلى عمر، فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضَ بقضائه، وخاصَم إليك! فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال: مكانكما حتى أخرجَ إليكما، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق وقال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وقال جبريل: إن عمر فرَقَ بين الحقِّ والباطل، فسمِّي الفاروق
(2)
.
والطاغوت على هذا كعبُ بن الأشرف، وفي معناه مَن يحكم بالباطل، سُمِّي بذلك لفَرْط طغيانه ولشَبَههِ بالشيطان من حيثُ إنه الحاملُ عليه كما قال.
{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} وقرئ: (بها)
(3)
، على أن الطاغوتَ جمعٌ كقوله:{أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة: 257].
{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
(4)
ضَلَالًا بَعِيدًا} قيل: ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه كان المخاصم منافقًا من أهل الكتاب كأنْ يُظهرَ الإسلام على سبيل النفاق؛ لأن قوله تعالى: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60] إنما يليقُ
(1)
في (ك): "ودعا"، وفي (م):"ودعى".
(2)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(3/ 337)، وتلميذه الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 162)، من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي متروك، وأبو صالح ضعيف ولم يسمع من ابن عباس. وأما لقب عمر بالفاروق فهو باتفاق وفي أخبار أخر. انظر:"فتح الباري"(7/ 44).
(3)
تنسب للعباس بن الفضل. انظر: "الكشاف"(1/ 525).
(4)
في (م): "أن تضلوا".
بمثل هذا المنافق، وأما صيغةُ الجمع فلعلها لدَرْجِ أمثاله فيما ذُكر فإنهم في صدد ذلك وإن لم يظهر منهم.
* * *
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} لمَّا بيَّن رغبتَهم في التحاكم إلى الطاغوت بيَّن هنا رغبتهم عن التحاكم إلى الرسول عليه السلام، وقد سبق الكلام في {تَعَالَوْا} في سورة آل عمران.
{رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ} في موقع الحال.
{صُدُودًا} ؛ أي: يعرضون عنك إعراضًا
(1)
.
* * *
{فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} كقتل عمر رضي الله عنه المنافقَ، أو النقمة من الله تعالى.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من التحاكم إلى غيرك وعدمِ الرضا بحُكمك.
{ثُمَّ جَاءُوكَ} عطف على {أَصَابَتْهُمْ} ؛ أي: بعد ما أصابتهم جاءوك للاعتذار، أو على {يَصُدُّونَ} وما بينهما اعتراض.
(1)
في هامش (ف): "قال الجوهري: صد عنه يصد صدودًا اعترض وصده عن الأمر صدًا منعه وصرفه. منه".
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} حالٌ.
{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ما أردنا بذلك إلا الفصلَ بالوجه الأحسن، والتوفيقَ بين الخصمين.
وقيل: جاء أصحاب القتيل طالبينَ بدمه، وقالوا: ما أردنا بالتحاكُم إلى عمر رضي الله عنه إلا أن يُحْسنَ إلى صاحبنا ويوفِّقَ بينه وبين خصمه
(1)
.
* * *
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق، فلا يُغني عنهم الكتمانُ والحَلِفُ الكاذبُ من العقاب.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ؛ أي: عن عقابهم في الدنيا لمصلحةٍ في استبقائهم، أو: عن قبول معذرتهم.
{وَعِظْهُمْ} بلسانك، وكُفَّهم عما هم عليه، وهذه المخاطبةُ لا تنافي الإعراض عن المعاتبة.
{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} فيما يحلُّ بهم من العذاب إن لم يرجعوا، وما يصلُ إليهم من الثواب إن رجعوا.
{قَوْلًا بَلِيغًا} يبلغ منهم ويؤثِّر فيهم، أمره بالتجافي عن معاتَبتهم والنصحِ لهم، والمبالغة فيه بالترهيب والترغيب كما هو مقتضى شفقةِ الأنبياء عليهم السلام
(2)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 526 - 527).
(2)
في هامش (ف): "من لم يذكر هذا ثم ذكر الترغيب بعده لم يكن على بصيرة. منه".
وتعلُّق الظرف بـ {بَلِيغًا} على معنى: بليغًا في أنفسهم مؤثرًا فيها، يجوز على أصل الكوفيين خلافًا للبصريين
(1)
.
* * *
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} بتيسيره وتوفيقه لطاعته، أو: بسببِ إذنِ الله تعالى في طاعته؛ أي: بأمره للمبعوث إليهم أن يُطيعوه؛ لأنَّه مبلِّغ عن اللّه تعالى وخليفةٌ له، فطاعتُه طاعةُ الله تعالى، لمَّا أَمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بوعظِهم وإبلاغِ القول فيهم أَمرهم بطاعته فيما أَمر واتِّعاظهم بما وَعظ، ولا دلالة فيه على أنَّ مَن لم يتَّعظ
(2)
ولم يَرْضَ بحكمه كان كافرًا مستوجِبَ القتل، فإن الكفر لا يستوجب القتل البتة، كيف والذِّمِّيُّ والمستأمَن كافران ولا
(3)
يجب قتلُهما.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالتحاكُم إلى الطاغوت.
{جَاءُوكَ} تائبينَ منه، وهو خبر (أنَّ)، و (إذ) متعلِّقٌ به.
{فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} مخلصِينَ له
(4)
، معتذرِينَ إليك مما ارتكبوه من ردِّ قضائك، حتى استغفرت لهم.
(1)
لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف؛ لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله، وقيل: إنه إنما يصح إذا كان ظرفا، وقواه البعض. انظر:"روح المعاني"(6/ 114).
(2)
في (م) و (ك): "لم يتعظ".
(3)
في (م): "ولم".
(4)
في (م) زيادة: "الدين".
ولمَّا كان تحاكُمُهم إلى الطاغوت إساءةً على الرسول عليه السلام، وإدخالًا للغمِّ في قلبه، لزمهم الاعتذارُ له عليه السلام وطلبُ الاستغفار منه.
وإنما قال
(1)
: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} على طريقة الالتفات؛ تعظيمًا لشأنه، وتفخيمًا لاستغفاره، وتنبيهاً على أنَّ مَن كان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاستغفارُه وشفاعته من الله بمكان
(2)
، وأمَّا قبول اعتذار التائب فلا دخل فيه لوصف الرسالة، فلا وجه للتنبيه عليه بالالتفات.
{لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} : قابلًا لتوبتهم، متفضِّلًا عليهم بالرحمة.
{تَوَّابًا} حال و {رَحِيمًا} بدلٌ منه، أو حالٌ من الضمير فيه.
* * *
{فَلَا وَرَبِّكَ} ؛ أي: فوَربِّكَ، و (لا) مزيدةٌ لتأكيد القسَم؛ لا لتُظاهِرَ
(3)
(لا) في قوله:
{لَا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأنها تزاد أيضًا في الإثبات كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].
وفي إضافته تعالى نفسَه إليه عليه السلام في القَسَم رفعُ قَدْره.
{حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} غايةٌ متعلِّقةٌ بقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} .
(1)
"قال": ليست في (م) وفي هامشها: "لعل هنا لفظ قال ساقط".
(2)
في (م) و (ك): "بمكان من الله".
(3)
في النسخ عدا (م): "لتظاهر" بإسقاط (لا)، والمثبت من (م) وهو الصواب. "الكشاف"(1/ 529)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 82).
{فِيمَا شَجَرَ} : فيما اختَلَف {بَيْنَهُمْ} واختلط، ومنه: الشجر؛ لتَداخُل أعضائه واختلافِها في الجهات.
{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضِيْقًا {مِمَّا قَضَيْتَ} : مما حكَمْتَ به، أو: مِن حُكمك. وإنما قال: {ثُمَّ} لأن المحتمَل الغالِبَ وجدانُ ذلك بعد زمان.
{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} : وينقادوا انقيادًا بظاهرهم وباطنهم.
* * *
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (أنْ) مصدريةٌ، أو مفسِّرةٌ لأنَّ {كَتَبْنَا} في معنى: أمرنا.
{أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} ؛ أي: لو أوجبْنا عليهم مثلَ ما أوجبْنا على بني إسرائيل حين استتابتِهم من عبادة العجل مِن قتلهم أنفَسهم أو إخراجِهم
(1)
من ديارهم.
{مَا فَعَلُوهُ} الضمير للمكتوب الذي دلَّ عليه {كَتَبْنَا} .
{إِلَّا قَلِيلٌ} قوم قليلٌ
(2)
{مِنْهُمْ} وهم المخلِصون.
وهذا توبيخٌ بليغٌ لهم، لمَّا بيَّن أن إيمانهم لا يَتِمُّ إلا بأنْ يُسلِّموا حقَّ التسليم نبَّه على قصور أكثرهم ووَهْنِ إسلامهم.
وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو على: إلا فعلًا قليلًا
(3)
.
(1)
في (ك) و (م): "وإخراجهم".
(2)
"قليل" ليست في (ف).
(3)
هي قراءة ابن عامر وقرأ باقي السبعة بالرفع. انظر: "التيسير"(ص: 96)، و"الكشاف"(1/ 530).
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من متابعةِ الرسول ومطاوَعتِه في أوامره ونواهيه بلا اعتراضٍ وشبهةٍ في أنفسهم.
{لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} في عاجلهم وآجلهم.
{وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} لإيمانهم وأنفسِهم، وأبعدَ اضطرابًا، ونصبُه على التمييز.
وهذه الآية نزلت في شأن المنافق واليهوديِّ
(1)
، وقيل غيرُ ذلك.
* * *>
{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} ¶4¶67 <
(67)
- {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} .
{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر وجزاءٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على الجملة الشرطية قبلها؛ أي: ولو ثبَتوا
(2)
لآتيناهم.
وفي قوله: {مِنْ لَدُنَّا} الدالِّ على أنه على سبيل التفضُّلِ دفعٌ
(3)
لذهاب الوهم من الأجر إلى معناه الحقيقيِّ، فإن الثواب لكونه موعودًا
(4)
للعمل نزِّل منزلةَ الأجر له.
* * *
(68) - {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} ؛ أي: وفَّقناهم لطريق التوحيد، وزيادةِ الخيرات، والاستقامةِ في الأحوال.
(1)
في (ح) و (ف): "المنافقين واليهود"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 82).
(2)
في (ك) و (م): "تثبتوا".
(3)
في (ك) و (م): "رفع".
(4)
في (ك): "معدودًا".
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} مزيدُ ترغيبٍ في الطاعة بالوعد عليها
(1)
موافقةِ أكرم الخلائق وأعظمِهم قَدْرًا.
{مِنَ النَّبِيِّينَ} بيان لـ {الَّذِينَ} ، أو حال منه أو من ضميره.
{وَالصِّدِّيقِينَ} هم الصادقون في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم وأحوالهم، المتقدِّمون لغاية الصدق في تصديق الأنبياء من أفاضل أصحابهم.
{وَالشُّهَدَاءِ} الباذلون للأرواح لله تعالى لغايةِ حضورهم وشهودهم له.
{وَالصَّالِحِينَ} هم أهل الاستقامة إلى الله تعالى بالأعمال المقرِّبة، أو في الله بالتخلُّق بأخلاقه، والاتِّصاف بصفاته، وليس المراد من المعية
(2)
المعيةَ في الدرجة، فإن ذلك غير ممكن
(3)
، بل المعنى: أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقَها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيتْ بعد المفارَقة تلك العلائقُ، فينعكِس الشعاعُ من بعضها على بعضٍ، فتصيرُ أنوارُها في غاية القوة.
{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} يفيدُ التعجُّب؛ كأنه قيل: وما أحسنَ أولئك رفيقًا!
و {رَفِيقًا} منصوب على التمييز، ولذلك لم يُجمع إذ لم يقصد الأنواع، ويجوز أن يَنتصِب على الحال.
(1)
في (م): "على"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير البيضاوي"(2/ 82).
(2)
في (م) و (ك): "المراد بالمعية".
(3)
في هامش (ف): "فيه رد لمن قال: حث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم. منه". والقائل المذكور هو البيضاوي.
(70) - {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} .
{ذَلِكَ} إشارةٌ قُصد بها التعظيم {الْفَضْلُ} صفتُه
(1)
{مِنَ اللَّهِ} خبرُه.
أو {الْفَضْلُ} خبرٌ، و {مِنَ اللَّهِ} حالٌ، والعامل فيه معنى الإشارةِ.
وفيه تنبيهٌ على ما أُعطي المطيعون من الأجر العظيم، ومرافقةِ المنعَم عليهم، فضلٌ
(2)
خاصٌّ منه تعالى لا عدلٌ متقدِّرٌ
(3)
بإزاء طاعتهم، بل مزيدٌ عليه من عنده، وتفضُّلٌ به عليهم تكملةً لثوابهم وإكرامًا لهم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} بجزاءِ مَن أطاعه؛ لعلمه بأحواله، وما يقتضي هذا الفضلُ من استعدادهم بحسب العناية الأولى في حقِّهم، فهو يوفِّقهم على حسب تلك العناية.
* * *
(71) - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} ؛ أي: احذروا واحتَرِزوا من العدوِّ، ولا تمكِّنوه من أنفسكم، كأنهم أُمروا بأن يجعلوا الحذرَ آلتَهم التي يَقُون بها أنفسَهم، ويَعصمون بها أرواحهم، والحِذْرُ والحَذَرُ بمعنًى كالإثْر والأَثَر، يقال: أخذَ حِذْرَه: إذا تَيَقَّظَ واحْترَزَ من المَخُوف.
{فَانْفِرُوا} يقال: نفر القوم: إذا نهضوا لقتال عدوِّهم وخرجوا للحرب.
{ثُبَاتٍ} نصب على الحال؛ أي: جماعاتٍ متفرِّقةً سَرِيَّةً بعد سريَّةٍ، جمعُ
(1)
في (ح) و (ف): "صفة".
(2)
في (ك): "وفضل".
(3)
في النسخ عدا (م): "مقتدر"، والمثبت من (م).
ثُبَةٍ، من ثبَّيتُ
(1)
على الرجل: إذا أثنيتَ عليه كأنك جمعتَ محاسنَه.
{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} : مجتمعِينَ كوكبةً واحدةً، ولا تتفرَّقوا وتتخاذلوا فتُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، والآيةُ نزلت في الحرب، ولا دلالة
(2)
في لفظها إلى وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها.
* * *
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} الخطابُ لعسكر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين، والمبطِّئون منافقوهم، تثاقلوا وتخلَّفوا عن الجهاد، مِن بَطَّأ بمعنى: أَبطأَ، وهو لازم، أو بطَّأ غيرَه كما فعل ابن أبيٍّ يومَ أحد.
واللام الأولى للابتداء دخلت اسمَ (إنَّ) للفصل بالخبر، والثانية جوابُ قسم محذوفٍ، والقسمُ بجوابه صلةُ (مَن)، والراجعُ إليه ما استكنَّ في {لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} ، والتقدير: وإنَّ منكم لمن أَقسم بالله ليبطِّئن، ووجوهُ التأكيد لتحقيق حال المنافقين، وأنهم على خلافِ ما يُظهرون من الإيمان.
{فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} من قتلٍ وهزيمة.
{قَالَ} ؛ أي: المبطِّئُ.
{قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} حاضرًا فيصيبَني ما أصابهم، و {إِذْ لَمْ أَكُنْ} ظرف ناصبُه {أَنْعَمَ} بمعنى: مَنَّ.
(1)
في النسخ عدا (ح): "ثبت"، والمثبت من (ح) وهو الصواب. انظر:"مفردات الراغب"(مادة: ثبا)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 83)، و"روح المعاني"(6/ 136).
(2)
في (ح) و (ف): "ودلالتها"، وفي (ك):"ولادلتها"، والمثبت من (م).
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} من الفتح والغنيمة.
{لَيَقُولَنَّ} ذلك المنافق، أكَّده لفَرْطِ تحسُّره، وقرئ بضم اللام إعادةً للضمير إلى معنى (مَن)؛ لأنَّه في معنى الجماعة
(1)
.
{كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} اعتراضٌ بينه وبين مفعوله، وهو:
{يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} حكى الله سرورَ المنافق عند نكبةِ المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولتهم بسببِ فَوَاته الغنيمة، فقَبْلَ أن يذكر الكلام بتمامه ألقى هذا القولَ في البَيْن للتعجُّب كأنه
(2)
يقول: انظروا إلى ما يقولُه هذا المنافق كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودةٌ ومخالطةٌ أصلًا
(3)
، والذي حَسَّن موقع الاعتراض كونُ ما بعدها فاصلةً وهي ليست بفاصلةٍ.
أو حالٌ
(4)
من الضمير في {لَيَقُولَنَّ} ، أو داخلٌ في المقول؛ أي: يقولُ المبطِّئ لمن يثبِّطه من المنافقين وضَعفةِ المسلمين تقريعًا
(5)
وحسدًا: كانْ لم يكن بينكم وبين محمدٍ صلى الله عليه وسلم مودةٌ حيث لم يَستعن بكم فتَفوزوا بما فاز، يا ليتني كنتُ معهم.
(1)
تنسب للحسن. انظر: "المحتسب"(1/ 192)، و"الكشاف"(1/ 533).
(2)
في (ف): "كأنه نظر".
(3)
في هامش (ح) و (ف): "فيه رد لمن زعم أن فيه تهكمًا فإن نفاقه في أمر الإسلام لا ينافي مودته حينئذ للمسلمين لعلاقة نسبيته أو سببيته، وأما ضعف عقيدته فلا حاجة إلى التنبيه عليه بهذا الكلام. منه".
(4)
عطف على ما تقدم من قوله: "اعتراض
…
".
(5)
في (ح) و (ف): "تصريفًا".
و {كَأَنْ} مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمُه ضمير الشأن وهو محذوف.
وقرئ: {تَكُنْ} بالتاء
(1)
لتأنيث لفظ المودَّة.
والمنادى في {يَالَيْتَنِي} محذوفٌ؛ أي: يا قوم، وقيل:(يا) أُطلق للتنبيه على الاتِّساع.
{فَأَفُوزَ} نصبٌ على جواب التمنِّي.
وقُرئ بالرفع على تقدير: فأنا أفوزُ في ذلك الوقت
(2)
، أو العطفِ على {كُنْتُ مَعَهُمْ} ؛ ليندرج الفوز مع الكون معهم في حكم التمنِّي فيكونا متمنَّيين
(3)
جميعًا.
* * *
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} إنْ جُعل {يَشْرُونَ} بمعنى: يبيعون، فالأمر للمؤمنين؛ أي: إنْ صدَّ هؤلاء المبطِّئون عن القتال فليقاتلِ الثابتون في الإيمان، المخلِصون الذين يستحبُّون الآخرة على الدنيا ويستبدلونها بها.
وإنْ جعل بمعنى: يشترون، فالأمر للمبطِّئين الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، وعُظوا بأنْ يغيِّروا نيَّاتهم وما بهم من النفاق، ويخلِصوا
(4)
الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدوا في سبيل الله.
(1)
هي قراءة ابن كثير وحفص، والباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 96).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 27)، و"الكشاف"(1/ 533).
(3)
في (ك) و (م): "متمنين". والمثبت من باقي النسخ و"الكشاف"(1/ 533).
(4)
في (م): "ويخلصون".
فالفاء على الأول جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ، وعلى الثاني للتعقيب، يعني: ينبغي أنْ يُعْقِبوا ما صدَر عنهم من التثبيط عن القتال والثباتِ على النفاق بالتحريض على القتال.
{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} لم يقل: فيُغْلَبْ أو يَغْلِبْ؛ إذ حينئذٍ يندرج في الأول الفارُّ من الزحف ولا أجرَ له، ولم يقل: فيُقْتَلْ أو يَقْتُلْ؛ للتنبيه على أنه يَستحقُّ الأجرَ بالغلبة قُتل أو لم يُقتل، وعلى أنَّ حقَّه أن لا يَقصد بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاءِ الحق وإعزاز الدِّين، وتقديمُ الأول للدلالة على أنه أولى وأحقُّ بالأجر.
والاقتصارُ عليهما للتنبيه على أن حقَّ المجاهد أن يثبت في المعركة ولا يَفِرَّ حتى يُعزَّ نفسَه بالشهادة أو الدينَ بالظَّفَر والغلبة.
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} قيل: وَعد له الأجرَ غُلِبَ أو غَلَب؛ ترغيبًا للقتال، وتكذيبًا لقوله:{قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72].
وفيه: أنه لم يُصِبْ في قوله: غُلِبَ، على ما نبَّهتُ عليه آنفًا، وكذا في قوله: وتكذيبًا؛ لأن مراد ذلك المنافق من القول المذكور مطابقٌ للواقع.
* * *
{وَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبره.
{لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حالٌ، والعاملُ فيها ما في الظرف من معنى الفعل.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} مجرورٌ عطفٌ على {سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: في سبيل الله وفي خلاصِ المستضعَفين، أو نصبٌ على الاختصاص؛ أي: وأَخْتَصُّ من سبيل الله
خلاصَ المستضعفين
(1)
؛ فإن سبيل الله تعالى تمامٌ في كل خير
(2)
، ومن أعظم الخيرات خلاصُهم من أيدي الكفار، وهم الذين أسلموا بمكة، وصدَّهم المشركون عن الهجرة، فبقُوا بين أظهُرهم مستذَلِّين.
{مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} جعل الولدانَ من جملة المستضعَفين تسجيلًا على الظَّلَمة بإفراطِ الظلم حتى بلغ أذاهم الصبيانَ إرغامًا وإيذاء لآبائهم وأمَّهاتهم، ومَبْغَضةً وإيلامًا لهم.
ويجوز أن يكون ذكرُ الولدان مع المستضعفين لإشراكهم الأطفال في الدعاء استرحامًا من الله تعالى بدعاء الصغار الذين لم يُذْنبوا.
ويجوز أن يراد بالرجال والنساء: الأحرارُ والحرائر، وبالولدان: العبيدُ والإماء؛ لأن العبد يُدْعَى بالوليد فغلِّب الذَّكَر وأُطلق عليهما الولدان، كما يقال الوالدان.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} أرادوا بالتوصيف التنبيهَ على أن طلبهم الخروجَ منها لظلمِ أهلها، وإلا فهي وطنُهم وأشرفُ البقاع، لا يريدون الخروج منها بلا اضطرارٍ، ولمَّا كان المراد من القرية مكةَ - شرَّفها الله تعالى - تجنَّبوا عن المبالغة في ظلم أهلها بنسبة الظلم إلى القرية، ولم يسلكوا مسلَكَ قوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ} [الطلاق: 8]{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ} [القصص: 58].
{وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} : وهيِّئْ لنا من عندك مَن يتولَّى كفايتنا.
{وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} : مَن ينصرُنا ويمنعُنا من عدوِّنا.
فاستجاب الله تعالى دعاءهم، جعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليَّهم، وعتَّابَ بنَ أَسِيدٍ
(1)
"أو نصب على الاختصاص واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين" من (م).
(2)
في (ك): "حين".
ناصرَهم
(1)
؛ قال عطاء: فكان يَستنفِذُ واحدًا واحدًا منهم ويبعثُه على يد مَرْثَد بن أبي مَرْثَدٍ إلى المدينة
(2)
.
* * *
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : فيما يَصِلُون به إلى الله.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} : فيما يبلُغ بهم إلى الشيطان.
{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} لمَّا حرَّضهم ورغَّبهم
(3)
على القتال في سبيل الله، وفي خلاصِ المستضعفين، شجَّعهم ورغَّبهم فيه ترغيبًا بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله فاللهُ وليُّهم وناصرُهم، والكفارُ يقاتلون في سبيل الشيطان فلا وليَّ لهم إلا الشيطان.
{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} ؛ أي: كيدُه للمؤمنين في جنب كيدِ الله تعالى للكافرين أضعفُ شيء وأوهنُه، فلا تخافوا أولياءَه.
* * *
(1)
في هامش (ح) و (ف): "وأما قول القاضي: فاستجاب اللّه تعالى دعاءهم بأنْ يسر لبعضهم الخروج، ففيه أن قوله: بأن يسر، لا يناسب مقام الاستجابة؛ لأنَّه ليس بواسطة الولي والناصر. منه".
(2)
لم أجده.
(3)
"ورغبهم" من (ك) و (م).
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} عن القتال.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} : واشتغِلوا بما أُمرتم به.
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} على ما طُبع عليه البشر من المخافة لا عن المخالفة
(1)
.
وذلك أن المسلمين كانوا بمكة مكفوفينَ عن القتال، وكانوا يتمنَّون أن يؤذَن لهم فيه، فلمَّا كُتب عليهم القتال بالمدينة أَحجم فريق منهم خوفًا من الموت، وضِنَّةً بالأرواح، وجُبنًا عن الأخطار بها، لا ريبةً في الدين.
{إِذَا} للمفاجأة جيء بها في جواب الشرط مع الجملة الاسمية بدلَ الفاء، و {فَرِيقٌ} مبتدأٌ تخصَّص بالصِّفة وهي {مِنْهُمْ} ، خبرُه:{يَخْشَوْنَ}
(2)
.
{كَخَشْيَةِ اللَّهِ} في موضعِ النصبِ صفةً للمصدر المحذوف؛ أي: خشيةً مثلَ ما يُخشَى اللهُ، فهي مضافةٌ إلى المفعول، أو على الحال من ضمير {يَخْشَوْنَ}؛ أي: يخشون الناسَ
(3)
مثلَ أهلِ خشيةِ الله منه.
{أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} نصبٌ عطفٌ على المصدر؛ أي: خشيةً مثلَ خشيةِ اللهِ أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشيةِ الله، على أن الخشية خاشيةٌ
(4)
.
أو جرٌّ عطفٌ على (خشيةِ الله)؛ أي: كخشيةِ الله أو كخشيةٍ أشدَّ خشيةً من خشيةِ الله،
(1)
في (ح) و (ك): "لا على المخالفة"، وفي (ف):"لا على المخافة".
(2)
في النسخ: "خبره خشية الله"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 85)، و"روح المعاني"(6/ 148).
(3)
"الناس" من (م).
(4)
على طريقة: (جدَّ جدُّه). انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 85)، و"روح المعاني"(6/ 149).
أو على {اللَّهِ} على أن الخشية من الفعل المبنيِّ للمفعول؛ أي: كخشيةِ الله أو خشيةٍ هي أشدُّ في كونه مختشيًا من الله، كما ذكر في {أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
أو نصبٌ على العطف في محلِّ الكاف.
والخشية في الأصل: الخوف مع تعظيم المَخوف منه، والمراد هنا: المبالغةُ في الخوف، وكلمة أو
(1)
للدلالة على تفاوُته في الخشية، فإن خشية بعضهم كان مثلَ خشية الله تعالى، وخشيةَ بعضهم كان أشدَّ منها
(2)
.
{وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} هذا المقالُ لا يناسب حالَ الصحابيِّ الراسخِ قدمُه في الإيمان، المنشرِحِ جَنانُه بالإسلام، الذي يرى الوصول إلى الدار الآجلةِ خيرًا من القرار في الدار العاجلة، ولهذا قيل: هم المنافقون، والتأويل بأنهم ما تفوَّهوا به ولكنهم قالوه في أنفسهم فحَكَى الله عنهم، مع أنه بعيد لم يُعهَد مثله في القرآن، لا يُجدي نفعًا.
{لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادةً في مدةِ الكفِّ عن القتال حذَرًا عن الموت، كأنهم حَسِبوا القتال قتلًا فتمنَّوا تأخيرَ الأجَل، وهذا آيةُ غايةِ جُبنهم.
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} : سريع التَّقضِّي.
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} ؛ أي؛ المعاصيَ.
(1)
في (ح): "و"، وفي (م):"ثم"، وفي "ك":(أشد)، والمثبت من (ف)، وهو الصواب. انظر التعليق الآتي.
(2)
"منها" ليست في (ك). وهذا الوجه جعله أبو حيان من معنى التنويع في (أو) فقال: ولو قيل: إنَّها للتَّنويع، لكان قولًا، يَعني: أنَّ منهم مَن يَخْشَى النَّاسَ كخشيةِ اللهِ، ومنهم مَن يخشاهم خشية تَزيدُ على خَشيتِهم الله. وذكر لـ (أو) معاني أخر. انظر:"البحر"(7/ 201).
{وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} شيئًا يسيرًا
(1)
بالنقصِ عن الثواب الموعود، لا بالزيادة على العقاب المعهود، وقد تقدَّم تفسير الفتيل، وفيه ترغيبٌ في التحمُّل على مشاقِّ القتال، وترهيبٌ عن مخالفة الامتثال لأمر الجهاد.
وقرئ: {وَلَا تُظْلَمُونَ}
(2)
لتقدم الغيبة.
* * *
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} ؛ أي
(3)
: لا خلاصَ لكم من الموت، والجهادُ موتٌ يستعقبُه سعادةٌ أُخروية، فإذا كان لا بدَّ من الموت، فالموتُ في سبيل الله تعالى أولى.
وقرئ: (يدركُكم) بالرفع على حذف الفاء
(4)
، كما في قوله:
مَن يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها
(5)
(1)
بعدها في (ح) و (ف) و (ك)"من قَصَر على الأول فقد قصَّر"، والمثبت من (م).
(2)
هي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 96).
(3)
في (ك) و (م): "إذ".
(4)
تنسب لطلحة بن سليمان. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 27)، و"الكشاف"(1/ 537).
(5)
صدر بيت عزاه سيبويه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وعجزه:
والشرُّ بالشرِّ عند الله مِثلانِ
انظر: "الكتاب"(3/ 65)، و"الكشاف"(1/ 537).
أو على أنه كلامٌ مبتدأ، و {أَيْنَمَا} متصلٌ بـ (لا تُظلمون)، وعلى هذا (أين) ظرفُ مكان لا اسم شرطٍ، وانتفاءُ الظلم يَنتظِم الدارين.
{وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} : في قصورٍ أو حصونٍ مرتفعةٍ، والبرج في الأصل: بيت على طَرَف القصر، وأصل البروج: الظهور، ومنه: تَبَرَّجت المرأة، إذا أظهرت محاسنَها.
وقرئ: (مُشيِّدةٍ) وصفًا لها بوصفِ فاعلها
(1)
؛ كقولهم: شِعرٌ شاعرٌ، و (مَشِيْدةٍ)
(2)
من شاد القصر: إذا رفعه.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} : نعمةٌ كخصبٍ.
{يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ؛ أي: نسبوها إليه تعالى نسبةً مجرَّدةً عن توسُّط كسبِ العبد.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : بَلِيَّةٌ كقحطٍ.
الحسنةُ والسيئة كما يقعان على الطاعة والمعصية، كذلك يقعان على النعمة والبليَّة.
{يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ؛ أي: أضافوها إليك، وقالوا: إنْ هي إلا شؤمُك؛ كما قالت اليهود: منذ دخل محمدٌ صلى الله عليه وسلم المدينةَ نَقَصتْ ثمارُها وغَلَتْ أسعارها.
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : بتقديرِ الله، واقعٌ على حَسَبِ سنَّته في خلقه، قال الله تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [لأعراف: 168] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94].
(1)
تنسب لنعيم بن ميسرة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 27)، و"الكشاف"(1/ 538).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 538).
ولما كان هذا تفصيلَ ذلك المجمَل المنزَل ظهَر حُسن الموقع للفاء في قوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} يوعَظون به وهو القرآن، وتنكيرُه للتعظيم والتنبيهِ على أنه لا حاجةَ إلى الإشارة عند الإطلاق ومساعدةِ المساق
(1)
.
نفَى المقاربةَ وهو أبلغ من نفي الفعل.
* * *
{مَا أَصَابَكَ} خاطَب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليُعلم حالُ ما أصاب غيرَه بطريق الدلالة.
{مِنْ حَسَنَةٍ} : من نعمة.
{فَمِنَ اللَّهِ} تفضُّلًا منه، فإنَّ كلَّ ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئُ نعمة الله، فكيف
(2)
يقتضي غيرَه.
{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} : من بَليَّةٍ
(3)
.
{فَمِنْ نَفْسِكَ} يعني: هو وإن كان من عند الله باعتبارِ الإيجاد والفاعليَّة، لكنْ لمَّا كان السببُ القابلُ
(4)
المقتضي لذلك فعلَك واستحقاقَك فهو من عندك، وبما كسَبَتْ
(1)
في هامش (ح) و (ف): "والمعنيان الآخران المذكوران في تفسير القاضي لا يناسبان المقام، كما لا يخفى على ذوي الإفهام. منه". قلت: والمعنيان اللذان ذكرهما القاضي البيضاوي في "تفسيره"(2/ 85) زيادة على المصنف هما: حديثًا مّا كبهائم لا أفهام لها، أو: حادثًا من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى.
(2)
في النسخ: "وكيف"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 86).
(3)
"من بلية" ليست في (ك) و (م).
(4)
"القابل" من (ك) و (م).
يداك واستدعائك إياه أنزلت بك، كقوله:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
لمَّا نسبوا النعمة إلى الله، والبليَّةَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ردَّ الله عليهم بأنَّ الكلَّ من عند الله لا فاعلَ لها سواه، ولا واسطة في البلايا سوى أنفسِهم دون النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما زعموا، فتمامُ الردِّ عند قوله:{فَمِنْ نَفْسِكَ}
(1)
.
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} جميعًا، لا للعرب خاصةً كما زعمه بعض المنكِرين، وهذا المعنى مستفادٌ من ذكر اسم الجنس بمساعدة المقام
(2)
.
{رَسُولًا} حالٌ قُصد بها التأكيد، ويجوز نصبُه على المصدر كقوله:
ولا خارجًا مِن فيَّ زُورُ كلامِ
(3)
ولا يجوزُ تعلُّق الجارِّ بها؛ لأنَّه يُفهَم منه اختصاصُ رسالته صلى الله عليه وسلم بجنسِ الإنس.
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على ذلك بنصبِ المعجزة، فوجب على الكلِّ طاعتُك واتِّباعُك، ولهذا قال:
* * *
(1)
في هامش (ف): "وبهذا يندفع ما يقال: إنهم لم يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم فاعلًا للبلايا، بل واسطة كما في قوله تعالى: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ولهذا قال: وما كانت إلا بسومك، فلا يمكن جعل المبدئ والفاعل هو الله وحده ردًا لمقالهم. منه".
(2)
في هامش (ح) و (ف): "لا دخل فيه لتقديم الجار والمجرور لمتعلقه. منه".
(3)
عجز بيت للفرزدق، وهو في ديوانه (2/ 212)، و"الكتاب"(1/ 346)، وصدره:
على حلفةٍ لا أَشْتِمُ الدَّهرَ مسلمًا
وأراد كما قال سيبويه: ولا يخرج خروجًا.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لا لأنَّه في الحقيقة مبلِّغٌ والَامرُ هو الله تعالى؛ لأنَّه لا ينتظِمُ إطاعتَه في غير الأحكام الشرعية، بل لأنَّه تعالى أرسله وأَمر بإطاعته.
والعدول عن الضمير إلى المُظهَر للإشعار بترتُّب إيجاب الإطاعة على وصف الرسالة.
ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحبَّني فقد أَحَبَّ اللهَ، ومَن أطاعَني فقد أطاعَ اللهَ" فقال المنافقون: لقد قارَفَ الشركَ وهو يَنهَى عنه، ما يريد إلا أنْ نتَّخِذَه ربًّا كما اتَّخذت النصارى عيسى، فنزلت
(1)
.
{وَمَنْ تَوَلَّى} ؛ أي: عن طاعته؛ حُذف جزاؤُه وهو: فأَعْرِضْ عنه، وأُوقع ما هو سببٌ
(2)
له موقعَه فقيل:
{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبُهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وهو حالٌ من الكاف.
* * *
{وَيَقُولُونَ} إذا أمرتهم أمرًا أو نهيتهم عن شيء.
{طَاعَةٌ} ؛ أي: أمرُنا طاعةٌ؛ أي: لك، وأصلُها النصبُ على المصدر، والعدولُ إلى الرفع للدلالة على الثبات.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 539). قال الحافظ في "الكاف الشاف"(ص: 46): لم أجده.
(2)
في (م) و (ك): "مسبب".
{فَإِذَا بَرَزُوا} خرجوا {مِنْ عِنْدِكَ} ؛ أي: غابوا عنك، والفاءُ للدلالة على عدم التراخي بين قولهم الموافقِ وفعلهم المخالف
(1)
.
{بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} ؛ أي: زوَّرت وسوَّت
(2)
.
{غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} خلافَ ما قلتَ لها، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة.
والتبييت: إمَّا من البيتوتة لأن الأمور تدبَّر بالليل، أو من البيت المبنيِّ لأنَّه يسوَّى ويدبَّر.
وقرئ: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ}
(3)
بالإدغام؛ لقُربهما في المخرج.
{وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} وعيدٌ لهم؛ أي: يُثْبتُ في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه، أو: يكتب في جملةِ ما يُوحي إليك فيطلعُك عليه، فلا يُغني عنهم إسرارُهم.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تشتغل بالانتقام منهم.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في الأمور كلِّها سيَّما في شأنهم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} لمن توكَّل عليه، فهو الرافع كيدَهم عنك، والمنتقمُ منهم لك.
* * *
(1)
"المخالف" من (م).
(2)
في (ك) و (ف): "وسورت"، وفي (ك):"وسولت". والمثبت من (م)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(1/ 539)، و"روح المعاني"(6/ 163).
(3)
هي قراءة حمزة وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 96).
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} الهمزة للإنكار، والفاءُ للعطف على محذوفٍ، أي: أيقدَحون في القرآن فلا يتدبَّرونه
(1)
؛ لأنهم لو تدبَّروه حقَّ التدبُّر لم يكن لهم شكٌّ في تَوافُق معناه وتناسُقِ نَظْمه.
والتدبر: إثارةُ المعاني بغَوصِ الأفكار، واستخراجُ جواهر المعاني بدقائق الاعتبار، وهو في الأصل: النظر في دُبُر الأمر؛ أي: عاقبتِه، ثم استُعمل في كلِّ تأمُّلٍ ونظرٍ سواءٌ كان في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقِه وأعقابه، وفيه باعتبار أصله إشارةٌ إلى ما في مقاطع
(2)
الكلام من مظانِّ الطعن في بادئ الرأي، التي تزول عند التأمُّل وتدقيق النظر.
والواو في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} للحال، وغيرُ الله ينتظِمُ الجنَّ والملَك، وفيه دلالةٌ على أنه كلام الله تعالى، وأمَّا إعجازه فالثابتُ به أنه ليس من كلام البشر، ولا يلزمُ منه أن يكون كلامَ الله تعالى.
{لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} من جهة فصاحة اللفظ وبلاغةِ النَّظْم وصحةِ المعنى؛ لأن الخطيب الفصيح البليغ إذا كثُر كلامه اختلَّ نظامه، واختلفت أقسامُه، خصوصًا إذا تطاولت في تفاريق كلامه أيامُه؛ لنقصان قُدرة غير خالق القُوى والقُدَر
(3)
، وما يوجد فيه من الاختلاف في الأحكام لاختلاف الأحوال في الحِكَم، لا للتناقض في الحُكْم.
(1)
في (ح) و (ف): "يتدبرون".
(2)
في النسخ عدا (م): "مقاطعة"، والمثبت من (م).
(3)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: لنقصان القوة البشرية، لم يدر أنه لا يكفي في تمام التقرير على ما نبهت عليه. منه". قلت: المراد بالقائل المذكور هو البيضاوي. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 86).
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} {مِنَ} للبيان، وبيانُ (الأمر) بمجموعِ الأمن والخوف؛ أي: ما يوجبهما، لا بأحدهما على سبيل البدل، فكلمة {أَوِ} للتنويع لا لمنع الجمع.
{أَذَاعُوا بِهِ} : فعلوا الإذاعة به، وهو أبلغُ من: أذاعوه؛ للدلالة على أنه يوجد نفس الحقيقة؛ كما في نحو ينظر ويمنع، ولِمَا
(1)
فيه من الإبهام والتفسير.
والإذاعة: الإشاعة والإفشاء، كان يفعلُه قوم من ضَعَفة المسلمين إذا بلَغهم خبرٌ عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبرهم
(2)
الرسول عليه السلام بما أُوحي إليه من ظَفَرٍ بالعدوِّ أو تخويفٍ من الكفرة، أذاعوا به لعدم حزمهم، وكانَ فيه مفسدةٌ.
{وَلَوْ رَدُّوهُ} ؛ أي: الأمرَ.
{إِلَى الرَّسُولِ} ؛ أي: لم يحدِّثوا به حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدِّث به.
{وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم كبارُ الصحابة رضي الله عنهم البُصَراءُ بالأمور، أو أمراءُ السرايا.
{لَعَلِمَهُ} على أيِّ
(3)
وجهٍ يُذكر.
{الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} : يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم، وأصل
(1)
في النسخ عدا (م): "لما"، والمثبت من (م).
(2)
في (ف): "أخبر"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 87).
(3)
"أي" من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 87).
الاستنباط: إخراج النَّبَط، وهو الماء الذي يخرجُ من البئر أوَّلَ ما تُحفر. وقيل: كانوا يسمعون أراجيفَ
(1)
المنافقين فيذيعونها، فيعود وبالًا على المسلمين، ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وَيعرفوا أنه هل يصحُّ أن يُذاع؟ لعُلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول وأولي
(2)
الأمر؛ أي: يستخرجون علمه من جهتهم.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أيها الرسول والمؤمنون بما أَنزل من الهدى، وأَظهر من كيد الشيطان والمنافقين.
{لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} ودُمتم على الكفِّ عن القتال والإصغاء إلى المنافقين المثبِّطين.
{إِلَّا قَلِيلًا} هم رسلُ الله صلوات الله عليهم أجمعين والمستنبِطين
(3)
، وفيه تحريكٌ من حميَّة الضَّعَفة مع لُطفٍ وإخمادٍ لحال الأقوياء.
* * *
ثم قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: فإذا كان الأمر كذلك من أنك أُوتيتَ الفضل والرحمة مع ما وفِّقت له من سابقة القَدَم في التجنُّب عن اتِّباع الشيطان، قاتلْ في
(1)
في (م): " بأراجيف".
(2)
في النسخ: "وإلى أولي"، وهو خطأ. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 87).
(3)
في (ح) و (ف): "هم أصحاب رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين والمستنبطين"، وفي (ك):"هم رسول الله والمستنبطين"، والمثبت من (م). ولعل الصواب:(والمستنبطون).
سبيل الله وإعلاءِ كلمة الرحمن، ولا تُبالِ بكيد المنافقين واستجرارِهم الضعفاء، وما تحصَّلَ من مَفسدة الإذاعة، فإنه لا يَضرُّك خذلانُ خاذلٍ قويٍّ أو ضعيف
(1)
، فالله ناصرك لا الجنودُ، بإحلال بأسه بمن يُعاديك.
{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} نصبٌ على الحال من فاعل {فَقَاتِلْ} ؛ أي: فقاتل
(2)
غيرَ مكلَّفٍ إلا نفسَك وحدها؛ يعني: لا يضرُّك مخالفتُهم وتقاعدُهم فتقدَّمْ إلى الجهاد وإنْ لم يساعدك أحدٌ، فإن الله ناصرُك لا الجنود.
رُوي: أنه عليه السلام دعا الناس في بدرٍ الصُّغرى إلى الخروج، فكرهه بعضُهم فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يَلْوِ على أَحَدٍ
(3)
.
وقرئ: (لا تُكلَّف) بالجزم، و:(لا نُكلِّفُ) بالنون على بناء الفاعل؛ أي: لا نكلِّفُكَ إلا فِعْلَ نفسِك، لا أنَّا لا نكلِّف أحدًا إلا نفسَك
(4)
؛ لقوله:
(1)
في هامش (ح) و (ف): "على ما ذكر القاضي وغيره لا يظهر وجه هذا الترتيب. منه".
(2)
"فقاتل" من (م).
(3)
ذكره عند تفسير هذه الآية دون عزو كل أبي الليث والبغوي والزمخشري والقرطبي والبيضاوي وعنه نقل المؤلف، وعزاه الطبرسي في "مجمع البيان"(5/ 176 - 177) للكلبي، فلعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وعلى كل فالكلبي متروك، والخبر لا حجة فيه، كما أنه يخالف ما رواه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(11017)، حيث روى هذه القصة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لكن في سبب نزول قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174].
(4)
انظر: "الكشاف"(1/ 542)، و"تفسير البيضاوي" (2/ 87). وقوله:"لا نكلِّفُكَ إلا فِعْلَ نفسِك، لا أنَّا لا نكلِّف أحدًا إلا نفسَك" رد من البيضاوي على الزمخشري في قوله شارحًا للقراءة: (أي: لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها). لكن قيل: لا مانع من ذلك على معنى: لا نكلف =
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال، وما عليك إلا تحريضُهم فحسْبُ، لا التَّعنيفُ بهم.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: كفارِ قريش، وقد كفَّ، وقد بدا لأبي سفيان وقال: هذا عامٌ مجدِبٌ، فرجع بهم
(1)
.
{وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} من قريش.
{وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} تعذيبًا منهم، وفيه تقريعٌ لمن لم يتَّبعه.
* * *
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} هي التي رُوعي بها حقُّ مسلم، ودُفع بها عنه شرٌّ، أو جُلب بها إليه خيرٌ، لا في حدٍّ من حدود الله أو حقٍّ من حقوقه، طلبًا لرضى الله تعالى لا لغرضٍ من أغراض الدنيا، والسيئةُ بخلاف ذلك.
{يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وهو ثوابُ الشفاعة والتسبُّبِ إلى الخير الواقع بها.
وقيل: الشفاعة الحسنةُ هي الدعوة للمسلم؛ لأنها في معنى الشفاعةِ إلى الله تعالى، وعسن النبي عليه السلام:"مَن دعا لأخيه المسلمِ بظهرِ الغيب استُجيبَ له، وقال له الملك: ولك مثلُ ذلك"
(2)
، فذلك النصيب، والدعوةُ على المسلم بضدِّ ذلك.
= أحدًا هذا التكليف إلا نفسك. انظر: "روح المعاني"(6/ 174).
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 542).
(2)
رواه مسلم (2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه،
{يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} : نصيبٌ من وِزْرِها مُساوٍ له في القَدْر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} : مقتدِرًا، من أقاتَ على الشيء: إذا قدر عليه.
أو: شهيدًا حافظًا، من القُوت فإنه يقوِّي البدنَ ويحفظُه.
* * *
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الجمهور على أنه في السلام، ويدلُّ على وجوب الجواب؛ إمَّا بأحسن منها وهو أن يزيد عليه: ورحمة الله، فإن قاله المسلِّم زاد: وبركاتُه، وهي النهاية، وذلك لاستجماعه أقسامَ مطالب السلامة عن المضارِّ، وحصولِ المنافع وثباتها. أو بردِّها
(1)
بأن يقول: عليك
(2)
، إنْ بلغ المسلِّم نهايته؛ لِمَا رُوي: أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك، قال:"وعليك السلام ورحمة الله"، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال:"وعليك السلام ورحمة الله وبركاته"، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال:"وعليك" فقال الرجل: نَقَصْتني
(3)
فأين ما قال الله؟ وتلا الآية، فقال عليه السلام:"إنك لم تترك لي فضلًا فردَدْتُ عليك مثلَه"
(4)
.
فكلمة {أَوْ} للتنويع لا للتخيير؛ لِمَا عَرفتَ أنَّ كلًّا من الزيادة وردِّ المثل مشروطٌ بشرطٍ ينافي شرطَه الآخر فلا يجتمعان.
(1)
في (م): "يردها".
(2)
"عليك" من (م).
(3)
في (م): "أنقصتني".
(4)
انظر: "الكشاف"(1/ 544)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 88). ورواه الطبراني من حديث سلمان ومن حديث ابن عباس، وكلا الحديثين إسناده ضعيف. انظر:"الكاف الشاف"(ص: 46).
وأيضًا: التخيير بين أمرين أحدُهما أيسرُ من الآخر لا يكون على وجه الوجوب، على ما تقرَّر في موضعه.
وهذا الوجوبُ على الكفاية، وحيث السلامُ مشروعٌ فلا يُردُّ في الخطبة وقراءة القرآن، وفي الحمام وعند قضاء الحاجة.
والتحية: تفعلةٌ من حيَّى يُحيِّي تحيَّةً.
وكانت تحيةُ العرب عند اللقاء: حيَّاك الله؛ أي: أطال الله حياتَك، ونُقل ذلك في الإسلام إلى السلام، وبقي الاسم كذلك.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} يحاسبُكم على التحية وغيرها.
* * *
{اللَّهُ} مبتدأٌ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ) خبرٌ، أو اعتراضٌ والخبر:
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أَخبر بجمعه العالَم في يوم القيامة للمجازاة، وإنما قال:
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} تنبيهًا على أن جمعهم بطريق الحشر. والقيامُ والقيامةُ كالطِّلاب والطِّلابة، وهي قيامُ الناس من قبورهم أو للحساب.
{لَا رَيْبَ فِيهِ} في اليوم، أو في الجمع، فهو حال من اليوم أو صفة للمصدر.
ولمَّا ذكر الجمع مُقسِمًا عليه أردفه بقوله:
{وَمَنْ أَصْدَقُ} ؛ أي: لا أحد أصدق {مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجهٍ؛ لأنَّه نقص ينافي الألوهية.
{فَمَا لَكُمْ} الفاء للترتيب على ما فُهم مما تقدَّم من أنَّ ما نزل
(1)
في حقِّ المنافقين وبيانِ أحوالهم حقٌّ مطابقٌ للواقع.
{لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ؛ أي: فما لكم تفرَّقتُم في أمر المنافقين فرقتين ولم تتَّفقوا على كفرهم الذي نطق به المنزَل، وذلك أن ناسًا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة
(2)
، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم
(3)
. وقيل غيرُ ذلك.
و {فِئَتَيْنِ} نصبٌ على الحال من الضمير في (ما لكم) والعامل فيها ما في الظرف من معنى الاستقرار، كقولك: ما لك قائمًا.
و {فِي الْمُنَافِقِينَ} حال من {فِئَتَيْنِ} ؛ أي: متفرِّقين فيهم، أو من الضمير؛ أي: فما لكم تفترقون فيهم، ومعنى الافتراقِ مستفاد من {فِئَتَيْنِ} .
{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} : ردَّهم في حُكم المشركين. أصل الرَّكْس: ردُّ الشيء مقلوبًا.
(1)
في (ك): "أنزل".
(2)
أي: معتلين باجتواء المدينة، كما هي عبارة "الكشاف"، والمذكور من "تفسير البيضاوي"، وعنه نقل المؤلف. والاجتواء بالجيم من قولهم: اجتويت البلد، إذا كرهت الإقامة فيها وإن كنت في نعمة، وأصل معناه: كراهيتُها لوخامتها المقتضيةِ للجوى، وهو المرض داء الجوف إذا تطاول. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 164).
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 545)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 88). والخبر رواه الطبري في "تفسيره"(7/ 282) عن مجاهد.
{بِمَا كَسَبُوا} من لحوقهم بهم
(1)
، واحتيالِهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو: ردَّهم في الكفر بسبب مرضِ قلوبهم وسوءِ عقيدتهم.
جملةٌ اعتراضية مُثْبتةٌ لوجوب اتِّفاق المؤمنين على نِفاقهم، رافعةُ لاختلافهم في ذلك، مقرِّرةٌ لمعنى الإنكارِ الذي في (ما) الاستفهاميةِ، أو حالٌ مبيِّنة.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا} إلى الحق {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} عن طريق الحقِّ.
معنى
(2)
الهمزة: إنكارُ إرادتهم هدايةَ مَن أضلَّ اللهُ تعالى لكونه مستحيلًا، ولذلك قال
(3)
: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} ؛ أي: إلى الاهتداء، أو: لن تجد لهدايته سبيلًا؛ لاستحالةِ وقوع ما أراد الله
(4)
خلافَه تقريرًا لإنكار إرادتهم
(5)
المتعلِّقة بالمحال.
* * *
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} : تمنَّوا راغبين في أن تكفروا ككفرهم، أكد ودادتَهم لكفرهم بـ {لَوْ} وبقوله:{كَمَا كَفَرُوا} ؛ أي لا يرضَون
(6)
بما شأنكم
(7)
(1)
"بهم" من (م).
(2)
في (م): "ومعنى"، وسقطت الكلمة من (ح).
(3)
في (م) زيادة: "إلى الحق".
(4)
لفظ الجلالة: "الله" من (ك) و (م).
(5)
في (ك) و (م): "لإرادة إنكارهم".
(6)
في (ح) و (ف) و (ك): "يعرضون".
(7)
في (م): "نشأ بكم".
الكفر، بل تمنَّوا لكم كفرًا بالغًا أصيلًا راسخًا مثلَ كفرهم، ثم بالَغ في ذلك بقوله:
{فَتَكُونُونَ سَوَاءً} لا يترجَّح كفرُهم، عطفٌ على {وَتَكْفُرُونَ}؛ أي: ودُّوا كفرَكم وكونَكم مستوِينَ معهم في الضلال، ويجوز نصبُه على جواب التمنِّي
(1)
.
{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} : فلا تتولَّوهم وإنْ أظهروا الإيمان.
{حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : حتى يظاهِروا الإيمان بهجرةٍ صحيحةٍ في سبيل الله، بنيَّةٍ صادقة لله ولرسوله، لا لغرضٍ من أغراض الدنيا.
وسبيلُ الله: ما أَمر بسلوكه.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : فإن أعرضوا عن الهجرة المستقيمة التي تصدِّق إيمانهم.
{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ؛ أي: فحكمُهم حكمُ
(2)
سائر المشركين في وجوب قتلهم حيث وُجدوا في الحِلِّ والحَرَم.
{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ؛ أي: وإنْ بذلوا لكم الولاية والنُّصرة، فلا تقبلوا وجانِبوهم مجانَبةً كلِّيةً.
* * *
(1)
في هامش (ح) و (ف): "يعني التمني المفهوم من لفظ {لَوْ} لا من لفظ {وَدُّوا} كما توهم أبو حيان. منه".
(2)
في (ك) و (م): "كحكم".
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} استثناءٌ من قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} إلا الذين يتصلون
(1)
وينتهون إلى قوم عاهدوكم ويفارقون محارَبتكم، فإنهم
(2)
في حكمهم في الميثاق، وهم مَن وادَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتَ خروجه إلى مكةَ على أنْ لا يُعِينوه ولا يُعِينوا عليه، ومَن لجأ إليهم فله من الجِوارِ مثلُ ما لهم.
{أَوْ جَاءُوكُمْ} عطفٌ على صلة الموصول؛ أي: أو إلا الذين جاءوكم كافِّين من قتالكم وقتالِ قومهم، استثنى عن المأمور بالأخذ والقتل مَن ترك المحارِبين ولحقَ المعاهَدين، ومَن جاء المؤمنين وكفَّ عن قتالِ الفريقين.
لا
(3)
على صفةِ {قَوْمٍ} لأن الاستثناء يدلُّ بأن سبب ترك التعرُّض لهم أمران:
أحدهما: الاتصال بالمعاهَدين.
والآخر: الاتصال بالكافِّين عن القتال إن كان العطف على الصفة، ونفسُ الكفِّ عن القتال إن كان العطف على الصلة، وقوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} يرشدُ إلى أنه الكفُّ.
وقرئ بغير العاطفِ
(4)
على أنه بيانٌ لـ {يَصِلُونَ} ، أو بدلٌ، أو استئنافٌ.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} في موضع الحال بإضمارِ (قد)، يدلُّ عليه قراءة:{حَصِرَةً صُدُورُهُمْ}
(5)
، و:(حَصِرَاتٍ [صدورُهم])، و:(حاصِراتٍ صدورُهم)
(6)
، وجعلَه
(1)
في (ف): "يصلون"، وسقطت من (ح).
(2)
في (ح) و (ف): "فإنكم"، وهو تصحيف.
(3)
كلمة: "لا" وقع بدلا منها في (ح): "أو"، وسقطت من (ف) و (ك).
(4)
أي: {جَاءُوكُمْ} دون {أَوْ} ، وتنسب لجناح بن حبيش كما في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 28)، ولأبي رضي الله عنه كم في "الكشاف"(1/ 547).
(5)
هي قراءة يعقوب من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 251).
(6)
نسبت أولاهما للضحاك، والثانية لجناح بن حبيش كما في "المختصر في شواذ القراءات" =
المبرِّد صفة لموصوفٍ؛ أي: أو جاءوكم قومًا حَصِرَت صدورُهم
(1)
.
وقيل: بيان لـ {جَاءُوكُمْ} . وهم بنو مُدْلجٍ، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مقاتلين.
والحَصَر: الضِّيقُ والانقباض.
{أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} : عن أن يقاتلوا، صلةٌ لـ {حَصِرَتْ} ، أو: كراهةَ أن يقاتلوكم، مفعولٌ له.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} ؛ أي: ولو شاء الله أن يبتليَكم بهم لابتلاكم بتسليطهم عليكم، وهذا بيانُ القدرة ولا يلزمه الموافقةُ للحكمة فإنها تستتبعُ الوقوع دون القدرة
(2)
.
{فَلَقَاتَلُوكُمْ} ولم يكفُّوا عنكم.
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ؛ أي: فإنْ لم يتعرَّضوا لكم.
{وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} : الاستسلام والانقياد.
{فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} : فما أذِنَ لكم في قتلهم وأخذِهم.
* * *
= (ص: 28)، وانظر:"الكشاف"(1/ 547)، والكلام وما بين معكوفتين منه.
(1)
"وحصرات وحاصرات صدورهم وجعله المبرد صفة لموصوف أي أو جاءوكم قومًا حصرت صدورهم" من (م)، والموافق لما في "الكشاف".
(2)
في هامش "ف": "ومن لم يفرق بينهما قال ما قال وماذا بعد الحق إلا الضلال. منه".
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} هم أسدٌ وغطفان.
وقيل: بنو عبد الدار، أتوا المدينة وأظهروا الإسلام فلمَّا رجعوا كفروا.
{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} : كلما دعاهم قومُهم إلى قتال المسلمين.
{أُرْكِسُوا فِيهَا} رُدُّوا فيها وقلبوا أَخْبثَ قلبٍ وأشنعَه
(1)
؛ لضمِّهم الكفر إلى الغدر ونقضِ العهد.
{فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} : الاستسلامَ والانقياد {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} عن قتالكم، كلاهما معطوفان على {يَعْتَزِلُوكُمْ} في حُكم الجزم بـ {لَمْ} .
{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} : حيث تمكَّنْتُم منهم؛ لأنهم لم يَكفُّوا أيديَهم عن القتال
(2)
.
{وَأُولَئِكُمْ} إشارة إلى أن الموصوفين بدوامِ نقض العهد والخيانةِ مرةً بعد أخرى في جميع الأوقات إنما يستحقُّون تسليط الله تعالى إياكم عليهم، وإظهارَكم بالحجة لهذه الصفات.
{جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} : حجةً واضحة في التعرُّض لهم بالقتل والسَّبي؛ لظهور حالهم في الكفر والعداوة والغدر، أو: تسلُّطًا ظاهرًا حيث أَذن لكم في قَتْلهم أينما اقتَدَرْتم عليهم.
(1)
في (م): (وأبشعه)، والمثبت من (ك)، وهو الموافق لما في "الكشاف" (1/ 548). وتحرفت العبارة في (ح) و (ف) إلى:"وقبلوا خبث قلب واسعة".
(2)
في هامش (ح) و (ف): "من لم يتنبه له قال: فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض. منه". والقائل هو البيضاوي في "تفسيره"(2/ 89).
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ؛ أي: ليس من شأنه ولا يليقُ بوصف الإيمان.
{أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} يباشرَ بقتله مِن عند نفسه بلا إيجابِ الشرع ولا رخصةٍ منه.
{إِلَّا خَطَأً} مفعولٌ له؛ أي: لعلةٍ ما
(1)
إلا للخطأ وحده، أو حالٌ بمعنى: مخطئًا؛ أي: ليس له قتلُه في حالٍ من الأحوال إلا في حالِ الخطأ، أو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: إلا قتلًا خطأً، وهو ما لا يُضامُّه القصدُ إلى الفعل أو الشخصِ، فما لا يُقصد به زُهوق الروح غالبًا من قَبيل الأول؛ لأنَّه ما قَصد إلى القتل بل قَصد إلى الضرب، وما لا يُقصد به محظورٌ - كرمي مسلم في صفِّ الكفار مع الجهل بإسلامه - من قبيل الثاني؛ لأنَّه ما قصد إلى الشخص المسلم في زعمه، بل قصد الشخص الكافر، والمعتبَر في القصد زعمُ القاصد.
وأمَّا غير المكلَّف فالشرعُ لم يعتبر قصدَه، فأعطاه حكمَ الخطأ.
وقرئ: (خطاءً) بالمد
(2)
، و:(خطًا) كعصًا بتخفيف الهمزة
(3)
.
(1)
في (م): "أي لا لعلة ما".
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 28).
(3)
انظر: "المحتسب"(1/ 194).
والآيةُ نزلت في عيَّاشِ بن أبي ربيعةَ أخِ أبي جهلٍ من الأمِّ، لقي الحارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم، ولم يَشعرْ به عياشٌ فقتله
(1)
.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ أي: فعليه - أو: فواجبُه - تحريرُ رقبة.
والتحريرُ: جعل الإنسان حرًّا، كما أن الإعتاق: جعلُه عتيقًا، والحرُّ: العتيق والكريم؛ لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد، وحُرُّ الوجه: أكرمُ موضعٍ منه.
والرقبةُ يعبَّر بها عن النَّسَمة كما يعبَّر عنها بالرأس.
{مُؤْمِنَةٍ} : كبيرةً كانت أو صغيرةً، ذكرًا كان أو أنثى.
{وَدِيَةٌ} : عطفٌ على (تحرير).
{مُسَلَّمَةٌ} : مؤداة.
{إِلَى أَهْلِهِ} تُصْرف إلى ما تُصْرف إليه تركتُه، فالأهل يَنتظِم الوصيَّ وأمينَ بيت المال
(2)
.
ولم يعيِّن الله تعالى في كتابه ما يُعطَى في الدِّية، ولم يبيِّن فيه أن إيجابها على العاقلة أو القاتل، وإنما أُخذ ذلك من السُّنة.
{إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} : يتصدَّقوا عليه بالدِّية، وأصلُها على القاتل وتحملُها العاقلة تخفيفًا عليه، وسمِّي العفو عنها بالتصدُّق حثًّا عليه، وتنبيهاً على فضله، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ معروفٍ صدقةٌ"
(3)
.
(1)
رويت فيه مراسيل عن مجاهد وعكرمة والسدي. انظر: "تفسير الطبري"(7/ 306 - 308).
(2)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: إلى ورثته .. إلخ، لم يصب. منه".
(3)
رواه البخاري (6021) من حديث جابر رضي الله عنه، ومسلم (1005) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
وهو متعلِّقٌ بـ (عليه)
(1)
، أو بـ {مُسَلَّمَةٌ}؛ أي: تجب الدِّية عليه - أو: يسلِّمها إلى أهله - إلا حالَ تصدُّقهم إياها عليه، فهو في محلِّ النصب على الحال من القاتل، وأمَّا انتصابُه على الظرف فقيل: إنه مخالفٌ لنصِّ النحويين على منعِ قيام (أنْ) وما بعدها مقامَ الظرف، فإنه مما اختَصَّ به (ما) المصدريةُ.
{فَإِنْ كَانَ} ؛ أي: إنْ كان المقتول
(2)
{مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} : كفارٍ محاربين {وَهُوَ} ؛ أي: المقتول {مُؤْمِنٌ} يعني: إذا أسلم الحربيُّ في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، فقتَلَه مسلم ولم يعلم بإيمانه.
ولإفادة هذا القيد صدِّر الكلام بالفاء المرتِّبة له على ما تقدم، وفيه الكفارةُ لا غير، وهو قوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} قيل: دون الدِّيَة لأهله؛ إذ لا وراثة بينه وبينهم لأنهم محاربون.
وكأن هذا القائل غافلٌ عن العموم المذكور فيما سبق في مصرِف الدية.
والشافعيُّ حمله على مؤمنٍ اختلطَ بأهل الحرب، ويأباه قوله:{مِنْ قَوْمٍ} ؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون منهم.
{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يَنتظِم عهدَ الأمان وعقدَ الذمة.
{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ أي: حكمُه حكمُ المسلم في وجوب الكفارة والدية، وتقديم الدية هاهنا اهتمامًا في رعاية حكم الميثاق.
(1)
وهو المقدر بعد الفاء في قوله: {فَتَحْرِيرُ} .
(2)
في هامش (ح) و (ف): "من زاد على هذا قوله: المؤمن فكأنه غافل عن قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. منه". قلت: رد على قول البيضاوي في "تفسيره"(2/ 90): أي: (فإن كان المؤمن المقتول).
قيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم عهدٌ على أن يُسلِموا أو يؤذَنوا بحربٍ إلى أجلٍ معلوم، ومَن قُتل منهم وجَبتِ الدية والكفَّارة، ثم نُسخ بقوله:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وأما ما قيل: ولعله فيما إذا كان المقتول معاهَدًا وكان له وارثٌ مثلُه
(1)
، فلا صحة له:
أمَّا أولًا: فلأن قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ} صريحٌ في كون المقتول معاهَدًا، فلعله لم يُصِبْ محزَّه.
وأما ثانيًا: فلأن دية الذِّمِّي تؤخَذ لبيت المال إذا لم يكن له وارثٌ، وديةَ الحربي إنما تُعطى بحكم العهد، فقوله: أو كان
(2)
له وارثٌ، مما لا وجه له.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ؛ أي: الرقبةَ المؤمنة، بأنْ لم يملكها ولا ما يَتوصَّل به إليها، أو لم توجد في دياره.
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} : فعليه - أو: فواجبٌ - صيامُ شهرين.
{مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً} مصدر مؤكِّد؛ أي: تاب الله عليه توبةً، أو مفعولٌ له؛ أي: شَرَع ذلك توبةً منه.
{مِنَ اللَّهِ} صفتُها.
(1)
قوله: "وكان له وارث مثله"، كذا وقعت العبارة في النسخ، والذي في "تفسير البيضاوي" (2/ 90) وهو صاحب القيل المذكور: (
…
أو كان له وارث مسلم)، وعلى هذا شرح الشهاب في "الحاشية" (3/ 167) فقال:(يعني: لا يلزم دية بقتل شخص من قوم معاهدين؛ إذ يجوز أن يكون غير معاهد ولا مؤمن، إلا إذا كان معاهدًا فيلزم الدية للعهد، أو مسلمًا وله وارث مسلم، فالظاهر أن يقول: أو كان مسلمًا وله وارث مسلم، إذ المسلم لا يرث من الكافر، ففي عبارته تقصير).
(2)
في النسخ عدا (م): "فقوله وكان"، والمثبت من (م) وهو الصواب. انظر التعليق السابق.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بالأحوال، ويندرجُ فيها حالُ القاتل دخولًا أوليًا.
{حَكِيمًا} في الأفعال، ومنها ما أَمر في شأنه.
* * *
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} عَدَل هنا عن الماضي إلى صيغة المستقبل استبعادًا لوقوع هذا النوع من القتل.
{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} اقتَصر هنا
(1)
على بيانِ حكمه الأُخرويِّ لأنَّه بيَّن حكمَه الدنيويَّ في سورة البقرة.
{خَالِدًا فِيهَا} المراد بالتخليد: المكثُ الطويل، دون التأبيد، ولهذا لم يقل: أبدًا؛ لأن الدلائل متظاهرةٌ على أن عُصاة المسلمين لا يدومُ عذابهم.
وقيل: إنه مخصوصٌ بمن لم يَتُب؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82] ونحوِه.
أمَّا تخصيصُه بالمستحلِّ له كما ذكره عكرمةُ وغيرُه
(2)
، ففيه: أنه تخصيصٌ بلا
(1)
في (م) و (ك): "هاهنا".
(2)
انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 349)، وفيه:(وهذا القولُ يقالُ: إنَّه قولُ عكرمةَ؛ لأنَّه ذَكَرَ أنَّ الآيةَ نزلت في رجلٍ قَتلَ مؤمِنًا مُتعمِّدًا ثم ارتدَّ). قلت: والذي يظهر من كلامه أنه لم يجد نصًّا صريحًا عن عكرمة بهذا القول، فرأى أن من قال به قد استنبطه استنباطًا من رواية عكرمة للخبر المذكور، ولعله يشير بهذا إلى الطبري، حيث قال في "تفسيره" (7/ 341): (وقال آخرون: عُنِي بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه، وقتل رجلا مؤمنًا، قالوا: فمعنى الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} مستحلًّا قتلَه {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ، ذكرُ من قال ذلك
…
)،=
مخصِّصٍ، فإن سبب النزول لا يَصلُح له، وهو أن مِقْيَسَ بن ضُبابةَ وجد أخاه هشامًا قتيلًا في بني النَّجار، ولم يَظهر قاتلُه، فأخذ منهم الدِّيَةَ بأمره عليه السلام، ثم حَمل على مسلمٍ فقتله فرجع إلى مكة مرتدًّا
(1)
= إذ لا تصريحَ فيه بقتله مستحِلًّا، وقد تقرَّر في الأصول أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوصِ السبب.
ومراد ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا
(2)
، التشديدُ
(3)
؛ إذ رُوي عنه خلافُه
(4)
.
= ثم روى الخبر المذكور عن عكرمة كما سيأتي، وقد روي هذا الخبر أيضًا عن سعيد بن جبير وابن جريج وابن عباس كما سيأتي، ولذلك - والله أعلم - لم يقتصر البيضاوي الذي ينقل عنه المؤلف في عزو القول بالاستحلال على عكرمة بل قال:(ذكره عكرمة وغيره)، وعزاه ابن عطية في "المحرر الوجيز"(2/ 65) لابن عباس، والآلوسي في "روح المعاني" (6/ 222) لعكرمة وابن جريج وجماعة. بقي أن نذكر أن النحاس نفسه قد غلَّط القول المذكور معلِّلا ذلك بقوله:(لأنَّ "مَن" عامٌّ لا يُخَصُّ إلَّا بتوقيفٍ أو دليلٍ قاطعٍ)، في حين اعتبره ابن عطية هو الأصح في تفسير الآية.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1037 - 1038) عن سعيد بن جبير، والطبري في "تفسيره"(7/ 341)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة"(2/ 760) عن ابن جريج. ورواه ابن بشكوال أيضًا من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه الطبري أيضًا من طريق ابن جريج عن عكرمة.
(2)
رواه البخاري (4764)، ومسلم (3023/ 20).
(3)
"عمدًا التشديد" سقطت من (ح) و (ف)، و"التشديد" سقطت من (ك).
(4)
في (ح) و (ف): "خلاف". وروى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" واللفظ له، وابن أبي شيبة في "المصنف"(27753)، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (ص: 349)، عن سعد بن عبيدة: أن ابن عباس كان يقول: لمن قتل مؤمنًا توبة، فجاءه رجل فسأله: ألمن قتل مؤمنًا توبة؟ قال: لا، إلا النار. فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا، كنت تفتيتا أن لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟! قال: إني أظنه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا، فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} ؛ أي: انتَقَم منه وطرده من رحمته.
{وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} ؛ لاجْتِرائه على الله.
لمَّا كان قتلُ النفس المحرَّمة أكبرَ الكبائر بعد الشرك بالله
(1)
، بالَغ فيه بأنْ جعله منافيًا للإيمان حيث قال:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ} أي: ينافي وصفَ الإيمان قتلُ المؤمن، ثم بتنكير (مؤمن)؛ أي: ليس لأيِّ مؤمن كان، ثم بحذف الخبر المقدَّم لشدة العناية بالتصريح بالكفَّارة، ثم بإيجاب الدية والكفَّارة على قاتل الكافر المعاهَد حرمةً لها - وإن كانت كافرةً - بمجرد العهد، ثم بالوعيد مع التوبة بقوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ؛ لأنَّه أعظم الإثم بعلمه به، وإلا لقال:(غفورًا رحيمًا) اعتدادًا بالتوبة وتفخيمًا لها، فحقَّر التوبة في جنب الإثم مع كونه خطأً؛ لِمَا عسى يقعُ من تفريطٍ فيما يجب عليه من الاحتياط والتحفظ، ثم بالتهديد العظيم والإيعاد، والإبراق الشديد والإرعاد، على قتل العمد العدوَان بالوجوه المذكورة؛ من دخول جهنم، والخلودِ فيها، واستحقاقِ الغضب، ثم العذابِ العظيم، كلُّ ذلك تغليظٌ للدلالة على غلظ الأمر وعظم الخطب
(2)
.
* * *
(1)
"بالله" من (م).
(2)
في (م): "الخطيئة".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : إذا غزوْتم وسرتُم إلى الجهاد.
{فَتَبَيَّنُوا} وقرئ: {فَتَثَبَّتوا}
(1)
، وتَفَعَّلَ
(2)
بمعنى استَفْعَلَ الدالِّ على الطلب؛ أي: فاطلبوا بيانَ الأمر وثباتَه ولا تَعْجَلوا فيه، وقد قُوبل البيانُ بالعجلة في قوله عليه السلام:"التبيينُ من الله والعجلة من الشيطان"
(3)
.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} ؛ أي: لمن حيَّاكم بتحيةِ السلام
(4)
.
وقرئ: {السَّلَمَ}
(5)
؛ أي: الاستسلامَ والانقياد، وفسِّر به {السَّلَامَ} أيضًا.
{لَسْتَ مُؤْمِنًا} وإنما فعلتَ ذلك متعوِّذًا. وقرئ: (مؤمَنًا) بالفتح من آمَنه
(6)
؛ أي: لا يُؤْمِنُك.
{تَبْتَغُونَ} في محل النصب على الحال من الضمير في {تَقُولُوا} ، مُشعِرٌ بما هو الحاملُ لهم على العجلة؛ أي: لا تقولوا ذلك مبتغينَ.
{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : الغنيمةَ التي هي
(7)
حطامٌ سريع النفاد، فتتركون التثبُّت والتفحُّص عن حالِ مَن تقتلونه لأجْله.
(1)
هي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 97).
(2)
في (م): "وتفعل".
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(21/ 351 - 352) عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا بلفظ: "التبين .. "، وهو الأنسب بلفظ الآية.
(4)
في (م): "الإسلام".
(5)
هي قراءة حمزة ونافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 97).
(6)
هي رواية ابن جماز عن أبي جعفر كما في "النشر"(2/ 251)، ورواية ابن وردان عن أبي جعفر كما في "تحبير التيسير" (ص: 105).
(7)
في (ح) و (ف) و (م): "التي من". والمثبت من (ك)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(1/ 553).
{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يُغْنِمُكموها فتُغنيكم عن مِثْل هذه الفعلة الشنيعة، والفاءُ لتعليل النهي.
{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أوَّلَ ما دخلتُم في الإسلام سُمعت منكم كلمة الشهادة فحُصِّنت بها دماؤكم وأموالكم من غير اطِّلاع على قلوبكم ومواطأتِها لألسنتكم.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالاستقامة والتصلُّبِ في الدِّين والاشتهارِ بالإيمان والتقدُّم فيه، والفاء للعطف على {كُنْتُمْ} .
{فَتَبَيَّنُوا} : فافعلوا بالداخلينَ في الإسلام كما فُعل بكم، ولا تُبادِروا إلى قتلهم ظنًّا بأنهم دخلوا فيه اتِّقاءً وخوفًا، فإن إبقاءَ أَلْفِ كافرٍ أهونُ عند الله تعالى من قتلِ امرئٍ مسلمٍ.
وتكريرُ الأمر بالتبيين، والإيعادُ بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، للتأكيد؛ لتعظيم الأمر، وترتيبِ الحكم على ما ذكر، والمبالغةِ في التحذير عن مثل ما فَعلوا؛ أي: كونوا محترِزين محتاطِين مجتهدِين لإعلاء كلمة الإسلام وإعزازِ الدِّين، لا لطلبِ الغنيمة والمال، فإن الله مطَّلعٌ على ما في ضمائركم، خبيرٌ بأعمالكم وما يبتني عليها من نيَّاتكم فيؤاخذُكم بها، فلا تتهافَتوا في القتل.
رُوي أنَّ سريَّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَكٍ، فهربوا وبقي مرداسٌ ثقةً بإسلامه، فلما رأى الخيلَ أَلجأ غنمه إلى عاقولٍ من الجبل وصعد، فلمَّا تلاحَقوا وكبَّروا كبَّر ونزل وقال: لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسول الله، السلامُ عليكم. فقتله أسامةُ رضي الله عنه واستاق غنمه، فنزلت
(1)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 553)، وذكره الثعلبي في "تفسيره"(3/ 367) من طريق الكلبي عن أبي =
ولا دلالةَ فيه على صحة إيمان المكرَه، وإن ما رُوي ليس من الاجتهاد المعهودِ في شيء
(1)
.
* * *
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} عن الحرب.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في موضع الحال من القاعدين، أو من الضمير فيه.
{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} بالرفع بدلٌ من القاعدين، أو صفةٌ لهم؛ لأنَّه لم يُقصد بهم قومٌ بأعيانهم، ولأن (غير) قد تتعرَّف إذا وقعت بين ضدَّين.
وقرئ بالنصب
(2)
على الحال أو الاستثناء
(3)
، وقُرئ بالجر على أنه صفة لـ {الْمُؤْمِنِينَ} ، أو بدلٌ منه
(4)
.
رُوي: أنها نزلت ولم يكن فيها {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، فقال ابنُ أمِّ مكتوم: وكيف وأنا أعمى؟ فنزل القيدُ المذكور
(5)
.
= صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(7/ 357) عن السدي. وأصل الخبر عند مسلم (96).
(1)
رد على البيضاوي في قوله: وفيه دليل على صحة إيمان المكره، وأن المجتهد قد يخطئ، وأن خطأه مغتفر. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 91).
(2)
هي قراءة نافع وابن عامر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 97).
(3)
في هامش (ف): "وقيل: نصب بنزع الخافض، وفيه أنه سماعي لا قياسي. منه".
(4)
انظر: "الكشاف"(1/ 553)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 91)، والكلام منه.
(5)
رواه البخاري (2832)، ومسلم (1898)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
والضَّرر: النُّقصان، بدنيًّا كان كالعمى والعَرَج، أو ماليًّا كعدم الأُهْبة، ولمَّا كان مساقُ الكلام للتحريض على الجهاد كان الاستثناءُ المذكور لبيان أنهم غيرُ مُرادِين بالتحريض، وغيرُ المكلَّفين بالخروج إليه، لا أنهم كالمجاهدين في الإثابة والتفضيل.
{وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: لا مساواةَ بينهم وبينَ القاعدين عن الجهاد بلا عذرٍ، وفيه تذكيرُ ما بينهما من التفاوت؛ ليرغب القاعد في الجهاد رفعًا لرتبته، وأنفةً
(1)
عن انحطاط منزلته.
{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} نصبٌ على المصدر، وتنكيرُها للتعظيم، والمعنى: على القاعدين أُولي الضرر، نصَّ على ذلك الإمامُ الواحدي في "الوسيط" ثم قال: وذلك أن المجاهدين مباشرون للطاعة فلهم فضيلةٌ على القاعدين من أهل العذر وإن كانوا على نية الجهاد وقَصْدِه
(2)
.
وتفصيله: أن المراد بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي} إلى قوله: {وَأَنْفُسِهِمْ} : أنَّ بين المجاهدين والقاعدين غير الأضرَّاء بونًا بعيدًا، وأنْ ليس بين المجاهدين والقاعدين الأضرَّاء هذا البونُ البعيد، ولكن بينهم تفاوتٌ أيضًا
(3)
، وكان هذا المعنى محتاجًا إلى البيان فبيَّنه بقوله:{فَضَّلَ اللَّهُ} وبما عُطف عليه من قوله: {وَفَضَّلَ} ، فكلتا الجملتين
(1)
في (م): "واتقاء"، والمثبت موافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 91)، وقريب منه عبارة "الكشاف" (1/ 553):(ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته).
(2)
انظر: "الوسيط" للواحدي (2/ 104).
(3)
"وكذا قول صاحب "الكشاف": وأما المفضلون درجة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، يدل على هذا. منه".
بيانٌ له لا الجملةُ الأولى فقط، فبيَّن بالكلام الأول أنهم مفضَّلون على أهل العذر درجة، ثم قال:
{وَكُلًّا} يعني: المجاهدَ والقاعدَ المعذور، كذا
(1)
نقل في "الوسيط" عن مقاتل
(2)
.
{وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} : المثوبة الحسنى وهي الجنةُ؛ لحُسْن عقيدتهم وخلوصِ نيَّتهم، وإنما التفاوُتُ في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب. ثم بيَّن بقوله:
{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أن المجاهدين مفضَّلون على القاعدين من غير عذرٍ بدرجات.
وقوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} نصبٌ على المصدر؛ لأن (فضَّل) بمعنى: أَجَر، أو المفعولِ الثاني له لتضمُّنه معنى الإعطاء، كأنه قيل: وأعطاهم زيادةً على القاعدين أجرًا عظيمًا.
* * *
(96) - {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} كلُّ واحدة منها بدلٌ من {أَجْرًا} .
أو ينتصبُ {دَرَجَاتٍ} نصبَ {دَرَجَةً} ، كما تقول: ضربتُ سوطًا أو سوطاتٍ، أي: ضرباتٍ؛ كأنه قيل: فضَّلهم تفضيلات، و {أَجْرًا} حالٌ عن {دَرَجَاتٍ} مقدَّمةٌ عليها لكونها نكرةً، وينتصب {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} بإضمار فعلهما؛ أي: وغفَر لهم مغفرةً ورحمهم رحمةً.
(1)
في (م) و (ك): "كما".
(2)
انظر: "الوسيط" للواحدي (2/ 104).
وقيل: الدرجة: ارتفاعُ منزلتهم عند الله، والدرجات: منازلُهم في الجنة.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما عسى يَفرط منهم {رَحِيمًا} بما وعد لهم.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يجوز أن يكون ماضيًا، وأن يكون مضارعًا بحذف التاء؛ أي: تتوفاهم الملائكة، وقرئ:(تَوفَّتْهم) بتاء التأنيث على الماضي، و:(تُوفَّاهم)
(1)
على المضارع المبني للمفعول من (وُفِّيتْ) بمعنى: أن الله تعالى يوفِّي الملائكة أنفسَهم فيتوفونها؛ أي: يمكِّنُهم من استيفائها فيَتوفَّونها
(2)
.
{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} : في حال ظلمِهم أنفسَهم بترك الهجرة وموافقةِ الكفرة، فإنها نزلت في ناسٍ من مكةً أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ واجبةً
(3)
.
{قَالُوا} ؛ أي: الملائكة للمتوفَّين، وهو خبر {إِنَّ}؛ أي: قالوا لهم، حُذف الراجع.
{فِيمَ كُنْتُمْ} : بأيِّ سببٍ كنتُم على ما كنتُم عليه من مخالطة المشركين وموافقتِهم، ولفظةُ (في) هاهنا كالتي في قوله:{لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32].
(1)
في (م): "وتوفيهم".
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 553)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 92).
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 553)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 92). ورواه الطبراني في "الكبير"(12260) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 9): فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة وغيره وضعفه جماعة.
قيل: أي: في أيٍّ شيء كنتُم من أمرِ دينكم، ولا يَنتظِم الجوابَ
(1)
.
{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: في أرض مكة، أجابوا اعتذارًا مما وُبِّخوا به بضعفهم عن مقاومة المشركين، وعدمِ قدرتهم للمخالفة.
قيل: وعجزهم عن الهجرة. ولا ينتظمُه الردُّ
(2)
.
{قَالُوا} ؛ أي: الملائكة ردًا لهم:
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قطرٍ آخر فتتخلَّصوا عن أيدي المشركين كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة.
هذا السؤال والذي سبق يدلَّان على أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرةَ، فإنهم لو ماتوا كافرين لكان التوبيخُ على كفرهم.
{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ؛ لتركهم الواجبَ ومساعدتهم المشركين، وهو جملةٌ معطوفةٌ على جملةٍ قبلها مستنتجةٍ منها.
{وَسَاءَتْ مَصِيرًا} مصيرُهم، أو جهنمُ. كان الهجرةُ من فرائض الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله عليه السلام:"لا هجرةَ بعد الفتح"
(3)
.
وكأنه غافلٌ عن هذا مَن قال: وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضعٍ لا يتمكَّن فيه الرجل
(4)
من إقامة دينه.
(1)
لعله يشير إلى ما قاله الزمخشري "الكشاف"(1/ 555) بناء على القيل المذكور: (فإن قلت: كيف صح وقوع قوله: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} جوابًا عن قولهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو: لم نكن في شيء؟
…
)، وانظر تتمة كلامه ثمة.
(2)
في (م) و (ك): "المراد".
(3)
رواه البخاري (2783)، ومسلم (1353)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
في (م) و (ك): "الرجل فيه".
والإشارةُ إلى القوم المذكورين على العموم، ولهذا استثنَى منهم المستضعَفين العاجزين حقيقةً بقوله:
* * *
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} قيل: لمَّا نزل الوعيدُ المذكور قال المسلمون: هلك إخواننا الذين بمكة، فنزل:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الآيةَ
(1)
.
وذكرُ الولدان إنْ أريدَ به المماليك فظاهر، وإنْ أريد به الصبيان فللمبالغةِ في أمر الهجرة
(2)
، وإيهامِ أنها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلَّفين لوجب عليهم، والإشعارِ بأنه لا محيصَ لهم عنها البتةَ إذا بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا، وبأنَّ العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان.
وقيل: لتحقيق خروج الرجال والنساء عن الوعيد عند عدم الاستطاعة، فإنهم حينئذ كالولدان في عدم الإثم.
{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} صفة لـ {الْمُسْتَضْعَفِينَ} كقوله:
ولقد أَمرُّ على اللَّئيم يَسبُّني
(3)
(1)
في هامش (ح) و (ف): "رد لمن قال: استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه؛ لأن مبناه أن يكون المراد من المتوفين الكفار أو القادرون على الهجرة من العصاة، ولا دليل على كل منهما. منه".
(2)
في (م): "المهاجرة".
(3)
صدر بيت لشمر بن عمر الحنفي، تقدم عند تفسير قوله تعالى:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وعجزه:
فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني
أو حالٌ عنه، أو عن المستكنِّ فيه.
واستطاعة الحيلة: وجدانُ أصحاب الهجرة وما تتوقَّف عليه.
واهتداء السبيل: معرفةُ الطريق بنفسه أو بدليل.
* * *
(99) - {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (عسى) من الله تعالى دليلُ الوقوع؛ لأنَّه إطماعٌ، والكريم إذا أطمع أَنجز، وفي لفظ العفو إيذانٌ بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر من حقِّه أن لا يأمن
(1)
، ويترصَّدَ الفرصة ويعلِّقَ بها قلبه.
{وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا} بالتخفيف عن العاجزين {غَفُورًا} للقادرين الذين أخَّروا الهجرة بعد وجوبها إلى نزول الوعيد، فبقي الفرقةُ الثالثة - وهم القادرون الذين تركوا الهجرة - تحت الوعيد.
* * *
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} : مهاجَرًا يهاجرُ إليه على رغمِ مَن يفارقه، أو طريقًا
(2)
يُراغِمُ بسلوكه أنوفَ قومه المفارِق هو
(3)
منهم.
(1)
يعني: أن المضطر الذي تحقَّق عدمُ وجوبها عليه ينبغي أن يَعُدَّ تركها ذنبًا، ولا يأمن. انظر:"روح المعاني"(6/ 243).
(2)
في (م) و (ك): "أو طريقًا".
(3)
في (م) و (ك): "هو".
والرَّغْم: الذلُّ والهو أن، وأصله: لصوقُ الأنف إلى الرَّغام وهو التراب.
{وَسَعَةً} في الرزق وإظهارِ الدين.
{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قوله: {إِلَى اللَّهِ} ذُكر تمهيدًا لذكر الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعظيمًا له، وتنبيهًا على قَصْد اختصاصه بالله تعالى.
{ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} وقرئ: (يدركُه) بالرفع على أنه خبرُ محذوفٍ؛ أي: ثم هو يدركُه، وبالنصب على إضمار (أنْ)
(1)
، والجمهورُ على أن هذا في الواو والفاء في غير جوابِ
(2)
الأشياء الثمانية ضرورةً فكيف في (ثم)؟.
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فقد ثبت وتحقَّق بموجب وعدِه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لمَّا نزل آية الوعيد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بها إلى مسلِمي مكة، فقال جندب بن ضمرة لبنيه: احملوني احملوني
(3)
فإني لستُ من المستضعفين، وإني لأهتدي
(4)
الطريق، وكان شيخًا كبيرًا، فحمله بنوه على سرير متوجِّهًا إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ الأصحاب رضي الله عنهم موته فقالوا: لو لحق بنا لأتمَّ الله أجره، فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} وأَعلم أنه لا يخيب مَن الْتَمَس رضاه
(5)
.
(1)
انظر القراءتين في "المحتسب"(1/ 195)، و"الكشاف"(1/ 557).
(2)
"جواب" من (م).
(3)
"احملوني" الثانية ليست في "ك"، ولم ترد في "الكشاف"(1/ 557)، وعنه نقل المؤلف.
(4)
في النسخ: "لا أهتدي"، والمثبت من "الكشاف"(1/ 557) وغيره.
(5)
رواه أبو يعلى في "مسنده"(2679)، والطبري في "تفسيره"(7/ 398)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1050 و 1051)، والطبراني في "الكبير" (11709). وعندهم:(ضمرة بن جندب). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 10): رجاله ثقات.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} يغفر له ما كان من القعود إلى أن خرج.
{رَحِيمًا} يرحمه بإكمال أجرِ المهاجرين له.
* * *
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} : سافرتُم.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} بتنصيفِ ركعاتها
(1)
.
والقصرُ رخصةٌ عند الشافعي رحمه الله؛ لأن نفي الحرج في الرخصة لا في العزيمة.
قلنا: في الآية بيانُ حكم الخوف، فتوقَّف حكمُ حالة الأمن على قيام الدليل، وقد ورد ذلك في الحديث بلفظِ الصدقة
(2)
، ولو بقي فرضُ الأربعة فأين الصدقة؟
فمَن وَهَم
(3)
أنَّ الآية تخالِفُ قولَ عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان نبيِّكم
(4)
، وقولَ عائشة رضي الله عنها: أوَّلُ ما فُرضت الصلاة ركعتين، فأُقرَّت في السفر وزِيدت في الحضر
(5)
= فقد وَهِمَ.
(1)
في هامش (ح) و (ف): "ولا عبرة فيه بمدة السفر فتدبر. منه".
(2)
رواه مسلم (686) عن يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ، قال: قلتُ لعمرَ بنِ الخطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أَمِنَ النَّاسُ، فقال: عَجِبْتُ ممَّا عَجِبْتَ منه، فسَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال "صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبَلُوا صدقتَه".
(3)
في هامش (م): "القاضي البيضاوي".
(4)
رواه النَّسَائِيّ (1420)، وابن ماجه (1064).
(5)
رواه البخاري (350)، ومسلم (685).
وقُرئ: (تُقْصِروا) من أَقْصَرَ بمعنى قَصَر
(1)
.
و {مِنَ الصَّلَاةِ} صفةُ محذوفٍ - أي: شيئًا من الصلاة - عند سيبويه، ومفعولُ {تَقْصُرُوا} بزيادة {مِنَ} عند الأخفش.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: إنْ خفتُم أنْ يقصدكم الكفار بما يُكره من قتلٍ أو جَرحٍ أو أخذٍ، والخوفُ شرطٌ لجواز القصر عند الخوارج أخذًا بمفهوم هذه الآية، وعند الجمهور ليس بشرطٍ: أمَّا عند مَن لم يقل بحجِّية المفهوم فظاهر، وأمَّا عند مَن قال بها فلأنها مشروطةٌ بعدم معارضته
(2)
منطوقِ نصٍّ.
وقرئ: (من الصلاة أنْ يَفتِنكم)
(3)
بغير {إِنْ خِفْتُمْ} بمعنى: كراهةَ أنْ يفتنكم.
{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} ؛ أي: أعداءً، والعدوُّ يستوي فيه المفردُ والجمع، وإنما قال:
({مُبِينًا}) على اللفظ فإنه للمفرد
(4)
في الوضع وفيه إشعار بأن وصف الكفر الجامع لهم الباعث للعداوة جهة وحدتهم.
* * *
(102) - {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 104)، و"الكشاف"(1/ 558).
(2)
في (م): "معارضة منطوق".
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(7/ 408)، و"الكشاف"(1/ 559).
(4)
في (م): "للفرد".
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} وهي صلاة الخوف، وتعلَّق بالشرط المذكور
(1)
مَن خصَّها بحضرة الرسول قائلًا: إنها على خلافِ القياس، فلا يتعدى مورد النص، والجمهور على أنها غير مختصَّةٍ به عليه السلام، فإن الأئمة بعده نوَّابُه، فحضورُهم حضورُه، فينتظِمُهم النصُّ بطريقِ الدلالة لا بطريقِ القياس.
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} يصلُّون، وتقوم الطائفةُ الأخرى تُجاه العدوِّ، وأمَّا جَعْلُهم طائفتين فمفهوم اقتضاء
(2)
.
{وَلْيَأْخُذُوا} ؛ أي: المصلُّون {أَسْلِحَتَهُمْ} ، ولا يجوز أن يكون الضمير للطائفة الأخرى؛ لأنَّه حينئذ يتفرَّق الضمائر فيتنافر عليك النَّظم الذي هو أمُّ
(3)
إعجاز القرآن، والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي على طريقة التقدير دون التصوير، ومراعاتُه
(4)
أهمُّ ما يجب على المفسِّر
(5)
.
(1)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: تعلق بمفهومه، لم يصب؛ لأن المعلق أبو يوسف والحسن ابن زياد، وهما لا يقولان بحجية المفهوم. منه". والقائل المذكور هو البيضاوي. انظر: "تفسيره"(2/ 94).
(2)
في هامش (ح) و (ف): "من قال: فاجعلهم طائفتين فلتقم .. إلخ أنه يلزمه حينئذ أن لا تكون الفاء في {فَلْتَقُمْ} جزائية. منه".
(3)
"أم" من (م).
(4)
"ومراعاته": وقعت في (م) و (ك) قبل قوله: "والقانون"، ولعله سبق نظر من الناسخ.
(5)
في هامش (ح) و (ف): "وصاحب الكشاف مع تصريحه في تفسير سورة طه جوز هاهنا تفريق الضمائر. منه".
{فَإِذَا سَجَدُوا} عبَّر بالسجود عن الركعة.
{فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} ؛ أي: إذا صلَّت هذه الطائفة التي معك ركعةً تامةً فليَرْجعوا ليقفوا بإزاء العدو، وفي {وَرَائِكُمْ} تغليبُ المخاطَب على الغائب.
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} هذا الإظهار دليل ظاهر على أن الضمائر فيما سبق للطائفة الأولى.
{لَمْ يُصَلُّوا} ؛ لانشغالهم بالحراسة.
{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} الركعةَ الثانية.
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} : ما يتحذَّرون من العدو؛ من التُّرس والدِّرع والمِغْفر.
{وَأَسْلِحَتَهُمْ} : ما يقاتلون به من السيف والرمح والقوس، كذا فسَّر الإمام أبو منصور
(1)
، والذي يناسب بلاغة القرآن هو أنه جمع بين الحذر والأسلحة في وجوب الأخذ إيذانًا للغازي بأنه يجب عليه
(2)
أن يجعل التحرُّز آلةً للحرب كالأسلحة، فجُعلا مأخوذَين
(3)
، جُمع بينهما في الأمر هاهنا مبالغةً في الاحتياط؛ لأنَّه مَظِنَّة هجوم العدو، فإن تنبُّهه بكونهم في الصلاة يكون بعد سجودهم.
ذكر صلاةَ طائفة ركعةً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصلاةَ طائفةٍ أخرى ركعةً معه صلى الله عليه وسلم، ولم يبيِّن كيفيَّة إتمام الطائفتين، واختَلفت الأخبار في ذلك، واختَلف باختلافها العلماء؛
(1)
انظر: "تأويلات أهل السنة"(3/ 345).
(2)
وقع هنا هامش (ح): "لم يفسر ابن كمال هذا أواخر سورة النساء ولا جميع سورة المائدة، بل هذا القدر هو الذي وجد في نسخ المصنف رحمه الله".
(3)
في هامش (ق): "ويلائمه قوله فيما سيأتي وخذوا حذركم. منه".
فعند أبي حنيفة رضي الله عنه
(1)
: يُتمُّ صلاتَه إن كانت ركعتين، ثم تقف هذه بإزاء العدوِّ وتأتي الأخرى فتؤدي الركعةَ بغير قراءةٍ لأنهم لاحقون، ويُتمُّون الصلاة ثم يَحرسون، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءةٍ لأنهم مسبوقون ويُتمون الصلاة. كذلك رواه ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم
(2)
.
والسجودُ مجازٌ عن الركعة على ما نبَّهْتُ عليه فيما سبق، لا على ظاهره
(3)
.
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} ؛ أي: أحبَّ الكفَّار غفلتكم {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} متمنِّيًا ذلك.
{فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} فيشدُّون عليكم شدَّةً واحدةً، وهو بيانُ ما لأَجْله أُمروا بأخذ الحذر والسلاح.
(1)
في (ح) و (ف): "رحمه الله"، وليست في (ك).
(2)
كذا قال، وفيه نظر، فليس في حديث ابن عمر وابن مسعود هذه الهيئة من التنصيص على أن الاْولى قضت بلا قراءة والأخرى بقراءة، وإنما هو شيء عزاه الميرغيناني لخبر ابن مسعود، والصواب أنه من كلام أبي حنيفة كما في "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 257)، و"المحلى" لابن حزم (5/ 39)، وقال ابن حزم: وهي زيادة لم تعرف عن أحد من الأمة قبله. وانظر: "الهداية" مع "فتح القدير"(2/ 97)، و"نصب الراية"(2/ 243). وحديث ابن عمر رواه البخاري (942)، ومسلم (839). وأبو داود (1243). وحديث ابن مسعود رواه أبو داود (1244) من طريق خصيف عن أبي عبيدة عنه، وقال ابن الهمام:(وأُعِلَّ بأبي عبيدةَ لم يَسْمعْ من أبيه، وخصيفٌ ليس بالقويِّ). وقال ابن رجب في "فتح الباري"(8/ 350): (وخصيف مختلف في أمره، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم).
(3)
في هامش (ف): "وذلك ظاهر وإن خفي على صاحب الكشاف. منه".
{مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} لم يقل: أو مرضٍ، لعدم دلالته على العموم وهو المراد.
{أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} لمَّا كانت حالةُ المرضِ مما يَشُقُّ حمل السلاح فيها، وحالةُ المطر مما يثقِلُ العدوَّ ويمنعُه من خفَّة الحركة للقتال، رخَّص لهم فيهما وضعَ السلاح.
وفي قوله: {وَلَا جُنَاحَ} دلالة على أن الأمر بالأخذ للإيجاب دون الاستحباب.
{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أمرَهم مع ذلك بأخذ الحذر كيلا يهجم عليهم العدوُّ.
ولمَّا كان الأمر بالحذر موهِمًا لتوقُّع غلبةِ العدوِّ وقوَّتِه، وأنَّ الله وكَلَهم إلى أنفُسهم ولم يكلَأْهم، أزال ذلك الوهمَ بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} تقويةً لقلوبهم، وتشجيعًا وتبشيرًا بأنَّ الله تعالى مُهينٌ عدوَّهم ويخذلُه وينصرهم عليه، وإعلامًا بأن الأمر بالحذر إنما هو تعبُّدٌ لا تخليةٌ بينهم وبين عدوهم مراعاةً لحكمة الله وسنَّته.
* * *
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} : أدَّيتُم وفرغتُم منها.
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} فدُوموا على الذكر في جميع الأحوال، وهو الذكر باللسان والدعاءُ بالنصر، فإنه حال ملاقاة العدوِّ، وهو كما قال:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وقيل: وإذا أردتُم أداء الصلاة فصلُّوا قيامًا إن قدرتُم عليه، وقعودًا إن عجزتُم عن القيام، ومضطجِعينَ إن عجزتُم عن القعود بسبب الجرح؛ أي: أدُّوها على حسب الوسع، وهذا عند اشتداد الحرب بقرينة قوله:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} ؛ أي: سكنتْ قلوبكم من الخوف.
وعلى كلَا التفسيرين لا دلالةَ فيه على صحة الصلاة في حال المسايَفة.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فعدِّلوا وأدُّوها تامةً بطائفةٍ واحدة.
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مفروضًا محدودًا بأوقاتٍ معيَّنةٍ
(1)
، فلا يؤخَّر عنها بسبب الخوف، فهو كالتعليل لِمَا سبق، وأمَّا أنه لا يؤخَّر عنها بسببٍ من الأسباب فلا دلالةَ عليه في الكلام، فلا يكون دليلًا على وجوب أدائها في حال المسايفة والاضطراب في المعركة، وأما عدمُ دلالته على أن المراد بالذكر الصلاةُ فظاهرٌ.
وإنما قال: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لأن الكلام في أدائها، والإيمانُ شرط صحته وإنْ لم يكن شرطَ وجوبها عند القائلين بأنَّ الكفار مخاطبون بالعبادات المفروضة.
* * *
{وَلَا تَهِنُوا} : ولا تَضعفوا.
{فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} : في طلب الكفار بالقتال.
{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} به؛ أي: لا تتوانَوا بسبب الألم والجراح، ثم علَّل النهي:
(1)
"معينة": ليست في (م).
{فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} به {كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} فإن الألم ليس مختصًّا بكم، بل هو مشترك بينهم وبينكم، ثم إنهم يصبرون مع ذلك، وأنتم أولى بالصبر منهم لأنكم ترجون من الله الثوابَ العظيم في الآخرة بإظهار دين الله وإعزازه وهم لا يرجون، فما لكم
(1)
لا تصبرون؟! وفيه طرف من التوبيخ والتقريع على التَّواني فيه.
وقرئ: {أَنْ تَكُونُوا} بالفتح
(2)
، بمعنى: لِأَنْ تكونوا.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بمصالح العباد حين دعاهم إلى الجهاد.
{حَكِيمًا} في تدبير أمورهم في المبدأ والمعاد.
* * *
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} : ملْتبِسًا به.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} رُوي: أنَّ طُعمة بن أُبَيرِقٍ سرق درعًا في جِرابٍ فيه دقيقٌ لقتادةَ بن النعمان وخبَّأها عند يهوديٍّ، فحلف طعمةُ ما لي بها علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهوديِّ فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمةُ، واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء اليهود وشهدوا على براءة اليهودي، وجاء بنو ظفر - وهم قوم طعمةَ - وشهدوا بالسرقة على اليهودي، فهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي فنزلت
(3)
.
(1)
في (ح) و (م): "وهم لا يرجونه فما بالكم".
(2)
انظر: "المحتسب"(1/ 197)، و"الكشاف"(1/ 561).
(3)
أورده أبو الليث في "تفسيره"(1/ 336) عن الكلبي. وروى هذه الخبر بنحوه مطولًا الترمذي =
{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} : بما عرَّفك الله وأَوْحَى به إليك، وليس من الرؤية بمعنى العلم، وإلا استَدْعَى ثلاثةَ مفاعيل.
{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ} : لأجْلهم والذَّبِّ عنهم، وهم طعمةُ وقومه الذين شهدوا زورًا على اليهودي.
{خَصِيمًا} للبُرآء، وهو اليهوديُّ.
* * *
(106) - {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما همَمْتَ به.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} لمن يستغفرُه.
* * *
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يخونونها؛ فإنَّ وبال خيانتِها يعودُ عليها، أو جَعل معصية العاصِين خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلمًا عليها.
= (3036) من رواية محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان. وقال الترمذي: غريب، ولا نعلم أسنده عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة. ورواه يونس وغير واحد عن ابن إسحاق عن عاصم مرسلًا. وانظر:"الكاف الشاف"(ص: 49).
وجاء في هامش (ف): "وأما ما قيل: إن بني ظفر سألوه عليه السلام أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فمما يجب تنزيه شأنه عن أمثاله. منه".
قلت: وهذا اللفظ المستنكر أورده الواحدي في "أسباب النزول"(ص: 181) عن جماعة من المفسرين، والزمخشري في "الكشاف"(1/ 561) دون عزو.
وضمير الجمع - وإن كان الخائنُ طعمةَ وحده - يشملُ كلَّ خائن؛ لعمومِ الحكم، ولأن
(1)
قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء في الإثم.
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يُكنى بعدم المحبة عن البغض في جميع الألسنة.
{مَنْ كَانَ خَوَّانًا} : مُبالِغًا في الخيانة بالإصرار عليها.
{أَثِيمًا} : منهمِكًا فيه
(2)
.
وإنما أورد صيغةَ المبالغة فيهما تعريضًا بحالِ طعمة وإفراطهِ في الخيانة، حيث سرق ورمى بالسرقة يهوديًّا وحلف كاذبًا، وقد كان سارقًا في الجاهلية.
* * *
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} : يستترون منهم خوفًا وحياء.
{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} ؛ أي: لا يقدرون على الاستخفاء منه تعالى؛ إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ويجوز أن يكون الاستخفاء كنايةً عن الاستحياء لأنَّه من أسبابه؛ أي: لا يستحْيون منه تعالى وهو أحقُّ بأن يُستحْيَى منه.
{وَهُوَ مَعَهُمْ} لا يخفى عليه سرُّهم، فلا طريق معه إلا تركُ ما يستقبحُه ويؤاخِذ عليه.
(1)
في (م): "أو لأن".
(2)
أي: في الإثم. انظر: "روح المعاني"(6/ 273).
{إِذْ يُبَيِّتُونَ} : يدبِّرون ويزوِّرون سرًّا، وأصله أن يكون بالليل.
{مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} : مِن رَمْي البريء، والحَلِفِ الكاذب، وشهادةِ الزور.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} ؛ أي: عالمًا بكلِّ وجوهه.
* * *
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} مبتدأ وخبرٌ، وفيه مبالغةٌ عظيمة في التوبيخ؛ أي: مُشارٌ إليكم في الجدال بالباطل، لا يمكن ذمُّكم بأَزيدَ مما أنتم عليه، فأنتم أنتم لا تشهيرَ لكم بوصفٍ أظهرَ في القبح مما انفردْتُم به وتعيَّنْتُم من بين سائر الناس.
ثم أكَّده بالتنبيهين، والإجمالِ في اسم الإشارة والتفصيلِ في بيانه، والإيذانِ بأنَّ الجدال بالباطل لا يجدي في الآخرة، إنما هو في الدنيا لكونها موضعَ التلبيس والاشتِباه، ولا يغني عنهم شيئًا عند الافتضاح على رؤوس الأشهاد وانتقامِ العزيز القهَّار، وإنْ دَفَع الفضيحةَ في الدنيا والعقوبةَ فيها، فقوله:
{جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} جملةٌ مبيِّنةٌ
(1)
لوقوع (أولاء) خبرًا، أو صلةً عند من يجعله موصولًا.
{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} : محاميًا يحميهم من عذاب الله.
(1)
في (م) و (ك): "مبنية"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(1/ 563)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 95).
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} قبيحًا يَسوءُ به غيره.
{أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يَختصُّ به ولا يتعدَّاه [إلى]
(1)
غيره.
{ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} بالتوبة، وفي كلمة {ثُمَّ} إشارةٌ إلى أن الاستمرار لا يكون مانعًا إذا لم يؤدِّ إلى الإصرار.
{يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا} لذنوبه {رَحِيمًا} بقبول توبته، وإمهالهِ إلى أن يتوب، وفيه حثٌّ للمذنبين على الاستغفار، ويدخل فيه طعمةُ وقومُه دخولًا أوليًا.
* * *
(111) - {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} فلا يتعدَّاه وبالُه؛ كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} به {حَكِيمًا} في مُجازاته.
* * *
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} : صغيرةً، أو ما لا عَمْدَ فيه.
{أَوْ إِثْمًا} : كبيرةً، أو ما كان عن عمدٍ.
{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} كما فعل طُعمة، ووخَد الضمير لمكانِ {أَوْ} .
{فَقَدِ احْتَمَلَ} ؛ أي: بسبب إنكاره ورميهِ به بريئًا.
(1)
من "الكشاف"(1/ 563).
{بُهْتَانًا} برميه البريءَ، قدَّمه لأنَّه أفظعُ
(1)
، و {احْتَمَلَ} أبلغُ من (حَمَلَ) لأن افْتَعَلَ فيه التَّسبُّبُ.
{وَإِثْمًا مُبِينًا} بتبرئةِ النفس الخاطئة، وليس فيه التسويةُ بين الكاسِبَينِ، بل تشريكُهما فيما تحمَّلا بسبب ما فعلاه بعد الكسب.
* * *
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} ؛ أي: عصمتُه عن الخطأ.
{وَرَحْمَتُهُ} بما أوحَى إليك من الإطْلاع على سرِّهم.
{لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} : من بني ظفرٍ، أو: من الناس والطائفةُ بنو ظفر.
{أَنْ يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق مع علمهم بأنَّ الجانيَ صاحبُهم، والجملة جوابُ (لولا)، وليس القصد فيه إلى نفي همِّهم، بل إلى المبالغة في نفي تأثيره بتنزيله منزلةَ العدم.
{وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} ؛ لأنهم ما أزالوك عن الحق، وعاد وبالُ عملهم عليهم.
{وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} ؛ لأن الله تعالى عاصمُك يَحول بينك وبين الخطأ في الحكم، وما خطر ببالك كان اعتمادًا منك على ظاهر الأمر لا ميلًا في الحكم.
و {مِنْ شَيْءٍ} في موضعِ النصب على المصدر؛ أي: شيئًا من الضَّرر.
(1)
في (ك): "أفضح".
{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} : القرآن.
{وَالْحِكْمَةَ} : السُّنّةَ المنقسمةَ إلى
(1)
القولية والفعلية كالحكمة، وفيه تنبيهٌ على أن السنَّة التي هي إحدى أركان الشريعة من قَبيل الوحي الغيرِ المتلوِّ
(2)
.
{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خفيَّاتِ الأمور، أو من أمور الدِّين والأحكام.
{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} إذ لا فضل أعظمُ من الرسالة العامة.
* * *
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} : من تَناجيهم.
{إِلَّا مَنْ أَمَرَ} : إلا نجوَى مَن أَمر، على حذف المضاف، وهو في محلِّ الجرِّ على البدل من {كَثِيرٍ}
(3)
، أو في محلِّ النصب على الاستثناء المنقطِع؛ أي: لكنْ مَن أمر بصدقةٍ ففي نجواهُ الخير.
{بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو عامّ في كلِّ جميلٍ شرعًا وعقلًا وعُرفًا.
{أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} : أو إصلاحِ ذاتِ البَين.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} : أي: يأمر بالخير لأنَّ الفعل كثيرًا ما يُطلق على القول والأمر.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ويجوز أن يُرتَّب الوعد على الفعل
(1)
في (ف) و (ك): "السنة المستقيمة أي".
(2)
في (م) زيادة: " {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ن خفيات الأمور أو من أمور الدين والأحكام ".
(3)
"من كثير" ليست في (ف) و (ك).
تحريضًا للأمر بالخير على فعله، وتنبيهًا على أنَّ الأمر بفعله دون فعله لا يُستحسَنُ، بل الأمرُ به دليل على أن فعله أهمُّ، وإنما يوجِب الثوابَ لإفضائه إليه، فثوابُه تَبعٌ لثواب فعله، وإنما شرط أن يكون لطلب مرضاة
(1)
الله تعالى لأن الأعمال بالنيات، فإذا لم يقارنه النيةُ أو عَرَض لصاحبه الرِّياء والسُّمعة فليس بخيرٍ، بل هو إلى الشرِّ واستيجابِ العقاب أقربُ.
ووُصِف الأجرُ بالعظم تنبيهًا على حقارةِ ما فات من أعراض الدنيا في جَنْبه.
* * *
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} : يخالفْه، من الشَّقِّ فإن كلًّا من المخالِفَين يكونُ في شِقّ غيرِ شقِّ الآخر.
{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} : ظهر له الحقُّ بالوقوف على المعجزات.
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك هو السبيلُ الذي اتَّفقوا على صحَّته من الدِّين الحنيفي القيِّم، فيندرِج فيه الإجماعُ والاجتهاد، فإنه أيضًا مما اتَّفقوا على صحَّته، وعلى كون الثابتِ به من الدِّين، وهذا كالبيان لمخالفةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مَن اتَّبع الإجماعَ أو اجتهادَ مجتهدٍ فهو موافقٌ له عليه السلام في الحقيقة وإن كان مخالفًا لظاهر الكتاب والسنَّة.
{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} : نجعلْه واليًا لِمَا تولَّاه من الضَّلال بأنْ نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره.
(1)
في (م): "مراضاة".
{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} : وندخِلْه فيها؛ أي: نَخذلْه في الدنيا ونعذّبْه بالنار في الآخرة، وقرئ:(نَصْلِه) بفتح النون مِن صَلَاه
(1)
.
{وَسَاءَتْ مَصِيرًا} جهنمُ.
قيل: تدلُّ الآيةُ على حُرمةِ مخالفةِ الإجماع؛ لأنَّه تعالى رتَّب الوعيد الشديدَ على المشاقَّة واتِّباعِ غيرِ سبيل المؤمنين، وذلك إمَّا لحرمةِ كلٍّ منهما، أو أحدِهما، أو الجمعِ بينهما، والثاني باطل إذ يَقبُحُ أن يقال: مَن شرب الخمر وأكل الخبز
(2)
استوجَب الحدَّ، وكذا الثالث لأن المشاقَّة محرمة ضُمَّ إليها غيرُها أو لم يُضَمَّ، وإذا كان اتِّباع غيرِ سبيلهم محرَّمًا كان اتِّباع سبيلهم واجبًا
(3)
.
ومبناه على أن لا يكون قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لتقرير المخالفة المذكورة وبيانِها، وذلك غير مسلَّم.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} كرَّره
(4)
لقصة طُعمةَ، واتصالُه بها أنه
(5)
أشرك بعد الإيمان وليس للمشرك غفرانٌ.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 565).
(2)
في (ف) و (ك): "وأكل الخنزير"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 97).
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 97).
(4)
في (ف) و (ك): "كرر". وفي المصدر السابق: (كرره للتأكيد أو لقصة طعمة
…
).
(5)
في (م): "إذ". وفي (ف): "إذا".
قال مقاتل: فخرج طعمةُ من مكة ولحق بحَرَّةِ بني سُلَيمٍ، فعَبد صنمهم حتى مات على الشِّرك، فنزل فيه الآيةُ، فبَيَّن أن طعمة لو لم يشرك لكان في سَعة رحمة الله تعالى أن
(1)
يغفر له.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} ، أي: لا يتناهَى تَماديهِ في الضلال؛ إذ لا جهل أفحشُ من الجهل بالله، وإنما ذكر في الآية الأولى {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا}
(2)
[النساء: 48] لأنها متصلةٌ بقصة أهل الكتاب، ومنشأُ شركهم كان افتراءَهم، وهو دعوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الله، وهذه في شأن مَن ليس من أهل الكتاب ولا علمَ عنده، فناسَبَ وصفه بالضلال، وأيضًا فقد تقدَّم ذكرُ الهدى
(3)
وهو ضدُّ الضلال.
* * *
(117) - {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} .
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} يعني: اللات والعزَّى ومناةَ ونحوَها، كان لكلِّ حيٍّ صنم يعبدونه ويُلبسونه أنواع الحليِّ، ويسمُّونه أنثى بني فلان.
وقيل: كانو ا يقولون في أصنامهم: هنَّ بنات الله، وقيل: المراد الملائكةُ؛ لقولهم: الملائكة بنات الله تعالى.
وهو جمع أُنثى كرِبَابٍ ورُبَّى
(4)
، وقُرئ:(أنثى) على التوحيد، و:(أُنُثًا) على أنه جمع أنيث كخُبُثٍ وخبيثٍ، و:(وُثنًا) بالتخفيف والتثقيل، وهو جمع
(1)
في (ك): "وأن".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "ومن افترى على الله "، والمثبت من (ح).
(3)
قوله: "وهذه في شأن من ليس من أهل الكتاب
…
" إلى هنا ساقط من (ف) و (ك).
(4)
الربى: الشاة التي وضعت حديثًا. انظر: "اللسان"(مادة: ربب).
وثن كأَسَدٍ وأُسْدٍ وأُسُدٍ، و:(أُثنًا) بهما على قلبِ الواو لضمَّتها همزةً
(1)
.
{وَإِنْ يَدْعُونَ} : وإن يعبدون بعبادتها.
{إِلَّا شَيْطَانًا} ؛ لأنَّه هو الذي بعثهم على ذلك ودعاهم إليه فأطاعوه، فجُعلت طاعتُهم له عبادةً
(2)
.
{مَرِيدًا} ؛ عاتيًا خارجًا عن طاعة الله تعالى، ظاهرًا شرُّه كالغلامِ الأمردِ والشجرة المرداء التي سقطت أوراقها وظهرت عيدانُها.
* * *
(118) - {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} .
{لَعَنَهُ اللَّهُ} صفةٌ ثانية للشيطان.
{وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} صفةٌ أخرى له، الواو للجمع؛ أي: جامعًا بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيع في {لَأَتَّخِذَنَّ} وما بعده من الأفعال الدالَّة على فَرْط عداوته للناس.
والمفروض: المقدَّر؛ أي: نصيبًا فُرض لي وقدِّر، من قولهم: فرض لي في العطاء.
* * *
(1)
انظر هذه القراءات في "المحرر الوجيز"(2/ 113)، و"الكشاف"(1/ 566)، و"البحر"(7/ 360 - 362).
(2)
وهي على ظاهرها في هذا الزمن بعد أن ظهر من يجاهر بعبادة الشيطان والعياذ بالله تعالى.
{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن الحق.
{وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} الأمانيَّ الباطلة من طول الأعمار
(1)
وبلوغِ الآمال
(2)
.
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} البَتْك: القطع، والتفعيلُ للتكثير والتكرير؛ أي: يقطِّعونها لتحريم ما أحلَّه، وهي عبارةٌ عما كانت العرب تعمل بالبحائر والسوائب، وإشارةٌ إلى تحريم كلِّ ما أحلَّ ونقصِ كلِّ ما خلق كاملًا بالفعل أو بالقوة.
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} عن وجهه صورةً أو صفةً، ويندرج فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي، وخِصاء العبيد، والوشم والوشر
(3)
.
وعمومُ اللفظ يمنعُ التغيير مطلقًا، لكن خُصَّ منه البعض كالختان
(4)
بالنصِّ، ثم الفقهاءُ خَصُّوا منه خِصاءَ البهائم للحاجة بالقياس.
وأمَّا ما هو من أنواع الكفر كعبادة الشمس والقمر، وكبائرِ المعاصي كاللواطة، فقد اندرجت تحت قوله:{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} .
والجمل الأربع حكايةٌ عما ذكره الشيطان نطقاً أو أتاه
(5)
فعلًا.
{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بمجاوَزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته، وإيثاره ما يدعوه إليه على ما أمره تعالى به.
(1)
في (ف): "الأعمال".
(2)
في هامش (ف): "وأما إنكار البعث والعقاب فليس من قبيل الأماني. منه".
(3)
الوشر: أن تحد المرأة أسنانها وترققهًا تشبها بالشواب. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 179).
(4)
في (ف): "كالخنثى"، وهو تحريف.
(5)
في (م): "وأتاه "، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 98).
{فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} إذ ضيَّع رأس ماله، وبدَّل مكانه من الجنة بمكانٍ من النار.
* * *
(120) - {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} .
{يَعِدُهُمْ} ما لا يُنجزه.
{وَيُمَنِّيهِمْ} ما لا ينالون.
{وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} بإظهارِ النفع فيما فيه الضررُ، وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة أو بلسان أوليائه.
* * *
(121) - {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} .
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} اسم مصدر مِن حاص يَحيص
(1)
: إذا خلص ونجا، و {عَنْهَا} حال منه وليس صلةً له؛ لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، ويجوز أن يكون اسمَ مكان؛ أي: مَعْدلًا ومهربًا، بالغَ في التنفير عن الشرك بوجوه: أولها: تحقير معبوداتهم ونقصُها بالأنوثة.
(1)
قوله: "اسم مصدر .. " كذا قال، ومثله في "الدر المصون"(4/ 94)، و"اللباب" لابن عادل (7/ 28)، ولعل الصواب:(اسم مكان أو مصدر .. )، والمراد بالمصدر المصدر الميمي، فإن (محيص) على وزن مَفْعِل، وهذا الوزن يكون من الفعل اسم زمان أو مكان أو مصدرًا ميميًا، وهنا لا يحتمل الزمان، وإنما ذكروا فيه احتمال المكانية والمصدرية. انظر:"الإملاء" للعكبري (ص: 391)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 98)، و"البحر"(7/ 351)، و"حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 180)، و"روح المعاني"(6/ 295).
وثانيها: أن دعاءهم وعبادتهم إياها إنما هو دعوةُ الشيطان وعبادتُه.
وثالثها: وصفُ الشيطان بالمَرادة واللعنِ والتَّمْنيةِ، والدَّعوة إلى القبائح وفنونِ الإغواء، والإخبارِ عن نفسه بذلك على التأكيد القسمي.
ورابعها: الإخبار بأن ولايته تُوجب الخسران الظاهر.
وخامسها: تكرار اسم الشيطان في ثلاث مواضع، وتركُ إضماره إلى إظهار اسمه الدالِّ على البعد والطرد.
وسادسها: تكرار تمنيته الكاذبة، والإخبارُ بأن وعده ليس إلا تغريرًا محضًا، وقبولَهم إياه غرورًا باطلًا.
وسابعها: أن المشركين المطيعين له في الشرك وارتكاب تلك المعاصي مأواهم جهنم ولا يجدون عنها مخلصًا.
* * *
ثم قابل ذلك التنفير بالترغيب في الإيمان والتوحيد بقوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} قد تقدم تفسيره.
{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} مصدران مؤكِّدان: الأول لنفسه؛ أي وَعَده وَعْدًا؛ لأن مضمون الجملة الاسمية التي قبله وعدٌ، والثاني لغيره؛ أي: وحَقَّ ذلك حقًّا. ويجوز أن ينتصب الموصولُ بفعلٍ يفسِّره ما بعده، و {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} بقوله:{سَنُدْخِلُهُمْ}
لأنَّه بمعنى: نَعِدُهم إدخالهم، و {حَقًّا} على أنه حالٌ
(1)
من المصدر.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} توكيدٌ ثالث على سبيل الاعتراض.
والمقصود من الآية: معارضةُ المواعيد الشيطانية الكاذبة لقُرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغةُ في توكيده ترغيبًا للعباد في تحصيله.
* * *
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} اسم {لَيْسَ} : وعدُ الله، أي: ليس ما وَعَد الله من الثواب يُنال بأمانيَكم أيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهل الكتاب، وإنما يُنال بالإيمان والعمل الصالح.
وقيل: الخطاب مع المشركين، ويعضده تقدُّمُ ذكرهم.
ثم قرر ذلك فقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} عاجلًا أو آجلًا، ويدلُّ على التعميم للعاجل قولُه تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سَمى القطعَ جزاء، وقولُه عليه السلام في جواب أبي بكر رضي الله عنه إذ
(2)
قال: كيف الصلاحُ بعد هذه الآية؛ -: "غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تمرضُ تصيبك الآلامُ، فهو ما تُجزون [به] "
(3)
.
(1)
بعدها في (ح) زيادة كلمة: "حق "، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 99).
(2)
في (ت): "أنه"، وسقطت الجملة من (ح).
(3)
رواه الإمام أحمد في " المسند"(68)، وابن حبان في "صحيحه"(2910) و (2926)، والحاكم في=
{وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} : ولا يجد لنفسه إذا جاوَزَ موالاة الله ونصرته مَن يُواليه وينصره في دفع العذاب عنه.
* * *
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} للتبعيض؛ لأنَّ المكلَّف لا يُطيق عملَ كلِّ الصالحات، والطاعةُ بحسَب الطاقة.
{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} في موضع الحال من المستكنِّ في {يَعْمَلْ} ، و {مِنَ} للبيان.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حالٌ قيِّد به؛ إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة لا نفعًا ولا دفعًا، والعملُ الصالحُ لا يكون إلا للمؤمن، فزيادتُه لبيانِ أن المراد: مَن عَمِلَ صالحًا وهو ثابتٌ على الإيمان، ولا بد من هذا القيد في تحقيق ما أخبر به بقوله:
{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} ولا عبرةَ لإيمانٍ اقترَن بالعمل الصالح ثم زال.
{وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} لا بالنقص عن الثواب الموعود، ولا بالزيادة على العقاب المعهود، فهو متعلِّق بالوعيد أيضًا المذكورِ بقوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .
* * *
= "المستدرك"(4450) وصححه. وما بين معكوفتين من المصادر، وزاد الحاكم بعده:"في الدنيا".
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} استفهامٌ معناه النفيُ؛ أي: لا أحد أحسنُ دينًا، منصوبٌ على التمييز، وكُني بالوجه عن الإنسان إذ كان أشرفَ الأعضاء، ومعنى أَسلم لله: انقاد لأمره وشرعه.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} جملة حاليةٌ مؤكِّدة، وكون الغير أحسنَ دينًا منه لا يَستلزم بلوغَه منتهى المراتب البشرية.
{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الموافقةَ لدين الإسلام، المتَّفَقَ على صحتها، فإنه عليه السلام بعث على ملة إبراهيم عليه السلام وزِيد له أشياءُ.
{حَنِيفًا} : مائلًا عن سائر الأديان، حالٌ من المستكنِّ في (اتَّبع).
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامةٍ تشبه كرامة الخليل عند خليله، وهي جملةٌ اعتراضية فائدتُها تأكيدُ وجوب اتِّباع ملَّته؛ لأن
(1)
مَن بلغ من الزُّلفى والكرامة عند الله إلى أن اتَّخذه خليلًا كان جديرًا بأن تُتَّبع ملَّتُه، وبان مَن اتَّبعه كان مِن أحسن الناس دينًا، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيمًا له، وتنصيصًا على أنه الممدوح.
والخُلَّةُ من الخِلَال، فإنه ودٌّ تخلَّلَ النفس وخالطَها، أو من الخَلَّة بمعنى الخَصلة فإنهما يتوافقان في الخصال.
* * *
(126) - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} .
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَلْقًا وملكًا يختار منهما مَن يشاء.
وقيل: من تتمة ذكر العمال الصالحين والطالحين، مقرِّر لوجوب طاعته عليهم، وكمالِ قدرته على مُجازاتهم على الأعمال.
(1)
في (م): "لأنَّه".
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} إحاطةَ علمٍ وقدرةٍ ووعدٍ ووعيدٍ.
* * *
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} في ميراثهنَّ إذ فيه نزلت.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} : يبيِّنُ لكم حُكمَه {فِيهِنَّ} والإفتاء: تبيينُ المبهَم.
{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} في محلِّ الرفع بالعطف؛ أي
(1)
: اللهُ يفتيكم والمتلوُّ في الكتاب في معنى اليتامى، على أن {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} صلةُ {يُتْلَى} ، وجاز أن يكون بدلًا من {فِيهِنَّ} .
أو {وَمَا يُتْلَى} مبتدأ {فِي الْكِتَابِ} خبرُه، والجملة اعتراضيةٌ.
أوفي محلِّ الجرِّ على القسم
(2)
.
و {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} على الوجهين بدلٌ من {فِيهِنَّ} ، وإضافة {يَتَامَى} إلى {النِّسَاءِ} بمعنى (مِن).
(1)
في (ف): "على"، وفي (م):"إلى".
(2)
والتقدير: قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم. انظر: "الكشاف"(1/ 570)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 100)، و"البحر"(7/ 383)، و"الدر المصون"(4/ 101)، و"روح المعاني"(6/ 315). وأجاز أكثر هؤلاء أيضًا النصب على المفعولية لفعل محذوف، تقديره: ويبين لكم ما يتلى عليكم.
و {الْكِتَابِ} على الوجه الثاني
(1)
هو اللوح المحفوظ، وفائدةُ الاعتراض: تعظيم المتلوِّ وخاصةً حكمُ اليتامى؛ أي المتلوُّ عليكم في باب يتامى النساء حكم مُثبَت عند الله في اللوح حقُّه أن يُراعَى ويُحافَظَ عليه فإنه من عظائم الأمور عنده، كما أن فائدة العطف في الوجه الأول تعظيمُه بالاختصاص بالله، وأن حكمه حكمُ الله، فإن هذه التوطئة تفخيمُ شأن الموطَّأ له، وكذلك فائدة القَسَم في الوجه الثالث، فإن الإقسام بالشيء تنويهٌ باسمه وتعظيم لشأنه.
{اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} ؛ أي: فُرض لهن من الميراث.
{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} كان الرجل منهم يضمُّ اليتيمة ومالَها إلى نفسه، فإن كانت جميلةً تزوَّجها وأكل مالَها، وإن كانت دميمةً عضَلها عن التزوُّج
(2)
حتى تموتَ فيرثَها، فيجوز أن يكون المعنى: في أن تنكحوهن لجمالهن، أو
(3)
: عن أن تنكحوهن لدمامتهن، والظاهر الثاني لقوله:{لَا تُؤْتُونَهُنَّ} أي: لا تؤتونهن مالَهن ولا تنكحوهن
(4)
، والواو للعطف دون الحال؛ لأنَّه مضارع مثبَت فلا يدخل فيه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به هاهنا.
وظاهر النص يدلُّ على صحة تزويج الصغيرة لغير الأب والجد، ولا يعارضه احتمال أن يكون المعنى: أن تنكحوهن إذا بلغن؛ لأن الأصل في المطلَق أن يجري على إطلاقه.
(1)
يعني على كون (ما يتلى) مبتدأ و (في الكتاب) خبره. كما ذكر البيضاوي والآلوسي.
(2)
في (م): "التزويج ".
(3)
في النسخ: "و"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 100)، و"روح المعاني"(6/ 317).
(4)
في "ك ": "لقوله لا تؤتونهن ما كتب لهن ولا تنكحوهن ".
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} عطفٌ على {يَتَامَى النِّسَاءِ} ، والعرب كانوا لا يورِّثو نهم كما لا يورِّثون النساء، وكذا قوله:
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} عطفٌ عليه؛ أي: وفي أن تقوموا، هذا إذا جعلت {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} صلةً، فإنْ جعلتَه بدلًا فالوجه نصبُها عطفًا
(1)
على موضع {فِيهِنَّ} ، ويجوز أن يكون منصوبًا؛ أي: ويأمركم أن تقوموا.
وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم وَيستَوفوا حقوقهم، أو للقوَّام بالنَّصَفةِ في شأنهم.
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} ذِكرُ العلم بعد العمل أبلغُ وعدٍ ووعيد، وأعلى إشارةٍ وتهديد
(2)
.
* * *
{وَإِنِ امْرَأَةٌ} فاعلُ فعلٍ يفسِّره الظاهر {خَافَتْ} : توقَّعَتْ {مِنْ بَعْلِهَا} ؛ لمَا ظهر لها من المخائل.
{نُشُوزًا أ} : تَجافيًا عنها، وترفُّعًا عن صحبتها، ومنعًا لحقوقها.
{أَوْ إِعْرَاضًا} بأنْ يُقلَّ مجالستها ومحادثتَها.
(1)
في النسخ: "عطف "، والصواب المثبت.
(2)
في هامش (ف): "فإن كان العمل المذكور خيرًا يكون وعدًا وإن كان شرًا يكون وعيدًا. منه ".
{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
(1)
بَيْنَهُمَا}: أن يتصالَحا بأنْ تحطَّ له بعضَ المهر أو القَسْم، أو تَهبَ له شيئًا تستميلُه.
وقرئ: {أَنْ يُصْلِحَا}
(2)
مِن أَصلَحَ بين المتنازعَين، وحينئذ جاز أن ينتصب {صُلْحًا} على المفعول به و {بَيْنَهُمَا} ظرفٌ أو حالٌ منه، أو على المصدر كما في القراءة الأولى والمفعول {بَيْنَهُمَا} أو محذوف.
وقرئ: (يَصَّلحا)
(3)
مِن اصَّلح بمعنى اصطَلَحَ.
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} من الفُرقة، أو من النشوز والإعراض وسوءِ العشرة، أو من الخصومة في كلِّ شيء، فإنه أبعثُ على التوافُق والتسالُم مما إذا قيِّد بحالهما، أو: خيرٌ من الخيرات كما أن الخصومة شرٌّ من الشرور، جملةٌ اعتراضيةٌ أكِّدت باعتراضيَّةٍ أخرى
(4)
، وهي قوله:
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ؛ أي: لا تتخاصما مراءً وعناداً فإنَّ النفوس مجبولةٌ على الشُّحِّ كأنها ألزِمَتْه وجَعلت حاضرةً له لا تنفكُّ عنه، فإنْ هي لا تسمحُ بقسمتها أو بسائر حقوقها أو ببعضها فلا يغضبِ الزوج عليها ولْيسامِحْها، فإن الشحَّ كالأمر الطبيعي للنفوس كما
(5)
ذكر، ولْتسامِحْه ولا يتباغَضَا ويتشاقَّا.
(1)
في (ح) و (ف) و (ك): "يصلحا"، والمثبت من (م)، وهو الصواب. وهذه قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة:{يُصْلِحَا} وستأتي. انظر: "التيسير"(ص: 97)، و"تفسير البيضاوي"(على هامش حاشية الشهاب)(3/ 185)، والكلام منه.
(2)
انظر التعليق السابق.
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 29).
(4)
في هامش (ف): "رد لمن قال: اغتفر عدم تجانسهما. منه ". والقائل المذكور هو البيضاوي.
(5)
في (ف) و (ك) و (م): "لما"، والمثبت من (ح).
{وَإِنْ تُحْسِنُوا} بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهنَّ {وَتَتَّقُوا} النشوز والإعراض مراعاةً لحقوق الصحبة. خَصَّ الخطاب بالأزواج إشارةً إلى أنهم أولى بإقامة حقوقهنَّ والإحسانِ والتقوى، فإنهن نواقصُ العقول.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسان والتقوى.
{خَبِيرًا} يجازيكم عليه ويُثيبكم به
(1)
.
* * *
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} حتى لا يقع بينكم زيادةٌ ونقصان فيما يجب لهن البتة.
{وَلَوْ حَرَصْتُمْ} من جهة التكلف ومراعاة العدالة في الحقوق، فإن ذلك أمرٌ طبيعي غير اختياريٍّ، فرَفع ذلك عنكم تمامَ العدل والتسوية في الشيء، وما كلِّفتم إلا ما تستطيعون بشرطِ أن تبذلوا فيه وسعَكم.
{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} إلى المحبوبة المرغوبِ فيها عن المرغوب عنها فتمنعوا لها قِسمتَها من غير رضًى منها، فإنه في وسعكم
(2)
.
(1)
في هامش (ف): "قد تقدم أن ذكر العلم بعد عمل الخير وعد وبشارة ومن لم يتنبه له زعم أن الجواب محذوف والمذكور سببه. منه ". والزاعم المذكور هو البيضاوي.
(2)
في هامش (ف): "وأما قيل: فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله، لا يناسب المقام كما لا يخفى. منه ". وصاحب القيل المذكور هو البيضاوي.
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلَّقةً، فيه ضربٌ من التوبيخ.
{وَإِنْ تُصْلِحُوا} ما كنتم تفسدون من أمورهن.
{وَتَتَّقُوا} فيما يُستقبَل من مِثْل ذلك.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} غَفَر الله لكم الماضيَ ورحمكم بالتوفيق للعدل في المستقبل.
* * *
(130) - {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} .
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} ؛ أي: يفارِقْ كلّ منهما صاحبَه.
{يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} منهما عن صاحبه، وكفاه أمرَه بدونه.
{مِنْ سَعَتِهِ} : من سعة رحمته.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} من جهة الإفضال، بل من جميع جهات الفضل والكمال.
{حَكِيمًا} لا يأمر عباده إلا بما هو مصلحةٌ وحكمة.
* * *
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تنبيه على كمال سعته وقدرته.
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} متعلقٌ بـ {وَصَّيْنَا} أو بـ {أُوتُوا} .
{وَإِيَّاكُمْ} عطف على {الَّذِينَ أُوتُوا} .
{أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ، أي: بأنِ اتقوا الله، أو تكون (أنْ) المفسِّرةَ؛ لأن التوصية في معنى القول.
واللام في {الْكِتَابَ} للجنس يتناول الكتبَ السماوية؛ لأن المراد: ولقد وصينا الأمم السالفة كلَّها ووصيناكم؛ أي: هذه التوصيةُ قديمةٌ ما زال يوصي الله تعالى به عبادَه لستُم مخصوصين به، فإن السعادة في التقوى، وفيه تفخيمٌ لأهل التقوى.
{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} جملة معطوفة على {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} لأن المعنى: أمرناهم وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إنْ تكفروا فإنَّ للّهِ الخلقَ كلَّه، لا يتضرَّر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفِع بشكركم وتقواكم، وإنما وصَّاكم لرحمته لا لحاجته.
ثم بيَّن بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عن الخلق وعبادته {حَمِيدًا} في حدِّ ذاته حُمد أو لم يُحمد، أنَّ
(1)
خلقه العالَمَ ليس لحاجته ومصلحته، فإنه كان غنيًّا قبل خلقه حميدًا قبل حمدِ الحامدين
(2)
.
* * *
(132) - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تكريرٌ لبيان عظمته وغناهُ، وتقريرٌ لوجوب
(1)
في (ح): "بين أن "، وفي (م):"وأن "، والمثبت من (ف) و (ك)، وهذا المصدر المؤول من (أنَّ) وما بعدها في محل نصب مفعول به لي (بيَّن) في قوله:(ثم بيَّن بقوله .. ).
(2)
في هامش (ف): "يرشدك إلى هذا المعنى عبارة (كان)، ولو كان المراد تقريرَ ما سبق لكفى أن يقول: هو حميد. منه ".
تقواه، فتقديمه على التوصية
(1)
تمهيدٌ لعظمته ومالكيَّته، وكونهِ أهلًا لأنْ يُتّقى ويطاع، والثاني لبيان غناه، وتأكيدٌ للأول في تقرير معناه، والثالثُ تقويةٌ لما ذكر من كونه حميدًا بلسان الكلِّ، وكونِ الأشياء كلِّها في طاعته وحمده وعبادته فلا يضرُّه كفركم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} اعتراضٌ مؤكِّدٌ لمالكيَّته ومدبِّريَّته للكلِّ ببيانِ أنه لم يَكِلْ أمورهم إلى غيره
(2)
، فعليهم أن يطيعوه ويتوكَّلوا عليه، وفيه تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفيما بعده تخويف وتهويل شديدٌ، وإيعادٌ وتهديدٌ بليغٌ لأعدائهم.
* * *
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} ؛ أي: يميتكم ويُفنيكم كما أوجدكم وأنشأكم، ومفعول {يَشَأْ} محذوفٌ دلَّ عليه الجواب.
{وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} : وُيوجِدْ قومًا آخَرين مكانَكم يوالونه عليه السلام ويؤمنون به، والخطاب لمَن يعاديهِ من كفار العرب.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ} من الإعدام والإيجاد.
{قَدِيرًا} هو إذ لا يَمتنعُ شيء على قدرته وإرادته.
ويُروَى: أنها لمَّا نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر سلمان وقال: "إنهم قومُ هذا"[يريد] أبناءَ فارسَ
(3)
.
(1)
في (ح): "التوحيد"، وهو تحريف، والمراد بتقديمه على التوصية ما جاء في الموضع الأول من قوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وانظر باقي كلامه يظهر لك مراده.
(2)
في (ح) و (م) و (ك): "غيرهم "، والمثبت من (ت).
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 574)، وما بين معكوفتين منه. ورواه الطبري في "تفسيره"(7/ 582) من=
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} كالمجاهد يطلب الغنيمة بجهاده.
{فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فلا وجه لإرادته فعند الله ثوابُ الدارين، فما له يطلبُ الأخسَّ ويترك الأشرفَ، وفي الحديث:"إنَّ الله يعطي الدنيا على نية الآخرة، ولا يعطىِ الآخرة على نية الدنيا"
(1)
، فإن الأشرف يستتبَعُ الأخسَّ دون العكس، فمَن جاهد لوجه الله لم تَفُتْهُ الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمةُ بجنبه كَلَا شيءٍ، فلْيُرِدْ خيرَهما.
{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} بأحاديث نفوسكم.
{بَصِيرًا} بنيَّاتكم وإرادتِكم في أعمالكم، وفيه وعيدٌ لمن وقف مع هوَى نفسه واختار الأخسَّ الفانيَ، ووعدٌ لمن أَخلص وجهه لله تعالى وطلب الأشرفَ الباقي.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ملازِمينَ للعدالة دائِمِي القيامِ بها.
= حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:(يعني عجم الفرس) بذلك (يريد أبناء فارس). وفيه انقطاع بين الطبري وشيخه كما نبه عليه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف "(1/ 364).
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(549)، ومن طريقه أبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية"(3138)، من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا، وإسناده ضعيف لإبهام الراوي فيه عن أنس.
{شُهَدَاءَ لِلَّهِ} : لوجه الله، وهو خبرٌ ثانٍ لا حالٌ؛ لأنهم مأمورون بكونهم قوَّامين بالقسط مطلَقًا، فلا وجه لتقييده بحال الشهادة.
{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} : ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تُقِرُّوا عليها، فإن الشهادة بيان الحق سواءٌ كان على نفسه أو على غيره.
{أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} أخَّره ولم يسلك طريق
(1)
الترقِّي لمكانِ قوله:
{إِنْ يَكُنْ} ؛ أي: المشهود عليه.
{غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة ولا تَجُوروا فيها ميلًا لغناه أو ترحُّمًا لفقره.
{فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ؛ أي: بالغنيِّ والفقير، وبالنظر لهما، فلو لم تكن الشهادة عليهما
(2)
صلاحًا لَمَا شَرَعها، وهو علة الجواب أُقيمت مقامه.
والضمير في {بِهِمَا} ليس للمذكور - أعني: أحدَ الجنسين - حتى يلزمَ إفرادُه، بل لِمَا دل عليه المذكور، أعني: مجموعَ الجنسين، فإن في اشتراط أحد الأمرين دلالةً على وجودهما في الجملة، وبهذا القَدْر من البيان لا يتم الكلام في هذا المقام، بل لا بد من بيان وجه العدول عن الظاهر، وجعل الضمير للمدلول دون المذكور، وهو أنه للقصد إلى تعميم أولويته، وأنْ لا يُتوهَّمَ أنها بالنسبة إلى الواحد فقط، وقراءة:(أولى بهم) شاهدة على إرادة الجنس
(3)
.
{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} : كراهةَ أن تعدلوا بين الناس، أو: إرادة أن تعدلوا
(1)
في (ح) و (م): "طريقة".
(2)
في هامش (ف): "ولم يقل: أو لهما، كما قال القاضي لما فيه ما فيه. منه ".
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 575).
عن الحق، على أن يكون علةً للنهي وطلبِ الترك، أي: أنهاكم عن اتِّباع الهوى إرادةً لعدلكم، أو كراهةً لعُدولكم.
{وَإِنْ تَلْوُوا} ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومةِ العدل.
وقرئ: {وَإِنْ تَلْوُوا}
(1)
، أي: وإنْ وَليْتُم إحداهما من إقامة الشهادة والحكومة.
{أَوْ تُعْرِضُوا} عن الشهادة بما عندكم، أو عن الحكومة بالعدل.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يجازيكم عليه.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : دُوموا على الإيمان {بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} والخطاب للمسلمين.
أو: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بلسانكم، والخطاب للمنافقين.
أو: آمنوا إيمانًا عامًا يعمُّ الكتب والرسل، فإنَّ الإيمان بالبعض مع إنكار الباقي كلَا إيمانٍ، والخطاب لمؤمني أهل الكتاب، ويشهد له أنه رُوي أنَّ ابن سلَام وأصحابه قالوا: يا رسول الله! إنَّا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفُر بما سواه، فنزلت
(2)
. ويساعده التفصيل في قوله:
(1)
هي قراءة حمزة وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 97).
(2)
رواه الثعلبي في "تفسيره"(3/ 401) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذكره تلميذه الواحدي في "أسباب النزول"(ص: 186) عن الكلبي.
{وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني: القرآن، فإنه أُنزل منجَّمًا، ولهذا قال:{نَزَّلَ} بخلاف سائر الكتب.
{وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} أُريد به الجنس، وفي ذكر
(1)
المنزل عليه في الأول بوصف الرسالة والإضافةِ إلى نفسه تعالى ما لا يخفى من التشريف والتعظيم له عليه السلام.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} ؛ أي: ومَن يكفر بشيء من ذلك، وفي التعبير عنه بالوجه المنزل تنبيهٌ على أن الإيمان بتلك الجملة في حكم الإيمان بشيء واحد، فالكفر ببعضه في حكم الكفر بكله
{فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} يعني: المنافقين؛ إذ هم المتلاعبون بالدِّين بالكفر مرة بعد أخرى، والإصرارِ على النفاق، وإفسادِ الأمر على المؤمنين، ولذلك جاء بعده:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} إظهارًا لحالهم، وإخبارًا عن مآلهم.
{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي: ليس في عادته تعالى إرادةَ المغفرة لهم.
{وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} ؛ لأن قلوبهم ضَرِيَت بالكفر، وبصائرَهم عَمِيت عن الحق، وخبر (كان) في أمثال هذا محذوفٌ تُعلَّق به اللام؛ أي: لم يكن الله مريدًا ليغفر لهم.
(1)
في النسخ عدا (م): "وذكر"، والمثبت من (م)، وهو الأنسب بالسياق.
(138) - {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وضعُ {بَشِّرِ} مكان: أَنْذِر، تهكُّم بهم.
* * *
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في محل النصب على الذم لا نعتٌ؛ لوجود الفاصل، فلا يُرتكب حيث لا ضرورةَ، أو في محل الرفع على الذم.
{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} الهمزة للإنكار؛ أي: كيف يطلبون العزة عند مَن ضُربت عليهم الذلة؟ ثم بيَّن امتناع حصول مطلبهم بحصر العزة في أولياء الله تعالى مع التأكيد بـ {فَإِنَّ} و {جَمِيعًا} بقوله:
{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ؛ أي: ما العزةُ إلا لأولياء الله تعالى، الذين أعزَّهم بنصره، وكتب لهم العزة؛ كما قال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] لا يؤبَهُ بعزة غيرهم بالإضافة إلى عزتهم.
* * *
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} يعني: القرآنَ، والخطاب للمؤمنين، والمنزَّل عليهم ما أنزل بمكة من قوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
وقرئ: {نَزَّلَ} على البناء للمفعول
(1)
، والقائمُ مقام فاعله:
{أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} وهي المخفَّفة من الثقيلة، والمعنى: أنه إذا سمعتُم آيات الله، وهذا على طريقة قولهم: سمعتُ فلانًا يقول، فالمسموع هاهنا استهزاؤهم بآيات الله تعالى لا الآيات.
{يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} حالان من الآيات، والأولى تمهيدٌ للثانية تعظيمًا لأمر الاستهزاء بالقرآن، وإنما جيء به لتقييد النهي عن المجالسة في قوله:
{فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الضميرُ لِمَا دل عليه قوله: {يُكْفَرُ بِهَا} من الكفرة.
{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، أي: غيرِ ما خاضوا فيه، والخوض: الشروع، و {حَتَّى} غايةٌ للنهي، وإنما جَعَل غايته الخوضَ في حديثِ غيره دون السكوت عنه؛ لأنَّه لا يدل على الفراغة عنه بخلاف الخوض بحديث آخر.
{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ؛ أي: إذا مكَثْتم معهم فأنتم مثلُهم في الوِزر؛ لأنكم قادرون على الإعراض عنهم، والإنكارِ عليهم، ولم يُرَدْ به التمثيلُ من كلِّ وجه؛ لأن خوض المنافقين فيه كفرٌ، ومكثَ هؤلاء معهم معصيةٌ، إذ
(2)
عدم إنكارهم عليهم لا يدل على الرضا، وعلى تقدير تسليم الدلالةِ عليه فالرضا بكفر الغير ليس بكفرٍ إذا لم يكن مع استحسانٍ له، وتخصيصُ الخطاب بالمنافقين لا يساعدُه السباق
(3)
، ولا يقتضيه اللحاق، على ما ستقف عليه بإذن الله تعالى.
(1)
هي قراءة السبعة عدا عاصمًا فإنه قرأ بالمبني للمعلوم. انظر: "التيسير"(ص: 98). وقوله: "على البناء للمفعول": من (ف)، وليس في باقي النسخ.
(2)
في (ح) و (ف): "أو".
(3)
في (ح): "السياق"، وفي (ك):"السابق".
و {إِذًا} ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يُذكر بعدها الفعل، وأُفرد {مِثْلُهُمْ} لأنَّه كالمصدر، أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع، وقرئ بالفتح على البناء لإضافته إلى مبنيٍّ
(1)
.
قيل: لمَّا نزلت هذه الآية وكانوا إذا خاضوا في ذلك قام المخلصون فعلم المنافقون بذلك، فكانوا يكثرون الخوض فيه قصدًا إلى تفريقهم، ومن هنا ظهر وجه انتظام قوله:
{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ} ؛ أي: جامع لذينك الفريقين {فِي جَهَنَّمَ} وقوله:
{جَمِيعًا} لإحاطة إفرادهما، وسياق الكلام لذم المنافقين، وموجب ذلك أن لا يجتمع المذنبون من مخلي المؤمنين مع الكفار فيها، وذلك بخروجهم قبل أن يدخلوا.
* * *
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون تجدد حال بكم
(2)
، وهذا بدلٌ من {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ} ، أو صفةٌ لـ {الْمُنَافِقِينَ} خاصةً، أو ذمٌّ مرفوع أو منصوب.
(1)
انظر: "البحر"(7/ 423).
(2)
في هامش (ف): "نافعًا كان أو ضارًا، ومن قال: وقوع أمر بكم، فقد خصه بالثاني لأن الوقوع إذا تعدى بالباء يختص به على ما ذكره الجوهري، ولا وجه لتخصيص المذكور. منه ". والقائل المشار إليه هو البيضاوي.
وجوٍّ ز أن يكون مبتدأً والخبر قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} وفيه ضعفٌ؛ لنبوِّ المعنى عنه، ولزيادة الفاء في غير محلها؛ لأن هذا الموصول غير ظاهرِ الشَّبه باسم الشرط.
{قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} مظاهرين لكم فأسهِموا لنا في الغنيمة.
{وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} و من الحرب فإنها سِجَال، وإنما سمَّى غلبةَ المؤمنين فتحًا، وغلبةَ الكفار
(1)
نصيبًا؛ تعظيمًا لشأن المسلمين
(2)
، وتخسيسًا لحظِّ الكافرين؛ لأنَّ ظفَر أهل الإسلام أمر عظيم تُفتح له أبواب السماء، وينزل النصر على أوليائه، وأما غلبةُ الكفار فما هي إلا حظٌّ دنيءٌ كنار الوَقَح
(3)
.
{قَالُوا} الكفرة: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} : ألم نغلِبكم ونتمكَّنْ من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، والاستحواذ: الاستيلاء، وهذا
(4)
جاء بالواو على أصله؛ كما جاء استَرْوَح واستَصْوَب
(5)
.
{وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم، وتوانينا في مظاهرتهم، فأَشرِكونا فيما أَصبتم.
{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: أن ما في حقِّهم من الإمهال في الدنيا
(1)
في (ك): "الكافرين".
(2)
في (م): "المؤمنين".
(3)
لعله يريد التشبيه بما ينقدح من وقع الحافر الصلب، من وَقِحَ الحافر وقَحًا: صلب. انظر: "القاموس"(مادة: وقح).
(4)
في (م): "ولهذا".
(5)
في هامش (ف): "قال أبو زيد: هذا الباب كله يجوز أن يتكلم به على الأصل، وهو قياس مطرد عندهم. من الصحاح. منه".
استدراجٌ لهم لا إهمالٌ لأمرهم، والفاءُ السببية للدلالة على أن الحكم الموعودَ عليهم لا لهم.
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} حينئذٍ، أو في الدنيا، والمراد بالسبيل: الحجة، ولا متمسَّك فيه لأصحاب الشافعي على فساد شراء الكافر المسلم، ولا للحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد
(1)
.
* * *
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} سبق الكلام فيه في أوائل سورة البقرة.
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} بضمِّ الكاف وفتحِها
(2)
: جمعُ كسلان؛ أي: متثاقِلينَ كالمكرَه على الفعل.
{يُرَاءُونَ النَّاسَ} ليَخالوهم مؤمنين، والمراءاةُ مفاعَلةٌ بمعنى التفعيل كنعَّم وناعَمَ، أو للمقابلة، فإن المرائي يُري مَن يرائيه عملَه وهو يَرى استحسانه.
{كُسَالَى} و {يُرَاءُونَ} منصوبان على الحال من ضمير {قَامُوا} .
{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ، لاشتغالهم بأمور الدنيا، وتهالُكهم عليها. إمَّا عطفٌ
(1)
في هامش (ف): "والمفهوم من كلام القاضي خلاف ذلك. منه ". فقد قال القاضي في "تفسيره"(2/ 104): واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم. والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد وهو ضعيف لأنَّه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الإِيمان قبل مضي العدة.
(2)
الضم هي قراءة الجمهور، والفتح من الشواذ وتنسب للأعرج. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص:29).
على {يُرَاءُونَ} ، وإما حال من ضميره، قيل: إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرةِ مَن يرائيه وهو أقلُّ أحواله، ويأباه العطف بالواو، إذ حينئذٍ حقُّه العطفُ بالفاء
(1)
.
* * *
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} متردِّدين بين الكفر والإيمان، من الذبذبة، وهو جعل الشيء مضطربًا، وأصله: الذب بمعنى الطرد. حالٌ من ضمير {يَذْكُرُونَ} أو {يُرَاءُونَ} ، أو منصوب على الذم.
وقرئ بكسر الذال؛ أي: يذبذِبون قلوبَهم أو دينَهم، أو يتذبذبون كقولهم: صَلْصَلَ بمعنى تَصَلْصلَ، وقرئ بالدال غير المعجمة بمعنى: أخذوا تارة في دُبَّةٍ وأخرى في دُبَّةٍ، وهي الطريقة
(2)
.
{لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} : لا صائرينَ إلى أحد الفريقين بالكلية، وفي ذمِّهم بهذا الوجه دلالةٌ على أن النفاق أخبثُ من الكفر الصرف.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} إلى الحق والصواب، اعتراض لبيان أن تلك الذبذبة من الله تعالى.
* * *
(1)
رد على البيضاوي. انظر: "تفسيره"(2/ 104).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 580)، والقراءة الأولى في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 29).
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنه صنيع المنافقين وديدنُهم
(1)
فلا تتشبَّهوا بهم.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} : حجةً بيِّنة، فإن موالاتهم دليل ظاهر على النفاق، والهمزة للإنكار والتقرير.
* * *
(145) - {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} .
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهي الطبقة التي في قعر جهنم، وهي أشد عذابًا، ولذلك يقول الكافرون:{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29].
والنارُ سبع دركات، سمِّيت بذلك لأنها متدارِكةٌ متتابِعةٌ بعضُها تحت بعض.
والمنافقون أخبثُ الكفرة حيث ضَمُّوا إلى الكفر استهزاءً بالإسلام وخداعًا للمسلمين، ولذلك استحقُّوا أشدَّ العذاب.
وأمَّا قوله عليه السلام: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه فهو منافقٌ وإنْ صام وصلَّى وزعَم أنه مسلمٌ: مَن إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أَخلف، وإذا ائْتُمِن خان"
(2)
فمن باب التغليظ
(3)
.
وقرئ: {فِي الدَّرْكِ} بسكون الراء
(4)
، وهو لغة كالسَّطْر والسَّطَر، والتحريكُ أوجَهُ لأنَّه يُجمع على أدراك.
(1)
في (ف): "ودينهم ".
(2)
رواه مسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
في هامش (ف): "لم يقل: من باب التشبيه، كما قال القاضي لأن قوله: وزعم أنه مسلم، يأباه ".
(4)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي، والباقون بفتح الراء. انظر:"التيسير"(ص: 98).
{وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} يخرجهم منه.
* * *
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} عن النفاق.
{وَأَصْلَحُوا} ما أفسدوا من أحوالهم وأسرارهم في حال النفاق.
{وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} تمسَّكوا ووثِقوا به كما يثق المؤمنون الموقنون
(1)
.
{وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} بالبراءة عن الرياء، وتخصيصِ العبادة به تعالى، وابتغاءِ وجهه بالطاعات.
{فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي ة أصحابهم ورفقاؤهم في الدارين.
{وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} فيساهمونهم فيه، ويشاركونهم في الأجر.
* * *
(147) - {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} .
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} انكار لانتفاعه تعالى بعذابهم؛ أي: منزَّهٌ عن الأغراض التي إنما يعذِّب الملوك لأجلها لا يشتفي
(2)
به من غيظ، ولا
(1)
في (ك): "الموفون".
(2)
في (ح): "يشفي"، وفي (ك):"يتشفى".
يدركُ به ثأرًا، ولا يَستجلِب به نفعًا، ولا يستدفِع ضرًّا، كما يفعل الملوك؛ لأنَّه الغنيُّ المطلَق الذي لا يجوزُ عليه شيء من ذلك، وإنما العذاب بمقتضى حكمته، فإن شكرتُم نعمته باستعمالها فيما يجب، وتوسَّلتم بها إلى معرفته، وآمنتُم به، فقد أبعدتُم استعدادكم عن استحقاق العقاب.
{وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} يُثيبكم بإيفاء أجوركم.
{عَلِيمًا} بحق شكركم، وإنما قدِّم الشكر على الإيمان لأن أعظم الشكر هو الاستدلال بالنعمة على المنعِم الموصلُ إلى معرفته، ثم استعمالُها في طاعته، والاستدلالُ مقدَّم على الإيمان.
* * *
{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} إنما ذكر هذا الوصف - مع أنه تعالى لا يحب السوء مطلقًا - لانطباقه بسبب النزول.
روي: أن رجلًا ضاف قومًا فلم يُطعموه، فأصبح شاكياً، فعُوتب
(1)
على الشكاية، فنزلت.
{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} إلا جهرَ مَن ظُلم بالدعاء على الظالم، وذِكْرَه بما فيه من السوء، فالاستثناء متصل.
وقرئ: (ظَلَم) على البناء للفاعل على أنه منقطِعٌ
(2)
؛ أي: ولكن الظالم يجهر
(1)
في (ح) و (ف): "فعوقب "، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(1/ 582)، وكذا رواه الطبري في "تفسيره"(7/ 629) عن مجاهد.
(2)
تنسب لابن عباس وأبي وسعيد بن جبير وغيرهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات "=
بالسوء فاعلًا ما لا يحبه الله، أو على البدل من الفاعل؛ أي: لا يحبه إلا الظالمُ، على لغةِ مَن يقول: ما جاءني زيد إلا عمرٌو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرٌ و، ومنه قوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} يسمع قول المظلوم {عَلِيمًا} يعلم فعلَ الظالم.
* * *
(149) - {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} : {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} : طاعة وبِرًّا.
{أَوْ تُخْفُوهُ} : أو تفعلوه سرًّا.
{أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} خصَّ العفو بالذكر مع أنه يَلزم القسمين؛ لكونه المقصودَ على أيِّ وجهٍ كان، وذكرُ إبداء الخير وإخفائه تشبيبٌ له
(1)
، ولذلك رتَّب عليه قوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} يُكثر العفوَ عن العصاة مع القدرة على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنَّته، وتتخلَّقوا بخلُقه، فختم العفو بجعله صفةً لله تعالى، وبالحثِّ على الاتصاف به، وتعظيمِ صاحبه بأنه سميُّه.
* * *
= (ص: 30)، و"المحتسب"(1/ 203)، و"الكشاف"(1/ 582).
(1)
في النسخ عدا (م): "تشبيه "، والمثبت من (م) وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(1/ 582)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 106). ومعنى (تشبيب)، أي: توطئة وتمهيد للعفو، من تشبيب القصيدة، وهو تزيينها بما يتقدم على التخلص إلى المدح من التغزل ووصف الحسن والجمال. يريد أن إيقاع قوله:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} توطئة وتمهيدًا لذكر العفو على طريقة قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] بمعنى: رسوله أحق أن يرضوه، وذكر الله للدلالة على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، دلالة على أن للعفو مكانًا وسيطًا في معنى العزم على الخير وفعله. انظر:"فتوح الغيب"(5/ 211)، و"حاشية الشهاب على البيضاوي"(3/ 194).
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ) قوله: {بِاللَّهِ} توطئةٌ لـ {وَرُسُلِهِ} بدليل قوله:
{وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} ؛ أي: بالإيمان والكفر بالرسل.
والمراد بالتوطئة: بيان أن الكفر بالرسل كفر بالله، فالتفريق خطأٌ ظاهر إذ لا واسطة بين الكفر والإيمان.
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} : نؤمن ببعض الأنبياء، ونكفر ببعضهم.
{وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} : طريقًا وسطًا بين الإيمان والكفر، أومأ
(1)
في أول الآية أن الكفر بالبعض كفر بالكل، وصرَّح به في آخرها بقوله:
* * *
(150) - {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} على سبيل الحصر، بتوسيط الضمير وتعريفِ ما بعده، أي: الكاملون في الكفر، وبالتأكيدِ بالمصدر فإن قوله:
{حَقًّا} مصدر مؤكِّدٌ لغيره، أو صفةٌ لمصدر الكافرين بمعنى: هم الذين كفروا كفرًا حقًّا؛ أي: بَيِّناً محقَّقًا.
(1)
في (ح): "أو"، وفي (ف) و (ك):"أومن"، والمثبت من (م) وهو الصواب.
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أراد: الإهانة في الغاية
(1)
، وإلا فمعلومٌ أنَّ العذاب لا يكون إلا مُهينًا.
* * *
{لَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أضدادُهم ومقابلوهم، وقد سبق وجهُ دخول (بيْن) على (أحد) في آخر سورة البقرة.
{أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} الموعودةَ لهم، وتصديرُه بـ {سَوْفَ} لتوكيد الوعد، والدلالةِ على أنه كائن لا محالة وإنْ تأخَّر.
وقرئ: {يُؤْتِيهِمْ} بالياء على تلوين الخطاب
(2)
.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِمَا فَرَط منهم.
{رَحِيمًا} بتضعيف حسناتهم.
* * *
(1)
أي: غاية الإهانة.
(2)
هي قراءة حفص عن عاصم، والباقون بالنون. انظر:"التيسير"(ص: 98).
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} نزلت في أحبارِ اليهود إذ قالوا: إن كنت صادقًا فائتنا بكتاب من السماء جملةً، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
وقيل: كتابًا محررًا
(1)
بخطٍّ سماويٍّ على اللوح كما كانت التوراة.
أو: كتابًا إلينا بأعياننا" كما قال: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
أو: كتابًا نعاينه حين ينزل، كما قالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
(2)
حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93].
{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} جواب لشرط محذوف دل عليه {يَسْأَلُكَ} ، أي: إن يسألوك
(3)
ما كبُر عليك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، أي: فلك في الأنبياء أسوةٌ، ولهم في ذلك سابقةٌ.
وإنما قال: {فَقَدْ سَأَلُوا} والسائلون أسلافهم؛ لأنهم على طريقة واحدة ورثوها كابرًا عن كابرٍ، فهم وأوائلُهم قوم واحدٌ على مذهبٍ واحد في التعنُّت، وعِرْقُهم راسخ في ذلك.
(1)
في "ك ": (مجردًا).
(2)
في النسخ عدا (ف): "لك "، والمثبت من (ف)، وهو الموافق للفظ الآية.
(3)
في (ح): "إن يسألونك"، وفي (ك):"إن يسألك"، وفي (م):"يسألك" بإسقاط "إن"، وسقطت الجملة كلها من (ف). والصواب المثبت.
{فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ؛ أي: أَرِناه نرَه
(1)
جهرةً عيانًا، أو: مجاهرين معاينين له.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} : نار جاءت من السماء فأهلكتهم.
{بِظُلْمِهِمْ} : بسيب ظلمهم، وهو تعنُّتهم في السؤال، فلا دلالة فيه على استحالة المسؤول
(2)
.
{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} : المعجزاتُ، ولا يجوز حملها على التوراة؛ لأن إتيانها بعد ذلك.
{فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} ، أي: تابوا فعفونا، فالفاء فصيحة، يرشدك إليه قوله في سورة البقرة:{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة: 52].
{وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} : سلطانًا ظاهرًا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبةً عن اتخاذهم العجل.
* * *
{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} : بسبب ميثاقهم ليَقبلوه.
{وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ} ؛ أي: بابَ إيلياءَ.
{سُجَّدًا} : مطأطِئين عند الدخول رؤوسَكم.
(1)
في النسخ: "نراه"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 106).
(2)
رد للبيضاوي في قوله: {بِظُلْمِهِمْ} : بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها، وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقًا. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 106).
{وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان داود عليه السلام، ويجوز أن يكون موسى عليه السلام فإنه شَرَع السبت، ولكن كان الاعتداء
(1)
فيه، والمسخ في زمن داود عليه السلام.
{تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} : {لَا تَعْدُوا}
(2)
على أن أصله: لا تعتدُوا، فأدغمت التاء في الدال.
{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} على قولهم: سمعنا وأطعنا.
* * *
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} متعلقٌ بمحذوف، أي: بسبب نقضهم ميثاقهم وكفرهم وكذا وكذا فعلنا بهم؛ من تحريم الطيبات عليهم، واعتدادِ العذاب الأليم لهم، وحُذف لدلالة ما بعده عليه.
وإما بقوله: {حَرَّمْنَا
…
وَأَعْتَدْنَا} [النساء: 160 - 161] على أن قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160] بدلٌ من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} وما عُطف عليه.
و (ما) مزيدةٌ للتأكيد، وتحقيقِ أن تحريم الطيبات عليهم واعتدادَ العذاب الأليم لهم لم يكن إلا بنقض العهد وما يتبعُه من الكفر بالآيات، وقتلِ الأنبياء عليهم السلام،
(1)
في (ف) و (ك): "الإغراق "، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 107)، و"روح المعاني"(6/ 377).
(2)
هي قراءة ورش عن نافع. انظر: "التيسير"(ص: 98).
وغيرِ ذلك، والفاء فصيحةٌ عاطفة على محذوف تقديره: ثم نقضوا الميثاق، فبسبب نقضهم الميثاق فعلنا بهم ما فعلنا
(1)
.
{وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} : بما في كتابهم.
وقيل: بالقرآن، وفيه أنه حينئذ حقُّه أن يؤخَّر عن قوله:
{وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} قد سبق تفسيرُه في سورة البقرة.
{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : مغشاةٌ بأغطيةٍ خَلْقيَّةٍ لا يصل إليها شيءٌ من الذكر والموعظة.
{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ردٌّ لِمَا قالوا؛ أي: لم تُخلق قلوبُهم غلفًا، بل طَبع الله عليهم وخذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم.
{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} : إيمانًا قليلًا لا عبرةَ به لنقصانه، ويجوز أن تكون القلةُ كنايةً عن العدم، وقد سبق وجهُها في سورة آل عمران.
وأمَّا ما قيل: المعنى: إلا قليلًا منهم كعبد الله بن سلام، فيأباه التفريعُ على ما تقدم.
* * *
(156) - {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} .
{وَبِكُفْرِهِمْ} يعني: بعيسى عليه السلام، وهو معطوفٌ على {وَبِكُفْرِهِمْ} ؛ لأنَّه من أسباب الطبع، أو على قوله
(2)
: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} ، ويجوز أن يُعطف مجموع هذا
(1)
في هامش (ف): "عبارة القاضي: ففعلنا بهم ما فعلنا بسبب نقضهم، وفيه تغيير النظر بلا ضرورة. منه".
(2)
"قوله": ليست في (م).
وما عُطف عليه على مجموع ما قبله، ويكونَ تكرير ذكر الكفر
(1)
إيذانًا بتكرير كفرهم، فإنهم كفروا بموسى ثم بعيسى عليهما السلام، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ} يعني: نسبتَها
(2)
إلى الزنا، والقولُ إذا تعدَّى بـ (على) يكون بمعنى الافتراء.
ونصب: {بُهْتَانًا} على تضمين معنى: باهتين.
وقوله: {عَظِيمًا} تأكيدٌ لِمَا في تنكير {بُهْتَانًا} من التفخيم.
* * *
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} قالوه استهزاء
(3)
؛ كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، ويجوز أن يكون استئنافًا بأنْ يضعَ الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيحِ في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه السلام عما يَذكرونه به.
و {عِيسَى} بدل من {الْمَسِيحُ} أو عطفُ بيان، وكذلك {ابْنُ مَرْيَمَ} ، ويجوز أن يكون صفةً أيضًا.
(1)
في (ف): "تكرير ذلك الكفر"، وفي (ك):"تكرير ذلك ". والصواب المثبت. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 107).
(2)
في (ف): "بنسبتها".
(3)
في هامش (ف): "عبارة القاضي: أي بزعمهم، ولا وجه له إلا بتكلف بارد. منه ".
وأجاز أبو البقاء في {رَسُولَ اللَّهِ} هذه الأوجُهَ الثلاثة
(1)
، إلا أن البدل في المشتقات قليل، وقد يقال: إن {رَسُولَ اللَّهِ} جرى مجرى الجوامد.
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} تخصيصٌ بعد التعميم لكونه محلَّ الاهتمام، أو نفيٌ لما ظنهم
(2)
من أنهم قتلوه ثم صلبوه.
{وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} مسنَدٌ إلى الجار والمجرور، كأنه قيل: وقَع لهم التشبيهُ
(3)
، أو إلى ضمير المقتول المدلول عليه بقوله:{إِنَّا قَتَلْنَا} كأنه قيل: شُبِّه لهم مَن قتَلوه.
رُوي أنه دخل رجل من اليهود بيتًا كان هو فيه فلم يجده، وألقى الله عليه شبَهه، فلمَّا خرج ظُنَّ أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وصُلب، وأمثالُ ذلك من الخوارق لا يُستبعد في زمان النبوة.
وقيل: إن رهطًا من اليهود سبُّوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ، فاجتمعت اليهود على قتله، فأَخبر الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء، فقال لأصحابه: أيُكم يرضى أن يُلقى عليه شبهي فيقتلَ ويصلبَ ويدخل الجنة؟ فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقُتل وصُلب.
وإنما ذمَّهم الله بما دل عليه الكلام من جرأتهم على الله، وقصدِهم قتلَ نبيِّه المؤيَّد بالمعجزات الباهرة، وتبجُّحهم به، لا بقولهم هذا على حسبانهم.
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} في شأن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لمَّا وقعت تلك
(1)
انظر: "الإملاء"(ص: 405).
(2)
قوله: "لما ظنهم" كذا في النسخ، ولعله يريد:(لما ظنوا)، أو:(لظنهم).
(3)
أي: (ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول). انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 108).
الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود: إنه كان كاذبًا فقتلناه حقًّا، وتردَّد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا! وقال مَن سمع منه أن الله تعالى يرفعني إلى السماء: إنه رفع إليها، وقال قوم: صُلب الناسُوتُ وصعد اللاهوت.
{لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} من أمره، والمراد من الشك: التردُّد، ولمَّا احتَمَل أن يكون الوقوع في الشك لأكثرهم
(1)
دفعه بقوله:
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} : شيءٍ من جنس العلم.
{إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطع، والمعنى: أنهم مستمرُّون على الشك، لكنْ قد يَلوح لهم أمارةٌ فيحصل ظنٌّ، ثم يزول ويعود الشك، وهذا أدلُّ على شدة الحيرة من استمرار الشك بلا انقطاعٍ.
هذا ما بحسب جليل النظر، والذي هو بحسَب دقيقه: أن المراد من الشك ما يلزمه من الحيرة التي لا محيص لهم عنها، وعبارةُ (في) الدالةُ
(2)
على الثبوت والتقريرِ
(3)
إنما تساعد هذا.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: وما قتلوه قتلًا يقينًا، أو حالٌ؛ أي: وما قتلوه متيقِّنين فيما ادَّعوا من قولهم: إنا قتلنا المسيح، أو تأكيدٌ لـ (ما قتلوه) كأنه قيل: وما قتلوه حقًا؛ أي: حقَّ انتفاءُ قتله حقًّا، وهو تأكيد لغيره.
* * *
(1)
في (ف): "لأكثر"، وفي " ك ":(الأكثر).
(2)
في (ف): "الدلالة "، وهو تحريف.
(3)
في (ح): "والتقرر".
(158) - {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ردٌّ وإنكار لقتله، وإثباتٌ لرفعه إلى منزلةٍ عاليةٍ مما كان فيه.
{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يُغلب على ما يريده.
{حَكِيمًا} في تدابيره، ويدخل فيه دخولًا أوليًّا ما دبَّره في أمر عيسى عليه السلام.
* * *
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أحدٌ {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} جملةٌ قَسَميةٌ وقعت صفةً لـ (أحد)، ويعود إليه الضمير الثاني، والأولُ لعيسى عليه السلام؛ أي: ما من يهوديٍّ ولا نصرانيِّ إلا ليؤمننَّ قبل أن يموت، ولو حين تزهقُ روحه، ولا ينفعه إيمانه بأنَّ عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله.
ويؤيد ذلك أنه قرئ: (إلا ليؤمِنُنَّ به قبل موتهم) بضم النون؛ لأن أحدًا في معنى الجمع
(1)
، وهذا كالوعيد لهم والتحريضِ على معاجلة
(2)
الإيمانِ به قبل أن يُضطروا إليه ولا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضميران لعيسى عليه السلام، والمعنى: أنه إذا نزل من السماء آمَن به أهل الملل
(3)
جميعًا، فتكون الملة واحدةً وهي ملة الإسلام، وهذا يقتضي تخصيصَ {أَهْلِ الْكِتَابِ} بالذين هم يوجدون عند نزوله عليه السلام، وتعميمَ الحكم لغير
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 588).
(2)
في (م): "معاجلتهم".
(3)
في (م): "أهل الكتاب والملل".
الكتابي أيضًا، فعلى ما ذكر يكون في المنزَل تخصيصٌ في موضع التعميم، وتعميمٌ في موضع التخصيص.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} تقديمُه للتخصيص.
{يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} فيشهد على اليهود بالتفريط في حقِّه، وعلى النصارى بالإفراط فيه.
* * *
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} يعني: ما ذكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} الآية [الأنعام: 146]، والتنكير في (بظلمٍ) للتعظيم، وتقديمُه على ما تعلَّق به يفيد التخصيص.
{وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} : أناسًا كثيرًا، أو: صدًّا كثيرًا، وإنما أُعيدت الباء هنا دون في
(1)
{وَأَخْذِهِمُ} وما بعده؛ للفصل بين المعطوفين بما ليس معمولًا للمعطوف عليه، بخلافِ الفصل فيما بعده، فإن الفاصل ثمةَ بالمعمول
(2)
للمعطوف عليه.
* * *
(1)
"في" ليست في (ك).
(2)
في (م): "بالعموم".
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ؛ أي: نهيَ تحريمٍ، بدلالة السياق، فلا دليل فيه على أن النهي المطلَق يدل على التحريم.
{وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} بالرشوة وسائر الوجوه المحرَّمة.
{وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} دون مَن تاب وآمَنَ.
{عَذَابًا أَلِيمًا} في الغاية
(1)
.
* * *
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} كعبد الله بن سلَام وأصحابه.
{وَالْمُؤْمِنُونَ} ؛ أي: منهم، أو من المهاجرين
(2)
والأنصار.
{يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} خبر المبتدأ.
{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} نصبٌ على المدح لبيان فضيلة الصلاة، أو عطفٌ على (ما أنزل إليك)، والمراد بهم ا لأنبياء عليهم السلام؛ أي: يؤمنون بالكتب والأنبياء.
وقرئ بالرفع عطفًا على {الرَّاسِخُونَ} ، أو الضميرِ في {يُؤْمِنُونَ} ، أو على أنه مبتدأ والخبر:{أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} .
(1)
في هامش (ف): "لا بد من الحمل على هذا حتى يكون للتوصيف فائدة زائدة. منه".
(2)
في (ف) و (ك): "أو المهاجرين"، وفي (م):"والمهاجرين".
{وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ورفعُه لأحد الوجوه
(1)
المذكورة.
{وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قدِّم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب، وما يصدِّقه من اتِّباع الشرائع؛ لأنَّه المقصود من الآية.
{أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
* * *
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} بدأ به عليه السلام لأنَّه أول مَن شُرِعت له الشرائع، وسنَّت له السنن.
{وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} جوابٌ لأهل الكتاب [عن اقتراحهم]
(2)
أن ينزِّل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاجٌ عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم؛ لأن إبراهيم عليه السلام أولُ أُولي العزم، وعيسى عليه السلام آخرُهم، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرُهم، وإنما لم يُذكر موسى عليه السلام هاهنا لأن له طريقةً مخصوصة على
(1)
في (م) و (ك): "الأوجه".
(2)
من "تفسير البيضاوي"(2/ 109). ونحوها عبارة "الكشاف"(1/ 590): (جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا
…
).
ما سيأتي التصريح بها، وأيضًا قد أُنزل عليه كتاب من السماء دفعةً واحدة فلا يناسب ذكرَه في الردِّ على ما طلب من مِثل
(1)
ذلك.
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} وقرئ: {زَبُورًا} بالضم
(2)
، وهو جمع زِبْرٍ بمعنى مَزبورٍ.
* * *
{وَرُسُلًا} منصوبٌ بمضمَرٍ دلَّ عليه {وَأَوْحَيْنَا}
(3)
، أو بما فسَّره:{قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} ؛ [أي: من قبلِ] هذه السور أو اليومِ.
{وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وهو منتهَى مراتب الوحي، خُصَّ به موسى عليه السلام من بينهم.
قوله: {تَكْلِيمًا} لدفع المجاز، قال الفرَّاء: العرب تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل، ولكنْ لا تحقِّقه بالمصدر، فإذا حُقَق به لم يكن إلا حقيقةَ الكلام.
* * *
(1)
"مثل" سقطت من (ف) و (ك)، و"من" سقطت من (ح)، والمثبت من (م).
(2)
هي قراءة حمزة، وقرأ باقي السبعة بفتح الزاي. انظر:"التيسير"(ص: 98).
(3)
والتقدير: وأرسلنا رسلًا. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 109)، و"روح المعاني"(6/ 397)، وما سيأتي بين معكوفتين منهما.
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} منصوبٌ على المدح، أو على التكرير للتأكيد، أو على الحال الموطِّئة كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحًا.
{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} لئلا يقولوا: لو لا أَرسلت إلينا رسولًا فيوقظَنا من سِنَة الغفلة، وينبِّهَنا لِمَا يجب الانتباه له.
ومَن قال
(1)
: وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم السلام إلى الناس ضرورةٌ؛ لقصور الكل عن إدراك جزئيات المصالح، واكثرِ عن إدراك كلياتها= فلم يتنبَّه لعدم مساعدة الاقتصار على التبشير والإنذار لذلك، فإن الأهم حينئذ ذكرُ بيان الأحكام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
واللام متعلقة بـ {أَرْسَلْنَا} أو بقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، و {حُجَّةٌ} اسمُ كان، وخبرُه {لِلنَّاسِ} ، أو {عَلَى اللَّهِ} والآخَرُ حال، ولا يجوز تعلُّقه بـ {حُجَّةٌ} ؛ لأنَّه مصدر، و {بَعْدَ} ظرف لها أو صفةٌ.
{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يغلب
(2)
فيما يريد.
{حَكِيمًا} فيما دبَّره، ويدخل فيه تدبيرُه في النبوَّة وتخصيصُ كل نبيٍّ من الأنبياء المذكورين بما خُص به دخولًا أوليًا.
* * *
(1)
هو البيضاوي. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 109).
(2)
في (م): "لا يغالب ".
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} استدراكٌ عما دلَّ عليه سؤالُهم، فإنه لمَّا أجاب عن اقتراحهم إنزالَ كتاب من السماء تعنُّتًا، وأحتج عليهم بأن طريق الوحي المنزل على جميع الأنبياء عليهم السلام على هذا الأسلوب، دل على أنهم لا يشهدون به، وإلا لم يسألوا لوضوحه ولم يتعنَّتوا، فقال:[إنهم لا يشهدون]
(1)
لكن الله يشهد، وإنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرِّره.
{بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز الدالِّ على نبوتك، رُوي أنه لمَّا نزل {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [النساء: 163] قالوا: ما نشهد لك، فنزلت
(2)
.
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} حال؛ أي: ملْتبِسًا بعلمه، جملة مفسِّرة أُوردت بيانًا للشهادة؛ أي: بعلمه الخاص وهو العلم بتأليفه على وجه يَعجز عنه كل بليغ، أو بحالِ مَن يستعد للنبوة ويستأهل نزول الكتاب عليه، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم، وعلى هذا يكون الحال عن المفعول، وعلى الأولَينِ عن الفاعل.
{وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضًا بنبوَّتك.
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ؛ أي: وكفى بما أقام به من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره.
* * *
(167) - {نَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} .
(1)
من "الكشاف"(1/ 592)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 110).
(2)
انظر: "الكشاف"(1/ 592)، و "تفسير البيضاوي"(2/ 110). ورواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(7/ 694)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 534)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} لجمعهم بين الضلال والإضلال، ولأن المضلَّ يكون أعرق في الضلال، وأبعدَ عن الانقلاع عنه.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَظَلَمُوا} أنفسَهم بالضلال وغيرَهم بالصد والإضلال.
{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ؛ أي: ليس في عادته تعالى المغفرة لهم ما داموا على ذلك.
{وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} ؛ لامتناعهم عن قبول ذلك.
* * *
(169) - {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .
{إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} ؛ لانجذابهم إليها بهواهم، ولا يهديهم يوم القيامة إلا طريقَها.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} لجري حكمه السابق ووعده المحتوم على أن مَن مات على الكفر فهو لا يخرج من النار، و {خَالِدِينَ} حال مقدَّرة.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يصعب عليه ولا يستعظمه.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} الباء إما للتعدية؛ أي: بالكتاب أو الدِّين الذي هو الحق، أو للمصاحبة؛ أي: ملْتبسًا بالحق.
{مِنْ رَبِّكُمْ} لمَّا قرَّر أمر النبوة، وبيَّن الطريق إلى العلم بها، ووعيدَ مَن أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة، والوعد بالإجابة، والوعيد على عدمها.
{فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} ؛ أي: إيمانًا
(1)
خيرًا لكم، أو: ائتوا خيرًا لكم مما أنتم عليه
(2)
.
{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: فإن الله تعالى غنيٌّ عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم؛ لأن له ما في العالَم كله، فحُذف الجزاء وأقيم تعليله مقامه، وعبِّر عن العالم بقطريه.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بأحوال العالَم.
(1)
في (م): "إيمانكم"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصادر. انظر:"تفسير القرطبي"(7/ 228)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 110)، و"البحر"(7/ 489)، و"روح المعاني" (6/ 411). وقوله:{خَيْرًا} على هذا القول نعت لمصدر محذوف دل عليه الفعل الذي قبله، وهو:(آمِنوا). وإلى هذا ذهب الفراء. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 295).
(2)
وهذا مذهب سيبويه: أنه منصوب بفعل مضمر وجوبًا. انظر: "الكتاب"(1/ 282)، و"البحر"(7/ 489).
{حَكِيمًا} فيما دبَّر له
(1)
.
* * *
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ؛ أي: لا تُجاوزوا حدَّ الحق، وهو خطاب لليهود في وضع شأن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى سمَّوه ولد الزنا، وغلوِّ النصارى برفعه حتى قال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: هو ابنه وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة.
{وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وهو اصطفاؤه لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وتنزُّهه عن الشريك والصاحب والولد.
{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} وقد سبق تفسيرُه.
{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} : أوصَلَها
(2)
.
(1)
في هامش (م): "انتهى ما وجد من سورة النساء كما هو في أصله المنقول منه، ويتلوه سورة الأنعام كما هو في أصله أيضًا". وفي هامش (ك): "آخر النساء وسورة المائدة ساقط من الأصل". وهنا أيضًا انتهى تفسير سورة النساء في (ف). والباقي من (ح) وحدها.
(2)
تحرفت في (ح) إلى: "وأصلها"، والمثبت من "الكشاف"(1/ 593)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 111)، وفيهما: أوصلها إليها وحصلها فيها.
{وَرُوحٌ مِنْهُ} ؛ أي: صدر منه بلا توسُّط ما يجري مجرى الأصل والمادة، وسُمي روحًا لأنَّه كان يُحيي الأموات أو القلوب.
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، أي آمِنوا باللّه بأنه إلهٌ واحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وبعيسى عليه الصلاة والسلام بأنه عبده ورسوله، ولمَّا كان تكذيبه تكذيبًا للرسل كلهم قال:{وَرُسُلِهِ} ولم يقل: ورسوله؛ تعظيمًا لشأنه، وبهذا البيان اتَّضح وجه التفريع على ما تقدم.
{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: اللهُ ثلاثةٌ، على ما استفاض من قولهم بثلاثة أقانيم: الآب أرادوا به الذات، والابن وأرادوا به العلم، وروح القدس وأرادوا به الحياة، والإلهية ثلاثة: الله والمسيح ومريم على ما ذكر في قوله تعالى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].
{انْتَهُوا} عن التثليث {خَيْرًا لَكُمْ} نصبُه كما سبق.
{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ؛ أي: واحد بالذات لا تعدُّد فيه بوجهٍ من الوجوه.
{سُبْحَانَهُ} أُسبِّحه تسبيحًا من أن يكون له ولد، فإنه يكون لمن يعادله
(1)
أحد.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وحقَّا لا يعادله بشيء من ذلك فهو كالدليل لمَا تقدم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ، أي: لأنَّه تعالى كافٍ في تأثير العالم وتدبيره، وعلى تقدير وجود الشريك يلزم أحد المحذورين: عدمُ كفايته تعالى في التأثير والحفظ، وعدمُ كون الشريك شريكًا.
* * *
(1)
في (ح): "يعادل"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 111).
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} : لن يأنف، من نَكَفْتُ الدَّمع
(1)
: إذا نحَّيتَه بأصبعك لئلا يرى أثره عليك.
{أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} : من أن يكون عبدًا له تعالى، فإن عبوديته شرفٌ يباهي به، وإنما المذلة
(2)
والاستنكاف في عبودية غيره.
رُوي: أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لمَ تعيبُ صاحبنا؟ قال: "ومن صاحبكم؟ " قالوا: عيسى، قال:"وأيُّ شيء أقول؟ "، قالوا: تقول: إنه عبد الله، قال:"إنه ليس بعارٍ أن يكون عبدًا لله" قالوا: بلى، فنزلت
(3)
.
{وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} عطف على {الْمَسِيحُ} ؛ أي: ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدًا لله.
لمَّا كان عيسى عليه الصلاة والسلام ممتازًا عن بني نوعه بأمرين صالحين لأن يعظَّم بهما ويُظنَّ أنه يستحق بذلك أن يُرفع عن منزلة العبودية:
أحدهما: كونه عليه الصلاة والسلام مخلوقًا من غير أب.
والثاني: كونه مرفوعًا إلى السماء.
(1)
في (ح): "الدفع"، والمثبت من "الكشاف"(1/ 594)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 111).
(2)
في (ح): "المذلقة"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 111).
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 596 - 597)، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 187) عن الكلبي.
وكلٌّ من هذين الأمرين حاصل للملائكة المقرَّبين على وجه أقوى وأكمل - أما الأول: فلأنهم فخلوقون من غير أب وأم، وأما الثاني: فلأنهم ساكنون فوق العرش - كان المناسبُ أن يذكروا بعد عيسى عليه الصلاة والسلام على وجه الترقِّي.
وبما قرَّرناه ظهر وجه تقييدهم بالمقرَّبين، واتَّضح أنه لا متمسَّك في الآية لمن ذهب إلى تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} في عطف {وَيَسْتَكْبِرْ} على {يَسْتَنْكِفْ} نوعُ مبالغة؛ لأن الاستكبار دون الاستنكاف في الترفُّع، إن في الاستنكاف توهُّمَ لحوق العار والنقص، وفي الاستكبار طلبَ العلوِّ والكبرَ بغير الاستحقاق فحسب.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} ؛ أي: إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه سواه؛ كما يقال: صار أمر فلان إلى القاضي؛ أي: لا يملكه غيري، ولا يراد بذلك المكان الذي فيه القاضي.
* * *
لا خفاء في أن الآية مشتملة على ذكر الفريقين، فالتفصيل مطابق للمفصَّل، وضمير المفعول في {فَسَيَحْشُرُهُمْ} عائد إلى الجمع، أي: يجمع الكل من المستنكفين ومقابِليهم إليه للمجازاة، فقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ تفصيلٌ لِمَا ذكر وبيانٌ لمآل أحد الفريقين، وقولُه:{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا} إلخ بيانٌ لحال الفريق الآخر.
والتعبير عن الأول بـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لتعميم الحكم المذكور بما عدا عيسى والملائكةَ المقربين من المؤمنين الذين عملوا الصالحات، والتنبيهِ على أن ترك الاستنكاف والاستكبار أثرُ الاعتقاد الصحيح والاعتبارِ بالعمل الصالح.
وأما ما قيل: الضمير المذكور للفريق الثاني، والمعنى: فسيحشرهم لمجازاتهم فإن إثابة مقابِليهم والإحسان إليهم تعذيبٌ لهم بالغم والحسرة = فلا يساعده دخول كلمة (أمَّا) على الفريقين.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} البرهان هو دينُ الحقِّ، أو رسولُ الله عليه الصلاة والسلام، والنورُ المبين هو القرآن المعجِز البيِّن بنفسه المُبيِّنُ للدِّين والمصدِّقُ للرسول عليه الصلاة والسلام، والمراد بهما القرآن باعتبار كونه حجةً على الناس مبيِّنًا للأحكام.
أو البرهانُ: المعجزات
(1)
، والنورُ: القرآن، يعني: تعاضَد دليلا العقل والنقل فلم يبقَ لكم عذر.
* * *
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} الفاءُ فصيحةٌ للعطف على قرينه المحذوف، وإنما حذف للدلالة على فظاعة شأن مَن يكفرُ بالله ولم يعتصِم به واعتصم بالطاغوت.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} : ثوابٍ عظيمٍ موعودٍ على الإيمان والعمل الصالح رحمةً منه، لا قضاءً لحقٍّ وجَب عليه.
{وَفَضْلٍ} : إحسانٍ زائدٍ على الموعود.
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} : إلى الله، وقيل: إلى الموعود.
{صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} : هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريقُ الجنة في الآخرة.
* * *
(1)
في (ح): "المعجز"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 112).
{يَسْتَفْتُونَكَ} ؛ أي: في الكلالة، حُذف لدلالة الجواب عليه.
رُوي: أن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني كلالةٌ فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت
(1)
، وهي آخِرُ ما نزل في الأحكام.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} سبق تفسيرها في أوائل السورة.
{امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ارتفع {امْرُؤٌ} بمضمَر يفسِّره الظاهر، و {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} صفةٌ له، ولا يجوز أن يكون حالًا عن المستكنِّ في {هَلَكَ} لأنَّه تفسير غيرُ مقصود
(2)
.
وربما يُدَّعَى أنه لا ضمير فيه؛ لأنَّه تفسير للفعل فقط.
والواو في {وَلَهُ} تحتمِل الحالَ والعطف.
والمراد من الأخت من الأب أعمُّ من أن تكون من الأم أيضًا أو لا؛ لأنَّه جُعل أخوها عصبةً، وابنُ الأم لا يكون عصبة، والولد على ظاهره فإنَّ الأخت وإنْ ورثت مع البنت عند عامة العلماء لكنها لا ترث بالفرض.
{وَهُوَ يَرِثُهَا} ؛ أي: والمرءُ يرث أخته إن كان الأمر بالعكس.
{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ذكرًا كان أو أنثى؛ لأن الابن يُسقطه، والبنتُ وإن لم تسقطه
(1)
رواه البخاري (194)، ومسلم (1616)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رد على البيضاوي في قوله: (ليس له ولد صفة له [يعني: لـ {امْرُؤٌ}] أو حال من المستكن في {هَلَكَ}). انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 112). ومعنى كون {هَلَكَ} تفسيرًا غير مقصود: أنه مفسر للرافع لـ {امْرُؤٌ} فهو غير مقصود لذلك. ولأبي حيان رحمه كلام طويل في بيان ذلك انظره في "البحر"(7/ 505).
لكنها مَنعت حيازته المال، وهي الظاهر المتبادِر من إطلاق {وَهُوَ يَرِثُهَا} ، كما أن الظاهر من إطلاق الولد ما يتناول البنت.
والآيةُ كما لم تدلَّ على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدلَّ على عدم سقوطهم به، وقد دلَّت السنَّة على سقوطهم بالأب.
ومن بِدَعِ الكلام
(1)
: ما خطر ببعض الأوهام، في هذا المقام؛ من أنه يجوز أن يُدلَّ بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد؛ لأن الولد أقربُ إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب فأَولى أن يرث عند انتفاء الأبعد، ولا يخفى على ذوي الأفهام، أنه لا انتظام له مع ما سيق له الكلام؛ لأن الحكم المطلوب ليس هو إرثَ الأخ عند انتفاء الوالد
(2)
، بل عدمُ إرثه عند وجوده، ثم إن ما ذكره في معرض التعليل غيرُ مسلَّم.
{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} الضمير لمن يرث بالأخوة، لكنْ طُوبق بالضمير الخبرُ في التثنية كما طوبق به في قولهم: مَن كانت أمك؟ في التأنيث، وكذا في قوله:
{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً} طوبق به في الجمع وغلِّب التذكير، وفائدة الإخبار عنه باثنتين: التنبيهُ على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما.
{رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قد سبق ما يتعلق به في أوائل السورة.
(1)
رد على الزمخشري. انظر: "الكشاف"(1/ 599).
(2)
كذا في (ح)، ولعل الصواب:"الولد".
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ أي: بيَّن الأحكام كلها في الحياة والممات، ولمَّا كان المفعول عامًّا معلومًا حذف وجعل الفعل كاللازم.
{أَنْ تَضِلُّوا} أي: كراهةَ أن تضلوا.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو عالِمٌ بمصالح حياتكم ومماتكم في الدنيا والآخرة
(1)
.
* * *
(1)
من أول تفسير الآية (171) إلى هنا موجود فقط في نسخة الحرم المكي المرموز لها بـ (ح)، وليس في باقي النسخ كلما أشرنا إليه في أوله.
سُورَةُ المَائِدَةِ
مدنية مئة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تشريفٌ {أَوْفُوا بِالْعُقُود} تكليفٌ، ولمَّا علم أن في التكليف بإيفاء العقود كلِّها كلفةً قدَّم التشريف بالنداء على التكليف بالأداء.
والوفاءُ والإيفاءُ: القيام بمقتضى العهد.
والعَقْد: العَهْدُ الموثَّق، فإن العهد إلزامٌ والعقدَ التزامٌ على سبيل الإحكام.
شبَّه العهد بالحبل، وشبَّه الموثَّق منه - كالعزيمة الموثَّقة بالأمر الموجَب - بعقد الحبل، والظاهر نظرًا إلى براعة الاستهلال وما فيها من التفصيل بعد الإجمال: أن المراد عقود الله تعالى عليهم في دِينه الكريم من التحليل والتحريم، وحالُ سائر ما يجب الوفاء به من العقود يُعلم بطريق الدلالة، وفي هذه الإحالة إعمالُ النص عبارةً ودلالةً، والإعمال خير من الإهمال.
ولشدَّة الاعتناءِ بتلك العقودِ أَمَرنا بالوفاء بها مجمَلًا، ثم فصَّلها بقوله تعالى:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} إلى آخر الأحكام، والبهيمة: كلُّ حيٍّ لا يميز، ثم اختص بذوات الأربع، وإضافتُها إلى الأنعام للبيان، ومعناه: البهيمة من الأنعام؛
لقوله تعالى في سورة الحج
(1)
: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} [الحج: 30]، وهي الإبلُ البقر والغنم، سميت بذلك للِين
(2)
مسِّها، وزيدَ هنا عبارة البهيمة إشارةَ إلى ردِّ قول الثَّنَوية الذين لا يَرون ذبح الحيوانات وأكلَها، ويقولون: هي بهائم لا تَعقل، وأكلها من القسوة وقلة الرحمة.
{إِلَّا مَا يُتْلَى} ؛ أي: يُبيَّن
(3)
لكم حالُه، يعني: من جهة الحرمة بقرينة الاستثناء من التحليل، وهذا أبلغ إيجازًا في التعبير، والمصيرُ في مثل هذا إلى التقدير مِن ضِيق العَطَن كما لا يخفى على أصحاب الفِطَن.
وفيه بيان أن
(4)
التحريم لا يكون إلا بنصٍّ متلوٍّ
(5)
.
{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} حالٌ من الضمير في {لَكُمْ} ، و {الصَّيْدِ} يحتمِل المصدرَ والمفعول.
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حالٌ من المستكنِّ في {مُحِلِّي} ، والحُرُم: جمع حرامٍ، وهو المُحْرِم، وتقديره: أَحِلُّوا بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين لها في الإحرام إذا كان صيدًا، والأنعام يتناولها لأن البقرة الوحشية منها والظباءُ كالعُنوز، فالمستثنى منه ينتظمها
(1)
في هامش (ي): "والقرآن يفسر بعضه بعضًا. منه".
(2)
م "للين" من (ي).
(3)
في (ي): "بين".
(4)
"بيان أن" من (ي).
(5)
في هامش (ي): "سواء كان من كلام الله تعالى كقوله: {عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} الآية، أو من كلام الرسول عليه السلام كقوله: "كل ذي ناب من السباع حرام" فمن جوَّز أن يكون تقدير الكلام: إلا ما يتلى عليكم آيةُ تحريمه لم يصب، ثم إنه لا حاجة إلى تقدير الدالِّ، فإن نسبة التلاوة إلى المدلول على طريق الإسناد المجازي شائع ذريع. منه".
دلالةً، وإذا أَحَلَّ لهم بعض الإنعام في حال امتناعهم من الصيد فبأَنْ يُحِلَّها لهم وهم غيرُ محرِمين بطريق الأَولى.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أراد به التعميم، ودخل فيه التحليل والتحريم دخولًا أوليًّا، فلا مساغَ للسؤال بأن الصيد أحقُّ بالإحلال من الأنعام في حالة الإحرام؟
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} : جمع شعيرة، وهي اسم ما أُشعر؛ أي: جُعل شعارًا، سُمي به أعمالُ الحج ومَواقفه لأنها علاماته وأعلام النُّسك، والمراد بإحلال الشعائر وما يتبعها: التهاون بحرمتها، والتعرُّض لها
(1)
؛ كالحيلولة بينها وبين المتنسِّكينَ بها، وإحداثِ ما حرَّمه الشرع في الشهر الحرام من صيد وغيره، ومنعِ الهدي وغَصْبه.
{وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} : اسمُ جنسٍ
(2)
يقع على الأشهر الحرُم كلِّها.
{وَلَا الْهَدْيَ} : ما أُهدي إلى الكعبة، جمع هَدْيةٍ؛ كجَدْيٍ في جمع جَدْيَةٍ.
{وَلَا الْقَلَائِدَ} ؛ أي: ذواتِ القلائد من الهدْي وهي البُدْن، وفي عطفها على
(1)
في (ي): "بها".
(2)
في (ع): "جمع".
الهَدْي إظهارُ فضلها، أو القلائدُ أنفسها، وفيه المبالغة في النهي عن التعرُّض للهَدي.
والقلائد: جمع قِلادةٍ، وهو ما قلِّد به الهديُ من نعلٍ أو لحاءِ شجرٍ ليُعلَم به أنه هديٌ فلا يُتعرضَ له.
{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : قاصدين زيارتَه
(1)
.
{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} أنْ يثبِّتهم ويرضى عنهم، والجملة حالٌ من المستكن في {آمِّينَ} لأن التقدير: ولا قومًا آمِّين، ولا يجوز أن يكون صفةً لـ {آمِّينَ} إذ المختارُ أنه إذا عمل قام مقام الفعل فلا يوصف
(2)
، وفائدتُه: تعظيمهم، والتنبيهُ
(3)
على علة وجوب الامتناع عن التعرُّض لهم، واستنكارُ أن يُتعرَّض لقوم هذه صفتُهم.
وقالوا: المراد من ابتغاء فضل الله تعالى طلبُ الرزق بالتجارة؛ أي: سواءٌ قصدوه لمصلحة الدنيا أو لمصلحة الآخرة، والعطف بالواو الواصلة دون (أو)
(4)
الفاصلة لدفعِ وهم منع الجمع بينهما، وسببُ النزول إنما يساعد هذا؛ إذ روي: أنها نزلت في عام قضاء العمرة في حجَّاج اليمامة لمَّا همَّ المسلمون أن يتعرَّضوا لهم
(1)
في (ي): "لزيارته".
(2)
في هامش (ي): "هذا أولى مما قيل: إن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل، إذ يتجه حينئذ أن يقال: إعماله هنا قبل أن يوصف. منه".
(3)
في (ع): "والتنبه".
(4)
"أو" من (ي).
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1] بسبب أنه كان فيهم الحُطَمُ شريحُ بن ضَبيعةَ، وكان قد استاق سرحَ المدينة
(1)
، وعلى هذا فالآيةُ منسوخة.
والمراد من الرضوان ما في زعمهم؛ لأن الكافر لا نصيبَ له منه.
وقرئ: (تبتغون) على خطاب المؤمنين
(2)
.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} وقرئ: (أَحْلَلْتُم)
(3)
، يقال: حلَّ المحرِمُ وأَحَلَّ.
{فَاصْطَادُوا} إذْنٌ في الاصطياد بعد زوال المحرِّم.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} ؛ أي: لا يَحملنَكم ولا يَكْسِبَنَكم
{شَنَآنُ قَوْمٍ} : شدةُ بغضهم، وهو مصدرٌ أضيف إلى المفعول أو الفاعل، وقرئ بسكون النون
(4)
، وهو أيضًا مصدر كليَّان
(5)
، أو نعتٌ بمعنى: بُغضُ قوم، وفَعْلان في النعت أكثرُ.
{أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
(6)
: لِأَنْ يصدُّوكم عنه، يعني: عامَ الحديبية، وقرئ بكسر الهمزة
(7)
على أنه شرطٌ معترِض أغنى عن جوابه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} .
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(8/ 31) مطولًا عن السدي وعكرمة.
(2)
نسبت لحميد بن قيس والأعرج. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 31)، و"الكشاف"(1/ 602).
(3)
انظر: "الكشاف"(1/ 602).
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 98).
(5)
الليان: المطل، من لويته ليانًا.
(6)
في (ي): "أن يصدوكم .. " وجاء في هامشها: "هكذا عن نسخة المؤلف، وصوابه: أن صدوكم".
(7)
هي قراءة ابن عامر وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 98).
{أَنْ تَعْتَدُوا} بالانتقام، وهو ثاني مفعولي {يَجْرِمَنَّكُمْ} فإنه يتعدى إلى مفعولٍ وإلى اثنين ككَسَبَ، ومَن قرأ:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء
(1)
جعله منقولًا من المتعدِّي إلى مفعولٍ بالهمزة إلى مفعولين.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} : على فِعل الإحسان وتركِ العصيان بالعفو والإغضاء.
{وَلَا تَعَاوَنُوا} ؛ أي: ولا تتعاونوا، حُذف إحدى التاءين تخفيفًا.
{عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} للتشفي والانتقام، والإثم: الوِزْر، والعدوان: مجاوزة الحد.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه وما اتَّقاه، والعقاب: ما يَعْقبُ الجُرم مما يَسوءُ صاحبَه.
* * *
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} بيانُ {مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} والميتة: ما يموت بغير تَذْكيَة.
(1)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 31)، و"المحتسب"(1/ 206)، و"الكشاف"(/).
{وَالدَّمُ} أي: المسفوح؛ لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، وكان أهل الجاهلية يصبُّونه في الأمعاء ويَشوونها.
{وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أُريد بلحمه: ما يؤكل منه مطلقًا على طريقةِ ذِكر الجزءِ وإرادةِ الكلّ.
{وَمَا أُهِلَّ} أي: رُفع الصوتُ {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، وهو قولهم: باسم اللات والعزى، ونحوُه، عند ذبحه.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} : التي ماتت بالخنق.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} : التي ماتت بضرب خشبٍ
(1)
أو حجرٍ، والوَقْذ: شدَّة الضرب.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : التي تَردَّتْ من عُلوٍ أو في بئرٍ فماتت.
{وَالنَّطِيحَةُ} : التي ماتت من نطحِ أخرى، والتاء للنقل
(2)
.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ؛ أي: أكله ذو ناب وأظفار من الحيوان، يعني: افترسه فأهلكه
(3)
، سواءٌ أكل منه أو لم يأكل، والاستثناءُ الآتي ذكرُه قرينةٌ لعدم إرادة الحقيقة من الأكل، وفي تقدير: منه، إخراجُ ثاني القِسمين المذكورين عن حيِّز الإرادة، ولا وجه له لعدم الفرق بينهما في الحرمة
(4)
.
(1)
في (ع): "خشبة".
(2)
أي: للنقل من الوصفية إلى الاسمية.
(3)
في (ع): "فأكله".
(4)
في هامش (ي): "ومن غفل عن هذا قال: وهي تدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم يحل، ثم إنه غفل عن أن السبع لا ينتظم ما لا ناب له من الجوارح وعن أنه يؤكل وإن أكل منه البازي منه".
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أطلق الذَّكاة لينتظِم غيرَ الاختياري، وهي بالتسمية عند إرسال الجارح، والشرع إنما اعتبر قطعَ الحلقوم والمريِ بمحدَّدٍ في الذكاة الاختياري، ومَن لم يتنبَّه لهذا قال: إلا ما أدركتُم ذكاتَه وفيه حياةٌ مستغرق
(1)
، ثم إنَّ قيد الاستقرار لا يصحُّ اعتباره عندنا ولا عند الشافعي رحمه الله على الأشهر من قوله، والاستثناء مما يَقبل الذَّكاة من الخمسة المذكورة.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} هو واحد الأنصاب، كانت لهم حجارةٌ منصوبةٌ حول البيت يذبحون عليها وَيشرحون اللحم عليها يعظِّمونها بذلك، يَعُدُّونه قربةً يسمونها الأنصاب.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} عطفٌ على {الْمَيْتَةُ} كالبواقي؛ أي: حرِّم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهي الأقداح، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلًا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوبٍ على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر، نهاني ربي، والثالث غُفْلٌ، فإن خرج الأمر مَضَوا على ذلك، وإن خرج النهي اجتنبوا عنه، وإن خرج الغُفل أجالوها ثانيًا، فمعنى الاستقسام: طلبُ معرفة ما قُسم لهم دون ما لم يُقسم بالأزلام.
وقيل: هو استقسامُ الجزور بالأقداح على الأَنْصِباء المعلومة.
وواحد الأزلام: زَلَمٌ كجَمَلٍ، أو زُلَمٌ
(2)
كصُرَدٍ.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 114)، وفيه:(حياة مستقرة)، وكذا نقله عنه الطيبي في "فتوح الغيب" (5/ 269). قال الشهاب في "الحاشية على البيضاوي" (3/ 217): والحياة المستقرّة هي التي لا تكون على شرف الزوال قيل، وعلامتها أن تضطرب بعد الذبح لا وقت الذبح فإنه لا يحسب.
(2)
في (ع): "وزلم".
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام.
{فِسْقٌ} لأنَّه ضلال باعتقادهم أنه طريق إلى علم الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به، وافتراءٌ على الله تعالى بقولهم: أمرني ربي، وإن كان المراد بالرب الصنم فشرك، هذا على المعنى الأول، وعلى الثاني فظاهرٌ؛ لحرمة الميسر.
لمَّا حلَّل ما حلَّل، وحرَّم ما حرَّم، وختم الكلام بوجهٍ أحكم، حرضهم على التمسك بما شرع لهم فقال تعالى:
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} : أن يُبْطلوه، وأن تَرجعوا محلِّلين لهذه الخبائث بعدما حرِّمت عليكم، أو: أن يغلبوكم عليه، إن الله تعالى وفَى بعهده من إظهاره على الدِّين كله.
و (اليوم) في مثل هذا مجازٌ عن الزمان الحاضر وما يُدانيه من الماضي والمستقبل، كقولك: كنتَ بالأمس شابًّا وأنت اليوم أشيَبُ.
{فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم {وَاخْشَوْنِ} : وأخلِصوا الخشية لي.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوفيقِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد؛ لأنها نزلت بعرفاتٍ عامَ حَجةِ الوداع ولم يكن بعدها شرعٌ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بفتح مكة وهدم منار
(2)
الجاهلية.
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(8/ 80).
(2)
"منار" من (ي).
ذكر في حقِّ الدِّين الإكمالَ وفي حقِّ النعمة الإتمام؛ لأن الكامل ما لا يحتمِل المزيدَ عليه والتمامَ يحتملُه.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} : اخترتُه لكم {دِينًا} من بين الأديان، وهو الدِّين عند اللّه تعالى.
{فَمَنِ اضْطُرّ} متصلٌ بذكر المحرَّمات، والتفريعُ باعتبار مفهوم الشرط الآتي ذكرُه
(1)
، وما بينهما اعتراضٌ أكِّد به معنى التحريم ببيان علَّته، والإشارةِ إلى أن تحريم تلك الخبائث من جملة تكميل الدين وتتميمِ النعمة برفعِ عادات أهل الشرك ويأسهم من رجوعكم عن دينكم.
{فِي مَخْمَصَةٍ} متعلّق بـ {اضْطُرّ} ومعنى اضطُر: أُصيب بالضرِّ الذي لا يمكنُه الامتناع من تناول ما يجد من جنس المأكول. ومعنى المخمصة: المجاعةُ؛ لأنها تَخْمصُ لها البطونُ؛ أي: تَضْمُر.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} : غير مائلٍ له ومنحرِفٍ إليه بأنْ يأكلها تلذُّذًا أو مجاوِزًا حدَّ الرخصة؛ لقوله تعالى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173].
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لا يؤاخذه بأكله بالجملة {رَحِيمٌ} لا يُحبط حسناتهم بذلك، ولا ينقصُ أجورها، وذلك أن الأكل لتحصيل القوة الوافية لإقامة العبادة المفروضة حسنةٌ يثاب عليها العبد، فافهم هذه الدقيقة الأنيقة.
* * *
(1)
في هامش (ي): "فيه دلالة على حجة مفهوم الشرط. منه".
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} لمَّا تضمَّن السؤال معنى القول أُوقع على الجملة وأُجريَ الكلام على الغيبة مطابقًا لـ {يَسْأَلُونَكَ} حكايةً عما قالوه، والمسؤول ما أُحل لهم من المآكل، فإنهم لمَّا تُلي عليهم ما حُرِّم عليهم سألوا عما أحل لهم، وقد سبق الكلام في (ماذا)
(1)
.
{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} : ما لم تَستخبِثْه الطباع السليمة ولم تَنفِر عنه، وفيه التنبيهُ على أن تحريم ما حُرم
(2)
لخباثته.
وقيل: ما لم يدلّ نصٌّ ولا قياسٌ على حرمته.
وفيه: أن الجواب حينئذ لا يكون شافيًا في حق غير المجتهد.
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} عطفٌ على {الطَّيِّبَاتُ} إن جُعل (ما) موصولةً على تقدير: وصيدُ ما علَّمتُم، أو مبتدأ خبره:{فَكُلُوا} على أن (ما) موصولةٌ متضمِّنةٌ معنى الشرط، أو شرطيةٌ جوابها {فَكُلُوا} ، والواو عاطفة للجملة على الجملة.
والجوارح: كواسبُ الصيد على أهلها من سباعِ ذواتِ الأربع والطيرِ.
(1)
عند تفسير قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا} [البقرة: 26].
(2)
في هامش (ي): " [مَن] قال: من المطاعم، فقد غفل عن عمومها للمشروبات، أو عن اختصاص الكلام في المأكولات، فإن قوله بعده: {فَكُلُوا} ظاهر فيه. منه". وما بين معكوفتين زيادة يقتضيها الكلام.
{مُكَلِّبِينَ} من الكَلَب الذي هو معنى الضراوة، يقال: هو كَلِبٌ بكذا، إذا كان ضاريًا به.
وقيل: معناه: معلِّمين إياه الصيدَ، مشتقٌّ من الكَلْب؛ لأن التأديب يكون فيه أكثرَ، أو لأن كلَّ سَبُعٍ يسمَّى كلبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم اللهم:"سَلِّطْ عليه كلبًا مِن كلابِكَ"
(1)
، ويأباه كونه حالًا من {عَلَّمْتُمْ} ، وفائدتها أن يكون المعلِّم ماهرًا في التعليم موصوفًا بالتكليب.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} حالٌ أخرى للتأكيد، أو استئناف.
{مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من علم التأديب والتكليب؛ لأنَّه
(2)
إلهام من الله تعالى يُقتنص بالفطنة الصافية، أو: مما عرَّفكم أن تعملِّوه؛ من اتِّباع الصيد بإرسال صاحبه، وانصرافه بدعائه، وانزجاره بزجره
(3)
، وإمساكه عليه وامتناعِه عن أكله.
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إمساكُ الكلب الصيدَ على صاحبه: أن لا يأكل منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعَديِّ بن حاتم: "وإنْ أَكَل منه فلا تأكُلْ، إنَّما أَمْسَكَ على نفسه"
(4)
.
هذا في صيد الكلب ونحوِه، فأما صيدُ البازيِّ ونحوِه فأكلُه لا يحرِّمه عندنا، ويُعْرف هذا في الفقهيَّات.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3984)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 211).
(2)
في (ع): "لأنها".
(3)
"بزجره" من (ي).
(4)
رواه البخاري (175)، ومسلم (2022)، من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه.
و (من) للتبعيض؛ لأن المجروح منها يؤكل دون المخنوق، وأيضًا ما يؤكل منها هو اللحوم والشحوم دون الدم والعظم.
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الضميرُ لـ (ما أمسكن)؛ أي: إذا أدركتُم ذكاتَه، أو لـ (ما علَّمتم)؛ أي: عند إرساله، أو للأكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"سَمِّ الله، وكُلْ ممَّا يَليك"
(1)
ويرجِّح هذا تأخيرُه عن الأمر بالأكل، فإنه على الأوَّلَينِ حقُّه التقديمُ عليه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : واحذروا مخالفة أمره ونهيه.
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} للجزاء، لا يشغله شأن عن شأنٍ، فلا يستدعي مهلةً وزمانًا.
* * *
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كرَّره للمِنَّة، وكان الأول لبيان حكم النعمة.
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى {حِلٌّ لَكُمْ} يعني: ذبائحَهم، بدلالة سياق
(2)
الكلام، ولا بد من هذا التخصيص؛ لأن سائر الأطعمة لا يَختص
(1)
رواه البخاري (5376)، ومسلم (1929).
(2)
في (ي): (سباق).
حلُّها بأهل الكتاب، قال صلى الله عليه وسلم في المجوس:"سُنُّوا بهم سُنّةَ أهل الكتاب غيرَ ناكِحِي نسائهِم ولا آكِلِي ذبائحَهم"
(1)
.
{وَطَعَامُكُمْ} : ذبائحُكم {حِلٌّ لَهُمْ} وفيه ردٌّ لامتناعهم عن ذبيحتنا، وتعميمُ الطعام في المقامين يُحوج الكلامَ إلى مزيدِ تقديرٍ
(2)
.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} : العفائفُ منهم
(3)
، وتخصيصُه بعثٌ على ما هو الأولى.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يستوي فيه الحربيَّاتُ وغيرُهن خلافًا لابن عباس رضي الله عنهما، والحرائرُ والإماءُ خلافًا للشافعي رحمه الله، ومَن رام حِفظَ مذهبه وفَسَّر المحصنات في الموضعين بالحرائر العفائف فقد أَخلَّ به من حيث لم يَدْرِ، وكان يكفيه تخصيصُ المحصنات المذكورة ثانيًا بمعنى العفائف بالحرائر بقرينةِ قوله:
(1)
هذا حديث مجموع من حديثين مرسلين، فقد قال الحافظ في "الدراية" (2/ 205):(لم أَجِده هكذا، ولكن رَوَى عبد الرَّزَاق وابن شيبة من طريق الحسن بن محمَّد بن الحنفية رفعه: كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمَن أسلم قُبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجِزيَة غير ناكحي نسائِهم ولا آكِلِي ذبائحِهم. ولمالك عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَفعه سنوا بهم سنة أهل الْكتاب). قلت: رواه مالك في "الموطأ"(1/ 278) عن جعفرِ بن محمَّد بن عليٍّ عن أبيه: أنَّ عُمرَ ابن الخَطاب ذَكَرَ المَجُوسَ فقال: ما أدري كيف أَصنعُ في أَمْرِهِم؟ فقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سُنُوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ". قال ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 116 - 114): هذا حديث منقطع لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف
…
ولكن معناه متصل من وجوه حسان.
(2)
في هامش (ي): "مَن قصَر ذكر التقديرِ بأحدهما فقد قصَّر. منه).
(3)
كذا في النسختين، والصواب:"منهن".
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لأن مهرَ الأمة لا يُدفع إليها بل إلى سيِّدها، والتعبير عن المهر بالأجر للتنبيه على أن أثر النكاح ملكُ المتعة لا ملكُ اليمين، والمراد من الإعطاء الالتزامُ كما في آية الجزية، وفائدةُ المجاز: المبالغةُ في وجوب إيتاء المهر، وإلا فهو ليس شرطًا للنكاح، والكلام كنايةٌ عن النكاح بالمهر؛ أي: إذا نكحتموهن بالمهور؛ لكونه في مقابلة الزنا سرًّا وعلانيةً.
{مُحْصِنِينَ} : أَعِفَّاءَ بالنكاح {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} بالزنا.
{وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} قال الزجَّاج: المسافحُ والمسافحةُ: الزانيان غيرَ ممتنعَينِ مِن أحدٍ، فإذا كانت تزني بواحدٍ فهي ذات خِدْنٍ، فحرَّم الله تعالى الزنا على كلِّ حالٍ: على السِّفاح، واتخاذِ الصديق
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الخِدْنُ هو الصديق الذي يكون للمرأة يزني بها سرًّا، كذا كان في الجاهلية، والسِّفاح: ما ظهر
(2)
منه، وكان فيهم مَن يحرِّم ما ظهر من الزنا ولا يحرِّم ما خَفِي منه
(3)
.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} : بمقتضاه من أحكامه وشرائعه مما أَحلَّ اللّه تعالى وحرَّم، ولا يخفى ما في هذا
(4)
المجاز من المبالغة، والإشعارِ بأن الشرائع من لوازم الإيمان، وإنكارُها كفرٌ؛ لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم.
{فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} مقتضَى الظاهر العطفُ بالفاء
(1)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 37).
(2)
في (ع): "أظهرت".
(3)
انظر: "البحر"(/)، ورواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(6/ 603).
(4)
"هذا" من (ع).
التفريعية، وإنما عدل عنه تنزيلًا لخسران العمل منزلة العدم؛ للمبالغة في تعظيم ذلك الخسران المبهم، فافهم.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تخصيصُ الخطاب بالمؤمنين لاختصاصِ الغاية التي ذكرها بهم، فلا دلالة فيه على أن الكفار غيرُ مكلَّفين بالعبادات.
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} تعدِيَةُ القيام بـ {إِلَى} صريحٌ في معنى التوجُّه والقصدِ؛ لأن القيام بمعنى الانتصاب لا يتعدى بـ (إلى)
(1)
.
وظاهرُ الآية يُوجب الوضوء على كلِّ قاصد إلى الصلاة محْدِثًا كان أو غيرَ محدثٍ، والإجماع على خلافه؛ لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الخَمْسَ بوضوء واحد يوم الفتح
(2)
، فلا بد من تخصيص الخطاب بالمحْدِثين
(3)
، أو صرفِ الأمر إلى النَّدب، أو القولِ بالنسخ، ولا وجه للاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن نزولًا،
(1)
في هامش (ي): (فكأنه غفل عن هذا من جوز أن يكون المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة منه).
(2)
رواه مسلم (277) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(3)
في هامش (ي): "إنما قلنا: من تخصيص الخطاب بالمحدثين، ولم نقل: من تقييده بالحدث؛ لأن التقييد من قبيل النسخ، والتخصيصَ من قبيل البيان، فهو أهون منه".
فأَحِلُّوا حلالَها وحرِّموا حرامها"
(1)
؛ لأن مبناه على عدم جواز انتساخ الكتاب بالسنَّة، ولا صحة له عندنا.
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} غسلُ الشيء: إسالةُ الماء عليه، والوجهُ حدُّه من منتهى
(2)
مَنبِت الشعر إلى الأذنين وأسفلِ الذقن.
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} جمعُ مرفقٍ بفتح الميم مع كسر الفاء، وقَلْبِ ذلك
(3)
، وهو مجتمَع طوفي الساعد والعضُد، و {إِلَى} للغاية، فينتهي
(4)
عندها حكمُ الغَسل عند زُفرَ والشافعيِّ ومالكٍ رحمهم اللّه تعالى، فلا يجب غسلُها لأن الحدَّ لا يدخل تحت المحدود، وعند أئمتِنا الثلاثةِ يجب غسلها؛ لأن ضرب الغاية لا بد له من فائدةٍ، وهي: إما مدُّ الحكم عليها، أو إسقاطُ ما وراءها، والأول يحصل هاهنا بدونه لأن اليد اسمٌ لذلك العضو إلى الإبط، فتَعيَّن الثاني، ومُوْجَبُه دخول الغاية في حكم المغيَّا، وبهذا التقدير تبيَّن أنه لا حاجة إلى التقدير
(5)
ولا إلى التغيير
(6)
.
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} المعتبرُ في المسح إصابةُ البَلَل، وهو المراد هاهنا، أو
(1)
رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص: 239) عن عطية بن قيس مرفوعًا مرسلًا.
(2)
"منتهى"من (ي).
(3)
يعني: كمِنْبَرٍ ومَجْلِسٍ. انظر: "القاموس"(مادة: رفق).
(4)
تحرفت في (ع) إلى: "فسمي".
(5)
في هامش (ي): "فيه رد لمن قال: تقديره: وأيديكم مضافة إلى المرافق. ومَن قال في رده: ولو كان كذلك لم يبق معنى للتحديد ولا لذكره مزيد فائدة؛ لأن مطلق اليد يشتمل عليها، لم يصب لأنها كما يشتمل عليها يشتمل ما وراءها أيضًا، فلولا التحديد لوجب غسل اليد إلى الإبط. منه".
(6)
في (ع): "التعيير". وجاء في هامش (ي): "فيه رد لمن زعم أن إلى بمعنى في".
إزالتُها وهو المراد في قولنا: مسحتُ اليد بالمنديل، وحقُّ الباء أن تدخل فيما ليس فيه البللُ.
واختلفوا في مقدار المفروض: فعن أصحابنا فيه ثلاثُ روايات، في ظاهرها: مقدار بثلاث
(1)
أصابع من اليد مطلقًا، وفي رواية أخرى: مقدَّر بربع الرأس، وفي الرواية الثالثة: المفروضةُ مقدار الناصية
(2)
.
وقال مالكٌ رحمه: ما لم يمسح جميع الرأس أو أكثرَه لا يجوز
(3)
.
وقال الشافعي رحمه: إذا مسح مقدارَ ما يسمَّى ماسحًا جاز.
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرئ بالنصب عطفًا على {وُجُوهَكُمْ}
(4)
ويؤيده السنَّة الشائعة وعملُ الصحابة رضي الله عنهم، وقولُ أكثر الأئمة، قيل: والتحديد إذ المسح لم يحدَّد
(5)
، وفيه مصادرةٌ على المطلوب، لا يقال: لا نظير له في الشرع؛ لأن ما ورد على خلاف القياس لا يطلب له النظير.
وبالجرِّ وهو ظاهرٌ في العطف على (رؤوسِكم) وبه تمسَّك مَن قال: وظيفة الرجلين، قال قتادة: افترض اللّه تعالى غَسْلينِ ومسحين.
(1)
قوله: "مقدار بثلاث"، كذا في النسخ، ولعل الصواب:(مقدر بثلاث)، أو:(بمقدار ثلاث)، أو:(مقدار ثلاث).
(2)
في هامش (ي): "وبهذا التفصيل تبين فساد ما قيل: وأبو حنيفة أوجب مسح ربع الرأس لأنَّه عليه السلام مسح على ناصيته، وهو قريب من الربع. منه".
(3)
"لا يجوز" من (ي). وجاء في هامشها: "فيه رد لمن قال: ومالك مسح كله أخذًا بالاحتياط. منه".
(4)
هي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي، وقرأ باقي السبعة بالجر. انظر:"التيسير"(ص: 98).
(5)
انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 117)، وفيه: (
…
وقول أكثر الأئمة، والتحديد إذ المسح لم يحد).
وقال عامرٌ الشعبيُّ: نزل جبرائيل عليه السلام بالمسح، ألا ترى أن التيمُّم يُمسح فيه ما كان غَسلًا ويُلغَى ما كان مسحًا.
وكان عكرمةُ رضي الله عنه يمسح رجليه ويقول: ليس في الرِّجلين غَسلٌ، إنما نزل فيهما المسح
(1)
.
وذهب ابن جرير الطبريُّ إلى أن فرضَهما التخييرُ بين الغَسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين
(2)
.
وقال النحاس: ومِن أحسنِ ما
(3)
قيل فيه: إنهما واجبان جميعًا، فالمسح واجب على قراءة الجر، والغَسلُ واجب على قراءة النصب، والقراءتان بمنزلة الآيتين
(4)
.
ومَن أَوْجَب المسح بالكتاب، وذهب إلى أن الغَسل إنما ثبت بالسُّنة، عَطَف النصب على محلِّ المجرور إنْ جُعلت الباء زائدة، وعلى محل الجارِّ والمجرور أن جُعلت لتضمين معنى الإلصاقٌ، وتعديةُ المسح بنفسه شائع.
ويَرِدُ عليه: أنه يُخلُّ بالبلاغة عند الإلباس.
للذاهبين إلى وجوب الغَسل بالكتاب وجوهٌ في تأويل قراءة الجر:
أحدها: أنه على الجِوار.
ورُدَّ: بأنه إنما يَجوز إذا لم يكن ثمةَ واسطةٌ كما في قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ
(1)
روى هذه الأخبار الطبري في "تفسيره"(8/ 196 - 197).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(8/ 198 - 200).
(3)
في هامش (ي): "وهو قول حسن على ما ذكر في الكشاف منه".
(4)
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 9).
أَلِيمٍ} [هود: 26]، وقولِهم: هذا
(1)
جُحرُ ضبٍّ خَرِبٍ، وأما توسُّطُ ما هو ثابتُ العامل كحرف العطف فلم يثبت.
وأيضًا: الجرُّ بالجِوارِ لم يَجئ مع الإلباس، وهاهنا مُلْبِسٌ، وذكرُ الغاية لا يدفعه؛ لِمَا عرفتَ من ضعفِ مبناه.
وثانيها: أنه عطف على الممسوح لا ليُتمسَّح ولكنْ ينبِّهُ على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها؛ لأن الأرجُل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تُغسل بالصبِّ، فكانت مَظِنّةَ الإسراف المذموم المميّز عنه.
ويَرِدُ عليه: أنه حينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز حيث أريد بالمسح في قلة استعمال الماء، والقولُ بتقدير إعادة العامل في المعطوف مرادًا به المعنى المجازيُّ يُفضي إلى إضمار الجارِّ، وهو ضعيف.
ثم إن وجوب الاقتصاد في صب الماء على الأرجل غيرُ مسلَّم، كيف والإسباغُ مستحبٌّ؟
وثالثها: أن العطف على الممسوح من قَبيل:
علَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا
(2)
ومحذور الجمع المذكورِ يلزم حينئذ أيضًا
(3)
.
(1)
"هذا" من (ع).
(2)
صدر بيت أنشده الفراء لبعض بني دُبَير - قبيلة من أسد - يصف فرسه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 14)، و"تفسير الطبري"(1/ 264)، و"الكشاف"(2/ 108)، و"الخزانة" (1/ 499). وعجزه:
حَتَّى شَتَتْ هَمّالَةٌ عَيْناهَا
(3)
في هامش (ي): "وتقدير: اغسلوا، يأبى به الجر، وأيضًا حينئذ لا يكون عطفًا على الممسوح. منه".
وبالرفع
(1)
على: وأرجلُكم مغسولةٌ.
وإدخالُ الممسوح بين المغسولَين للجمع بين قراءتي النصب والجر، فلا دلالة فيه على اعتبار الترتيب، وعلى تقدير التسليم كفى اعتبارُه ندبًا.
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} : فاغتَسلوا.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الخطابُ هنا أيضًا للجماعة في المعنى، وإن اعتُبر الإفراد في اللفظ مراعاةً للأدب في الذهاب إلى الغائط، ولهذا صح اندراجُه تحت الأمر للجماعة.
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} كنايةٌ عن الجماع.
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} صدَّره بأداة التعقيب - وإن لم يُعتبر مفهوم في صحة التيمُّم - إيماءً إلى أن الجنب إذا وجد الماء حقُّه أن لا يؤخِّر الاغتسال وإن لم يجب عليه بعد ما لا يجوز أداؤه بدون الطهارة
(2)
، ونَفْي إرادة الحرج الآتي ذكرُه ترتُّبه على هذا.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} سبق تفسيره، وتكريره لا ليتَّصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، بل لئلا يَسبق إلى الوهم انتساخُ حكم التيمُّم من الاقتصار على ذكر الوضوء والأمر به حتمًا عند إرادة الصلاة محدِثًا
(3)
.
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} في باب الطهارة، حتى لا يرخِّص لكم في التيمم إذا فرَّطتُم في حفظ الماء للطهارة.
(1)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 31)، و"المحتسب"(1/ 208).
(2)
في هامش (ي): "فإن الجنب إذا وجد الماء ولم يغتسل ثم فقده يجوز له التيمم. منه".
(3)
في هامش (ي): "كما في الصورة المار ذكرها في الحاشية السابقة. منه".
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} : لينظِّفَكم، أو: ليطهِّركم من
(1)
الذنوب، فإن الوضوء تكفيرٌ لها، ومفعول {يُرِيدُ} في الموضعين محذوف، واللام للعلة.
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالرخصة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمتَه فيثيبَكم بالشكر.
* * *
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلام؛ ليذكِّركم المنعِمَ ويرغِّبَكم في شكره.
{وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} : عاقدتُم به عقدًا وثيقًا.
{إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أراد عهدَه على المسلمين حين بايعهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليُسر والعُسر، فقبلوا وقالوا: سمعنا قولكَ وأطعنا أمرك.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في الكُفران والعصيان، ويدخل فيه الاتِّقاءُ في العزم على نقض ميثاقه دخولًا أوليًّا، وعلى هذا يكون الأمر بالاتِّقاء عن نقضه على وجه أبلغَ، والتعليلُ بقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من السرائر والضمائر على وجه أظهر.
* * *
(1)
في (ي): "عن".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لمَّا حثَّهم على الانقياد للتكاليف وهي مع كثرتها محصورةٌ في نوعين: التعظيم لأمر اللّه تعالى، والشفقة على خلقه:
فقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} إشارةٌ إلى الأول، والمراد أن تقوم للّه بالحقِّ في كلِّ ما يلزمه على وجه الاهتمام.
وقوله تعالى: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} إشارةٌ إلى الثاني، أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} ؛ أي: لا يَحمِلنكم شدةُ بغضكم للمشركين {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} : على ترك العدل فيهم، وهو
(1)
النهي عن الجَور بارتكاب ما لا يحل؛ كمُثْلةٍ، وقتلِ نساءٍ وصِبْيةٍ، ونقضِ عهدٍ على أبلغ وجه.
{اعْدِلُوا} فيهم وإنْ أساؤوا إليكم، استئنافٌ لقصد التأكيد، فإن الأمر بالعدل على الإطلاق تأكيدٌ للنهي عن تركه بأيِّ سببٍ كان.
{هُوَ} ؛ أي: العدلُ {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} استئنافٌ لبيان سببِ الأمر بالعدل، ولا خفاءَ في أن الجَور في حق الكفار أشدُّ وخامةً من الجَور في حقِّ المؤمنين؛ لإمكانِ إرضائهم يومَ الجزاء دون الكفار، ومَن غفل عن هذا الاعتبار قال: وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنُّكم بالعدل مع المؤمنين؟
(1)
في (ي): "وهي".
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كلِّ أمرٍ ونهيٍ، أعاده لمزيد الاهتمام بالعدل، والمبالغةِ في إطفاء نائرة الغيظ.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وعدٌ ووعيدُ، ولذلك ذَكَر بعدها آيتين: إحداهما في وعد المؤمنين، والأخرى في وعيد الكافرين.
* * *
(9) - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كلامٌ تامٌّ معناه: قدَّم لهم وعدَه.
وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} استئنافٌ في موقع البيان للموعود، أطلق الوعد وأبهمه أولًا لتعظيم ثواب العدل والتقوى، ثم بيَّنه، كأنه لمَّا قدَّم الوعد المطلَق قيل: أيَّ شيء وعدهم؟ فأُجيب به، وتقديمُ الخبر وتنكيرُ {مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ} من مقوِّمات هذا المعنى.
* * *
(10) - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أَتبع حال أحد الفريقين حالَ الآخَر إيفاءً لحقِّ الوعد
(1)
، وفيه مزيدُ وعدٍ للمؤمنين وتطييبٍ لقلوبهم.
* * *
(1)
في (ي): "الوعدة".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في الخطاب بهذا الوصفِ إشارةٌ إلى أن إيمانهم هو الباعثُ لنعمة الكشفِّ الآتي ذكره.
{اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} رُوي أنَّ المشركين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفانَ قاموا إلى الظهر معًا، فلما صلَّوا ندموا ألا كانوا أَكَبُّوا عليهم، وهمُّوا أن يُوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فردَّ اللّه تعالى كيدهم بأنْ أنزل صلاةَ الخوف
(1)
. والآيةُ إشارةٌ إلى ذلك، وقيل غيرُ ذلك
(2)
.
{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقبض والإهلاك
(3)
، يقال: بسط إليه يده، إذا بَطَش به، وبسط إليه لسانه: إذا شتمه، ومعنى بسطِ اليد: مدُّها، وكذلك بسطُ اللسان، وإنما البطش والشتم حاصلُ المعنى.
{فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} : مَنَعها عن الإضرار بكم، قدَّم {إِلَيْكُمْ} ثمةَ وأخَّر {عَنْكُمْ} هاهنا لنكتةٍ لفظيَّة: وهي رعايةُ قوَّةِ المناسبة وشدَّةِ الاتصال بين الكفِّ واليد، ودقيقةٍ معنويةٍ: وهي أن الاختصاص المستفادَ من تقديم {عَنْكُمْ} فضلةٌ في المقام، والاشتمالُ على الفضلة هُجْنةٌ في الكلام.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} منتظِمٌ مع قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} كَنى بذكرها عن الشكر عليها إيماءً إلى أنها من النِّعم الجِسام التي لا مانع من
(4)
القيام
(1)
رواه مسلم (840/ 308) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
انظر حديث ابن عباس في "دلائل النبوة" لأبي نعيم (425)، وحديث جابر عند البخاري (2910)، ومسلم (843) كتاب الفضائل. وانظر:"روح المعاني"(7/ 87).
(3)
في "البيضاوي"(2/ 118): (بالقتل والإهلاك).
(4)
في (ي): "عن".
بشكرها سوى الذهولِ والغفلة عنها، ولا يَخفى ما في الكناية بهذا الوجهِ من تفخيم تلك النعمةِ. ثم أمر بالاتِّقاء عن الكفران، وفي التعبير عن اتِّقائه باتِّقاء اللّه تعالى ما لا يخفى من المبالغة في التحذير.
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} مرتبطٌ بقوله تعالى: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} فالفاءُ لإفادة السبب، فإنَّ دفع همِّ العدو على الوجه المذكور غيرُ مقدورٍ للعبد، ولا تأثير فيه لتدبيره، فحقُّه أن يَتوكَّل على القادر عليه. والتخصيصُ المستفاد من تقديم الجارِّ والمجرور مبناه تخصيصُ
(1)
الأمر بالمؤمنين، وفيه رعايةُ المناسبة بين فاتحة الكتاب وخاتمته، والواو لعطف الجملة على الجملة.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} النقيب هو الذي ينقِّب عن أحوال القوم ويفتِّش عنها، روي أن بني إسرائيل
…
(2)
.
* * *
(1)
في (ع): "هاهنا وتخصيص" بدل: "مبناه تخصيص".
(2)
هنا تنتهي القطعة المفسرة من سورة المائدة، ولم نقف على تتمة لها في النسخ كما تقدم في مقدمة التحقيق، وبعدها في النسخ أول سورة الأنعام.
سُورَةُ الأنَعَامِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أخبر بأنه تعالى حقيقٌ بالحمد باعتبار ذاته المستجمِعة لجميع صفات الكمال
(1)
، وعامَّةِ نُعوت الجلال والجمال، ونبَّهَ على استحقاقه له باعتبار أفعاله العظام وآثاره الجِسام أيضًا حُمد أو لم يحمد؛ ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون.
وجمع السَّماوات دون الأرضين
(2)
مع أنها مثلهنَّ
(3)
في التَّعدد؛ لأن طبقاتها مختلفة بالحقيقة - على ما ورد في الأخبار - دون الأرض، وأمَّا دلالة آثارها وحركاتها على تعدُّدها
(4)
فمبناها على أصولٍ فلسفيَّة باطلة.
وقدَّمها لا لتقدُّمها وجودًا؛ لأنَّه على خلاف ما ورد في الأخبار الصحيحة
(1)
في (م) زيادة: "وغيره".
(2)
في (ك). "الأرض".
(3)
في (م): "مثلها".
(4)
في (م): "تعدادها".
على ما مرَّ بيانه في تفسير سورة البقرة
(1)
، بل لشرفها وعلوِّ مكانها.
وعبَّر بهما باعتبار أنَّهما قُطرَا العالم من جميع الأجسام لطيفِها وكثيفِها، كما عبَّر بالظُّلمات والنُّور عن جميع الأعراض محسوسِها بالبصر، وغائِبها عنه.
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} : أنشأهما.
والفرقُ بين (خلق) و (جعل) المتعدي إلى مفعول واحد: أنَّ الخلق فيه معنى التَّقدير والتَّسوية، والجَعْل المذكور فيه معنى التعلُّق والارتباط بالغير بأن يكون فيه أو منه أو إليه، لا بأن يصير إيَّاه؛ لأنَّه معنًى آخرُ للجعل؛ فإنه حينئذٍ يتعدَّى إلى مفعولَيْن
(2)
.
ولهذا - أي: ولكون الارتباط بالغير معتبرًا في معناه - آثره هاهنا؛ تحقيقًا لمَا في الظُّلمة والنُّور من معنى القيام بالغير، وتضمينًا للردِّ على الثَّنويَّة بتقدير عدم صلاحيتهما للقيوميَّة.
وجمع الظُّلمات دون النُّور لاختلاف أجناس ما غاب عن البصر اختلافًا فاحشًا بحسب اختلاف مظاهره من القِوى الظَّاهرة والباطنة بخلاف النُّور.
وقدَّمها لتقدم جنس الغائب عن البصر ظهورًا، فإنه يظهر للإنسان وهو جنين، ولا يظهر له ما يدرَك بالبصر ما لم يُولَد، ولرعاية المناسبة لما تقدَّم.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: بالآخرة، على ما أفصح عنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150]، عطف على {خَلَقَ}
(3)
.
(1)
انظر تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29].
(2)
في هامش (ف): "رد لمولانا سعد الدين".
(3)
في (ح) و (ف): "عطف على قوله" وبعدها في (ح) بياض بمقدار كلمة. وذكر الآلوسي=
وفي (ثمَّ) معنى استبعاد ترك الإيمان بعد أن قام عليه البرهان، كأنه قيل: حصل ما أوجب توحيدَه مِن خلق السماء والأرض وما بينهما، بناءً على أنَّه لو كان فيهما آلهةٌ أُخَر
(1)
لفَسَدَتا.
{بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} حُذف المفعول حفظًا
(2)
على الفواصل، تقديره: يعدلون غيره؛ أي: يشركون به، وأصل العدل: المساواة؛ أي: ساوَوا بين اللّه تعالى خالق العالَم، وبين أصنامهم العاجزين عن الخلق.
ثم إنَّ هذا العطف ليس على قصد أنَّه صلةٌ أخرى أو بعضُ الصِّلة، بل على قصد أنه من الروادف لتلك الصلة
(3)
، ولهذا حسُن كلمة الاستبعاد دون كلمة التَّشريك
(4)
، ولتمحُّضها له
(5)
تمحُّض الفاء للسببية في قولنا: ما تأتيني فأكرمَك، انقطع عنه
(6)
عُلقةُ التَّشريك، فلم يكن في معنى (الحمدُ للّه) الذي عدَلوا به، ولتضمُّنه البشارة بالإشارة إلى غاية لطفه، ونهاية حِلمه
(7)
، زاد وجه ذلك الإرداف حسنًا ولطافة.
= احتمالات العطف فقال: "إما معطوفة على جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إنشاءً أو إخبارًا، أو على قوله سبحانه. {خَلَقَ} صلة {الَّذِي}، أو على {الظُّلُمَاتِ} مفعول {وَجَعَلَ}. انظر: "روح المعاني" (8/ 23).
(1)
في (ك) و (م): "آلهة إلا الله".
(2)
في (ف): "عطفًا".
(3)
"بل على قصد أنه من الروادف لتلك الصلة" من (ك) و (م).
(4)
يريد: أن العطف بـ (ثم) يفيد الاستبعاد، فاستخدامه هنا أحسن من استخدام حرف العطف الواو أو الفاء الذي يفيد التشريك.
(5)
في (ك) و (ح): "وبتمحضها له". وفي هامش (ف): "كيف تتمحض له وقد عرف أنها عاطفة. منه".
(6)
"عنه" سقط من (ح) و (ف).
(7)
في (ف): "حمله"، وفي (ح):"علمه".
ويجوز عطفه على {الْحَمْدُ لِلَّهِ}
(1)
، والمعنى: أنَّه تعالى حقيقٌ بالحمد على ما خلقه تعالى نعمةً على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون عنه فيكفرون نعمتَه، وحذف صلة {يَعْدِلُونَ} إيقاعًا للإنكار على نفس الفعل، ووضع المظهَر
(2)
موضع الراجع إلى الموصول؛ تنبيهًا على أنه خلق هذه الأشياء أسبابًا لتكوُّنهم وتعيُّشهم، فمن حقِّه أنْ يُحْمَدَ عليها ولا يُكْفَر، ومعنى {ثُمَّ} على هذا الوجه: استبعاد عُدولهم عنه بعد ذلك.
* * *
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} ؛ أي: خلقَ أصلَ مادَّتِكم وهو الأغذية التي تتكون منها النُّطفة، أو مادَّة أصلِكم وهو آدم عليه السلام= كائنةً من طين، وللتَّباعد بين الخَلْق الصُّوري والتَّقدير المعنوي قال:
{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} : نوعًا من الأجل يحتمِل التَّجاوز عنه {وَأَجَلٌ} آخَرُ لا يحتمل، دلَّ على ذلك
(3)
قوله:
{مُسَمًّى} ؛ أي: مثبَتٌ معيَّن
(4)
، وقد أفصح عن هذا التَّفصيلِ قولُه تعالى:{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4] على ما تقف عليه وعلى ما بين الفاصلتين من المواصلة المعنوية في تفسير سورة نوح عليه السلام، والذي عبَّر عنه ثمَّةَ بإضافة الأجل إلى اللّه تعالى هو المعبَّر عنه هاهنا بقوله:
(1)
في هامش (ف): "فلم يصب النفي بمدخولها على ما حقَّقه ابن هشام في شذور الذهب".
(2)
في (ك): "وضع المظهر"، وفي (م):"وضع المظهر به".
(3)
في (م): "عليه".
(4)
في (م): "معنى".
{عِنْدَهُ} أثبت
(1)
تعيُّنَه، ثم أخبر بأنَّ ذلك التَّعيّن عنده؛ حسمًا لطمع التَّغيُّر
(2)
.
ولكون ذلك الأجلِ مبهمًا نظرًا إلينا ذُكِرَ منكَّرًا، وإنما قُدِّمَ وهو نكرةٌ على خبره وهو ظرفٌ لفاصلٍ بينهما بما هو مخصِّص له.
{أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} الامتراء: التردُّد في المتقابلَين، مأخوذ من مَرَى الضرع؛ أي: مسَحه، والفرق بينه وبين الرَّيْبِ والشَّكِ قد مرَّ بيانه في تفسير قوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ}
(3)
، والامتراء لهم فيما ذكر حقيقةٌ، إلا أنهم
(4)
لانهماكهم في حبِّ الحياة، كأنهم شاكُّون في الموت.
وإنما ذكر {ثُمّ} مع زيادة الالتفات في {أَنْتُمْ} تنبيهًا على زيادة الاستبعاد، فإن دلالة كلٍّ من دليلي المبدأ والمعاد على المراد وإن كانت ظاهرة، إلا أن ما تؤخذ مبادئه من الأنفُس أقرب إلى الناظرين مما تؤخذ مبادئه من الآفاق، كأنه قيل: خُلقتم من جماد لا حظَّ له من الحياة، وعشتم مرة، فكيف تشكُّون مع ذلك وتَردَّدون في أمر البعث بإعادة تلك الحياة الزائلة، وهي أهون من الإحداث ابتداء
(5)
.
* * *
(1)
في (م): "أي ثبت".
(2)
في (م): "التغيير".
(3)
في هامش (ح): "قال الراغب في الفرق بين الشك والريب والمرية: إنَّ الشكَّ وقوف النفس بين شيئين متقابلين، بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية: التردد في المتقابلين، وطلب الأمارة مأخوذ من مرى الضرع: إذا مسحه باليد، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب: أن يتوهم في الشيء أمرًا ما، ثم ينكشف عما يتوهم فيه. هذه عبارته في البقرة".
(4)
"إلا أنهم" من (ك) و (م).
(5)
من قوله: "فإن دلالة كل من دليلي المبدأ والمعاد .. " إلى هنا من (م).
{وَهُوَ اللَّهُ} الضمير للّه تعالى، و {اللَّهُ} خبره.
{فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} متعلِّقٌ بمعنى اسم اللّه تعالى؛ أي: هو المستحِق للعبادة فيهما لا غير، أو: هو المتوحِّد بالألوهيَّة فيهما لا غير.
ويجوز أن يتعلَّق الظَّرف بقوله: {يَعْلَمُ} ويكفي لصحَّة الظَّرفية كون المعلوم فيهما، كقولك: رميت الصَّيد في الحرم، إذا كنت خارجَه والصيدُ فيه، أو بالمصدر وهو بمعنى المفعول فليس بمقدَّر بحرفِ مصدر وصلته حتى يلزمَ تقدُّم صلته عليه
(1)
، والجملةُ خبرٌ ثانٍ، أو هي الخبر و {اللَّهُ} بدل.
ويجوز أن يكون الظَّرف مستقرًّا وقع خبرًا بمعنى: أنَّه لكمال علمه بما فيهما كأنَّه فيهما، وفي الجملة
(2)
الفعليَّة الواقعة حالًا عن ضمير الاستقرار في الظَّرف بيانٌ وتقريرٌ له.
{سِرَّكُمْ} : باطنكم؛ أي: نفوسَكم
(3)
.
{وَجَهْرَكُمْ} : ظاهرَكم؛ أي: أبدانَكم.
(1)
رد على البيضاوي في قوله: (وليس متعلَّق المصدر لأن صلته لا تتقدم عليه). والمراد أنه مُتَعَلِّقٌ بِمَفْعُولِ {يَعْلَمُ} وَهُوَ {سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ، والتَّقديرُ: يَعْلَمُ سِرَّكُم وجهركم في السماوات وفي الأرضِ. قال أبو حيان مؤيدًا اعتراض البيضاوي: وهذا يضعفُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدرِ الموصولِ عليه، والعَجَبُ مِن النَّحَّاسِ حيثُ قال: هذا مِن أحسنِ ما قيل فيه. انظر: "تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (4/ 18)، و"البحر"(9/ 25).
(2)
في (م): "والجملة".
(3)
في (ح) و (ف): "باطنكم ونفوسكم".
وعلى تقدير تعلق الظَّرف بالفعل المذكور يكون المعنى: يعلم نفوسَكم المفارِقة في السماوات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم في الأرض.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} بالقوى النفسانيَّة والجوارح البدنيَّة؛ لأنَّه تعالى خالق والخلق
(1)
كاسب، ولمَّا كان مقتضى العلم بذلك كونَه خالقًا له، وهو مظنَّة الاشتباه - حتى ضلَّ فيه كثير من النَّاس - أعادَ الفعل؛ اهتمامًا لتحقيق ذلك المقتضى.
ولمَّا أثبت المبتدأ
(2)
مع ما يتوقف عليه المبتدأ للّه
(3)
من التَّوحيد، ثم أثبت المعاد مع ما يتوقَّف عليه الإعادة من العلم= بيَّن ثبوت النُّبوَّة بشهادته، وأوعد
(4)
المنكرين بقوله:
* * *
(4) - {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} {مِنْ} الأولى مزيدة
(5)
للاستغراق، دلَّ عليه وقوع آية في سياق النَّفي، والثَّانية للتَّبعيض، كأنه قيل: وما تأتيهم بعضٌ من الآياتِ أيَّ بعضٍ كان، فلا منافاةَ بينَ هذا التَّبعيض والاستغراق.
والآيات: هي المعجزات الظَّاهرة لهم، وإسنادُها إلى الرَّبِّ للتَّعظيم والتَّنبيه على أنَّها صادرة عنه تعالى تصديقًا للنَّبيِّ عليه السلام.
(1)
في هامش (ح): "والمخلوق".
(2)
في (ك): "المبدأ".
(3)
في (م) و (ك): "البداية"، وفي (ف):"المبتدأية"، والمثبت من (ح).
(4)
في (ح) و (ف): "وواعد".
(5)
في (ح) و (ف): "زيادة".
{إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} : تاركين لها غيرَ ملتفتين إليها؛ لكونهم غيرَ مبالين بالعواقب، وفي العدول عن صيغة الفعل وزيادة (كان) دلالةٌ على شدَّة إعراضهم، وقوَّة ثباتهم فيه، وزيادة تمرُّنهم عليه.
* * *
{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} كلامٌ كاللازم لمَا قبلَه؛ أي: إذا أعرضوا عن الآيات كلِّها فقد كذَّبوا بالحقِّ.
{لَمَّا جَاءَهُمْ} ؛ أي: بها، أو كالدَّليل عليه؛ أي: إنْ هم أعرضوا عن الآيات كلِّها
(1)
فلا عجبَ؛ فقد كذَّبوا بما هو أعظم الآياتِ كلِّها وأجلُّها، وهو الحقُّ لمَّا جاءَهم؛ أي: القرآن الذي تُحدُّوا به فعجزوا عن الإتيان بمثله، وكأنَّه لوضوحه معلومٌ عندَ الكلِّ أنَّ الحقَّ هو
(2)
لا يحتاج إلى تسميته
(3)
، وعلى هذا معنى الإبهام في {أَنْبَاءُ مَا كَانُوا} تعظيم القرآن وتفخيم شأنه؛ أي: سيعلمون بأي شيء استهزؤوا، وينكشف لهم أنَّه لم يكن بموضع
(4)
استهزاء.
{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} يعني: أنَّ الإتيان كائنٌ لا محالة وإن تأخَّر، ففائدته تأكيد الوعد وتثبيته، لا بيانُ كونه متأخرًا
(5)
.
{أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} : أخبار ما استمرُّوا على تجديد الاستهزاء به حينًا
(1)
"كلها"من (ك) و (م).
(2)
في (ح) و (ف): "عند الكل أنه الحق وهو".
(3)
في (ح): "تسمية".
(4)
في (م) و (ك): "في موضع".
(5)
"يعني أن الإتيان .. " إلى هنا من (م) و (ك).
فحينًا، تارة بنسبته إلى السِّحر والكَهانة، وأخرى إلى الشِّعر وأساطير الأولين، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
والمراد من أخباره: ما فيه من الوعد للمصدِّقين والوعيد للمنكرين آجلًا وعاجلًا، وهذا منهم غاية العصيان ونهاية التَّمادي في الطُّغيان، حيث أعرضوا عمَّا هو آية بيِّنة أوِّلًا، وكذَّبوه ثانيًا، وسخروا به ثالثًا، فمنَّ عليهم الرَّحمن بزيادة فضله وإحسانه
(1)
إذ أخَّرهم إلى حين، ولم يعجِّل لهم بالعذاب المهين، شدَّد عليهم النَّكير وهدَّدهم
(2)
، ثم جاءهم بالموعظة والتَّذكير بقوله
(3)
:
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} {كَمْ} مفعول {أَهْلَكْنَا} ، و {مِنْ} تبيين لإبهامها؛ أي: كثيرًا من القرون أهلكنا، وكلُّ أهل عصرٍ قرنٌ لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم، مأخوذ من قرن الشَّمس، وهو أعلاها، وأوَّل ما يبدو منها.
وقال الزجَّاج: عندي القرن هو أهل كلِّ مدَّة
(4)
كان فيها نبيٌّ أو طبقة من العلماء، قلَّتِ السنون أو كثرَتْ، والتَّقدير يردُّه
(5)
قوله عليه السلام: "خيركم قرني "؛ يعني
(1)
في (م) و (ك): "ومن الرحمن زيادة فضل وإحسان ".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "هدد لهم "، والمثبت من (ف).
(3)
"بقوله "من (ك) و (م).
(4)
في (ك): "ملة".
(5)
قوله: "والتقدير يرده "، جاء بدلا منه في "معاني القرآن" للزجاج:"والدليل على هذا"، والمؤدى واحد، وهو نفي التقدير في مقدار القرن.
أصحابه رضي الله عنهم، "ثم الذين يلونهم "؛ يعني التابعين "ثم الذين يلونهم"
(1)
؛ يعني تابعي التَّابعين
(2)
.
{مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: أثبتناهم فيها ممكِّنين إيَّاهم، وإثباتهم فيها كناية عن طول عمرهم، كما أنَّ تاليَه
(3)
كنايةٌ عن بسط معيشتهم.
{مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} مكَّنه أبلغ من مكَّن له
(4)
؛ أي: جعل له مكانًا، فكأنه قيل
(5)
: آتيناهم ما لم نؤتِ لكم ما يقرب منه، والالتفات للتَّنبيه والتَّمييز بينهم وبين المحكيِّ عنهم، والخطاب لأهل مكَّة.
{وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} : السَّماء هي المُظلَّة، والمرسَل المدرار هو المطر والسَّحاب، فلا بدَّ من التَّجوُّز في المسنَد إليه، أو في الإسناد.
والمدرار: مِفْعال، يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، معناه: كثير الدُّرور.
{وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ} لم يقل: وأجرينا
(6)
الأنهار، جريًا على مجرى قرينه السَّابق؛ لأن النهر إنما يطلق على الماء حال كونه جاريًا، فليس له أن يجري وأن لا يجري وهو نهر، بخلاف الماء
(7)
النازل من السماء والسحاب؛ فإنه قد يُحْبَس وقد يطلق وهو هو.
(1)
أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 229).
(3)
في (ف) و (ح): "كما أنه تأكيد".
(4)
في هامش (ف): "لم يفرق القاضي بينهما حيث فسر الأول بتفسير الثاني. منه ".
(5)
في (ك): "قال".
(6)
في (ح) و (ف): "وجرينا".
(7)
"الماء" من (م) و (ك).
وإنَّما صدَّره بالواو الدَّالة على الاستقلال دون الفاء؛ لأن المقام مقام تعداد
(1)
النِّعم العِظام، وفي ضمنه الإشارة إلى أنَّ الأنهار إمدادها
(2)
لا يلزم أن يكون من الأمطار، فافهم هذا الاعتبار.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} خصَّ هذا الوصف بالذِّكر لأنَّه مما يتعاظمه النَّاس، ألا ترى إلى قول فرعون:{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} الفاء فصيحة تفصح عن محذوفٍ تقديره: بطرَتْ معيشتُهم، كما ورد في قوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58].
{وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} تحقيق لأمر الوعيد بتسهيل شأن الإهلاك، فإنَّ مَن قدر على إنشاء القرون لا يتعاظم عنده إهلاك
(3)
بعضهم بذنوبهم.
وفي عبارة الإنشاء إشارة إلى أنهم قُلعوا من أصلهم واستؤصلوا فلم يبقَ أحد من نسلهم، ويعضد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله تعالى لم يهلك قومًا أو يعذِّب قومًا فجعل لهم نسلًا"
(4)
.
{قَرْنًا آخَرِينَ} يَعْمُر بهم
(5)
بلادهم.
وحاصل الوعيد: أنَّه تعالى كما قدر
(6)
أن يهلك مَن قبلهم كعاد وثمود وينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده قدر أن يفعل مثل ذلك بكم، قيل: جماعة من قريش
(1)
في (ك): "تقدير".
(2)
في (م) و (ك): "إيرادها ".
(3)
في (ج) و (ف): "هلاك ".
(4)
رواه مسلم (2663).
(5)
في (م) و (ك): "به ".
(6)
في (م) و (ك): "يقدر".
قالوا: يا محمَّد، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله، فنزلت
(1)
.
* * *
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} (نزَّل) هاهنا بمعنى: أنزل، كخبَّر بمعنى: أخبر.
{كِتَابًا} : مكتوبًا {فِي قِرْطَاسٍ} : ورق.
لم يقتصر على رؤيتهم الكتاب عيانًا في قرطاس، بل زاد عليه التقييد بقوله:
{فَلَمَسُوهُ} تقوية للإدراك البصري بالإدراك اللَّمسي مبالغةً في الظُّهور، وليس فيه دفعُ ما عسى أن يقولوا: سكِّرت أبصارنا وما نزل من السماء شيء، إذ باللَّمس إنما يندفع احتمال كون المرئيِّ مخيَّلًا، وأما نزوله من السماء فلا يثبت به، ثم إن اللَّمس أبلغ من المسِّ؛ لأنَّه لصوق بإحساس، والمس لصوق فقط، ولذلك آثر اللَّمس عليه.
{بِأَيْدِيهِمْ} إنما قيَّد به؛ لأنَّ اللُّصوق بالإحساس يكون بجميع الأعضاء، ولليد خصوصية في الإحساس ليست في سائرها، وأما التَّجوز باللَّمس عن الفحص كما في قوله تعالى:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] فلا يندفع به؛ إذ لا بُعْدَ في أن يكون ذلك لبيان مباشرتهم
(2)
للفحص بأنفسهم، بل يندفع بكون المعنى الحقيقي أنسبَ للمقام، ولمَا سيق له الكلام.
{لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} عدل عن الظَّاهر حيث لم يقل: لقالوا، تنبيهًا على أن هذا ليس بأوَّل كفرٍ منهم، ويجوز أن يكون تعريف الموصول للعهد، والمراد به أشخاصٌ
(1)
ذكره الواحدي في "أسباب النزول"(ص: 208)، والبغوي في "تفسيره"(2/ 85).
(2)
بعده في (ح) و (ف) زيادة: "بل ".
بأعيانهم توغلوا في التَّعنُت والعناد، على وفق ما ذكر في سبب النُّزول، فيكون التَّوصيف بيانًا لسبب تقوُّلهم هذا.
{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} توصيف السِّحر بالمبين في مقابلة توصيف المنزَّل بكونه ملموسًا بأيديهم، فكأنهم عارضوا تأكيده الفعليَّ في الإظهار بتأكيدهم القوليِّ بالإنكار، وهذا دليل على
(1)
غاية عنادهم ونهاية خبثهم وفسادهم.
* * *
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ} : هلَّا أنزِل {عَلَيْهِ مَلَكٌ} يكلِّمنا أنه نبيٌّ
(2)
.
{وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} جواب لقولهم، وبيانُ المانع من إنزال مقترحهم.
والقضاء: الإتمام والإلزام، والمعنى: لتمَّ أمرهم؛ لوجوب العذاب بعد ذلك، وهذا لأنهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم
(3)
الملك؛ كما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111]، وسنَّة الله تعالى في الكفار قد جرَّتْ على أنَّه متى اقترحوا آيةً قاهرةً فظهرت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، على ما
(4)
أفصح عن ذلك آية المائدة
(5)
،
(1)
"على": ليست في (م) و (ك).
(2)
في هامش (ح): "قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا} استثناء أو عطف على جواب (لو)، و (عليه) فيه التفات عن ضمير المخاطب في (عليك). قطف الأزهار".
(3)
في (م): " نزل عليه "، وفي (ح):"نزلنا عليهم ".
(4)
في (م) و (ك): "كما".
(5)
وذلك عندما طلب قوم عيسى عليه السلام منه أن ينزل الله تعالى عليهم مائدة من السماء، فأنزلها الله تعالى وقال:{إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
ولكنَّ الله تعالى أبى من استئصالهم به
(1)
تعظيمًا لنبيِّه، كما أخبر به في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
{ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} ؛ أي: لا يُؤجَّلون ولا يُمهلون، قال قتادة: ولو أنزلنا ملكًا ثم لم يؤمنوا
(2)
لَعُجِّلَ لهم العذاب، ولم يُؤخَّروا طرفةَ عين
(3)
. يعني: بعد عدم إيمانهم، لا بعد نزول العذاب.
وفي لفظة (ثم) إشارة
(4)
إلى أن لهم مهلةً
(5)
قَدْرَ أنْ يتأمَّلوا فيما نزل، فيؤمنوا بالاختيار والاختبار، لا بالإلجاء والاضطرار، فافهم هذا الاعتبار.
* * *
(9) - {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} ؛ أي: ا لرَّسولَ {مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ} ؛ أي: لمثَّلنا {رَجُلًا} كما مُثِّل جبريل عليه السلام في صورة دِحْية، وذلك لأنَّ أبصار عامَّة البشر لا تقدر
(6)
على النَّظر إلى صورة المَلَكِ؛ للُطفه وضعفِ شعاع إبصارهم.
جوابُ اقتراح ثانٍ، فإنهم تارةً يقولون:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، وتارة يقولون:{لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14]، واحتمال أن يكون جوابًا ثانيًا على
(1)
"به" سقطت من (ف).
(2)
في (ح): "يرضوا".
(3)
أخرج نحوه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 43)، والطبري في "تفسيره"(11/ 267).
(4)
في هامش (ف): "رد لمن قال: إن معنى ثم بعد ما بين الأمرين. منه ".
(5)
في (م): "مهلًا".
(6)
في (م) و (ك): " يقدرون ".
أن الضمير للمَلَك المُقْتَرح إنزالُه تأباه عبارة: {جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} ، فإن المناسب حينئذ أن يقال: ولو أنزلناه ملكًا لجعلناه رجلًا.
وإنما لم يقل: بشرًا، مع أنه المناسب لمقابِل
(1)
المَلَك، تضمينًا للكلام معنًى زائدًا على أصل المرام، وهو الإشارة إلى أن شأن الرِّسالة البراءةُ عن النُّقصان، ولا بدَّ من رعايته على التَّقدير المذكور حتى لا يصح أن يكون الرَّسول المفروضُ في صورة امرأة ولا في صورة صبيٍّ.
ولما كان تفصيل ما ذكر: أنه لا نفع لهم فيما سألوا؛ لأنَّه إذا كان في صورة رجل لا يعلمون أنه ملك، فلا
(2)
يُجدي نفعًا في دفع شبهتهم= اتَّجه أن يقال: يجوز أن يكون له آثار المَلَك في صورة الرَّجل، فيندفع الاشتباه بذلك، تُدورِكَ دفعه بما مرجعه إلى أنه لا بدَّ من الالتباس والاشتباه كيلا
(3)
تفوت حكمة التَّكليف، فقوله:
{وَلَلَبَسْنَا} من تتمة الجواب، قرئ باللَّامَيْن على تقدير شرط آخر
(4)
، وقرئ بلام واحدة على العطف، وبالتَّشديد فيهما للمبالغة
(5)
.
(1)
في (م) و (ك): "لمقابلة".
(2)
في (م): "ولا"، وفي (ك):" لا ".
(3)
في (ح): "كيما".
(4)
أي: ولو جعلناه رجلًا للبسنا. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 155). وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب، فإنه يقتضي استقلاله، وأنَّه لا ملازمة بين إرسال الملك واللبس عليهم، فإنه ليس سببا له بل لعكسه. انظر:"روح المعاني"(8/ 55).
(5)
قرأ ابن محيصن: (ولبسنا) بلام واحدة، وقرأ الزهري:(وللبَّسنا) بالتشديد. انظر: "الكشاف"(2/ 8)، و"المختصر في شواذ القرآن" (ص: 36).
{عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ؛ أي: لخلَطنا عليهم ما يخلِطون على أنفسهم الآن فيقولون: ما هذا إلَّا بشر مثلكم.
ثم قال تسليةً له عليه السلام عن
(1)
استهزائهم به بأنَّ له في الأنبياء عليهم السلام أسوةً، وأنَّ ما يفعلون به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام، وتنبيهًا لنا على أن قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء، وإلَّا فهم عقلاء يعلمون أنَّ رسول قومٍ لا يكون إلَّا من جنسهم.
* * *
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ} ؛ أي: أحاط بسبب ذلك الاستهزاء {بِالَّذِينَ سَخِرُوا}
(2)
والمراد: الإهلاك، من إحاطة العدو، فالحيقُ لا يستعمل إلا في الشَّرِّ.
{مِنْهُمْ} تنبيه على أن ضرر سخريتهم لا يتعدى أنفسهم، وهو مدلول القول الآتي:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 26].
{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب الذي كان الرُّسل يخوفهم بنزوله، فلا تجوُّز لا
(3)
في الإسناد، ولا في المسند إليه.
(1)
في (ك): "من".
(2)
بعدها في (م) و (ك): "منهم".
(3)
"لا" ليست في (ح)، والمعنى واحد ثبتت أو حذفت.
لمَّا ذكر إهلاك المستهزئين المكذِّبين أمر بالسَّير في الأرض للاعتبار بحالهم من مساكنهم، فقال:
(11) - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى أن تُشرفوا على
(1)
ديار قوم نزل بهم العذاب، فاختبروا واعتبروا.
ولمَّا كان في هذا السَّير المأمور به من الامتداد جيء بكلمة التراخي في قوله:
{ثُمَّ انْظُرُوا} فإن النَّظر وإن لم يكن متراخيًا عن السَّير باعتبار الانتهاء لكنه
(2)
متراخٍ عنه باعتبار الابتداء، وأمَّا قوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [النمل: 69] فلعل المراد من الأرض فيه ما هو المعهود
(3)
من أرض قومٍ نزل العذاب بساحتهم، فجيء بحرف التعقيب تنبيهًا على أنَّ السَّير إنَّما أُمر به لأجل النَّظر فحقُّه أن لا يتأخَّر عنه.
وما قيل: معناه: إباحة السَّير في الأرض للتِّجارة وغيرها من المنافع، وإيجابِ النظر في آثار الهالكين، ونبَّه على ذلك ب {ثُمَّ} لتباعد ما بين الواجب والمباح = يأباه سلامة الذَّوق؛ لأنَّ إقحام أمرٍ أجنبيٍّ - وهو بيان إباحة السَّير للتِّجارة - بين الإخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه ويتصل
(4)
به من الأمر بالاعتبار بآثارهم، ممَّا يخلُّ بالبلاغة إخلالًا ظاهرًا.
(1)
في (ح): "إلى"، وليست في (م) و (ك).
(2)
في (م) و (ك): "ولكنه".
(3)
في (م) و (ك): " المشهور".
(4)
في (ك): "وما يتصل".
{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : كيف أهلكهم الله تعالى بعذاب الاستئصال، وإنما عبَّر عنهم بالمكذِّبين دون المستهزئين إشارةً إلى أن مآل مَن كذَّب إن كان كذلك، فكيف الحال في مآل
(1)
مَن جمع بينه وبين الاستهزاء.
* * *
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلزام وتبكيت؛ لأنهم لا يقدرون أن يضيفوا خلقهما وملكهما إلى غيره تعالى، ولذلك عقَّبه بقوله:
{قُلْ لِلَّهِ} تقريرًا لهم، أي: لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، وفيه أنهم مع كونهم مقرِّين بذلك على ما أفصح عنه قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] تثاقلوا في الجواب وانقمعوا لِمَا ظهر من كونهم محجوجين، فقرَّر عليهم ذلك
(2)
.
{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} و في الدَّارين، أي: التزمها تفضّلًا وإحسانًا، لا أن
(3)
ذاته أوجبها على نفسه بمقتضى حكمته.
وهذا استعطاف منه تعالى للمتولِّين عنه إلى الإقبال
(4)
إليه، وإخبار بأنه رحيم بالعباد، لا يعجل في العقوبة، ويقبل الإنابة والتَّوبة.
(1)
في (ح): "حال "، وسقط من (ك).
(2)
في (م) و (ك): "ذلك عليهم ".
(3)
في (ك): "أنه ".
(4)
في (م): "للإقبال ".
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ضمَّن الجمع معنى الحشر، ولذلك قال:
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، أي: إلى واقعتها في موقفها
(1)
، كيوم بدر
(2)
، استئناف، وقسَم للوعيد على إشراكهم، كأنه قيل: وما تلك الرَّحمة؛ فقيل: هي أنَّه تعالى ليجمعنكم إلى يوم القيامة، وذلك لأنَّه لولا خوف الحساب والعذاب لحصل الهرج والمرج، وارتفع الضبط وكثر الخبط، فتقرير
(3)
العقاب في العُقبى من أعظم أسباب الرَّحمة في الدُّنيا.
ولك أن تقول: بيَّنَ بقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كمالَ رحمته بالإمهال ورفْعِ عذاب الاستئصال، بعدَ ما قدَّم بيان كمال قدرته بقوله:{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ ليتعيَّن من أوَّل الأمر أن إمهاله ذلك عن رحمة لا عن عجز، ثم بيَّنَ بقوله:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيجازيكم على
(4)
شرككم أنَّه يمهل ولكن لا يهمل، بل يحشرهم ويحاسبهم على نَقير وقِطمير.
{لَا رَيْبَ فِيهِ} : في اليوم، أو الجمع.
{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} نصب على الذَّم، أو رفعٌ عليه، أو مبتدأ خبره:
{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والفاء للسببية، فإن الخسران بتضييع رأس مالهم - وهو نور الفطرة - يوجب الإصرار على الكفر.
(1)
في (م) و (ك): "موقعها".
(2)
في هامش (ف): "فإن العرب يطلقون الأيام على الوقائع، ومنه قولهم: شهد يوم بدر؛ يعني الواقعة المشهورة، وتعديته بـ {إِلَى} لما في الجمع من معنى الحشر والسوق، وفيه تنبيه على أن أرض المحشر ومحل الواقعة غير ما هم قبروا فيها على ما نطق به بعض الأحاديث. منه ". وتحته: "وهي المراد من الأيام في قوله تعالى: {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}. منه ".
(3)
في (م) و (ك): "فتقدير".
(4)
في (م): "عن ".
(13) - {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : لمَّا ذكر أن له ملكُ ما حوى المكان من السماوات والأرض، ذكر أن له ما حوى الزَّمان، واشتمل عليه المَلَوَان
(1)
، وكل واحد من المكان والزمان وإن كان مستلزمًا للآخَر، لكن التَّنصيص عليهما أبلغُ في مقام التَّقرير والبسط، وقدَّم المكان لأنَّه أقرب إلى العقول والأذهان من الزَّمان
(2)
.
والظَّاهر أنه استئنافُ إخبارٍ وليس مندرِجًا تحت {قُلْ} .
و {سَكَنَ} مِن السُّكنى، وهو يتعدَّى بـ (في) كما يتعدَّى بنفسه يقال: سكنوا الدَّار، وسكنوا فيها، لا من السكون على الاكتفاء بأحد الضِّدين عن الآخر؛ لأنَّه لا يناسب البسط الظَّاهر قصدُه من تفصيل قُطرَي المكان وصِنْفَي الزَّمان.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وعيدٌ للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.
* * *
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} أَدخل همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل؛ لأن الإنكار يتوجَّه إلى اتخاذ الغير وليًّا، لا إلى اتخاذ
(3)
الولي مطلقًا، ولا دخل في ذلك لتقديم المفعول؛ لأنَّه لازم لدخول همزة الاستفهام، فكان ثابتًا تبعًا له. وإنما عبَّر
(1)
الملوان: الليل والنهار، والواحد: ملاً، مقصور.
(2)
في (ك): " الأزمان ".
(3)
في (م): "لا لاتخاذ".
عن المعبود بالولي لأن
(1)
أوَّل درجة العبادة لشخصٍ اتِّخاذه وليًّا، فكان نفيُه أبلغ
(2)
.
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مبدعِهما، وجرَّه على الصِّفة لـ {اللَّهِ} ، فإنه بمعنى الماضي، ويؤيده قراءة:(فَطَر)
(3)
.
ويجوز أن يكون بدلًا، ويرجِّحه أن الفصل بين المبدَل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنَّعت، بناء على ما هو المشهور من أن البدل على تكرار العامل.
وقرئ بالرفع والنصب على المدح
(4)
.
والجملة تقريرٌ لإنكار اتخاذ غير الله تعالى وليًّا وتعليلٌ له، وكذا قوله:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} ، أي: المنافع كلُّها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع، فخصوص الطُّعم غير ملحوظ، بل هو من باب تنزيل جزء الشَّيء
(5)
منزلة كلِّه.
وقرئ: (ولا يَطْعَم) بفتح الياء
(6)
.
وبعكس الأول
(7)
على أن الضمير لـ (غير الله) تعالى، فإن الكلام وإن كان مع
(1)
في (ح) و (ف): "لأنَّه".
(2)
في هامش (ف): "مأخوذ من تفسير أبي حيان. منه ".
(3)
نسبت للزهري. انظر: "الكشاف"(2/ 9)، و"المختصر في شواذ القرآن" (ص: 36).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 9)، و" البحر "(4/ 56).
(5)
في (ك): "من تنزيل الشيء"، وفي (م):"من باب تنزيل الشيء".
(6)
نسبت للأعمش وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القرآن"(ص: 36)، و"البحر المحيط"(4/ 56).
(7)
أي: (يُطْعَم ولا يُطْعِم) ببناء الفعل الأول للمفعول والثاني للفاعل. ونسبت هذه القراءة ليعقوب في رواية ابن المأمون عنه، وهي خلاف المشهور عنه. انظر:"الكشاف"(2/ 9)، و"البحر"(9/ 56).
عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى، وتغليب أولي النُّهى لأن فيه إنكار أن تصلح الأصنام للألوهية بطريقِ الأَولى، والمعنى: كيف أُشرك بمن هو فاطر السماوات والأرض ما هو نازلٌ عن مرتبة الحيوانيَّة.
وببنائهما للفاعل
(1)
، على أنَّ الثَّاني من أَطْعَمَ بمعنى اسْتَطْعَم
(2)
، أو على أنه يُطعم تارةً ولا يُطعم أخرى؛ أي: وهو الباسط والقابض بحسب الحكمة والمصلحة
(3)
، كقولك: هو يعطي ويمنع.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه السلام سابقُ أمَّتهِ في الإسلام، وهذا على طريق التَّحريض على الإسلام، كما يأمر الملك رعيَّته بأمرٍ ثم يُتْبعه بقوله: أنا أول مَن يفعل ذلك؛ ليَحملهم على فعله.
{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطفٌ على معنى قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ} فإنه بمعنى: قيل لي: كُنْ أوَّل مَن أسلم، فلا حاجة إلى تقدير:(وقيل لي: لا تكونن)
(4)
؛ أي: أُمِرْتُ بالمسارعة إلى الإسلام، ونُهِيْتُ عن الشِّرك.
ولتعلُّق الأمر بالمسارعة دون نفْس الإسلام لم يؤكَّد تأكيدَ النَّهي المتعلِّق بنفس
(5)
الشرك.
وقيل: يجوز عطفه على {قُلْ} .
(1)
نسبت للأشهب. انظر: "الكشاف"(2/ 9)، و"البحر"(9/ 57).
(2)
أي: (يُطْعِم ولا يَستطْعِم). انظر: "الكشاف"(2/ 9).
(3)
"والمصلحة" من (ك) و (م).
(4)
في (ح) و (ف): " "قيل في لا تكونن ".
(5)
في (ف) و (ك) و (م): "لنفس ".
وَيرِدُ عليه: أنَّ سلامة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية
(1)
بعضِها عن بعضٍ بخطاب ليس منها
(2)
.
* * *
(15) - {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الشرط معترِض بين الفعل والمفعول، وجوابه محذوف دلَّ عليه الجملة.
والأنبياء عليهم السلام وإن كانوا معصومين عن الكفر إلا أنه قد يُفرض
(3)
إذا تعلَّق به غرض صحيح؛ من المبالغة في قطع أطماعهم؛ والتعريضِ لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب
(4)
، فلا دلالة في الآية على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر.
* * *
(16) - {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} .
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} ؛ أي: العذاب، وهذا أبلغ؛ لتضمُّنه معنى أن يقال: إن انصراف العذاب رحمة من الله تعالى سواءٌ كان الصارف هو أو غيره، فإنَّ فيه تنبيهًا على أن الغير كالشُّفعاء وإن كان صارفًا للعذاب عن العصاة لكن صرفهم ذاك بإذن الله تعالى.
(1)
في (ك): "البليغة".
(2)
في (ف)، و (ح):"منها".
(3)
في (ح): " يعترض "، و في (ف):" يعرض ".
(4)
في (م) و (ك): "مستوجبو العذاب ".
{يَوْمَئِذٍ} وقرئ: {يُصْرَفْ} مبنيًا للفاعل
(1)
، على أن الضمير فيه لله تعالى، ويعضُده القراءةُ بإظهاره
(2)
، ويناسبه الجزاء، والمفعول به محذوف لظهوره مما قبله، أو {يَوْمَئِذٍ} على أن يراد منه هولُه، فلا حاجة إلى تقدير المضاف.
وفي عبارة الصَّرف إشارة إلى أنَّ الآية فيمَنْ استحقَّ العذاب.
{فَقَدْ رَحِمَهُ} رحمةً هي ذلك الصَّرْفُ نفْسه، ونظير هذا قوله عليه السلام:"لن يَجْزيَ ولدٌ والدَه إلَّا أن يجدَه مملوكًا فيشتريَه فَيُعْتِقَهُ"
(3)
" يعني: بالاشتراء المذكور، ووجهُ ذلك: أن اختلاف العنوان يكفي في صحَّة التَّرتيب والتَّعقيب.
ولك أن تقول: إنَّ الرَّحمة سببٌ للصَّرْف سابقٌ عليه، على ما لوَّح إليه، حيث أتى
(4)
بصيغة الماضي وصيغته مستقبل، والتَّرتيبُ باعتبار الإخبار عنها
(5)
.
{وَذَلِكَ} ، أي: صَرْفُ العذاب عنه وهو مستحِقٌّ له.
(1)
قرأ بها حمزة وأبو بكر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 101).
(2)
نسبت هذه القراءة لأبي بن كعب رضي الله عنه. انظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 10)، و"البحر"(9/ 59).
(3)
رواه مسلم (1510) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومحل الشاهد أن قوله: "فَيُعْتِقَهُ" ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك؛ لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما معناه: أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه، عتق عليه. فلما كان الشراء سببًا لعتقه، أضيف العتق إلى عقد الشراء. انظر:"جامع الأصول" لابن الأثير (1/ 400).
(4)
في (م) و (ك): " أوتيت ".
(5)
العبارة في "روح المعاني"(8/ 81): (
…
ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوِّح إليه صيغة الماضي والمستقبل، والترتيبُ باعتبار الإخبار)، والمعنى واحد، وقد عزاه الآلوسي لبعض الكاملين، ولعل المراد المؤلف حيث إن الآلوسي نقل - كلام المؤلف في الآية بتمامه عدا ما أشرنا إليه من الاختلاف في بعض الألفاظ.
{الْفَوْزُ الْمُبِينُ} ظهورُ الفوز يزداد بازدياد الاستحقاق المعتبَر فيمَنْ صُرِفَ عنه العذاب.
* * *
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الضُّرُّ - وهو سوء الحال - أخصُّ من الشَّرِّ المقابل للخير، وإنما خصَّه بالذِّكْرِ لشدَّة الحاجة فيه إلى الكشف.
{فَلَا كَاشِفَ لَهُ} : فلا مزيلَ له عنك.
{إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْر} حذف جوابه؛ لدلالة جواب مقابِله عليه.
ثم أكَّد الجوابين بشمول قدرته على كلِّ شيء فقال: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يقدر غيره على مخالفته.
* * *
(18) - {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} معنى الفوقية هاهنا: تصويرٌ للقهر والعلوِّ بالغلبة والقدرة، لا بالجهة، وفي القهر معنًى زائدٌ ليس في القدرة
(1)
، وهو منع غيره عن بلوغ المراد.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أمره وتدبيره إيَّاهم {الْخَبِيرُ} بأحوالهم وخفاياهم.
(1)
في (م) زيادة: "لا بالجهة" ولعله سهو أو سبق نظر من الناسخ.
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} : روي أنَّ قريشًا قالوا: يا محمَّد، لقد سألنا عنك اليهود والنَّصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذِكْرٌ ولا صفة، فأرِنا مَنْ يشهد لك أنَّكَ رسولُ الله، فنزلَتْ
(1)
.
والشيء يُطلَق على كلِّ موجود، وقد مرَّ تفصيله في تفسير سورة البقرة، ووضعُه موضع شهيد للمبالغة في التعميم.
{قُلِ اللَّهُ} هو الجواب، ثم ابتدئ:{شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} كرَّر البَيْن ولم يقل: بيننا؛ للإيماء إلى معنى التَّفصيل المترتِّب على الشهادة المقبولة.
ويجوز أن يكون الجوابُ
(2)
: {اللَّهُ شَهِيدٌ} ، فهو على الأول للتَّسلق من إثبات التَّوحيد إلى إثبات النُّبوة بأن هذا الشَّاهد الذي لا أَصْدَقَ منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن، وعلى الثَّاني من الأسلوب الحكيم؛ لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيرَه تعالى، بل الكلام في أنَّه: هل يشهد لنبوَّته أو لا
(3)
؟
(1)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(4/ 140) عن الكلبي. وانظر: "تفسير الطبري"(6/ 31)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1120)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 103)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 750).
(2)
" الجواب " سقط من (ك) و (ح).
(3)
في (ك): "أم لا". وجاء في هامش (ح): "قوله: ويجوز
…
إلخ، قال أبو حيان: هذا الوجه أرجح من الأول؛ لأنَّه لا إضمار فيه مع صحة معناه، وفي الأول إضماران أولًا وآخرًا".
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} ؛ أي: بالقرآن، والخطاب لكفَّار مكَّة، وليس فيهم ما يصح أن يبشَّروا به، ولذلك خصَّ الإنذار بالذِّكر.
{وَمَنْ بَلَغَ} (مَن)
(1)
في موضع نصبٍ عطفًا على مفعول {لِأُنْذِرَكُمْ}
(2)
؛ أي: ومَن بلغه
(3)
هذا القرآنُ من العرب والعجم.
وقيل: من الثَّقلين ممن وجد ويوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعمُّ كلَّ من يبلغه إلى يوم القيامة، وأما أنه لا يؤاخذ بها مَن لم تبلغه
(4)
فلا دلالة فيه عليه إلا عند مَن قال بحجيَّة المفهوم
(5)
.
ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفًا على الضمير المستكنِّ في {لِأُنْذِرَكُمْ} ، وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير؛ أي: ولينذِر به مَن بلغه القرآن.
{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً}
(6)
تقرير لهم مع إنكارٍ واستبعاد، ولمَّا كانت تلك الآلهة حجارة وخشبًا أجريت مجرى المفرد تحقيرًا لها، فوُصِفَتْ بما يُوْصَفُ به المفرد، وقيل:{أُخْرَى} .
{قُلْ لَا أَشْهَدُ} شهادتكم بأنَّ معه آلهة.
{قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ؛ أي: قل: أشهد أن لا إله إلا هو
(7)
.
(1)
"من": من (ف).
(2)
في (م) و (ك) زيادة: "لأنذركم به ".
(3)
في (ح) و (ف): "بلغ ".
(4)
"من لم تبلغه" من (ك) و (م)، وزيد بعدها في (م):"إلى يوم القيامة".
(5)
في هامش (م): "رد على القاضي البيضاوي".
(6)
في (ك) و (م): "آلهة أخرى" والصواب عدم إثباتها هنا لما سيأتي.
(7)
في (ك): "إلا الله".
{وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أُمِرَ أوَّلًا بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادة، ولا يَلزم من ذلك إفراد الله تعالى بالألوهية، فأُمِرَ به ثانيًا، ثم أُمِرَ
(1)
ثالثًا بأن يخبرهم بالتَّبري من إشراكهم، وهو التأكيد لمَا قبله.
* * *
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} يعني: اليهودُ والنَّصارى يعرفون رسولَ الله
(2)
صلى الله عليه وسلم بحِلْيته ونعته الثابت في الكتابَيْن معرفةً حقَّةً.
{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بِحُلَاهم.
{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} من المشركين وأهل الكتاب بتضييعهم ما يُكتسَب
(3)
به الإيمان من النور الفطري.
{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قد مرَّ وجه السَّببية المستفادة من الفاء، على أنه لا يلزمها السَّببية، بل يكفي أن يكون ما بعدها لازمًا لما قبلها، كما في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
* * *
(1)
في (م) و (ك) زيادة: "به" والصواب المثبت.
(2)
في (م) و (ك): "النبي".
(3)
في (ف) و (ح): "يكتب".
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بقولهم: الملائكة بنات الله تعالى، و: هؤلاء شفعاؤنا عند الله تعالى، وغير ذلك.
{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بالقرآن، أو بالمعجزات، وإنما جاء بـ {أَوْ} مع كونهم جامعينَ بين الكذب والتَّكذيب؛ تنبيهًا على أن كلًّا منهما وحده بالغٌ غاية الإفراط في الظُّلم على النَّفس، لا ظلمَ فوقَه.
{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} جاء بضمير الشأن مع (إنَّ)، للإجمال والتَّفصيل، والتَّنبيه على أن الظالم قط لا يفلح
(1)
، فكيف بمن لا أحدَ أظلم منه؟
* * *
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} منصوب بمضمر حُذف تهويلًا للأمر ومبالغةً في التَّخويف، تقديره: كان ما لا يدخلُ تحتَ الوصف. والحشر: السَّوقُ من جهاتٍ مختلفةٍ إلى مكانٍ واحدٍ.
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} وقرئ: {نَحْشُرُهُمْ} {ثُمَّ نَقُولُ} بالياء فيهما
(2)
.
{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} سؤالُ توبيخٍ، وإنما أضيف الشركاء إليهم لأنَّه لا شركةَ في الحقيقة بين الأصنام والمعبود بحقٍّ، وإنما أَوقع عليها اسمَ الشريك لمجرَّد
(3)
تسميتهم لهم شركاء، فأُضيف إليهم بهذه النسبة، ويعضده التعبير عن اعتقادهم بالزَّعم، فإنه كالعَلَم في الباطل
(4)
، ولا يخفى ما فيه من التَّهكُّم.
(1)
في هامش (ف): "ليست عبارة قط من محلها. منه ".
(2)
وهي قراءة يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 257).
(3)
في (م): "بمجرد".
(4)
كذا قال المؤلف رحمه الله، وهو في القرآن كذلك، فإنه كما قال الراغب في "مفرداته" (مادة:=
{الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم شركاءُ لله، حذف المفعولان لدلالة سياق الكلام عليه.
وهذا السؤال ظاهرٌ في غيبة الشركاء، وقوله تعالى:{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] نصٌّ فيها، فلا وجه لمَا قيل: يجوز أن يَحضروا ويشاهِدوا، ولكنْ لما لم ينتفعوا بهم ولم يكن فيهم ما رَجَوا من الشفاعة لهم جُعِلوا كأنهم غُيَّبٌ عنهم، وهو أبلغ في التوبيخ؛ إذ وجودهم أضرُّ من العدم.
وأما ما قيل: يجوز أن يُحال بينهم وبينها حينئذ ليتفقدوها في الساعة
(1)
التي علَّقوا بها الرجاء فيها، فيَرِدُ عليه: أنه حينئذ ينكشف الحال عندهم، ويعلمون أنه لا منفعة لهم في آلهتهم، بل مضرِّة، فلا احتمال للتفقُّد.
* * *
(23) - {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
=زعم): جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلون به. لكنه في غير القرآن ليس معناه مقتصرًا على الباطل كما ذكر بعض العلماء، قال الحافظ في "الفتح" (1/ 152): الزعم يطلق على القول المحقق أيضًا كما نقله أبو عمر الزاهد في "شرح فصيح" شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل، في مقام الاحتجاج. وقال النووي في "شرح مسلم" (1/ 45): وقد كثر الزعم بمعنى القول، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"زعم جبريل" وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه: زعم رسولك، وقد أكثر سيبويه في "كتابه" المشهور من قوله: زعم الخليل كذا، في أشياء يرتضيها سيبويه، فمعنى زعم في كل هذا: قال.
(1)
في (ك) و (م): "الشفاعة"، والمثبت من (ح) و (ف)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 12)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 157).
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} جوابُهم، وإنما سُمِّي فتنةً لأنَّه معذرتُهم التي توهَّموا تخلُّصَهم بها، من قولك: فتنتُ الذهب: إذا خلَّصتَه.
وقيل: كفرُهم، والمراد عاقبتُه.
{إِلَّا أَنْ قَالُوا} ، وقرئ بالتاء الفوقانية ونصب {فِتْنَتُهُمْ} ، على تقديرِ {أَنْ قَالُوا} مؤنثًا؛ أي: ثم لم تكن فتنتَهم إلا مقالتُهم، وهذا أحسن من اعتبار التأنيث في الخبر، وقرئ: بالتاء الفوقانية والرفع على أنها الاسم، وقرئ:{يكن} بالياء التحتانية {فِتْنَتُهُمْ} بالنصب، على أن الاسم:{أَنْ قَالُوا}
(1)
.
{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين} كذبوا وحلفوا - مع علمهم بأنه لا ينفع - حيرةً ودَهَشًا، وقرئ:{رَبِّنَا}
(2)
بالنصب على النداء أو المدح
(3)
.
* * *
(24) - {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بنفي الشِّرك عنها.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} يَحتمِلُ أن يكون عطفًا على {كَذَبُوا} فيدخل في حيِّز {انْظُرْ} ، ويحتمل أن يكون إخبارًا مستأنفًا، فلا يدخل في حيِّزه.
(1)
ملخص ما ذكره المؤلف ثلاث قراءات كلها سبعية، وهي التاء مع كل من الرفع والنصب، والياء مع النصب. انظر تفصيلها ومن قرأ بكل منها في "السبعة" (ص: 254)، و"التيسير" (ص: 101)، و"النشر" (2/ 257). وثمة رابعة وهي الياء مع الرفع ذكرها ابن خالويه في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 36) عن عاصم من رواية المفضل وعن الأعمش. ووقع في (م) و (ك) في هذا النص تقديم وتأخير لكن المؤدى واحد.
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 102).
(3)
في هامش (ف): "فيلزم عطف الإخبار على الإنشاء. منه".
{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ؛ أي: غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الشركاء؛ أي: يفترون إلهيَّته وشفاعته.
* * *
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تتلو القرآنَ، روي أنَّ جماعة من كفَّار قريش استمعوا رسول الله عليه السلام، فقالوا للنَّضر: ما يقول محمد؟ فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين، مِثلَ ما أحدِّثكم عن القرون الماضية، وكان صاحبَ أخبار، فنزلت
(1)
.
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} : جمعُ كِنَان، وهو ما يستر الشيء كالغطاء.
{أَنْ يَفْقَهُوهُ} : كراهةَ أن يفقهوه، ويجوز أن يكون مفعولًا لما دلَّ عليه الكلام المذكور؛ أي: منعناهم أن يفقهوه.
{وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} : ثقلًا، الأَكِنَّةُ في القلوب والوَقْرُ في الآذان مثلٌ في نبوِّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته.
وما قيل: لما كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ
(2)
، يَرِدُ عليه أنهم ما عجزوا عن إدراك اللفظ المسموع
(1)
انظر: "أسباب النزول " للواحدي (ص: 214). وجاء في هامش (ف): "ذكره القاضي في تفسير سورة بني إسرائيل. منه ".
(2)
في هامش (ف): "من جملة تأويلات المعتزلة لأمثال هذه الآية. منه ".
- على ما دل عليه ما مر في سبب النزول - إنما عجزوا عن إدراك اللفظ المطبوع الحامل للخواص والمزايا.
{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} لفرط عنادهم، ولا بد من تخصيص الآية بغير
(1)
الملجئة دفعًا للمخالفة بينه وبين قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4].
{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} {حَتَّى} هي التي يقع بعدها الجمل
(2)
، والجملة بعدها هي الشَّرطية، {يُجَادِلُونَكَ} في محل الحال، وجواب الشرط:
(3)
وفيه وضع المظهَر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر والعناد مع وضوح الآيات.
ويجوز أن تكون {حَتَّى} هي الجارَّة و {إِذَا} لمجرد الظرفية في محل الجر فلا يكون له جواب؛ أي: حتى وقت مجيئهم، و {يَقُولُ الَّذِينَ} تفسير لـ {يُجَادِلُونَكَ} .
{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِين} الأساطير: الأباطيل، الواحدة: الأُسْطُورة بالضم، وإِسْطارةٌ بالكسر، وجَعْلُ أصدق الحديث خرافات الأولين غايةُ التَّكذيب.
ويجيء الأساطير جمع أَسْطَارٍ، جمع سَطَرٍ بالتحريك
(4)
، بمعنى الخط والكتابة، وعلى هذا ينطبق ما روي عن النضر فيما سبق، وأما السَّطْر بالسكون فجمعُه
(5)
أَسْطرٌ وسُطُورٌ.
(1)
في (ح): "غير"، وفي (ف):"لغير".
(2)
في هامش (ف): "ويعضده زيادة قوله في سورة يونس عليه السلام: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]، فافهم".
(3)
في هامش (ف): "ومن وهم أن {يُجَادِلُونَكَ} جواب فقد وهم. منه ".
(4)
في هامش (ف): "ليت شعري أنى قال القاضي: إن السطر بالسكون جمعه على أسطار. منه ".
(5)
في (م) زيادة: " على ".
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} ؛ أي: ينهون النَّاس عن القرآن أو الرَّسول واتِّباعه والإيمان به.
{يَنْهَوْنَ} : يَبعدون {عَنْهُ} بأنفسهم، فيَضلُّون ويُضلُّون.
{وَإِنْ يُهْلِكُونَ} : وما يهلكون بذلك {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أن ضرر ذلك لا يتعدَّاهم إلى غيرهم، وإن كانوا يظنُّون أنهم يضرُّون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} مِن وقَفه؛ أي: حبسه؛ لأنَّه قال في موضع آخر: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19]
(1)
؛ أي: يُحبسون، والقرآن يفسِّرُ بعضَه بعضًا، وضمَّنه معنى الاطِّلاع، دلَّ على ذلك قوله:{عَلَى النَّارِ} ، والمعنى: إذ وُقِفوا مطَّلعين عَلَى النَّارِ
(2)
.
وقرئ على البناء للفاعل
(3)
، من وَقف عليه وقوفًا.
وإنما حذف الجواب تهويلًا؛ أي: لو تراهم حين يوقَفون عليها حتى يعاينوها، أو يطَّلعون عليها وهي تحتهم، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها
(4)
، لرأيت أمرًا شنيعًا لا يدخل تحت الوصف.
{فَقَالُوا يَالَيْتَنَا} تمنوا الرجوع إلى الدنيا.
(1)
في هامش (ف): "الوزع غير الوقف، فكيف يفسره؟ منه ".
(2)
في هامش (ف): "ليس فيه دلالة على ما ذكره؛ لأن حبسهم فوق النار وهي تحتهم. منه ".
(3)
نسبت هذه القراءة لابن السميفع وزيد بن علي. انظر: "البحر المحيط"(9/ 96).
(4)
في هامش (ف): "فأين التضمين الذي ذكره، فأين جزمه بأن الوقف بمعنى الحبس. منه ".
{وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قرئ بنصب {نُكَذِّبَ} و {نَكُونَ}
(1)
بإضمار (أنْ) بعد الواو، لا على جواب التَّمني؛ لأن الواو لا تقع في جواب الشرط، ولا ينعقدُ مما
(2)
قبلها وما بعدها شرطٌ وجواب
(3)
، وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها، والأفعال الثلاثة متمناهٌ على سبيل الجمع بينها، لا أن كل واحد متمنًّى على حِدَة، إذ التقدير: يا ليتنا يكون لنا ردٌّ مع انتفاء التكذيب وكونِنا من
(4)
المؤمنين.
أو واوُ الحال
(5)
على أن مدخولها حال من الضمير في {نُرَدُّ} ، أي: يا ليتنا نُرَدُّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين.
وقرئ برفعهما عطفًا على {نُرَدُّ} ، فيكونان داخلَين في التمني، وقوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} راجع إلى ما تضمنه التَّمني من الوعد
(6)
.
[وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف على {نُرَدّ} ،
(7)
أو على الاستئناف، ونصب الثاني عطفًا على مصدر متوهَّم مقدَّر من الجملة السابقة، وتكون (أنْ) مضمرة بعد الواو، فالتقدير: يكون منا ردٌّ وكونٌ من المؤمنين.
(1)
وهي قراءة حمزة وحفص، وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني، والباقون بالرفع فيهما. انظر:"التيسير"(ص:102).
(2)
في (ح) و (م): "ما".
(3)
في هامش (ف): "لا نسلم ذلك، ألا ترى إلى تقدير صاحب الكشاف: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. أي: ممن قال على الجواب، والله أعلم بالصواب. منه ".
(4)
في (ح) و (ف): "مع ".
(5)
في هامش (ح)(ف): "احتمال الحال ظاهر في قراءة الرفع، فذكره هنا دون بيان وجه قراءة الرفع ليس كما ينبغي، فإن الحال المفردة لا تحلى بالواو. منه ".
(6)
انظر شرح هذا الكلام في "حاشية شيخ زاده على البيضاوي"(4/ 31).
(7)
ما بين معكوفتين مستفاد من "البحر"(9/ 98).
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} إضرابٌ عن إرادة الإيمان المفهوم من التَّمني؛ أي: ظهر لهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم ما كانوا يخفون من النَّاس من فضائحهم وقبائحهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرًا لا عزمًا على أنهم لو رُدوا لآمنوا.
{وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} من الكفر والمعاصي.
{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما وعدوا من أنفسهم.
* * *
(29) - {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
{وَقَالُوا} استئناف أو عطف على {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
(1)
، لا على {لَعَادُوا} ، ولا على {نُهُوا}
(2)
، إذ حينئذ حقُّ قوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن يُؤخَّر عن المعطوف، أو يُقدَّم على المعطوف عليه.
{إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الضمير للحياة.
{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} إلى الحشر والجزاء.
* * *
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} للتوبيخ والسؤال
(3)
، كما يوقف العبد الجاني بين يدي
(1)
في هامش (ف): "وإنهم لكاذبون جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه فلا عناد. منه ".
(2)
في (م) و (ك): "لما نهوا".
(3)
في (ف) و (ح): "والسؤال للتوبيخ ".
سيِّده ليعاتبه، ضمَّنَ الوقوف معنى العرض، ولذلك قال:{عَلَى رَبِّهِمْ} ، والمعنى: إذ عرضوا على ربهم موقوفين، وقد أفصح عن هذا المعنى قوله تعالى:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48]، وقوله تعالى:{إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12].
وقيل: معناه
(1)
: وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرِّفوا حقَّ التعريف.
وجواب (لو) محذوف كما مرَّ
(2)
.
{قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} استئنافٌ، كأنَّه قال
(3)
قائل: ماذا قال لهم ربهم حينئذ؟ فقيل: قال
(4)
، والهمزة للتقريع والتعييرِ من الله تعالى على التَّكذيب وإنكارِ البعث والجزاء حين سمعوا حديثه وقالوا
(5)
ما هذا بحق، والإشارة إلى البعث والجزاء.
{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إقرارٌ مؤكَّدٌ باليمين.
{قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم.
* * *
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} : بالبعث وما يتَّصل به من أحوال الآخرة.
(1)
"معناه"من (م).
(2)
"كما مر"سقط من (ك).
(3)
في (م) و (ك) زاد: " لهم ".
(4)
في (م) و (ك) زيادة: "إلخ ".
(5)
في (ك): "قالوا".
{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} : القيامة، {حَتَّى} غايةٌ للتَّكذيب لا للخسران
(1)
؛ فإنَّ خسرانهم لا غاية له، والكلام فيها وفيما
(2)
بعدها من الجملة كما مرَّ في {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ} .
{بَغْتَةً} : فجأةً، وهي مجيء الشيء بسرعة من غير خطورٍ ببالك، حال؛ أي: باغتةً، أو مصدر؛ لأنها نوع من المجيء.
{قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا} تعالي فهذا أوانكِ، والحسرة: شدَّة النَّدم.
{عَلَى مَا فَرَّطْنَا} : قصَّرنا مع القدرة على عدم التَّقصير
(3)
.
{فِيهَا} ؛ أي: في الحياة الدُّنيا، أُضْمِرَتْ لأنها معلومة وإن لم يَجْرِ لها ذكر، أو: في السَّاعة؛ أي: في شأنها والإيمانِ بها، كما في قوله:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} مَن قال بالميزان واعتقَد
(4)
وزنَ الأعمال وأذعن حصول الثِّقل لها يوم الجزاء فليس له أن يقول: إنَّه تمثيل لثقل أوزارهم
(5)
، والمعنى: أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساةَ مَنْ يحمل ثقلَه على ظهره؛ لأنَّه
(6)
مظنَّةُ الإنكار بما ذكر.
(1)
في (م) و (ك): "لكذبوا لا لخسر".
(2)
في (ح) و (ف): "وما".
(3)
في هامش (ف): "فرَّط: قصَّر مع القدرة على ترك التَّقصير".
(4)
في (م) و (ك): "أو اعتقد".
(5)
في هامش (ف): "لما يلزم من إنكاره شيء إذا قال: الموزون كتب الأعمال، على ما حُقِّق في الكلام؛ فإن حصول الأعراض في الميزان مع حصول الثقل لها لا يُعقل ".
(6)
في (ك): "لأن ".
والجملة حال من الضمير في {قَالُوا} .
{أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} اعتراضٌ، والمخصوص بالذَّم محذوف؛ أي: بئس شيئًا يزرون وِزرُهم، أو الذي يَزِرونه، و {سَاءَ} على وزن فَعَلَ، متعدٍّ تقديره: ساءهم.
* * *
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أراد بالحياة الدُّنيا: أعمالها المخصوصةَ بها، بحيث لا يظهر أثرها في الحياة الأخرى، ولذلك قال:
{إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فإنَّ مطلق أعمالها الشاملة
(1)
للعبادات ليس كذلك، ومن هنا ظهر وجه السلوك إلى طريق المجاز؛ شبِّهت أعمال الدنيا باللعب واللهو لقلَّة جدواها وسرعةِ زوال منافعها، أو لأنَّه
(2)
يُلهي الناس وَيشغلهم عما يُعْقِب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وهو جواب لقولهم:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29].
{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إيراد لام الابتداء، وإثبات ما فيها للذين يتقون، والتأكيدُ بقوله:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، إشعارٌ
(3)
بأن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب يَشتَغِل به مَن لا يَعقل، وأنَّ العاقل هو الزَّاهد في الدنيا.
وقرئ: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} على الإضافة
(4)
، أي: دارُ الحياة الآخرة.
(1)
في (م): "المخصوصة الشاملة".
(2)
في (ف): " ولأنه ".
(3)
في (م): "إشعارًا".
(4)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 102).
وقرئ: {تَعْقِلُونَ} بالتاء على خطاب المخاطَبين به
(1)
، أو تغليبًا على
(2)
الغائبين.
* * *
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ} {قَد} هاهنا من باب استعمال اللفظ في نقيضه للمبالغة؛ لأنَّه بمعنى تكثير الفعل وزيادته، كما تستعمل (ربَّما) لذلك، كأنه إيماءٌ إلى أنَّ كلَّ ما يفهم من وقوع مرَّات
(3)
الفعل وزيادته بالنِّسبة إلى ما يُراد منه قليلٌ، ويقوِّيه في تفخيم الفعل وكثرته إيراد ضمير الشأن ولام الابتداء في المعلوم المفيد للاعتبار به
(4)
وتحقُّقِ وقوعه؛ ليلزم من كثرة وقوع المعلوم كثرةُ العلم به، ومن دوامه دوام العلم
(5)
.
{لَيَحْزُنُكَ} قرئ بفتح الياء وضمها
(6)
من أَحْزنَ.
{الَّذِي يَقُولُونَ} ؛ أي: كثيرًا ما نعلم حزنك من قولهم: ساحر كذَّاب، أو: كاهن، وأمثاله، فتسلَّ والْهُ عن حزنك.
{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} المراد بنفي تكذيبه عليه السلام: استعظامُ تكذيبه بجعله تكذيبَ الله تعالى، لا نفيُه حقيقة.
(1)
هي قراءة نافع وابن عامر وحفص بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 102).
(2)
في (م) و (ك): "تغليب الحاضرين على".
(3)
في (ح): "وقوع مرات وقوع ".
(4)
في (ح) و (ف): "الابتداء والمعلوم المفيد للاعتبارية".
(5)
في (ك): "الفعل ".
(6)
قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. انظر:"التيسير"(ص: 92).
{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بل يكذِّبون الله تعالى بجحود آياته والاستهانة بكتابه، فتكذيبك تكذيبُه، ووَضْعُ
(1)
الظَّاهر موضعَ الضَّمير تسجيلٌ
(2)
عليهم بالظُّلم، وأنَّ جحودهم مسبَّب عن تمرُّنهم وإفراطهم في الظُّلم.
والالتفاتُ في اسم الله تعالى بيانٌ لعظم ما ارتكبوه، والباء لتضمُّن الجحود معنى التَّكذيب.
وقرئ: {لَا يُكَذِّبُونَكَ} بالتخفيف
(3)
، من أكذبه: إذا وجده كاذبًا، أو نَسَبه إلى الكذب، ومعنى كذَّبه: جعله كاذبًا في زعمه
(4)
.
روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذِّبك، وإنَّك عندنا لمصدَّق، وإنما
(5)
نُكذِب ما جئتنا به فنزلَتْ
(6)
.
* * *
(1)
في (ف): "وضع ".
(2)
في (م) و (ك): "للتسجيل ".
(3)
وهي قراءة نافع والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 102).
(4)
في "البحر المحيط"(9/ 121) تفريق جيد بينهما قال رحمه الله: "فقيل: هما بمعنى واحد نحو كثَّر وأكثر. وفيل: بينهما فرق، حكى الكسائي أنَّ العرب تقول: كذَّبت الرجل إذا نسبت إليه الكذب، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ". قلت: ولعل ما سيأتي في سبب النزول فيه إشارة لما ذهب إليه الكسائي.
(5)
في (ك): "وإنا".
(6)
عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 246) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. وانظر: "الكشاف"(2/ 18)، و"البحر المحيط"(9/ 123).
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التَّكذيب، ومبناها على وقوع التَّكذيب، فدلَّ هذا على أنَّ المعنى ما قدَّمناه
(1)
.
{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} ؛ أي: على تكذيبهم وإيذائهم، قياس
(2)
: واصبر كما صبروا؛ فإنَّ مع الصَّبر النَّصر.
{حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} فيه إيماء إلى وعد النَّصر للصَّابرين.
{ا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّه} ؛ أي: لمواعيده، من قولِه:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} الآياتِ الثلاث [الصافات: 171 - 173].
{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} ؛ أي: بعضُ أنبائهم وما كابدوا من مصابرة أعدائهم، ويجوز أن يكون الفاعل ضميرًا يعود على ما دلَّ عليه المعنى من الجملة السابقة؛ أي: ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرُّسل للرُّسل والصبر على الإيذاء إلى أن نُصروا، و {مِنْ نَبَإِ} في موضع الحال، وذو الحال ذلك الضمير.
* * *
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ} : شقَّ وثقلَ.
{عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} عمَّا جئْتَ به.
(1)
في (م) و (ك): "قدمنا".
(2)
في (م): "فقاس بهم ".
{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} : مَنفذًا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض فتُطْلع لهم آية.
{أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، أي
(1)
: مصعدًا تصعد به إلى السماء فتُنزل منها آية، جوابُ {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} محذوف، أي: فافعل، أي: إنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه وتهالُكه عليه السلام على إسلام قومه.
والشرطية جواب الشَّرط الأوَّل، {فِي الْأَرْضِ} صفةٌ لـ {نَفَقًا} ، أو متعلق بـ {تَبْتَغِيَ} ، وكذا {فِي السَّمَاءِ} صفة لـ {السَّمَاءِ} ، أو متعلق بالفعل.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} ولكن لم يشأ، فلا تتهالك على إيمانهم.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} : من الذين يجهلون ذلك وَيرومون خلافه؛ أي: لا تحرص على ما لا يكون، ولا تجزع في مقام الصبر، فإن ذلك من دأب الجهلة.
* * *
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، أي: لا يستجيب دعوتك إلى الإيمان إلا الذين يسمعون فيفهمون ويتدبَّرون، دون الموتى، وهؤلاء الذين تحرص على إيمانهم موتى، كقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80].
{وَالْمَوْتَى} استعار (الموتى) للجهَّال؛ لأنَّ العلمَ حياةُ القلب، فالذين لا يسمعون إنما لا يسمعون لأنَّ قلوبهم موتى بالحقيقة.
(1)
في (م) و (ك): "أو".
{يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} فيُعْلمهم حين لا ينفعهم الإيمان، وأنت لا تقدر على إعلامِهم.
{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء.
* * *
{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
(1)
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} مع كثرة ما أنزل إليه من الآيات، لعدم اعتدادهم بها عنادًا كأنه لم ينزل عليه شيء، أو آيةٌ مما اقترحوها
(2)
.
{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ} وقرئ بالتشديد
(3)
، على أن نزَّل بمعنى أنزل.
{آيَةً} مما
(4)
اقترحوا، أو: آيةً إن جحدوها أخذهم العذاب، وهو من لوازم الآيات الملجئة
(5)
.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ اللّهَ تعالى قادر على إنزالها، ولكن يفعل على مقتضى حكمته.
* * *
(1)
في جميع النسخ: "أنزل"، والمثبت موافق للتنزيل، ولم أجد قراءة توافق ما وقع في النسخ.
(2)
في (ك): "بما اقترحوا".
(3)
قرأ بالتخفيف ابن كثير، وقرأ الباقي بالتشديد. انظر:"التيسير"(ص: 75).
(4)
في (ك): "بما".
(5)
في هامش (ف): "رد لمن أخذه مقابلًا لها. منه ".
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: تستقرُّ فيها، وفائدته: تحقيق المقابلة بينها وبين قرينها المقابل، فإن بعض الطير
(1)
يتحرك على وجه الأرض إلا أنه لا يستقرُّ فيها
(2)
.
{وَلَا طَائِر} وقرئ بالرفع على المحل
(3)
.
{يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} تصوير لتلك الهيئة الغريبة الدَّالة على القوَّة الباهرة، والمقامُ مقامُ بيانِ كمالِ قدرته تعالى.
وقيل: إنَّه لقطعِ مجازِ السُّرعة، وقيل: للتَّعميم.
ويَرِدُ عليهما أنَّه لو قيل: (ولا طائرٍ في السماء) لكان أَخصرَ
(4)
، وفي إفادة ذَيْنِكَ الأمرين
(5)
أظهر، مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينين بذكر جهة العلوِّ في أحدهما وجهة السُّفل في الآخر.
{إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} محفوظةٌ أحوالُها، مقدَّرةٌ
(6)
أرزاقُها وآجالُها، والمقصودُ من ذلك: بيانُ كمالِ قدرته، وشمول علمه، وسعة تدبيره؛ ليكون كالدَّليل على أنه قادرٌ على أن ينزل آية، وحُمل {أُمَمٌ} على المعنى فجُمِعَ تقويةً للعموم المستفاد من وقوع النَّكرة في سياق النَّفي مصحوبة بـ {مِنْ} التي تفيد الاستغراق.
(1)
في (م) و (ك): "الطائر".
(2)
في هامش (ف): "لا يلزم أن يكون لازمًا مساوياً لها حتى لا يصح المقابلة. منه ".
(3)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "الكشاف"(2/ 21)، و"البحر المحيط"(9/ 141).
(4)
في هامش (ف): "لو قيل: في السماء، لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم يجوز أن يقصد التصور مع قطع المجاز أو التعميم إذ لا تمانع. منه ".
(5)
في (ح) و (ف): " للأمرين ".
(6)
في (ف): "مقررة ".
ولمَّا دل بها على كمال قدرته وإحاطة علمه، أوعدهم على ما فَرَط منهم من الإنكار بقوله:
{مَا فَرَّطْنَا} وقرئ بالتَّخفيف
(1)
{فِي الْكِتَابِ} ؛ أي: ما أغفلنا وما أهملنا في اللَّوح المحفوظ.
{مِنْ شَيْءٍ} ما لم
(2)
نكتبْهُ ولم نبيِّنْه، أيَّ شيء كان، فلا بدَّ من كتابة أعمالكم وعقائدكم وأحوالكم.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} ؛ أي: إلى ذلك القادر لا إلى غيره.
{يُحْشَرُونَ} كلُّهم فيجازيهم، وإنما أجريت مجرى العقلاء لإطلاق الأمم عليهم، أو غلَّبَ العقلاء لكونهم المقصودين.
و {مِنْ} مزيدة، و {شَيْءٍ} في موضع المصدر، أو مفعولٌ به على تضمين فرَّط معنى أهمل أو أغفل.
والمقصود: أنَّ مَنْ يضبطُ أحوالَ الدَّوابِّ والطَّير كلِّها وأعمالَها، ويحشرها
(3)
فيُنصف بعضها من بعضٍ - كما روي أنه يأخذ للجمَّاء من القرناء
(4)
- ويجازي كلَّها، كيف يهملكم سُدًى
(5)
.
وقيل: حشرُها موتها.
(1)
نسبت إلى علقمة. انظر: "الكشاف"(2/ 21)، و"البحر المحيط"(9/ 145).
(2)
في (م): "مما لم ". وسقطت "لم " من (ف).
(3)
"ويحشرها": ليست في (م) و (ك).
(4)
رواه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ".
(5)
"سدى" من (ك) و (م).
ويردُّه أنَّ الحشرَ بعثٌ من
(1)
مكانٍ إلى آخر، وتعديتُه بـ {إِلَى} تنصيصٌ على هذا المعنى.
* * *
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} خبرٌ ثالثٌ كناية عن عمَى البصيرة، ناظر
(2)
إلى {عُمْيٌ}
(3)
في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وهذا أبلغ إن
(4)
جعلت {الظُّلُمَاتِ} ظرفًا لهم، وجُمِعَتْ لاختلاف جهات الضلالة من الكفر والجهل والعناد والتقليد.
ولمَّا لخص من الدلائل القاطعة على ربوبيته وقدرته وعظمته، ووجوبِ التَّيقظ لِمَا أَوْعدَ عليه، والإقرارِ به وبالحشر= قال: والمكذِّبون بآياتنا صمٌّ وإلا
(5)
سمعوا كلام المنبِّه فاستيقظوا ورجعوا، وبُكْمٌ وإلا نطقوا بالإقرار بالحقِّ، خابطون في ظلمات أنواع الضَّلالة فلا ينتهون
(6)
لذلك ولا يتأمَّلون ويتفكرون
(7)
(1)
في (م) زيادة: "كل ".
(2)
في (م): "ناظرًا".
(3)
أي: واقع موقعه.
(4)
في (ك) و (م): "إذا ".
(5)
في (ح): "فما".
(6)
في (م): "يتنبهون ".
(7)
في (م): "ولا يتفكرون".
فيه، ثم أكَّد ما بيَّن
(1)
مِنْ شدَّة جهلهم وعميهم
(2)
واحتجاجهم بقوله:
{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} إيذانًا بأنهم من أهل الطَّبع والختم، ومَن يُضللِ الله فلا هادي له
(3)
.
{وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كان الظاهر أن يقال:
(4)
ومَن يشأ يَهْده، وإنما عدل عنه لأن هدايته تعالى - وهي إرشاد إلى الهدى - غيرُ مختصَّة ببعضٍ دون بعضٍ، بل عامَّةٌ للكلِّ.
* * *
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} : أخبِروني، لمَّا كان العلم سببَ الإخبار وضعَ طلبَ العلم موضعَ طلبِ الخبر، فصورتُه استفهامٌ، ومعناه الأمر، لاشتراكهما في الطَّلب.
والكاف حرف الخطاب، أكّد به الضَّمير للتأكيد، لا محل له من الإعراب، والفعل معلَّق، أو المفعول محذوف تقديره: أرأيتكم آلهتكم تنفعُكم إذ تدعونها.
{إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} تعالى كما أتى مَنْ قبلَكم.
{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} : هولُها.
{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} تبكيتٌ لهم.
(1)
في (ح): "بينه ".
(2)
في (ف): "عمهم "، وفي (ح):"عمههم ".
(3)
"فلا هادي له" من (ك) و (م).
(4)
في (م) و (ك): "يقول ".
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} أنَّ الأصنام آلهة، وجوابه محذوف؛ أي: فادعوه.
* * *
(41) - {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} .
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : بل تخصُّونه بالدُّعاء، كما حكي عنهم في مواضع، وتقديم المفعول للتَّخصيص.
{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وأرادَ أن يتفضَّل عليكم.
{وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} ؛ أي: آلهتكم التي تشركونها به تعالى، لمَا ركز في العقول أنَّه القادر على كشف الضُّرِّ دون غيره.
* * *
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} ؛ أي: قبلك، و {مِنْ} زائدة.
{فَأَخَذْنَاهُمْ} الفاء فصيحة؛ أي: كذَّبوا فكفروا
(1)
الرُّسل فأخذناهم، والأخذُ: الإمساكُ بقوَّة وقهر، والمراد هاهنا مبالغةُ العقوبة والملازَمة
(2)
.
{بِالْبَأْسَاءِ} : البؤسِ والشدَّة
(3)
كالقحط والفقر.
{وَالضَّرَّاءِ} : الضرِّ والآفات؛ وهما صيغَتا
(4)
تأنيثٍ لا مذكَّر لهما.
(1)
" فكفروا " من (ك) و (م). وفي "تفسير البيضاوي"(2/ 162): (أي: فكفروا وكذبوا المرسلين فأخذناهم).
(2)
في (م): " والملامة ".
(3)
في (م): "الشدة".
(4)
في (ح) و (ف) و (ك): "صفتا"، وسقطت "وهما" من هذه النسخ، والمثبت من (م).
{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} : يتذلَّلون لنا، ويتوبون عن الذُّنوب؛ فإنَّ البلاء يليِّن القلوب.
* * *
{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} معناه: نفي التَّضرُّع في ذلك الوقت مع قيام
(1)
الدَّاعي وعدم المانع، وذلك أنه لما جاء بـ {فَلَوْلَا} التَّحضيضيَّةِ الدَّاخلة على الماضي للتَّنديم دلَّت على أنه
(2)
لا مانع لهم من التَّضرع الذي اقتضاه الحال، ولما كان التَّضرع مِن لِين القلب كان المعنى: لم يتضرَّعوا ولم يَلينوا
(3)
، فاستدرك بقوله:{وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فالاستدراك عن كلامٍ غير ملفوظٍ، بل مدلول عليه معنًى.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: لا مانع لهم من التَّضرع إلَّا قسوةُ قلوبهم، وشدَّةُ شكيمتهم في عنادهم، وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها لهم الشيطان.
* * *
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} من البأساء والضَّراء؛ أي: تركوا الاتِّعاظ به ولم ينزجروا.
(1)
"قيام "سقط من (ك).
(2)
في (م) و (ك): "أن ".
(3)
في (ف) و (ك): "لم يلينوا"، وفي (ح):"ويلينوا"، والمثبت من (م).
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} المراد بـ {كُلِّ شَيْءٍ} : التَّكثيرُ، دون التَّعميم، كما في قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23].
والفتحُ المذكور تعبيرٌ عن تيسير مطالبهم الدُّنيويَّة؛ أي: امتحنَّاهم بالضرَّاء والسرَّاء، وابتليناهم بالشدَّة والرَّخاء؛ مخاشنةً
(1)
وملاطفةً؛ إلزامًا للحجَّة وإزاحةً للعلَّة.
ويجوز أن تكون التَّوسعة عليهم مكرًا واستدراجًا؛ لِمَا روي في "مسند أحمد بن حنبل" عن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيْتَ اللهَ يعطي العبدَ مِنَ الدُّنيا على معاصيه ما يحبُّ فإنَّما هو استدراج "، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية
(2)
.
فالتَّوسعة قهرٌ خفيٌّ في صورة اللُّطف، كما أنَّ الأخذ بالبلاء لطفٌّ خفيٌّ في صورة القهر.
وقرئ {فَتَحْنَا} بالتَّشديد
(3)
، للتَّكَثير.
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} : بَطِرُوا وأُعجِبُوا
(4)
{بِمَا أُوتُوا} من النِّعَم.
{أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ؛ أي: أهلكنا هم فجأة، وهو أشدُّ الإهلاك، إذ لم يتقدَّم شعورٌ به فتُوطَّنَ النَّفس على لقائه.
(1)
في (ح) و (ف): "محاسنة".
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(17311)، والطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 330)، وحسَّن إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (ص: 1477).
(3)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 102).
(4)
في (ح) و (ف): "وعجبوا ".
{فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} المُبْلِسُ: الشَّديدُ الحسرة، والبائس الحزين.
* * *
(45) - {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} : استؤصلوا ولم يبقَ منهم أحد.
والدَّابر: التَّابع للشَّيء مِن خلفه، يقال: دَبَرَ الولدُ الوالدَ يَدْبُرُه دبرًا ودُبورًا
(1)
: إذا تَبِعه، ووُضع {الَّذِينَ ظَلَمُوا} موضع الضمير للتسبُّب
(2)
، أي: حَقَّ عليهم الدَّمار والعذاب بسبب تمادي ظلمهم وتناهيهِ حتى
(3)
لم يبقَ لهم مطمع في صلاحهم.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} على إهلاكهم، وفيه إيذان بأن إهلاك الظَّلمة من أجَلِّ النِّعَم وأحقِّها بأن يُحْمَد عليه؛ لأن وجودهم في الخلق بلاءٌ وعناءٌ، وشرُّهم متعدٍّ ومفسدةٌ دينًا ودنيا، فتخليص المؤمنين من شؤم أعمالهم وعقائدهم خيرٌ عظيمٌ ونعمةٌ سَنيَّةٌ.
* * *
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} لمَّا كان هذا التَّهديد أخفَّ من التَّهديد السَّابق اكتفى هنا بخطاب الضَّمير، ولم يؤكِّد بحرف الخطاب كما أكَّد
(4)
ثمَّة.
(1)
"ودبورًا" زيادة من (ك).
(2)
في (ك): "للتسبيب ".
(3)
في (ك): "حين ".
(4)
في (م) و (ك): " أكده ".
{سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} ؛ أي: أصمَّكم وأعماكم.
{وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} : غطَّى عليها ما يُذهِبُ فهمَكم وعقلَكم.
{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} ؛ أي: بذلك، إجراءً للضَّمير مجرى اسم الإشارة، أو: بما أَخَذ وختم عليه، أو بأحد هذه المذكورات.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نكرِّرها متنوعةً؛ تارة بالمقدِّمات والحجج العقليَّة، وتارة بالوعد والوعيد والتَّرغيب والتَّرهيب، وتارة بالتَّنبيه والتَّذكير بأحوال الأمم الماضية.
{ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} : يُعرضون
(1)
، و {ثُمَّ} لاستبعاد الإعراض عن الآيات بعد تصريفها وظهورها، ولذلك قدَّم الضَّمير على الفعل المضارع وصيَّر الجملة اسمية؛ أي: هم المكرَّر عليهم الآيات متنوعةً لا غيرهم، يجدِّدون الإعراض دائمًا مع تجدُّد التَّصريف، فما أبعد حالهم عما فعلنا بهم!
* * *
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} لمَّا كان التَّهديد شديدًا جمعَ بين أداتَي الخطاب.
{إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} لمَّا كانت البغتة هجومَ الأمر من غير ظهورِ أَمَارة وشعورٍ به تضمَّنَتْ معنى الخفيَة، فصحَّ مقابَلتها للجهرة، وبُدئ بها لأنها أردع من الجهرة، وإنَّما لم يقل:(خُفْيَة)؛ لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى، وقرئ بواو الجمع
(2)
.
(1)
"يعرضون" من (م) و (ك).
(2)
أي: بالواو العاطفة. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 64).
{هَلْ يُهْلَكُ} معنى الاستخبارِ النَّفيُ؛ أي: ما يُهلك به هلاك سخط وقهر {إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} بالإعراض عن الآيات عنادًا؛ لاستحقاقهم ذلك بإلزام
(1)
الحجَّة وإزالة العذر.
وقرئ: (يَهْلِكُ)
(2)
من هلك.
* * *
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} للمطيعين بالجنَّة {وَمُنْذِرِينَ} للعاصين بالنَّار، وانتصابُهما على الحال، وفيهما معنى العِلِّيَّة؛ أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار، لا لأنْ يُقْترَحَ عليهم
(3)
ويُسْتَهزأَ بهم.
(4)
يجب إصلاحُه مما شُرعِ لهم.
{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من العذاب {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بفوات الثَّواب.
* * *
(49) - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} جعل العذاب ماسًّا كأنه حيٌّ يَطلُبُ إيلامَهم بالوصول إليهم، واستغنى بالتَّعريف عن التَّوصيف.
(1)
في (ف): " بالإلزام ".
(2)
نسبت لابن محيصن. انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 293)، و"الكشاف"(2/ 24).
(3)
أي: أن يقترح الكفار عليهم الآيات. انظر: "البحر المحيط"(9/ 68).
(4)
في (م): "أي ما"، وفي (ك):"أي ".
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بسبب خروجهم عن التَّصديق والطَّاعة.
* * *
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} : جمع خزينة وخِزانة، وهي ما يُخْزن؛ أي: يُحْرز ويحفظ بحيث لا تناله الأيدي، وخزائن الله تعالى: مقدوراتُه؛ أي: لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه
(1)
، وليس المراد التَّبرِّيَ عن دعوى الألوهية وإلَّا لقيل: لا أقول لكم إنِّي إله، كما قيل:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، وأيضًا في الكناية عن الألوهيَّة
(2)
بـ {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّه} ما لا يَخْفَى من البشاعة، بل هو جوابٌ عن اقتراحهم عنه عليه السلام أن يوسِّع عليهم خيرات الدنيا.
{وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} عطف على {وَلَا أَقُولُ} ، فليس معمولًا له بل للأمر، ولذلك احتيج إلى إعادة {وَلَا أَقُولُ} في قوله:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فإنَّه على تقدير العطف على {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} لا حاجة إلى إعادته، وإنما لم يأتِ فيه بنفي القول للفرق الدَّقيق بينه وبين قرينه، وهو أن مفهومَي {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} و {إِنِّي مَلَكٌ} معلومان عند النَّاس فلا حاجة إلى نفيهما، إنَّما الحاجة
(3)
إلى نفي ادعائهما
(4)
تبرُّؤًا عن الدَّعوى الباطل بخلاف مفهوم {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ، فإنَّه كان مجهولًا عندهم، بل
(1)
في (ح) و (ف): " اقترحوه ".
(2)
في (ح) و (ف): "عن دعوى الألوهية"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 65)، و"روح المعاني"(8/ 173).
(3)
"إلى نفيهما إنما الحاجة" زيادة من (م) و (ك).
(4)
في (ك) و (م): "إعادتهما "، وفي هامش (م) نسخة:" ادعايتهما ".
كان الظَّاهر من حاله عليه السلام الاطِّلاعَ على الغيب، فلذلك نسبوه إلى الكهانة، فالحاجة هنا إلى نفيه.
ثمَّ إنَّ هذا النَّفي تضمَّن الجواب عن قولهم: إنْ كنْتَ رسولًا فأخبِرْنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضارِّ، فنستعدَّ
(1)
لتحصيل تلك ودفع هذه.
ونفيُ دعوى الملَكيَّة تضمَّن الجواب عن قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7].
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} في الدَّعاوى والأحكام
(2)
والإخبارات، ففيه تتميمٌ لِمَا قدَّمه
(3)
من نفي الأمور الثَّلاثة، وبيانُ أنَّ منزلته
(4)
الرِّسالةُ التي هي أقصى المنازل البشرية.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} مثلٌ للضَّال والمهتدي، أو العالم والجاهل، أو لمدَّعي المحال كالملَكية ومدَّعي الممكن الصَّحيح كالنُّبوة.
{أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} فتهتدوا كالبصير، ولا
(5)
تكونوا ضالِّين كالأعمى، أو: فتعلموا أنِّي ما ادَّعيت إلا ما يصحُّ للبشر، وأنَّ اتِّباع الوحي واجبٌ، فتكونوا بُصراءَ لا عميانًا.
* * *
(1)
في (ك): "فتستعد".
(2)
في (م): " في الدعوى والأحكام "، وفي (ف):"في الدعاوى من الأحكام ".
(3)
في (م) و (ك): "تقدم ".
(4)
في (ف) و (ح): "منزلة".
(5)
"لا"سقط من (ك).
{وَأَنْذِرْ بِهِ} ؛ أي: بما يُوحي.
{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : هم المقرُّون بالبعث من المؤمنين المقصِّرِين في العمل، أو من أهل الكتاب، أو المتردِّدون
(1)
فيه كالمشركين المستعدِّين الذين علم الله تعالى أن ينجع فيهم، دون المنكرين الجازمين بانتفائه.
{لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} في موضع النصب على الحال من {يُحْشَرُوا}
(2)
؛ أي: يخافون أن يحشروا غيرَ منصورين من أحد من دون الله تعالى، ولا مشفوعًا لهم.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يحذرون سوء العاقبة، فيعملون عمل أهل التَّقوى، أو يؤمنون فيتَّقون.
ولمَّا أمر بالإنذار غيرَ المتَّقين ليتَّقوا، أمرَ بإكرام المتَّقين
(3)
وتقريبهم؛ تكميلًا لأمر التَّحريض على التَّقوى بالتَّرهيب والتَّرغيب، فقال:
{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} وقرأ ابن عامر وحده بضم الغين وإسكان الدال وإثبات واوٍ
(4)
بعدها
(5)
، وفيه أنَّها معرفة، ولو كانت نكرةً لجاز فيها الإضافة كما جاز: غداة يوم الجمعة.
(1)
في (ك) و (م): " المترددين ".
(2)
أي: من الضمير فيه، وهو الواو. ولفظ المؤلف منقول من "الكشاف"(2/ 26).
(3)
"ليتقوا أمر بإكرام المتقين" سقط من (ف)، و (ح).
(4)
في (م): "الواو".
(5)
انظر: "التيسير"(ص: 102).
وقال أبو علي الفارسي: الوجه: الغداة؛ لأنها تستعمل نكرة وتعرَّف باللام، وأما غُدْوةٌ فمعرفة أبدًا، وهو عَلَمٌ صيغ له
(1)
.
وقال ابن خالويه في توجيهه: إن العرب تُدخل الألف واللام على المعرفة إذا جاؤوا بما فيه الألف واللام؛ ليزدوج الكلام
(2)
، قال الشاعر:
رأيتُ
(3)
الوليد بن اليزيد مباركًا
(4)
فأدخل الألف واللام على (اليزيد) لمَّا جاور (الوليد).
ومنهم مَن قال: إنها
(5)
إنما تكون معرفة إذا أردتَ غدوةَ نهارك، وهاهنا لم يُردْ ذلك، وكان التعريف جنسيًّا
(6)
.
وقال الجوهري: سِير على فرسِكَ غُدْوَةَ وغُدْوَةً [وغُدْوَةُ وغُدْوَةٌ] فما نوِّن من هذا فهو نكرة، وما لم ينوَّن فهو معرفة
(7)
.
{وَالْعَشِيِّ} ، أي: يعبدون الله تعالى دائمًا، فإنَّ المراد من (الغداة والعشي): الدَّوام على أكثر استعمالهما.
وقيل: يصلُّون الصُّبح والعصر.
(1)
انظر: "الحجة للقراء السبع" لأبي علي الفارسي (3/ 319).
(2)
انظر: "الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه (ص: 140).
(3)
في (ف) و (ح): " وجدنا ".
(4)
صدر بيت لابن ميادة، انظر:"ديوانه"(ص: 192)، وعجزه:
شديدًا بأعباء الخلافة كاهلُه
(5)
"إنها"ليست في (ك).
(6)
في (م): "حينًا".
(7)
انظر: "الصحاح"(مادة: غدا) وما بين معكوفتين منه.
وقَّت دعوتهم بالغداة والعشي؛ لأنها من الأعمال الظَّاهرة وهي مؤقَّتة، وأدام إرادتهم، فاستغرقت جميع أوقاتهم؛ لأنها من الأحوال
(1)
الباطنة، وهي مؤبَّدة.
{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} لا دنياهم بكرائمها، ولا عُقباهم بعظائمها، والوجه يعبَّر به عن ذات الشيء وحقيقته، والمراد بإرادة وجه الله تعالى: الإخلاص، رتَّب النَّهي على مواظبتهم على دعاء ربهم وعبادته مع الإخلاص؛ إشارة إلى أنها الموجِبةُ لإكرامهم، وأن مِلاك الأمر في العبادة الإخلاص، فلا يعتبَر بدونه.
لمَّا قصّر لهم لسان المعارَضة سكتوا متضرِّعين بقلوبهم بين يدي الله تعالى، داعين له بحسن الابتهال، فتولَّى سبحانه وتعالى خصومَتهم فقال:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ} إلخ
(2)
: لا تنظر يا محمَّد إلى خِرقتهم
(3)
على ظواهرهم، وانظر إلى حُرقتهم في سرائرهم، كانوا مستورين فشهَرهم الله تعالى.
قال الإمام أبو منصور: ذهب عامَّة أهل التَّأويل إلى أن النبيَّ عليه السلام همَّ بطرد فقراء المسلمين طمعاً في إسلام رؤساء المشركين، فعاتبه الله في ذلك وأنزل
(4)
عليه هذه الآية. ولكنَّه بعيدٌ سمجٌ، ينسبون النبيَّ عليه السلام إلى أقبح فعلٍ وأوحشه، ولا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقرِّب الأعداء ويبعد الأولياء، ولو فعل ذلك لوجد الكفرة عليه مطعناً، يقولون: يدعو الناس إلى الإيمان والتَّوحيد
(1)
في (ف) و (ك) و (ح): "أحوال"، والمثبت من (م).
(2)
في (ح): "الآية".
(3)
في (ف) و (م): "حرفتهم"، وفي (ح):"حرقتهم". والمثبت من (ك) وهو الموافق لما في "لطائف الإشارات"(1/ 475).
(4)
في (ح) و (ف): "رؤساء المشركين فأنزل الله".
والاتِّباع له
(1)
، فإذا فعلوا ذلك وأجابوه طردهم وأبعدهم، هذا لَعمري مدفوعٌ في عقل كلِّ عاقل، ولكن يجوز أن يكون طلبَ ذلك منه أولئك، فأمَّا أنْ يهمَّ هو به فلا، ويجوز أن يكون هذا من الله تعالى ابتداءَ تأديب وتعليم له في صحبة
(2)
أصحابه رضي الله عنهم ومعاملتهم، وإخباراً عن قَدْرهم عنده
(3)
.
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} كقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}
(4)
[الشعراء: 113].
وذلك أن المشركين طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فشهد
(5)
الله تعالى لهم بالإخلاص، وقال لنبيه عليه السلام: ما عليكَ من حسابهم من شيءٍ كما لا عليهم من حسابكَ من شيءٍ؛ أي: لا يلزمُك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم
(6)
بعد اتِّسامهم بسيرة المتَّقين وصلاحِ ظواهرهم، إنما ذلك على الله تعالى أو عليهم، أَخلصوا أو لم يُخلصوا لا عليك، فحالهم في ذلك بالنسبة إليك كحالك بالنسبة إليهم سواءً لا يتعدَّى ذنب أحد إلى صاحبه؛ كقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فالجملتان في تأدية المعنى المراد بمنزلة جملة واحدة.
وقيل: حساب رزقهم؛ أي: فقرهم.
(1)
"له" سقط من (ح) و (ك).
(2)
في (ف): "صحبته".
(3)
انظر: "تفسير الماتريدي"(4/ 91).
(4)
"لو تشعرون": ليست في (م) و (ك).
(5)
في (م): "وشهد".
(6)
"وإخلاصهم" من (م).
وقيل الضمير للمشركين؛ أي: لا يؤاخَذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يَهمَّك إيمانهم فتطرد المؤمنين لأجلهم.
{فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النَّفي؛ أي: ما عليك شيء من حسابهم فتطردهم.
{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} جواب النهي؛ أي: ولا تطردهم فتكون من الظالمين، وجوِّز
(1)
عطفُه على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التَّسبُّب، ولا يساعده المعنى فإن الطرد إنما يستقيم جواباً للنَّفي على تقدير أن يكون حسابهم عليه، وحينئذ لا يكون سبباً للظلم إلَّا أن يُقدَّرَ: فتطردهم بقول المشركين.
* * *
{وَكَذَلِكَ} ؛ أي: مثلَ ذلك الفَتْنِ العظيم، وهو اختلاف أحوال النَّاس في الدُّنيا {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}؛ أي: ابتلينا بعضَ النَّاس ببعض، فقدَّمنا فقراء المسلمين على أشراف قريش بالسَّبْقِ إلى الإيمان.
{لِيَقُولُوا} ؛ أي: ليقول المشركون، اللام للعاقبة، وإنْ ضمِّن (فتناهم) معنى: خذلناهم، فللتعليل
(2)
على أصل القائلين بصحة تعليل أفعاله تعالى بالأغراض؛ أي: خذلناهم مفتونين ليقولوا، فكان افتتانُهم سبباً لهذا القول، فإنَّه لا يقوله إلا مفتون مخذول.
(1)
"جواب النهي أي ولا تطردهم فتكون من الظالمين وجوِّز" سقط من (ف) و (ح)، وفيهما بدلا منه:"ويجوز"، والمثبت من (م) و (ك).
(2)
في (م): "فالتعليل".
{أَهَؤُلَاءِ} إشارة إلى أولئك المؤمنين واستحقارٌ لهم، كقولهم:{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41].
{مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} ؛ أي: أنعم الله عليهم من بيننا
(1)
بالتَّوفيق لمَا يُسْعِدهم عندَه من الإيمان وإصابة الحقِّ من دوننا، ونحن الرُّؤساء والمقدَّمون، وهمُ الضُّعفاء والعبيد؟ وهو إنكار منهم لأن يكون أمثالهم على الحقِّ وممنوناً عليهم بالخير دونهم، كقولهم:{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11].
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الاستفهام للتقرير؛ أي: الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفِّقه لذلك، وبمن لا يقع منه فيخذله.
* * *
{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} هم الذين يَدْعون ربهم، وصَفهم بالمواظبة على الطَّاعة، ثمَّ بالإيمان بالله وآياته من الحجج والبيِّنات بعد النَّهي عن طردهم، ثم أمَره عليه السلام بقوله:
{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} بأنْ
(2)
يبدأ بالتسليم عليهم، أو يبلِّغَ سلام الله تعالى إليهم، ويبشِّرهم بسَعَة رحمته وفضله عليهم، وأن الله تعالى التزم لهم ذلك إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلَتِي العلم والعمل، ومَن كان كذلك وجب إعزازه وإكرامه، وأن يبشَّر مِنَ الله تعالى بالسَّلامة في الدُّنيا والرَّحمة في الآخرة.
(1)
"أي: أنعم الله عليهم من بيننا" سقط من (ك).
(2)
في (ح) و (ف): "بأنه".
وقيل: إنَّ قوماً جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّا أصبنا ذنوباً عظاماً، فلم يردَّ عليهم شيئاً، فانصرفوا، فنزلَتْ
(1)
.
{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} استئناف وتفسير للرَّحمة
(2)
، وقرئ بالفتح
(3)
على البدل منها.
{بِجَهَالَةٍ} في موضع الحال؛ أي: عملَه وهو جاهل، أو ملتبساً بجهالة.
{ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} : مِن بعد العمل السُّوء.
{وَأَصْلَحَ} بالتَّدارك والعزم على أن لا يعود إلى مثله.
{فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فتَحه مَن فتَح الأول
(4)
- غير نافع
(5)
- على إضمار مبتدأ أو خبر؛ أي: فأمرُه أو: فله غفرانُه
(6)
.
* * *
(55) - {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} .
{وَكَذَلِكَ} : مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّن {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} : آياتِ القرآن في وصف المطيعين والمجرمين، الأوَّابين منهم والمصرِّين.
(1)
روى نحوه الطبري في "تفسيره"(11/ 390).
(2)
في (م) و (ك) و (ح): "تفسير الرحمة".
(3)
وهي قراءة عاصم وابن عامر ونافع ويعقوب. انظر: "التيسير"(ص: 102)، و"النشر"(2/ 258).
(4)
في (م) و (ك): "الأولى".
(5)
يعني أن نافعاً قرأ بالكسر. انظر: "التيسير"(ص: 102).
(6)
انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي (3/ 312)، وفيه شرح هذا الكلام حيث قال: (وأمّا فتحها بعد الفاء من قوله: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فعلى أنَّه أضمر له خبراً تقديره: فله أنَّه غفور رحيم، أي: فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون أنَّ خبره، كأنَّه فأمره أنَّه غفور رحيم".
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} استبان يجيء لازماً ومتعدياً كتبيَّن، وقرئ بالتاء والياء مع رفع السَّبيل؛ لأنها تذكر وتؤنث، وقرئ بالتاء ونصب السبيل على خطاب الرَّسول عليه السلام
(1)
.
وهو إمَّا عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ؛ أي: ليَظهر الحقُّ ولتستبين، أو علةٌ لمحذوفٍ؛ أي: ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلنا ذلك التَّفصيل.
واكتفى بذكر {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ليتبيَّن سبيلُ غيرهم منه، ولم يعكس؛ لأنَّ ذِكْرَه أهمُّ، والنَّفس إلى التَّرهيب أطوع منها إلى التَّرغيب.
* * *
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} صُرِفْتُ وزُجِرْتُ بنور فطرتي وصفاء عقلي، وبما أُوْحِيَ إليَّ ونُصِبَ لي من الدَّلائل {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: عن
(2)
عبادة ما تعبدون من دون الله أو تدَّعونها آلهة.
{قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} تأكيدٌ لقطع أطماعهم، واستجهالٌ لهم، واستركاكٌ لعقولهم، وإشارةٌ إلى علَّة النَّهي ومُوجِب الامتناع عن مشايعتهم
(3)
، وبَيانٌ لسبب
(1)
قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالياء والباقون بالتاء، وقرأ نافع:(سبيلَ المجرمين) بنصب اللام والباقون برفعها. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(2)
في (م) و (ك): "من".
(3)
في (م): "متابعتهم".
ضلالتهم، وذمٌّ لطريقتهم، وأنَّ ما هم عليه مجرَّد هوًى فارغٌ عن
(1)
الدَّليل، مخالفٌ لمقتضى
(2)
العقل، ومعنى:
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} إن اتَّبعتكم فقد ضللت؛ لأنَّه مركوزٌ في العقل أنَّ كلَّ من اتَّبعَ الهوى فهو ضالٌّ، وفيه تنبيهٌ على أنَّ كلَّ مَنْ طلبَ الحقَّ فلْيَجتنبِ الهوى، وليتمسَّك بالحجَّة، وليلزم طريقَ العقل فإنه الهدى، ثمَّ أكَّده بقوله:
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} على الجملة الاسميَّة الدَّالة على المنافاة الكليَّة بين متابعة الهوى والهدى، مع المبالغة بناءً على أنَّ {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أبلغ من: مُهتدٍ، وهو أبلغ من اهتدى، وأنَّ القيدَ دخلَ النَّفيَ؛ أي: وما أنا من الهدى في شيء ما دمْتُ أنا أنا؛ يعني: أنتم كذلك، وفيه غايةُ التَّنفير عن طريقتهم.
ولما بالغ في نفي كون الهوى متَّبعاً نبَّه على ما يجبُ اتِّباعه بقوله:
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} البيِّنة: الحجَّة الواضحة التي تفصِل الحقَّ عن الباطل، فقَيْدُ الوضوح معتبرٌ في مفهومِها، لا مستفادٌ من التَّنكير، وهي أعمُّ من أن تكون وحياً، أو دليلاً عقليًّا، أو كشفاً.
{مِنْ رَبِّي} متعلِّقٌ بالظَّرف، أو صفةٌ لـ {بَيِّنَةٍ}؛ أي: إنِّي من معرفةِ ربي ووحدانيَّته على يقين وحجَّة واضحة.
(1)
في (م): "من".
(2)
في (ح) و (ف): "مقتضى".
{وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} ؛ أي: بربي حيث أشركتم به غيره، أو بالبيِّنة حملاً على المعنى، وهو القرآن.
{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} ؛ يعني: العذابَ الذي استعجلوه بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} في تأخير العذاب، لا لي، وإلَّا عجَّلته.
{يَقُصُّ الْحَقَّ} في كلِّ ما يرجعُ إليه
(1)
من التَّعجيل والتَّأخير، {الْحَقَّ} صفة للمصدر؛ أي: القضاءَ الحق، أو مفعولٌ به؛ أي: يصنعُ الحقَّ، من قولهم: قضى الدِّرع: إذا صنعها، فيرجع إلى القراءة الثَّانية معنى.
قال الزَّجَّاج: هذه كتبت هاهنا بغير ياء على اللَّفظ؛ لأن الياء سقطت لالتقاء السَّاكنين، كما كتبوا:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18]
(2)
.
وقرئ: {يَقُصُّ الْحَقَّ}
(3)
؛ أي: يَتَّبع ما هو الحقُّ، مِن قصَّ أثرَه: إذا اتَّبعه
(4)
، لا من قصَّ الخبر؛ لعدم ملاءمته ما في السِّباق واللحاق من الحكم والفصل.
{وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} ؛ أي: القاضِينَ، وأصل القضاء: الفَصْلُ بين الحقِّ والباطل.
* * *
(1)
في (ف) و (ح): "به".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 256) ..
(3)
هي قراءة عاصم ونافع وابن كثير، وقرأ باقي السبعة بالأولى، أي:(يقضِ). انظر: "التيسير"(ص:103).
(4)
في (م): "تبعه".
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي} ؛ أي: في قدرتي ووسعي
(1)
{مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب.
{لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} : لأهلكتُكم عاجلاً غضباً
(2)
لربي، وانقطع ما بيني وبينكم، استعظامٌ
(3)
لتكذيبهم؛ أي
(4)
: أنتم إذ كذَّبتم بما هو أبينُ شيءٍ أحِقَّاءُ بأن تغافَصْتُم
(5)
بالعذاب المستأصِل، لكنَّه لا قدرةَ لي، ولو كان عندي أشدُّ العذاب لأوقعْتُه بكم
(6)
معجَّلاً.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} تسجيلٌ عليهم بأنَّ الشِّركَ الذي هم عليه أعظمُ
(7)
الظُّلم، والظُّلم مُوجِبٌ لاستحقاق العذاب، لكنَّ اللهَ أعلمُ بما يجب من عذابهم وبوقته
(8)
.
* * *
(1)
في (ح) و (ف): "ووسعتي".
(2)
في (ك): "لأهلكنكم غضباً عاجلاً"، والمثبت من باقي النسخ و"الكشاف"(2/ 30).
(3)
في (ح): "استعظاماً".
(4)
في (ف) و (ح): "إذ".
(5)
في (م): "بأن يعاجلكم". وانظر: "الكشاف"(2/ 30). والمغافصة: الأخذ على غِرَّةٍ.
(6)
"بكم": ليست في (م) و (ك).
(7)
في (م) و (ك): "أظلم".
(8)
في (ف) و (ح): "يوقته".
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} المفاتح: جمع مَفْتَح بفتح الميم، وهو المخزن الذي يُفتَح ويُغلَق، أو جمع مِفْتَح بكسرها، وهو المفتاح، ويؤيده قراءةُ مَن قرأ:(مفاتيح)
(1)
، استعار المفاتح
(2)
لِمَا أَوْدعَ فيه الغيبَ من خزائنه، أو لِمَا يُتوصَّل به إليه، وخُصِّصَتْ به بتقديم الظَّرف؛ لأنَّه لا اطِّلاع [لأحد]
(3)
عليه ولا يُمْكِنُه التَّوصلُ إليه.
{لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ؛ أي: هو المطَّلع على مكامن غيبه وحده، أو هو ما به يتوصل إليه، كأنَّه في مخزن
(4)
مغلَقٍ أبوابُه، لا يعلم أحدٌ مفاتيحه إلا هو؛ أعني: أسبابَه التي توجِب إحداثه وإظهاره في عالم الشَّهادة؛ أي: يعلم أوقاتها وما في تأخيرها وتعجيلها من الحكمة، فيُظهرها على ما اقتضته مشيئتُه بحسَب حكمته، وهذا الوجه أنسب لِمَا قبله.
وقيل
(5)
: فيه دليل على علمه تعالى بالأشياء قبل وقوعها.
وَيرِدُ عليه أنَّ علمه تعالى ليس بزمانيٍّ، فلا قَبْليَّة بينه وبين الأشياء الواقعة في الزَّمان.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} كما يعلم ما في الغيب كلِّه يعلم ما في الشَّهادة كلِّها.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 31)، ونسبت لابن السميفع كما في:"تفسير الثعلبي"(2/ 540)، و"البحر المحيط"(9/ 199).
(2)
في (م) و (ك): "المفتاح".
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
في (ح) و (ف) و (ك): "مخدع".
(5)
في (م): "قيل".
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} ؛ أي: هو المطَّلعُ
(1)
تأكيد لعلمِه بالجزئيَّات ممَّا في البر والبحر.
{وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} أرادَ: ظلمةَ بطنها، وظلمةَ داخل الشَّجر، وظلمةَ جوف الثَّمر، عبَّرَ بالحبَّة الموصوفة بهذه الصِّفة عمَّا هو في مبدأ أمره من جنس النَّامي، وبالورقة السَّاقطة عما بلغ منتهى شأنه منه.
{وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} معطوفان
(2)
على {وَرَقَةٍ} ، وقوله:
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} كالتَّكرير لقوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} ؛ لأن معناه ومعنى {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} متَّحدٌ، أما
(3)
إذا أريد بـ (الكتاب المبين) علمَ الله تعالى فظاهر، وأما إذا أريد به اللَّوح المحفوظ فلأن كونه فيه
(4)
كنايةٌ عن كونه من جملة معلوماته تعالى، فهو آيلٌ إليه في المعنى.
وقرئت بالرفع
(5)
على العطف على محل {مِنْ وَرَقَةٍ} ، أو على الابتداء، والخبر:{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
* * *
(1)
"أي هو المطلع" من (م).
(2)
في (م) و (ك): "معطوف"، وفي (ف):"معطوفات"، والمثبت من (ح).
(3)
في (م): "واحد أما"، وفي (ك):"واحد وأما".
(4)
"فيه" من (ك) و (م).
(5)
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 71)، و"الكشاف"(2/ 31)، و"البحر المحيط"(9/ 203).
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} في وقت النَّوم، وإنما عبَّر عنه بـ (الليل)، وعن وقت الكسب بـ (النَّهار)؛ لأنهما معظم
(1)
أوقاتهما، أو خصَّهما بالذِّكْر جرياً على ما هو المعتاد، واستعير
(2)
التَّوفِّي من الموت للنَّوم لمشابهته إيَّاه في زوال الإحساس والتَّمييز
(3)
به، وأصله: قبض الشيء بتمامه.
{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} : ما كسبتم فيه، ومنه إطلاق الجوارح للأعضاء الكاسبة، والواو حالية لا ناسقة
(4)
، وإلَّا لَأُخِّرَتْ عن قوله:
{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} : في النَّهار، والبعث: الإثارة، لا الإيقاظ، غايتُه بعث النائم يكون بإيقاظه، فلا ترشيح فيه للتَّوفِّي.
{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} في علم الله تعالى، وقضاءُ الأجل: فصلُ مدَّة العمر من غيرها، ويلزمه البلوغ إلى نهاية تلك المدة، وهو المراد
(5)
هاهنا.
{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بالبعث بعد الموت، والمراد: الرجوع إلى موقف
(6)
حسابه تعالى.
{ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} : يخبرُكم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الخير والشر، فهذا وعدٌ ووعيدٌ.
وقيل: الخطابُ للكفرة، والمعنى: إنكم مُلقَون كالجيف في اللَّيل وكاسبون للآثام في النَّهار، وإنه تعالى مطَّلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم
(1)
في (م) و (ك): "معظماً".
(2)
في (م): "وقد استعير".
(3)
في (ف) و (ح) و (م): "التميز"، والمثبت من (ك).
(4)
في (م): "حالية ناسقة"، وقال في الهامش:"لا عاطفة".
(5)
في (م) و (ك) زيادة: "بقوله".
(6)
"موقف" من (ك) و (م).
به أعماركم من الغفلة والمعاصي في اللَّيل والنَّهار؛ ليقضي المدة التي ضربها لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، ثم إليه مرجعكم بالحساب، ثم يخبركم بأعمالكم بالجزاء.
وعلى هذا يكون الضمير في {فِيهِ} عائداً إلى مضمون كونهم متوفَّين
(1)
وكاسبين، وتكون (في) بمعنى لام التعليل، والأجلُ المسمَّى مدة الكون، ولا يخفى ما فيه من التَّعسُّف المُسْتَغنَى عنه بما قُدِّمَ من الوجه الظَّاهر.
* * *
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قد مرَّ تفسيره في هذه السورة
(2)
، قدَّمه على ذكر إرسال الحَفَظة؛ ليُعْلم أنَّ إرسالهم لم يكن لحاجته
(3)
إلى ذلك؛ لأن المحتاج لا يكون قاهراً، بل لحكمة، وهي أنْ يكونَ العبادُ على حذرٍ، وهذا أبلغ في الزجر؛ لأن مَنْ علمَ أنَّ عليه رُقباءَ كانَ أجدرَ بالحذر؛ فإنَّ العبد إذا وثق بلطف مولاه، واعتمد على عفوه، لم
(4)
يحتشم منه احتشامه من خدَمه المتطلِّعين
(5)
عليه.
(1)
في (ح): "مستوفين"، وفي (ف):"مستوفون"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 74)، و"روح المعاني"(8/ 210).
(2)
في هامش (ح): "في تفسير البغوي: القاهر: الغالب، وفي القهر زيادة معنى على القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد".
(3)
في (م) و (ك): "لحاجة".
(4)
في (ح) و (ف): "لم يكن".
(5)
في (ف): "المطلعين".
{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} الجمهور على أنهم حفظةُ الأعمال، وقيل: إنهم الذين يحفظون أنفاس الخلق وَيعدُّونها إلى وقت انقضائها، ثم يقبضون الرُّوح، ويناسبه ما بعده.
و {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ بـ {يُرْسِلُ} ، كما في قوله تعالى:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ}
(1)
[الرحمن: 35]، وهم لتمكُّنهم منَّا جُعِلوا مستولين علينا.
ويجوز تعلُّقه بـ {حَفَظَةً} ؛ أي: حافظين عليكم.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ؛ أي: أسبابُه {تَوَفَّتْهُ} : قبضَتْ روحَه، وقرئ بألفٍ ممالة
(2)
.
{رُسُلُنَا} جاء جمعاً، عُني
(3)
به ملك الموت وأعوانه، وفي عبارة {رُسُلُنَا} إشارةٌ إلى أن ذلك بأمرِه تعالى، ولذلك أسنده إلى نفسه في موضعٍ آخر، وقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].
{وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} جملة حالية أو استئنافية، قرئ بالتشديد والتخفيف
(4)
، فالتَّفريطُ: التَّواني والتَّأخير عن الحد، والإفراطُ: مجاوزةُ الحدِّ؛ أي: لا ينقصون مما أُمروا به ولا يزيدون فيه.
* * *
(1)
بعدها في (م): "من نار".
(2)
وهي قراءة حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(3)
في (ح) و (ف): "جاؤوا جميعا يعني".
(4)
التشديد قراءة الجمهور، والتخفيف تنسب للأعرج. انظر:"المحتسب"(1/ 223)، و"البحر المحيط"(9/ 210).
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، ومن التَّكلم إليها، وذلك لأن الردَّ يناسبه اعتبار
(1)
الغيبة وإن لم تكن حقيقة، فإنهم ما غابوا عن قبضته
(2)
لحظة، ولا خرجوا عن
(3)
حُكْمِه نظرةً ولا لفظةً، فالردُّ من البرزخ إلى موقف العرض للسؤال والجواب.
{مَوْلَاهُمُ} : الذي يتولَّى أمرهم، والمراد منه في قوله تعالى:{وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] معنى المعين والنَّاصر، فلا منافاة.
{الْحَقِّ} : العدل الذي لا يحكمُ إلَّا بالحق، وقرئ بالنَّصب على المدح
(4)
.
{أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} يومئذ لا حكمَ لغيره فيه.
{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} إذ لا يشغلُه حساب عن حسابٍ، ولا لبث في السؤال والجواب.
* * *
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} استفهامٌ بمعنى النَّفي، وقرئ بالتَّخفيف
(5)
.
(1)
"اعتبار" سقط من (ك).
(2)
في (ح) و (ف) و (م): "قبضه".
(3)
في (ف) و (ح): "من".
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 37)، و"الكشاف"(2/ 32)، و"البحر المحيط"(9/ 212).
(5)
هي قراءة يعقوب من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 258 - 259).
{مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : من شدائدهما، استُعِيْرَت الظُّلمة للشِّدَّة للمشاركة بينها وبين معنى الظُّلمة في الهول وإبطال الأبصار، فقيل لليوم الشديد: يومٌ مظلِم، ومن جملة تلك الشدائد الخسفُ في البر، والغرقُ في البحر.
{تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} مظهرين بلسان
(1)
الضراعة وهي شدَّةُ الفقر والحاجة إلى الشيء، ومسرِّين الطلب على وجه الإخلاص بالقلب.
أو: إظهاراً وإسراراً.
وقرئ: (خِفْية) بالكسر
(2)
.
{لئن أنجيتنا} وقرئ: {أَنْجَانَا}
(3)
؛ ليوافق قوله تعالى: {تَدْعُونَهُ} .
{مِنْ هَذِهِ} إشارة إلى الظُّلمات.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} جواب القسم المحذوف، ولا حاجة إلى تقدير القول؛ لدلالة {تَدْعُونَهُ} عليه.
* * *
(64) - {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .
{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} قرئ بالتشديد والتخفيف
(4)
.
{وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} عبارة {كُلِّ} للمبالغة في التَّكثير المناسِبة للمقام
(5)
، فإنَّ كلَّ نَفْسٍ عند كُلِّ نَفَسٍ في مَعرض الآفات التي لا تعدُّ ولا تحصى، والله تعالى ينجيها
(1)
في (ح) و (ف) و (ك): "باللسان".
(2)
وهي قراءة أبي بكر. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(3)
هي قراءة الكوفيين: حمزة والكسائي وعاصم. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(4)
الكوفيون وهشام عن ابن عامر قرؤوا مشدداً والباقي مخففاً. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(5)
في (م): "لمناسبة المقام".
منها، وهي نعمة الدَّفع، قلَّما يتنبَّه لها الإنسان، والأُولى نعمة النَّفع، وهي ونعمة الدَّفع
(1)
ظاهرتان، وتعذَّر الخروج عن عهدة الشُّكر لعدم إمكان التَّذكُّر
(2)
لأفراد النَّوع الأول بتفاصيلها؛ لأنَّ الشُّكرَ على النِّعمة نعمةٌ أخرى.
ثم إنَّ الكلام المذكور على طريقة ذِكْر أحد الفعلين، وعطف متعلَّق المحذوف على المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه
(3)
، حتى كأنَّه شريكه في أصل الفعل؛ إجراءً لأحد المتقاربَين مجرى الآخر، كقولك: تقلَّدْتُ
(4)
السَّيف والرُّمح.
الكربُ: الغمُّ الشَّديد، أصلُه من كَرْب الأرض، وهو قَلْبُها بالحَفْرِ، فالغمُّ إذا اشتدَّ يثيرُ النَّفس إثارةَ ذلك.
{ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} ؛ أي: لا تُخلِصون حين تتخلَّصون، ولا تشكرون بل تشركون.
و {ثُمَّ} استبعادٌ لشركهم
(5)
مع إقرارهم بأنَّه لا يكشفُ الضرَّ إلا الله تعالى، ووضع {تُشْرِكُونَ} موضعَ (لا تشكرون) مبالغة؛ لأنَّ مَنْ يشركْ بالله تعالى فهو في غاية البعد مِنْ شُكْرِه.
* * *
(1)
في (ح): "والأولى نعمة الدفع، وهي ونعمة الدفع"، وفي (ك) و (م):"والأولى نعمة الدفع، وهي ونعمة النفع"، وفي (ف):"والأولى نعمة الرفع، وهي ونعمة الدفع"، ولعل المثبت هو الصواب.
وفي (م) و (ك): "ونعمة النفع".
(2)
في (ف): "التذكير".
(3)
في (ف) و (م) و (ح): "لفظة"، والمثبت من (ك).
(4)
في (ح): "كقولهم: تقلدت"، وفي (ف):"كقولهم: لم تقلدت".
(5)
في (ف): "إشراكهم".
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} ؛ أي: هو الذي عرفتموه أنَّه الكامل في القدرة الذي لا قدرةَ لأحدٍ سواه، ومعنى الآية الوعيدُ بأحد أصناف
(1)
العذاب المذكورة.
{مِنْ فَوْقِكُمْ} كما أمطر
(2)
على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كما خسف بقارون وأغرق فرعون. أو من الجهتين معاً كطوفان نوح عليه السلام.
وقيد {أَرْجُلِكُمْ} لقطع المجاز، كما في {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
ولك أن تقول: أُريدَ بالأوَّل ظلمُ السَّلاطين، وبالثَّاني تسلُّط
(3)
السَّفِلة، وبالثَّالث الهَرْج والمرج
(4)
، ولما كان بين هذه الثلاثة منع الجمع بحسب العادة أتى بأداة التَّعريف.
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} : فِرَقاً، بأن يخلط أمرهم خلْطَ شِقاق لا وِفاق، فيجعلهم مختلفي الأهواء {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: يقاتل بعضكم بعضاً، نعوذ بالله من الفِتن ما ظهرَ منها وما بطنَ.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} : نحوِّلها من نوعٍ إلى آخر من أنواع الكلام تقريراً للمعنى، وتقريباً إلى الفهم.
(1)
في (ك): "بأصناف".
(2)
في (م) و (ك): "أمطرنا".
(3)
في (ف): "تسليط".
(4)
"والمرج" سقط من (ك).
وقيل: بالوعد والوعيد، ولا يناسبُه قولُه:{لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .
* * *
(66) - {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} .
{وَكَذَّبَ بِهِ} ؛ أي: بالقرآن {قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} حال من الضمير في {بِهِ} ، أو استئناف، أخبرَ بأنَّ القرآن الصدق.
{قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} : بحفيظ، وُكِلَ إليَّ أمرُكم أمنعكم من
(1)
التَّكذيب إجباراً، إنما أنا منذرٌ، واللهُ الحفيظُ.
* * *
(67) - {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{لِكُلِّ نَبَإٍ} النَّبأ: خبرٌ ذو خطرٍ.
{مُسْتَقَرٌّ} ؛ أي: لكلِّ شيءٍ يُنبَّأُ به
(2)
في القرآن وقتُ استقرارٍ وحصولٍ لا بدَّ منه.
{وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند وقوعه في الدُّنيا والآخرة، وهذا كقوله:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
* * *
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} بالاستهزاء بها، والطَّعن فيها، والخوضُ أصلُه
(1)
في (ك): "عن".
(2)
"به": ليست في (م) و (ك).
في الماء، ثم استُعمِلَ بطريق الاستعارة في غمرات الأشياء التي هي مجاهل؛ تشبيهاً لها بغمرات الماء.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أمرَهَ عليه السلام بعدمِ التَّوجُّهِ إليهم، وتركِ الإقبال عليهم، ويلزمه النَّهي عن مجالستهم بطريق المبالغة.
{حَتَّى يَخُوضُوا} : إلى أن يخوضوا {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} : غير القرآن، وليس هذا من قَبيل عود الضَّمير على الآيات باعتبار المعنى، بل من قَبيل عودِه إلى ما عُلِمَ من سِياقِ الكلام.
{وَإِمَّا} (ما): زائدة بعد (إنْ) الشَّرطيَّة، وما أحسنَ مجيءَ الشرط الأول بـ (إذا) التي هي للمحقَّق أو غالب الوقوع، ومجيءَ هذا الشَّرط بـ (إنْ) التي هي
(1)
للمشكوك.
{يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} : وإن شغَلَكَ بوسوسته
(2)
حتى تنسى النَّهي عن مجالستهم.
وقرئ: {يُنْسِيَنَّكَ} بالتشديد
(3)
.
{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} : فقم كما ذَكَرْتَ
(4)
.
{مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: معهم، فوضع الظَّاهر موضعه دلالةً على أنهم ظَلموا بوضعهم التَّكذيب والاستهزاء موضع التَّصديق والاستعظام.
* * *
(1)
"هي" سقط من (ف) و (ح).
(2)
في (ح) و (ف) و (م): "بوسوسة".
(3)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 103).
(4)
في "الكشاف"(2/ 35): "بعد أن تذكر النَّهي".
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} : وما على المتقين الذين يجالسونهم.
{مِنْ حِسَابِهِمْ} : مما يحاسبون عليه من ذنوبهم واستهزائهم.
{مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: مَن كان نقيَّ الثَّوب عن ارتكاب الآثام كانَ بمعزلٍ يوم النُّشور عن ملاقاة الآلام.
{وَلَكِنْ} عليهم أن يذكِّروهم {ذِكْرَى} - إذا سمعوهم يخوضون فيها - بالموعظة والنَّهي، ثم القيامُ وإظهار الكراهة، فـ {ذِكْرَى} نصبٌ على المصدر، ويجوز أن يكون مرفوعَ المحل؛ أي: عليهم ذكرى.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : يجتنبون الخوض حياءً أو كراهةً لمساءتهم، ويجوز أن يكون الضمير لـ {الَّذِينَ يَتَّقُونَ}؛ أي: لعلهم يثبتون على التَّقوى ويزدادون منها
(1)
.
ولا يجوز عطفه على محل {مِنْ شَيْءٍ} ؛ لأن {مِنْ حِسَابِهِمْ} يأباه؛ لأنَّه حال من {مِنْ شَيْءٍ} قُدِّمَ عليه، فصار قيداً للعامل، فإذا عطف {ذِكْرَى} عليه
(2)
كانت جهة القيد معتبرةً فيه بحكم الاستعمال في عطف المفرد على المفرد، لا سيَّما بحرف الاستدراك، فيؤول المعنى إلى أنَّ عليك
(3)
من حسابهم ذكرى، وذكرى ليس من حسابهم
(4)
.
(1)
في (ف) و (ح): "ويزدادونها".
(2)
أي: على {شَيْءٍ} . انظر: "نواهد الأبكار" للسيوطي (3/ 361).
(3)
في (ح) و (ف): "عليك"، والمثبت هو الموافق لما في المصدر السابق.
(4)
من قوله: "فإذا عطف ذكرى .. " إلى هنا جاءت في (ح) و (ف) بعد قوله: "المسجد الحرام فنزلت"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في المصدر السابق. وجاء في هامش (م): "الظاهر أن =
روي: أنَّ المسلمين قالوا
(1)
: لئن كنَّا نقوم كلَّما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، فنزلت
(2)
.
* * *
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} : الذين كُلِّفُوه.
{لَعِبًا وَلَهْوًا} حيث سخروا به، أو بنوا
(3)
أمر دينهم على التَّشهي، وتديَّنوا بما لا نفع فيه أصلاً؛ كعبادة الصَّنم، وتحريم البحائر والسَّوائب، أو جعلوا
(4)
عيدهم الذي جُعِلَ ميقاتَ عبادتهم زمانَ لهوٍ ولعبٍ.
والمعنى: أعرضْ عنهم، ولا تبالِ بأفعالهم وأقوالهم.
ويجوز أن يكون تهديداً لهم كقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]؛ أي: كِلْهُم إلى ما اختاروا فإنَّا أعتدنا لهم من خفيِّ المكر
= محل هذا قبيل قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} والغلط من الناسخ". قلت: والظاهر من السياق المتفق مع المصدر أن مكانها هنا، وأن هذا ما جاء في هذا التنبيه على هامش (م) وكذا ما وقع في (ح) و (ف) هو الغلط. والكلام منقول من السعد التفتازاني على ما صرح به السيوطي.
(1)
في (ح) و (ف): "قالوا للنبي عليه السلام"، والمثبت من (ك) و (م) والمصادر وستأتي.
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 35)، و"المحرر الوجيز"(2/ 304)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 167).
(3)
في (ح) و (ف): "وبنوا"، والمثبت من (ك) و (م) وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 167).
(4)
في (ح) و (ف): "وجعلوا"، والمثبت من (ك) و (م) وهو الموافق لما في المصدر السابق.
ما إذا حللنا بهم كسَرنا عليهم
(1)
خمار الغفلة
(2)
وكشفنا عنهم خمار الوهم والجهلة، فلا ضرورة في جعله منسوخاً بآية السَّيف بحمله على الأمر بالكفِّ عنهم
(3)
وترك التَّعرض لهم.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} اعتراض لبيان أنهم إنما بنوا أمر دينهم على اللَّعب واللَّهو؛ لأن الحياة الدُّنيا غرَّتهم حتى أنكروا البعث.
{وَذَكِّرْ بِهِ} ؛ أي: بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} مخافةَ أن تُمْنَعَ نفسٌ من النَّجاة، وتُسلَمَ إلى الهلَكَة والعقاب
(4)
بسبب كسبها، وتُرْهَنَ بسوء عملِها، كقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، أو تُبسرَ بسوءِ
(5)
كسبها وعذابه، كقوله:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24].
الإبسال والبَسْل: المنع، ومنه أسد باسلٌ: مانع أن يُفْلِتْ فريسته
(6)
، ويقال: بَسَرَ
(7)
الرَّجل: إذا اشتدَّ عبوسه، فإذا زاد قالوا: بَسلَ.
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} يدفعُ عنها العذاب.
(1)
في (م) و (ك): "كسر ما عليه".
(2)
في (م) زيادة: "وكشفنا خمار الغفلة".
(3)
"عنهم" من (ك) و (م).
(4)
في (م) و (ك): "والعذاب".
(5)
في (م): "أو يقبس بسوء"، وفي (ف) و (ح):"تعبَّ سوءَ"، والمثبت من (ك).
(6)
في (م): "يفلت فريسة"، وفي (ح):"يغلب فريسة".
(7)
في (ف): "بسل"، وفي (ك) و (م):"أبسر"، والمثبت من (ح)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 36).
{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} : وإنْ تَفْدِ كُلَّ فِداءٍ، والعَدْلُ: الفِديةُ؛ لأنَّها تعادِل المفدَى، و {كُلَّ} نصب على المصدر.
و {يُؤْخَذْ} في قوله: {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} مسندٌ إلى {مِنْهَا} ، لا إلى ضمير العدل إلَّا بطريق الاستخدام
(1)
؛ لأنَّ العدلَ هاهنا مصدرٌ لوقوعه مفعولاً مطلقاً، وهو ليس بمأخوذ، بخلاف قوله:{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] لأنَّه المفدَى به
(2)
.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} ؛ أي: أُسلموا إلى العذاب بسبب قبائح أعمالهم، استعمل الإبسال للإسلام إلى العذاب؛ لأنَّ المُسْلَمَ إليه يمنعُ المُسْلِم.
{لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} بما شربوا من القَهوات
(3)
{وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بما تناولوا من الشَّهوات {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ؛ أي: هم بسبب كفرهم بينَ ماءٍ مغليٍّ يتجرجَر في بطونهم، ونارٍ تشتعلُ بأبدانهم.
* * *
(1)
الاستخدام على طريقة السكاكي وأتباعه: أنْ يُؤْتَى بلفظٍ له معنيانِ فأكثرُ مُراداً به أحدُ معانيهِ ثم يُؤْتَى بضميرِه مُراداً به المعنَى الآخر. ولابن جماعة فيه وجه آخر. انظر: "الإتقان" للسيوطي (3/ 288).
(2)
"به" زيادة من (م) و (ك).
(3)
في (م): "الفهوات". والمراد بالقهوات: جمع القهوة: وهي الخمر، سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام، أي: تذهب بشهوته؛ أو تُشبعه، هذا هو الأصل في اللُّغة ثم أطلقت على ما يشرب الآن من البُنِّ لثمرِ شجرٍ باليمن. انظر:"تاج العروس"(مادة: قهو).
{قُلْ أَنَدْعُو} : نعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا} إنْ أطعناه {وَلَا يَضُرُّنَا} إنْ عصيناه
(1)
.
{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} ؛ أي: نرتدُّ عن ديننا ونرجع إلى ورائنا {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} فأنقذَنا منه ورزقَنا الإسلام، والمعنى: إنكارُ الرُّجوع إلى الشرك بعد الاهتداء
(2)
إلى التَّوحيد.
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} : مردة الجن {فِي الْأَرْضِ} استهوى: استفعل، من هوى في الأرض: إذا ذهبَ فيها، كأن معناه: طلبَتْ هواه وحرصَتْ عليه.
وزعم أبو علي أنه من الهُويِّ؛ أي: ألقته في هُوَّة، ويكون استفعل بمعنى أفعل، نحو استزلَّ في أزلَّ
(3)
، ويأباه ما بعده.
{حَيْرَانَ} نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حَيرى، كسَكْران وسَكرى، والحيرانُ: هو الذي لا يهتدي لجهةٍ حَيرةً.
{لَهُ أَصْحَابٌ} : رفقة {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} : إلى الطريق المستقيم، سمى الطَّريق بالهدى تسمية بالمصدر
(4)
للمبالغة.
{ائْتِنَا} يقولون له: ائتنا، وأضمر القول لدلالة {يَدْعُونَهُ}
(5)
على ذلك.
(1)
في هامش (ح): "ولما تقرر أن غير الله لا يمنع من الله بنوع، لا آلهتهم التي زعموها أنها شفعاؤهم ولا غيرها، ثبت أنهم على غاية البينة من أن كل ما سواه لا ينفع شيئاً ولا يضر، فكان في غاية التبكيت، قوله: {قُل أَنَدْعُواْ} بقاعي".
(2)
في (م): "الاهتداء به".
(3)
انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي (3/ 325). وجاء في (ك): "استزل وأزل".
(4)
في (ح) و (ف): "للمصدر".
(5)
في (ف): "يدعون".
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} ؛ أي: الإسلام {هُوَ الْهُدَى} وحده، وما عداه ضلالٌ.
{وَأُمِرْنَا} في محل النصب عطفاً
(1)
على محل: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ} على أنه مقول، واللام في:{لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} للتعليل؛ أي: وأُمرنا بذلك لِنُسلِمَ.
وزعم الكسائي والفرَّاء أن لام (كي) تقع في موضع (أنْ) في (أردتُ وأمرتُ)
(2)
، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26].
* * *
(72) - {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
وقيل: بمعنى الباء
(3)
. وقيل: زائدة. ويقوِّيهما عطف: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} عليه؛ كأنَّه قيل: وأمرنا بأن نسلم وأن أقيموا، وعلى الأول معناه: وأمرنا بذلك الإسلام وإقامة الصلاة وتقوى
(4)
الله تعالى، فـ (أنْ)
(5)
المصدريهُ إذا دخلت على الأمر ينسبك منه مصدر ولا يلاحَظ فيه معنى الأمر، وقيل
(6)
: موقع العلة موقع المأمور به، فعطف على موقعها.
{وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة.
(1)
"عطفاً" زيادة من (ك) و (م).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 261 و 339)، وانظر:"روح المعاني" للآلوسي (5/ 462، و 8/ 242).
(3)
أي: (وأمرنا بالإسلام). وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة. انظر: "البحر"(9/ 234)، و"روح المعاني" للآلوسي (8/ 241).
(4)
في (ح) و (ف): "وبتقوى".
(5)
في (م) و (ك): "فإن أن".
(6)
في (ك): "قيل".
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} في موضع النَّصب على الحال؛ أي: قائماً بالحقِّ والحكمة.
{وَيَوْمَ يَقُولُ} ؛ أي: وحين
(1)
يقول لشيء من الأشياء: {كُنْ فَيَكُونُ} ذلك الشيء.
و {يَوْمَ} منصوبٌ بما دل عليه {بِالْحَقِّ} ، أو بـ {خَلَقَ}؛ أي: ويقوم بالحق يوم يقول، أو: خَلَق السماوات يوم يقول، و {قَوْلُهُ الْحَقُّ} مبتدأ وخبر، قُدِّم
(2)
فيها الخبر لا للحصر؛ لأنَّه لا يناسب المقام، بل لكونه الشَّائعَ في الاستعمال مثل:{عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34].
وقيل: {قَوْلُهُ}
(3)
على هذا الوجه يجوز أن يكون فاعلَ {فَيَكُونُ} و
(4)
{الْحَقُّ} صفتَه؛ أي: ويوم يقول بالحق يوم يأمر كلَّ شيء بقوله: كن، فيكون قوله الحق. ولا يخلو عن تعسُّفٍ.
أو منصوبٌ بفعل الاستقرار على أن {قَوْلُهُ الْحَقُّ} مبتدأ، و {وَيَوْمَ يَقُولُ} خبر
(5)
مقدَّم، كقولك: يومَ الجمعة القتال، أو {قَوْلُهُ} مبتدأ و {الْحَقُّ} خبره، و {يَوْمَ} ظرفٌ للقول أو للحقِّ.
(1)
في (ف) و (م) و (ح): "وهو"، والمثبت من (ك).
(2)
في (م): "فقدم"، و في (ك):"مقدم".
(3)
في (ك) زيادة: "قوله".
(4)
سقطت الواو من النسخ عدا (ك).
(5)
في (ك): "خبره".
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} {يَوْمَ يُنْفَخُ} ظرفٌ لقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ} ، كقوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، أو بدل من {وَيَوْمَ يَقُولُ} على أنَّ {كُنْ فَيَكُونُ} بمعنى الإحياء والبعث، و {قَوْلُهُ الْحَقُّ}: قوله
(1)
يوم القيامة.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} رفعٌ على المدح؛ أي: هو عالم الغيب، أو خبرٌ بعد خبر.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} كالفذلكة للآية.
* * *
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} هو عطف بيان لـ (أبيه).
قال الفرَّاء والزجَّاج: ليس بين النَّسَّابين اختلافٌ في أنَّ اسمَ أبِ إبراهيم عليه السلام تارخ، والذي في القرآن يدلُّ على أن اسمه آزَر، فكأنَّ آزر لقبٌ له
(2)
.
قال ابن الأنباري: قد يغلب على اسم الرَّجل لقبُه حتى يكون به أشهرَ منه باسمه، فيجوز أن يكون آزرُ لقباً أَبطل الاسم لشهرته، فخبَّر الله تعالى به لذلك
(3)
.
وقيل: نعتٌ مشتقٌّ من الأَزْر، ومُنع صرفه للعُجمة والعلميَّة، أو للوصفيَّة ووزن الفعل.
(1)
في (م) و (ك): "وقوله".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 340)، و"معاني القرآن" للزجاج (2/ 265).
(3)
انظر: "التفسير الوسيط" للواحدي (2/ 289)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 46).
وقيل: المراد به الصنم، ونصبُه بفعل مضمر يفسِّره ما بعده؛ أي: أتَعْبدُ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} تفسير وتقرير
(1)
، ويعضُده قراءة:(أأزراً) بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وسكونِ الزاي ونصبِ الراء منوَّنة
(2)
، على أنه اسم
(3)
صنم، وتوجيهُها على الأول أنه كان
(4)
اسمَ صنم يعبده، فلقِّب به للُزومه عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف.
وقرئ بالضم على النداء
(5)
، وهذا ظاهر في حذف المضاف؛ لِمَا في نداء الابن أباه باسم العلم [من]
(6)
غلظة واستخفاف لا يليق بشأن إبراهيم عليه السلام الموصوفِ بغاية الحلم، المعروفِ بمحبَّة أبيه ورعايته، يرشدك إلى هذا قوله:{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : ظاهر الضلالة، حيث لم يقل: أنت وقومك في ضلال مبين؛ رعايةً لحسن الأدب في مخاطبته.
(1)
أي: تفسير وتقرير للوجه المذكور من كونه منصوباً بفعل مضمر، وكلام المؤلف في بعض الغموض، يظهر ذلك من عبارة الزمخشري والبيضاوي، قال البيضاوي في "تفسيره" (2/ 169):(وقيل: المراد به الصنم، ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده؛ أي: أتعبد آزر؟ ثم قال: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} تفسيراً وتقريراً). وانظر عبارة الزمخشري في التعليق الآتي.
(2)
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 76)، و"القراءات الشاذة" (ص: 38)، و"المحتسب"(1/ 223)، و"الكشاف"(2/ 39)، و"البحر"(9/ 248)، و"روح المعاني"(8/ 251). ومن قرأ بهذه القراءة قرأ (تتخذ) بلا همزة الاستفهام كما صرح بذلك النحاس وأبو حيان والآلوسي، وهو الظاهر من كلام الزمخشري حيث قال: وقرئ: (أإزرا تتخذ أصناما آلهة)
…
وهو اسم صنم ومعناه: أتعبد إزراً؟ على الإنكار، ثم قال:(تتخذ أصناما آلهة) تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنَّه كالبيان له).
(3)
"اسم" من (م).
(4)
في (م): "أن كلها كان".
(5)
وهي قراءة يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 259).
(6)
زيادة يقتضيها السياق.
(75) - {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} مثلَ ذلك التَّبصير نُبصِّرُ إبراهيم، قد سبق أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام إشارةٌ إلى هذه الإراءة، لا إلى شيء آخر يشبَّه به، هذه جملةٌ
(1)
اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومعنى الاعتراض: بيان الإرشاد والهداية بطريق الاستدلال الموصِل إلى مرتبةِ الإيقان الذي انكشف به
(2)
ضلال قومه، ولذلك استحضر الماضي حالاً فقال:{نُرِي} على الحكاية؛ تصويراً وتعظيماً.
وقرئ بالتاء ورفع الملكوت
(3)
، ومعناه: نُبْصِّرُه دلائلَ الرُّبوبية.
{مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَعَلوتٌ من الملك، وزيادة التاء للمبالغة، ومعناه: ما يُملك به الشيء؛ أي: نُرِي ربوبيةَ الله تعالى للسماوات والأرض وما يدبِّرهما
(4)
ويملكهما به من عجائب الملكوت.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ؛ أي: فعلنا
(5)
ذلك ليكون من المحققِّين، أو فصَّلنا ذلك
(6)
، قيل: أي: ليستدلَّ وليكونَ، ويأباه اللام والواو؛ فإنهما لا يذكران بين الاستدلال وما يترتَّب
(7)
عليه.
(1)
في (م): "هذه الجملة".
(2)
في (ح) و (ف): "الذي يكشف".
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 41)، و"البحر المحيط"(9/ 253).
(4)
في (ف): "نورهما".
(5)
في (ف): "فصلنا".
(6)
"أو فصلنا ذلك": ليست في (م) و (ك).
(7)
في (ح): "والترتيب"، وفي (ف):"والمترتب".
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} ، أي: سترَه بظلامه.
{رَأَى كَوْكَبًا} قيل: كان
(1)
الكوكب الزُّهَرةَ أو المشتري
(2)
.
{قَالَ هَذَا رَبِّي} على سبيل الوضع، فإن المستدِلَّ على فساد قول يحكيه على ما يقول
(3)
الخصم، ثمَّ يَكرُّ
(4)
عليه بالإفساد، وفي تقديم الاعتراض المذكور تنبيهٌ على هذا، فإنَّه لولا ذلك البيان لسبق إلى الوهم أنه استدلال لنفسه
(5)
، وأما بعد تقديمه فلم يبقَ ذلك الاحتمال.
من هنا
(6)
تبيَّن أنه لا مجال لأنْ يكون قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} تفصيلاً وبياناً لذلك؛ لأن ما ذُكِر طريقُ النَّظر والاستدلال الشَّائعِ الذائع بين أصحاب الظَّواهر المقصورِ نظرُهم على عالَم الملك، فلا يصلح بياناً لحالِ مَن يترقَّى منه إلى درجة الوقوف على سرائر عالَم الملكوت أو المشاهدةِ
(7)
لأسرار الربوبيَّة، فتَعيَّن عطفه على {قَالَ
(8)
إِبْرَاهِيمُ} فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبِّههم على
(9)
ضلالتهم ويرشدَهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال.
(1)
"كان" سقط من (ك).
(2)
في النسخ عدا (م): "والمشتري".
(3)
في (م): "يقوله".
(4)
في (ف) و (ح): "لم ينكر عليه بالاوصي"، والمثبت من (م) و (ك) وهامش (ح).
(5)
في (ح) و (ف): "بنفسه".
(6)
في (م) و (ك): "ومن هاهنا".
(7)
في (م) و (ك): "والمشاهدة".
(8)
في (ف) و (ح): "نري" وهو خطأ. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 169).
(9)
في (م): "ينهيهم عن"، وفي (ك):"ينهاهم عن". والمثبت موافق لما المصدر السابق.
{فَلَمَّا أَفَلَ} الأفول: الغروب.
{قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} : الأربابَ المنتقلين من حالٍ إلى حالٍ، المحتجِبين بالغروب والانتقال، فضلاً عن أنْ أعبدهم، فالتعبير
(1)
بالانتقال من مكان إلى مكان من خواصِّ الأجرام المحتاجة إلى الرَّبِّ فلا تصلح للرُّبوبيَّة.
* * *
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} البزوغ: الطُّلوع.
{قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} كأنَّه غاب عن نظره، أو لم يكن حين رآه في ابتداء الطُّلوع بل كان في وراء الجبل ثم طلع منه، أو في
(2)
جانبٍ آخر لا يراه، وإلَّا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكواكب
(3)
ثمَّ يَغرب قبلَ طلوع الشَّمس.
{قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} تنبيهاً لقومه على أن مَن اتَّخذ الآفل المتغيِّر إلهاً فهو ضالٌّ، وأنَّ الهدايةَ إلى الحقِّ إنما تكون من فضل الرب
(4)
وعطائه، وهذا طريقُ مَنْ يتلطَّف في البحث والإرشاد بإظهار المناصحة لنفسه وإمحاضِ النُّصح حين أراد لصاحبه ما أراد لنفسه، ويَنسب الذَّمَّ والتَّقريع إلى نفسه لا يواجه به الخصم ليكون أبعد من امتعاضه وعناده، وأشدَّ تلييناً لعريكته، وكسراً
(1)
في (ح) و (ت): "فإن التغيير".
(2)
في (ف) و (ح): "وفي".
(3)
في (ح) و (ف): "الكوكب".
(4)
في (ح) و (ف): "من فضله".
لعود شكيمته، كما قال صاحب يس:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، وفيه تقريعٌ قويٌّ.
* * *
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} ذكَّر اسم الإشارة لتذكير الخبر، أو لأنَّه لا يفرَّق في غير لغة العرب بين المذكَّر والمؤنث في الإشارة
(1)
، فأجرى الكلام على قاعدة تلك اللُّغة في مقام الحكاية، وعلى قاعدة العربية في مقام الإخبار.
وأما ما قيل: وكان
(2)
اختيار هذه الطَّريقة واجباً لصيانة
(3)
الرَّبِّ عن شبهة التَّأنيث، فيَرِدُ عليه: أن هذا الوجوب في الرَّبِّ الحقيقيِّ مسلَّم، وأما الذي فرض بالإبطال بإظهار ما فيه من الأوصاف النَّافية للرُّبوبية فالوجوب المذكور فيه ممنوع، بل المناسب حينئذ إظهار علامة التَّأنيث؛ لما فيه من الإشارة إلى ما سِيْقَ له العبارة.
{هَذَا أَكْبَرُ} من باب مراعاة النَّصَفَةِ أيضاً مع الخصم، ويحتمل أن يكون تجريد اسم الإشارة عن علامة التأنيث أيضاً من هذا الباب، كأنه يفرضُ ما يفرضه ربًّا متجنباً عمَّا يمكن التجنُّب عنه ممَّا
(4)
يوهم ما لا يليق بشأن الرَّبِّ.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} من الأجرام المحدَثة المتغيرة
(1)
"في الإشارة" من (ك).
(2)
في (م) و (ك): "فكان".
(3)
في (ف) و (ح): "بصيانة".
(4)
في (ك): "ما".
المحتاجة
(1)
إلى محدِثٍ ومدبِّرٍ مغيِّرٍ، وهذا صريحٌ في أنَّ الكلام مع القوم، وقد دلَّ قولُه:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} على أنه عارفٌ
(2)
بأنَّ له ربًّا يستحقُّ العبادة، ومنه الهداية، وأنَّ قومَه على الضَّلالة، وأشعرَ بأنَّ محاجَّته كانت مع منكِرٍ مبالِغٍ في الإنكار؛ حيث احتيج إلى القَسَم، فإنَّ اللام في {لَئِنْ} موطِّئة للقسَم، وفي {لَأَكُونَنَّ} جواب قسَم.
لمَّا تمَّ استدلاله وظهرَ بالحجَّة، ولم يبقَ شبهةٌ يتمسَّك بها الخصم، صرَّحَ بالمقصود، وأظهرَ التَّبرِّيَ ممَّا كانوا يشركون به عن
(3)
آخرها، والتوجُّهَ إلى مَنْ دلَّتْ عليه الممكناتُ المتغيِّرة من موجِدها ومبدِعها فقال:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إنَّما استدلَّ بالأفُول دون البزوغ - مع دلالته أيضاً على التَّغيُّر والانتقال من حالٍ إلى حالٍ - لتعدُّد دلالته من جهة الانتقال والاختفاء وانتفاء التَّورَية، ولأنه لا مجال للاستدلال بالبزوغ في الكوكب؛ لأنَّه رآه في وسط السماء حين قرَّر
(4)
الاستدلال.
* * *
(1)
"المتغيرة المحتاجة" ليست في (ف)، و"المتغيرة" ليست في (ح).
(2)
في (م): "عارفاً"، وفي (ك):"كان عارفاً".
(3)
في (ح) و (ف): "على".
(4)
في (ف) و (ح): "قرار".
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} : خاصموه في توحيده
(1)
تعالى ونفي الشركاء عنه.
{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي} وقرئ بتخفيف النُّون
(2)
.
{فِي اللَّهِ} : في وحدانيته تعالى، أنكر مخاصمتهم فيها بعد أن حجَّ عليهم بالبرهان، كما أشار إليه بقوله تعالى:
{وَقَدْ هَدَانِ} إلى توحيده، وكانوا خوَّفوه أنَّ معبوداتهم تصيبه بسوء، فقال:
{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} ؛ أي: ولا أخاف معبوداتكم وقتاً مّا؛ لأَنَّها لا تضرُّ ولا تنفع {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} نصب على الظَّرف؛ أي: إلَّا وقتَ مشيئةِ ربِّي {شَيْئًا} يُخافُ من جهتها، مثل أن يصيبني مكروه من جهة الكواكب والشَّمس والقمر، فإنْ كان فذلك منه تعالى لا منها.
{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} اعتراض كالتَّعليل للاستثناء؛ أي: لا أعلم، والله أحاط علماً بكلِّ شيء، فلا يبعد أن يكون في علمه أن يصيبني مكروهٌ من جهتها.
{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أَبَعْدَ ما لخَّصتُه من الدَّليل لا تتذكَّرون مؤدَّاه؟ وهو أنْ لا مؤثر إلَّا الله تعالى، والفاء للعطف على مقدَّر؛ أي: أتخوفونني فلا تتذكرون
(3)
، فتميِّزوا بين الصَّحيح والفاسد والقادر والعاجز.
* * *
(1)
في (م) و (ك): "توحيد الله".
(2)
وهي قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن هشام. انظر: "التيسير"(ص: 104).
(3)
من قوله: "مؤداه
…
" إلى هنا من (م) و (ك).
ثم تعجَّب من جهلهم بقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} ولا تأثيرَ له في شيءٍ {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} وأنتم لا تخافون ما يوجب كمال
(1)
الخوف، وهو إشراككم بالله القادر على كلِّ شيء {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} بإشراكه {عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} تهكُّمٌ بهم؛ فإنَّ إقامةَ الحجَّة على التَّركِ
(2)
ممتنع وتعريض بوجود
(3)
الحجَّة على نفيه.
ولمَّا دلَّ الكلام على أنهم يخافون المأمونَ مِنْ كلِّ وجهٍ وهم لا يخافون المخُوف من جميع الوجوه قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} الموحِّدون أم المشركون، ولم يقلْ: فأيُّنا أنا أم أنتم؛ حفظاً للأدب واحترازاً عن تزكية النَّفس.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما يحقُّ أنْ يُخافُ منه، ثم استأنف جواب الاستفهام
(4)
بقوله:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ؛ أي: ولم يخلِطوه بشركٍ، كنسبة التَّأثير إلى الغير بعد التَّصديق بالله تعالى، لمَا روي أن الآية لمَّا نزلت شقَّ ذلك على الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
(1)
في (ك): "كل".
(2)
في (م): "الشرك".
(3)
في (ف): "بوجوب".
(4)
في (ف) و (ح): "القسم"، والصواب المثبت.
"ليس ما تظنُّون، إنَّما هو ما قال لقمانُ لابنه
(1)
: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] "
(2)
.
وقيل: بمعصيته.
ويؤيِّد الأوَّل كونُه جواباً للاستفهام من المشرِك والموحِّد.
{أُولَئِكَ} الموحِّدون {لَهُمُ الْأَمْنُ} دون غيرهم {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} خاصَّة.
* * *
{وَتِلْكَ} : إشارةٌ إلى ما احتجَّ به
(3)
إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
{حُجَّتُنَا} خبرُ (تلك).
{آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} : ألهمناها إيَّاه، ووفَّقناه لها {عَلَى قَوْمِهِ} متعلِّقٌ بـ {حُجَّتُنَا} ، و {آتَيْنَاهَا} خبر بعد خبر، أو جملة مبيِّنة
(4)
، أو {حُجَّتُنَا} بدل، و {آتَيْنَاهَا} خبر، و {عَلَى قَوْمِهِ} متعلِّق بمحذوفٍ دلَّ عليه مفعول {آتَيْنَاهَا}؛ أي: آتيناها
(5)
حجَّة على قومه.
(1)
"لابنه" زيادة من (م) و (ك).
(2)
رواه البخاري (3360)، ومسلم (124)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
"به" من (م) و (ك).
(4)
في (ف) و (ح) و (ك): "مبنية"، والمثبت من (م) وهو الصواب.
(5)
في (ك): "آتيناه". وفي "تفسير البيضاوي"(2/ 170): (آتيناها إبراهيم حجة على قومه).
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} في العلم
(1)
والحكمة، وقرئ:{دَرَجَاتٍ} بالتنوين
(2)
.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في رفعِه وخفضِه {عَلِيمٌ} بحالِ المرفوع والمخفوض، واستحقاقِ كلٍّ منهما بما فُعِلَ به.
* * *
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} ؛ أي: كلًّا منهما هدينا {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} : من قبل إبراهيم عليه السلام.
وقومُ نوحٍ عليه السلام أوَّلُ قومٍ عبدوا الأصنام، ووحَّدَ هو اللهَ تعالى، ففي عبارة {مِنْ قَبْلُ} إشارة إلى أنَّ فيه أسوةً حسنةً لإبراهيم عليه السلام، وأمَّا عَدُّ هداه نعمةً لإبراهيم عليه السلام من حيث إنه أبوه
(3)
، وشرفُ الوالد يتعدَّى، فحقُّه أن يَذكرَ نوحاً عليه السلام بعلاقته لإبراهيم عليه السلام كما ذُكِرَ مَنْ ذُكِرَ
(4)
بعدَه كذلك.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} الضَّميرُ لإبراهيم عليه السلام؛ لأنَّ الكلامَ فيه، ويونس عليه السلام من ذريَّته؛ لِمَا ذكرَ في "جامع الأصول" أنه كان من الأسباط في زمن شعيب عليه السلام، أرسله الله تعالى إلى نينوى من بلد الموصل
(5)
.
(1)
في (ف) و (ح): "الحكم".
(2)
قرأ الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين، والباقون بغير تنوين. انظر:"التيسير"(ص: 104).
(3)
في (م) و (ك): "ابن".
(4)
"من ذكر": ليست في (م) و (ك).
(5)
انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (12/ 115).
ولا بُعدَ في عَدِّ لوط عليه السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام باعتبار أنه كان ابن أخيه، هاجر معه إلى الشَّام، فلا ضرورةَ داعيةَ إلى تخصيص البيان بالمعدودين في الآية الأولى والثانية، وعطفِ المذكورين في الثالثة على نوح عليه السلام.
وقيل: لنوح عليه السلام؛ لأنَّه أقرب، وفيه أنه يلزم حينئذ إفرادُ إسماعيل عليه السلام عن باقي ذريَّة إبراهيم عليه السلام.
{دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} أيوب بن أموص
(1)
من أسباط إسحاق عليه السلام {وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} .
{وَكَذَلِكَ} : ومثلَ ذلك الجزاء العظيم الذي جزينا إبراهيم عليه السلام؛ مِنْ رفعِ درجاته، وكثرة أولاده، والنُّبوَّةِ فيهم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: الذين أحسنوا في عبادتنا.
* * *
(85) - {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} : هو المسيح ابن مريم عليهما السلام، دلَّ
(2)
ذكرُه على تناولِ الذُّريَّة لأولاد البنت.
{وَإِلْيَاسَ} : هو من سبط هارون عليه السلام، وقيل: هو إدريس جدُّ نوح عليهما السلام، فيكون البيان مخصوصاً بمن في الآية الأولى.
{كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} : الكاملين
(3)
في الصَّلاح، وهو الإتيانُ بما ينبغي، والتَّحرُّزُ
(1)
في (ف): "أيرص"، وهو تحريف، وجاء في كثير من المصادر:(موص). انظر: "روح المعاني"(8/ 287).
(2)
"دل" من (م) و (ك).
(3)
في (م) و (ك): "من الكاملين".
عمَّا لا ينبغي، وفي توصيف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح تنويهٌ بشأن تلك الصِّفة، وتنبيهٌ على عظيم قَدْرها كما في وصف الأنبياء عليهم السلام والملائكة بالإيمان؛ فإنَّ
(1)
أوصافَ الأشرافِ أشرافُ الأوصاف.
* * *
(86) - {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} .
{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} هو اليسَع بن أخطوب، وقرئ:(اللَّيْسَعَ) كضَيْغَمٍ
(2)
، وعلى القراءتين هو علم أعجمي، قيل: أُدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله
(3)
:
رأيْتُ الوليدَ بنَ اليزيدِ مُبارَكاً
ويردُّه لزوم اللَّام له، فالوجه ما قال ابن مالك: ما قارنَتْ (أل) نقلَه كالنَّضر والنُّعمان، أو ارتجالَه كاليسع والسَّمَوأل، فإنَّ الأغلب ثبوتَ (أل) فيه
(4)
.
{وَيُونُسَ} : هو يونس بن متَّى عليه السلام.
{وَلُوطًا} : هو ابن هاران ابن أخِ إبراهيم عليه السلام.
{وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} بالنبوَّة على مَن ليس من الأنبياء، ولا بدَّ من هذا القيد كيلا يلزمَ تفضيل كلٍّ منهم على الآخر، أو تفضيلُ كلٍّ من المعاصِرين على الآخر
(5)
.
(1)
في (م): "بأن".
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 104).
(3)
لابن ميادة، انظر:"ديوانه"(ص: 192)، وقد تقدَّم عند تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} [الأنعام: 52].
(4)
انظر: "شرح التسهيل" لابن مالك (1/ 176).
(5)
في (ح) و (ف): "الآخرين".
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} في محل النَّصب عطفاً على (كلًّا) أو {نُوحًا} ، و (من) للتَّبعيض؛ إذ
(1)
منهم مَن لم يكن نبيًّا ولا مهديًّا.
{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} عطفٌ على {فَضَّلْنَا} {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تقريرٌ لبيان ما هُدوا إليه.
* * *
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} إشارةٌ إلى ما دانوا به {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيه دليل على أن الهداية بمشيئته تعالى، وأمَّا أنَّه متفضِّل بها فمبناه على عدم لزوم المشيئة لذاته تعالى، وذلك غير ظاهرٍ من الكلام.
{وَلَوْ أَشْرَكُوا} مع فضلِهم وتقدُّمِهم وعلوِّ درجاتهم {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : لكانوا كغيرهم في بطلان أعمالهم بسقوطِ ثوابها عنهم.
* * *
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ؛ أي: جنسه {وَالْحُكْمَ} : الحكمة، أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ {وَالنُّبُوَّةَ} قد يأتي الفرق بينها وبين الرسالة في سورة الأعراف.
(1)
في (م) و (ك): "لأن".
{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} ؛ أي: بهذه الثَّلاثة، أو بالأخير منها {هَؤُلَاءِ} يعني: أهل مكَّة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} : هم مؤمنو أهلِ المدينة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
.
ومعنى توكيلهم: توفيقُهم للإيمان بها والقيامِ بحقوقها كما يوكَّل الرَّجل بالشيء ليقوم به ويعتمده، فمعنى المراعاة داخل في مفهوم التَّوكيل.
{لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الباء الأولى صلة الكافرين، والثانية توكيد للنَّفي
(2)
.
* * *
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الإشارة
(3)
إلى الأنبياء المتقدِّم ذكرُهم.
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} تقديم {فَبِهُدَاهُمُ} للتَّخصيص؛ أي: فاخْتَصَّ
(4)
هداهُم بالاقتداء، ولا تقتدِ إلَّا بهم.
والمراد بهداهم: الإيمان والتَّوحيد وأصل الدِّين مما
(5)
اشترك الكلُّ فيه، دون الفروع من الشرائع المختلفة والأديان، فإنها تختلف بحسب الأزمان، بقي قسم آخر وهو الفروع من
(6)
المتَّفق عليه كالصَّوم والصَّلاة وحرمة الكذب والزِّنا، فيدخل هذا القسم من الفروع مع الأصول تحت مطلق الهدى من
(1)
رواه عنه الطبري في "تفسيره"(11/ 516)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1339).
(2)
" {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الباء الأولى صلة الكافرين، والثانية توكيد" سقط من (ف) و (ح).
(3)
في (ك): "إشارة".
(4)
فعل أمر لا ماض.
(5)
في (ف) و (ح): "ما".
(6)
"من" سقط من (ف) و"ح".
المشترك المضاف إلى الكل، فيصلح متمسَّكاً في الجملة على قولِ مَن قال
(1)
: إنَّه صلى الله عليه وسلم كان متعبَّداً بشرائعِ مَن قبله.
والهاء في {اقْتَدِهْ} للوقف، ومَن أثبتها في الدَّرج ساكنةً أجرى الوصل مجرى الوقف
(2)
، ووجهُ إشباعها أن تُجعَلَ كنايةً عن المصدر.
{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} ؛ أي: على التَّبليغ {أَجْرًا} : جُعْلاً من جهتكم، كما لم يسأل الأنبياء عليهم السلام
(3)
السَّابقون.
قيل: هذا
(4)
من جُملة ما أُمِرَ بالاقتداء بهم فيه، وفيه اعترافٌ بعدم اختصاص الهدى المذكور بالأصول، فلا وجه لنفي التَّمسُّكِ المارِّ ذِكْرُه.
{إِنْ هُوَ} ؛ أي: التَّبليغ أو القرآن {إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} : تذكرةٌ وعظةٌ لهم.
* * *
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : وما عرفوه حقَّ معرفته في الرَّحمة على عباده، والإنعام عليهم ببعثة الرُّسل وإنزال الكتب، أو في السَّخط على الكافرين والبطش بهم حين أنكروا الوحي والنبوَّة وأقدموا على تلك المقالة العظيمة.
(1)
في (م) و (ك): "لمن قال".
(2)
قرأ ابن ذكوان بكسر الهاء وصلتها، وهشام بكسرها من غير صلة، وحمزة والكسائي يحذفان الهاء في الوصل خاصة، والباقون يثبتونها ساكنة في الحالين. انظر:"التيسير"(ص: 105).
(3)
"الأنبياء عليهم السلام" سقط من (ف).
(4)
في (م) و (ك): "وهذا".
{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} والقائلون هم اليهود، بدليل إلزامهم بإنزال التَّوراة على موسى عليه السلام.
وقيل: القائلون قريش، وإنما أُلزِموا بإنزال التَّوراة لأنَّه كان من المشهورات الذَّائعة عندهم، ولذلك كانوا يقولون:{لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157].
{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} : {نُورًا وَهُدًى} حالان؛ أي: جامعاً بين كونِه نوراً تتبيَّن به الأحكام والشَّرائع، وبينَ كونِه هدًى للنَّاس إلى التَّوحيد والمعاد.
{تَجْعَلُونَهُ} اعتراض لبيان سوءِ حملِهم للكتابِ وفِعْلهم به
(1)
ما ينافي كونه نوراً وهدًى للنَّاس؛ توبيخاً لهم وتعييراً.
{قَرَاطِيسَ} : ورقات متفرِّقةً ليتمكنوا بتفريقها على ما قصدوا من الإبداء والإخفاء.
{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} قراءة الجمهور: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ} ؛ نقضاً لكلامهم وإلزاماً لهم، وقرأ بعضهم بالياء التحتانيَّة
(2)
؛ حملاً على ما
(3)
{قَالُوا} {وَمَا قَدَرُوا} ، ولتضمين الإلزام توبيخَهم على تبعيضِ التَّوراة وتحريفها، وإبداءِ بعضٍ وإخفاءِ بعضٍ، وعلى هذا التفت إلى الغيبة تبعيداً لهم بسبب فعلهم القبيح، ثم التفت ثانياً إلى الخطاب تنبيهاً على أن الغائبين هم المخاطبون، وما أحسن الالتفاتين: حيث
(1)
في (ف) زيادة "في".
(2)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء في الثلاثة، والباقون بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 105).
(3)
كلمة: "ما" كذا وقعت في النسخ، ولعل الصواب على حذفها.
أُريدَ نسبة القبيح إليهم أعرض عنهم حتى لا يواجَهوا به، وحيث نسبَ إليهم الحسن وهو عِلْم ما لم يعلموا به خاطبَهم به.
{وَعُلِّمْتُمْ} خطاب لليهود؛ أي: على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم.
{مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ} مع كونكم حملَةَ الكتاب {وَلَا آبَاؤُكُمْ} الأقدمون الذين كانوا أعلمَ منكم من
(1)
الحكم والمواعظ والقصص زيادةً
(2)
على ما في التَّوراة، وبياناً لِمَا التبسَ عليكم؛ لقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، وعلى القول الثاني الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6].
{قُلِ اللَّهُ} أمرٌ بالجوابِ عنهم؛ إشعاراً بأنَّ الجوابَ متعيِّنٌ لا يَلتبسُ عليهم، ولا يناكرون
(3)
فيه، وهو: اللهُ أنزله، حذف الخبر لدلالة {أَنْزَلَ} في السُّؤال عليه، لكنَّهم بُهِتوا محجوجين
(4)
مُلزَمين لا يقدرون على الجواب خوف
(5)
الفضيحة.
{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {ثُمَّ} لاستبعاد الكلام بعد الإلزام؛ أي: لا كلام إلا هذا، ولهذا سمَّى كلامَهم غير هذا خوضاً في الباطل؛ أي: هراءً
(6)
وهذَياناً، وسمَّاهم لاعبين لأنَّ الكلام الذي ليس بنافع ولا معقول لعبٌ.
ومعنى {ذَرْهُمْ} : لا عليك بعد إلزام الحجة إن لم يسكتوا فاتركهم، {يَلْعَبُونَ}:
(1)
في هامش (ح): "الظاهر بالأحكام والحكم".
(2)
في (ك): "وزيادة".
(3)
في (ح) و (ف): "ينكرون".
(4)
في (م): "محجوبين".
(5)
في (ك): "فوق".
(6)
في (ف) و (م): "هواء".
حالٌ من {ذَرْهُمْ}
(1)
، و {فِي خَوْضِهِمْ} صلةٌ له
(2)
، أو لـ {يَلْعَبُونَ} ، أو حال منه
(3)
، أو من {خَوْضِهِمْ}
(4)
وهو صلة لـ {ذَرْهُمْ} .
* * *
{وَهَذَا} ؛ أي: القرآن. والتَّعظيمُ الذي قصد بـ {ذَلِكَ} في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] حصَل من تنكير {كِتَابٌ} فحصل التَّعادل بين القولين
(5)
.
{أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كثيرُ المنافع الثَّابتة والفوائد الباقية، فإنَّ البركة: ثبوت الخير على الازدياد.
{مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الإنجيل وسائر الكتب الإلهيَّة المخبِرة عن رسالةِ
(1)
أي: من مفعول {ذَرْهُمْ} كما هي عبارة "البحر"، وعبارة المؤلف من "الكشاف".
(2)
أي: {يَلْعَبُونَ} حال من ضمير {خَوْضِهِمْ} ، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل {يَلْعَبُونَ} .
انظر: "الكشاف"(2/ 44)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 172).
(3)
أي: لـ {ذَرْهُمْ} .
(4)
أي: من مفعول {ذَرْهُمْ} كما هي عبارة "البحر"، وعبارة المؤلف من "الكشاف".
(5)
في هامش (ح): "قال في قطف الأزهار: لما قرر بطلان قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، وأثبت إنزاله بإنزال الكتاب - أعني كتاب موسى المتفق عليه عند الخصم - عطف عليه إنزال هذا الكتاب القرآن؛ لأنَّه يلزم مَن سلَّم إنزال التوراة إنزال القرآن، بجامع أن الله قادر على الإنزال، واستظهر عليه بقوله: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ لأن الموافقة في الكتب وتصديق بعضها بعضاً شاهد على أن المتكلم واحد".
نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، والمبشِّرة عن بعثته، وموجبة
(1)
إلى تصديقه عليه السلام في دعوى النبوَّة، وهو من المقاصد الأصليَّة من إنزال القرآن.
{وَلِتُنْذِرَ} عطفٌ على ما دلَّ عليه صفة الكتاب؛ أي: للبركات وللتَّصديق وللإنذار، اكتفى بذكره عن مقابليه وخصَّه بالذِّكْرِ لعمومه.
وقيل: يجوز عطفه على صريح الوصف؛ أي: كتاب مبارك وكائن للإنذار، وعطفُ الظَّرف على المفرد في
(2)
باب الصفة والخبر كثير.
أو علةٌ لمحذوف
(3)
؛ أي: ولتنذر أنزلناه
(4)
، وقرئ بالياء
(5)
، والضمير لـ {كِتَابٌ} .
{أُمَّ الْقُرَى} : أهلَ مكَّة، وإنَّما سُمِّيَتْ به
(6)
لأنَّها قِبْلةُ أهل القُرَى ومحجُّهم، ومكانُ أوَّلِ بيتٍ وُضِعَ للناس، ولأنَّها أعظمُ القرى شأناً.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} : من أهل الشرق والغرب
(7)
، وإنَّما خصَّهم بالذِّكْرِ مع أنَّ أصلَ الإنزال للإنذار العام؛ لأن نزوله عربيًّا لأجلهم، على ما أفصح عنه في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7].
(1)
في (م) و (ك): "ومرجعه"، وفي (ح) و (ف):"وموجهة"، والمثبت من هامش (ح).
(2)
في (ح) و (ف): "من".
(3)
"أو علةٌ لمحذوف .. " عطف على: "عطفٌ على ما دل عليه صفة .. ".
(4)
في (ك): "أنزلنا".
(5)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(6)
في (ف) و (ح): "وإنما سُمِّيَتْ أمَّ القرى".
(7)
في (ح): "من أهل الشرف والعرب"، وفي (ك) و (م):"من العرب"، والمثبت من (ف)، والموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 172).
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّ التَّصديق بالآخرة يحمِلُ صاحبَه على النَّظر والتَّدبُّر خوفَ العاقبة، حتى يؤمنَ بالكتاب وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ويحافظَ على الطَّاعات.
{وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المراد بالمحافظة على الصلاة: المحافظةُ على الطَّاعات كلِّها، وإنَّما خصَّ الصَّلاة بالذِّكرِ لأنَّها عمادُ الدِّين، فاروق
(1)
بين الكفر والإسلام، ناهيةٌ عن الفحشاء والمنكر، فمَن واظبَ عليها واظبَ على كلِّها.
* * *
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأنَّه بعثه الله تعالى نبيًّا؛ كمسيلمةَ كذَّاب
(2)
اليمامة، والأسود كذَّاب صنعاء، أو اختلقَ
(3)
عليه أحكامه
(4)
كعمرو بن لحيٍّ ومتابعيه
(5)
.
{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} : هو عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا نزل قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملي عليه، حتى إذا بلغ قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
(1)
"فاروق" سقطت من (ف) و (ح).
(2)
في (ف): "الكذاب".
(3)
في (ف) و (م): "اختلف".
(4)
في (ح): "أحكاماً".
(5)
في (م): "كعمرو بن طُر وتابعيه".
خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] تعجَّبَ ظ
(1)
عبد الله من أطوار خلقة الإنسان
(2)
، فقال:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فقالَ عليه السلام:"اكتبها، فكذلك نزلَتْ"، فشكَّ عبدُ الله وقال: لئن كان محمَّدٌ صادقاً لقد أُوحِيَ إليَّ كما أُوحِيَ إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلْتُ كما قال، فارتدَّ عن الإسلام ولحق بمكَّة، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة
(3)
.
{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} كالنَّضر بن الحارث وأشباهه حيث قال: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} اللام إمَّا للعهد والإشارةُ إلى المذكورين من اليهود والمتنبِّئةِ وسائر المُدَّعين، وإمَّا للجنس ودخل هؤلاء تحته دخولاً أوليًّا.
وحذف جواب (لو) وهو: لرأيت أمراً عظيماً؛ إيماء إلى أنه لا يمكن وصفه لشدَّته.
وحذف مفعول {تَرَى} لدلالة {إِذِ الظَّالِمُونَ} عليه؛ أي: ولو ترى الظَّالمين.
{فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أصلُ الغَمْرَة: ما يَغمر من الماء، فاستُعيرَتْ
(4)
للشدَّةِ الغالبةِ.
{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} إليهم: حال {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} على تقدير القول؛ أي: يقولون: أخرجوا أرواحكم إلينا من أجسادكم.
(1)
في (ك): "فعجب".
(2)
في (ح) و (ف): "من أطوار خلقه".
(3)
قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"(2/ 401): (غريب، وذكره الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما [في "تفسيره" (7/ 43)]
…
وكذلك الواحدي في "أسباب النزول"[(ص: 220)] عن الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. قلت: والكلبي متروك.
(4)
في (م) و (ك) و (ح): "فاستعير".
وقيل: باسطوها بالعذاب {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} : خلِّصوها من أيدينا، أي: لا يقدرون على الخلاص، تشبيه لهم بالمطالِب المعنِّف والغريم المشدِّد، الذي لا يمهِل ولا يخفِّف، بل يلحُّ ويبرِّح، تصويراً لعنفهم في إزهاق الرُّوح، والغلظ في المطالبة والقبض من غير تنفيس، أو بالمؤاخذ الباطش القائل لأسيره تهكُّماً: خلِّص نفسك منِّي
(1)
؛ يريد تعجيزه وأنَّه لا يقدر على الخلاص البتَّة.
{الْيَوْمَ} يريد به: وقتَ الإماتة، أو الوقتَ الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له
(2)
.
{تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} إضافة العذاب إلى الهون لإفادة الأصالة فيه والتمكُّن والعراقة، كما يقال
(3)
: رجلُ سوءٍ.
{بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ} : بسبب قولكم {عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} كنسبة الولد
(4)
والشريك إليه، ودعوى النبوَّة والوحي كاذباً.
{وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} : وباستكباركم من الآيات فلا تؤمنوا بها.
* * *
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب والجزاء.
(1)
في (م) و (ك): "عني".
(2)
"له" من (م) و (ك).
(3)
في (م) و (ك): "تقول".
(4)
في (ف): "الولاد"، وفي (ح):"الولاء".
{فُرَادَى} : منفردين عن أموالكم وأولادكم وسائر ما آثَرْتموه من دنياكم وأعوانكم وأوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم
(1)
، وهو جمع فَرْدٍ، أو جمع فَريدٍ، كقَرينٍ وقُرانَى، ورَديفٍ ورُدَافَى، والألف للتَّأنيث ككُسالى.
وقرئ: (فُرادًا) بالتنوين، قيل
(2)
: كرُخال
(3)
، وفيه: أنه بالضم اسم جمع، وبالكسر جمع رخِل بكسر الخاء، وقد يقال: الرُّخال بالضم أنه جمع إمَّا تجوُّزًا وإمَّا لقلب الكسرة ضمة، وقرئ:(فُرادَ) كثُلاثَ، و:(فَرْدى)
(4)
كسكرى
(5)
.
{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} صفة لمصدر؛ أي: مجيئا مثلَ خَلْقِنا لكم أول مرة
(6)
، أو صفةٌ لـ {فُرَادَىنَ} ، أو بدل منه؛ أي: على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو حال ثانية، أو حالٌ عن ضمير في {فُرَادَى}؛ أي: مشبِهين ابتداءَ خلقكم عراة حفاة غرلًا بهما.
وانتصب {أَوَّلَ مَرَّةٍ} على الظَّرف.
{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} ؛ أي
(7)
: أعطيناكم وتفضَّلنا به عليكم في الدُّنيا فشُغِلْتم به عن الآخرة.
(1)
"وسائر ما آثرتموه من دنياكم وأعوانكم وأوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم" سقط من (ك).
(2)
"قيل" من (ف) و (ح)، والسياق يقتضيه، وهو ما سيورَد عليه بقوله:"وفيه .. ".
(3)
جمع رخل، وهو الأنثى من أولاد الضأن، ويجمع على: أرْخُلٌ ورِخالٌ، ويُضَمُّ، ورِخْلانٌ ورَخَلَةٌ ورِخَلَةٌ. انظر:"القاموس المحيط"(مادة: رخل).
(4)
في (ف) و (ح): "وقرئ".
(5)
انظر هذه القراءات في: "الكشاف"(2/ 47)، و"البحر المحيط"(9/ 294).
(6)
"أول مرة" من (م).
(7)
"أي": ليست في (م) و (ك).
{وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} مبالغةٌ في التَّرك وعدم الانتفاع به بحيث لا يمكنه النَّظر إليه.
{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} صريح في أنه يحال بينهم وبينهم ابتداءً، والاستفسار
(1)
عنهم عند ذلك، ثم إنهم يُجمعون معهم على ما أفصح عنه قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} [النحل: 86]، وقد مرَّ ما يتعلَّق بهذا في هذه السُّورة.
{الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} : في ربوبيتكم واستحقاقِ عبوديتكم.
{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} والمعنى: وقع التفرُّقُ بينكم.
أكثر القراء رفع {بَيْنَكُمْ}
(2)
على إسناد الفعل إلى الظَّرف على الاتساع، كما يقال: قُوتِل خلفُكُم وأمامُكُم، ومَن نصب فعلى تأويل إسناد الفعل إلى المصدر، كما تقول: وقع التقطُّع بينكم، كما يقال: جُمع بين الشيئين، إذا
(3)
أُوْقعَ الجمع بينهما، وأصله:(لقد تقطَّعَ ما بينكم)، وقد قرئ به
(4)
.
وقيل: إنَّ البَيْنَ مصدرٌ، وهو من الأضداد، يجيء بمعنى الفَصْل والوَصْل، فمعناه: تقطَّع وصلُكم وتشتَّت جمعكم، ولا تأباه قراءة النَّصب؛ إذ حينئذ تكون حركتُه حركةَ بناءٍ لإضافته إلى المبنيِّ، وهو ضمير الخطاب، فيكون فاعلًا لـ {تَقَطَّعَ} ، فتستوي القراءتان.
{وَضَلَّ} : غاب.
(1)
في (ف) و (ح): " وللاستغناء".
(2)
قرأ نافع وحفص والكسائي بنصب النون والباقون برفعها. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(3)
في (م) و (ك): "أي".
(4)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 47)، و"البحر المحيط"(9/ 298).
{عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنَّها شفعاؤكم، يرشدك إلى هذا قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24].
* * *
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} بالنَّبات والشَّجر، أخبر عنه بشقِّ النَّواة مع شدَّتها وصلابتها، ويخرج منه نبتًا أخضر لينًا ما لو اجتمع كل الخلائق على إخراج مثله ما قدروا عليه.
وقيل: المراد به الشُقاق الذي في النَّواة والحنطة مثلًا.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} جملة مبينة لمَا قبله؛ لأنَّ فلقَ الحبِّ بالنَّبات والنَّواة بالشَّجر إخراجُ الحيِّ من الميت؛ لأنَّ النَّاميَ في حكم الأحياء؛ لقوله تعالى: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]، إلَّا أنَّه أعمُّ ليكون
(1)
كالدَّليل.
{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ} : ما لا ينمو من النُّطف والحبِّ
(2)
.
{مِنَ الْحَيِّ} : من الحيوان والنَّبات، ذكره بلفظ الاسم حملًا على {فَالِقُ الْحَبِّ} .
{ذَلِكُمُ اللَّهُ} ؛ أي: ذلكم القادر على تلك الأمور العجيبة هو الذي يحق له العبادة.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : تُصرَفون عنه إلى غيره، وفيه دلالة على أنَّ هناك صارفًا لهم عن مقتضى فطرتهم، وأنَّه غير الله تعالى.
(1)
في (ف) و (ح): "فيكون".
(2)
"والحب" سقط من (ف) و (ح).
{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} : شاقُّ ظلمةِ الإصباح، وهو الغبش
(1)
في آخر اللَّيل الذي علا الأفقَ من الصبح، أو شاقُّ محمود الصبح عن بياض النَّهار، يقال: انشقَّ عمودُ الصُّبح وانصدع الفجر
(2)
، وسمَّوا الفجر فَلْقًا بمعنى مفلوق.
و {الْإِصْبَاحِ} في الأصل مصدر أصبح: إذا دخل في الصبح، سمي به الصبحُ
(3)
.
وقرئ بفتح الهمزة على الجمع
(4)
، وقرئ:{فَالِقَ} بالنَّصب على المدح
(5)
.
{وَجَاعَلُ اللَّيْلَ سَكَنًا} السَّكن: ما يُسْكَنُ إليه ويُسْتأنَسُ به، ومنه قيل للنَّار
(6)
: سكن؛ لأنَّه يُستأنَسُ بها، واللَّيل يَستأنِسُ به التَّعِب، وَيسكنُ إليه للاستراحة فيه، ونصبه بفعلٍ دلَّ عليه {وَجَاعَلُ} لا به؛ لأنَّه قُصد به معنى المضيِّ، وَيعضُده قراءة:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ}
(7)
حملًا على معنى المعطوف عليه، فإن {فَالِقُ} بمعنى: فَلَق، ولذلك قُرئ به
(8)
.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "الغلس"، والمثبت من (ح)، وهو الموافق لما في المصادر. انظر:"الكشاف"(2/ 49)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 174)، و"البحر"(9/ 304).
(2)
"الفجر" زيادة من (م) و (ك).
(3)
"سمي به الصبح" من (م) وهو الموافق لما في المصادر السابقة.
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 49)، و"البحر المحيط"(9/ 305).
(5)
نسبت لإبراهيم النخعي. انظر: "الكشاف"(2/ 49)، و"البحر المحيط"(9/ 306).
(6)
في (ف) و (ح): "للنهار".
(7)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي، والباقون:(وجاعل) على وزن فاعل. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(8)
يعني: (فَلَق الإصباحَ)، ونسبت لإبراهيم النخعي. انظر:"الكشاف"(2/ 49).
أو به
(1)
على أن المراد منه جعلٌ مستمرٌّ في الأزمنة.
وما يقال: إنَّه لمَّا بَعُدَ بمعنى المضيِّ عن شَبَهِ الفعل فبمعنى
(2)
الاستمرار أولى، ليس بشيء؛ لأن شبهه الخاص إنما هو بالمضارع، وباعتباره يعمل، ولهذا يشترط معنى الحال أو الاستقبال الذي هو حقيقةُ المضارع عند الجمهور، والمضارع قد يجيء للاستمرار
(3)
كثيرًا، فاسم الفاعل بالاستمرار لا يَبْعُدُ عن شَبَهِ الفعل بخلافِ معنى المضيِّ.
وعلى هذا التَّقدير يجوز أن يكون {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} عطفًا على محلِّ {اللَّيْلَ} ، والأحسن نصبهما على إضمار فعل دلَّ عليه {جَاعِل} .
وقرئ بالجرِّ
(4)
عطفًا على {اللَّيْلَ} ، ولا دلالة فيه على أن نصبهما عطفًا على محل {اللَّيْلَ} حتى ينافيَ حُسنَ نصبِهما على إضمار فعلٍ
(5)
.
وقرئ بالرفع
(6)
على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: والشَّمسُ والقمرُ محسوبان.
{حُسْبَانًا} ؛ أي: جُعِلا حُسبانًا، جعلهما علمَي
(7)
حسبان؛ لأن حُسبان الأوقات
(1)
أي: بـ (جاعل). وانظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 174).
(2)
في (م) و (ك): "فمعنى".
(3)
في (م) و (ك): "بمعنى الاستمرار".
(4)
يعني: (والشمسِ والقمرِ). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 49).
(5)
من قوله: "دل عليه جاعل
…
" إلى هنا سقط من (ف) و (ح).
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 49)، و"البحر المحيط"(9/ 309).
(7)
قوله: "جعلهما علمي حسبان" كذا جاءت في جميع النسخ، ولعل المعنى: جعلهما علمين على نوع من الحساب؛ لأن حساب الأوقات يعلم بحركتهما، وفي مطبوع "الكشاف" (2/ 50): =
يُعْلَم بسَيرهما ودَورهما، يعني: على أدوارٍ مختلفةٍ تُحْسَبُ بها الأوقات، ويكونان علمَي
(1)
الحسبان، وعلى قراءة الجرِّ نُصب {حُسْبَانًا} بفعلٍ مقدَّرٍ؛ أي: جُعِلا كما مرَّ في {سَكَنًا} .
والحُسْبَان كالكُفْران مصدرُ حسَبَ بفتح العين، وأما مصدر حسِبَ بالكسر فالحِسْبان كالفِقْدَان.
{ذَلِكَ} ؛ أي: جَعْلُهما حسبانًا؛ يعني: ذلك التَّسيير بالحساب المعلوم {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي قهَرَهما وسخَّرَهما {الْعَلِيمِ} بتدبيرهما وتدويرهما
(2)
على الأدوار المختلفة.
* * *
= (جعلهما على حسبان؛ لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما) والمعنى عليه واضح، وكذا جاء في "فتوح الغيب"(6/ 175)، لكن لفظ المؤلف جرى التنبيه عليه في هامش نسخة خطية جيدة من "الكشاف" أنه في نسخة منه:(علمي)، وأما البيضاوي فقد وقع الاختلاف في مطبوعاته، ففي طبعة إحياء التراث (2/ 174)، وطبعة "حاشية الشهاب" (4/ 102):({حُسْبَانًا}؛ أي: على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان)، وفي طبعة "حاشية شيخ زاده"(4/ 102)، وطبعة "حاشية القونوي" (8/ 205):(على الحسبان)، ولم ينبه أحد من أصحاب الحواشي المذكورة على هذا الاختلاف بين اللفظين، ولكل منهما وجه كما علمت.
(1)
في (ف) و (ح): "ويكون على"، وفي (ك):"ويكونان على"، والمثبت من (م). وانظر التعليق السابق.
(2)
"وتدويرهما" سقط من (ف) و (ح).
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} إجمالٌ؛ أي: خلقَها لأجلِكم
(1)
؛ فإنَّ لكم فيها منافع، وهو دليلُ إضماره في الكلِّ من {فَالِقُ الْحَبِّ} ، و {وَجَاعَلَ اللَّيْلَ} و {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ؛ لأنَّه في مَعرضِ الامتنان، وتعديد
(2)
النِّعم على الإنسان.
{لِتَهْتَدُوا بِهَا} يتبيَّن بإفراد بعض منافعها بالذِّكْرِ إشارةٌ إلى أنَّه أكثرُ منافعها وأجلُّها.
{فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : في ظلماتِ اللَّيل في البرِّ والبحر، وإضافتها إليهما للملابَسَة، أو: في مشتبِهات الطُّرق، وسمَّاها ظلماتٍ على الاستعارة.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} : بيَّناها فصلًا فصلًا، وإنَّما قال
(3)
:
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لِمَا علمْتَ أنَّ ذلك التَّفصيل في معرض الامتنان، وهو لا يكون إلَّا للعالِمِ بما امتنَّ به
(4)
.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : هو آدم عليه السلام.
{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} : فلكُم استقرار في الرَّحم أو فوقَ الأرض، واستيداعٌ في الصُّلب أو تحتَ الأرض.
(1)
في (ف) و (ح): "لآجالكم".
(2)
في (ف) و (ح): "وتقدير ".
(3)
في (م) و (ك): "وإنما قال".
(4)
في (ك) و (م): "للعالم به لما امتن به".
وقال ابن الحنفيَّة: المستقرُّ الصُّلْب، والمستودعُ الرَّحم
(1)
؛ لتقدُّم
(2)
ذِكْره على المستودَعَ.
أو: فلكم محلُّ استقرار واستيداع.
وعلى قراءة كسر القاف
(3)
: فمنكم مستقِرٌ؛ اسم فاعل، ومنكم مستودعَ اسم مفعول؛ لأن الاستقرار منَّا دون الاستيداع، وهو جعل
(4)
الشيء في الشيء للاحتفاظ به.
قال الحسن: المستقِرُّ مَن مات، والمستودعَ أنتم
(5)
.
وأُنْشِدَ:
فُجِعَ الأحبَّةُ بالأحبَّة قبلَنا
…
فالنَّاس مفجوعٌ به ومفجَّعُ
مستودعٌ أو مستقِرٌّ قدْ خلا
(6)
…
فالمستقِرُّ يزورُه المستودعُ
وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك. ويُنشد
(7)
:
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1356)، و (6/ 2003).
(2)
في (م) و (ك): "لتقديم".
(3)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(4)
في (ف) و (ح): "حصر".
(5)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 173).
(6)
قوله: "قد خلا" كذا في النسخ، وفي "تفسير الثعلبي" (4/ 174):(مدخلا)، ومثله في "روح المعاني"(8/ 335). وعزاهما الثعلبي والآلوسي لسليمان بن زيد العدوي.
(7)
في (ح) و (ف): "وأنشد". ومثله في "تفسير الثعلبي"(4/ 174)، والمثبت من (ك) و (م)، ومثله في "روح المعاني"(8/ 334).
وما المالُ والأهلونَ إلَّا وديعةٌ
…
ولا بُدَّ يومًا أنْ تُرَدَّ الودائعُ
(1)
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فرَّق بينَ الفاصلتين فذَكَرَ مع ذِكْرِ النُّجوم والاهتداء بها: {يَعْلَمُونَ} ؛ لظهور أمرها
(2)
، ومع إنشاء الخلق
(3)
من نفسٍ واحدة: {يَفْقَهُونَ} ؛ لأن تصريفهم بين أطوارٍ وأحوالٍ مختلفةٍ يحتاج إلى دقَّةِ نظرٍ وروَّية.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : من جانبها أو من السحاب.
{فَأَخْرَجْنَا} على تلوين الخطاب {بِهِ} : بالماء {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} : نبتَ كلِّ صنفٍ
(4)
من أصناف النَّامي، وفيه إيماءٌ إلى عجيبِ صنعِه، وبديعِ خلقِه، من كون السَّبب واحدًا، والمسبَّبات أشياءَ مختلفةً، كقوله:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4].
{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من النَّبات {خَضِرًا} : شيئًا غضًّا أخضرَ، وهو ما تشعَّب من أصل النَّبات الخارج من الحبَّة.
(1)
البيت للبيد. انظر: "ديوانه"(ص: 170).
(2)
في (ف) و (ح): "لظهوره".
(3)
في (ف) و (ح): "إنشائهن".
(4)
"صنف" من (م) و (ك).
{نُخْرِجُ مِنْهُ} : من الخَضِر {حَبًّا مُتَرَاكِبًا} : هو
(1)
السُّنبل.
{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} الطَّلْعُ: أوَّلُ ما يخرجُ من النَّخلة في أكمامها
(2)
.
{قِنْوَانٌ} وهو الأعذاق: جمع عِذقٍ. مبتدأٌ و {وَمِنَ النَّخْلِ} خبره، و {مِنْ طَلْعِهَا} بدل منه
(3)
، كأنه قيل: وحاصلةٌ من طلع النخل قنوانٌ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا لدلالة (أخرجنا) عليه؛ أي: ومخرَجةٌ من طلع النَّخل قنوانٌ
(4)
.
ومَن قرأ: (حبٌّ متراكبٌ)
(5)
عَطَف {قِنْوَانٌ} على (حبٌّ).
وقرئ بضم القاف وبفتحها
(6)
على أنه اسمُ جمع؛ إذ ليس فَعلان من أبنية الجمع.
{دَانِيَةٌ} : قريبةُ التَّناول؛ لأنَّ النَّخل تُثمر
(7)
على قِصَرها، أو قريبةٌ بعضُها من بعض، وصف القنوان بالدانية؛ لأنَّ النَّعمة فيها أكثرُ وأهنا، واستغنى بها عن ذِكْرِ مقابِلها، كقوله:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} .
{وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} بالكسر في محل النصب، عطفٌ على {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} .
(1)
في (م): "وهو".
(2)
في (م) و (ك): "أكمامه".
(3)
بدل بعض من كل بإعادة العامل. انظر: "روح المعاني"(8/ 339).
(4)
"ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا لدلالة أخرجنا عليه أي: ومخرجه من طلع النخل قنوان" سقط من (ف) و (ح).
(5)
أي: (يُخرَج منه حبٌّ متراكب). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 51)، و"الدر المصون"(5/ 69). وهي على بناء (يخرج) للمفعول كما صرح بذلك السمين.
(6)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"المحتسب"(1/ 223)، و"الكشاف"(2/ 51).
(7)
في (م): "تغمر"، وفي (ك):"تعمر".
وقرئ بالرفع
(1)
على الابتداء؛ أي: ولكم - أو: وثمَّة - جنَّاتٌ من الأعناب؛ أي: مع النَّخل، ويجوز عطفه على {قِنْوَانٌ} ، ولا يلزم أن يكون المعنى: ومن النَّخيلِ جنَّاتٌ من أعناب؛ إذ حينئذ يكون {مِنْ أَعْنَابٍ} عطفًا على (من النخيل)، فيصير من عطف مفرد على الابتداء، وأخِّرَ على
(2)
خبرُه، وقدِّم الظَّرف في المعطوف عليه للتَّخصيص وأخِّر في المعطوف لعدم اختصاص الجنَّات
(3)
، غايته أن المعطوف على المبتدأ يكون نكرةً غيرَ مخصوصة، ولم يُعرَفْ منعُ ذلك، كيف وقد قال الشاعر:
عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي
…
فهل بأعجبَ من هذا امرؤٌ سمعا
(4)
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أيضًا عطف على {نَبَاتَ} ، أو نصب على المدح، لعزَّة هذين الصِنْفَين عندَهم.
{مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} حال، وتقديره: والزيتون مشتبهًا وغير متشابه، والرُّمان كذلك، كقوله:
......... كنْتُ منه ووالدي
…
بريئا .........
(5)
(1)
وهي فراءة الأعمش. انظر: "القراءات الشاذة"(ص: 39)، و"البحر المحيط"(9/ 315).
(2)
"على"من (م) و (ك).
(3)
في (م): "الاختصاص بالجنات".
(4)
البيت بلا نسبة في "شرح التسهيل" لابن مالك (1/ 292)، و"مغني اللبيب" (ص: 610).
(5)
جزء من بيت، وتمامه:
رَمانِي بأَمْرٍ كنتُ مِنه ووالِدِي
…
بَرِيئًا ومن جُولِ الطَّوِىِّ رَمانِي
ويروى: ومن أجل الطويِّ.
وقد اختلف في نسبته؛ فعزاه سيبويه في "الكتاب"(1/ 75) لابن الأحمر، وهو في "ديوانه" (ص: 187)، ونُسب للأزرق بن طرفة بن العمرَّد الفراصي، كما في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (2/ 161)، وانظر:"لسان العرب"(11/ 132).
أي: بعضُه متشابهٌ وبعضُه غيرُ متشابهٍ، في
(1)
القَدْرِ واللَّون والطَّعم والشَّكل، وذلك دليل القدرة.
وقرئ: (متشابهًا)
(2)
، والاشتباه والتَّشابه بمعنًى واحد، وكثيرًا ما يشترك الافتعال والتَّفاعل بمعنى.
{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} إلى ثمر كلِّ واحدٍ من ذلك، وقرئ بضم الثاء
(3)
؛ جمعُ ثَمَرَةٍ، كخَشَبَةٍ وخُشُبٍ، أو ثِمارٍ ككتابٍ وكُتُبٍ.
{إِذَا أَثْمَرَ} : إذا أخرج ثمره، نظرَ استبصارٍ واعتبار واستدلال على قدرة مقدِّره ومدبِّره وناقله من حال إلى حال، كيف يخرجُ ضئيلًا حقيرًا لا ينتفع به
(4)
.
{وَيَنْعِهِ} وإلى حال نضجه، أو إلى نضيجه كيف يعود شيئًا جامعًا لمنافِعَ وملاذَّ.
واليَنْعُ: مصدرُ يَنَعَ، بفتح الياء في لغة
(5)
الحجاز، وضمها في بعض لغةِ نجد، يقال: ينعَتِ الثَّمرة: إذا أَدركت ونَضِجت.
وقيل: جمعُ يانع، كتَجْرٍ وتاجر.
وقرئ بالضم
(6)
، وهو لغة فيه، و:(يَانعِهِ)
(7)
.
(1)
في (ف) و (ح): "وفي".
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 52)، و"البحر المحيط"(9/ 318).
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(4)
في (ف): "كيف سبيلًا حقيرًا ولا ينتفع به"، وفي (ح):"كيف سنبلًا حقيرًا ولا ينتفع به". وانظر: "الكشاف"(2/ 52).
(5)
في (م): "لغة أهل".
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 52)، و"المحرر الوجيز"(2/ 328)، و"البحر المحيط"(9/ 320).
(7)
نُسبَتْ لابن محيصن. انظر: "القراءات الشاذة"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 52).
{إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ؛ أي: لآياتٍ دالَّةً على وجودِ قادرٍ حكيمٍ وتوحيدِه لمن
(1)
نظرَ واعتبرَ، وظهورُ الآياتِ لا تنفعُ إلَّا لمن قدَّرَ اللهُ تعالى له الإيمان، فنبَّه على ذلك بتوصيف
(2)
القوم بالإيمان، فهو من قَبيل:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
ولمَّا ذكرَ ما دلَّ على صانعٍ قادرٍ حكيمٍ لا نِدَّ له ولا ضِدَّ وَبَّخَ مَنْ أشرك به واستعظم
(3)
ذلك فقال:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} مفعولا (جعلوا)
(4)
، و {الْجِنَّ} منصوبٌ بمحذوف جوابًا عن سؤال، كانه قيل: مَنْ جعلوه شركاء لله؟ فقيل: الجنَّ، أو بدل من {شُرَكَاءَ} ، أو {شُرَكَاءَ الْجِنَّ} مفعولاه، و {لِلَّهِ} متعلِّق بـ (جعلوا)، أو حال من {شُرَكَاءَ} ، و {شُرَكَاءَ} ثاني مفعوليه
(5)
.
وقرئ: (الجِنُّ) بالرَّفع
(6)
، كأنه قيل: مَن هم؟ فقيل: الجنُّ؛ أي: هم الجنُّ، وبالجر على الإضافة للتبيين
(7)
.
(1)
في (م) و (ك): "بمعنى".
(2)
في (ف) و (ح): "توصيفه".
(3)
في (ك) و (م): "أو استعظم"، وسقطت به من (ح) و (ف).
(4)
في (ك) و (م): "مفعولان لجعلوا".
(5)
في (ف) و (ح): "أو شركاء الجن مفعوليه".
(6)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 29)، و"الكشاف"(2/ 52)، و"المحرر الوجيز"(2/ 329)، و"البحر المحيط"(9/ 325).
(7)
انظر: "الكشاف"(2/ 52)، و"البحر المحيط"(9/ 325).
وفائدةُ تقديمِ {لِلَّهِ} استعظامُ أن يكون لله شركاء، أيِّ شيء كان، جنيًّا أو إنسيًّا أو غير ذلك، وكذا فائدة تقديم {شُرَكَاءَ} على {الْجِنَّ} ، والظاهر أن المراد به الملائكة، وسمَّاهم جنًّا لاجتنانهم تحقيرًا لشأنهم، ويجوز أن يُرادَ بالجنِّ الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يجب أن يطاع الله تعالى، وعبدوا الأوثان بتحريضهم وتسويلهم، فهم عبدوهم في الحقيقة.
وقيل: المراد به الثَّنويَّه القائلون بيزدان وأهرمن
(1)
، من الذين زعموا أنَّ اللهَ تعالى خالقُ كلِّ خيرٍ ونافعٍ، وإبليس خالقُ كلِّ شرٍّ وضارٍّ.
{وَخَلَقَهُمْ} ؛ أي: الجاعلين
(2)
، معناه: وقد علموا أنَّ اللهَ خالقَهم دونَ الجنِّ، فكيفَ يجعلون مَنْ لا يخلقُ شريكَ الخالق.
أو: الجنَّ؛ يعني: وخلقَ اللهُ الجنَّ، فكيفَ يجعلونَ مخلوقَه شريكًا له.
وقرئ: (وخَلْقَهم) بسكون اللام
(3)
، عطفًا على {شُرَكَاءَ} على الوجه الأول؛ أي: اختلاقَهم للإفك، معناه: وجعلوا لله افتراءهم، وهو ما
(4)
نسبوا قبائحهم إلى الله تعالى في قولهم: إنَّ اللهَ حرَّم هذا، وقولهم:{وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وأمثال ذلك.
(1)
حيث قالوا: إن الله - تعالى - وإبليس أخوان، فالله - تعالى - خلق الناس والدواب والأنعام وكل خير، ويعبرون عن الله بيزدان، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب وكل شر، ويعبرون عن إبليس بأهرمن. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 175)، و"جامع البيان" للإيجي (1/ 563)، والشرح الذي ذكرناه لفظه.
(2)
في (ف): "الجاهلين".
(3)
نسبت ليحيى بن معمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"المحتسب"(1/ 224).
(4)
في (ح) و (ف): "وهم". وسقطت منهما: "ما".
{وَخَرَقُوا} : افتعلوا الإفكَ، يقال: خلقَ الإفكَ وخرقَه واختلقَه واخترقَه بمعنى، ويجوز أن يكون من خرَقَ الثَّوب: إذا شقَّه؛ أي: اشتقُّوا له بنين وبنات.
وقرئ: {وَخَرَقُوا} بالتَّشديد
(1)
للتَّكثير لقوله
(2)
: {بَنِينَ وَبَنَاتٍ} على الجمع.
وقرئ: (حرَّفوا له)
(3)
؛ أي: وزوَّروا
(4)
له أولادًا؛ لأن المزوِّرَ محرِّفٌ مغيِّرٌ للحقِّ إلى الباطل، هو قولُ أهل الكتابَين في المسيح وعُزَيرٍ عليهما السلام، وقولُ قريشٍ في الملائكةِ.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : منْ غيرِ أنْ يعلموا حقيقةَ ما قالوه، أي: قولًا عن جهالةٍ وعمًى منْ غيرِ فكرٍ وروَيَّةٍ
(5)
، وهو في موضعِ الحالِ؛ أي: خرقوا مُلْتَبسينَ
(6)
بالجهالة، أو المصدر؛ أي: خرقًا بغير علمٍ.
ولما ذكر إثباتهم الشُّركاء للهِ
(7)
تعالى، واختلاقَهم بنسبةِ ما لا يجوز نسبتُه إليه تعالى، نزَّهَهُ عن ذلك بقوله:
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وهو أنَّ له شريكًا أو ولدًا.
(1)
قرأ بها نافع. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(2)
في (ف) و (ح): "ليكثر بقوله"، وفي (م):"تكثير لقوله".
(3)
نسبت هذه القراءة لابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. انظر: "المحتسب"(1/ 224)، و"البحر المحيط"(9/ 327).
(4)
في (ف) و (ح): "زوروا".
(5)
"وروية" سقط من (ك).
(6)
في (م): "متلبسين".
(7)
في (م) و (ك): "له".
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من إضافة الصِّفة إلى فاعِلها؛ أي: بُدِعَتْ سماواتُه وأرضُه، أو إلى الظَّرف؛ أي: بديعٌ فيهما، بمعنى: عديم النَّظير فيهما، كقولك: فلانٌ ثَبْتُ الغَدْرِ؛ أي: ثابتٌ فيه.
وقيل: بمعنى: المبدع، وقد مرَّ أن فَعِيلًا يجيء بمعنى المُفْعِل كأليم وحكيم.
وهو خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: هو بديع، أو مبتدأٌ خبرُه:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} ؛ أي: مِنْ أين - أو: كيف - يكون له ولدٌ؟ أو فاعلُ (تعالى).
وقرئ بالجرِّ صفةً لله تعالى، أو بدلًا من ضمير {سُبْحَانَهُ} ، وبالنَصب على المدح
(1)
.
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} يكون منها الولد، وقرئ بالياء
(2)
، للفصل، أو لأنَّ الاسمَ ضميرُ الله
(3)
، أو ضمير الشَّأن.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه خافيةٌ، وإنما قال:{بِكُلِّ شَيْءٍ} ، ولم يقل:(به)؛ لأن الأوَّل اختصَّ بالمخلوقيَّة.
وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: أحدها: أنَّه تعالى مُبدِعُ الأجسامِ كلِّها، ومبدعُ الأجسام كلِّها لا يكون
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 39)، و"الكشاف"(2/ 53).
(2)
نسبت لإبراهيم النخعي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40)، و"المحتسب"(1/ 224).
(3)
أي: "ضميرٌ يعود على الله". انظر: "البحر المحيط"(9/ 328).
جسمًا، والولادةُ إنَّما تكون من صفات الأجسام، فلم يكن له ولا.
وثانيها: أنَّ الأجسامَ مُبدَعةٌ، والمُبدِعُ هو الذي لا يوجَدُ من مادَّةٍ، والولد لا يكون إلَّا من مادَّة شخص، فالمبدِعُ ليس بوالدٍ.
وثالثها: أنَّ الولدَ لا يكون إلَّا عن زوجةٍ تُجانس الوالدَ، وهو غير مجانَسٌ، فلا زوجةَ له، فلا ولدَ.
ورابعها: أنَّه تعالى خالقُ الكلِّ، والمخلوقُ ممكِن محتاجٌ إلى الخالقِ، والخالقُ واجبٌ مستغنٍ، فلا يشابهه شيءٌ من خلقِه.
وخامسها: أنَّه تعالى عالمٌ بكلِّ شيءٍ لذاته، ومَنْ عداهُ ليس كذلك بالإجماع، فلا يجانسُه غيرُه، والولدُ إنَّما هو مجانسٌ للوالد
(1)
، فلم يكن له ولدٌ.
* * *
{ذَلِكُمُ} إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصِّفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبارٌ مترادفة، وهي:{اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ويجوز أن يكون البعض خبرًا، والبعض بدلًا أو صفة.
{فَاعْبُدُوهُ} مسبَّب عن مضمون الجملة؛ أي: مَن استجمع هذه الصفات وجبَ عبادته، ولا تحقُّ العبادة إلَّا له.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ؛ أي: هو مع تلك الصِّفات متولي أموركم، فكِلُوا إليه أمورَكُم وتوصَّلوا
(2)
إليه بعبادته ليجازَيكم بها.
(1)
في (ح) و (ف): "والوالد إنما هو يجانس الولد".
(2)
في (م) و (ك): "وتوسلوا"، والمؤدى واحد.
(103) - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
{لَا تُدْرِكُهُ} : لا تحيط به {الْأَبْصَارُ} فإذا لم يُحِطْ به الكلُّ فعدمُ إحاطةِ كلِّ واحدٍ منها به
(1)
بطريقِ الأَوْلى، وهذا
(2)
الوجه للعدول عن المفرد إلى الجمع، وإذا كان المنفيُّ الإدراكَ الخاصَّ فلا متمسَّكَ فيه لمن أنكر الرؤية، وأمَّا الجواب عنه بتخصيص الحكم ببعض الأوقات أو ببعض الأشخاص فلا يتحمَّله الكلام على الوجه المذكور المناسب للمقام.
و {الْأَبْصَارُ} : جمع بصر، وهو حاسَّة العين؛ أي: قوتها التي بها تدرك، وقد تطلق على العين مجازًا.
{وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} : يحيطُ بها
(3)
علمًا.
{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فيدرِكُ ما لا يُدرَكُ بالبصر، ويجوز
(4)
أن يكون الأوَّل ناظرًا إلى قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، والثَّاني إلى قوله:{وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، كأنه قيل: لا تدركه الأبصار لأنَّه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنَّه الخبير بكلِّ خفيَّة وجليَّة، والمراد من {اللَّطِيفُ}: ما لا يتعلَّق به حاسّة النَّظر؛ لعدم حظِّه من الكثافة بطريق الاستعارة.
(1)
"به" من (م) و (ك).
(2)
في (م): "وهذا هو".
(3)
في (ف) و (ح): "به".
(4)
"الواو" ليست في (م).
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} البصائر: جمع بصيرة، وهي نورٌ للقلب
(1)
يدرِك به الحقائق
(2)
ويستبصِر، وهي للقلب بمنزلة البصر للعين، سُمِّيَتْ بها الدلالة لأنها يُجلى بها الحقُّ ويبصَر بها.
{فَمَنْ أَبْصَرَ} ؛ أي: أبصرَ الحقَّ بهذه الدَّلائل فآمن
(3)
به {فَلِنَفْسِهِ} أبصر، وإيَّاها نفعَ.
{وَمَنْ عَمِيَ} ؛ أي: عميَ عن الحقِّ وأنكر {فَعَلَيْهَا} عميَ، وإيَّاها ضرَّ؛ إذ ليس وباله إلَّا عليه
(4)
.
وهذا الكلام واردٌ على لسانِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} : وما أنا عليكم برقيب يحفظ أعمالكم ويجازيكم بها، بل اللّه هو الحفيظ، وما أنا إلَّا منذرٌ.
* * *
(105) - {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} ومثلَ ذلك التَّصريف نصرِّفُ، وهو نقلُ الشيء من حالٍ إلى حالٍ.
{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} علَّةُ فعلٍ محذوف؛ أي: وليقولوا درسْتَ نصرِّفها، واللام للعاقبة.
(1)
في (ف) و (ح): "بصر وهو نور القلب".
(2)
في (م) و (ك): "الحق".
(3)
في (م) و (ك): "وآمن".
(4)
في (م) و (ك): "عليها".
كذا قالوا، والظَّاهر أنها لام الأمر، والفعل مجزوم بها، لا منصوب بإضمار أن
(1)
، ويؤيِّده قراءة من قرأَ بتسكين اللَّام
(2)
، والمعنى عليه متمكِّن
(3)
، كأنَّه قيل: ومثلَ ذلك نصرِّف الآيات ولْيقولوا هم ما يقولون، وهو أمرٌ معناه الوعيد والتَّشديد، وعدمُ الاكتراث بهم وبما يقولون.
والدَّرس: استمرار التِّلاوة، وقرئ:{دَارَسْتَ}
(4)
العلماءَ، و:{وَدَرَسْتَ}
(5)
من الدُّروس، أي: قَدُمَتْ هذه الآياتُ وعَفتْ، كقولهم:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5].
وقرئ: (دَرُسَتْ) بضم الرَّاء
(6)
؛ مبالغة في دَرَسَتْ.
و: (دُرِسَتْ) على البناء للمفعول
(7)
، أي: قُرِئَتْ هذه الآيات، أو: عَفيَتْ.
و: (دَارَسَتْ)
(8)
بمعنى: دَرَسَتْ، أو: دارسَتِ اليهودُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار؛ لأنَّ اليهود كانت مشهورة عندهم بالدِّراسة، ويجوز أن يكون الضَّمير للآيات، والمرادُ أهلُها، وهم أهل الكتاب.
(1)
هذا القول الذي نفاه هو قول الجمهور في الآية. انظر: "البحر المحيط"(9/ 337).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس (2/ 469)، و"الكشاف"(2/ 55)، و"المحرر الوجيز"(2/ 331)، و"البحر المحيط"(9/ 339).
(3)
في (ح) و (ف): "ممكن".
(4)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(5)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 55)، و"البحر المحيط"(9/ 335).
(7)
نسبت للحسن كما في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40)، ولابن عباس رضي الله عنهما كما في "المحتسب"(1/ 225).
(8)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40).
و: (دَرَسَ)
(1)
؛ أي: درسَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
و: (دَرَسْنَ)
(2)
؛ أي: عَفَوْن.
و: (دارسات)؛ أي: قديمات، أو: ذات درس؛ كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7]
(3)
.
{وَلِنُبَيِّنَهُ} اللام للتعليل على الحقيقة أو بطريق الاستعارة، على اختلاف الأصلين في جواز أن يكون فعلُ الله تعالى معلَّلًا بالغرض، وأعيد الضمير مفردًا على معنى الآيات وهو القرآن، ولما كان التصريف
(4)
اعتبر فيه وحدةُ المعنى كان لتوحيد الضمير هاهنا باعتبار المعنى موقعٌ حسَن.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وجه التَّخصيص ما ذُكر في قوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
* * *
(106) - {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} بالتَّديُّن به.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} اعتراض أكَّد به إيجابَ اتِّباع الوحي، أو حالٌ مؤكِّدة من {رَبِّكَ} بمعنى: منفردًا في الألوهيَّة.
(1)
نسبت لابن مسعود. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40).
(2)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المحتسب"(1/ 225). وانظر هذه القراءات وغيرها في "البحر المحيط"(9/ 335)، وقد أورد في "البحر المحيط" ثلاث عشرة قراءة لهذه الكلمة.
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 55)، و"البحر المحيط"(9/ 336). وقد أورد في "البحر المحيط" ثلاث عشرة قراءة لهذه الكلمة منها ما ذكر هنا ومنها ما لم يذكر.
(4)
في (ح) و (ف): "التزييف"، وفي (م) و (ك):"التعريف". والصواب المثبت. انظر: "الكشاف"(2/ 55).
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} : ولا
(1)
تحفلْ
(2)
بأقوالهم ولا تلتفت إليهم، ومن جعله منسوخًا بآية السَّيف حمل الإعراض على ما يعمُّ الكفَّ عنهم، ولا ضرورة فيه.
* * *
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} توحيدَهم وعدمَ إشراكهم {مَا أَشْرَكُوا} دليل على أنَّ الله تعالى لا يريدُ إيمانَ الكفار، وأنَّ مرادَه تعالى واجبُ الوقوع.
{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} : رقيبًا.
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} يقومُ بأمورِهم.
* * *
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح {فَيَسُبُّوا اللَّهَ} ليتسبَّب سبُّكم لأنْ يسبُّوا الله.
فيه تلوين الخطاب بالعدول عن
(3)
خطابه صلى الله عليه وسلم وحده إلى الخطاب في ضمن الكلِّ؛ لِمَا في مواجهته عليه السلام بما ذكر من خلافِ ما كان عليه من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن فحَّاشًا
(4)
ولا سبَّابًا.
(1)
في (م) و (ك): "أي لا".
(2)
في (ف) و (ح): "تحتفل".
(3)
في (ف) و (ح): "فمن"، وفي (ك):"من"، والمثبت من (م).
(4)
في (ك): "فاحشًا".
قال الإمام أبو منصور: كيفَ نهانا الله تعالى عن سبِّ مَنْ
(1)
يستحقُّ السَّبَّ لئلا يُسَبَّ مَنْ لا يستحقُّه، وقد أمرنا بقتالهم، وإذا قاتلناهم قاتلونا
(2)
، وقَتْلُ المؤمن بغير حقٍّ منكرٌ، وكذا أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي والتِّلاوة عليهم، وإن كانوا يكذِّبونه؟
ثم قال في جوابه: إنَّ السَّبَّ لأولئك مباحٌ غيرُ مفروضٍ، وقتالهم فرضٌ، وكذا التَّبليغ، وما كان مباحًا فإنَّه يُنهى عما يَتولَّد منه وَيحدث، وما كان فرضًا لا يُنهَى عن المتولِّد منه، وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة فيمَنْ قطعَ يدَ قاطعِ يده قصاصًا فمات منه
(3)
، فإنَّه يضمن الدِّية؛ لأنَّ استيفاء حقِّه مباحٌ، فأُخِذَ بالمتولِّد منه
(4)
، والإمام إذا قطع يدَ السَّارقِ فمات لم يضمن؛ لأَنَّه فرضٌ عليه، فلم يُؤْخَذْ بالمتولِّد منه. إلى هنا كلامه
(5)
.
وعلى هذا لا دلالة في الآية على أنَّ الطَّاعة الواجبة يجب أنْ تُترَك إذا أدَّت إلى معصية راجحة كالنَّهي عن المنكر.
بقي هاهنا شيء: وهو أنهم كانوا مقِرِّين بالله تعالى وعظمته، وأن الأصنام إنما تُعبَد ليكونوا شفعاء عند الله تعالى، فكيف يسبُّونه؟
وأجيب عنه: بأنهم لا يفعلون ذلك صريحًا، لكن ربَّما يُفضي فعلهم إلى ذلك، كما قالوا: اترك شتمَ آلهتنا وإلا شتمناك ومَنْ يأمرك بذلك.
(1)
في (م): "ما".
(2)
في (ك) و (م): "قتلونا"، في (ح) و (ف):"فقتلوا"، والمثبت من "تأويلات أهل السنة".
(3)
"منه" زيادة من (م).
(4)
"وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة فيمن قطع يد قاطع يده قصاصًا فمات منه، فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح، فأخذ بالمتولد منه" سقط من (ك).
(5)
انظر: "تأويلات أهل السنة"(4/ 207).
ويعضد ذلك قوله: {عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ؛ أي: تجاوُزًا عن الحقِّ إلى الباطل على جهالة.
حالٌ
(1)
؛ أي: عادِين، أو مفعولٌ له؛ أي: لعدوانٍ فيهم، أو مصدرٌ للنَّوع؛ أي: سبًّا عَدْوًا.
وقرئ: {عَدْوًا} بضم الدَّال وتشديد الواو
(2)
.
وبما قرَّرناه تبيَّن الخلَّل فيما قيل: إنه عليه السلام كان يطعن في آلهتهم، فقالوا: لتنتهينَّ عن سَبِّ آلهتنا أو نهجونَّ إلهك، فنزلت
(3)
.
فإنَّ عبارة: (نهجونَّ) تأبى عن التَّأويل المذكور، وقد ذكر في "التيسير"
(4)
سبب النزول على وفق ذلك
(5)
التأويل.
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: مثلَ ذلك التَّزيين العظيم - وهو تزيينُ سبِّ الله تعالى - زيَّنا لكلِّ أمَّة من أمم الكفَّار سوء عملهم بالخذلان والتَّخلية بينهم وبين أعمالهم حتى تزيَّن لهم.
(1)
في (ف) و (ح): "قال".
(2)
وهى قراءة يعقوب. انظر: "المبسوط في القراءات العشر"(ص: 200)، و"النشر"(2/ 261).
(3)
أخرج نحوه الطبري في "تفسيره"(7/ 309)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1377)، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره. وانظر:"أسباب النزول" للواحدي (ص: 221)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 338).
(4)
هو كتاب: "التيسير في التفسير" لنجم الدين، أبي حفص: عمر بن محمد النسفي الحنفي، المتوفى بسمرقند سنة (537). انظر:"كشف الظنون"(1/ 519).
(5)
"ذلك" من (م) و (ك).
وقيل: هو عامٌّ؛ أي: زيَّنَّا
(1)
لكلِّ أمَّةٍ عملَهم من الخير والشرِّ بإحداث ما يمكِّنهم منه ويحملهم عليه توفيقًا وتخذيلًا.
ويقوِّي الأوَّلَ كونُ الكلام في الكفَّار، والمشبَّهُ به تزيين سبِّ الله تعالى لهم، والتَّهديدُ بقوله:{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بالمجازاة والمعاقبة.
* * *
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} مصدر في موقع الحال؛ أي: جاهدين أيمانهم جَهدًا، وإنما أقسموا بالله تعالى مؤكِّدين تحكُمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب الآيات واقتراحها وعدمِ الاعتداد بما رأوا منها.
{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} من مقترَحاتهم {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} لا عندي؛ أي: هو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها.
{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} استفهامُ إنكارٍ للسَّبب
(2)
مبالغةً في المسبَّب؛ أي: لا تدرون أيُّها المؤمنون أنَّ الآيات المقترحة إذا جاءتهم لا يؤمنون بها
(3)
، بل أنا أعلم بذلك؛ يعني: أنَّ سببَ عدمِ إنزال الآية التي يقترحونها
(4)
علمُ اللهِ تعالى بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وذلك أنَّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم
(1)
"أي زينا" زيادة من (م) و (ح).
(2)
في (ك): "للمسبب".
(3)
"بها" من (م).
(4)
في (ت) و (ح): "يفترونها".
ويتمنَّون مجيئها ليؤمنوا، فأجيبوا بذلك، ودليله قوله تعالى:{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
ومنهم من جعل {لَا} مزيدةً في القراءة بالفتح
(1)
.
وقرئ: {لَا تُؤْمِنُونَ} بالتَّاء
(2)
، على أن الخطاب للمشركين.
وقرئ: {وَمَا يُشْعِرُهُمْ}
(3)
؛ أي: ولا
(4)
يعلمون أنَّ قلوبهم إذا جاءت كانت كما كانت
(5)
مطبوعًا عليها فلا يؤمنون بها.
وقيل: {أَنَّهَا} بمعنى: لعلَّها، من قول العرب: ائت السوق أنك تشتري لحمًا، ويؤيِّده قراءة أُبيٍّ رضي الله عنه:(لعلَّها)
(6)
.
وقرئ: {أَنَّهَا} بالكسر
(7)
، على أنَّ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} كلامٌ قد تمَّ؛ أي: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم ابتدأَ فأعلمهم بقوله: إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتَّة.
* * *
(1)
أي: فتح ألف {أَنَّهَا} ، والقراءة بالفتح سبعية وسيأتي تخريجها.
(2)
وهي قراءة ابن عامر وحمزة. انظر: "التيسير"(ص: 106).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 58).
(4)
في (م) و (ك): "وما".
(5)
"كما كانت" زيادة من (م) و (ك).
(6)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 350)، و"الكشاف"(2/ 57)، و"المحرر الوجيز"(2/ 333).
(7)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم، وباقي السبعة بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 106).
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} عطف على {لَا يُؤْمِنُونَ} ، داخلٌ في حكم الاستفهام، وكذا {نَذَرُهُمْ}؛ أي: وما يشعركم أنَّا نقلِّب أفئدتهم؛ أي
(1)
: نطبع على قلوبهم ونُعمي أبصارهم كما كانت، ولم يذكر أسماعهم إذ لا يناسبه التَّغليب، ولهذا أيضًا لم يقل: قلو بهم، بدل {أَفْئِدَتَهُمْ} .
ويجوز أن يكون {كَمَا} في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} للتعليل، و (ما) مصدريَّة؛ أي: يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به؛ أي: بما أنزل من الآيات أوَّل وقتٍ جاءهم
(2)
هدى اللهِ تعالى، ويناسب هذا المعنى آخر الآية.
{وَنَذَرُهُمْ} : نخلِّيهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} متحيِّرين، لا نهديهم هداية المؤمنين.
وقرئ: (ويُقلِّبُ
…
وَيذَرهُم) على الغيبة
(3)
.
وقرئ: (وتُقَلَّبُ) على البناء للمفعول ورفع (أفئدتُهم وأبصارُهم)
(4)
.
* * *
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} كما قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: 21].
(1)
بعدها في (ح) و (ف): "وما يشعركم".
(2)
في (م): "وجاهم".
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 58)، و "المحرر الوجيز"(2/ 334)، و"البحر المحيط"(9/ 355).
(4)
نسبت للأعمش وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40)، و"الكشاف"(2/ 58)، و"البحر المحيط"(9/ 355).
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما قالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} [الدخان: 36].
{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} كما قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء: 92]
(1)
، والقُبُل. جمع قبِيلٍ، بمعنى كفيل؛ أي: كفلاءَ بما بشِّروا به وأنذروا، أو جمعُ قَبِيلٍ جمعِ قَبيلَة؛ أي: جماعاتٍ، أو مصدرٌ بمعنى: مقابلَةً
(2)
.
وقرئ: (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء
(3)
؛ أي: عِيانًا.
حالٌ على الوجوه
(4)
كلِّها من {كُلَّ شَيْءٍ} لعمومه
(5)
.
{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} لا لما
(6)
سَبَق عليهم القضاء بالكفر
(7)
؛ لأن فيه تعليلَ الحوادث بالتقدير الأزليِّ، ولا يخفى فسادُه؛ [بل]
(8)
لبطلان استعدادهم وتبدُّل فطرتهم القابلة بسوء
(9)
اختيارهم.
(1)
في (ك): "قبلًا".
(2)
في (ح) و (ف): "مقابل".
(3)
قرأ بها نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 106).
(4)
في (ح) و (ف): "القراءات"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الأنسب لأنَّه لم يذكر سوى قراءتين بينما ذكر ثلاثة وجوه.
(5)
في (ح) و (ف): "بعمومه".
(6)
في (ت) و (ح): "بما"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق "تفسير البيضاوي". ويصح في (لما) تشديد الميم وتخفيفها. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 113).
(7)
هكذا علله البيضاوي. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 178). وما سيأتي رد عليه.
(8)
ما بين معكوفتين من "حاشية الشهاب"(4/ 113)، وقد نقل كلام المؤلف لكنه لم يعين قائله، وكذا نفله الآلوسي في "روح المعاني"(8/ 386) وسماه بعض الأفاضل، وفيه مناقشة حسنة للمسألة فانظرها ثمة.
(9)
في (ف): "سوء"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصدرين السابقين.
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ظرف؛ أي: إلا وقتَ أن يشاء الله.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أنَّهم لو أُتوا
(1)
بكل آية لم يؤمنوا، فيُقسمون بالله
(2)
جهد أيمانهم على ما لا يشعرون
(3)
، ولذلك أُسند الجهل إلى أكثرهم مع أنَّه يعمُّهم؛ لأنَّ المقسِمين بعضُهم.
أو: ولكنَّ أكثرهم يجهلون أنَّهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات، فيطمعون في إيمانهم ويتمنَّون نزولها، بيَّنَ أنَّ الآيات وإنْ توالَتْ، وشُموسَ البرهان وإنْ تعالَت، فمَنْ قصمَتْه العزَّة
(4)
، ووكسته القسمة
(5)
، لم يزدْه ذلك إلا ضلالًا، فلم يَستجدْ إلَّا للقسوة حالًا
(6)
.
* * *
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} ؛ أي: كما جعلنا لك عدوًّا جعلنا لكلِّ نبي سبقك عدوًّا، والحكمة في ذلك الابتلاءُ والامتحان؛ ليظهر الثَّبات والصَّبر، وكثرةُ الثَّواب والأجر.
(1)
في (ح) و (ف): "أوتوا"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الصواب لأن المراد الإتيان لا الإيتاء.
(2)
"بالله": ليست في (ك).
(3)
"على ما لا يشعرون" من (م) و (ك).
(4)
في (ف): "العدة"، وفي (م):"الغيرة"، وفي (ك):"العرة"، والمثبت من (ح).
(5)
في (م): "القسمية".
(6)
جاءت العبارة في "لطائف الإشارات"(1/ 495): "لأن الآيات وإن توالت، وشموس البرهان وإن تعالت، فمن قصمته العزّة وكبسته القسمة لم يزده ذلك إلا حيرة وضلالا، ولم يستنجز إلا للشقوة حالًا".
{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} متمردي الصِّنْفَين، بدل من {عَدُوًّا} ، أو هما مفعولان و {عَدُوًّا} مفعوله الثاني
(1)
، و {لِكُلِّ} متعلق به، أو حال منه.
{يُوحِي} : يلقي في خُفيةٍ {وَبَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} : شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنس، أو بعضُ أحد الصنفين إلى بعضٍ آخر منه.
{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} : مُزيَّنَه ومموَّهَه
(2)
بالأباطيل.
{غُرُورًا} حال؛ أي: غارِّين، أو: مغرورين، أو مفعول له للغرة
(3)
.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} حذف المفعول لدلالة: {مَا فَعَلُوهُ} عليه؛ أي: لو شاء ربك أن لا يفعلوا معاداةَ الأنبياء وإيحاءَ الزَّخارف - على أنَّ الضمير لمَا ذُكر
(4)
- ما فعلوه، ولكن ما شاء مما
(5)
اقتضته حكمته، ويجوز أن يكون الضمير للإيحاء.
وفي الآية دلالةٌ على أن الشُّرور صدورها عنه تعالى بمشيئته.
{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ؛ أي: إذا عرفْتَ أنَّ ذلك بمشيئته تعالى، ومشيئتُه
(6)
تابعةٌ لحكمته، فاتركهم وَكُفْرَهم، وفيه تهديدٌ ووعيدٌ.
(1)
"وعدوا مفعوله الثاني" من (م).
(2)
في (ح) و (ف): "تزيُّنه وتموُّهه".
(3)
قوله: "للغرة" كذا في النسخ، وفي "روح المعاني" (8/ 392) ({غُرُورًا} مفعول له؛ أي: ليغرُّوهم).
(4)
أي: ما فعلوا ذلك، يعني: معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 178).
(5)
في (م) و (ك): "لما".
(6)
"ومشيئته" من (م).
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} عطفٌ على {غُرُورًا} إنْ جُعِلَ علَّة، أو علَّةٌ لمحذوف؛ أي: ولتصغَى إليه جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوًّا، واللَّام للتَّعليل أو للعاقبة على الاختلاف في جواز أن يكون فعلُه تعالى معلَّلًا بالغرض، وليست لامَ الأمر، وإلَّا لقيل:(ولْتَصْغَ) بحذف الألف، ولا لامَ القسم؛ لأن عطف قوله:{وَلِيَرْضَوْهُ} يأباه، وهذا يدفع كونها للأمر أيضًا.
والضَّمير في {إِلَيْهِ} و (ليرضوه) لِمَا له ضمير {مَا فَعَلُوهُ} .
والصَّغو: الميل لغرضٍ من الأغراض، يقال: أصغيتُ الإناء: إذا أَمَلْتَه لتجمع ما فيه.
{وَلِيَرْضَوْهُ} : لأنفسهم {وَلِيَقْتَرِفُوا} : وليكتسبوا {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} من الآثام، فيتميَّز الشَّقي من السَّعيد.
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة؛ لأنَّه أوَّلًا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرِّضى
(1)
، فيكون فعلُ الاقتراف، فكان كلُّ واحدٍ مسبَّبًا
(2)
عمَّا قبلَه.
* * *
(1)
في (ف): "الرضاء".
(2)
في (ف) و (ح) و (ك): "سببًا".
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} على إرادة القول؛ أي: قل لهم يا محمد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على ما دلَّ عليه ما قبله؛ أي: أأشكُّ
(1)
لكثرة الجاحدين المفترين
(2)
، فغيرَ اللّه تعالى أبتغي - أي: أطلبُ - حكمًا يحكم بيني وبينكم، وَيفصل المحقَّ منَّا من المُبطل.
روي أن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكمًا
(3)
من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى؛ ليخبرنا
(4)
عنك بما في كتابهم عن أمرك، فنزلت
(5)
.
و (غيرَ) مفعولُ {أَبْتَغِي} ، وفي تقديمه إيماءٌ إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه
(6)
حكمًا، و {حَكَمًا} حال منه، ويحتمِل عكسَه.
وجوِّزَ أن يكون {حَكَمًا} تمييزًا عن (غير)، كقولهم: إن لنا غيرها إبلًا، وهو أبلغ من الحاكم، قيل: ولذلك لا يُوصَفُ به إلا العادل، وفيه: أن المبالغة من جهة التَكرُّر، ولا دلالةَ فيه على الوصف.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ} الواو للحال {الْكِتَابَ} ؛ أي: القرآن {مُفَصَّلًا} مبيَّنًا فيه الحق والباطل، مميَّزًا به الصَّادق مِن المفتري، وفيه تنبيهٌ على أنَّ القرآنَ بإعجازه وتقريره مغنٍ عن سائر الآيات.
(1)
في (ح): "الشك"، وفي (ف) و (ك):"أتشك".
(2)
في (ف) و (ح): "الجاهلين المقترفين".
(3)
في (ح) و (ف): "اطلب حكمًا يحكم بيننا وبينك".
(4)
في (م): "فيخبرنا".
(5)
انظر: "النكت والعيون"(2/ 160)، و"زاد المسير"(3/ 110).
(6)
في (ح) و (ف): "والرضاء يكون".
ثم أكَّدَ الدّلالة على أنَّ القرآنَ حقٌّ - يعلمُ أهلُ الكتاب أنَّه حقٌ؛ لتصديقه ما عندهم وموافقته لهم من غير قراءته صلى الله عليه وسلم لكتابهم
(1)
- بجملة استئنافية وهو قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} قرئ بالتَّخفيف والتَّشديد
(2)
.
{مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إنما وصف الكلَّ بالعلم تنزيلًا للجاهلين منهم لتمكُّنهم منه منزلةَ العالم،
وقيل: المراد: مؤمنو أهل الكتاب.
{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أنهم يعلمون ذلك، أو أنَّه منزَّل من ربِّك بالحقِّ لكثرة جحودهم وكفرهم، وهو
(3)
من باب التَّهييج والإلهاب.
أو خطاب لكل أحد؛ أي: لفَا تعاضدت الأدلَّة وبَهَرت فلا ينبغي لأحدٍ أن يرتاب فيه.
وقيل: الخطاب للرَّسول عليه السلام والمراد أمته.
* * *
{وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ} ؛ أي: تمَّتْ كلُّ كلمةٍ من ربك
(4)
، ومعنى (تمت): استمرَّتْ، لا أنه كان بها نقصٌ فكمَلتْ وبلغت الغاية.
(1)
في (ف) و (ح): "قراءة كتابهم".
(2)
قرأ بالتشديد ابن عامر وحفص، والباقون بالتخفيف. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(3)
في (م) و (ك): "فهو".
(4)
"من ربك" من (ك) و (م).
{صِدْقًا} في الأخبار والمواعيد {وَعَدْلًا} في الأحكام والأقضية، نُصبا على الحال، أو التَّمييز، أو المفعول له.
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا أحد يقدر أن يحرف شيئًا منها شيوعًا وذياعًا كما فُعِلَ بالتَّوراة، على أنَّ المراد بها القرآن، فيكون ضمانًا من الله تعالى بحفظه، إذ لا نبيَّ ولا كتاب بعدَه ينسخُه ويبدِّل أحكامه.
وقرئ: {كَلِمَتُ رَبِّكَ}
(1)
؛ أي: ما تكلَّم به، أو القرآن.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لِمَا يقولون {الْعَلِيمُ} بما
(2)
يُضمرون، فلا يُهملهم وإن أمهلهم.
* * *
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: أكثرَ النَّاس {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لأنَّ أكثرهم يتَّبعون أهواءَهم.
وقيل: المراد بـ {الْأَرْضِ} : أرض مكَّة.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ؛ أي: الآراءَ الفاسدة والأهواء الباطلة، وظنُّوا أنَّ آباءهم كانوا على الحقِّ، وهم يقلدونهم
(3)
، فإنَّ الظَّنَّ يُطلَقُ على ما يُقابلُ العلم.
{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ؛ أي: يُقَدِّرونَ أنَّهم على شيءٍ، أو يكذبون في قولهم: إنَّ اللهَ حرَّم كذا وأحلَّ كذا، فإنَّ الخَرْصَ التقديرُ والكذبُ.
(1)
وهي قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ باقي السبعة بالجمع. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(2)
في (ف) و (ح): "لما".
(3)
في (ف) و (ح): "يقتدونهم".
(117) - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ؛ أي: أعلم بالفريقَيْنِ، و {مَنْ} إمِّا موصولة أو موصوفة، وهي في محل النصب بفعلٍ دلَّ عليه {أَعْلَمُ} ، لا به؛ لأن (أفعل) لا يعمل في الظاهر في مثل هذه الصورة.
أو في محلِّ الجرِّ لا بإسقاط حرف الجر وإبقاء عمله لدلالة {بِالْمُهْتَدِينَ} عليه؛ لأن مثله لا يجوز إلَّا في ضرورة الشِّعر، بل بإضافة {أَعْلَمُ} إليه.
أو استفهامية في محلِّ الرَّفع بالابتداء، والخبر {يَضِلُّ} والجملة معلَّق
(1)
عنها الفعل المقدَّر، وعلى هذا صَرفه عن وفاق قسيمه تعجيبًا من
(2)
شأن المضلِّين المتَّبعين للظنِّ الكاذبين
(3)
، وإبعادًا لهم.
وقرئ: (مَن يُضِلُّ) بضم الياء
(4)
؛ أي: يضلُّه الله؛ أي: أعلمُ المضلِّين، من قوله تعالى
(5)
: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الأعراف: 86]، أو أضلَلْتُه
(6)
: إذا وجدْتَه ضالًّا.
والتفضيل في العلم بكثرته، وإحاطته بالوجوه التي من شأن العلم أن يتعلَّق بها، ولزومه
(7)
، وكونه بالذَّات لا بالغير.
(1)
في (ف): "متعلق".
(2)
في (ح) و (ف): "تعجبًا في".
(3)
في (م): "الكاذب".
(4)
نسبت للحسن وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 40)، و"المحتسب"(1/ 228).
(5)
في النسخ: "من قولهم"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 179).
(6)
في (ف) و (ح): "أو أضله".
(7)
في (م): "ولدوامه"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير البيضاوي"(2/ 180).
(118) - {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} .
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} : مسبَّبٌ عن إنكارِ
(1)
اتِّباع المضلِّين الذين يحلُّون الحرام ويحرِّمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تعبدون الله، فما قتلَ اللهُ أحقُّ أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحقِّقين بالإيمان فكلوا مما ذُكِرَ اسمُ الله عليه خاصَّة، دونَ ما ذُكِرَ عليه اسمُ غيره من آلهتهم، أو ماتَ حتفَ أنفِه.
وما ذُكِرَ اسمُ الله عليه هو المذكَّى باسم الله تعالى.
{إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} فإنَّ الإيمان بها يقتضي ما ذُكِرَ، وقد دلَّ
(2)
هذا على شرطٍ محذوفٍ جوابُه: {فَكُلُوا} .
* * *
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا} : وأيُّ غرضٍ لكم في أن لا تأكلوا.
{مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وتتحرَّجوا من
(3)
أكله.
قيل: هو كلام على القلب؛ إذ المراد: أن تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، فقلبَ مبالغةً في صونهم عن أكل ما حُرِّمَ عليهم، وأنهم ليسوا مما يَهُمُّون بذلك فيحتاجون
(4)
(1)
في (م) و (ك): "سبب عن إنكارهم"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير البيضاوي"(2/ 180) ..
(2)
في (ك): "حل".
(3)
في (م): "ويتحرجوا من"، وفي (ف) و (ح):"ويتحرجوا عن"، والمثبت من (ك).
(4)
في (ف) و (ح): "محتاجون".
إلى التَّنبيه، وأنهم من شدَّة
(1)
الاحتراز عن الحرام كادوا يتركون ما أُحِلَّ لهم تورعًا، ولهذا رتَّب الوعيد على تجاوز الحدِّ.
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} : وقد بيَّنَ لكم ما حرَّم عليكم مما لم يحرِّم؛ يعني في هذه السُّورة؛ لأنها على ما نُقِلَ مكيَّة، ونزلَتْ
(2)
في مرَّة واحدةٍ، والتفصيل الواقع في (البقرة) و (المائدة) متأخِّر
(3)
في النُّزول؛ لأنهما مدنيتان.
وقرئ: {فَصَّلَ} على البناءين، وكذا {حَرَّمَ}
(4)
.
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} استثناء متَّصل؛ أي: ممَّا حُرِّمَ عليكم
(5)
، ويجوز أن تكون {مَا} مصدريَّة، و {مَا اضْطُرِرْتُمْ}
(6)
في محلِّ النَّصب على الظَّرف، والاستثناء مفرَّغ؛ أي: ما حُرِّمَ عليكم في جميع الأوقات إلا وقتَ اضطراركم إليه؛ يعني في حال الضَّرورة، فإنَّه حينئذٍ حلال.
{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ} فيحللِّون ويحرِّمون {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : بتَشهِّيهم من غير تمسُّكٍ بدليلٍ يفيد العلم.
(1)
في (م) و (ك): "لشدة".
(2)
في (ف) و (ح): "ويذكر".
(3)
في (ك): "مأخرة".
(4)
قرأ الكوفيون ونافع {وَقَدْ فَصَّلَ} بفتح الفاء والصاد، والباقون بضم الفاء وكسر الصاد، وقرأ نافع وحفص:{مَا حَرَّمَ} بفتح الحاء والراء، والباقون بضم الحاء وكسر الراء. انظر:"التيسير"(ص:106).
(5)
"عليكم" سقط من (ك).
(6)
في (م) و (ك): "أن تكون {مَا} مصدرية وما في {مَا اضْطُرِرْتُمْ} "، وهذا يوهم أن المصدرية هي غير التي في {مَا اضْطُرِرْتُمْ} ، والصواب أنها هي.
وقرئ: {لَيُضِلُّونَ} بضم الياء وفتحها
(1)
.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} : المتجاوِزين الحقَّ إلى الباطلِ، والحلالَ إلى الحرامِ.
* * *
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} : ما يُعلَن به وما يُسَرُّ، أو: ما يعمل بالجوارح وما بالقلب،
وقيل: الزِّنا في منازلهنَّ واتِّخاذِ الأخدان؛ قال الضَّحَّاك: كان أهل الجاهلية يرون ما كان من الزِّنا سرًّا حلالًا، فحرِّم بهذه الآية
(2)
.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} : يكتسبون
(3)
.
* * *
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ظاهر في تحريم المتروك عليه اسم الله تعالى عمدًا أو نسيانًا، وعليه أحمدُ ومالكٌ وداودُ، خلافًا للشافعي؛ لقوله عليه
(1)
قرأ الكوفيون: {لَيُضِلُّونَ} بضم الياء، والباقون بفتحها. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(8/ 14).
(3)
في (م) و (ك): "يكسبون".
السلام: "ذبيحةُ المسلمِ حلالٌ وإنْ لم يَذكر اسم الله عليه"
(1)
، وفرَّق أبو حنيفة بين العمد والنِّسيان، وأوَّلَه
(2)
بالميتة، وما ذُكر اسمُ غير الله عليه، لقوله
(3)
: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الواو للاستئناف، أو للعطف على جملة استئنافية للتعليل، حُذِفَتْ لدلالة باقي الكلام عليها؛ أي: إنه حرام وإنه لفسق، الضمير لمصدر الفعل الذي دخل عليه النَّهي؛ أي: وإن الأكل منه لفسق، أو للموصول إما بحذف المضاف؛ أي: وإنَّ أكلَه، وإما بجعل ما لم يذكر اسم الله عليه نفسَ الفسق، ويجوز أن يكون الضَّميرُ الثَّاني على تقدير التقدير لعدم ذكر اسم الله تعالى.
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} ؛ أي
(4)
: لَيُوَسْوِسُونَ {إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} من المشركين {لِيُجَادِلُوكُمْ} بقولهم المنقول فيما سبق، وهو يؤيِّدُ التَّأويلَ بالميتة.
{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلال ما حُرِّمَ {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأنَّ مَنِ اتَّبع غيرَ الله تعالى في دينه فقد أشرك، جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ
(5)
قبل الشرط سادٌّ مسدَّ جوابه؛ أي: والله.
وقيل: حُذف الفاء لدخول الشرط على الماضي، ورُدَّ بأنَّه يقع ضرورةً فلا تكون في القرآن.
(1)
رواه أبو داود في "المراسيل"(378) عن الصلت السدوي، وعلته مع الإرسال جهالة الصلت كما ذكر ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"، ورواه الحارث ابن أبي أسامة كما في "بغية الباحث" (1/ 478 - 479) عن راشد بن سعد. قال البوصيري في "إتحاف الخيرة" (5/ 281): هذا إسناد مرسل ضعيف. وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (4/ 183).
(2)
في النسخ جميعها: "أولاه"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(2/ 180).
(3)
"لقوله" سقط من (ف) و (ح).
(4)
"أي": ليست في (م) و (ك).
(5)
في (م) و (ك): "القسم المقدر".
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدَّرٍ دلَّ عليه ما قبله؛ أي: هل يكون المهتدي كالضَّالِّ ومَنْ كان ميتًا فأحييناه.؟
وقرئ: {مَيْتًا} على الأصل
(1)
.
{وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ} إنما زاد: {فِي النَّاسِ} تقويةً للنُّور؛ فإنَّ المشي بينهم يعجز عنه مَنْ
(2)
في نور بصره ضعفٌ.
{كَمَنْ مَثَلُهُ} : صفتُه، وهو مبتدأ خبره:{فِي الظُّلُمَاتِ} على سبيل الحكاية، يعني: أنَّه إذا وُصف يقال له ذلك، والجملة صلة
(3)
(مَن)؛ أي: كمَن صفته هذه، وقوله:
{لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} حالٌ من المستكنِّ في الظَّرف، والعاملُ معنى
(4)
الاستقرار، لا مِن البارز في {مَثَلُهُ} للفصل.
وهو مَثَلٌ لمَن بقي في الضَّلالة
(5)
لا يفارقها بحال، وما سبق مَثَلٌ لمَن هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال
(6)
، وجَعل له نورَ البصيرة يميِّز به بين الحق والباطل بالتَّأمُّل
(1)
وهي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 106).
(2)
في النسخ جميعها: "ما"، ولعل الصواب المثبت.
(3)
في (م) و (ك): "صفة".
(4)
في (ف): "يعنى".
(5)
في هامش (ف): "من قال: على الضلالة، كأنه غافل عن قوله تعالى: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]. منه".
(6)
"لا يفارقها بحال وما سبق مثل لمن هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال" سقط من (ك).
في الآيات والبيِّنات، وكلاهما من قَبيل الاستعارة التَّمثيلية؛ إذ لا ذكر للمشبَّه صريحًا، ولا دلالة بحيث
(1)
ينافي الاستعارة، وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية: أيكون الأسد كالثعلب؟ أي: الشَّجاعُ كالجبان
(2)
؟.
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مِثْلَ ذلك التَّزيين، والإشارةُ إلى ما في قوله:{زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، أو قوله:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121].
{زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والآية نزلت في حمزة وأبي جهل، وقيل: في عمر أو عمَّار رضي الله عنهما وأبي جهل
(3)
.
* * *
{وَكَذَلِكَ} ؛ أي: كما جعلنا في مكَّة أكابر مجريها ليمكروا فيها {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} {جَعَلْنَا} بمعنى: صيَّرنا، ومفعوله
(4)
الأول {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} ، و {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} مفعولُها الثاني. ويجوز أن يكون {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} ظرفًا لغوًا، والمفعولُ الثاني {لِيَمْكُرُوا} على أنَّ الجَعْلَ بمعنى التَّمكين
(5)
. و {أَكَابِرَ} على هذين الوجهين مضاف إلى مُجْرِمِيهَا}.
(1)
في (ف) و (ح): "حيث".
(2)
في (ف) و (ح): "كالمحتال".
(3)
انظر ما ورد من روايات في الأسباب المذكورة في "تفسير الطبري"(9/ 533 - 534)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1381)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 224)، و"الدر المنثور"(3/ 352).
(4)
في (ح) و (ف): "ومفعولها".
(5)
في هامش (ف): "ومن وهم أن الجعل على كلا الوجهين بمعنى التمكين فقد وهم. منه".
وأجاز أبو البقاء أن يكون {مُجْرِمِيهَا} بدلًا من {أَكَابِرَ}
(1)
.
وأجاز ابن عطية أن يكون {مُجْرِمِيهَا} المفعولَ الأوَّل، و {أَكَابِرَ} المفعولَ الثانيَ، والجَعْلُ بمعنى التَّصيير، أو بمعنى التَّمكين، على أن يكون الكلام من قبيل:{أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]
(2)
.
ويردُّهما أنَّ أفعل التفضيل إذا كان بـ (مِن)
(3)
ملفوظًا بها أو مقدَّرًا أو مضافًا إلى نكرة، كان مفردًا مذكَّرًا دائمًا، سواءٌ كان لمذكَّرٍ أو مؤنَّثٍ، مفردٍ أو مثنًّى أو مجموعٍ، فإذا أنِّث أو ثُنِّيَ أو جُمِعَ طابَقَ ما هو له في ذلك، ولزمه أحد الأمرين: إما الألف واللام، أو الإضافة إلى معرفة، وعلى الوجهين المذكورين يلزم أن يبقى {أَكَابِرَ} مجموعًا، وليس فيه الألف واللام، ولا هو مضافٌ إلى معرفة، واللازم باطل
(4)
.
وتخصيص الأكابر
(5)
لأنَّهم أقوى على استتباع الناس في المكر بهم.
وقرئ: (أكبر مجرميها)
(6)
، وعلى هذه القراءة يمكن تمشية الوجهين المردودين على القراءة السابقة.
{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وباله يحيق بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك.
(1)
انظر: "الإملاء"(ص: 536).
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 341).
(3)
في (ف) و (ح): "من من".
(4)
انظر: "البحر المحيط"(9/ 384)، وتعقبه الشهاب في "حاشيته على البيضاوي"(4/ 122).
(5)
"وليس فيه الألف واللام ولا هو مضاف إلى معرفة واللازم باطل وتخصيص الأكابر" سقط من (ك).
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 63)، و"البحر المحيط"(9/ 385).
{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} ؛ أي: بتلك الآية {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} لم يقولوا: مثل ما أوتي محمَّد؛ لأنهم كانوا في مقام الإنكار لذلك، وفيما روي أنَّ أبا جهل قال: زاحمْنا بني عبد مناف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منَّا نبيٌّ يُوحَى إليه، والله لا نرضى به ولا نتَّبعه إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت
(1)
.
قولُه: (كما يأتيه) لا يناسب النكتة المذكورة
(2)
، وعلى صحَّة ما روي الجمعُ في (قالوا) لأن مَنْ تبعَه من
(3)
قريش رضُوا بقوله، فنُزِّلوا منزلةَ القائلين.
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} استئناف للردِّ عليهم بأنَّ النُّبوَّةَ ليسَتْ بكبر النَّفس ولا بالمال والجاه، إنَّما هي لخصائصَ
(4)
يخصُّ الله تعالى بها مَن يشاء من عباده، وَيصطفي بها مَن يعلم أنَّه يصلح لها، وهو يعلم بالمحل الذي يضعُها فيه.
فناصب {حيث يعلم} محذوفٌ مدلول
(5)
عليه بـ {أَعْلَمُ} ، لا به؛ لأن أفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به، {حَيْثُ} هاهنا مفعولٌ به
(6)
؛ لِمَا عرفتَ أن
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 178)، و"زاد المسير"(3/ 118). والخبر أيضًا في "سيرة ابن هشام"(2/ 157)، ونحوه في "معجم الطبراني"(24/ 347).
(2)
"المذكورة" من (م) و (ك).
(3)
في (ح) و (ف): "في".
(4)
في (م) و (ك): "بخصائص".
(5)
في (م) و (ك): "محذوفًا مدلولًا".
(6)
في هامش (ف): "صرح بذلك في "مغني اللبيب"، وفيه رد لاعتراض سعد الدين بأن فيه إخراجَ =
المعنى: أنَّه تعالى يعلم نفس المحلِّ المستحِقِّ لوضع الرِّسالة فيه لأشياء في
(1)
المحل.
وقرئ: {رِسَالَاتِهُ}
(2)
.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} من أكابرها {صَغَارٌ} : هوان وحقارةٌ
(3)
بعد كِبْرِهم وعظمتهم مكانَ ما يفترون من عزِّ
(4)
النُّبوَّة وحشمة الرِّسالة، وفيه دلالةٌ على أنَّ المجرم يستحقُّ الذُّلَّ والهوان، وأنَّ الرُّسل إنما فازوا بتلك العزَّة لعصمتهم
(5)
عن الجرائم.
{عِنْدَ اللَّهِ} يوم القيامة، وقيل: تقديره: من عند الله، ويأباه الفصل به
(6)
بين الصَّغار والعذاب؛ لأن كلاهما من عند
(7)
الله تعالى.
ويمكن أن يُقال: إنه من قَبيلِ الفصل بين المعطوفين بما له تعلُّق بهما، ويأتي نظيره في هذه السورة.
{وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدَّارين من القتلِ والأسْرِ وعذابِ النَّارِ.
{بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} : بسبب مكرهم، أو جزاء عليه.
= (حيث) عن الظرفية. منه".
(1)
في (م): "فيه لا يتنافى"، وفي (ك):"فيه لا تنافي".
(2)
قرأ ابن كثير وحفص: {رِسَالَتَهُ} ، والباقون بالجمع وكسر التاء. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(3)
في (ح) و (ف): "وحقار"، و في (ك):"وحقرة".
(4)
في (ف) و (ح): "مكان ما يقترفون من غير".
(5)
في (ح) و (ف): "بتلك بعصمتهم".
(6)
"به" من (م).
(7)
في (ف) و (ح): "من عذاب".
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} : يوفقَه للإيمان، ويعرِّفَه طريق الحقِّ
(1)
.
{يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} شرح الصَّدر وتوسيعه كنايةٌ عن تنويرِ الباطن وتصفية الاستعداد
(2)
عمَّا ينافي قَبول الحقِّ من ظلمات الشُّكوك والشُّبَه، فيصدق الرَّغبةَ في الإيمان.
{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} ؛ أي: يخذلَه ولا يوفِّقَه.
{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} قرئ بالتخفيف والتشديد
(3)
.
ضِيْقُ الصدر كنايةٌ عمَّن
(4)
يكدِّر الباطن، ويزيل الاستعداد، ويُميل النَّفس إلى الشَّهوات، فينبو
(5)
عن الحقِّ، وينقبضُ عنه فلا يقبله.
{حَرَجًا} : شديد الضيق، وقرئ بفتح الراء
(6)
وصفًا بالمصدر.
{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} مثَلٌ لمن يزاولُ أمرًا ممتنعًا لا تَسَعه
(7)
قدرته؛ لأن
(1)
في هامش (ف): "يعني: {مِنْ قَبْلُ} في قوله تعالى: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ}. منه".
(2)
في (ف): "وتصفيته للاستعداد".
(3)
قرأ جمهور السبعة: {ضَيِّقًا} بتشديد الياء، وابن كثير بتخفيفها. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(4)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(عما).
(5)
في (م) و (ك): "فيتبرأ".
(6)
قرأ نافع وأبو بكر بكسر الراء، والباقون بفتحها. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(7)
في (ك): "بسعة".
صعود الإنسان إلى السماء أمرٌ خارج عن طوقه العاديِّ، وقيل لمن ينبو عن الشيء ويتباعد مبالغًا في الهرب منه والتَّجافي
(1)
.
وأصل {يَصَّعَّدُ} : يَتَصعَّد، وقد قرئ به
(2)
، وقرئ:{يَصَّعَّدُ} من صَعِد
(3)
، و (يُصْعِدُ) من أَصْعَدَ
(4)
، و {يَصَّاعَدُ} بمعنى يتصاعد
(5)
.
ومعنى {فِي السَّمَاءِ} : في مدارج السَّماء، وهذا أبلغ من: إلى السماء.
{كَذَلِكَ} ؛ أي
(6)
: مِثْلَ ذلك التَّضييق {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} : العذاب، أو الخذلان، أو الفعل المؤدِّي إلى العذاب.
{عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وضع المُظهَر
(7)
موضع المُضمَر للتَّعليل.
* * *
(126) - {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
(1)
وفي هذا النصّ معجزة من أبلغ المعجزات القرآنية، وذلك أنه تبيّن في عصرنا أنّ الضغط الجوي يخف كلما ارتفع الإنسان في الجو حتى يتلاشى، وأن الإنسان كلما صعد في السماء ضاق صدره حتى يصل لدرجة الاختناق. وحينما تركبُ الطائرةَ لا تشعرُ بشيء مِن هذا القبيلِ؛ لأنّ أجهزةَ الطائرةِ قد ضَغَطَت الهواءَ ثمانيةَ أمثالٍ، ليكونَ الضغطُ الجويُّ ونسبةُ الأكسجين موافقةً لِمَا هي عليه في سطحِ الأرض، فلو تعطلتْ أجهزةُ الضغط فجأةً في الجوِّ فسوف يموت الرُّكابُ إن لم تهبط الطائرة.
(2)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 42).
(3)
وهي قراءة ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 106).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 64).
(5)
وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. انظر: "التيسير"(ص: 107).
(6)
"أي": ليست في (م) و (ك).
(7)
في (م) و (ك): "الظاهر".
{وَهَذَا} ؛ أي: الإسلام، أو ما ذكر من التَّوفيق والخذلان {صِرَاطُ رَبِّكَ}: طريقُه الذي ارتضاه، أو طريقه الذي اقتضته حكمته.
{مُسْتَقِيمًا} لا عوج فيه، ولا ميل إلى شيء من الجوانب، أو عادلًا مطَّردًا، وهو
(1)
حالٌ مؤكِّدةٌ؛ لأنَّ صراطه تعالى لا يكون إلَّا مستقيمًا، والعامل فيه
(2)
معنى الإشارة.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ؛ ليعلموا
(3)
أنَّه القادرُ على ما يشاء، وأنَّ الخيرَ والشَّرَّ بقضائه وقَدَره، وأنَّه عالمٌ بأحوال العباد، عادلٌ فيما يفعل
(4)
.
* * *
(127) - {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} إضافةُ الدَّار إن كانت إلى السَّلام الذي هو اسم من أسماء الله تعالى فتعظيم ورفع من شأنها، وإشارةٌ إلى أنها دارٌ لا نقص فيها ولا آفَةَ ولا عيب، وإلَّا فبمعنى السَّلامة من المكاره، أو: دارٌ تحيَّتُهم فيها سلام.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : في نُزُلِهِ وضِيافَتِه، كما نقولُ: نحن اليوم عند فلان؛ أي: في كرامته وضيافته، ويحتمِل أن يكون قوله:{عِنْدَ اللَّهِ} فيما سبقَ من قوله تعالى: {صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} بهذا المعنى على التهكُّم، وقيل: في ضمانه، كقولك: له عندي حقٌّ.
{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} : محبُّهم، أو: ناصرهم
(5)
على أعدائهم
(1)
"وهو" من (م) و (ك).
(2)
في (م) و (ك): "فيها"، والحال تذكر وتؤنث.
(3)
في (م) و (ك): "فيعلمون".
(4)
في (م) و (ك) زيادة: "بهم".
(5)
في (م) و (ك): "وناصرهم"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 64)، و"روح المعاني"(8/ 430).
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : بسبب أعمالهم، أو متولِّيهم بجزائها.
* * *
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} منصوبٌ بإضمار: نقول، أو قائلين {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ} وهذا أولى من إضمار اذكر مفعولًا به
(1)
؛ لخروجه عن الظَّرفية، والحاجةِ إلى تقدير القول في ربط ما بعده، والضمير لمن يُحشَرُ من الثَّقلين
(2)
.
وقرئ: {يَحْشُرُهُمْ} بالياء
(3)
.
والمراد من الجن: الشياطين.
{قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} : من إغوائهم، أو: منهم بأن جعلتُموهم أتباعَكم فحشروا معكم، يقال: استكثر الأمير من الجند
(4)
.
{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} الذين أطاعوهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} استمتع الإنسُ بالجنِّ لدلالتهم على شهواتهم، وما يُتوصَّل به إليها من الحِيَل،
(1)
أي: من نصب اليوم مفعولا به بفعل مضمر هو: اذكر. انظر: "البحر المحيط"(9/ 397).
(2)
في هامش (ف): "قال الليث: المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين من التهذيب. منه".
(3)
وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون:(نحشرهم). انظر: "التيسير"(ص: 107). ووقع في النسخ جميعها: "يحشر".
(4)
في (ف) و (ح): "الجنود".
واستمتع
(1)
الجن بالإنس لطاعتهم ومساعدتهم على مرادهم وما يشتهون من إغوائهم.
وقيل: استمتاع الإنس بهم ما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، واستمتاع الجن بهم اعترافُهم للجن
(2)
بأنهم يقدرون على الدَّفع عنهم وإجارتهم لهم.
{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} ؛ أي: البعثَ، وهو اعتراف منهم بطاعة الشيطان
(3)
في الدُّنيا، والتَكذيبِ بالبعث، وتحسُّر على حالهم.
{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} : منزلُكم، أو: ذاتُ مثواكم
(4)
.
{خَالِدِينَ فِيهَا} حالٌ، عاملُها {مَثْوَاكُمْ} إنْ جُعل مصدرًا، ومعنى الإضافة إن جُعل مكانًا.
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من عصاة المؤمنين، واستعمال (ما) في ذوي العقول شائع، كما في قوله تعالى {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وفي قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3].
أو: من الأوقات التي يخرجون فيها من النَّار، وهو ما ذكر في تفسير قوله تعالى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، مِنْ أنَّه يُفتَح لهم وهم في النَّار بابٌ إلى الجنَّة،
(1)
في (ك): "واستمتاع".
(2)
في (م) و (ك): "بالجن".
(3)
في (م) و (ك): "الشياطين".
(4)
في (م) و (ك): "منزلكم".
فيُسْرِعون نحوه، فإذا صاروا إليه
(1)
سُدَّ عليهم الباب، وذلك قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].
وقيل: من الأوقات التي يُنقَلون فيها من النَّار إلى الزَّمهرير. وفيه من الحاجة إلى صرف النار من
(2)
معناها العلمي إلى معناها
(3)
اللغوي.
وقيل: إلا ما شاء الله
(4)
قبل الدَّخول.
ولا وجه له؛ لأنَّ حكمَ الخلود والأبد بعد الدُّخول، ومن
(5)
جهة المنتهَى لا من جهة المبتدأ
(6)
.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في أفعاله وأقواله {عَلِيمٌ} بأفعالِ عباده وأحوالهم.
* * *
(129) - {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
{وَكَذَلِكَ} ؛ أي: مثلَ ما فعلْنا من تمكين الجنِّ من إغواء الإنس {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} ؛ أي: نجعلُ بعضَ الظَّالمين واليًا على بعضٍ يسخِّرونهم ويُغوونهم
(7)
،
(1)
"إليه": ليست في (م) و (ك).
(2)
في (ح) و (ف): "عن". ووقع في (ك): "إلى حرف"، مكان:"إلى صرف النار".
(3)
"معناها" من (م). والمراد بالمعنى العلمي: أنها دار العذاب. انظر: "روح المعاني"(8/ 437).
(4)
اسم الجلالة غير موجود في (ك).
(5)
في (ح) و (ف): "من" دون واو.
(6)
وقعت العبارة في (ك) هكذا: "ولا وجه له؛ لأنَّ صرفَ النَّار عن حكمِ الخلود والأبد بعد الدُّخول، ومن جهة المنتهى لا من جهة المبدأ".
(7)
في (م): "ويعدونهم".
أو: نجعل بعضَهم يتولَّى بعضًا يغويهم، أو: نجعل بعضهم أولياءَ بعض وقرناءَهم يوم القيامة كما كانوا في الدُّنيا.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.
* * *
{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قدَّم الجنَّ لأنَّ الخطابَ للتَّوبيخ.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} : مِنْ جُملتكم، وهم رسل الإنس.
عن الكلبي: كانت الرُّسل قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم يُبعثون إلى الإنس، وهو عليه السلام بُعِثَ إلى الثَّقلَيْن
(1)
.
وقيل: من الجنِّ أيضًا رسُل، ولا دلالة في الآية على ذلك؛ إذ لم يقل:(رسل منكما) حتى يحتاج القول الأوَّل إلى التأويل بمثل ما ذُكِرَ في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22].
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يعني: يوم القيامة.
{قَالُوا} جوابًا: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} بالجُرْمِ والعصيان، أرادوا شهادتهم عند وفاتهم، على ما نطقَ به قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]، ولذلك قالوا:{شَهِدْنَا} بلفظ الماضي.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 66)، و"البحر المحيط"(9/ 407).
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ذمّ لهم، وتخطئةٌ لرأيهم، وتحذيرٌ لمن سمع للاتِّعاظ بهم.
* * *
(131) - {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} .
{ذَلِكَ} إشارة إلى ما تقدَّم من إرسال الرُّسل وإنذارِهم، وهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك.
{أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} تعليلٌ، و {أَنْ} هي الناصبة للأفعال؛ أي: لئلا يكون، أو المخفَّفة من الثَّقيلة؛ أي: لأنَّ الشَّأنَ والحديثَ لم يكن ربُّك مهلك القرى، ويجوز أن يكونَ بدلًا من {ذَلِكَ} كقوله:{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66]، وأن يكون خبرًا لـ {ذَلِكَ} ؛ أي: إرسالُ الرسل والإنذار لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم.
والباء للسببية؛ أي: بسبب ظلم
(1)
، أو {بِظُلْمٍ} حال؛ أي: مُلْتبسين بظلم؛ يعني: أنَّه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبَّهوا برسولٍ وكتابٍ لكان ظلمًا، وهو تعالى مُنزَّه عن الظُّلم.
* * *
(132) - {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} .
{وَلِكُلٍّ} ؛ أي: ولكلِّ عاملٍ بطاعة أو معصية {دَرَجَاتٌ} ؛ أي: مراتبُ في الجزاء.
(1)
فالجار متعلق بـ {مُهْلِكَ} . انظر: "روح المعاني"(8/ 442).
{مِمَّا عَمِلُوا} : من أجل أعمالهم بحسَبها، فالمحسِن في رَوح الثَّواب متنعِّمٌ، والمسيء في نَوح العقاب متألِّمٌ.
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرئ بياء الغائبة ردًّا على الآية التي قبلها، وبتاء المخاطبة
(1)
ردًّا على قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130].
والمعنى: وما ربك بغافل عمَّا يعملون من المعاصي، ولكن يؤخِّر تعذيبَهم رحمةً منه، كما قال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} الآية [إبراهيم: 42]، أو: إنَّه تعالى على علمٍ بأعمالهم خلَقهم لا عن جهل.
لما أنَّ ضررَ أعمالهم يرجع إليهم لا إليه تعلَّق أبو يوسف ومحمَّد بظاهره في أنَّ الجنَّ لهم ثواب، وأبو حنيفة ذهب إلى التَّخصيص، والقراءة بتاء المخاطبة تشهد لهما.
* * *
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} فلا ينتفعُ بالطَّاعة ولا يتضرَّرُ بالمعصية، فليسَ التَّكليفُ لمصلحةِ نفسه، بل لتكميلهم وتبليغهم
(2)
إلى الدَّرجات والكمال.
{ذُو الرَّحْمَةِ} فلا يُعاجل بالعقوبة، بل يُمهلهم عسى أن يتداركوا ما فاتهم.
أخبر بالأوَّل عن جلاله، وبالثَّاني عن إفضاله، فهم
(3)
في سماع هذه الآية بين
(1)
قرأ ابن عامر بالتاء، والباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 106).
(2)
"وتبليغهم "من (م) و (ك).
(3)
"فهم "سقط من (ف) و (ح).
احتياجٍ وارتياحٍ، وهذا تكملةٌ لِمَا قبلَه من إرسال الرُّسل للرَّحمة عليهم لا لانتفاعه بطاعتهم، وتأسيسٌ لِمَا بعدَه مِنْ قوله
(1)
:
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيُّها العصاة؛ أي: لغناه عنكم.
{وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} من الخلق المطيع، لكنَّه أبقاكم ترحُّمًا عليكم.
{كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} ؛ أي: مِنْ نسلِ قومٍ كانوا قبلَكم.
وقيل: {مِنْ} للبدل؛ كما يقال: أعطيتك من دينارٍ ثوبًا؛ أي: أنشأكم بدلًا منه.
* * *
(134) - {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من البعث وأحواله {لَآتٍ} : لكائن لا محالة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} : بفائتين طالبَكم به؛ أي: يدرككم حيثما كنتم، يقال: قصدت فلانًا فأعجَزَني؛ أي: سبقني ففاتني.
* * *
{قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} المكانة: مصدر مَكُنَ مكانةً: إذا تمكَّن أبلغَ التَّمكُّن، وقد يكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، كما يقال: مقام ومقامة، أي: على غاية تمكُّنكم وأقصى استطاعتكم، أو: على مقامكم وحالتكم التي أنتم عليها
(1)
في (ف) و (ح): "قصصه ".
مِنْ كفركم وعداوتكم لي، يقال
(1)
للرجل: أثبت على مكانتك؛ أي: أثبت على ما أنت عليه من حالٍ، ولا تنحرف عنه.
وقرئ: {مَكَانَتِكُمْ} على الجمع
(2)
.
{إِنِّي عَامِلٌ} : فاعلٌ على قدرتي واستطاعتي
(3)
، أو: على مقامي وحالي في الإسلام والمصابرة معكم، فحُذِفَ
(4)
للاختصار والمبالغة في الوعيد، وللإشعارِ
(5)
بأنه حالة لا تقف؛ فإنَّه تعالى يزيده
(6)
على مرِّ الأيام قوَّةً ونصرة.
ومعنى الآية على الأوَّل: إظهارُ التَّجلُّد للعدوِّ وعدمِ المبالاة به
(7)
، غاية الوثوق بحفظ الله تعالى، والاعتماد على نصرته؛ أي: لا تبغوا عليَّ وأنفذوا وسعكم في عداوتي فإنِّي فاعل بكم ما أقدر عليه، وهذا غايةٌ في التَّهديد، وتعجيزِ الخصم
(8)
.
وعلى الثاني: التخليَةُ، والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلَّا الشَّرُّ، فكأنَّه مأمورٌ به واجبٌ عليه ذلك لا يسعه خلافُه والإعراض عنه بالكليَّة، والإشعارُ بأنه لا مطمَع
(9)
في خيره؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].
(1)
في (ك) و (م): "وعداوتكم لما يقال".
(2)
قرأ بها أبو بكر. انظر: "التيسير"(ص: 107).
(3)
في (م): "أو استطاعتي".
(4)
في (ح) و (ف): "فحذفا".
(5)
في (ح) و (ف): "والإشعار".
(6)
في النسخ جميعها: "يزيد"، والصواب المثبت. وانظر:"تفسير البيضاوي"(5/ 43).
(7)
"به "سقط من (م) و (ك).
(8)
(في (ح) و (ف): "الخصم".
(9)
في (ك) و (م): "مطيع ".
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} {مَنْ} إمَّا استفهامية عُلِّقَ عنها الفعل، ومحلُّها الرَّفع على الابتداء، ما بعده خبره؛ أي: فسوف تعلمون
(1)
أيُّنا تكون له العاقبةُ المحمودة التي لها هذه الدَّار. وإمَّا موصولةٌ محلُّها النَّصب على المفعوليَّة؛ أي: فسوف تعرفون الذي يكون له العاقبة، وعيدٌ وإنذارٌ لطيف المسلَك مع مراعاة حُسْنِ الأدب، والإنصافِ للخصم في القول عند الوثوق بسوء عاقبته وحُسْنِ عاقبة المُوْعِد، وكذا قوله:
{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} إشعارٌ بظلم المخاطَبين، وأنَّ ظلمهم سببُ
(2)
امتناع فلاحهم، مع حسن العبارة، وإرخاء العنان، والمسامحة، والإيهام بأني إنْ كنْتُ أنا الظَّالمَ فلا فلاحَ لي، ولهذا ذكر الظُّلمَ دون الكفر، ثم بيَّنَ ظلمهم وكفرهم في الآية بعدها.
* * *
{وَجَعَلُوا} ؛ أي: مشركو العرب {لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} : خلَق، فيه إيماء إلى أنهم يرجِّحون ما لم يخلق شيئًا ولم يقدِرعلى شيء على مَنْ خلقَ أشياءَ
(3)
، فيُؤْثِرونه عليه بما خلقها وزكَّاها جهالةً، وكان العكس أولى
(4)
، ولهذا قال:{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .
(1)
في (ح) و (ف): "فستعلمون".
(2)
في (ك): "بسبب"، وهو خطأ لأنَّه يقلب المعنى ويفيد عكس المراد.
(3)
"على من خلق أشياء" سقط من (ف) و (ح).
(4)
أي: هم من فرط جهالتهم أشركوا الخالق في خلقه جمادًا لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن=
{مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} لم يذكر هنا نصيبَ الشُّركاء إيجازًا واكتفاءً بذكره في التفصيل الآتي، وإيماءً إلى جهالتهم بأنهم جعلوا لمن له الكل نصيبًا مما
(1)
خلقه، وأنَّ التَّسوية شيء لا يليق بالأدب التَّلفظُ به مراعاةً للحشمة.
{فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} وقرئ بضم الزاي
(2)
، وهي لغةٌ فيه، وهو الظنُّ الخطأ، وقد جاء فيه الكسر أيضًا
(3)
، كَالْودِّ، وفيه تنبيا على أن ذلك من جهالاتهم وشرعِهم ما لم يأذن به الله تعالى.
{وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} كانوا يعيِّنون من حرثهم ونتاجهم نصيبًا لله تعالى ونصيبًا لآلهتهم، فإذا رأوا ما عيَّنوه لله تعالى أزكى رجعوا وجعلوه لآلهتهم، وإن
(4)
رأوا ما عيَّنوه لآلهتهم أزكى تركوه
(5)
لها، معلِّلين بأنَّ الله تعالى غنيٌّ، وإنما فعلوا ذلك حبًّا لآلهتهم وإيثارًا لها.
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {مَا} مصدرَّية، و {سَاءَ} متعدِّية حُذف مفعولها لدلالة المعنى، تقديره: ساءهم حكمهم، أي: جلب لهم السوء.
= جعلوا ما خلقه الخالق وزكاه لهذا الجماد الذي لا يخلق شيئا، والله سبحانه كان أولى بأن يجعل له الزاكي؛ لأنَّه هو الذي ذرأه وزكاه. انظر:"تفسير البيضاوي"(2/ 184).
(1)
في (ح) و (ف): "بما".
(2)
قرأ بها الكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 106).
(3)
ولم يقرأ به؛ قال الفراء في "معاني القرآن"(1/ 356): (ثلاث لغات، ولم يقرأ بكسر الزاي أحد نعلمه)، وقال في "البحر المحيط" (9/ 419):"والكسر لغة لبعض قيس وتميم، ولم يقرأ به ".
(4)
في (م) و (ك): "وإذا".
(5)
في (ح) و (ف): "يتركوه".
{وَكَذَلِكَ} : ومثلَ ذلك التَّزيين، والإشارةُ إلى مضمون قوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ} الآية، أو إلى نفس هذا التَّزيين الذي هو تزيين قتل
(1)
الأولاد، وقد مرَّ مثلُ هذا.
{زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ} بالوأد، وبنحرهم لآلهتهم.
{شُرَكَاؤُهُمْ} من الجنِّ أو من السَّدَنة.
قرئ: {زَيَّنَ} على البناء للفاعل وهو {شُرَكَائِهِمْ} ونصبِ {قَتْلَ}
(2)
، وعلى البناء للمفعول وهو (قتلُ)، ورفع {شُرَكَاؤُهُمْ}
(3)
بإضمار فعل دلَّ عليه المذكور، كأنه قيل: مَنْ زيَّنه؛ فقيل: زَّينه شركاؤهم.
وأما قراءة ابن عامر: {زَيَّنَ} على البناء للمفعول، وهو القتل، ونصبِ الأولاد، وجرِّ الشُّركاء
(4)
على إضافة القتل إليه، والفصلِ بينهما بغير الظَّرف، فقد رُدَّتْ
(5)
بأن ذلك غير مقبولٍ في مقام الضَّرورة كما في قوله:
(1)
في (ح) و (ف): "ومثل ذلك التزيين قتل".
(2)
وهي قراءة جمهور السبعة ما عدا ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 107).
(3)
نسبت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41).
(4)
انظر: "التيسير"(ص: 41).
(5)
في (ف) و (ح): "فقدرت".
زجَّ القَلوصَ أبي مزادة
(1)
فكيف به في غيره
(2)
؟
لكنَّه مردودٌ؛ لأنَّه مختلفٌ فيه بين النَّحويين على ما ذكره أبو حيَّان
(3)
، ووقوعه في قراءة متواترة دلَّ على الصِّحة؛ لأنَّ العربيَّة تثبت بالقرآن، وفَهمُ العكس مِن عكس
(1)
صدره:
فزججتها بمزجَّة
وهو بلا نسبة في "الكتاب "(1/ 176)، و"معاني القرآن" للزجاج (3/ 169)، و"الخصائص" لابن جني (2/ 406)، وقال البغدادي في "خزانة الأدب" (4/ 415): قال ابن خلف: هذا البيت يروى لبعض المدنيين المولدين. وذكر في شرحه: (زج القلوص)؛ أي: زجًّا مثل زج القلوص، والقلوص: الناقة الشابة، والزَّج: الطعن بالزُّج، وهي الحديدة التي في أسفل الرمح.
(2)
هذا الكلام هو بعض ما قاله الزمخشري في رد قراءة ابن عامر، وقد شنع عليه العلماء رده لقراءة متواترة، حتى قال أبو حيان: اعْجَبْ لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محضٍ قراءةً متواترة
…
واعجب من سوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا .. إلى آخر ما قال.
وكان الآلوسي رحمه الله أكثر شدة في الرد حيث قال: وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء، فقد تخيل أن القراء أئمةَ الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلاً وسماعًا كما ذهب إليه بعض الجهلة، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى، فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلًا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تغليط الله عز وجل، نعوذ بالله سبحانه من ذلك. انظر:"الكشاف"(2/ 70)، و"البحر المحيط"(9/ 423)، و"روح المعاني"(8/ 451). والعجب من البيضاوي على إمامته تأثرًا بما ذهب إليه الزمخشري، فقال متابعًا له - كما ذكر الشهاب - في تضعيف هذه القراءة: وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر. انظر "تفسير البيضاوي"(2/ 184)، و"حاشية الشهاب "(4/ 128).
(3)
انظر: "البحر المحيط"(9/ 423).
الفهم، ثم إنه لا ضرورة في الشِّعر المذكور كما توهَّم؛ لاستقامة الوزن والقافية بجرِّ (القلوص) ورفع (أبي).
واعتقاد الضَّعف في مثل تلك القراءة مِنْ ضعف الاعتقاد، مبناه عدمُ الاعتماد على القراءة والطَّعنُ في الإسناد، ولا يخفى ما فيه من الفساد.
{لِيُرْدُوهُمْ} : ليُهلكوهم بالإغواء والإضلال، واللامُ للتعليل إن كان التَّزيين من الجنِّ، وللعاقبة
(1)
إن كان من السَّدَنة.
{وَلِيَلْبِسُوا} : وليخلطوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وهو ما كان عليه في الأصل من دين إسماعيل عليه السلام، أو دينهم الذي وجبَ عليهم أنْ يَتدينوا به
(2)
.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} ؛ أي: ما فعل المشركون [ما زُين لهم من القتل]، أو: ما فعل الشياطين أو السَّدنةُ
(3)
التزيينَ أو الإرداءَ
(4)
أو اللبسَ، والأَولى أن يجري الضمير مجرى اسم الإشارة فيُرادَ
(5)
به الجمع.
{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} : وافتراءَهم، أو: الذي يفترونَ من الإفك.
* * *
(1)
في (م): "والعاقبة".
(2)
في (ح): "يتدينوا"، وفي (ف):"يدينوا".
(3)
في (ح) و (ف): "والسدنة".
(4)
في (ح): "الازدراء"، وفي (ك):"الأولاد"، وفي (م):"الأوداء"، والمثبت من (ف)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(2/ 70)، و"روح المعاني"(8/ 453)، وما بين معكوفتين منهما.
(5)
في (م) و (ك): "ويراد".
{وَقَالُوا هَذِهِ} إشارة إلى ما جُعل {أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} : حرامٌ، مِنَ الحَجْرِ، وهو المنع، فِعْلٌ بمعنى مَفعولٍ
(1)
، كالذِّبح، ويستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، والواحد والكثير؛ لأنَّ حكمَه حكمُ الأسماء لا الصِّفات.
وقرئ: (حُجْرٌ) بالضم
(2)
.
وعن ابن عباس: (حِرْجٌ)
(3)
؛ أي: ضيق.
{لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} يعني: خدمَ الأوثان، أو الرِّجالَ دون النِّساء.
{بِزَعْمِهِمْ} ، أي: قولِهم الباطل.
{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} مِنَ البَحائر والسَّوائب والحوامي.
{وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} في الذَّبح، وإنما يذكرون عليها أسماء أصنامِهم.
وقيل: لا يحجُّون ولا يلبُّون على ظهورها.
أي: قسموا أنعامهم أجناسًا بهواهم؛ فقالوا: هذه حِجْر، وهذه محرَّمة الظَّهر، وهذه لا يذكر عليها اسم الله تعالى.
{افْتِرَاءً عَلَيْهِ} ؛ أي
(4)
: نَسبوا ذلك التَّجنيس إلى الله تعالى افتراءً عليه، نصبٌ على المفعول له، أو حال؛ أي: مفترِين على الله تعالى، أو مصدر مؤكِّد؛
(1)
في (ف) و (ح): "المفعول".
(2)
نسبت للحسن وقتادة. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 99)، و"الكشاف"(2/ 71).
(3)
بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم. انظر: "المحتسب"(1/ 231)، و"الكشاف"(2/ 71)، و"تفسير الطبري"(9/ 579).
(4)
"أي" من (م) و (ك).
لأن تقوُّلهم
(1)
ذلك محضُ افتراء
(2)
، والجارُّ متعلق بـ (قالوا).
{سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : بسببه.
* * *
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} ؛ يعني: ما في بطون هذه البحائر - ونحوِها - من الأجنَّة، وفي قول ابن عباس والشَّعبي رضي الله عنه: هي اللبن
(3)
، ويأباه قوله تعالى:{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} .
{خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} : حلال للذُّكور خاصَّة لا يشاركهم فيها الإناث، إن ولد حيًّا؛ لقوله:{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} .
ومعنى الاختصاصِ للذُّكور مهمٌّ في المقام؛ لأنَّه قرينةٌ لإرادة الإناث من الازدواج، وهو لا يفاد بعبارة المباح، فلذلك أورد عبارة {خَالِصَةٌ} عليها، مع
(4)
حقِّ المقابلة مع عبارة (محرم) لها.
والتَّاء في {خَالِصَةٌ} ليست للتَّأنيثِ، بل يقال في الاسم: خالصٌ وخالصةٌ.
(1)
في (ح) و (ف): "قولهم".
(2)
في (ك): "الافتراء".
(3)
انظر: "تفسير مجاهد"(ص: 329)، و "تفسير الطبري"(9/ 584 - 585)، و"المحرر الوجيز" (2/ 352). ووقع في النسخ:"هي ألبان"، والمثبت من المصادر المذكورة.
(4)
في (ح) و (ف): "مع أن".
أو حُمل {خَالِصَةٌ} في التَّأنيث على المعنى؛ لأن ما في بطونهم في معنى الأجنَّة، {وَمُحَرَّمٌ} على اللَّفظ.
أو كانت التاء للمبالغة كراوية الشعر.
أو كان مصدرًا كالعافية
(1)
وقعَتْ موقعَ الخالص
(2)
، أي: ذو خالصة، بمعنى: خالص، ويؤيِّده قراءة:(خالصةً) بالنَّصب
(3)
، على أنَّه مصدَرٌ مؤكِّدٌ، والخبر {لِذُكُورِنَا} ، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير الذي هو فاعل الاستقرار في قوله:{فِي بُطُونِ} ، لا مِنَ الذي في {لِذُكُورِنَا} ؛ لأن العامل المعنوي لا يتقدَّم معمولُه عليه، ولا من الذُّكور؛ لأن المجرور لا يتقدَّم عليه حالُه.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (خَالِصُهُ) على الإضافة
(4)
، وهو بدلٌ من {مَا} ، أو مبتدأٌ ثانٍ.
وفي مصحف عبد الله: (خالصٌ)
(5)
. وقرئ: (خالصًا)
(6)
.
{عَلَى أَزْوَاجِنَا} لم يقل: (على إناثنا) مع أن المراد من الأزواج الإناث، وهو
(7)
(1)
في (ف) و (ح): "كالعاقبة"، وكلاهما صواب.
(2)
في النسخ: "موقع النصب"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 71)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 185)، و"روح المعاني"(8/ 456).
(3)
نسبت للزهري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41).
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41)، و"المحتسب"(1/ 232).
(5)
عزاها في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41) إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وفي "المحتسب"(1/ 232) إلى ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.
(6)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41)، و"المحتسب"(1/ 232).
(7)
في (م) و (ك): "وهي".
المناسب أن يذكر في مقابلةِ الذكور؛ لأنَّ المقصود الإشارة إلى وجه تحريمها على الإناث - وهو كونهنَّ أزواج الرِّجال في الجملة - لا بيانُ حرمتها على الإناث، فإنها قد فُهِمَتْ مما تقدَّم، ولهذا صدَّره بأداة الوصل، فإنه لو أريد به بيان الحرمة على الإناث لكان حقُّه الفصلَ؛ لِمَا بيْنه وبين ما تقدَّم من
(1)
كمال الاتصال.
{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} الضمير لِمَا في بطونها، وقرئ بالتاء الفوقانية على تأويل الأجنة، وقرأ ابن عامر بها ورفعِ {مَيْتَةً}
(2)
على كان التَّامة، وتذكيرُ الضمير في:{فَهُمْ فِيهِ} لأنَّ الميتة قد تكون ذكرًا فغلِّب، وقرئ بالياء التحتانية ورفع {مَيْتَةً}
(3)
.
{شُرَكَاءُ} ؛ أي: الذكور والإناث فيه سواءٌ.
{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} الكذب؛ أي: جزاءَ وصفهم الكذبَ على الله تعالى في التحريم والتحليل.
{إِنَّهُ حَكِيمٌ} في جزائهم {عَلِيمٌ} بأفعالهم.
* * *
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} يريد بهم العرب الذين يدفنون بناتهم أحياءً،
(1)
"من" من (ك).
(2)
في هامش (ف): " (ومن وهم أن هذه قراءة ابن كثير حيث نسبها إلى مكة فقد وهم. منه ".
(3)
قرأ ابن عامر: {وَإِنْ يَكُنْ} بالتاء {مَيْتَةً} بالرفع، وابن كثير:{يَكُنْ} بالياء و {مَيْتَةً} بالرفع، وأبو بكر عن عاصم:{تكن} بالتاء كابن عامر {مَيْتَةً} بالنصب، وباقي السبعة:{يَكُنْ} بالياء {مَيْتَةً} بالنصب. انظر: "السبعة في القراءات"(ص: 270)، و"النشر"(2/ 265 - 266).
فبعضهم يفعل ذلك خوف العَيلة والإقتار، وبعضهم خوف السبي والعار، وقرئ:{قَتَلُوا} بالتَّشديد
(1)
.
{سَفَهًا} مفعول له، والسَّفه: خفَّة الحُلم بالعجلة؛ أي: ما لا ينبغي أن يُعجل إليه.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حالٌ أو صفةُ مصدر؛ أي: قتلًا بغير علم، فيه إشارةٌ إلى أن فعلهم ذلك لجهلهم
(2)
بأن الله تعالى هو الرزَّاق والمقدِّر للسَّبي وغيره.
{وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} من البحائر ونحوها.
{افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} قد مرَّ
(3)
وجوه الإعراب في مثله.
{قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إلى الحق والصواب، وزيادة (كان) للدلالة على الاستمرار؛ أي: استمَروا على عدم الاهتداء، على أن القيد المذكور داخلٌ على
(4)
النَّفي في الاعتبار، وإن كان مدخولًا له
(5)
في الظاهر، وبهذا اندفع وهم القصور والتكرار
(6)
.
* * *
(141) - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا
(1)
وهي قراءة ابن كثير وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 93).
(2)
في (ح) و (ف): "لجهلهم".
(3)
في (ف): "قدم ".
(4)
في (ح) و (ف): "في".
(5)
"له "من (م) و (ك).
(6)
في هامش (ف): "اللازم من نفي الاستمرار على الاهتداء وأما لزوم التكرار [
…
] ظاهر. منه ".
أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} من الكروم {مَعْرُوشَاتٍ} : مرفوعاتٍ على دعائم {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} : متروكات على الأرض.
وقيل: الأول ما غرسه النَّاس وعرشوه، والثاني ما نبت في الجبال والبوادي
(1)
، ولم يغرس.
{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا} حال مقدَّرة؛ لأنَّه لم يكن كذلك حال الإنشاء {أُكُلُهُ} : ثمرُه الذي يؤكل، في الهيئة والكيفيَّة، والضَّمير للنَّخل
(2)
، والزرعُ داخل في حكمه لكونه معطوفًا عليه؛ لأنَّ الأصل أن يطلق الأكُل على الثَّمرة والجناتِ بالحقيقة، فغلِّب فيه الزَّرع. أو للزرع والباقي مَقيس عليه، أو للجميع
(3)
على تأويل: ذلك، أو: كل واحد منهما
(4)
.
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} : يتشابه
(5)
بعض أفرادهما في الكم والكيفية، ولا يتشابه بعضُها.
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} الضمير لكلِّ واحد {إِذَا أَثْمَرَ} قد كان من المعلوم أنه
(6)
(1)
في (ح) و (ف): "في الجبال في البراري ". وتحتمل (ف): "البوادي".
(2)
في (ح) و (ف) و (ك): "والضمير في النخل"، والمثبت من (م) وهو الصواب.
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "للجمع"، والمثبت من (ح)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(2/ 185).
(4)
في (ح) و (ف): "منها".
(5)
في (ف): "يشابه".
(6)
في (ف) و (ح): "أن".
لا يُؤْكَل قبل أن يُثمر، ففائدةُ القيد المذكور التَّنبيهُ على أن إباحة الأكل تثبت
(1)
قبل الإدراك والإيناع، بخلاف وجوب الحقِّ الشَّرعيِّ المذكور في قوله:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ما يُتصدَّق به وقت الحصاد، وكان ذلك الحقُّ واجبًا حتى نُسِخَتْ بالزَّكاة، وقيل: هو الزَّكاة، والآية مدنية، والظَّرف لـ {حَقَّهُ} ليُعلم أن الوجوب وجوبُه بالإدراك لا بالتَّنقية
(2)
، لا للإيتاء للحاجة إلى التأويل، والتَّوقيتُ في الأوامر حقُه أن يحافظ على ظاهره كيلا يَشتبه
(3)
الموقَّت بالمطلق.
وقرئ: {حِصَادِه} هو بكسر الحاء
(4)
، وهو لغةٌ فيه.
{وَلَا تُسْرِفُوا} ؛ أي: في التَّصدُّق، لا في الأكل، ولذلك اقتصر على نفي المحبَّة عنهم، وقد قيل: إنهم كانوا يعطون شيئًا سوى المقدَّر ويسرفون فيه، فنُهي عنه.
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الموصوفين بهذه الصِّفة، فإنه من أمارات الممكورين لا المشكورين.
* * *
{وَمِنَ الْأَنْعَامِ} عطف على {جَنَّاتٍ} ؛ أي
(5)
: وأنشأ من الأنعام.
(1)
في (م): "ثبت". وفي (ك): "ثبتت".
(2)
في (ح) و (ف): "بالتبعية"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" (2/ 185). والمراد بالتنقية: تخليصه من القشر ونحوه. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 130).
(3)
في (ك): "يشتبه".
(4)
قرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو بفتحها والباقون بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 107).
(5)
"أي "من (ح) و (ف).
{حَمُولَةً وَفَرْشًا} ما يحمل الأثقال، وما يُفرش للذَّبح، أو يُنسج من وبره وصوفه وشعره الفرش
(1)
.
وقيل: الأوَّل الكبار
(2)
التي تصلح للحمل، والثَّاني الصغار مثل الفُرُش، وهي الأرض المستوية التي يتوطؤها النَّاس.
{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ؛ أي: ما أُحلَّ
(3)
لكم منه، ولا دلالة فيه على أنَّ كلَّ رزقٍ مأكولٌ حتى ينتهِض حجَّةً للمعتزلة في أنَّ الحرام ليس برزق
(4)
.
{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ؛ أي: لا تقتفوا آثاره في التَّحليل والتَّحريم من عند أنفسكم اعتقادًا وقولًا وعملًا، وكان في الإتيان بعبارة الجمع إشارة إلى هذه الثلاثة.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} : ظاهرُ العداوة
* * *
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل من {حَمُولَةً وَفَرْشًا} ، والزَّوج: ما معه آخَرُ من جنسه يزاوجه، وقد يقال لمجموعهما، والمراد هنا الأول.
{مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} ؛ أي: زوجين اثنين: الكبش والنَّعجة، وهو مع ما
(5)
بعده
(1)
في (ح) و (ف): "للفرش".
(2)
في (ح) و (ف): "للكبار".
(3)
في (ك): "حل".
(4)
انظر الكلام في هذه المسألة في "تفسير الرازي"(13/ 216)، و"البحر المحيط"(9/ 450).
(5)
في (ح) و (ف): "وهو وما".
عطفُ بيان لـ {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ، أو {مِنَ الضَّأْنِ} بدل من {الْأَنْعَامِ} و {اثْنَيْنِ} من {حَمُولَةً وَفَرْشًا} ، أو من {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ، إن جوَّزنا للبدل بدلًا.
وقرئ: (اثنان) على الابتداء
(1)
.
والضَّأن: جمع ضائن، كالتَّجر جمع تاجر، وقيل: هو
(2)
جمعٌ لا واحد له من لفظه، ويجمع على ضَئينٍ، كالعبد يجمع على عبيد، وقرئ بفتح الهمزة
(3)
، وهي لغة فيه.
{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} : التَّيس والعَنْز، وهي
(4)
جمع ماعز، وقرئ بالفتح
(5)
، وهو أيضًا جمع له؛ كحارس وحَرَسٍ، وقرئ:(المِعْزَى)
(6)
.
{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ} : ذكَرَ الضَّأن والمعز، والهمزةُ للإنكار {حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ}: أم أُنثيَيْهما، ونصبُ الذَّكرين والأنثيين بـ {حَرَّمَ} ، وتقديمُ المفعول للتخصيص.
{أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ} ؛ أي: حَوَته وانضمَّتْ عليه، ذكَرًا كان أو أنثى.
{أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} الأرحام: جمع رحِم، وهو موضع الولد، وما كان في الحيِّ
(1)
نسبت لأبان بن عثمان. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41).
(2)
في (م) و (ك): "هي".
(3)
نسبت لطلحة بن مصرف وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41)، و"المحتسب"(1/ 234).
(4)
في (م) و (ك): "وهو".
(5)
هي قراءة ابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، والباقون بكسرها. انظر:"التيسير"(ص: 108).
(6)
نسبت لأبي رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41)، و"البحر المحيط" (9/ 451). ووقع في النسخ:"معزى" بلا (أل)، والصواب المثبت.
منه عضو واحد، فالإضافة إلى الاثنين
(1)
بالجمع كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} : أخبِروني بأمرٍ معلومٍ من جهةِ اللهِ تعالى يدلُّ على أنَّه تعالى حرَّم
(2)
شيئًا من ذلك، عبَّر
(3)
عنه بالعلم مبالغةً؛ للتَّنبيه على أنَّ دليلَ التَّحريم لا بُدَّ أن يكون قطعيًّا.
وهو اعتراضٌ لطيفٌ بينَ أقسام التَّفصيل؛ للتَّأكيد في الاحتجاج على مَنْ حرَّم ما أحلَّ اللهُ تعالى لعباده، مَنَّ بالتَّفضُّل به عليهم مبالغةً في التَّحليل.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أن الله تعالى حرَّم هذا.
* * *
{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} كما سبق، والمرادُ إنكار
(4)
تحريمِ الله تعالى شيئًا من الأجناس المذكورة.
وذلك أنهم كانوا يحرِّمون ذكور هذه الأنعام تارةً وإناثَها أخرى، وأولادَها
(1)
في (ف) و (ح): "اثنين".
(2)
في (ف) و (ح): "ما حرَّم"، وزيادة (ما) خطأ يقلب المعنى ويفيد عكس المراد.
(3)
"عبر": ليست في (م) و (ك).
(4)
في (م) زيادة: "التحريم".
كيفما كانت ذكورًا وإناثًا تارة، وينسبون تحريمها إلى الله تعالى، فأنكر ذلك عليهم.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} معنى بل في (أم) المنقطعة: الإضرابُ
(1)
عن طلب العلم والدليلِ القطعيِّ الدَّالِّ على التَّحريم من عند الله على سبيل المسامحة، ومعنى الهمزة: إنكار المشاهدة، وذكرُها تهكُّمٌ بهم وبدِينهم؛ لأنهم لم يؤمنوا بنبيٍّ ولا كتابٍ، وزعموا أن الله تعالى حرَّم هذا، فلم يبقَ إلَّا طريقُ
(2)
المشاهَدة والسَّماع، فقيل لهم: أشاهدتم ربَّكم {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} : حين وصَّاكم بهذا التَّحريم وأمركم
(3)
، والوصية مقدَّمة مؤكَّدة فيما يُفعل أو يُترك.
ولما ثبت أنْ
(4)
لا علم لهم أصلًا في هذا، فلم يبقَ إلَّا الافتراء وهو ظلم، قال
(5)
: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : نسَب إليه تعالى تحريمَ ما لم يحرِّم، وهو عَمْرُو بنُ لُحيِّ بنِ قمعة
(6)
، المؤسِّسُ لتبحير البحائر وتسييب السَّوائب.
{كَذِبًا} : كاذبًا، لا مخطئًا في ظنه، فإن فيه مندوحةً عن الكذب.
{لِيُضِلَّ النَّاسَ} ؛ أي: عمِل عمل القاصد
(7)
إضلالَهم، من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلالةُ وإن لم يقصد الإضلال، ولذلك قال:{بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
(1)
في (م) و (ك): "للإضراب".
(2)
في (ح) و (ف): "بطريق".
(3)
في (ح) و (ف): "وأكرمكم".
(4)
في (ك) و (م): "أنه".
(5)
"قال" من (م).
(6)
ضبط (قمعة) على أربعة وجوه انظرها في "شرح مسلم" للنووي (17/ 189).
(7)
في (ح) و (ف): "عمل عملا قاصدا".
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى دار الثَّواب؛ لأنهم يستحِقُّون العقاب.
* * *
{قُلْ لَا أَجِدُ} كنَى بعدم الوجدان عن عدم الوجود، ومَبْنى هذه الكناية على أنَّ طريقَ التَّحريمِ التَّنصيصُ مِنَ الله تعالى عليه، ولا مساغَ للرَّأي فيه، ففيها ثبوتُ ذلك المبنى
(1)
اقتضاء.
ثم إنَّ فيهما إشارةً إلى أنَّ من الأحكام المنزَّلة ما في العثور عليه حاجةٌ إلى التَّفقُّد
(2)
والتَّتبُّع لكونه بطريق الدّلالة الخفيَّة، وإنما قال:
{فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} دون: ما أُنزل عليَّ؛ لأنَّ النَّصَّ المحرِّم لا يلزم
(3)
أن يكون من جنس الكتاب
(4)
.
{مُحَرَّمًا} طعامًا محرَّمًا {عَلَى طَاعِمٍ} : نكَّره تجريدًا له عن قيدٍ زائد حتى يَنتظِم الطَّاعمُ الظَّالمَ وغيرَ الظَّالم، فيَؤُول المعنى إلى أنَّه ليس من جنس المطعوم من حيث إنه مطعوم محرَّم إلَّا هذه الأربع، فلا يتَّجه النقض بحرمة المأكول ظلمًا؛ لأن حرمته مِن قيدِه لا مِن نفسه.
(1)
في (ح) و (ف): "المعنى".
(2)
في (ح) و (ف): "التصور".
(3)
في (م) زيادة: "من".
(4)
في هامش (م): "رد لمن فسر قوله: (ما أوحي إلي) بالقرآن. منه ".
وفائدة التَّوصيف بقوله: {يَطْعَمُهُ} قطعُ المجاز، كما في {طَائِرٍ يَطِيرُ} [الأنعام: 38]؛ فإن الطَّاعم يطلَق على المطعِم مجازًا.
{إِلَّا أَنْ يَكُونَ} ؛ أي: إلَّا أن يكون المطعوم، فالاستثناء من المفهوم، وقرئ بالتاء - لتأنيث الخبر - وبرفع:{مَيْتَةً}
(1)
على أن (كان) هي التَّامة.
والمراد من الميتة هاهنا: ما فقَدَ حياته بلا ذبح أصلًا؛ أي: شرعيًّا كان أو غيرَ شرعيٍّ، ولهذا احتيج إلى ذكر المحرَّم الرَّابع.
في قوله: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} دلالةٌ على أن جلد الميتة قبل الدِّباغ يحرم؛ لأنَّه قد
(2)
يُشوَى فيؤكل، وإذا دُفيَ خرج عن قابلية الأكل.
{أَوْ دَمًا} عطف على {مَيْتَةً} ، أو على {أَنْ} مع ما في حيِّزه على اختلاف القراءتين فيهما، وإنما ذكرهما هنا منكَّرين وفي (سورة البقرة) و (المائدة) معرَّفتين؛ لأنَّ هذه السُّورة مكيَّة، وهما مدنيَّتان، فناسب أن يُذكرا فيهما
(3)
معرَّفين بتعريف العهد، وتعريفُهما في (سورة النَّحل) مع أنها أيضًا مكيَّة بناء على تأخُّر
(4)
نزول ما فيها من الآية المشتملة عليهما من
(5)
نزول ما في هذه السورة.
{مَسْفُوحًا} : مصبوبًا ضائعًا، يرشدك إلى اعتبار هذا القيد الزَّائد على معنى الصَّبِّ في مفهوم السَّفح
(6)
........................................................
(1)
هي قراءة ابن عامر، وقرأ ابن كثير وحمزة بالتاء ونصب {مَيْتَةً}. انظر:"التيسير"(ص: 108).
(2)
"قد" من (م) و (ك).
(3)
"معرفتين لأن هذه السورة مكية وهما مدنيتان فناسب أن يذكرا فيهما" سقط من (ف)، و (ح).
(4)
في (ح) و (ف): "تأخير".
(5)
قوله: "من" كذا في النسخ، والأحسن:(عن).
(6)
بعدها في (ح) و (ف): "في".
إطلاقُهم السِّفاح
(1)
على الزِّنا باعتبار تضييعه الماء، قال النبيُّ
(2)
عليه السلام: "وُلدْتُ مِنْ نِكاحٍ لا مِنْ سِفاحٍ"
(3)
.
وإذا تقرَّرَ هذا ففي العبارة المذكورة إشارةٌ إلى أنَّ حقَّ هذا الدَّم التَّضييعُ والإهدار، لا الحفظُ والادِّخار، وإنَّما خصَّ الدَّم بالقيد المذكور لأنَّ ما اختلطَ باللَّحم منه وقد تعذر تخلصه من اللَّحم عفوٌ
(4)
مباحٌ، وأمَّا الطُّحال فليس بدمٍ
(5)
حقيقةً، وكذلكَ الكبد، فلا حاجة إلى الاحتراز عنهما إلى القيد
(6)
المذكور.
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} إنما زيد {لَحْمَ}
(7)
لا لأنَّ كلَّه غير مأكول، وإلا لناسب زيادتها في الميتة أيضًا للاشتراك في العلة المذكورة، بل لئلا يسبق إلى الوهم أنَّه من قبيل
(8)
صيد البرِّ حتى لا يبقى محرَّمًا بعدما صار لحمًا.
ولما كان المأكول المحرَّم من الخنزير غيرَ منحصرٍ في اللَّحم تدارك الحكمَ في الباقي بالتَّعميم دلالة، حيث علَّل المذكور بقوله:
{فَإِنَّهُ} ؛ أي: فإن الخنزير {رِجْسٌ} ؛ أي: قذرٌ ينفر عنه الطَّبعُ السَّليم؛ لتعوُّده أكلَ النَّجاسة.
(1)
"السفاح" سقط من (ف) و (ح).
(2)
"النبي": ليست في (م).
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط"(4725) من حديث علي رضي الله عنه. وانظر: "التلخيص الحبير"(3/ 136).
(4)
في (ف) و (ح): "عضو".
(5)
في (ف) و (ح): "دمًا".
(6)
"القيد" سقط من (ف) و (ح).
(7)
في (م) و (ك): "عبارة اللحم".
(8)
"قبيل" من (م) و (ك).
ولا يخفى ما في الاعتراض بين المعطوفين للتَّعليل من الدلالة على سائر أجزائه القابلة للأكل.
ويجوز أنْ يُرادَ باللحم: ما يُؤكَل منه مطلقًا، على طريقة التَّعبير عن الكل بالجزء
(1)
، وعلى هذا لا حاجة إلى صرف الضمير عن المضاف.
فإن قلْتَ: أليس في هذا التعليل غنًى عن إقحام اللحم لإفهام ما ذُكِرَ آنفاً؟
قلْتُ: لا؛ لأنَّ التَّعليل النَّحوي لا يلزم أن يكون بالعليَّة الشَّرعيَّة، بل قد يكون بالحكمة التي لا يلزمها الاطراد ولا الانعكاس، وإنَّما خصّص هذا والذي يليه بالتَّعليل عبارةً وإشارةً لأنَّ الطَّبع يساعد السَّمع في الأَوَّلَيْن بخلافِهما في الآخرَيْنِ.
{أَوْ فِسْقًا} نصب عطفًا على {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} ، لا على أنه مفعول له، دَلَّ على ذلك قولُه تعالى في موضع آخر:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، سمي بالمصدر مبالغةً، فهو بعبارته تحذير منه
(2)
، وبإشارته تعليل لحرمته.
{أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} صفة موضِّحة له، والإهلال به كنايةٌ عن ذبحه، وهو في الأصل: رفعُ الصَّوت بالشيء.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} : دعته الضرورة إلى أكلِ شيء من ذلك {غَيْرَ بَاغٍ} على مضطرٍّ مثله {وَلَا عَادٍ} قَدْرَ الضرورة في تناوله.
{فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ} لِمَا عسى أن يفرط عند العمل بالرُّخصة {رَحِيمٌ} بالرُّخصة فيه.
(1)
في (ك): "بالجل".
(2)
في (ف) و (ح): "عنه".
وقد استُدِلَّ بهذه الآية على انتساخِ الكتابِ بالسُّنَّة؛ لأن عبارتها وإن كانت ساكتة عن عدم محرَّم آخر، لكنَّ دلالتها ناطقةٌ بأنْ
(1)
لا محرَّم غير هذه، وليس فيها توقيت، فلمَّا زيدَ محرَّم آخر بالسُّنَّة انتسخَ حُكْمُ تلكَ الدِّلالة.
* * *
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} قال ابن عباس وجماعةٌ: هي
(2)
ذواتُ الظِّلف كالإبل والنَّعام، وما ليس بذي أصابع منفرجةٍ كالبطِّ والإوزِّ ونحوهما
(3)
. واختاره الزَّجَّاج
(4)
.
وفي قوله: {حَرَّمْنَا} تكذيبٌ لليهود في قولهم: إن الله تعالى لم يحرم علينا شيئًا، وإنما حرَّمنا على أنفسنا ما حرَّمه إسرائيل على نفسه.
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ} عطف على {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ، وقوله:{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} تبيين للمحرَّم منهما، ولا بدَّ من الإضافة للرَّبط.
وفي الإجمال ثمَّ التَّفصيلِ زيادةُ تقريرٍ وتأكيدٍ، ولولا القصد إلى ذلك لكان الظَّاهر أنْ يُقالَ: وشحومَ البقر والغنم، أو يقال: ومن البقر والغنم الشحومَ، والمعنى:
(1)
في (ك): "بأنه".
(2)
في (ف) و (ح): "من".
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(9/ 638 - 639) عن ابن عباس وجمع من التابعين.
(4)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 301).
حرَّمنا لحمَ كلِّ ذي ظفرٍ وشحمَه وكلَّ شيء منه، وتركنا البقر والغنم على التَّحليل، لم نحرِّم
(1)
منهما إلا الشُّحومَ خاصَّة، وهي الثُّروب
(2)
وشحومُ الكُلى.
وكان بعض ذوات الظُّفر حلالًا لهم، فعمَّ التَّحريم بسبب ظلمهم، لقوله
(3)
تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
وتدَّعي النَّصارى أنَّ ذلك نُسِخَ في شرع عيسى عليه السلام، ويشهد
(4)
بذلك التَّخصيص المستفاد من تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} .
{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} إلَّا ما علقت بظهورهما
(5)
.
{أَوِ الْحَوَايَا} إنْ قُدِّرَ وزنها: (فواعِلَ) فجمع حاوية، كزاويةٍ وزوايا، أو جمع حاوياءَ؛ كقاصعاءَ وقواصِعَ، وإنْ قُدِّرَ وزنُها (فعائلَ) فجمع حَوِيَّةٍ، كمطيَّةٍ ومطايا، وهي الدُّوَّارَةُ التي تكون في بطن الشِّياه
(6)
.
وقيل: هي
(7)
عطف على {شُحُومَهُمَا} ، و {أَوِ} للتَّفصيل، فصِّل بها ما حرِّم من البقر والغنم.
(1)
في (ك): (يحرم).
(2)
الثُّروبُ: جمع ثَرْب، والثَّرْبُ: شحمٌ رقيقٌ يُغَشَي الكَرِشَ والأمعاء. انظر: "القاموس المحيط"(مادة: ثرب).
(3)
في (ح) و (ف): "بقوله".
(4)
في (ح) و (ف): "وشهد".
(5)
في (ح) و (ف): "بظواهرهما".
(6)
وهي ما تحوى من أمعاء الشاة. انظر: "القاموس المحيط"(مادة: دور).
(7)
في (م) و (ك): "هو".
{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} كالأَلْيَة وما في القوائم والجُنُوب والرَّأس والعيون والآذان والمخ.
{ذَلِكَ} التَّحريمُ أو الجزاء {جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} بسبب ظلمهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرناهم.
* * *
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ} في ذلك {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ؛ أي: لا تُعرِض عنهم، ولا تؤايسهم من
(1)
رحمتي، بل كن ثابتًا في مقام الدَّعوة على قَدَمَيِ الإبْشار والإنذار، وذلك أن ما ذُكِرَ كلمةٌ جامعة لهما؛ أما الإبشار فلِمَا فُهِمَ من العبارة المذكورة من أنه تعالى يقبل التَّوبةَ ويغسل الحَوْبَةَ، فإنْ رجعوا عن التَّكذيب إلى التَّصديق فلهم الفوز والنَّجاة، وأما الإنذار فلِمَا فُهِمَ من إشارتها إلى أنَّه تعالى لسَعة
(2)
رحمته يمهل، ولمَّا كان في الإمهال مَظِنةُ الاندفاع
(3)
تداركه بقوله:
{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} حين ينزل {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فلا تغترُّوا بإمهاله.
أو: فإن كذَّبوك في الإنذار وإيعاد العصاة، واعتلُّوا بأنَّ اللهَ واسعُ الرَّحمة فلا يؤاخذ بالبغي، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين، وذو بأس شديد للمجرمين، فلا تَردُّ رحمتُه بأسَه عليهم، بل ربَّما أودعَ قهرَه في صورة لطفه استدراجًا، فلا تغترُّوا.
(1)
في (ك): "تؤسهم عن"، وفي (م):"تؤيسهم عن".
(2)
في (ح) و (ف): "بسعة".
(3)
في (ح) و (ف): "الانتفاع".
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} في ردِّ الدَّعوة وتكذيب الرَّسول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} عطف على الضمير المرفوع في {أَشْرَكْنَا} بلا تأكيدٍ للفصل بـ (لا)
(1)
.
{وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: ما صدر منَّا ومن آبائنا ما صدرَ إلَّا بمشيئة الله تعالى
(2)
وإرادته، أصابوا فيما قالوا على وَفق ما مرَّ في هذه السورة من قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137]، ولكنهم أخطؤوا في تمسُّكهم به في الرَّدِّ على الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وزعمهم أنَّ فيه حجَّةً عليه؛ بناءً على ظنِّهم أنَّ ما أرادَه اللهُ تعالى لا يكون منهيًّا عنه، وما لم يُردْهُ اللهُ تعالى لا يكون مأمورًا به، فلا مساغ للنَّهي عن شركٍ دلَّ وقوعه على أنَّه مرادُ اللهِ تعالى، والأمرُ بالتَّوحيد دلَّ عدم وقوعه على أنَّه
(3)
لم يكن مرادًا له تعالى - لِمَا تقرَّر في
(4)
موضعه أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة، بل ينفكُّ كلٌّ منهما عن الآخر، وكذا بين النَّهي وعدم الإرادة، ولذلك - أي: لعدم خطئهم في
(1)
وهذا عند البصريين، ساغ العطف عندهم وإن لم يؤكد الضمير لأنَّه يكفي عندهم أي فاصل كان، وقد فصل بـ (لا) هاهنا، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا. انظر:"روح المعاني"(8/ 488).
(2)
في (م) و (ك): "بمشيئته تعالى".
(3)
"مراد الله تعالى والأمر بالتوحيد دل عدم وقوعه على أنه" سقط من (م) و (ك).
(4)
في (ح) و (ف): "من". وقوله: "لما تقرر" متعلق بـ "أخطؤوا".
القول المذكور بل في احتجاجهم به عليه الصلاة السلام - ذمَّهم بالتَّكذيب دونَ الكذب، حيث قال:
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مثلَ ذلك التَّكذيب العظيم لك
(1)
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} للرُّسل، وهذا دليل على أنَّ مرادَهم التَّكذيبُ دونَ إبداء
(2)
العذر.
{حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} : حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم.
وبيَّنَ أنَّ احتجاجهم ليس عن
(3)
علمٍ ويقينٍ، بل عن ظنٍّ وتخمينٍ بقوله:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} ؛ أي: ليس عندكم بذلك علمٌ.
{فَتُخْرِجُوهُ} : فتظهروه {لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ، أي: الذي لا يغني من الحقِّ شيئًا.
{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} : وما أنتم إلا تخمِّنون وتقدِّرون أنَّ الأمرَ كما زعموا، وليس كذلك، لِمَا مَرَّ مِنْ بطلان مبنى
(4)
ذلك الظنِّ، فلا متمسَّك فيما ذكر لأهل الزَّيغ والضَّلال من أصحاب الاعتزال، ولا حاجة إلى التَّوجيه والتَّأويل
(5)
بتقييد المشيئة أوَّلًا؛ أي: فيما مرَّ، وإجرائها على إطلاقها آخرًا، أي: فيما يستمر
(6)
.
* * *
(1)
"العظيم لك "من (م) و (ك).
(2)
في النسخ: "إبلاء"، والصواب المثبت.
(3)
في (م) و (ك): "من".
(4)
في (م): "معنى"، وسقطت من (ف)، والمثبت من (ح) و (ك).
(5)
في هامش (ف): "والعجب أنَّ البيضاوي مع وقوفه على ذلك وعلى ما دل عليه في تفسيره كيف التزم هنا بالتأويل والانصراف عن الظاهر. منه ".
(6)
في (م): "يستمر سيأتي"، وفي (ح) و (ف):"سبق"، والمثبت من (ك).
(149) - {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} الفاء للسَّببيَّة، والجملة مسببَّة عمَّا دلَّ عليه الكلام السَّابق، والمعنى: إذ قد ظهر عدمُ تمام حجَّتكم فالحجَّةُ التَّامة مختصَّةٌ به تعالى {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الفاء قامت مقام (إنَّ) في تحقيق ما دلَّ عليه الكلام السَّابق من كونهم محجوجين، وذلك أنَّ فيه إلزامًا لهم بناءً على قولهم؛ أي: بل قد
(1)
صدَقتم، ولكن كما شاء كفركم لو شاء هدايتكم لهداكم كلَّكم، فبأي شيء علمتم أنَّه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟!
وهذا تهييجٌ لمن عسى أن يكون له استعدادٌ منهم فينقمعَ ويهتدي، فيرجعَ عن الشرك ويؤمنَ.
وفيه فائدة أخرى، وهي تداركٌ لِمَا يخطر بالبال من إبطال احتجاجهم أن يكون الاختلال في قولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} بتصديقهم في ذلك المقال، ففيه حجَّة دامغة لأصحاب الاعتزال.
* * *
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} {هَلُمَّ} من أسماء الأفعال، يجيء متعديًا كما هاهنا بمعنى: هاتوا، ولازمًا كقوله:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]؛ أي: تعالوا
(2)
.
(1)
"قد"من (ك) و (م).
(2)
في هامش (ف) و (م): "ومن قال هاهنا: إنه لازم في القول المذكور، وقال في تفسير سورة الأحزاب: معناه: قربوا أنفسكم إلينا، ثم قال: وقد بثنا أصله في الأنعام، لم يكن كلامه على سنن الانتظام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام ".
وإنما أضاف الشُّهداء إليهم لأنها لو أُطلقت لكان المعنى: هلم ناسًا يشهدون، فكان ظاهره طلبَ الشُّهداء بالحقِّ، وذلك فاسد.
{الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} ؛ يعني: مرتضاهم وقدوتَهم، أمَرهم بإحضارهم ليُلزمهم الحجَّةَ ويُبكِّتَهم، فيظهرَ للمشهود لهم عند انقطاعهم أنهم ليسوا على شيء، ولهذا قال:
{فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} : فلا تصدِّقهم، ولا تسلِّم لهم، كنَّى عن ذلك بالشَّهادة معهم مبالغةً في النَّهي؛ دلالةً على أنَّ الإصغاء إليهم دخول في عداد الشهداء بالباطل
(1)
.
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} من باب وضع الظَّاهر موضع الضَّمير، للدّلالة على أن المكذِّب بآيات الله تعالى لا يكون إلا متَّبع الهوى؛ إذ لو اتَّبع الدَّليلَ والعقل لكان مصدّقًا بها.
{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} كعبدة الأوثان {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : يجعلون له تعالى عديلًا.
* * *
{قُلْ تَعَالَوْا} من التَّعالي، وأصله: أَمْرُ مَنْ كانَ في مكانٍ عالٍ لمن هو أسفل منه، فعُمِّمَ اتِّساعًا فيه لكثرة الاستعمال.
(1)
في هامش (ف): "ويأبى عن الاستعارة والمشاكلة قوله: {مَعَهُمْ}. منه ".
{أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} {مَا} موصولة منصوبة ب {أَتْلُ} ، أو استفهامية منصوبة بـ {حَرَّمَ} ، والجملة في محل النَّصب بـ {أَتْلُ} ؛ لأن التِّلاوة من باب القول
(1)
؛ أي: أتلُ أيَّ شيءٍ حزَم ربُّكم.
{عَلَيْكُمْ} متعلقة بـ {حَرَّمَ} ، و (أنْ) في قوله
(2)
: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} مفسِّرة، و (لا) للنَّهي؛ لعطف الأوامر عليه في قوله:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ؛ لأن تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا
(3)
.
وعطفُ الأوامر على النَّواهي الواقعة بعد (أنْ) المفسِّرةِ لتلاوة المحرَّمات - مع القطع بأنَّ المأمور به لا يكون محرَّمًا - دل على أنَّ التَّحريمَ راجعٌ إلى أضدادها، وذلك أنَّه لمَّا علَّقَ
(4)
التِّلاوة بالتَّحريم إجمالًا ثم فسَّره بالتَّفصيل، وجبَ أن تكون التفاصيلُ كلُّها منهيَّاتٍ محرَّماتٍ، لكنْ عدلَ في بعضها إلى الأمر بأضدادها مبالغةً في النَّهي، وتنبيهًا على أن أضدادها واجبة، فيلزمها النَّهي عنها بأبلغ الوجوه.
ويحتمِل أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلةً تحت (أنْ) التفسيرية
(5)
.
{شَيْئًا} يحتمل المصدر والمفعول، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}؛ أي: وأحسنوا
(1)
في هامش (ف): "فلا حاجة إلى التضمين. منه".
(2)
"قوله": ليست في (م) و (ك).
(3)
"إحسانًا" من (م) و (ك).
(4)
في (ك): "لما أنه علق ".
(5)
في هامش "ف": "ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون (أنْ) مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وأما أمركم به، فحذف لدلالة {مَا حَرَّمَ} عليه، كما لا يخفى على من لب. منه".
بهما
(1)
إحسانًا، وضعه موضع النَّهي عن الإساءة إليهما؛ للدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كافٍ، بخلاف غيرهما.
ولك أن تقول: إنها معطوفة على قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ} ، أمَرهم أوَّلًا بأمرٍ ترتَّب عليه ذِكْرُ مَنَاهٍ، ثم أمرهم ثانيًا بأوامر، ويتبعها المبالغة في النَّهي.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} النَّهي مطلقٌ، وإنَّما قال:{مِنْ إِمْلَاقٍ} ظهارًا لسوء صنيعهم؛ فإنهم كانوا يفعلون ذلك من أجله.
في "الأساس": أملَقَ الرَّجلُ: أنفق ماله حتى افتقر
(2)
.
ولما كان الإملاق باعتبار بدايته إنفاقاً وباعتبار نهايته فقرًا جاز استعمالُه في كلِّ منهما.
وقد قيل: الخطاب هنا للفقراء، ولذا
(3)
قدِّم رزقُهم فقيل: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} منعًا لموجَب
(4)
ما كانوا يفعلون لأجله، واحتجاجًا عليهم، فناسب أن يفسَّر الإملاق هنا بالفقر، والخطاب في {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] للأغنياء، ولذا قدِّم رزقُ أولادهم، فقيل:{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]، فناسب أن يفسَّر الإملاق ثمَّة بالإنفاق.
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} : كبائر الذنوب {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بدلٌ منه، والظَّاهر: ما بينك وبينَ الخلقِ، والباطن: ما بينك وبينَ الحقِّ.
(1)
في (ح) و (ف): "لهما".
(2)
انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (مادة: ملق).
(3)
في (ف) و (ح): "الخطاب من الفقراء وإنما".
(4)
في (ف) و (ح): "لموجبية".
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} لَمَّا كان في إطلاق النَّفس شمولٌ للنُّفوس الحيوانيَّة - والأصلُ في قتلها
(1)
الإباحةُ - قيَّد بقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} ، يعني: النَّفسَ الإنسانيَّة {إِلَّا بِالْحَقِّ} ؛ أي: بما
(2)
يحقُّ به قتلها، ككفرٍ بعد إيمان، وزِنًى
(3)
بعدَ إحصانٍ، وقتلِ نفسٍ ظلمًا.
{ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ تفصيلًا.
{وَصَّاكُمْ بِهِ} لمَّا كانَ في الوصية معنى الاهتمامِ والمحافظة زيادةً على معنى الطَّلب استُعيرَتْ للأمر المؤكَّد، والموصَّى به نفسُ ما ذكرَ، لا حفظُه
(4)
.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : ترشُدون؛ فإنَّ غايةَ العقلِ الرُّشد.
* * *
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} نهى عن القُرْبِ الذي يعمُّ وجوهَ التَّصرُّف، وفيه سدُّ الذَّريعة.
{إِلَّا بِالَّتِي} ؛ أي: بالخصلة التي {هِيَ أَحْسَنُ} في حقِّ اليتيم، وإنما جيء بصيغة التفضيل مراعاةً لمال اليتيم.
(1)
في (ف) و (ح): "فيها".
(2)
في (م) و (ك): "مما".
(3)
في (ح) و (ف) و (ك): "ورجم"، وفي (م):"وزنا رجم"، والصواب المثبت.
(4)
في هامش (م): "لما عرفت أن معنى الحفظ ينتظم مفهوم الوصية، فافهم ".
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} : غايةٌ
(1)
من حيث المعنى؛ أي: احفظوه عليه حتى يبلغَ أوانَ
(2)
الحُلُمِ مع الرُّشدِ، فادفعوه إليه.
والأَشُدُّ: جمعُ شِدَّة، كأَنْعُمٍ ونِعْمَةٍ
(3)
.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} الإيفاءُ مخصوصٌ بالكيل، والميزانُ عطفٌ عليه، على طريقة ذِكْرِ أحدِ الفِعلَيْن وعطفِ متعلَّق المحذوف على المذكور، على حسَب ما يقتضيه لفظه، حتى كاله شريكه في أصل الفعل، كقوله:
علفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا
(4)
وقوله: {بِالْقِسْطِ} : بالعدل والتَّسوية، متعلق بالفعل المحذوف؛ أي: وزنوا الميزان بالقسط؛ فإنَّه مظِنّة البخس، بحيث لا يتفطَّن له صاحبه، بخلاف الكيل
(5)
.
(1)
في (ف) و (ح): "غايته ".
(2)
في (ف) و (ح): "إبداء".
(3)
في هامش (ف): "كذا قال سيبويه في تهذيب الأزهري، قال أبو الهيثم: واحد الأنعم نعمة، وواحد الأشد شدة، ولا عبرة بما قاله الجوهري من أن فِعلة لا يجمع على أَفْعُل، تدبر. منه".
(4)
صدر بيت أنشده الفراء لبعض بني دُبَير - قبيلة من أسد - يصف فرسه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 14)، و"تفسير الطبري"(1/ 264)، و"الكشاف"(2/ 108)، و" الخزانة" (1/ 499). وعجزه:
حَتَّى شَتَتْ هَمّالَةٌ عَيْناهَا
(5)
في هذا التخصيص نظر، ففي المكيال أيضًا مجال واسع للغش كما للميزان وإن اختلفت الطريقة، والغشاشون لا يعدمون طريقة لأي نوع من أنواع الغش وفي أي شيء كان مهما خفي على الناس أو ظُن أن لا مجال فيه للغش، فلا داعي لهذا التخصيص بوزن الميزان وإخراج الكيل من الحكم، لا بل يجب تعميم الحكم إلى غير الكيل والميزان مما يتعامل به الناس لاستيفاء حقوقهم، ولعل ذكرهما لكونهما أكثر ما يتعامل به الناس، أو لاقتصار الناس عليهما في ذلك الزمان.
{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الوُسع: ما احتملته الطَّاقة، وذكرهُ
(1)
عَقيبَ الأمرِ للدّلالة على أنَّه لا يؤاخذها بتقصيرٍ يقع بعدَ الاجتهادِ في مراعاة العدل.
{وَإِذَا قُلْتُمْ} أُرِيدَ بالقول هنا: ما لا يُطَّلَعُ عليه إلَّا بالقول؛ من أمرٍ وحكمٍ وشهادةٍ وخبرٍ وسفارةٍ
(2)
وغير ذلك.
{فَاعْدِلُوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} المقول إليه أو عليه {ذَا قُرْبَى} : من ذوي قرابتكم.
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ} ؛ أي: بما عاهدكم
(3)
الله من أوامره ونواهيه {أَوْفُوا} أو: بما عاهدتم الله عليه من أيمانكم ونذوركم.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ؛ أي: أمركم به وأكَّد الأمرَ
(4)
.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لمَّا كان في هذه الأمور نوعُ خَفاء بالقياس إلى ما سبقَ بحيث يحتاج إلى الاجتهاد والذِّكْر الكثير ضُمَّتْ
(5)
يتذكرون.
* * *
(1)
في (م): "وذكر".
(2)
في (م): "وخير وسعادة" وهو تصحيف فيهما.
(3)
قوله: "عاهدكم" لعل المراد: (عهد إليكم). وعبارة البيضاوي: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} يعني: ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع. وقال الآلوسي: أي: ما عهد إليكم من الأمور المعدودة
…
أو: ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. انظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 189)، و"روح المعاني" (8/ 500). قلت: وهذان الوجهان بحسب المضاف إليه، ففي الأول الإضافة إلى الفاعل، وفي الثاني إلى المفعول.
(4)
"الأمر" سقط من (ك).
(5)
في (ح) و (ف): "ضمنت"، وفي (ك):"ضمن"، والمثبت من (م).
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} الصِّراط من
(1)
السِّبيل: ما لا التواء فيه ولا اعوِجاج، بل يكون على جهة القصد، وإنما يُوصَف بالاستقامة للاحتراز عن الميل إلى شيء من الجوانب الأربعة بالصُّعود والهبوط ونحوهما، إلَّا
(2)
أنَّ الاحتراز المذكور حصل هنا با لإضافة، فقوله:{مُسْتَقِيمًا} حالٌ مؤكِّدة.
والإشارة إلى ما ذُكِرَ في السُّورة، فإنَّها بأسرها في إثبات التَّوحيد والنُّبوة وبيان الشَّريعة.
وقرئ: {إنَّ} بالكسر على الاستئناف، وبالفتح بتقدير اللَّام على أنه [علة] الأمر في قوله
(3)
: {فَاتَّبِعُوهُ} ، وقرئ:{أَنْ} مخففَّة من الثَّقيلة
(4)
، وفيها ضمير الشَّأن.
{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} : الأديان المختلفة، أو الطُّرُق التَّابعة للهوى، والطَّريق: كلُّ ما يطرقه طارق معتادًا كان أو غير معتاد، والسَّبيل من الطُّرق
(5)
: ما هو معتاد السُّلوك، أعمُّ مِنْ أن يكون على جهة القصد أو لا، وبهذا التفصيل تبيَّن وجه إصابة
(6)
كلٍّ من الصراط والسبيل محزَّه.
(1)
"من "سقط من (ك).
(2)
"إلا" سقط من (ف) و (ح).
(3)
ما بين معكوفتين زيادة يقتضيها السياق مستفادة من عبارة البيضاوي في "تفسيره"(2/ 189)، ولفظه:(على أنه علة لقوله).
(4)
قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، وخفَّف ابن عامر النُّون وشدَّدها الباقون. انظر:"التيسير"(ص:108).
(5)
في (ف): "الطريق".
(6)
في (م): "إصابة وجه".
{فَتَفَرَّقَ} الفاء جواب النَّهي، والمضارع المحذوف التَّاءِ منصوبٌ بإضمار (أنْ)، وفاعله ضمير {السُّبُلَ} ، ومنهم مَن لم يحذف التَّاء بل أدغمها في تاء التفعُّل، فقرأها بتشديد التاء
(1)
.
والباء في: {بِكُمْ} للتعدية، وتعديتُه بـ {عَنْ} لتضمُّنه معنى الإزالة؛ أي: فتزيلَكم متفرِّقين.
{عَنْ سَبِيلِهِ} فيه التفات وتفنُّن، وتنبيهٌ على أنَّ الطَّريقَ المنسوب إليه تعالى لا يكون إلا صراطًا مستقيمًا.
{ذَلِكُمْ} الإشارة إلى مجموع الأمر والنَّهي.
{وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ذكر أوَّلًا {تَعْقِلُونَ} ، ثم {تَذَكَّرُونَ} ، ثم {تَتَّقُونَ} ؛ لأنهم يعقلون ثم يستيقظون
(2)
، تم يتَّقون المحارم والمهالك.
* * *
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} عطف على {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} ، فـ {ثُمَّ} للتَّراخي في الإخبار، أو للتَّفاوت في المرتبة، كانه قيل: ذلكم وصاكم به قديمًا تمَّ آتينا، أو: ثم أعظمُ من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب.
{تَمَامًا} للكرامة والنِّعمة {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} : على مَن أحسن القيام، ويؤيده
(1)
هي رواية البزي عن ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 83).
(2)
في (م): "يتفطنون". و في (ك): (يتعظون).
قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (على الذين أحسنوا)
(1)
، وقراءة أبيٍّ:(تمامًا على المحسنين)
(2)
.
أو: على الذي أحسن بتبليغه
(3)
، وهو موسى عليه الصلاة والسلام.
أو: تمامًا على الذي أحسنه؛ أي: أجاده من العلم والشَّرائع، أي: زيادة على علمه إتمامًا له.
وقرئ بالرفع
(4)
، على أن تقديره: على الذي هو أحسنُ.
وقيل في وجه النَّصب: إنه خفضٌ، لكنه لا ينصرف ففُتح، وحينئذ يكون بدلًا عن {الَّذِي} وترجمةً
(5)
عنه؛ كقولك: مررت بالذي خيرٍ منك، بالخفض.
{وَتَفْصِيلًا} : بيانًا في غاية التَّفصيل، عطف على {تَمَامًا} ، ونصبُهما يحتمِل العلَّة والحال والمصدر
(6)
.
{لِكُلِّ شَيْءٍ} يُحتاجُ إليه في الدِّين، ففيه
(7)
دلالةٌ على أنه لا اجتهاد في شريعة
(8)
(1)
انظر: "القراءات الشاذة"(ص: 41).
(2)
انظر: "البحر المحيط"(9/ 488). وعزاها السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 386) إلى الحسن رواها عنه ابن الأنباري في "المصاحف". وانظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 206).
(3)
"بتبليغه" زيادة من (م) و (ك).
(4)
نسبت إلى يحيى بن يعمر. انظر: "المحتسب"(1/ 234)، وضعف ابن جني هذه القراءة.
(5)
في (ك) و (م): "وترجمته ".
(6)
في هامش (ف): "أي: يكون {تَمَامًا} مصدر أتمينا المحذوف المدلول عليه بـ {آتَيْنَا} ، تدبر.
(7)
في (م): "وفيه".
(8)
في (م): "شرعة".
موسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه فرعُ الإجمال في بعض الأمور الدِّينيَّة
(1)
.
{وَهُدًى وَرَحْمَةً} يهوِّن عليهم مقاساة التَّكليف بما ذكر من التَّعريف.
{لَعَلَّهُمْ} : لعلَّ بني إسرائيل {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} : بلقاء ثوابه وعقابه يوم الجزاء {يُؤْمِنُونَ} : يصدّقون.
* * *
(155) - {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
{وَهَذَا} ؛ أي: القرآن {كِتَابٌ} عظيم الشَّأن {أَنْزَلْنَاهُ} أسنده إلى نفسه بنون العظمة.
{مُبَارَكٌ} : كثير النَّفع، إنَّما فرَق بينه وبين قرينه بـ (أنزلنا) لأن الانتفاع به بعد نز وله.
{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} مخالفته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بذلك، علَّقها بكلمة التَّرجِّي لأن حصولها بالختم على الإيمان، وفيه خطر.
* * *
(1)
تعقبه الآلوسي بقوله: ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافا لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف: 111]، عليه السلام: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا. انظر: "روح المعاني"(8/ 509). وانظر أيضا كلام الشهاب عليه في "حاشيته على البيضاوي"(4/ 139) و (5/ 214).
{أَنْ تَقُولُوا} : كراهةَ أن تقولوا، علَّةٌ لمقدَّر
(1)
دلَّ عليه {أَنْزَلْنَاهُ} فيما تقدم.
وقرئ بالتاء والياء
(2)
، وعلى الثاني فيه التفاتٌ من خطاب
(3)
{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} ، وفي {قَدْ جَاءَكُمْ} [الأنعام: 104] التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكلاهما في مَحَزِّه؛ حيث أعرض عنهم وجعلهم غائبين عند حكاية أقوالهم الرَّديَّة، ثم خاطبهم عند قصد توبيخهم وتبكيتهم.
{إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} : جنسُ الكتاب المنحصِر في التَّوراة والزَّبور والإنجيل؛ لقولهم: {مِنْ قَبْلِنَا} ، وأمَّا الصُّحف فليست من جنس الكتاب في العُرْفِ.
{عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} ؛ أي: اليهود والنصارى، ودل هذا على أن المجوس ليسوا
(4)
من أهل الكتاب؛ إذ لو كانوا منهم كانوا ثلاثَ طوائف.
{وَإِنْ كُنَّا} إنْ) هي المخففَّة، دلَّ عليه دخول اللام الفارقة خبرَ (كان)؛ أي: وإنه كنا {عَنْ دِرَاسَتِهِمْ} : قراءتهم {لَغَافِلِينَ} لا ندري ما هي؛ لأنَّه لم يكن على لغتنا
(5)
فلم نقدر على قراءته.
* * *
(1)
في (م) و (ك): "لمصدر".
(2)
قرأ السبعة بالتاء، وقرأ ابن محيصن بالياء. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 41)، و"البحر المحيط"(9/ 492).
(3)
في (م) زيادة: "في ".
(4)
في (ح) و (ف): "ليس".
(5)
في (ح) و (ف): "لأنَّه ما لم يكن في لغتنا".
{أَوْ تَقُولُوا} عطف على الأوَّل: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى} : أرشدَ وأسرع اهتداء {مِنْهُمْ} لحدَّة
(1)
أذهاننا وثَقابة أفهامنا، ولهذا تلقَّفنا فنونًا من العلم كالتَّواريخ والأشعار والخطب على أنَّا أمّيُّون.
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : حجَّة واضحة تعرفونها. تبكيتٌ لهم وإلزام
(2)
الحجَّة، وفيه إيجاز بحذف الشرط إشعارًا بتصديقهم في دعوى الذَّكاء وحدَّة الذهن، وأنَّ مَنْ يدَّعي ذلك فليتنبَّهْ بمثل هذه النُكتة، وليدرك البيِّنة، وبعثًا
(3)
لأفهامهم، وتهييجًا وإيذانًا بأنَّ الأهمَّ هو الجزاءُ لا الشرط، والمعنى؛ إنْ صدَقتم في الدَّعوى فقد جاء أوان إظهار صدقه.
{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} كالذي أنزل على مَنْ قبلكم.
{فَمَنْ أَظْلَمُ} ؛ أي: لنفسه وغيره، وقد مرَّ في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة: 114] تحقيق هذا النوع من الاستفهام.
{مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} بعدما عرف صحَّتها، وتمكَّن من معرفتها.
(1)
في (ح) و (ف): "بحدة".
(2)
في (م): "وإلزامهم".
(3)
في (ح) و (ف): "وبعث"، ولعله الصواب؛ لأنَّه معطوف على المرفوع وهو "تبكيت"، لكن وقع العطف عليها في النسخ كلها بالنصب في:"وتهييجًا وإيذانًا"، ولعل النصب في جميعها سهو.
{وَصَدَفَ} : صدَّ {عَنْهَا} النَّاسَ، فضلَّ وأضلَّ، وأما معنى الإعراض فقد حصل بالتَّكذيب.
{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} ؛ أي: العذابَ السَّيِّئِّ، وهو الموصوف بنهاية النكاية.
{بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} : بسبب استمرارهم على تجديد الصَّدِّ وإحداثه حينًا فحينًا.
* * *
{هَلْ يَنْظُرُونَ} ؛ أي: ما ينظرون؛ يعني الذين قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا
…
} إلخ [الإسراء: 90].
{إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} هذا ما ذكروه بقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء: 92].
{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} هذا ما ذكروه بقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92]، وإنما عبَّر عنه بـ {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} تعظيمًا؛ لأنَّه أعظم الآيات الظَّاهرة قبل قيام الساعة.
{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ؛ يعني: الآيةَ المذكورة آنفا، لا بعضُ أشراط السَّاعة مطلقًا؛ لأنَّ الإيمان نافع بعدَ
(1)
ظهورها، كيف ونزول عيسى عليه السلام لدعوى الخلق إلى دين الحقِّ بعد خروج الدَّجَّال.
(1)
في (ح) و (ت): "نافع عن".
{لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} كالمحتضَر إذا صار الأمرُ عِياناً، والإيمانُ المقبول برهانيًّا كان أو تقليديًّا ما يكون بالغيب.
{لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ} صفة {نَفْسًا {مِنْ قَبْلُ} متعلِّق بالمعطوفين
(1)
.
{أَوْ كَسَبَتْ} عطف على {آمَنَتْ {فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أُريدَ بالإيمان: المعرفة، يرشدك إلى هذا قراءة:(لا تَنفعُ) بالتاء
(2)
، وبكسب الخير: الإذعان والقَبول.
ونحن معاشرَ أهل السُّنَّة نقول بما هو مُوجَب النَّص: مِنْ أنَّ الإيمان النَّافع مجموعُ الأمرين، فلا حجَّة
(3)
فيه للمخالف؛ لأن مبناها على حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المُخترَع بعد نزول القرآن، وتخصيصِ الخير بما
(4)
يكون بالجوارح، وكلٌّ منهما خلاف الأصل والظَّاهر، ولو سُلِّم فنقول: الإيمان النَّافع لا بُدَّ فيه من أمرين؛ الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللِّسان، وقد عبَّرَ عن الأول بقوله:{آمَنَتْ} ، وعن الثاني بقوله:{أَوْ كَسَبَتْ} ؛ فإن الكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان، فمنطوق
(5)
الآية على وفق مذهبنا، والله أعلم.
{قُلِ انْتَظِرُوا} ؛ أي: انتظروا إتيان أحد هذه الثلاثة {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} له
(6)
، وعيدٌ لهم، ووعدٌ لنا.
(1)
في هامش (ف): "كـ: لا محالة، في قول صاحب "المفتاح": للكذب لا محالة أو للتهمة، قال الشارح: إنما فصل بقوله: لا محالة، بين المعطوفين إشعارًا بتعلقه بهما. منه ".
(2)
نسبت لابن عمر وابن سيرين. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 42).
(3)
في (ف): "حاجة".
(4)
في (م): "مما".
(5)
في (ف): "فنطق".
(6)
"له "من (م) و (ك).
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا} : بددَّوا {دِينَهُمْ} فآمنوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ، وافترقوا فيه، قال صلى الله عليه وسلم:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً، كلُّها في الهاوية إلا واحدةً، وافترقت النَّصارى على اثنين وسبعين فرقةً، كلُّها في الهاوية إلا واحدةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً، كلُّها في الهاوية إلا واحدةً"
(1)
.
وقرئ: {فَارَقُوا}
(2)
.
{وَكَانُوا شِيَعًا} : فرقًا، جمعُ شيعة، وهي الفرقة المُتَّفقة على طريقٍ ومذهبٍ، مِنْ شاعه: إذا تبعَه، وأصله الشِّياع، وهو الحطب الصغار يوقَد به
(3)
الكبار.
{لَسْتَ مِنْهُمْ} : من أمرهم {فِي شَيْءٍ} ؛ أي: ليس إليك شيء من مجازاتهم والعفو عنهم، إنَّما عليك إنذارهم وتبليغ الوحي إليهم.
{إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} إن شاء عاجلهم بالعقوبة، وإن شاء أخَّرهم إلى الآخرة، وإن شاء وفَّقهم للرجوع عنها، فعفا عنهم.
{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؛ أي: في الآخرة، ويجازيهم على ذلك.
* * *
(1)
روى نحوه أبو داود (5496)، والترمذي (2642)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: حسن صحيح.
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 108).
(3)
في (ح) و (ف): "وهي الحطب الصغار توقد بها".
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} لم يقل: مَن عمل الحسنة؛ ليُعْلمَ أنَّ النَّظرَ إلى ما خُتمَ به، وعلى ذلك
(1)
قال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالخواتيم "
(2)
.
{فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} على
(3)
إقامة صفة الجنس المميِّز مقامَ الموصوف، تقديره: عشرُ حسناتٍ أمثالِها، لم يُرِدْ به القصرَ، بل أراد به التفضُّل بالتضعيف، وهذا أقل ما وعد بالأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبع مئة
(4)
، وبغير حساب.
وقرئ: {عَشْرُ} بالتنوين، و {أَمْثَالِهَا} بالرَّفع على الوصف
(5)
.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} ؛ أي: بواحدة
(6)
، هذا بحكم الوعد، لا باقتضاء العدل كما توهَّمه المعتزلة
(7)
؛ إذ لا حقَّ للخلق على الخالق.
{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقصِ ما وعد لهم من الأجر
(8)
، وبالعقاب
(9)
بلا استحقاق.
(1)
في (ك): "ولذلك".
(2)
رواه البخاري (6607) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
"على"من (م) و (ك).
(4)
في (ح) و (ف): "وسبعمئة".
(5)
قرأ بها يعقوب من العشرة. انظر: " النشر"(2/ 266). ونسبت للحسن. انظر: "القراءات الشاذة"(ص:41).
(6)
في (ف) و (ح): "أي واحدة بعد واحدة"، وسقطت "أي " من (ك)، والمثبت من (م).
(7)
يرد بذلك على الزمخشري إذ قال في "الكشاف"(2/ 83): "ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل".
(8)
في هامش (ف): "لا ينقص الثواب مطلقًا لما عرفت من أن زيادته تفضيلًا. منه ".
(9)
سقطت الواو في (ف) و (ح) و (ك).
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ؛ أي: أرشدني إلى ما نصبَ من الحُججِ.
{دِينًا} بدلٌ من محل {إِلَى صِرَاطٍ} ؛ لأن معناه: هداني صراطًا؛ لقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20]، أو مفعولُ فعلٍ مضمَر دلَّ عليه الملفوظ، أو حالٌ من {صِرَاطًا} ؛ لاختصاصه بالصِّفة، أو نصبٌ على المدح؛ أي: أعني - أو: أخصُّ - دينًا.
{قِيَمًا} فَيْعِلٌ مِن قامَ، كسَيِّدٍ مِنْ سادَ، وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزِّنة، والمستقيمُ أبلغ منه باعتبار الصِّيغة؛ لأنَّه نَصٌّ في الاستقامة.
وقرئ: {قِيَمًا}
(1)
، وهو مصدر بمعنى القيام، وُصِفَ به.
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} عطفُ بيان لـ {دِينًا} ، إنَّما ذَكَرَ ذلك حثًّا لهم على اتِّباعه؛ لأنَّه دينُ أبيهم.
{حَنِيفًا} حال من {إِبْرَاهِيمَ} .
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطفٌ عليه.
* * *
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} : عبادتي وتقرُّبي كلَّه.
(1)
بكسر القاف وفتح الياء مخففة، وهي قراءة الكوفيين وابن عامر، والباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة. انظر:"التيسير"(ص: 108).
وقيل: ذبحي، وجمع بين الصلاة والذَّبح كما في قوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
وقيل: وحجِّي، من مناسك الحجِّ، وإنَّما خصَّه بالذِّكر لأنَّ المشركين كانوا يُدْخِلون الشِّرك في التلبية، وكذا تخصيص الذَّبح بالذِّكر على القول الأول.
{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} : وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطَّاعة، أو: طاعاتِ الحياة والخيراتِ المضافة إلى الممات كالوصيَّة والتَّدبير.
وقرئ: {وَمَحْيَايَ} وإسكان الياء
(1)
؛ إجراءً للوقف مجرى الوصل.
{لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} : خالصةً له لا أُشرك فيها
(2)
غيره.
{وَبِذَلِكَ} الإخلاص {أُمِرْتُ} ، بدأ بقوله:{قُلْ} وختم بهذا؛ بيانًا أنه يقول ائتمارًا لا افتخارًا
(3)
.
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ؛ لأنَّ إسلامَ كلِّ نبيٍّ متقدِّم على إسلام أمَّته.
* * *
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} هذا أبلغُ من: أغيرَ الله أعبدُ؛ لدلالته على معناه بطريق البرهان
(4)
، وهو جوابٌ عن دعائهم له عليه السلام إلى عبادة الأصنام.
(1)
رواية ورش عن نافع بخلاف عنه. انظر: "التيسير"(ص: 108).
(2)
"فيها" زيادة من (م) و (ك).
(3)
في هامش (م): "فيه رد لمن زعم أنه خارج عن مقول القول حيث قال: وبذلك القول والإخلاص. ح".
(4)
في هامش (ف): "من غفل هذا قال: فأشركه في عبادته. منه".
{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} فلا يصلُح غيره أنْ يكون معبودًا أصلًا، فضلًا عن أن يكون شريكًا له تعالى في المعبوديَّة
(1)
، وهو مستحِقٌّ لأن يكون معبودَ كلِّ شيءٍ، جملةٌ حالية في مقام التَّعليل للإنكار المذكور.
{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} ؛ أي: لا تكون جنايةُ نفسٍ إلَّا عليها، ومعناه السَّلبُ الكلِّيُّ، لا سلبُ الكلِّ
(2)
، فأداةُ السور
(3)
داخلة على النَّفي معنًى
(4)
، وإن كانت مدخولةً له لفظًا.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ أي: لا تحملُ نفسٌ حاملةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى.
قال عطاء: قال الوليد
(5)
بن المغيرة: اتَّبعوا سبيلي أحملْ عنكم، فنزلت
(6)
.
هذا نفيُ القدرة عن الغير على ذلك التَّحمل، وأمَّا نفيُ التَّحميل
(7)
من الله تعالى، فالآية ساكتةٌ عنه، فلا منافاةَ بينها وبين حديث أبي موسى المذكور في "صحيح مسلم "، وهو هذا:"يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ أمثالَ الجبال، فيغفرُها الله تعالى لهم، ويضعُها على اليهود والنَّصارى"
(8)
.
(1)
في (ف) و (ح): "العبودية".
(2)
"لا سلب الكل": ليست في (م)، وفي (ف):"الكلي" بدل "الكل".
(3)
كذا في النسخ.
(4)
"معنى": ليست في (م) و (ك).
(5)
في (م): "وليد". وسقط من (ك): "عطاء قال".
(6)
ذكره الواحدي في "التفسير البسيط"(8/ 564) عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: "تفسير البغوي"(2/ 179)، و"زاد المسير"(5/ 17).
(7)
في (ف): "التحمل".
(8)
رواه مسلم (2767).
{ثُمَّ} متعلِّق بقولِه: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} ، وقولُه:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(1)
إمَّا
(2)
معترِضٌ تأكيدٌ لما ذكره
(3)
.
{إِلَى رَبِّكُمْ} لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يبيِّن الرُّشْدَ من الغَيِّ، ويميِّزُ المحِقَّ من المبطِلِ.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} : خلائف الأمم الماضية في الأرض.
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في الخِلْقةِ والمَكِنَةِ والعلمِ والعمرِ.
{لِيَبْلُوَكُمْ} ؛ أي: ليختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} : فيما أعطاكم من النِّعم بالشُّكر، وفيما ابتلاكم به من المحن بالصَّبر.
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} ؛ أي
(4)
: لأعدائه، وإنما كان عقابه سريعاً لأنَّه لا يحتاج إلى استعمال آلات
(5)
، ولا يتوقف على استحصال أدوات.
{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: لأوليائه.
وصفَ العقاب ولم يُضِفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضمَّ إليه الوصفَ
(1)
"وازرة وزر أخرى" زيادة من (ك).
(2)
قوله: "إما" كذا في النسخ، ولم يذكر لها قسيم.
(3)
في (ح) و (ف): "ذكر".
(4)
"أي" من (م) و (ك).
(5)
في (ف) و (ك): "الآلات".
بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة وعَلَمَي التأكيد (إنَّ) واللام؛ تنبيهاً على أنه تعالى غفورٌ بالذَّات معاقِبٌ بالعَرَض، كثيرُ الرَّحمة مبالغ فيها، قليلُ العقوبة مسامحٌ فيها؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]؛ أي: استخلافُكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلافُ مَن يختبر، ولا يلزم مِنْ هذا أن يكون الخطاب للمؤمنين خاصَّة.
وكلُّ مَن جاء بعدَ ما مضى فهو خليفتُه، والجمع: الخلائف، جاؤوا به على الأصل، مثل: كريمة وكرائم، وقالوا أيضاً: خلفاء، من أجل أنه لا يقع إلَّا على مذكَّرٍ
(1)
، وفيه الهاء، جمعوه على إسقاط الهاء، مثل ظريف وظرفاء؛ لأن (فعيلة) بالهاء لا يجمع على (فعلاء)، واللهُ أعلمُ بالصَّواب
(2)
.
* * *
(1)
في (ف): "لا يقع إلا مذكراً"، وفي (ح):"لا يقع إلا مذكر".
(2)
هنا تنتهي النسخة الخطية لمكتبة الحرم المكي والمرموز لها بـ (ح).