الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ الأَعْرَافِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {المص} .
{المص} قد سبق الكلام في مثله.
* * *
{كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} صفتُه، والمراد بالكتاب السورةُ، وهذا أولى من أن يراد به القرآن؛ لأن البعض إذا استقل بالكمال أو الإعجاز فالكلُّ أولى به.
{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ؛ أي: فلا تكن شاكًّا أو خائفاً، على طريقةِ الكناية؛ فإن الشاكَّ والخائف ضيِّق الصدر. أو: فلا يكن في قلبك شكٌّ أو خوف، على أن الصدر مجازٌ عن القلب، والحرجَ مجازٌ عن الشك أو الخوف، وتوجيه النهي إليه لإيهامِ أن الحرج لو كان مما يُنهى عنه لنهيناه
(1)
عنك، فانتهِ أنت عنه، ولا يخفى ما في هذا الاعتبار اللطيف من تعظيم شأنه الشريف. والفاء للسببية؛ أي: إذا أنزل إليك من الله تعالى فلا يَحرجْ صدرك؛ لأنَّه سبب الانشراح.
(1)
في (ف): "نهيناه"، وفي (م):"لنهينا".
أو
(1)
: فلا يكن في صدرك ضِيقٌ على أن يكون النهي للتكوين، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} .
{مِنْهُ} ؛ أي: من أنه منزلٌ من الله تعالى، أو: من تبليغه مخافةَ أن تُكذَّب فيه أو تُقصِّرَ في القيام بحقه، وفائدته التشجيع
(2)
.
{لِتُنْذِرَ بِهِ} علةٌ لـ {أُنْزِلَ} ، وإنما أُخر تنبيهاً على أنه ينبغي أن يزيل الحرج عن صدره أولاً ثم يشتغلَ بالإنذار، أو للنهي لأنَّه إذا تيقَّن أنه من عند الله تعالى تشجَّع على الإنذار، وكذلك إذا أمَّنه الله تعالى.
{وَذِكْرَى} نصبٌ باضمار فعلِها؛ أي: ولتذكِّرَ تذكيراً، فإن الذكرى اسم بمعنى التذكير.
أو جرٌّ عطفاً على المصدر المنسبِك من (أنْ) والفعلِ المنصوبِ بإضمارها في قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} ؛ أي: لإنذارك، لا على محلِّ {لِتُنْذِرَ} لأن محله النصب.
أو رفعٌ عطفاً على {كِتَابٌ} ، أو خبراً لمحذوفٍ، أي: هو ذكرى.
{لِلْمُؤْمِنِينَ} أُطلق الإنذار لعمومه الفريقين، وخُصَّ التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفِعون به.
* * *
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ} من القرآن والسنَّة، لا لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
(1)
"أو" ليست في (ف).
(2)
في هامش (ف): "ومن لم يتنبه له زعم أنه من قبيل لا أرينك. منه".
[النجم: 13] لأنَّه لا ينتظِم السنَّة التقريرية، بل لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولهذا عدل عن الضمير، وقيل:
{إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} لمَّا شجعه عليه السلام أمَر الجميع باتِّباع جميع ما يرسمه؛ ليكون أَدْعَى لانشراح صدره ورُحْبِ ذراعه.
{وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ} ، أي: من دون ربِّكم {أَوْلِيَاءَ} من شياطين الجن والإنس، فيُضلوكم عن دين الله تعالى، ويحملونكم على عبادة الأوثان واتِّباع الهوى والبدع.
أو: من دون ما أُنزل إليكم؛ أي: من دون دِينِ الله تعالى دِينَ أولياءَ.
وقرئ: (ولا تَبْتَغوا)
(1)
.
{قَلِيلًا} صفةٌ للمصدر؛ أي: تذكُّراً قليلاً، أو للزمان، أي: زماناً قليلاً، حيث تتركون دينَ الله تعالى وتتَّبعون
(2)
غيرَه.
{مَا} مزيدةٌ لتأكيد القلة.
{تتذكرون} صفة لـ {أَوْلِيَاءَ} ، وقرئ بحذف التاء، وقرئ:{يتذكَّرون}
(3)
(1)
تنسب لمجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 42).
(2)
في (ف) و (م): "يتركون دين الله ويبتغون"، والمثبت من (ك) وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 5).
(3)
بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة وهي قراءة ابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي وحفص:{تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين وذال مخففة، وقرأ باقي السبعة بتاء فوقية وذال وكاف مشددتين، وروي عن ابن عامر:(تتذكرون) بتاءين فوقيتين، ذكرها ابن مجاهد عنه، لكنها شاذة كما صرح الآلوسي، وأوردها ابن خالويه في الشواذ، وبها صدر المؤلف تفسيرها، وكان الأولى =
على أن الخطاب [بعدُ] مع النبي عليه السلام.
* * *
(4) - {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} .
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ} (كم) خبرية منصوبة بفعلٍ مقدَّر يفسره {أَهْلَكْنَاهَا} ؛ أي: وكثيراً من القرى أهلكناها.
{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} فيه استخدام
(1)
وقلبٌ:
أمَّا الأول: فلأن الضمير في {أَهْلَكْنَاهَا} للقرية باعتبار معناها الحقيقيِّ، والضميرَ في {فَجَاءَهَا} لها باعتبار معناها المجازيِّ وهو أهلُها.
وأمَّا الثاني: فلأن أصل الكلام: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها. ويجوز أن تكون الفاء تفصيلية ويكونَ الكلام على أصله.
{بَيَاتًا} في موقع الحال؛ أي: بائتين.
{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} في محل النصب عطفاً على {بَيَاتًا} ، كأنه قال: بائتينَ أو
= بذلك التصدير بما تواتر من القراءات المذكورة. انظر: "السبعة في القراءات" لابن مجاهد (ص: 278)، و"التيسير" (ص: 108)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 42)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 5)، وما سيأتي بين معكوفتين منه، و"روح المعاني"(9/ 14).
(1)
شرحه المؤلف في آخر رسالته المسماة: "رسالةٌ في دَفْعِ ما يَتعلَّقُ بالضَّمائرِ"، حيث قال: اعلَمْ أنَّ الاستخدامَ مَرجعُهُ إلى أنْ يُرادَ باللَّفظِ معنىً ثُم يُرادَ بضميرهِ معنىً آخرُ، سواءٌ كان المعنيانِ حقيقيَّينِ أو مَجازِّينِ، أو أحدُهما حقيقيَّاً والآخرُ مَجازيًّا، وهذا أولى ممَّا قيل: هو أنْ يُرادَ بلفظٍ له معنيانِ أحدُهما، ثم يُرادَ بضميره الآخرُ؛ لأنَّ الظَّاهرُ مِن قوله:(له مَعنيان) كونُهما حقيقيَّينِ، وذلك غيرُ لازمٍ فيه. والرسالة المذكورة مطبوعة ضمن "مجموع رسائل العلامة ابن كمال باشا".
قائلينَ، وإنما وقعت الجملة الاسمية حالاً بغير واوٍ، لا اكتفاءً
(1)
بالضمير - لأنَّه غير فصيح - بل لعطفها على حالٍ قبلها، فاستُثقل اجتماع حرفي العطف؛ لأن واو الحال واوُ العطف استُعيرت للوصل.
وتخصيص الوقتين بنزول العذاب لأنهما وقتُ دَعَةٍ وغفلةٍ، فيكون نزوله فيهما أشدَّ وأفظعَ، وأما المبالغةُ في التعبير فلا اختصاص له بالوقتين.
* * *
(5) - {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} : دعاؤهم على أنفسهم بالويل.
{إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} : وقتَ ظهور طلائع العذاب.
{إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} : إلا قولَهم هذا، يرشدك إلى أن المعنى هذا قولُه تعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} إلى قوله: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 14، 15].
* * *
(6) - {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .
{فَلَنَسْأَلَنَّ} الفاء فصيحة؛ أي: لنجمعنَّ الخلائق فلنسألنَّ.
{الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} : هم الأمم يسألهم
(2)
عما أجابوا به الرسل؛ لقوله تعالى: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، والمراد به التوبيخ والتقريع، لا الاستخبارُ ولا التقرير؛ لقوله تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66].
(1)
في (ف): "للاكتفاء"، وهو تحريف.
(2)
في (ف): "ليسألهم".
{وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عمَّا أجيبوا به؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، والمنفيُّ في قوله تعالى:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]
(1)
السؤالُ عن الذنب لا مطلقُ السؤال، فلا ينافي هذا حتى يُحتاج إلى التوفيق بالاختلاف في الأوقات أو في معنى السؤال.
* * *
(7) - {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} .
{فَلَنَقُصَّنَّ} لمَّا كان سؤال الفريق الأول سؤالَ تعنيفٍ وتعذيب، وسؤالُ الفريق الثاني سؤالَ تشريفٍ وتقريب، لا الاستخبارَ والاستفسارَ، سكتوا عن الجواب وتركوا الخطاب، فناسب المقامُ تصديرَ الكلام بالفاء الفصيحة.
{عَلَيْهِمْ} ؛ أي: على الفريقين ما كانوا عليه
(2)
.
{بِعِلْمٍ} كاملٍ شامل لظواهرهم وسرائرهم.
{وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} حالٌ هي
(3)
في مقام التعليل؛ أي: إذ لم نكن
(4)
عنهم غائبين، لم يقل: وما كانوا عنا غائبين؛ تنبيهاً على أن المنشَأ لهذه الحال ما في شأنه تعالى
(1)
قيل للاستعلام ولا وجه له لأنَّه غير محتمل فتأمل. منه.
(2)
في هامش (ف): "فيه رد على القاضي في قوله: على الرسل، حين يقولون: {لَا عِلْمَ لَنَا}، ولا يذهب علينا أنه لا يناسب السؤال بـ: {مَاذَا أَجَبْتُمُ}، سواء كان للاستخبار أو لغيره. منه".
(3)
"هي" من (ك).
(4)
في (ف): "إذ لم أكن" وسقطت منها "أي"، وفي (ك) و (م):"إذا لم أكن"، وفي هامش (م):"لعلها: نكن". والصواب المثبت.
من الكمال، لا أمرٌ من
(1)
جانبهم، وعدم الغيبة عنهم
(2)
مجازٌ متفرِّع على الكناية عن الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم
(3)
، وفيه دفعُ ما عسى أن يخطرَ بالبال من أنَّ وزن الأعمال لخفاءِ الحال
(4)
، فله تعلُّق تام لجانبي الكلام، مُورِثٌ لكمال الحسن في النظام، وتمامِ الالتئام.
* * *
(8) - {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
{وَالْوَزْنُ} مبتدأ {يَوْمَئِذٍ} ظرفُه {الْحَقُّ} خبرُه؛ أي: والوزن يومَ يسأل الله الأممَ ورسلَهم هو الحقُّ الثابت الواجب الوقوع، أو {الْحَقُّ} صفته والخبر {يَوْمَئِذٍ}؛ أي: الوزنُ العدل كائنٌ يومئذ، والأول أولى؛ لأن المقام مقامُ الإخبار عن الوزن الواقع يومئذ بأنَّه الحق لا غيرُه، لا عن اليوم المذكور بأن الوزن الحقَّ فيه لا في غيرَه.
قيل: توزن صحف الأعمال بميزانٍ له لسانٌ وكفَّتان ينظر إليه الخلائق؛ إظهاراً للمَعدَلة وقطعاً للمعذِرة، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وتشهد بها جوارحُهم، وبه أخذ الجمهور، ويصدِّقه ما ورد في الخبر عن خير البشر: أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فيُنشرُ عليه تسعةٌ وتسعون سجلًّا
(5)
كلُّ سجلٍّ مدَّ البصر، فيُخرَجُ
(1)
في (م) و (ك): "عن".
(2)
في (م): "بينهم عنهم"، والصواب المثبت، ولعل الثانية ذكرت تصحيحاً للأولى.
(3)
في هامش (ف): "من غفل عن هذا قال: فيخفى علينا شيء من أحوالهم. منه".
(4)
في هامش (ف): "فيه رد لصاحب الكشاف. منه".
(5)
في هامش (ف): "فيه رد على القاضي في قوله: على الرسل، حين يقولون: لا علم لنا، ولا يذهب علينا أنه لا يناسب السؤال بـ: ماذا أجبتم، سواء كان للاستخبار أو لغير. منه".
له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلَّات في كفَّةٍ والبطاقة في كفَّةٍ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة
(1)
.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، أي: رجَحت موزوناته وهي الأعمال التي لها وزنٌ واعتبار وقَدْرٌ؛ أي: الحسنات، أو ما يوزن به أعماله، على أن الموازين جمعُ موزون أو جمع ميزان.
وتوحيدُ الضمير باعتبار لفظِ (مَن) لأن معناه جمعٌ؛ لقوله
(2)
:
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : الفائزون بالنجاة والثواب.
* * *
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} عن الحسنات
(3)
، وحُقَّ لميزانٍ تُوضع فيه الحسنات أن يَثقل، وحقَّ لميزان توضع فيه السيئات أن يَخفَّ، وهذا على ثاني معنيي
(4)
الموازين.
{فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بتضييع الفطرة السليمة التي فُطروا عليها.
{بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} ؛ أي: يُكذِّبون ظلماً.
* * *
(1)
رواه الترمذي (2639) وحسنه، وابن ماجه (4300)، والحاكم في "المستدرك"(9) و (1937) وصححه.
(2)
"لقوله" ليست في (ف).
(3)
في (م) و (ك): "الحسن".
(4)
في (ف) و (م): "معنى".
(10) - {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} : أَقْدَرْناكم على التصرُّف فيها بالسُّكنى والزرع وغيرهما
(1)
.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} : ما تعيشون به: جمعُ معيشة، وهي وُصلةٌ من جهةِ مكسب المطعَم والمشرَب والملبَس إلى ما فيه الحياةُ، وقد يطلق ما يُعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما، والوجهُ تصريح الياء لأصالتها، ومَن همز
(2)
فقد شبَّهها بما فيه الياءُ زائدةً كصحائف.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} نصبُ {قَلِيلًا} بـ {تَشْكُرُونَ} ، و {مَا} مزيدةٌ لتأكيد القِلَّة، والشكر: اعترافٌ بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم.
* * *
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ؛ أي: خلقنا أباكم آدم عليه السلام غيرَ مصوَّر ثم صوَّرناه، والصورة: بِنْيةٌ مقوَّمة على هيئةٍ ظاهرةٍ، نزَّل خلقَه عليه السلام وتصويرَه منزلةَ خلقِ الكلِّ وتصويرِه؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} .
أو: ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأنْ خلقنا آدم عليه السلام ثم صوَّرناه ثم قلنا.
وكان الظاهر أن يقول: ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم، وإنما عدل عنه لأن
(1)
"وغيرهما" ليست في (ف).
(2)
في (م): "همزها".
الأمر بالسجود
(1)
كان قبل خلق آدم عليه السلام، على ما نطق به قوله تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]، والواقع بعد تصويره إنما هو قوله تعالى:{لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] لتعيين وقت السجدة المأمورِ بها قبل هذا، فلا صارف لكلمة
(2)
{ثُمَّ} عن معناها الأصلي، وعلى تقدير الصرف عنه حقُّها أن تُصرف إلى معنى التفاوت في الرتبة، لا على التراخي في الإخبار.
{فَسَجَدُوا} ؛ أي: سارَعوا في الامتثال، وأَتَوا بما أُمِروا به على الاستعجال، ولمَّا كان في بقعة الاحتمال أن يكون الاستثناءُ بقوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ} عن المقيَّد راجعاً إلى قيده لا إلى أصله، احتيج إلى قوله:{لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} دفعاً لذلك الاحتمال، فلا صارف فيه للاستثناء عن الاتصال، بناءً على أنه حينئذ لا حاجة إلى هذا المقال، وكان يكفي أن يقال: لم يسجد، إلا أنه قصد مع الإخبار عن عدم الائتمار، الإشعارَ بأنه على تقدير إظهاره
(3)
السجودَ لا يكون ساجداً حقيقةً لِمَا فيه من إضمار الاستكبار، بل يكون معدوداً من الساجدين فنُفي ذلك الكونُ فافهم هذا الاعتبار.
* * *
{قَالَ} عدَل عن التكلُّم إلى الغيبة إيماءً - بعدم إسناد القول إلى نفسه صريحاً - إلى أن
(4)
هذه المخاطبة مع إبليس لم تكن بالذات، وكأن الجبَّائيَّ تنبَّه
(1)
في (م) و (ك): "بالسجدة".
(2)
في (ف): "لكلية".
(3)
في (ف): "إظهار".
(4)
في (م) و (ك): "إلى نفسه ظاهراً أن".
لهذا الإيماء حيث قال: إن هذه المكالمة كان على لسان بعض الملائكة
(1)
.
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} مَنَع نظيرُ صَرَف، فحُمل عليه في التعدية بـ (إلى)، كأنه قيل: ما صرفك
(2)
عن أنْ تسجد إلى أنْ لا تسجد
(3)
.
ولا يخفَى أن اعتبار الصرف أبلغُ في الكلام وأنسبُ للمقام، ومن هنا تبيَّن أنه لا دلالة في قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] على زيادة (لا) في هذا القول؛ لانتظام معنى الصرف كِلَا القولين.
{إِذْ} معمولة لقوله: {مَنَعَكَ} ؛ أي: ما منعك عن السجود في وقت {أَمَرْتُكَ} بالسجود فيه، فلا دلالة فيه على أن مطلق الأمر للفور، ولا على أنه للوجوب:
أمَّا الأول: فلأن الفور إنما لزم من تعيين وقتِ نفخِ الروح في بدن آدم عليه السلام في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فإن فيه دلالةً على أن المأمور به السجدةُ في الحال، وفي تضاعيف المقال تلويحٌ إلى أنها كانت لتعظيم أمر النفخ وما يَظهر عنده من آثار القدرة الباهرة في الحقيقة وإن كانت في الظاهر لتعظيم آدم عليه السلام.
وأما الثاني: فلأن مبناه على أن تكون صيغة الاستفهام للتوبيخ، وأن يكون التوبيخ
(4)
على عدم الائتمار.
(1)
انظر: "تفسير الرازي"(14/ 210) نقلًا عن بعض العلماء لم يسمه.
(2)
في (ف): "ما منعك".
(3)
في هامش (ف): "هذا أولى مما ذهب إليه صاحب المفتاح من استعارة المنع للاضطرار؛ لأن استعارة أحد الضدين للآخر إنما تكون تملحاً أو تهكماً، وواحد منهما لا يناسب المقام. منه".
(4)
"وأن يكون التوبيخ" ليست في (ف).
وكلٌّ منهما في مَعرِض المنع:
أما الأول: فلأن الظاهر من قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] الاستفسارُ والاستخبار عن سبب المنع.
وأما الثاني
(1)
: فلاحتمالِ
(2)
أن يكون التوبيخ على مخالفته لمن هم أعلى منه، وتركِ متابعته إياهم، كما هو الظاهر من قوله:{أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31]؛ أي: أبى عن متابعتهم في أمر السجود.
وفي قوله: {أَمَرْتُكَ} دلالةٌ على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم عليه السلام بقوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، عبارةً كان ذلك أو دلالةً، والظاهر من قوله تعالى:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} هو الثاني، على ما تقف عليه في موضعه.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لمَّا كان هذا القولُ منه جواباً من حيث المعنى عن
(3)
السؤال على وجه التفصيل عن المانع المذكور في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] مستأنفاً
(4)
فيه باختيار الشق الثاني من الترديد المذكور؛ أي: كنتَ من الذين لم يتناولهم الأمر دلالةً - لعلوِّ شأنهم - كما لم يتناولهم عبارةً، ذكر هنا في معرض الجواب عن السؤال على وجه الإجمال عن المانع، ومَن غَفَل عن هذا قال: إنه جواب من حيث المعنى مستأنَفٌ فيه استبعاداً منه لأنْ يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول
(5)
، فهو الذي قال بالحُسن والقُبح العقليين أولاً.
(1)
"الاستفسار والاستخبار عن سبب المنع وأما الثاني" ليست في (ف).
(2)
في (ف): "لاحتمال".
(3)
في (ف): "على".
(4)
في (م) و (ك): "مستأنف".
(5)
في (م) و (ك): "بسجود المفضول".
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} تعليلٌ لفضله
(1)
عليه، وقد غلط في ذلك حيث رأى الفضل كلَّه باعتبار العنصر، وغَفَل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله:(لِمَا خلقتُ بيديْ) على القراءة بالتوحيد
(2)
؛ أي: بغير واسطةٍ، وباعتبار الصورة كما أشار إليه بقوله:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وباعتبار الغاية كما أشار إليه بقوله
(3)
: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على القراءة بالتشديد؛ أي: بقدرتي المتصرِّفة في عالمَيِ الشهادة والغيب، ولذلك - أي: ولكونه ذا حظٍّ من عالمَي الملك والملكوت - صار أفضل ممن له حظُّه من أحدهما فقط، واستَحقَّ لأنْ يَسجد له الملَك، فاللعين في تعليله كمَن قيل له
(4)
:
حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياء
(5)
وقيل: لعل نسبة خلق الإنسان إلى الطِّين وخلقِه إلى النار باعتبارِ الجزء الغالب.
وَيرِدُ عليه: أن المناسب لهذا الاعتبار أنْ يقال: خلقتَه من تراب، والله أعلم بالصواب.
* * *
(1)
في (ف): "في فضله".
(2)
تنسب للجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 128).
(3)
من قوله: "ونفخت فيه .. إلى .. بقوله": ليست في (م).
(4)
في (ف): "قيل له".
(5)
عجز بيت ذكره البغدادي في "خزانة الأدب"(5/ 368)، وصدره:
قل للَّذي يدعي في العلم فلسفةً
{قَالَ فَاهْبِطْ} تفريعٌ على جوابه الخارج عن حدِّ
(1)
الأدب، بل عن نهج السَّداد، افتخر
(2)
اللعين بما في عنصره من شرف الصعود، فجُوزي بذلِّ الهبوط، وهو نزولٌ من جهة العلوِّ إلى جهة السُّفل، فصح عَودُ الضير في قوله:{مِنْهَا} إلى جهة العلوِّ، ويلزمه النزولُ من السماء والخروجُ من الجنة، فلهذا ذهب إلى كلٍّ منها ذاهبٌ غافلاً عن أنَّ في عود الضمير إلى واحدٍ منهما بخصوصه محذورُ الإضمار قبل الذكر.
{فَمَا يَكُونُ} يصحُّ {لَكَ} تعليل للأمر المذكور {أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأنها مكانُ المطيعين المتواضعين، والتكبُّر في وصف المخلوق لإظهارِ
(3)
الكبرياء تكلُّفٌ بلا مساعدةٍ من الحال، وفي وصف الخالق إظهارُه على وجه الكمال، فلهذا صار ذمًّا في الأول ومدحاً في الثاني.
{فَاخْرُجْ} وفي سورة الحجر: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} [الحجر: 34]؛ أي: من زمرة الملائكة المعزَّزين الساكنين، تفريعٌ على عدم لياقته لأن يكون في جهة العلو.
{إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} من الذليلين لصغر القَدْرِ، تعليلٌ للأمر بالخروج من بين المستحِقِّين للعزَّة
(4)
، قوبل في كلٍّ من مقامَيِ الأمر بضدِّ ما ظهر من المأمور قالاً وحالاً.
* * *
(1)
في (م): "على حد".
(2)
في (ك): "اعتز".
(3)
في (م): "وإظهار"، وسقط من (ك) قوله:"والتكبُّر في وصف المخلوق لإظهارِ الكبرياء تكلُّفٌ".
(4)
في (ف): "للمعزة".
(14) - {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
{قَالَ أَنْظِرْنِي} الإنظار
(1)
: الإمهال إلى مدةٍ فيها النظر طال أم قصُر، وقوله:
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} بيانُ مدة الإنظار الذي طلبه، والضمير في {يُبْعَثُونَ} عائد على المفهوم من تضاعيف المقال، المعلومِ بقرائن الأحوال، وفيه دليل على اعتقاد اللعين بالبعث، وهو في الأصل: الإطلاق في الأمر، ثم استعمل مجازاً في الإخراج عن العدم.
والمراد باليوم المذكور: يومُ النشور، سأل البقاء إلى يوم اللقاء على ما أفصح عنه في قوله:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء: 62].
* * *
(15) - {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} .
{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} ؛ أي: إنك من جملة مَن قدِّر لهم الإنظارُ، فلا حاجة إلى السؤال، وفيه الإشعارُ
(2)
بأن ذلك ليس من قَبيل استجابةِ الدعوة، فافهم لطفَ هذا الاعتبار.
ثم إن فيه الإخبارَ عن حصول ما رامه
(3)
من أصل الإنظار، ابتلاءً للعِبَاد وتعريضاً للعُبَّاد بمخالفته للثواب، لا عن الوصول إلى المقصود من امتداده
(4)
المعهود، وهو الأمانُ من خوف الفوت وألمِ ذوقِ الموت، حيث قال:{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} للهِ
(1)
في (م): "من الإنظار بمعنى".
(2)
في (ف): "إشعار".
(3)
في (ك): "رابه".
(4)
في (ك): "امتداد".
تعالى، وهو وقتٌ قدِّر فيه انتهاءُ أجل المنظَرين، ويومُه يومُ النفخة الأولى، وإنما أبهمه الله تعالى كيلا يخلوَ اللَّعين عن ألم الخوف في كلِّ حين، وفي إقحام اليوم زيادةٌ في الإبهام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
* * *
(16) - {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} .
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} الباء للسببية تعلَّقت بفعل القسم، وقد أُظهر المقسَمُ به في قوله:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، لا بـ (أقعدنَّ)؛ لأن اللام تصدُّ عنه
(1)
، و (ما) مصدرية.
وأصل الغَيِّ: الفساد، تقول
(2)
العرب: غَوِي الفصيل، إذا بَشِمَ، والبَشَمُ: فسادُ اللبن في البطن.
والمعنى: بعد أن أمهلْتَني لأجتهدنَّ في إغوائهم بأيِّ وجهٍ يمكِنني، بسبب إغوائك إياي فيهم، حتى يَفسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم.
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} القعودُ كناية عن الترصُّد، بل مجازٌ متفرِّع عليها؛ لأن المراد من الصراط المستقيم: الدِّينُ القويم، وهو لا يصلح متعلَّقاً للقعود الحقيقي.
{صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} نصبُه على تضمين معنى اللُّزوم؛ أي: لألزَمنَّ صراطك مترصِّداً كما يفعلُه قطاع الطريق للسابلة، وهذا أولى من انتصابه على الظرف، وأمَّا انتصابُه على إسقاط (على) كما قاله
(3)
الزجَّاج، وشبَّهه بقول العرب:
(1)
في هامش (ف): "فيه رد لمن قال: الباء للقسم، ولمن قال: المعنى: أقسم بالله. منه".
(2)
في (م) و (ك): "لقول".
(3)
في (ف): "على إسقاطه كما قال".
ضُرِبَ زيدٌ الظَّهرَ والبطنَ
(1)
، ففيه: أن إسقاط حرف الجر في مثل هذا لا يَنقاس.
* * *
{ثُمَّ} مستعارٌ
(2)
لبُعد ما بين الإجمال المذكور والتفصيل الآتي في ضمن التمثيل.
{لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} مثَّل إتيانه إياهم بقصدِ التسويل والإضلالِ بإتيانِ العدوِّ السابلة بقصدِ القتل ونهبِ الأموال، محيطاً بهم من الجوانب كيلا يفوتَ الاستئصال، ولهذا خَصَّ الجهات الأربعَ بالذِّكر، وإلا فقصدُ التسويل يَتيسَّرُ
(3)
له من جميع الجهات، وإنما قال:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} ولم يقل: قدَّامَهم، قصداً إلى تشبيه إتيانه من تلك الجهة بإتيانِ عدوٍّ لم يتنبَّه له الخصم إلا وهو حاضرٌ بين يديه، فإنه أشدُّ كيداً وأشدُّ نكايةً.
وإنما عدِّي الفعل في الأوَّلَينِ بـ (مِن) لأن فيهما
(4)
معنى طلبِ النهاية، وفي الآخَرَينِ بـ (عن) لأن فيهما معنى الانحراف عن المقصد.
{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} لم يقل: فلا تجد؛ لأنَّه أراد بيان حالهم هذا على مقتضَى جِبِلَّتهم
(5)
لا بسببِ تسويلٍ وإضلالٍ، ولا تعلُّقَ له بقوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
(1)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 324)، و"الكشاف"(2/ 93)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 7).
(2)
في (م) و (ك): "يستعار".
(3)
في (ف) و (ك): "تيسير".
(4)
في (م) و (ك): "فيها".
(5)
في (م): "حيلتهم".
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]؛ لأن مظنونه بقرينةِ تمام ذلك الكلام - وهو قوله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]- ما ذكره بقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، فإن انطباقه عليه لا بمضمون هذا الكلام.
* * *
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} الأمرُ بأصل الخروج من زمرة المقرَّبين
(1)
قد كان، فهو هنا منصرفٌ إلى قيده المذكور بقوله:
{مَذْءُومًا} مِن ذَأَمه: إذا ذمَّه، وقُرئ:(مَذُوماً)
(2)
كمَسُولٍ في مسؤولٍ، أو مَكُولٍ في مكيلٍ مِن ذامه يَذيمه ذَيْماً
(3)
.
وقيل: الذَّأم والذَّيم أشد العيب كاللوم.
{مَدْحُورًا} الدَّحْر: الدَّفعُ والطَّرد على وجه الهوان والإذلال.
{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} اللام فيه لتوطئة القسم، وجوابه:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وهو سادٌّ مسدَّ جواب الشرط.
وقرئ: (لِمَن) بكسر اللام
(4)
؛ أي: لِمَن تَبِعكَ منهم هذا الوعيدُ، وهو قوله:
(1)
في (م): "زمرة المؤمنين المتقربين". وفي (ف): "زمرة المتقين".
(2)
تنسب للزهري والأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 42).
(3)
معنى الكلام أن فيه على هذه القراءة وجهين كما قال الآلوسي، ولفظه: فيه احتمالان: الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع، وكان قياسه على هذا: مذيم كمبيع، إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم: مكول، في مكيل، مع أنه من الكيل. انظر:"روح المعاني"(9/ 55).
(4)
رواية عصمة عن عاصم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 42).
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} ، على أن {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} في محل الابتداء و (لِمَن تبعك) خبرُه، أو على أنه علة لـ {اخْرُجْ} ، ولامُ {لَأَمْلَأَنَّ} جوابُ قسمٍ محذوف على الوجهين.
{مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} ؛ أي: منك وممن تبعك؛ لقوله تعالى في موضع آخر: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] فغلِّب هنا المخاطَب.
* * *
{وَيَاآدَمُ} ؛ أي: وقلنا: يا آدم، على ما ذكر في سورة البقرة، ولا
(1)
مساغ لأن يعطف على قوله: {اخْرُجْ} ؛ لأنَّه في مَعرض الاستئناف في جواب إبليسَ، وهذا ليس من تتمَّته ولا
(2)
من تتمة الامتنان، وفي العطف على ما بعدَ {قُلْنَا} بعدٌ
(3)
.
{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} قد سبق ما يتعلق به من اللطائف.
{فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} وفي سورة البقرة: {وَكُلَا} [البقرة: 35]، اعتُبر ثَمةَ الاستقلالُ في أمر الأكل تعظيماً لشأن تلك النعمة الجليلة، واعتُبر هنا تفرُّعُه على الأمر الأول، وفيه زيادة التفخيم
(4)
لذلك الأمر.
{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} وقرئ: (هذي)
(5)
على الأصل؛ لتصغيره على (ذه)، والهاء بدلٌ من (يا).
(1)
في (م) و (ك): "لا".
(2)
في (ك): "ولأنه".
(3)
في (ف): "بعده"، وجاء في هامشها:"قيل: لأنَّه حينئذ يؤول إلى: قلنا للملائكة، وفيه نظر. منه".
(4)
في (م): "تفخيم".
(5)
تنسب لابن محيصن. انظر: "المحتسب"(1/ 244).
{فَتَكُونَا} : فتَصيرا، يَحتمِلُ الجزمَ بالعطف، والنصبَ بالجواب.
{مِنَ الظَّالِمِينَ} أتى بصيغة الفاعل لأنَّه أبلغ من: الذي ظَلَم، وأطلقه لينتظِم الظلمُ غيرَه من ذريته.
* * *
{فَوَسْوَسَ} ؛ أي: تكلَّم كلاماً خفيًّا مكرَّرًا.
أصل الوسوسة: الصوتُ الخفيُّ، ومنه: وسواسُ الحليِّ، وهو غير متعدٍّ؛ كـ: وَلْوَلتِ المرأةُ، وعَوْعَوتِ الذئبُ، فلا بد من أداة التعدية، ولهذا قيل:
{لَهُمَا الشَّيْطَانُ} ، والفاء للترتيب على ما تقدم من النهي.
{لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} الإبداءُ: الإظهار، والمواراةُ: السَّتر، والسَّوْءةُ: العورة، مجازٌ لأنَّه يَسوءُ صاحبَها ظهورُها، وكانا لا يريانها من أنفسِهما ولا أحدُهما من الآخَر، واللام للتعليل إن كان اللعين عالماً بذلك وإلا فلامُ العاقبة.
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} بيانٌ لوسوسته، والواو للاستئناف.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَا} : إلا كراهةَ أن تكونا {مَلَكَيْنِ} في حصول الكمالات الفطرية، والاستغناءِ عن الأطعمة والأشربة؛ إذ لا احتمال لقلب الحقائق، ولا دلالةَ فيه على فضل الملَك على بني
(1)
آدم.
{أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} من الذين يخلَّدون في الجنة ولا يموتون
(2)
.
(1)
"بني" ليست في (ك).
(2)
في (م): "يموتون به".
(21) - {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أَقسم لهما بالنصيحة، فأخرجه على زِنة
(1)
المفاعَلة للمبالغة؛ لاجتهاده فيه اجتهادَ المبالِغ
(2)
.
وقيل: أقسم لهما، وأقسما عليه بالله إنك لمن الناصحين.
* * *
{فَدَلَّاهُمَا} فنزَّلهما إلى الأكل من الشجرة، وفيه دلالةٌ على أنه أَهبطهما من درجةٍ عاليةٍ إلى منزلةٍ سافلة؛ لِمَا في معنى التَّدليةِ من إرسال الشيء من أعلى إلى أسفلَ.
{بِغُرُورٍ} بما غرَّهما من القسم بالله، وكانا لا يظنَّان أن أحداً يحلف بالله كاذباً، أو: متلبِّسَينِ بغرورٍ؛ أي: مغرورَين، والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغشِّ، وأصل الغَرِّ: طيُّ الثوب، فإن فيه إظهارَ حالٍ وإخفاءَ أخرى، ومنه الغررُ لخفاءِ ما لا يُؤمَن فيه.
{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} بالأكل من ثمرتها، دل هذا على أن المراد من الأكل في قوله تعالى:{فَأَكَلَا مِنْهَا} [طه: 121] بدايتُه كما دل هو على أن المراد من الذوق هنا نهايتُه، فالقرآن يفسِّر بعضه بعضاً.
(1)
في (ك): "وزن".
(2)
في (ك): "المبالغة".
{بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أخذتهما العقوبةُ بشؤم المعصية، وتساقَطَ
(1)
عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما.
{وَطَفِقَا} عطفٌ على مقدَّر؛ أي: فتداركا وأخَذا {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} ؛ أي: على عوراتهما ورقةً فوق ورقةٍ ليَستترا بها؛ كما يُخصف النعل ويُجعل طرفُه فوق طرفه.
والخصَّاف: الذي يَرْقَع النعل، والمِخْصَف: المثقَب الذي يُخصف به النعل
(2)
.
{مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل: كان ورقَ التين.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} إنما قال: {تِلْكُمَا} لأنَّه خاطب اثنين وأشار
(3)
إلى الشجرة.
{وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} توبيخٌ من الله تعالى لهما على الاغترار بقول العدوِّ بعد التحذير، وعتابٌ على مخالفة النهي الإرشادي، ولا دلالة فيه على أن مجرد النهي للتحريم.
* * *
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} بنقصِ حظِّها
(4)
من المنحة، وتعريضاً للمحنة.
{وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} إنما لم يقل: فإنْ لم تغفر؛ لأن الحاجة إلى المغفرة والرحمة
(1)
في (ك): "تساقط".
(2)
من قوله: "والخصاف الذي .. إلى .. النعل": ليس في (م) و (ك).
(3)
في (ف): "ثم أشار".
(4)
في (م): "حظنا".
والكونِ من زمرة الخاسرين عند عدمهما ليس لِمَا تقدم من النقص والتعريضِ، بل ذلك أمر آخر وراء ما ذُكر
(1)
.
{وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هذا على عادة المقرَّبين في استعظام الصغير من السيئات، واستصغارِ العظيم من الحسنات؛ لِمَا عرفتَ أن النهي إرشاديٌّ لا تكليفيٌّ، فلا دلالة فيه على أن الصغيرة من الذنوب معاقبٌ
(2)
عليها إن لم تغفر.
* * *
{قَالَ اهْبِطُوا} خطابٌ لهما ولذرِّيتهما، أو لهما ولإبليسَ، كرَّر الأمرَ له تبعاً ليُعلم أنهم قرناءُ، أو أخبر عما قال لهم مفرَّقاً.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} في موضع الحال.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} : استقرارٌ، أو: موضعُ استقرار {وَمَتَاعٌ} : تمتُّعٌ {إِلَى حِينٍ} انقضاءِ آجالكم.
* * *
(25) - {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} .
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} يُعلمهم أنهم لا يعودون إلى الجنة إلى أن يُحشروا من قبورهم، ثم يصير السعيد إلى الجنة والشقيُّ إلى النار.
* * *
(1)
في هامش (ف): "كيف وموجب هذه الدلالة أن يقال: (فإن لم .. ) إلى آخره، فتدبر. منه".
(2)
في (ف): "معاقب".
{يَابَنِي آدَمَ} أراد نوعَ الإنسان، والتعبير بما
(1)
يشيرُ إلى بدءِ خلقته وابتداءِ ولادته لتذكير خلقه عرياناً، فإنه المناسب لمقام الامتنان بإعطاء أسباب اللباس.
{قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} جَعل ما في الأرض مُنزلاً من السماء لأنَّه قُضي وقدِّر ثمةَ وخُلق
(2)
بتدبيراتٍ سماويةٍ وأسبابٍ نازلةٍ منها؛ كقوله {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25].
{يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} التي قَصد الشيطان إبداءَها؛ أي: يستر ما يَسوؤكم انكشافُه من الجسد، ويُغنيكم عن خَصْف الورق.
{وَرِيشًا} وقرئ: (ورياشاً)
(3)
جمعُ ريش؛ كشِعْبٍ وشِعابٍ، والرِّيش: لباسُ الزينة والجمال، استُعير من ريش الطير لأنَّه لباسه وزينتُه؛ أي: أنزلنا عليكم لباسين؛ لباساً يواري سوآتكم ولباساً يجمِّلكم ويزينكم.
والزينة غرض صحيح في الشرع؛ كما قال: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6].
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} هو الاكتفاءُ بالصوف والخشِن من الثياب، ورفعُه بالابتداء، خبرُه:
(1)
في (م): "والتعيين بما". وسقطت "بما" من (ف).
(2)
في (ك): "وقضي".
(3)
نسبت لعثمان وابن عباس رضي الله عنهم وجمع من التابعين والقراء. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 120)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 43)، و"الكشاف"(2/ 97)، و"البحر"(10/ 51).
{ذَلِكَ خَيْرٌ} وذلك لأن خير الأمور أوساطُها
(1)
، أو خبرُه {خَيْرٌ} ، و {ذَلِكَ} صفته
(2)
، عُدل به عن النصب وفخِّم بالإشارة إليه.
وقُرئ: {ولباسَ التقوى} بالنصب
(3)
عطفاً على {لِبَاسًا} ؛ قيل: هو ما يُتَّقى به في الحروب، ولا يناسبه الترجيحُ والتفخيم، فإن ما ذُكر هو
(4)
وجه الرجحان، إنما يساعد الأولَ.
وقيل: هو لباس الورع. ولا يساعده:
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ؛ أي: تحصيلُ اللباس من موادَّ أرضيةٍ حاصلةً بأسبابٍ سماويةٍ، واتصالُ منافع إحداهما بالأخرى مع بُعد ما بينَهما، دليل على كمال قدرة منشئهما وحكمةِ مدبِّرهما.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفون
(5)
نعمتَه، ويعترفون بقدرته، ويحترزون عن نقمته. أو: يتعظون فيتورَّعون عن القبائح.
روي: أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراةً ويقولون: لا نطوف في ثيابٍ عصينا الله فيها، فنزلت
(6)
.
فعلى هذا تكون قصةُ آدم عليه السلام تَقدِمةً لذلك؛ تنبيهاً على أن انكشاف
(1)
في (ف): "أوسطها"، وسقط من (ك) قوله:"وذلك لأن خير الأمور أوساطها أو خبرُه خيرٌ".
(2)
في (ف): "صفة".
(3)
هي قراءة نافع وابن عامر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 109).
(4)
"هو": ليست في (م) و (ك).
(5)
في (ف): "فيوفون".
(6)
رواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(10/ 120) عن مجاهد.
العورة أولُ سوءٍ أصاب الناس من الشيطان، وأنَّه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم، وأن الفطرة السليمة اقتضت سترَها بخَصْف الورق عليها ليَتَّعِظوا بها.
* * *
{يَابَنِي آدَمَ} لا يخفى على الفَطِن ما في هذا التعبير من الإشارة إلى أنهم مَظِنَّة الافتنان لكونهم ذريةَ مَن افتتن.
{لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} : لا يمنعنَّكم {الشَّيْطَانُ} دخول الجنة بالافتتان؛ أي: بالإغواء.
{كَمَا أَخْرَجَ} ؛ أي: أَفْتَنَ
(1)
{أَبَوَيْكُمْ} بما أدى إلى إخراجهما {مِنَ الْجَنَّةِ} .
والمراد بنهي الشيطان: المبالغةُ في نهيهم عن مظانِّ الافتتان به.
{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} حال من {أَبَوَيْكُمْ} أو من فاعلِ {أَخْرَجَ} ، وإسنادُ النزع إليه مجازيٌّ للتسبُّب، والعدولُ عن صيغة الماضي لاستحضار تلك الصورة الفظيعة.
والنزع: قلع الشيء عن موضعه الذي هو مُلابسٌ له.
{إِنَّهُ} ؛ أي: إن الشيطان {يَرَاكُمْ} تعليل للنهي على سبيل الاستئناف، وتأكيدٌ للتحذير من فتنه بأنَّه بمنزلةِ العدوِّ المُداجي يكيدكم
(2)
من حيث لا تشعرون.
{هُوَ} أظهره ليصح عطفُ قوله: {وَقَبِيلُهُ} ؛ أي: جنوده.
(1)
في (ك): "فتن".
(2)
في (م): "المواجي بكيدكم". وفي "ف": (المداحي لكيدكم).
{مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} ؛ أي: من مكانٍ لا ترونهم فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: صدرُ الإنسان له مسكنٌ، وَيجري منه مجرى الدم.
وإنما لم يقل: ولا تَرونهم، كيلا يذهبَ الوهم إلى عدم تيسير رؤيتهم لنا مطلَقاً.
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بالتناسُب بينهم، والآية مقصودُ القصة
(1)
.
* * *
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} فعلةً متناهيةً في القبح؛ كعبادة الصنم، وكشفِ العورة في الطواف.
{قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} اعتذَروا بتقليد الآباء. ولمَّا رأوا ما فيه من الضعف أيَّدوه بقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} .
قيل: هما جوابَا سؤالين مترتِّبين؛ كأنه قيل لمَّا فعلوها: لِمَ فعلتُم؟ فقالوا: وجدنا عليها آباءنا، فقيل: من أين أَخذ آباؤكم؟ فقالوا: الله أمرنا بها.
وفيه: أن حقَّ النظم حينئذ: والله أمَرهم بها.
{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ؛ لأن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسنِ الأفعال، والحثِّ على مكارم الخصال، اقتصر على ردِّ الثاني لِمَا عرفْتَ أن الأول لا يُعوَّل عليه بدونه.
(1)
في (م): "مقصودة القصة". وانظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 10)، وفيه:(والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية). ويعني: الحكاية السابقة، والفذلكة: مجمل ما فصِّل وخلاصته.
وفي
(1)
الآية دلالةٌ على أن في بعض الأفعال قبحاً
(2)
يُثْبته العقل مع قطع النظر عن السمع، وإن لم يدلَّ على ترتُّب الذمِّ عليه آجلاً قبل النَّهي عنه.
{أَتَقُولُونَ} أتفترون {عَلَى اللَّهِ} إنكارٌ يتضمَّن النهيَ، وإنما قال:
{مَا لَا تَعْلَمُونَ} إظهاراً لِمَا في افترائهم من زيادةِ قبحٍ؛ لتضمُّنه الإخبارَ عمَّا لا علم لهم به.
* * *
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} : بالعدل الذي هو الواسطةُ بين طرفي الإفراط والتفريط في كلِّ شيء.
{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} معطوفٌ على ما ينحلُّ إليه المصدر الذي هو (القسط)؛ أي: بأنْ أَقْسِطوا وأَقِيموا، وكما ينحلُّ المصدر إلى (أنْ) والفعلِ الماضي نحو: عجبتُ من قيام زيد وخَرَج؛ أي: من أنْ قام زيدٌ وخَرَج، كذلك ينحلُّ إلى (أنْ) مع الفعل المضارع نحو:
لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني
(3)
(1)
في (م) و (ك): "في".
(2)
في (ف): "قبيحاً".
(3)
صدر بيت لميسون بنت بحدل كما في "المحتسب"(1/ 326)، و"الحماسة الشجرية"(2/ 574)، ودون نسبة في "الكتاب"(3/ 45)، وعجزه:
أحبُّ إلي من لبس الشُّفوف
أي: لَأَنْ ألْبَسَ عباءةً وتَقَرَّ عيني.
{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : موضعِ سجودٍ؛ أي: لا تسجدوا كما يسجد اليهود على أنصاف الوجوه، وقد مرَّ وجهُ ذلك في تفسير سورة البقرة
(1)
.
{وَادْعُوهُ} : واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ؛ أي: الطاعةَ، مُبْتغِينَ بها وجهَ الله تعالى خالصاً، فإنكم مبعوثون مجزيُّون على أعمالكم، فحذف التعليل وذكر
(2)
ما يدلُّ على البعثة اكتفاءً بالعبارة عن الإشارة.
{كَمَا بَدَأَكُمْ} ؛ أي: كما أبدأكم
(3)
ابتداءً {تَعُودُونَ} بإعادته؛ أي: قِيسوا الإعادةَ بالإبداء، فلا تنكروها لأنها أهونُ منها.
* * *
{فَرِيقًا هَدَى} بأنْ وفَّقهم للإيمان.
{وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} بإبطالهم الاستعدادَ الأصلي والقابليةَ الفِطْريةَ لا
(4)
(1)
في هامش (ف)"قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أنهم إن قبلوا وإلا رضختهم بهذا الجبل، فلما رأوا أن لا مهرب بهم قبلوا ما في التوراة وسجدوا من المهابة على أنصاف وجوههم؛ لأنهم كانوا يلاحظون الجبل، وكذلك يسجد اليهود، وكذلك في "التيسير" في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}. منه".
(2)
في (ك): "وزيد".
(3)
في (ف): "بدأكم".
(4)
"لا" سقطت من (ف).
باقتضاءِ القضاءِ الأزلي كما زعمت
(1)
الجبريةُ؛ لأن القضاء تابعٌ للمقضيِّ
(2)
لا متبوعٌ له، وانتصابُه بفعلٍ مضمَرٍ يفسِّره ما بعده؛ أي: أضلَّ، كقولك: زيداً مررتُ به.
{إِنَّهُمُ} ؛ أي: إنَّ
(3)
الذين حقَّ عليهم الضلالةُ {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فأطاعوهم، تعليل للمفسَّر أو تحقيق للمفسِّر.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ولولا حسبانُهم هذا لكان فيهم تأثيرٌ لإنذار
(4)
النذير، فهو تتميمٌ للتعليل أو التحقيق، وتنبيهٌ على أن الضلال إنما حَقَّ على مَن ضلَّ وزعم أنه اهتدى، ومن هنا ظهر أن المكلَّفين غيرُ محصورين في الفريقين المذكورين، فإن المعاند بمعزلٍ عن الحسبان المزبور
(5)
.
* * *
{يَابَنِي آدَمَ} إنما خاطبهم بهذا
(6)
تذكيراً لسُنَّةِ أبيهم آدمَ عليه السلام في ستر العورة.
(1)
في (ف): "زعمته".
(2)
في (ك): "لمقضي".
(3)
"إن" ليست في (ك).
(4)
في (ف): "لكان فيه تأثير لإنذار"، وفي (ك):"لكان فيهم تأثير للإنذار"، وفي (م):"لكان فيهم تأثير الإنذار". والصواب المثبت.
(5)
في هامش (ف): "فيه رد لمن زعم أن فيه دلالة على أن الكافر المخطئ والمعاند سواءٌ في استحقاق الذم".
(6)
في (ف): "بها".
{خُذُوا زِينَتَكُمْ} ؛ أي: لباسكم الموارِي لعوراتكم، والزينة
(1)
فِعْلةٌ من التزيُّن، وهو اسم ما يُتجمَّل به من ثيابٍ وغيرها، والمأمورُ بأخذه هنا ما يستر العورة.
{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ؛ أي: عند كلِّ قصدةٍ للطواف
(2)
، دلَّ عليه سببُ النزول، فإنهم كانوا يدَعون ثيابهم وراء المسجد عند الطواف. أو: للصلاة؛ فإن ستر العورة فيها واجب.
والسنَّة أن يأخذ الرجل أحسنَ هيئةٍ للصلاة اعتباراً لظاهر عبارةِ الزينة.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ؛ أي: لا تضيِّقوا على أنفسكم فيما وسَّعه الله تعالى من الأكل والشرب.
روي: أنهم كانوا لا
(3)
يصلُّون في ثيابهم، ويقولون: لا نصلي في ثيابٍ أَذْنبنا فيها، ولا يأكلون من الطعام إلا قُوتاً، ولا يأكلون دسِماً في أيام حجِّهم، يعظِّمون بذلك حِجِّتهم
(4)
، فقال المسلمون: يا رسول الله! نحن أحقُّ بذلك أن نفعل، فنزلت الآية
(5)
.
ولمَّا كان حذفُ المفعول في الموضعين مَظِنَّةَ التعميم والتوسيعِ لدائرة الرخصة في الأكل والشرب كماً وكيفاً، تُدُورِكَ دفعُه بقوله:
(1)
بعدها في (ف): "اسم".
(2)
"للطواف": ليست في (م) و (ك).
(3)
"لا" سقطت من (ف).
(4)
في (ك): "حجهم".
(5)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 226) عن الكلبي.
{وَلَا تُسْرِفُوا} ؛ أي: في التغدِّي بالتعدِّي من الحلال إلى المحظور، بل من الطيِّب إلى المحذور
(1)
.
{إِنَّهُ} ؛ أي: إن الله تعالى، والإضمار قبل الذكر للتفخيم.
{لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ؛ أي
(2)
: لا يرتضيهم لإسرافهم، وهذا أبلغ في ذم الإسراف، وصيغةُ الجمع للتعميم لأنواعه، فإنه مذمومٌ في كلِّ أمر حتى في التصدُّق، على ما مر في سورة الأنعام.
* * *
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ} معنى الاستفهام: إنكارُ تحريم هذه الأشياء، وتوبيخُ محرِّمها، والاستفهام إذا تضمَّن الإنكارَ لا جواب له.
{زِينَةَ اللَّهِ} الإضافةُ إليه تعالى تعظيماً لنعمة الزينة؛ للدلالة على عدم التحريم من جهته تعالى.
{الَّتِي أَخْرَجَ} من الحيوان كالحرير والصوف، والنبات كالقطن والكتان، والمعدن كالحديد وسائر الأجساد.
{لِعِبَادِهِ} في عبارة العباد إشارةٌ إلى أن الإخراج المذكور لمصلحة العبادة، فلهذا آثرها على الناس.
(1)
في هامش (ف): "الحلال ما لا خطر فيه والطيب ما لا [
…
] فيه". وما بين معكوفتين كلمة غير واضحة.
(2)
"أي": ليست في (م) و (ك).
{وَالطَّيِّبَاتِ} ؛ أي: المحلَّلات؛ فإن المحرَّم ليس بطيِّبٍ وإن كان مستلذًّا.
{مِنَ الرِّزْقِ} : من المآكل والمشارب، فوصفُ الطِّيب هنا في مقابلة الإضافة إلى الله تعالى قرينةٌ
(1)
في إفادة المعنى المهم في المقام وهو كونُهما غيرَ محرَّمَينِ في الشرع، فلا دلالةَ في الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس والمشارب وأنواع التجمُّلات الإباحةُ
(2)
.
{قُلْ هِيَ} ؛ أي: جملةُ ما ذُكر من الزينة والطيبات.
{لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} غيرَ خالصةٍ لهم؛ لكون الكفار شركاءَهم فيها، وإنما لم يقل: للَّذين آمنوا ولغيرهم؛ تنبيهاً على أنها خُلقت لهم بالأصالة والكفارُ تَبَعٌ لهم فيها
(3)
، وإقحام {الْحَيَاةِ} للإشعار إلى وجه التشريك بإفهامِ أنها للحاجة إليها في الحياة.
{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لا يشاركُهم فيها غيرهم، وانتصابُها على الحال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع
(4)
خبراً لـ {هِيَ} . وقُرئ بالرفع
(5)
على أنها خبرٌ بعد خبرٍ.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} ؛ أي: كتفصيلنا لكم
(6)
هذه الأحكامَ في الحلال والحرام نفصِّل لكم جميع ما بكم حاجةٌ إليه من شرائع الإسلام، وإنما قال:
(1)
في (م) و (ك): "في قرينه".
(2)
في هامش (ف): "ومن الجمال الأجساد السبعة".
(3)
"فيها" ليست في (ف).
(4)
في (ف): "والواقع في".
(5)
هي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 109).
(6)
في (ف): "تفصيلنا لهم".
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} تفضيلاً للعلماء على غيرهم بتخصيص التفصيل لهم، وتغليباً للذكور على الإناث لأصالتهم في أهلية الخطاب بإعلام الأحكام وإفهامِ الحلال والحرام.
* * *
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} ؛ أي: لم يحرِّم الزينة والطيِّبات وإنما حرَّم القبائح التي زاد قبحُها.
والتحريم: المنع من الفعل بإقامةِ الدليل على وجوب تجنُّبه، وضدُّه التحليل وهو: الإطلاق في الفعل ببيان جواز تناوُله.
{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يرون بالزنا سراً بأساً، وكانوا يستقبحونه عَلَانيَةً، فنُهوا عنه جميعاً
(1)
.
وتخصيصُها بالذكر مع انتظامها في سلكِ الآتي ذكرُه للاهتمام.
{وَالْإِثْمَ} أريد به: ما بين العبد وبينه تعالى من الذَّنْب.
{وَالْبَغْيَ} أريد به: ما بينه وبين الغير، وهو التعدي مبتدئاً كان أو منتصِراً، وقوله:{بِغَيْرِ الْحَقِّ} زيادةُ بيانٍ؛ لأن ما كان بحقٍّ لا يكون بغياً.
{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} تهكُّمٌ بهم، إذ معلومٌ أنه لا برهانَ عليه حتى ينزل، فهو من قبيل:
(1)
رواه الطبري (9/ 660).
ولا ترى الضبَّ بها يَنجحِرْ
(1)
وإذا لم يَجزْ إنزال البرهان بالإشراك كان ذكرُ ذلك استهزاءً.
ثم إن في السلطان مزيَّةً على البرهان، من حيث إن البرهان: إظهارُ صحة المعنى وفسادِ نقيضه، والسلطان: إظهارُ ما يُتسلط به على نقيض المعنى بالإبطال، ولا يخفى ما في اعتبار هذه المزية واشتراطِ نزوله دون ظهوره من تعظيم أمر الشرك.
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ} : وأن تفتروا عليه {مَا لَا تَعْلَمُونَ} إنما ذكره إظهاراً لزيادة قبح ما فعلوه، وإلا فالافتراء لا يكون عن عِلم.
* * *
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الأمة: الجماعة التي على مقصدٍ واحد، والأجل: الوقت المضروب لانقضاء المُهَلِ، ففيه إشارةٌ إلى تقارُب أعمار
(2)
أهل العصر الواحد، وأما الوعيدُ فمبناه على أن يكون المراد من الأجل مدةَ نزول العذاب، ولا يساعده أخذُ الكلِّية على ظاهرها.
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ؛ أي: لا يتقدَّمون ولا يتأخَّرون.
(1)
عجز بيت تقدم عند تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، وقوله تعالى:{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]، ومعناه: لا ضب ولا انجحار، وصدره:
لا تفزعُ الأرنبَ أهوالُها
(2)
في (ف): "إعمال".
وإنما قال: {سَاعَةً} ؛ لأنها أقصر الأوقات في العرف، يقول
(1)
المستعجِل لصاحبه: في الساعة؛ أي: أقصرِ وقت.
وإنما قال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} ؛ لأنَّه قبل المجيء يُقبَل التقدُّم والتأخُّر بخلاف ما بعده، على ما أفصح عنه في قوله تعالى:{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4].
والمراد من مجيء الأجل: مجيءُ قربه، على ما دلَّ عليه قوله:{وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ، وهذا كما يقال: جاء الشتاء، وجاء الصيف، إذا قارَب
(2)
وقته.
* * *
{يَابَنِي آدَمَ} إنما
(3)
أُوثر هذا التعبير لِمَا فيه من التذكير
(4)
لأول الرسل منهم.
{إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} هي (إنْ) الشرطيةُ زيدت عليها (ما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك لزمت فعلَها النونُ الثقيلة أو الخفيفة، وجواب الشرط الجملة الشرطية الآتية.
{رُسُلٌ مِنْكُمْ} إنما جاء في إتيان الرسل بحرف الشك تنبيهاً على أنه غير واجب كما زعم أهل التعليم
(5)
.
(1)
في (م) و (ك): "يقول".
(2)
في (ف): "فات".
(3)
في (م) و (ك): "وإنما".
(4)
في (م) و (ك): "التذكر".
(5)
في (ف): "أهل التنطح". والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 12). وقد اختلف شراحه في المقصود بهذا اللفظ، فهم في قول الشهاب: الفلاسفة، قال: =
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} القَصَصُ: وصل الحديث بالحديث
(1)
، وأصله: إتْباع الشيء بالشيء.
{فَمَنِ اتَّقَى} الشرك والمعاصيَ {وَأَصْلَحَ} العمل والإسلام
(2)
{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من الوقوع في العقوبات، وهذا ثمرة
(3)
الاتقاء.
{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بفوات الثواب، وهذا ثمرةُ الإصلاح، وليس فيه إبطالُ مخافات القيامة؛ لأنَّ المراد به العاقبة، فهو كقول الطبيب: لا بأس عليك ولا خوف، وإن كان في وجعٍ وضعف.
* * *
= (قالت الفلاسفة: إنه - أي: إرسال الرسل لهداية البشر - واجب على الله؛ لأنَّه يجب عليه تعالى أن يفعل الأصلح، وهم يسمون أهل التعليم). وقال القونوي: (هم الإسماعيلية، وهم طائفة من الشيعة، فهم ذهبوا إلى أن المعرفة لا تحصل بدون معلم). والذي يفهم من كلام ابن التمجيد أنهم ليسوا جماعة بعينها بل ولا تخالُف بينهم وبين أهل السنة، حيث قال: (قوله - يعني البيضاوي -: كما ظنه أهل التعليم؛ أي: كما ظن وجوبه أهل التعليم، قالوا: إن من فوائد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصناعات الضرورية النافعة المكملة لأمر المعاش
…
إلخ)، ولعل سكوت شيخ زاده عن شرحها من هذا المعنى. وذهب الآلوسي إلى أن المراد بالرد هم المعتزلة لكن دون نعتهم بأهل التعليم، فقال:(وفي الإتيان بـ (إنْ) تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب، وهو الذي ذهب إليه أهل السنة، وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله تعالى؛ لأنَّه سبحانه - بزعمهم - يجب عليه فعل الأصلح). انظر: "حاشية شيخ زاده"(4/ 214)، و"حاشية الشهاب"(4/ 166)، و"حاشية القونوي"(8/ 377)، وبهامشها "حاشية ابن التمجيد"، و"روح المعاني"(9/ 96).
(1)
"بالحديث" ليست في (ف).
(2)
في (ف): "العمل في الإسلام".
(3)
في (ك): "ثمر".
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} أي: تعظَّموا عن قبولها، والمعنى: واستمروا على التكذيب، فإن الاستكبار يلزمه الاستمرارُ على خلافِ مَن اتَّقى وأصلح.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الملازِمون لها لتكذيبهم بآياتنا.
{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لاستمرارهم عليه
(1)
، وإنما أورد في جواب {فَمَنِ اتَّقَى} الفاء
(2)
دون جوابِ {وَالَّذِينَ} ؛ للمبالغة في الوعد والمسامحةِ في الوعيد.
* * *
{فَمَنْ أَظْلَمُ} : أفحشُ ظلماً، والفاء للترتيب على ما فُهم مما تقدم؛ من عِظَم شأن الافتراء حيث قُرن بالشرك بالله، وشأنِ التكذيب حيث أُخبر بأن جزاءه الخلود في النار.
والاستفهامُ للاستعظام، وقد مرَّ بيان طريقته في تفسير (سورة الأنعام).
{مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} الافتراء: اختراع أمر لا أصل له في حق مَن يَشينه، ولهذا
(1)
في (ك): "عليها"، وسقطت من (ف)، والمثبت من (م)، والضمير يعود على التكذيب.
(2)
"الفاء" سقطت من (ك).
يتعدَّى بـ (على) فقوله: {كَذِبًا} تصريحٌ بما عُلم التزاماً؛ إظهاراً لِمَا في الافتراء من مزيدِ قبحٍ حيث جَمع بين القبيحين.
{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} لم يقل: أو كذَّبه؛ لأن مَن كذَّب كلام الله تعالى إنما كذَّبه منكِراً لكونه كلامَه، وإنما قال:{بِآيَاتِهِ} لينتظِم المعجزات الفعليةَ.
{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ} النيل: هو وصول النفع إلى الغير إذا أُطلق، وإنْ قيِّد وقع على الضرر؛ لأن أصله الوصول إلى الشيء.
{نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ؛ أي: مما كُتب لهم من الأرزاق والأعمار؛ أي: هؤلاء مع نهاية
(1)
ظلمهم لا يَحرِمهم في الدنيا، بل يَصل إليهم حظُّهم في الدنيا مما كُتب لهم في الكتاب السابق.
{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ} غايةٌ لنَيلهم نصيبَهم واستيفائه
(2)
، وهي التي تقع بعدها الجملة.
{رُسُلُنَا} ؛ أي: ملك الموت وأعوانه.
{يَتَوَفَّوْنَهُمْ} : يستوفون أرواحهم، حال من الرسل
{قَالُوا} جوابُ {إِذَا} : {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، حقُّ (ما) أنْ تُفصل لأنها موصولةٌ، ولكن وقعت موصولةً في خط المصحف بـ (أين) فاتُّبع سُنَّتُه.
{تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: تعبدونه من الآلهة ترجون شفاعتَهم ومَعُونتهم.
{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} : غابوا عنا فلا نراهم.
{وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ؛ أي: اعترفوا بكفرهم بلفظة الشهادة التي
(1)
في (ف): "زيادة".
(2)
في (م) و (ك): "واستبقائه".
هي تحقيقُ الخبر، ولا يخالف هذا ما تقدم في سورة الأنعام من قولهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؛ لأن إنكارَهم ذلك عند غيبة آلهتهم على ما بيِّن فيما سبق، واعترافَهم هذا عند حضورهم على ما أَفصح عنه قولُه تعالى:{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} [النحل: 86].
* * *
{قَالَ} أي: يقول الله تعالى لهم على ألسنة الملائكة يوم القيامة: {ادْخُلُوا} .
ويجوز أن يكون الأمر
(1)
للتسخير؛ كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا} [البقرة: 36]، فيكون دخولهم في النار بلا قدرةٍ منهم واختيار
(2)
، كما هو الظاهر من قوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك: 8].
{فِي أُمَمٍ} ؛ أي: كائنين في عدادِهم ومصاحِبين
(3)
لهم، فإن كلمة (في) تجيء بمعنى (مع).
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ أي: مضت؛ لأنَّ مَن مضَى بالهلاك فقد انتَفَى عن مكانه فخلا مكانُه عنه، إلا أنه قَلب فنَسب الخلوَّ إليه.
(1)
"الأمر": ليست في (م).
(2)
في (م) و (ك): "قدرة واختيار منهم".
(3)
في (ف): "أو مصاحبين"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(2/ 102)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 12).
{مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قدَّم الجنَّ على الإنس لأصالتهم في الإغواء والإضلال
(1)
؛ لأن المقام مقامُ التحقير.
{فِي النَّارِ} متعلِّق بـ {ادْخُلُوا} ، والدخول في النار وإنْ لم يقتضِ كونَ الفريقين من الكفَّار، لكن الأمر بالمشركين بالكون منهم في معرض العقاب دل على ذلك.
{كُلَّمَا دَخَلَتْ} ؛ أي: في النار {أُمَّةٌ} من تلك الأمم {لَعَنَتْ أُخْتَهَا} : مِثْلَها في الدِّين التي ضلَّت هي بها.
وقيل: بالاقتداء بها. وَيرِدُ عليه: أنه يلزم حينئذ أن تكون سلسلة الأمم الداخلةِ في النار متناهية.
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} وقرئ: (تداركوا)
(2)
؛ أي: تلاحَقوا، وهو الأصل، ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل.
{فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} منزلةً، وهم الأتْباع والسَّفِلة.
{لِأُولَاهُمْ} لأَجْل أولاهم؛ لأن الخطاب مع الله تعالى لا معهم، وهم الرؤساء والقادة.
{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} بأنْ دعونا إلى ذلك وأمرونا به، قال تعالى خبراً عنهم:{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 33] فلا حاجة إلى الصرف عن الظاهر المتبادِر.
{فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} : مضاعفاً؛ لأنهم ضلُّوا
(3)
وأضلُّوا.
(1)
"لأصالتهم في الإغواء والإضلال": ليست في (م) و (ك).
(2)
تنسب لابن مسعود والأعمش. انظر: "المحتسب"(1/ 247)، و"البحر"(10/ 86).
(3)
في (ك): "أضلوا".
{قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} ؛ أي: لكلٍّ منكم ومنهم ضعفٌ: مِثْلٌ زائد على مِثْلٍ؛ لأن كلًّا من الفريقين ضالٌّ ومُضلٌّ، وهذا في حق القادة ظاهرٌ، وأمَّا في حق الأتْباع فلأنهم بالاتِّباع لهم وصدورهم عن رأيهم زادهم في طغيانهم وثباتهم على الضلال، وقوتهم على الإضلال، وقد أَفصح عن هذا المعنى في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، وأما التقليد في الباطن
(1)
فلا يصلح وجهاً له؛ لعدم اختصاصه بالأتباع، فإن القادة أيضاً قد يكونون مقلِّدين
(2)
.
{وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك؛ كيلَا يحصلَ لهم نوعُ سلوةٍ وسرور، فإنه لو علم كلٌّ منهم ما بالأخرى
(3)
بسبب إضلالهم إياهم لكان لهم فيه تسلِّ وخفَّةٌ. وقرئ بالياء على الانفصال
(4)
.
* * *
{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} مرتَّباً كلامُهم على جوابه تعالى لآخريهم.
(1)
في (ك): "الباطل".
(2)
في هامش (ف): "ويرد عليه أنه يلزم في أن يكون سلسلة الأمم الداخلة في النار غير متناهية؛ لأن موجب ما ذكر أن يكون لكل أمة داخلة في النار قادة مضلة لها، وهي أيضاً من الأمم الداخلة فيها، فيلزم أن يكون لها أيضاً قادة فضلاً هكذا إلى ما لا نهاية له".
(3)
في (م) و (ك): "كل منهم بالآخر".
(4)
هي رواية شعبة عن عاصم، والباقون بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 110).
{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} ؛ أي: فقد ثبت أنْ
(1)
لا فضل لكم علينا، بل إنَّا وإياكم متساوون في الضلال والإضلال، واستحقاقِ العذاب بهما.
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} كما نحن نذوقُه بما كنا نكسبه، فليس هذا القول منهم
(2)
تشفِّياً، كيف والمقام لا يحتمل الإخبار عن حالٍ فيها نوعُ سرورٍ لهم؟
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} قد سبق تفسيره.
{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ} ؛ أي: لأدعيَتِهم وأعمالهم أو لأرواحهم كما تفتح للمؤمنين، فهو بمنطوقه وعيد للكفار، وبمفهومه وعد للمؤمنين؛ إذ لولاه لمَا كان
(3)
وعيداً لهم.
والحاجة إلى صيغة الجمع في قوله: {أَبْوَابُ السَّمَاءِ} لمصلحةِ المفهوم؛ إذ لا حاجة إليها في المنطوق.
وقرئ: {تُفَتَّحُ} بالتشديد لكثرة الأبواب، وبالياء لأن تأنيثَها غيرُ حقيقيٍّ والفعلُ مقدَّم
(4)
.
(1)
"أن": ليست في (م).
(2)
"منهم" ليست في (ف).
(3)
في (ف): "لولاه لكان".
(4)
قرأ أبو عَمْرو بالتَّاءِ خَفيفًا، وحمزة والكسائِيّ بالياءِ خَفيفا، والباقُونَ بالتَّاءِ شديداً. انظر:"التيسير"(ص: 110).
وعلى البناء للفاعل ونصب الأبواب: بالتاء على أن الفعل للآيات
(1)
، وبالياء على أنه لله تعالى
(2)
.
{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} الولوج: التقحُّمُ في الشيء، وإنما خُص الجمل من جنس البعير بالذِّكر لأنَّه أكبرُ وأصلب من الناقة.
{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} في ثقبة الإبرة، وهو من باب التعليقِ بالمحال؛ إذ المعنى: لا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مِثْلُ الجمل
(3)
في عظَم الجِرْم فيما هو مَثَلٌ في ضيقِ المسلك، وذلك مما لا يكون أبداً، فكذلك ما علِّق به.
وقرئ: (الجَمْل) كالحَبْل، و:(الجُمَل) كالنُّغَر، و (الجُمْل) كالقُفْل، و:(الجُمُل) كالنُّصُب، و:(الجُمَّل) كالقُمَّل
(4)
، وهي
(5)
: الحبل الغليظ، وقيل: حبل السفينة.
و: (سُمِّ) بالضم والكسر، [وقرأ عبد الله]:(في سمِّ المِخْيَط)
(6)
، وهو والخيَاط: ما يُخاط به؛ كالحِزام والمِحْزَم.
(1)
في النسخ: "للأبواب"، والتصويب من "الكشاف" و "البيضاوي" انظر التعليق الآتي.
(2)
أي: (لا تَفْتَحُ -أو: لا يَفْتَحُ- لهم أبوابَ السماء). انظر: "الكشاف"(2/ 103)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 12).
(3)
"الجمل" ليست في (ف)، ولها وجه بأن يكون الضبط هكذا:"مَثَلٌ".
(4)
انظر هذه القراءات في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 43)، و"المحتسب"(1/ 249)، و "الكشاف"(2/ 103)، وعنه نقل المؤلف.
(5)
في (ك): "وهو"، والصواب المثبت؛ لأن هذا الضمير بعود على كل ما سبق من القراءات؛ أي: على جمع، فيناسبه التأنيث لا التذكير.
(6)
انظر هذه القراءات في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 43)، و "الكشاف"(2/ 103)، والكلام وما بين معكوفتين منه.
{وَكَذَلِكَ} ؛ أي: ومِثْلَ ذلك الجزاء الفظيعِ {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} ؛ أي: الكافرين الموصوفين بالجُرم الكامل، وإنما وضع {الْمُجْرِمِينَ} موضع الضمير تسجيلاً على المكذِّبين بالإجرام، وإيذاناً بأن الإجرام هو السبب الموجِب للحرمان، الموصلُ إلى العقاب المؤبَّد في النيران، ولذلك كرَّر الجزاء وسجَّل عليهم بالظلم تأكيداً.
* * *
(41) - {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} : جمع مَهْدٍ، وهو الوِطاء الذي يُفترش، ومنه: مَهْد الصبيِّ، وتمهيدُ الأمور: تسويتُها وإصلاحها، فهو على طريقة قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، ولهذا - أي: لِمَا
(1)
في لفظ المهاد من التهكُّم - آثره على لفظ الفراش مع ما فيه من صنعة التجنيس؛ اعتباراً لجانب المعنى، وترجيحاً للمزيَّة المعنويَّة على اللفظيَّة.
{وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} : جمع غاشيةٍ، وهي لباسٌ مجلِّل، والتنكيرُ فيها وفي {مِهَادٌ} للتعظيم والتهويل.
ولما كان في المهاد اختصاصٌ لجهة التَّحت، بخلاف الغاشية فإنها خِلْوٌ عن الاختصاص بجهةٍ، وكان المراد التغطيةَ من جهة
(2)
الفوق، فلا جَرَمَ احتيج إلى قوله:(مِن فوقهم) دون: مِن تحتهم، وقد ذُكرا في قوله تعالى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] لقيام الحاجة إلى تعيين الجهة
(1)
في (م): "ولما".
(2)
في (ك) و (م): "جانب".
في الموضعين، قوله:{وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} يرشدك إلى إرادة معنى الجمع من
(1)
المهاد
(2)
.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بالإصرارِ على عدم الإيمان، والاستكبارِ عن الإذعان.
* * *
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} اعتراض بين المبتدأ وخبره للإشارة أولًا إلى أن المذكور في معرض الشرط الأعمالُ التكليفية، وثانياً إلى أنه غير معتبَر في حق غير المكلَّفين والمعذورين.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} على عادته تعالى في أن يَشفع الوعيد بالوعد، و {أُولَئِكَ} إشارة إلى أنَّ استحقاق الخلود في النعيم بسبب اتِّصافهم بالإيمان والأعمال الصالحة مع سهولتهما وتعظيم لشأنهما
(3)
.
* * *
(1)
في (ف): "في".
(2)
في هامش (ف): "يرشدك إلى هذا قول الزمخشري في "الأساس": مهد المهد والمهود والمهاد والمهد، وإن لم يساعده ما في "الكشاف" من تفسيره بالفراش".
(3)
في (م): "شأنهما".
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} النزع: رفع الشيء عن مكانه المتمكِّنِ فيه: إما بتحويله عنه، وإما بإعدامه. والمراد هنا هو الثاني.
والغل: هو الحقد الذي يصل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه: الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة.
والصُّدور: ما يَصدر
(1)
من جهة التدبير والرأي، ومنه قيل للرئيس: الصَّدر.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} زيادةً في حبورهم وسرورهم، والنَّهْر: المجرى الواسع من مجاري الماء، ومنه: النهار؛ لاتساع ضيائه، والجريان: انحدار المائع.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} بالدلالة إلى ما يوصلنا إليه من الإيمان والعمل الصالح.
{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} زيادةُ اللام لتأكيد النفي؛ أي: وما كان
(2)
يصح ويستقيم لنا أن نكون من المهتدين إلى ذلك مع تيسُّره
(3)
لولا هدايةُ الله تعالى وتوفيقُه.
وجواب {لَوْلَا} محذوف دل عليه ما قبله.
(1)
في (م): "والصدر ما يصدق".
(2)
في (م): "وما كنا".
(3)
في (م) و (ك): "سيره"، ولعله محرف عن:(يسره).
وقرئ: {مَا كُنَّا} بغير واوٍ
(1)
على أنها جملةٌ مبيِّنةٌ للأولى، وعلى القراءة المشهورة اعتراضيةٌ للتأكيد
(2)
.
{لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فاهتدَيْنا إلى هذا بإرشادهم، وهو كلام وارد على سبيل الاغتباط والتبجُّح بما نالوا، والسرورِ بما شاهَدوا.
{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} النداءُ الدعاء
(3)
على طريقةِ: يا فلان، كأنه قيل لهم: يا أيها المؤمنون.
و {أَنْ} هي المخفَّفة من الثقيلة، تقديره: بأنه، والضمير ضميرُ الشأن. أو المفسِّرة؛ لأنَّ النداء في معنى القول.
{الْجَنَّةُ} صفة {تِلْكُمُ} ، وهي
(4)
مبتدأٌ خبرُه {أُورِثْتُمُوهَا} .
أو {الْجَنَّةُ} خبرٌ، و {أُورِثْتُمُوهَا}
(5)
حالٌ، والعامل معنى الإشارة في {تِلْكُمُ}؛ أي: مُورَثةً لكم، والإشارة بـ (تلك) لقصد التعظيم.
وإنما سماها ميراثاً لأنها ليست مما يُستحق بالعمل، بل هو مَحْضُ فضل الله ووعدِه على الطاعة؛ كالميراث من الميت لا يكون عوضاً مستحَقًّا عن شيء، بل هو عطيةٌ خالصة، ففيه حفظ
(6)
السامع عن المتبادِر إلى الفهم من الباء السببية في قوله:
(1)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 110).
(2)
في (م): "لتأكيد".
(3)
في (ف): "النداء الذي".
(4)
في (م) و (ك): "ومن"، ولعلها محرفة عن المثبت، والضمير (هي) عائد على:{تِلْكُمُ} .
(5)
في (م) و (ك): "أورثتموها".
(6)
في (ف): "خط"، وهو تحريف.
{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من أن تكون تلك الأعمالُ أسباباً حقيقيَّةً لِمَا يُعطى لهم في الدار
(1)
الآخرة، فإن سببيَّتها له إنما هي بحكم الوعد، وهذه طريقةٌ بليغةٌ سميناها في بعض رسائلنا المعمولة في أسرار البلاغة بـ: التقدُّم بالحفظ، وهي أبلغ من طريقة التدارُك، وقد غفَل عنها القوم.
* * *
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} قد مرَّ أن (نادى) معناه دعاءٌ، غير أن في النداء معنى امتداد الصوت ورفعه، وليس كذلك الدعاءُ؛ لأنَّه قد يكون بعلامةٍ كالإشارة من غير صوت ولا كلام.
والصاحب هو المقارِن على نيَّةِ طول المدة، والصُّحبةُ والمقارَنة نظيران، إلا أن في الصحبة معنى
(2)
الإرادة.
{أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} (أنْ) في المواضع الأربعة محتمِلةُ الوجهين كالتي مرت آنفاً.
و وَجَدْنَا من الوجود، و {حَقًّا} مفعوله الثاني، أو من
(3)
المصادفة و {حَقًّا} حال.
{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ} الوعد عند الإطلاق ينتظِم الخيرَ والشر، بخلاف الوعيد فإنه يختصُ بالثاني.
(1)
"الدار": ليست في (م).
(2)
معنى" من (ف).
(3)
"من" من (ك).
{رَبُّكُمْ حَقًّا} إنما قالوه
(1)
تبجُّحاً بحالهم، وتحسيراً لأصحاب النار، ولذلك ذُكر مفعول (وعد) في الأول وتُرك في الثاني، فإن أهل الجنة يستبشِرون بحصول موعودهم، فذكروا ما وعدهم الله تعالى مضافاً إليهم، وأطلقوه حين سألوا أهل النار ليشمل كلَّ موعود؛ من البعث والحساب والثواب والعقاب، وسائرِ ما في أحوال القيامة من الأهوال؛ تنبيهاً على تكذيبهم
(2)
بأمور كثيرة ليست مخصوصةً بهم ساءهم كلَّها، وتكون إجابتهم بـ {نَعَمْ} تصديقاً بجميع ما وعد الله بوقوعه في الآخرة للصنفين، واعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين؛ ليتحسَّروا على ما فاتهم من نَعْيمهم، إذ نعيم أهل الجنة مما يَحزُنهم ويزيد في عذابهم.
{قَالُوا نَعَمْ} وقرئ: {نَعَمْ} بكسر العين
(3)
فرقاً بين (نَعمْ) التي هي جوابٌ، وبين نَعَمٍ هي التي اسم للإبل والبقر والغنم.
{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أُبهم للتنكير، ونُكر للتعظيم، وهو ملَك ينادي بأمر الله تعالى نداءً يسمعه أهل النار زيادةً في تحسيرهم، فمعنى {بَيْنَهُمْ}: بين القائلين {نَعَمْ} ، ولو كان المعنى: بين الفريقين، لقيل: بينهما كما قيل: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46].
{أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ؛ أي: الكفارِ؛ إطلاقاً لاسم الجنس على الفرد الكامل، بدليل قوله تعالى:{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} وقرئ: {أَنْ لَعْنَةُ} بالتشديد والنصب
(4)
.
وقرئ: (إنَّ) بالكسر
(5)
على إرادة القول، أو إجراء التأذين مجراه.
(1)
في (م) و (ك): "قالوا".
(2)
في (ف): "تنبيههم".
(3)
هي قراءة الكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 110).
(4)
هي قراءة ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 110).
(5)
بكسر الهمزة والتشديد ونصب (لعنةَ). انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 403)، و "البحر"(4/ 99).
(45) - {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} .
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} صفةٌ مقرِّرة لـ {الظَّالِمِينَ} ، أو نصبٌ على الذمِّ، أو رفع عليه. والصَّدُّ: الصَّرفُ عن الخير خاصةً.
{وَيَبْغُونَهَا} ؛ أي: يبغون بها، والضمير للسبيل وهو يذكَّر ويؤنَّث.
{عِوَجًا} العِوَج بالكسر في المعاني
(6)
والأعيان ما لم تكن منتصبةً، وبالفتح في المنتصِبة كالحائط والرمح. أي: يطلبون بها زيغاً وميلاً إلى الباطل.
{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} ؛ أي: كانوا بها جاحدين.
لمَّا كان مناداةُ الفريقين مُنْبئةً عن القرب بينهما، ومَظِنَّةَ أنْ يُتوهَّم وصولُ رَوح الجنة إلى أهل النار وقبحِها إلى أهل الجنة، دفعه بقوله:
{وَبَيْنَهُمَا} ؛ أي: بين
(7)
الفريقين لا بين الدارين؛ لأنَّه قال في مواضع آخر: {بَيْنَهُمَ} .
{حِجَابٌ} الحجاب: هو
(8)
الحاجز المانع عن الإدراك، والمراد هاهنا
(9)
: السور المذكور في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13].
(6)
في (م): "المعنى".
(7)
في (م): "وبين".
(8)
في "ك": (وهو)، وليست في (م).
(9)
في (م) زيادة: "هو".
{وَعَلَى الْأَعْرَافِ} ؛ أي: أعرافِ الحجاب وهو أعاليه، جمع عُرْفٍ، وهو ما ارتفع من الشيء فإنه بارتفاعه وظهوره أعرفُ من غيره، ومنه: عُرْفُ الديك.
{رِجَالٌ} : قومٌ عَلَتْ درجاتهم؛ كالأنبياء عليهم السلام والشهداءِ
(1)
، أو خيارِ المؤمنين، أو ملائكة يُرون في صورة الرجال.
وقيل: جمع قصَّروا في العمل، أو تساوت حسناتُهم وسيئاتُهم، ويأباهما عبارةُ الرجال؛ لأن الأمر المذكور لا يختصُّ بالذكور.
{يَعْرِفُونَ كُلًّا} من أهل الجنة والنار {بِسِيمَاهُمْ} : بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها؛ كبياض الوجه وسواده، فِعْلَى مِن سام إبله: إذا أرسلها في المرعى معلَّمةً، أو عِفْلَى مِن (وَسَم) على القلب؛ كالجاه من الوجه.
وقد دل الباء السببية على أنهم يعرفونهم بالأمارات الظاهرة، فلا وجه لِمَا قيل: وعرفانُهم ذلك يجوز أن يكون بالإلهام من الله تعالى، أو بتعريف الملائكة
(2)
.
{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ؛ أي: إذا نظروا إلى أهل الجنة نادَوهم بالتسليم عليهم، وقد دل على هذا تمامُ الكلام فلا حاجة إلى تقديره.
{لَمْ يَدْخُلُوهَا} استئنافٌ، أو صفةٌ لـ {أَصْحَابَ}
(3)
؛ أي: لم يَدْخلوها بعدُ، وفيه دفعُ
(4)
ما يتبادر إلى الفهم من عبارة {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} ، ودفعُ وهمِ مخالفته لِمَا يأتي من قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} .
(1)
كذا في النسخ، وفي "تفسير البيضاوي" (3/ 14):(أو الشهداء).
(2)
رد على الزمخشري والبيضاوي. انظر: "الكشاف"(2/ 107)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 14).
(3)
في (ف): "للأصحاب". وضعف هذا الوجه من حيث إنه فَصَل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: "ونادَوا" وليست جملةَ اعتراض. انظر: "الدر المصون"(5/ 330).
(4)
في (ف): "رفع".
{وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حالٌ منهم، والطمع: توقُّع المحبوب، ونقيضُه اليأس: وهو القطع بعدم حصوله.
* * *
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ}
(1)
الصرف إمالة الشيء من جهة إلى أخرى.
{تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} أي: حِذاءَهم، وهي جهةُ اللقاء تِفْعالٌ استُعمل ظرفَ مكان، وفيه دلالةٌ على أن نظرهم إلى أهل الجنة نظرُ رغبةٍ وارتضاء، وأما نظرُهم إلى أهل النار فليس كذلك، بل لا ينظرون إليهم لكراهتهم ونفرتهم منهم، ولا يتأتَّى منهم النظر إليهم طوعاً، حتى كأنَّ صارفاً صَرَف نظرهم إليه كرهاً ليَعلموا قَدْرَ ما هم فيه، ولهذا كان الأول مقابَلاً
(2)
بالتسليم والثاني بالاستعاذة.
{قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} استعاذوا بالله تعالى من مصاحبتهم صريحاً، وفي ضمنها الاستعاذةُ من النار، ولا يخفى ما في هذا الاعتبار من تقديم الفِرار من عذاب صُحبة الفجَّار على الفرار من عذاب النار، بناءً على أن الأول روحانيٌّ والثاني جسمانيٌّ، والروحانيُّ أشد إيلاماً.
* * *
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا} من رؤوس الكفرة وأعيان الفجرة.
(1)
في (م): "أبصارهم" جاءت بعد "أخرى".
(2)
في "ك": (متقابلًا).
{يَعْرِفُونَهُمْ} في الدنيا {بِسِيمَاهُمْ} المعهودِ عندهم، فهذه معرفتُهم بأشخاصهم، وما سبق معرفتهم من حيث إنهم من أهل الجنة أو من أهل النار.
{قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ} استئناف لبيانِ ما نودي به.
{جَمْعُكُمْ} : كثرةُ خَدَمكم وأعوانكم، أو: جمعُكم المالَ.
و {مَا} في {مَا أَغْنَى} استفهاميةٌ للتوبيخ والتقريع، ويجوز أن تكون نافيةً، وفي {وَمَا كُنْتُمْ} مصدريةٌ؛ أي: وكونُكم.
{تَسْتَكْبِرُونَ} عن الحق
(1)
، أو: على الخلق، وقرئ:(تستكثرون) بالتاء المثقلة
(2)
.
* * *
{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} من تتمة قولهم للرجال، والإشارة إلى فقراء أهل الجنة، والخطاب لرؤساء الكفرة الذين كانوا يستهينون
(3)
بهم ويحتقرونهم لفقرهم، يُقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة، وقد مرَّ تفسير النَّيل.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} من كلام أهل الأعراف لفقراء أهل الجنة
(4)
، لمَّا أشاروا
(1)
في (ف): "الخلق".
(2)
القراءتان في "المحتسب"(1/ 249)، و "الكشاف"(2/ 107)، و "المحرر الوجيز"(2/ 406)، و "البحر"(10/ 108).
(3)
في (م): "يستخفون".
(4)
من قوله: "لرؤساء الكفرة .. " إلى هنا سقط من "ك".
إليهم بـ (هؤلاء) معيِّرين لرؤساء الكفرة، قالوا لهم إخباراً من الله تعالى ملتفِتينَ إليهم:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} .
وقرئ: (أُدْخِلوا) على البناء للمفعول، وقرئ:(دَخَلوا) على الاستئناف، والتقدير: أُدخلوا - أو: دَخَلوا - مقولاً لهم
(1)
.
{لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} فيما يأتي {وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} على ما فات، وفيه تعريض لأصحاب النار بأنهم يحزنون.
* * *
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} ؛ أي: الكفارُ على ما ستقف عليه.
{أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} إن قلت: كيف النداء وبينهما حجاب؟
قلت: إن في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى أهل النار.
{أَنْ أَفِيضُوا} من الفيض وهو السيلان عن الامتلاء، ولمَا فيه من معنى الإحسان قالوا:
{عَلَيْنَا} ؛ أي: أحسِنوا علينا مما ازداد منكم {مِنَ الْمَاءِ} فلا دلالة فيه على أن الجنة فوق النار.
{أَوْ مِمَّا} من فضلةِ ما {رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من نوعٍ آخَر من جنس المشروب، وإنما خصّهم بالطلب لمَا بهم من غلبة العطش وشدة الحرارة، ولهذا أتوا بأداة التنويع، ولو
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 107).
كان المراد الطعامَ لَمَا عدلوا عن العطف بأداة الجمع إذ لا بد لهم من طلب الماء.
ولمَّا كان في سؤالهم ما دلَّ على أن التماسهم
(1)
من الفضلة وما لا حاجة لهم به، وكان الامتناعُ عن الإجابة في مثله مَظِنَّة البخل، أجابوا بما يندفع به هذا الوهم، ثم إنهم عدَلوا عن الجواب بالمنع الصريح إلى ذكر سببه؛ محافظةً بجانب الكرم مهما أَمكَن، وقطعاً لإطماعهم على وجهٍ أحسن:
{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} لم يقل: عليكم، تضميناً لمعنى التعليل، وتعميماً
(2)
للجواب لغير السائلين من جنسهم.
والتحريم: المنع، وتعديته بـ {عَلَى} كتعديَةِ الشهادة بها؛ كما في قوله تعالى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، ولا خفاء في أن المعنى اللُّغويَّ أبلغُ من التحريم الشرعيِّ، فلا وجه لِمَا قيل: مَنعَهما عنهم مَنع المحرَّم عن المكلَّف.
* * *
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} الاتِّخاذ: أخذُ الشيء بإعداد الأمر من الأمور، ولا يخفى لطف موقعه هاهنا من حيث تضمُّنُه الإشارةَ إلى أن حقَّ الدِّين الجِدُّ والاهتمام بشأنه، دون الهزل واللعب، فكان فيه نعيٌ لهم بتقبيح صَنيعهم.
{لَهْوًا وَلَعِبًا} كتحريم البَحيرة، والتَّصديةِ حول البيت.
وأصل اللهو: الانصراف عن الشيء، والمراد: ما ينصرف إليه مما لا يعني.
(1)
في (ف): "إلقاءهم".
(2)
في (ف): "وتتميما".
واللعب: طلب الفرح
(1)
بما لا يَحسُن أن يُطلب به، واشتقاقه من اللعاب وهو المرور على غير الاستواء
(2)
.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} التغرير: تزيين الباطل للوقوع فيه.
{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} نفعلُ بهم فعل الناسِينَ بتركهم في النار ترك المنسيِّ.
{كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} ؛ أي
(3)
: كما فعلوا به فلم يُخْطروه ببالهم، ولم يستعدُّوا له، ولم يُهمُّوا به، والمراد من اليوم: الواقعةُ، ولهذا أضافه إليهم.
{وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} معطوفٌ على {كَمَا نَسُوا}
(4)
، و (ما) فيهما مصدرية، والكاف في {كَمَا} للتعليل؛ أي: لنسيانهم
(5)
وكونِهم جحدوا بآيات الله.
* * *
(52) - {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} التنكير للتعظيم، وفي التعبير بـ {جِئْنَاهُمْ}
(6)
زيادةُ تعظيم له.
{فَصَّلْنَاهُ} ؛ أي: جعلناه فُصولاً هي أصول الأمور الدينية والدنيوية.
(1)
في (ك): "المرح"، وفي (م) تحتمل:"المزح" وتحتمل: "المفرح"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 15).
(2)
قوله: "واشتقاقه من اللعاب
…
" لم أجد من ذكر هذا المعنى.
(3)
"أي" من (م).
(4)
في (ف): "على ما نسوا".
(5)
في (ك): "كنسيانهم".
(6)
في (م) و (ك): "بجئنا به".
{عَلَى عِلْمٍ} : عالِمِين كيف يجب أن يُفصَّل حتى جاء حكيماً.
وقرئ: (فضَّلناه)
(1)
؛ أي: رجَّحناه على سائر الكتب عالِمين بوجهِ رجحانه، وأنَّه حقيقٌ بذلك.
{هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} حالٌ من الهاء، أو مفعول له؛ أي: لأجْلِ هدى.
* * *
{هَلْ يَنْظُرُونَ} ؛ أي: ما ينتظرون، والانتظار: هو الإقبال على ما يأتي بالتوقُّع له، وإنما قيل لهم: ينتظرون، وإن كانوا جاحدين؛ لأنهم بمنزلة المنتظِر في أن يأتيَهم لا محالةَ إتيانَ المنتظَر.
{إِلَّا تَأْوِيلَهُ} التأويل: ما يَؤول إليه حال الشيء.
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} ؛ أي: يَتبيَّن صدقُه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد.
{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} : تركوه تركَ الناسي.
{قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ؛ أي: قد تبيَّن أنهم جاؤوا بالحق وظهر ما أَخبروا عنه.
{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} اليوم، حُذف النون للنصب بالفاء جواباً للتمنِّي.
{أَوْ نُرَدُّ} : أو هل نرد إلى الدنيا؟ وجوابه: {فَنَعْمَلَ} .
(1)
تنسب لابن محيصن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44).
وقرئ: (أو نردَّ) بالنصب
(1)
عطفاً على (يَشفَعوا)؛ أي: فيَشفَعوا لنا
(2)
أو فنُردَّ، أو حملاً لـ {أَوْ} على معنى: إلى أن؛ أي: فيَشفعوا حتى نُردَّ فنعملَ.
وقرئ بنصب (نُردَّ) ورفعِ (فنَعملُ)
(3)
؛ أي: فنحن نعملُ، فالمعنى على الرفع: تمنِّي الشفاعة أو الرد، وعلى أولِ وجهي النصب تمنِّي الشفيع للشفاعة بدون الرد أو للرد، وعلى ثانيهما تمنِّي الشفيع للشفاعة
(4)
مُفضياً إلى الردِّ وسبباً ووسيلةً إليه.
{غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من الكفر والمعاصي.
{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في الدنيا بإبطال استعدادهم، فلا يجدي الرد على ما أفصح عنه في قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] استئناف لبيان حالهم على وجهٍ يتضمن الحكمة في عدم استجابتهم.
{وَضَلَّ} ؛ أي: وغاب {عَنْهُمْ} في الآخرة {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : ما كانوا يعبدون
(5)
من آلهتهم.
* * *
(1)
تنسب لابن أبي إسحاق. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44)، و "المحتسب"(1/ 251).
(2)
"لنا" ليست في (ف).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "الكشاف"(2/ 109). وعبارة: "وقرئ بنصب ونرد ورفع نعمل" ليست في (م).
(4)
"بدون الرد أو للرد، وعلى ثانيهما تمنِّي الشفيع للشفاعة" سقط من "ك".
(5)
في (م): "يعبدونه".
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي} ؛ أي: ليس ربُّكم وحافظُكم ومدبرِّكُم ما عبدتُموه من الأصنام والكواكب والملائكة والجن والإنس
(1)
، بل كلُّ ذلك مربوبٌ ومخلوقٌ ومحتاجٌ إلى مدبِّر وحافظ، بل ربُّكم وحافظكم الله
(2)
الذي {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وما بينهما على ما بيَّنه في موضعٍ آخر، جعل الخبر موصولاً بناءً على كون ذلك معهوداً عند السامع، ومفروغاً من تحقيق النسبة والعلم به.
{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خلق الله عز وجل التربةَ يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق الظلمة يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابَّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخِرَ الخلق في آخِرِ ساعة من ساعات يوم الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل"
(3)
.
والمراد من اليوم: مقدار دورة العرش من الزمان
(4)
.
(1)
"والإنس": ليست في (م) و (ك).
(2)
في (م): "الله وخالقكم".
(3)
رواه مسلم (2789)، ورواه أيضاً الإمام أحمد في "المسند"(8341)، وانظر في حواشيه كلام العلماء في هذا الحديث، وأن الأصح فيه أنه من كلام كعب الأحبار. وقد نبه الآلوسي إلى إشكال فيه من حيث المعنى فقال في "روح المعاني" (9/ 135):(ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة، فهو إما غير صحيح - وإن رواه مسلم - وإما مؤول).
(4)
ليته ذكر ما هو البرهان الذي استدل به على هذا الكلام.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استوى
(1)
عليه بالتأثير في إيجاد الأشياء بإثباتِ صورها عليه قصداً مستوياً
(2)
من غير أن يَلويَ إلى شيء آخَرَ، فهو شأنه الذي عليه كلَّ يوم.
ولمَّا ذكر الاستواء على العرش وهو إخبارٌ عن نَفاذ أمره وكمالِ ملكه واطِّرادِ تدبيره، بيَّن ذلك في عِيَانٍ فقال:
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} ؛ أي: يغطِّيه به، ولم يَذكر عكسَه لا لأن اللفظ يحتملُهما إذ لا بد من إرادة أحدهما على التعيين، بل للعلم به.
{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} من الحثِّ، وهو الحمل على السرعة، حالٌ من {اللَّيْلَ} تقديره: حاثًّا، أو من {النَّهَارَ} وتقديره: محثوثاً، ويجوز أن ينتصِب نعتاً لمصدرٍ محذوف؛ أي: طلباً حثيثاً؛ أي: حاثاً أو محثاً
(3)
.
والمرادُ من طلبِ الليلِ النهارَ: تَعاقُبُه اللازم، فكأنه طالبٌ له لا يدركه، بل هو في أثره بحيث يكاد يدركه.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} عطف على {السَّمَاوَاتِ} .
{مُسَخَّرَاتٍ} حالٌ منها {بِأَمْرِهِ} متعلِّق بـ {مُسَخَّرَاتٍ} .
وقرئ كلُّها بالرفع على الابتداء والخبر
(4)
.
(1)
في (ك): "استولى".
(2)
"مستويا" ليست في (ف).
(3)
انظر: "البحر"(10/ 120)، وفيه:(حاثا أو محثوثا)، وهو الصواب، وقد وقع في بعض نسخه مثل ما هنا:(أو محثا) كما نبهنا عليه في حاشيته.
(4)
هي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 110).
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ؛ أي: هو الذي أَوجَد الأشياء وصرَّفها بإرادته كيف يشاءُ، جملةٌ اعتراضية مبيِّنة لِمَا ذكر من التوحيد كالمقصود منه، ولذلك صدَّرها بحرف التنبيه، وقدَّم فيها الظرف للتخصيص؛ إيذاناً بأن أهم الأشياء اعتقادُ التوحيد في الخَلق والتدبير.
{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؛ أي: فذلك هو الربُّ للجميع لا ربَّ سواه، فلْيَجِبْ تعظيمه، اعتراضٌ آخر لبيان تعظيمه بالوحدانية في الألوهيَّة والربوبية للكل؛ أي: تعاظَمَ الواحد الموجِدُ للكلِّ المتصرِّف فيه بالربوبية
(1)
.
وتوجيهُه: أن الكفرة كانوا متَّخذينَ أرباباً، فدعاهم إلى التوحيد بالحكمة والحجة، وصدَّر الآية بـ {إِنَّ} لإنكارهم، فقال:{إِنَّ رَبَّكُمُ} المستحِقَّ للربوبية ليس إلا واحدًا وهو {اللَّهُ} الموجِدُ للكل على الترتيب المحكَم المتقَن الدالِّ على العلم والحكمة والقدرة، الذي أنشأ ملكَه على ما يشاهَدُ
(2)
ثم عمَد إلى تدبيره كالملِك المتمكِّن في مملكته لتدبير ملكه، فصرَّف الدهر على ما يُرى
(3)
من تصريف الملَوَينِ، وسخَّر الإجرام السماوية بأمره، ونفَّذ أمره بقضائه وقدره، ثم صرَّح بما هو فذلكةُ التقرير في بيان التوحيد بالجملة الاعتراضية الأولى، وأفصح عن المقصود من التركيب كالنتيجة بالجملة الاعتراضية الثانية، ثم أمرهم بتخصيصه بالعيادة والدعوة متضرِّعين متذلِّلين ذوي خِيفةٍ
(4)
بقوله:
(1)
"بالربوبية" ليست في (ف).
(2)
في (ف) و (م): "نشاهد".
(3)
في (ك): "نرى".
(4)
في (ف): "حقيقة".
(55) - {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} التضرُّع: التذلُّل، وهو التكلُّف في إظهار الذل الذي في النفس.
{وَخُفْيَةً} كيلا يشوبَ الدعاء معنى الرياء، والإخفاء: إغماض الشيء بحيث لا يقع عليه الإدراك، وفي التعبير عن قسيم الدعاء خُفْيةً بما ذكر إشارةٌ إلى أن الدعاء جهراً إنما يصلح مأموراً به إذا كان مقروناً بالاستكانة والتذلُّل.
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} استئنافٌ لتعليل ما قدَّمه عبارةً وإشارةً.
والاعتداء: تجاوُز الحد الذي لا ينبغي تجاوُزُه؛ أي: إن الله تعالى لا يحب المجاوِزين ما أُمروا به في كلِّ شيء من الدعاء وغيره، ففيه تنبيه على أنه لا ينبغي الصياح في الدعاء والإسهابُ فيه، وطلب ما لا يليق
(1)
.
* * *
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالكفر والمعاصي {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} ببعثِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وشرعِ الأحكام.
{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} : خائفين من عقابه طامعين في ثوابه، والخوف هو الانزعاج بما لا يؤمَن من المضارِّ، والطمع: توقُّع المحبوب، وإنما قدَّم الخوف لأنَّه أهم.
(1)
في (ف): "وطلب ما يليق به".
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} استئناف لتعليل ما قدَّمه من القيدين عبارةً وإشارةً:
أمَّا الأول: فظاهر؛ فإن الأخبار التأكيدي عن قرب
(1)
رحمته تعالى مطمع.
وأما الثاني فلأنَّ اشتراط الإحسان - وهو وراء الإيمان والإسلام - مظنةُ الخوف لعامة المؤمنين، وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يغلَّب الخوف على الرجاء طولَ الحياة، فإذا جاء الموت غلِّب الرجاء، ومن هنا اتَّضح وجه آخرُ لتقديم الخوف على الطمع.
وتذكير {قَرِيبٌ} لأن تأويل الرحمة بالرُّحم
(2)
أو التَّرَحُّم، أو لاكتسابها التذكيرَ من المضاف إليه كما ذكروا في قراءة:(ما إنَّ مَفاتحه ليَنوءُ) بالياء التحتانية
(3)
، أو لكونه صفةَ محذوفٍ؛ أي شيءٌ قريبٌ، أو على تشبيهه بفعيلٍ بمعنى مفعولٍ، أو بفعيلٍ الذي هو المصدر كالنقيض، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره، وأما التذكير لكون التأنيث غيرَ حقيقي فوهمٌ؛ لوجوب التأنيث في نحو: الشمس طالعة، و: الموعظة نافعة
(4)
.
* * *
(1)
في (ف): "قريب".
(2)
بضم الراء وسكون الحاء، وبضمهما، بمعنى الرحمة. "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 175).
(3)
تنسب لبديل بن ميسرة، وستأتي في مكانها عند تفسير سورة القصص.
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 111)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 16)، و "روح المعاني"(9/ 153) وما بعدها، وقد ذكر الآلوسي هذه الأوجه وزاد عليها وجوهاً أخرى وتعقبها جميعاً في بحث حسن.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} وقرئ: {الرِّيَاحَ} على الوحدة
(1)
، والأولُ أولى؛ لأن الغالب استعمال الجمع في الرحمة واستعمالُ المفرد في العذاب، ولهذا قال عليه السلام:"اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً"
(2)
.
{نُشُرًا} بضمتين: جمع نَشُور بمعنى: ناشرٍ.
و: {نُشْرًا} تخفيف نُشُرِ؛ كرُسْلٍ ورُسُلٍ.
و: (نَشَراً) بمعنى: منشوراتٍ، فَعَلٌ بمعنى: مفعولٍ.
و: {نَشْرًا} بفتح النون على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى: ناشرات، أو مفعولٌ مطلق فإن النشر والإرسال متقاربان.
و: (بُشُراً) جمع بشير، و:{بُشْرًا} الخفيفة، و:(بَشْراً) بفتح الباء مصدرٌ من بَشَره بمعنى: بشَّره، و:(بُشْرَى)
(3)
.
(1)
هي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 110).
(2)
رواه الشافعي في "مسنده"(502)، وأبو يعلى في "مسنده"(2456)، والطبراني في "الكبير"(11533)، وأبو الشيخ في "العظمة"(4/ 1351)، والبيهقي في "الدعوات"(369)، من طريقين عن ابن عباس كلاهما ضعيف. انظر:"الكاف الشاف"(ص: 129).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 111)، وعنه نقل المؤلف هذه القراءات جميعاً، وهي منها المتواتر ومنها الشاذ. فالمتواتر: عاصم: {بُشْرًا} بالباء مضمومة وإسكان الشين حيثُ وقع، وابن عامر بالنُّون مضمومة وإسكان الشين، وحمزة والكسائيّ بالنُّون مفتوحَة وإسكان الشين، والباقون بالنُون مضمومة وضم الشين. انظر:"التيسير"(ص: 110).
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أمامَ نعمته، وهو
(1)
الغيث الذي هو من أهمِّ النِّعم وأعمِّها
(2)
نفعاً، وقد سبق في أوائل السورة في قوله:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ}
(3)
بيانُ ما في عبارة {بَيْنَ يَدَيْ} من الدلالة على القرب، ولهذا تُؤْثَر على عبارة الأمام والقدَّام
(4)
.
قيل: أن الصَّبا تُثير
(5)
السحاب، والشَّمالَ تجمعُه، والجَنوب تُدِرُّه، والدَّبُور تفرِّقه.
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} : حملت ورفعت، واشتقاقُ الإقلال من القِلَّة؛ لأن الرافع المُطيق يرى ما يرفعُه قليلاً.
{سَحَابًا ثِقَالًا} بالماء، وجمعَه
(6)
لأن السحاب جمع سحابة.
{سُقْنَاهُ} الضمير للسحاب على لفظه، ونُسب السَّوقُ إليه تعالى بنون العظمة الْتفاتاً؛ لِمَا فيه من عظيم
(7)
المنَّة وجليلِ النعمة.
(1)
في (م) و (ك): "وهي".
(2)
في (ف): "وأتمها".
(3)
قوله: "في أوائل السورة في قوله: ثم لآتينهم": ليس في (ك) و (م).
(4)
في هامش (ف): "ولعله عبر فيه باليدين اليمنى واليسرى لدلالته مع ما فيه من الفخامة على أنه تارة يكون رحمة، وتارة عذاباً كما كان على قوم نوح، وإن كانت الرحمة فيه أغلب، وهي ذات اليمين، وتارة بمعنى الرياح جامعة لها لحفظه الماء، وتارة مفرقة مبللة لها، وتارة مقومة للزروع، وتارة مهيئة لها أو مهلكة، وكذا وكذا من المناسبات. منه".
(5)
في (ك): "تنشر"، وفي (م):"ينشر"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 17)، و "روح المعاني"(9/ 163).
(6)
في (ف) و (ك): "جمعه".
(7)
في (ف): "عظم".
{لِبَلَدٍ} ؛ أي: لأجْله
(1)
، ولا يلزم أن يصل له، بل يكفي أن يكون وصولُه لِمَا وَصل له لمصلحته، فينتظِم المسوقَ إلى الجبال والأودية، ومن هنا ظهر وجهُ مزيَّة اللام على (إلى).
{مَيِّتٍ} استُعير الموت لجَدْبه وعدمِ نباته؛ لأنَّه
(2)
من حيث عدمُ الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه.
{فَأَنْزَلْنَا بِهِ} ؛ أي: بالبلد، أو: بالسَّوق، أو: بالسحاب والباء للسببية، وعلى الأول يحتمِل الظرفية والإلصاق.
{الْمَاءَ} المعهودَ، وهو ما ثقل به السحاب.
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ؛ أي: بالماء لأنَّه أقرب لفظًا ومعنًى، لا إلى البلد على أن الباء للظرفية؛ لقوله:{مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فإن جميع أنواعها لا يخرج في البلد، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] صريح في المعنى الأول، والقرآن يفسِّر بعضه بعضاً.
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مِثلَ ذلك الإخراجِ - وهو إخراج الثمرات - {نُخْرِجُ الْمَوْتَى} من الأجداث، قال الكلبي: وذلك
(3)
إذا مات الناس كلهم أَمطرت
(4)
السماء أربعين يومًا كمنيِّ الرجال، فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أمهاتهم، ثم يُخرجون في النفخة الآخرة، وبينهما أربعون سنة.
(1)
في هامش (ف): "قوله: لأجل بلد ميت، ليس فيه حياً - مقصور - وهو الخصب، الجوهري: أحيا القوم، صاروا في الحيا وهو الخصب، وأحييت الأرض: وجدتها خصبة".
(2)
"لأنَّه" ليست في (ت).
(3)
"وذلك" ليست في (ف).
(4)
في (ف) و (ك): "مطرت".
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أنَّ مَن قدر على هذا قدر على ذلك.
* * *
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} : الأرض الكريمةُ التربةِ، وتخصيص البلد بالذكر لأنَّه أصلحُ مَنْبِتاً على ما نُبِّه عليه في الخبر المأثور، وهو قوله: الرجال من القرى
(1)
، ولهذا سقط
(2)
في مقابِلهِ.
{يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} : بتيسيره، عبَّر به عن كثرة النبات وحُسنه لأنَّه أوقعه في مقابَلَة:
{وَالَّذِي خَبُثَ} السَّبخةُ التي لا تُنبت ما تَنتفِع به.
{لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} النَّكِد: الذي لا خير فيه، ونصبُه على الحال تقديره: لا يخرج نباته إلا نكداً، فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه - وهو الضمير المجرور - مقامه، فانقلب مرفوعاً مستكنًا لوقوعه موقع الفاعل، أو تقديره: ونباتُ الذي خبُث.
وقرئ: (يُخْرِجُ) من أَخْرَجَ
(3)
، فيكون {نَكِدًا} مفعولاً.
وقرئ: {نَكِدًا} بفتح الكاف على المصدر
(4)
؛ أي: ذا نَكَدٍ، و:(نَكْداً) بإسكانها للتخفيف
(5)
.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
في (م) و (ك): "أسقطه".
(3)
أوردها صاحب "النشر"(2/ 270) رواية عن أبي جعفر، وهي خلاف المشهور عنه.
(4)
هي قراءة أبي جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 270).
(5)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44).
{كَذَلِكَ} مِثْلَ ذلك التصريفِ والترديدِ {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نردِّدها ونكررها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمةَ الله ويتفكَّرون فيها ويعتبرون بها.
والآية مَثَلٌ لمَن تَدبَّر الآيات وانتَفع بها، ولمَن لم يَرفع إليها رأساً ولم يتأثَّر بها.
* * *
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} جوابُ قسم محذوف
(1)
، ولا يكاد تقع هذه اللام إلا مع (قد)؛ لأن الجملة القسمية مَظِنَّةُ التردُّد، ونوح عليه السلام أولُ مَن شُرعت له الشرائع، وسُنَّت له السُّنَن، وليس بينه وبين إدريس عليه السلام نبيٌّ، وإنما قال:
{إِلَى قَوْمِهِ} لأن بعثته كانت مخصوصةً لقومه كبعثةِ سائر الأنبياء عليهم السلام، غيرَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم فإن بعثته عامةٌ خاصةٌ، ولا ينافي هذا قولَ نوح عليه السلام:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] لأن مَن لم تعمَّ له دعوته لا يدخل تحت هذا الدعاء.
{فَقَالَ يَاقَوْمِ} أتى هنا بالفاء الدالَّةِ على التعقيب بدون الإمهال دلالةً على الاستعجال في الامتثال:
(1)
في هامش (ف): "وفي تفسير القاضي عضد الدين وجه الربط: قال ابن عباس: معنى {أَرْسَلْنَا}: بعثنا، وقال الآخرون: معناه: حمَّلناه رسالة يؤديها، فعلى هذا البعثُ كالتابع، وهذا البحث ينبني على خلاف في الأصول؛ أي: من شرط الرسول أن يعرِّفهم على لسانه من الأحكام ما لا سبيل لهم إليها بعقولهم، أو الحكمة مجرد تأكيد ما في العقول، وهذا البحث لا يليق إلا بمذهب المعتزلة؛ لأنهم القائلون بالحُسن والقبح العقليين. انتهى".
{اعْبُدُوا اللَّهَ} ؛ أي: وحِّدوه وأَفرِدوه بالعبادة لتفرُّده بالألوهية.
{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بيانٌ لوجه اختصاصه بالعبادة، وقرئ:{غَيْرُهُ} بالجرِّ على اللفظ
(1)
، والرفع على المحلِّ؛ كأنه قال: ما لكم إلهٌ غيرُه، وبالنصب على الاستثناء
(2)
؛ أي: ما لكم من إلهٍ إلا إيَّاه.
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} وعيدٌ، وبيانٌ للداعي إلى عبادته تعالى، وموقعُها الاعتراض.
{عَذَابَ} العذاب: هو الألم الجاري على الاستمرار.
{يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة، أو يومُ نزول العذاب وهو الطُّوفان.
* * *
(60) - {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
{قَالَ الْمَلَأُ} الملأ: الجماعة الشريفة؛ لأنهم يملؤون النفس والعين بجلالهم وجمالهم، على أنه مأخوذ من المَلْء، ويحتمل أن يكون مأخوذاً مِن: تمالأ القوم على أمر؛ أي: توافَقوا، ومنه قول علي رضي الله عنه: ما قاتلتُ عثمان ولا مالَأْتُ في دمه
(3)
.
والملأُ صفةٌ غالبة، وجمعُه: أملاءٌ، وليس من باب رَهْطٍ وإن كانا اسمين للجمع؛ لأن رهطاً لا واحدَ له من لفظه، وملأٌ يوجد من لفظه: مالئ، قال أحمد بن يحيى: المالئ: الرجل الجليل الذي يملأ العين، فهو كعازبٍ وخادم، فإن اسم جمعهما عَزَبٌ وخَدَمٌ
(4)
.
(1)
هي قراءة الكسائي، وباقي السبة بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 110).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 415). ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37679).
(4)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 415).
{مِنْ قَوْمِهِ} القوم: الجمع الذي
(1)
يقوم بالأمر لا نسوةَ فيهم، وفائدةُ التقييد بالوصفين: تجريد المسنَد إليه عن ناقصات العقول كيلا يُتوهَّم أن هذا القول صدر عن بعض ضعفائهم في العقل والرأي، فأُسند
(2)
إلى الكل إسنادَ فعلِ واحد إلى الجماعة.
{إِنَّا لَنَرَاكَ} استعاروا
(3)
الرؤية للعلم بلا شبهةٍ، تمهيداً لِمَا ادَّعوا من الظهور في المعلوم.
{فِي ضَلَالٍ} : منغمِساً فيه، والضَّلال: الذهاب عن صَوْب الصَّواب، والتنكيرُ للتعظيم.
{مُبِينٍ} : بالغ فيه كيفاً بعدما بالغ كمًّا.
* * *
(61) - {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{قَالَ يَاقَوْمِ} إضافة إلى نفسه تمهيداً لِمَا يأتي من دعوى الإخلاص والإمحاص.
{لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} قدَّم الجارَّ والمجرور للتعريض لهم به، وزيدت التاء للتقليل؛ أي: ليس بي أقلُّ قليلٍ من الضلالة فضلاً عن الضلال العظيم الظاهر.
وما يَتخايل من أن نفي الماهية أبلغُ؛ لأن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون
(1)
في (ك) و (م): "الذين".
(2)
في (ف): "وأسند".
(3)
في (ف): "استعار".
بانتفاء الوحدة - مضمحِلٌّ بأن الوحدة ليست صفةً مقيِّدةً، بل اللفظ موضوعٌ للجزاء الأقلِّ المتحقِّق
(1)
مع الكثرة.
{وَلَكِنِّي رَسُولٌ} استدراكٌ بطريق الكناية؛ كأنه قال: ولكني على هدًى كاملٍ في الغاية لأني رسول.
قابَلَ تصريحهم بالتعريض الذي هو أوقعُ في البلاغة، وبالكناية التي هي أقوى في النِّكاية
(2)
، وأداةَ ظرفه بأداة الملابَسة لأنها أوسع دائرة، ففي النفي تكون أقطعَ لدابر احتمالِ الضلال، وأداةَ تعظيمه في التضليل بأداة التحقير والتقليل، ولا يخفى ما في هذه المقابلة على وجه المقالبة من المبالغة في المغالبة.
{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : فيه إشارةٌ إلى أن رسالته لمصلحةِ تربيتهم، ففيه إظهارٌ لمكابَرتهم وفَرْطِ عنادهم، حيث وَصفوا مَن هو بهذه المنزلة من الهدى الباهرِ بالضلال المبينِ الظاهر.
* * *
(62) - {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
{أُبَلِّغُكُمْ} استئناف
(3)
لبيان كونه رسولًا. والإبلاغ: إيصال ما فيه بيانُ الإفهام، ومنه: البلاغة، وهي إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورةٍ من اللفظ.
{رِسَالَاتِ} الرسالة: جملةٌ من البيان يحملها القائم بها ليؤدِّيَها إلى غيره
(4)
،
(1)
في (ف): "موضوع للخبر الأقل المستحق".
(2)
في (ف): "التي هي أبلغ في الكناية".
(3)
"استئناف" ليست في (ك).
(4)
في (م) و (ك): "غيرها".
وإنما جمعها باعتبار تعدُّدها بحسب الأوقات، أو باعتبار تنوُّعها بحسب المعاني.
وفي قوله: {رَبِّي} بعد قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارةٌ إلى أن في الرسالة تربيتين: عامةً وهي للمرسَل إليهم، وخاصةً وهي للمرسَل.
{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} النصيحة: الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهيُ عما فيه الفساد، ومنه قوله عليه السلام:"الدِّين النَّصيحة"
(1)
والنُّصحُ كذلك، وخلافُه الغشُّ.
وفي زيادة اللام تأكيدٌ في إمحاض النصح لهم، ومبالغةٌ في أنها خالصةٌ للمنصوح له مقصودٌ بها جانبه لا غير، فرُبَّ نصيحة ينتفِع بها الناصح أيضًا
(2)
.
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وعيدٌ، وتقريرٌ لِمَا في قوله:
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ أي: أعلم من قدرته وشدة بطشه، أو من جهته بالوحي شيئًا لا يتيسر لكم علمُه.
* * *
{أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوفٍ تقديره: أكذَّبتُم وعجِبْتُم، والعجب تغيُّر النفس بما خفيَ سببُه، وخرج عن العادة مثلُه.
{أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ} موعظة {مِنْ رَبِّكُمْ} كلُّ ما يأتي من الله تعالى فله حكمُ النزول، فكأن {جَاءَكُمْ} معناه: نزل، فحسُن معه أن يقال:{عَلَى رَجُلٍ} ولا حاجةَ إلى تقدير: لسان.
(1)
رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
(2)
"أيضًا" ليست في (ك).
{مِنْكُمْ} : من جنسكم، فإنهم كانوا يتعجَّبون من إرسال
(1)
البشر، ويقولون:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]؛ أي: بإرسال
(2)
البشر.
وإنما لم يقل: على بشر، بل آثر الإطناب على الوجه المذكور؛ لأن المناسب لإنكار تعجُّبهم أن يبيَّن مجيءُ الرسالة على مقتضَى الحكمة، وهو أن يكون الرسول من جنسهم، ولا يكونَ أنثى ولا صغيراً.
{لِيُنْذِرَكُمْ} : ليحذركم عاقبةَ الكفر والمعاصي
(3)
، اكتفى بأحد القرينينِ عن الآخر
(4)
، وإنما خصَّ الإنذار بالذكر دون الإبشار لأنَّه أعمُّ وأهمُّ.
{وَلِتَتَّقُوا} : وليوجَدَ منكم التقوى؛ ولم يُعتبر بسببية
(5)
الإنذار له، وإلا لقيل: فتَتَّقوا.
{وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لتقواكم، والعطف بالواو دون الفاء للتنبيه على أن الترحُّم من الله تعالى تفضُّلٌ لا يوجبه التقوى، فهو في بقعة الإمكان، وكلمة الترجي لترجيح جانب الوقوع، حتى تزداد الرغبة في تحصيل التقوى، ولا تعتمدَ عليه كلَّ الاعتماد.
* * *
(1)
في (ف): "إرسال الرسل".
(2)
في (م): "إرسال".
(3)
في هامش (ف): "والإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والتحذير هو الزجر عن موضع المخافة، والغرض من الإنذار إنما هو التحذير، فيجوز أن يستعار له. منه".
(4)
في (ف): "القرينتين عن الأخرى".
(5)
في (ك): "سببية".
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ} الفاء فصيحةٌ، وقد ذكر ما حذف هنا في موضع آخر
(1)
.
ولك أن تقول: في الوصل بينهما بأداة التعقيب تنزيلٌ للتكذيب منزلة العذاب الذي ترتَّب
(2)
عليه، ولا يخفى ما فيه من التهويل والتعظيم لأمر التكذيب
(3)
.
{وَالَّذِينَ مَعَهُ} من البشر وسائر أنواع الحيوان، وفي العبارة المذكورة إشارةٌ إلى أن نجاتهم بسبب متابعتهم وبركة مصاحبتهم، فقوله:
{فِي الْفُلْكِ} متعلِّق بـ {مَعَهُ} ؛ أي: الذين
(4)
صَحِبوه في الفلك، واشتقاقه من فَلَّكَ ثدي المرأة: إذا استدار، سميت السفينة فُلْكاً لأنها تدور على الماء كيف أُديرت.
{وَأَغْرَقْنَا} الإغراق: الغوص المتلِف
(5)
في الماء.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} كان إغراقُهم بسبب تكذيبهم على ما أشير إليه، وإغراق سائر أنواع الحيوان بشؤم معاصيهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} استئنافٌ على سبيل التعليل، وإنما قال: قوماً على تغليب الذكور على الإناث تنبيهاً على تبعيَّتهِنَّ للرجال في الضلالة الحاصلة بسبب كونهم عُمْيَ القلوب غيرَ مستبصرين، وقرئ:(عامِين)
(6)
، والأول أبلغ لدلالته على الثبات.
(1)
قوله: "فأنجيناه .. إلى .. موضع آخر" جاء في (م) بعد قوله: "لأمر التكذيب".
(2)
في (م): "يترتب".
(3)
من قوله: "ولك أن تقول .. " إلى هنا سقط من "ك".
(4)
في (م): "الذي".
(5)
في (ف): "الإغراق التلف".
(6)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44).
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ} عطفٌ على {نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وهم قومٌ سُموا باسم أبيهم، وهو عاد بن عَوْصِ بن إرَمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلام، ومعنى {أَخَاهُمْ}: نسيبُهم، وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لمقاله، وأعرفُ بحاله، وأرغب في اقتدائه.
{هُودًا} عطفُ بيان لـ {أَخَاهُمْ} .
{قَالَ يَاقَوْمِ} استئنافٌ على تقدير سؤالِ سائلٍ قال: فما قال لهم؟ فقيل: قال: {يَاقَوْمِ} وكذا جوابه هاهنا.
فإن قلتَ: ما وجه اختصاص قولِ نوح عليه السلام بالعطف والربط اللفظيِّ، وقولِ هود عليه السلام بالاستئناف والربطِ المعنوي؟
قلتُ
(1)
: قصة نوح عليه السلام ابتداءُ كلام فليس مَظِنَّةَ سؤالٍ، بخلافِ قصة هود عليه السلام فإنها معطوفة على قصة نوح عليه السلام، فكانت مظنةَ أن يقال: أقال هود مثلَ ما قال نوح عليهما السلام أم لا؟
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قد سبق تفسيره.
{أَفَلَا تَتَّقُونَ} عاقبةَ الشرك، الهمزة للإنكار، والفاءُ لترتيبه على ما تقدَّم من مُوجَب التوحيد، فهي مقدَّمة على الهمزة معنًى وإن أُخرت عنها لفظًا محافَظةً على حق صدارتها.
وكأنهم كانوا واقفين على نزول العذاب على مشركي قوم نوح عليه السلام لقرب عهدهم منهم، فلهذا أَنكر عليهم بهذه الصيغة.
* * *
(1)
في (م) و (ك): "قلنا".
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} التقييد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} للتنبيه على أن في أشراف قومه مَن آمن به
(1)
، كمَرثد بن سعدٍ الذي أسلم وكتم إيمانه، ولا مساغ لهذا التنبيه في قصة نوح عليه السلام، ولهذا لم يُذكر ذلك القيد
(2)
ثمة، وأما ذكره فيها في سورة المؤمنين فلِلذَّمِّ، والمميِّز وإن كان في معرض اللزوم فلا كذلك الإلزام
(3)
.
{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} متمكِّناً في خفةِ عقلٍ راسخاً فيها، حيث خالفت أشراف قومك وأسلافَك، ولما كان هذا تخطئةً له عليه السلام في فعله قالوا:{إِنَّا لَنَرَاكَ} على سبيل
(4)
القطع واليقين، وقوله:
{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} تخطئةً له
(5)
في قوله، ولا علم عندهم بحقيقة الحال، إنما متمسَّكهم فيه التقليدُ بآبائهم قالوا:{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ} .
* * *
(1)
في هامش (ف): "لا للاحتراز عمن آمن منهم لعدم الحاجة إليه، فإنه معلوم لكل أحد أن القول المذكور لا يصدر عمن آمن. منه".
(2)
في (ف): "التقييد".
(3)
في (ف): "إلزام".
(4)
"سبيل" من (م).
(5)
"له": ليست في (م) و (ك).
{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} اكتفَى بنفي السَّفاهة إيماءً إلى أن الإقدام على الكذب في مثل هذا الأمر الخطير لا يخلو عن نوعِ سَفَهٍ فنفيُه رأساً يغني عن نفي الكذب.
وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام أممَهم المكذِّبين عن كلماتهم الحمقَى بما أجابوا به والإعراضِ عن مقابَلتهم كمالُ الشفقة وهضمِ النفس وحُسنِ المجادلة وكرمِ الخُلق؛ ليقتديَ بهم المؤمنون في آداب المناظرة والمعاشرة مع الخَلْق.
وفي قوله: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} تنبيهٌ على أنه مشهورٌ فيما بينهم بالنُّصح والأمانة.
{وَاذْكُرُوا} حذَّرهم من انتقام الله ثم ذكَّرهم بإنعامه.
{إِذْ جَعَلَكُمْ} مفعولٌ به لا ظرفٌ؛ أي: اذكروا ذلك الوقتَ.
{خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} ؛ أي: خلَفْتُموهم في مساكنهم أو في الأرض، أو: جعلكم ملوكاً فإن منهم شدادَ بنَ عاد.
{وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} في القامة
(1)
والقوة والبَدانة، وهو تعميمٌ بعد تخصيص.
(1)
في (م): "في العلم القامة"، ولعلها:(في العلم والقامة).
{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} ؛ أي
(1)
: فاشكروا
(2)
نعم الله تعالى، وفي الكناية بالذكر عن الشكر تنبيه على أن هذه النِّعم بحيث يَستتبع ذكرُها الشكرَ عليها، ففي تذكُّرها
(3)
غنًى عن الحث على الشكر عليها.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : لعل الشكر عليها يفضي إلى الفلاح.
* * *
{قَالُوا أَجِئْتَنَا} كان له عليه السلام مكانٌ يتحنَّث فيه معتزلاً عن قومه كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء، فلمَّا أُوحي إليه جاء قومَه يدعوهم.
وَيحتمِل أن لا يراد حقيقةُ المجيء، ولكنِ التعرُّضُ بذلك والقصدُ؛ كما يقال: ذهب يَشتمني، ولا يراد حقيقةُ الذهاب؛ كأنهم قالوا: قصَدْتَنا.
{لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} وتعرَّضْتَ لنا بتكليف ذلك.
{وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أنكروا واستبعدوا اختصاصَ الله تعالى بالعبادة والإعراضَ عن الآلهة التي اعتكف عليها آباؤهم؛ حبًّا لِمَا نشؤوا
(4)
عليه، وإلفاً لما صادفوا أسلافهم يتديَّنون به.
(1)
"أي" ليست في (ك)، ووقع قبلها في (ف) زيادة:"فإن الذكر هنا كنايةٌ عن الشكر؛ لأن الذكر حقيقةٌ لا يتخلَّف عن المتذكَّر، فلا حاجة للأمر به بعده بل لا وجه له لتفريعه عليه".
(2)
في (م) و (ك) زيادة: "على".
(3)
في (ك): "تذكيرها".
(4)
في (م) و (ك): "شاؤا".
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} استعجالٌ منهم لِمَا خوَّفهم منه من العذاب تكذيباً.
* * *
{قَالَ قَدْ وَقَعَ} : قد حَقَّ ووَجَب {عَلَيْكُمْ} ، أو على جعل المتوقَّع الذي لا بدَّ من وقوعه بمنزلة الواقع.
{مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} عذابٌ، من الارتجاس وهو الاضطراب {وَغَضَبٌ} إرادةُ انتقام.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} ؛ أي: أسماءٍ بلا مسمَّياتٍ؛ لأنكم سمَّيتُموها آلهةً واستحال فيها معنى الألوهية.
{مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} تهكُمٌ بهم؛ لأن المستحيل لا يمكن إثباته بالحجة ولا نزول الوحي به، فجَمع بينهما إظهاراً لفَرْط جهالتهم.
{فَانْتَظِرُوا} ؛ أي: لمَّا تبيَّن الحقُّ وأنتم مُصرُّون على العناد فانتَظِروا العذاب.
{إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} هذا غايةٌ في التهديد والوعيد، ونهايةٌ في الوثوق بما يَحلُّ بهم، وأنَّه كائن لا محالة.
* * *
{فَأَنْجَيْنَاهُ} الفاء فصيحةٌ، وما حذف هنا مذكور
(1)
في موضعٍ آخر. الإنجاء: التخليص من الهلاك، وأصله: من النجوة وهي الارتفاعُ من الأرض.
{وَالَّذِينَ مَعَهُ} ؛ أي: الذين اتَّبعوه {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} عليهم، لا بقوةٍ وتدبيرٍ منهم.
فيه إشارةٌ إلى أن هوداً عليه السلام مع رتبته في النبوَّة ودرجته في الرسالة إنما نجا برحمةٍ من الله ليعلم أن النجاة لا تكون باستحقاق الذات
(2)
، ولا باستيجاب الصواب من العمل، وإنما تكون بفضل
(3)
من الله ورحمةٍ ابتداءً.
{وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قَطْعُ دابرهم: استئصالُهم عن آخرهم؛ لأن الدابر: الذي يَدْبُر القوم ويأتي خلفهم، فإذا انتهى القطع إلى ذلك لم يبق أحد.
وفي قوله: {بِآيَاتِنَا} دلالةٌ على أنه كانت لهود عليه السلام معجزاتٌ، ولكنْ لم تُذكر لنا بخصوصها.
{وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} تعريضٌ بمَن
(4)
آمن منهم كمرثدٍ، وتنبيهٌ على أن الفارق بين مَن نجا ومَن هلك هو الإيمان، وأن النجاة مرتَّبةٌ عليه كما أن الهلاك مسبَّب عن التكذيب؛ كأنه قيل: قطعنا دابر الذين كذَّبوا بآياتنا ولم يكونوا ممن آمَن.
* * *
(1)
في (ف): "ذكر".
(2)
"الذات": ليس في (م).
(3)
في (م) و (ك): "لفضل".
(4)
في (م): "لمن".
{وَإِلَى ثَمُودَ} بمنع الصرف اسمُ القبيلة، وقرئ:(ثمودٍ) بالصَّرف
(1)
بتأويل الحي، أو باعتبار الأصل لأنَّه اسم أبيهم الأكبرِ.
{أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ} قد سبق وجه الاستئناف.
{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} : معجزة ظاهرةُ الدلالة على صحة نبوتي
(2)
حيث جاءتكم {مِنْ رَبِّكُمْ} لتصديقي في دعوى النبوَّة.
{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} استئنافٌ لبيانها، وإضافة الناقة إلى الله تعالى للتعظيم، ولأنها وجدت معجزةً من عنده تعالى من غير أسبابٍ ووسائطَ معهودةٍ فأُضيفت إليه.
{لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال من {نَاقَةُ اللَّهِ} والعامل فيها معنى الإشارة.
و {لَكُمْ} بيان لمَن هي له آيةٌ وهم ثمود، فإن دعوة هود عليه السلام كانت مخصوصةً لهم، فمعجزتُه كانت لأجلهم، ومَن وهَم أنها كانت معجزةً لهم خاصةً لأنهم عاينوها وسائرُ الناس أُخبروا عنها فقد وَهِم؛ إذ بعد ظهور المعجزة الأخبارُ المتواترة كافيةٌ بغير المشاهدة
(3)
.
(1)
تنسب ليحيى بن وثاب والأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 44)، و"المحرر الوجيز"(2/ 420)، و "البحر"(10/ 163).
(2)
في (م): "نبوتي".
(3)
في هامش (ف): "وتوسطها في إيجاب تلك المعجزة للإيمان لا يوجب اختصاص إعجازها بالحاضرين، وهذا ظاهر وإن خفي على بعض الناظرين في هذا المقام. منه".
وهو حال من {آيَةً} ، أو {نَاقَةُ} بدلٌ من {هَذِهِ} أو عطف بيان، والخبر {لَكُمْ} والعامل ما فيه من معنى الاستقرار.
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} ؛ أي: الناقةُ ناقةُ الله، والأرضُ أرض الله، فذروها تأكل فيها من العشب، فليست الأرض أرضَكم، ولا ما فيها من النبات نباتكم.
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} قد سبق أن في المسِّ أمراً زائداً على معنى الإصابة، وهو تأثير الحاسة به، وأن سوء العذاب أفظعُه
(1)
، فلا وجه لِمَا قيل: نهى عن المسِّ الذي هو مقدمةُ الإصابة
(2)
بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغةً في الأمر وإزاحةً للعذر.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب للنهي.
* * *
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} لم يقل: من عاد؛ لِمَا بينهما خلائف هو خلائف
(3)
عاد بالذات.
(1)
في (م): "سوء العذاب لاحق"، وسقطت العبارة من (ك)، والمثبت من (ف).
(2)
من قوله: "وهو تأثير الحاسة .. ". إلى هنا ساقط من (ك).
(3)
في (ف): "خلائق هم خلائق"، وفي (م):"خلائق هو خلائق"، والمثبت من (ك). ومعنى الكلام كما جاء في "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 184)، و "روح المعاني" (9/ 203):(لم يقل: خلفاء عاد، مع أنه أخصر، إشارةً إلى أنَّ بينهما زمانًا طويلاً).
{وَبَوَّأَكُمْ} : نزَّلكم المباءةَ، [والمباءة]: المنزلُ
(1)
{فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: أرضِ الحِجر.
{تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا} السهل: ما ليس فيه مشقَّةٌ على النفس من عملٍ أو أرض.
{قُصُورًا} القصر: هو الدار الكبيرة بسورٍ تكون به مقصورةً، قيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.
{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} ؛ أي: من الجبال، فحُذف الجارُّ وأُوصل الفعل إليه، دل على ذلك قولُه في سورة الحجر:{يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ} [الحجر: 82]
(2)
.
والنَّحت: النَّجْر والنَّشْر في الشيء الصلب كالحجر والشجر.
{فَاذْكُرُواْ} ما مرَّ من الذكر اللساني، وهذا من الذكر القلبي.
{آلَاءَ اللَّهِ} : أنواع نعمه؛ من التمكين في الأرض، والتسخير حتى تبوَّءوا القصور وشيَّدوا المنازل والدورَ، مع طول الآمال، وتبليغِ الآجال.
والمراد: الأمر بالشكر على تلك النعمة بطريق الكناية، وفيها إيماء إلى أنها من النعم الجسام التي لا مانع عن القيام بشكرها إلا الغفلةُ عنها.
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قد سبق تفسيره في سورة البقرة.
* * *
(1)
في (ك) و (م): "المنزلة"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "البحر المحيط"(10/ 167)، وما بين معكوفتين منه.
(2)
في هامش (ف): "لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فلا وجه لما قيل: انتصاب بيوتاً على الحال المقدرة، أو تنحتون بمعنى تتخذون. منه".
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي: عن متابعةِ صالح عليه السلام؛ لأن الاستكبار طلبُ الكِبر فوق القَدْر حتى يؤدِّي صاحبه إلى إنكار ما دُعي
(1)
إليه من الحق أنفةً من اتِّباع الداعي إلى الحق
(2)
.
{مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} الاستضعاف: طلبُ الضعف بالأحوال التي يَقعد
(3)
صاحبُها عما يمكنُ غيره من القيام بالأمر، وبناء المجهول لأنهم غيرُ مقصورين على مَن استَضعَفهم تلك الملأ
(4)
واستذلَّهم.
{لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من (الذين استُضعفوا) بتكرير العامل بدلَ البعض من الكلِّ، سواءٌ كان الضمير لـ (الذين) أو لـ {قَوْمِهِ} ؛ لأن من المستضعَفين مَن لم يؤمن، وإنما آثر اختلاف المرجعين من حيث إنه على الأول لا يكون الاستضعاف مقصوراً عليهم بحكم دلالة اللفظ، بخلاف الثاني
(5)
.
{أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} كلام قالوه على سبيل الاستهزاء
(1)
في (ف): "ما دل"، والمثبت من (م)، وسقطت العبارة من (ك).
(2)
من قوله: "لأن الاستكبار .. " إلى هنا سقط من "ك".
(3)
في (ف): "تبعد".
(4)
"الملأ" سقطت من (ف).
(5)
في هامش (ف): "وقد اعترف بهذا من قال به بدل البعض من الكل على تقدير أن يكون الضمير للذين، فلم يبق له محال يمنعه على تقدير أن يكون الضمير لقومه، إذ مبناه على أن يكون منهم من لم يؤمن. منه".
والسخرية؛ كما تقول للمجسِّمة: أتعلمون أن الله تعالى فوق العرش، ولهذا لم يقولوا: نعم، بل أجابوا بما نقل عنهم في قوله:{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} إيذانّاَ بَأن إرساله أظهرُ من أن يشكَّ فيه عاقل
(1)
، أو يَخفى على أحد فيحتاجَ إلى السؤال عنه؛ لغاية وضوحه وإنارة برهانه، إنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.
* * *
(76) - {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} .
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} كان الجواب المطابق: إنا بما أرسل به كافرون، إلا أنهم لمَّا عدلوا عن الظاهر بأنْ جعلوا الإرسال مسلَّماً معلوماً كان جواب الكفرة أيضًا معدولاً به عن الظاهر؛ أي: ليس ما جعلتُموه مسلَّماً معلومًا
(2)
من ذلك القبيل، وأيضاً لم يريدوا أن يتفوهوا
(3)
بإثباتِ الرسالة له
(4)
.
* * *
(1)
"عاقل": ليس في (م).
(2)
في (م) و (ك): "معلومًا مسلماً".
(3)
في (ف): "يتوهم".
(4)
في هامش (ف): "وليس فيه عدول عن الجواب السوي؛ لأنَّه على تقدير أن يكون السؤال استخبارًا. منه".
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} أسند الفعل إلى الجميع
(1)
لأنهم أَمروا صاحبهم فتعاطَى فعَقر، على ما يأتي التفصيل في سورة القمر، ومَن غفل عن هذا زعم أن الإسناد إليهم للملابسة.
والعَقر: الجَرح الذي يأتي على أصل النَّفْس، وهو من عُقر الحوض وهو أصلُه.
{وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} هو
(2)
ما بلَّغه صالح عليه السلام بقوله: {فَذَرُوهَا} ، وعُتوُّ الأمر: مخالفتُه على وجه التهاوُن به والاستكبار عن قبوله.
{وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب، والإبهامُ لقلة الاهتمام ذريعةٌ إلى التحقير في أمثال هذا المقام، والوعد يُذْكر في الخير والشر، ويُعْرف بالقرينة عند الإطلاق.
{إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} استعجالُهم للعذاب
(3)
إظهارٌ للجزم في تكذيبهم.
* * *
(78) - {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : الزَّلزلة المحرِّكة.
{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} ؛ أي: في بلدهم، ولذلك وحِّد.
{جَاثِمِينَ} بارِكينَ على رُكبهم غيرَ قادرين على الحركة؛ لقوله تعالى في سورة الذاريات: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} [الذاريات: 45] ثم صاروا {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31] وهو المذكور في سورة القمر.
(1)
في (ف): "الجمع".
(2)
في (م): "وهو".
(3)
في (ف): "بالعذاب".
{فَتَوَلَّى} صالحٌ عليه السلام {وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، والظاهر أنه كان يتولى عنهم، حين رأى العلامات قبل نزول العذاب تولى ذاهباً عنهم منكراً لإصرارهم.
* * *
{وَلُوطًا} ؛ أي: وأرسلنا لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وقتَ قوله
(1)
لهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} مِن أتى المرأة: إذا غَشِيَها، إنكارٌ وتوبيخ لهم، وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح، واللام في {الْفَاحِشَةَ} للجنس، كأنها الفاحشةُ على الحقيقة وما عداها ليس من جنسها نظراً إلى فُحش التفاوت بينهما
(2)
في ذلك المعنى.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} الباء للتعدية {مِنْ} الأولى زائدةٌ لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض؛ أي: ما عمِلها أحد قبلكم قط، وهو جملة استئنافية مقرِّرة للإنكار، وبَّخهم أولًا بإتيان الفاحشة، ثم باختراعها فإنه أسوء وأفحش؛ لعدم المجال للاعتذار بالتقليد.
(1)
يريد أن {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف لـ (أرسلنا) كما قال الزمخشري وغيره. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول، لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية، ودُفع بأنه يعتبر الظرف ممتدًّا كما يقال: زيد في أرض الروم، فهو ظرف غير حقيقي يُعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه. وجوز أن يكون (لوطاً) منصوبا بـ (اذكر) محذوفاً، فيكون من عطف القصة على القصة، و {إِذْ} بدل من (لوطاً) بدل اشتمال بناءً على أنها لا تلزم الظرفية. انظر:"روح المعاني"(9/ 216).
(2)
في (م): "بينها".
(81) - {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} بيان لقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} والهمزة مثلُها في الإنكار والاستقباح كرِّرت لتأكيد الإنكار تفصيلاً وإجمالاً، وهي مع (إنَّ) أبلغُ في الإنكار.
وقرئ {إِنَّكُمْ}
(1)
على الإخبار المستأنَف.
وفي التقييد بقوله: {شَهْوَةً} - وهي مطالبةُ النفس بفعلِ ما فيه اللذةُ - زيادةُ استهجان، ووصفٌ لهم بالبهيميَّة الصرفة، ولا ذم أعظم منه؛ أي: لا حاملَ لكم عليه إلا مجردُ الشهوة، لا طلبُ النسل وبقاءُ النوع الذي هو مقتضَى العقل، فهو مفعولٌ له، أو مصدرٌ في موقع الحال؛ أي: مشتَهِين تابعين للشهوة.
وقوله: {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} نصبٌ على الحال من {الرِّجَالَ} ؛ أي: منفرِدينَ، والمعنى: تَطَؤون الرجال لمجرَّد
(2)
الشهوة البهيميَّة ولكم عنها بدل! ففيه تذكيرٌ لتجاوُزهم المعتادَ المطبوع المشروع، وإظهارٌ لعدم الضرورة الداعيَة إلى ذلك الفعلِ القبيح، وفي ذكر الرجال دون الذكور المقابلِ للنساء زيادةُ تقبيح لصنيعهم الشنيعِ بإظهارِ أنهم يفعلونه بأمثالهم في الرُّجولية، وذلك لا يخلو عن الإيماء إلى أنهم يفعلونه كُرهاً؛ لأن مقتضى الرُّجولية الامتناعُ عنه.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أنكر عليهم مخالفةَ العقل، ثم أَضربَ عن الإنكار بالإخبار عنهم بحالهم التي هي أمُّ الرذائل، ومُوجِب ارتكاب جميع القبائح؛ أي: فليست هذه غريبةً عن عادتهم حتى تُنكَر عليهم، وهي أنهم قوم عادتُهم
(1)
هي قراءة نافع وحفص. انظر: "التيسير"(ص: 111).
(2)
في (ف): "بمجرد".
الإسراف وتجاوُزُ الحد في كلِّ شيء، فمِن ثَمة أسرفوا في باب الشهوة أيضًا.
* * *
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} ؛ أي: وما جاؤوا بما هو جوابٌ له عمَّا كلَّمهم به ونصح لهم فيه من إنكار الفاحشة واستعظامِها؛ لغايةِ دعارتهم وخبثهم، ولكنهم قابلوا نصيحته ووعظَه بالأمر بإخراجه ومَن معه من المؤمنين من قريتهم، وهي من القَرْي وهو الجمع، سميت بها ما فيه
(1)
الأبنيةُ لأنها مجتمَع الناس في الإقامة، إلا أنه صار بالعرف عبارةً عن مجتمَع الناس
(2)
في منازلَ متجاورةٍ بقرب ضيعةٍ يأوي إليها الأسرة
(3)
.
{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} استئنافٌ بطريق الاستهزاء؛ كأنه قيل لهم: لِمَ تُخرجوهم من قريتكم؟ فقالوا: لأنا قوم ملوَّثون بالفواحش وهم أناس يبالغون في التنزُّه منها
(4)
، فلا وجه لاختلاط الطاهرين بالخبائث. وهذا غايةُ السخرية منهم، وهذا ليس بجوابٍ عن إنكاره وتوبيخه، لكنهم قالوه تضجُّراً منه عَقيب إنكاره وتوبيخه
(5)
، وفي إطلاق الجواب عليه إشارةٌ إلى أنهم كانوا مُلزَمين مبهوتين حتى لم يقدروا على أن يتكلموا في معرِض الجواب بشيء سوى هذا، وهذا قريب من أسلوب الشاعر:
(1)
بعدها في (ك) و (م) زيادة: "من".
(2)
"الناس" ليست في (ك).
(3)
في (م) و (ك): "الأكثر".
(4)
في (ف): "عنها".
(5)
"وتوبيخه" من (م).
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم
…
بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب
(1)
ولما كان مآل المعنى أنهم لم يقدروا على الجواب، وكان السلوك إلى الطريق المذكور
(2)
للمبالغة في عدم قدرتهم عليه
(3)
، اندفع وهمُ المنافاة بينه وبين قوله تعالى:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 29]، وبين قوله تعالى:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167]؛ لأن المنقول فيهما أيضًا ليس بجوابٍ حقيقةً وإن كان مذكوراً في مَعرض الجواب، والله أعلم بالصواب.
* * *
(83) - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} .
{فَأَنْجَيْنَاهُ} الفاء فصيحةٌ، والمحذوف هنا مذكور في موضع آخر، والمراد من الإنجاء: إخراجه من بينهم قبل نزول العذاب.
{وَأَهْلَهُ} : أهل بيته، لا من تبعه في الدين؛ لقوله:
(1)
البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (ص: 11). وفي الاستدلال بهذا البيت هنا نظر؛ لأنَّه عادة ما يذكر مثالا على أسلوب المدح في صورة الذم، وهنا عكسه تماما؛ إذ ليست غاية القائلين هي المدح بل الذم، كما أن الصيغة المستعملة ليس ظاهرها الذم بل المدح، فيمكن أن يقال: إنه من أسلوب الذم في صورة المدح، فهو كقوله تعالى:{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، وقولِ الشاعر:
وقلت لسيدنا يا حليم
…
إنك لم تأسُ أسواً رفيقا
وأسلوب الذم في صورة المدح ذكره البطليوسي في "التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف"(ص: 98)، وعنه نقلنا المثالين المذكورين من الآية والبيت.
(2)
في (ف): "الطريقة المذكورة".
(3)
"عليه": ليس في (م).
{إِلَّا امْرَأَتَهُ} فإنها كانت تسرُّ الكفر.
{كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور.
* * *
(84) - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} يقال في العذاب: أَمْطَرتْ، وفي الرحمة: مَطَرتْ، وتعديَتُه بـ (على) لِمَا فيه من معنى النزول.
{مَطَرًا} : نوعاً من المطر عجيباً غيرَ معهود، إذ كان الممطور عليهم الحجارةَ على ما بيِّن في موضعٍ آخر.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} من قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام، والمراد نظرُ التفكُّر، أو نظر البصر فيمَن بقيت له آثارُ منازل ومساكن، وفيه اتعاظٌ وانزجارٌ أن تسلك هذه الأمة ذلك المسلك الفظيع.
* * *
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ؛ أي: وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وشعيبٌ هو ابن مكيل بن يشجر بن مدين، وكان يقال له: خطيبُ الأنبياء، لحُسن مراجعته قومه.
{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قد سبق تفسيره.
{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : معجزةٌ شاهدةٌ بنبوتي، ولم يذكر في القرآن، فإن ما ذكر فيه وفي
(1)
التفاسير متأخر عن هذه المقاولة
(2)
.
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} أي: آلةَ الكيل، لا لقوله
(3)
: {وَالْمِيزَانَ} ؛ لأنَّه يجيء بمعنى الوزن
(4)
، بل لقوله في سورة هود:{الْمِكْيَالَ} [الآيتان: 84 و 85].
ويجوز أن يكون الميزان
(5)
مصدراً كالميعاد والميلاد، والمراد: الإيفاءُ في الكيل والوزن، أو يراد: الكيلَ ووَزْنَ الميزان، على الإضمار، أو إطلاقُ الكيل على المكيال
(6)
كالعيش على المَعاش
(7)
.
هذا ما عند القوم، والذي هو عندي - ولعله أدقّ وبالقبول أحقّ - قد سبق في تفسير سورة الأنعام، والمراد بإيفاء الكيل والميزان: إيفاءُ ما يكال وما يُوزن
(8)
،
(1)
وقع بعدها في (ف) كلمة هذا رسمها: "التا".
(2)
في (ف) و (ك): "المقاولة".
(3)
في (ف): "بقوله".
(4)
في (م): "الموزون".
(5)
في (ك): "المكيال"، وهو خطأ.
(6)
في (ك): "المكال"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 23)، وانظر التعليق الآتي.
(7)
أي: يراد بالكيل ما يكال به مجازاً كالعيش بمعنى ما يعاش به. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 188)، و "روح المعاني" (9/ 235). وبهذا يظهر أن الصواب: المكيال، لا المكال الذي جاء في (ك).
(8)
في (م) و (ك): "ما يكال ويوزن".
فنُسب إلى الفعل مجازاً، أو إلى الآلة للمُلابسة. كانوا أهل بَخْسٍ للمكاييل والموازين فأمرهم بالإيفاء.
ولمَّا كان المحظور بالأمر المذكور التعدِّيَ إلى جانب النقصان لا إلى جانب الزيادة نبَّه على ذلك بقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} ولا تَنقُصوا حقوقهم
(1)
، وإنما قال:{أَشْيَاءَهُمْ} للتعميم؛ لأنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، أو كانوا مَكَّاسين لا يَدَعون شيئًا إلا مَكَسوه.
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالكفر والحَيفِ {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بعد ما أصلح فيها الأنبياء عليهم السلام بالإيمان والعدل.
{ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه {خَيْرٌ لَكُمْ} مطلَقًا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بزعمكم؛ لأن قضية الإيمان العدالةُ.
أو: خير لكم في الإنسانية وحُسنِ الأحدوثة، أو فيما تطلبون من التكسُّب والتربُّح
(2)
وزيادة المال؛ لأن الناس إذا عرفوا منكم الأمانةَ والعدالة رغبوا في مُتاجَرتِكم، إن كنتم مصدِّقين لي فيما أقول لكم.
* * *
(1)
"ولا تنقصوا حقوقهم" من (م).
(2)
في (ف): "والربح".
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} : ولا تقتدوا بالشيطان
(1)
في قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] فتقعدوا بكلِّ منهجٍ من مناهج الدِّين؛ لقوله:
{تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} وطريق الحق وإن كان واحدًا لكنْ يتشعَّب إلى عقائد ومعارف حقَّةٍ، وفضائلَ وأخلاقٍ حميدة
(2)
، وحدودٍ وأحكام كثيرةٍ، فكانوا إذا رأوا أحداً يسلك طريقاً منها أو يتكلَّم فيها منعوه وأَوْعَدوه وصدُّوه.
وقيل: كانوا يقعدون بالمراصد ويقولون لمن يريد شعيباً: إنه كذَّاب لا يَفتِنَنَّكَ عن دينك، كما كان يفعل قريش بمكة، ويُوْعِدون مَن آمَن به.
وقيل: كانوا يقطعون الطريق.
ومحل {تُوعِدُونَ} وما عُطف عليه النصبُ على الحال؛ أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغيها عوجاً، و {مَنْ آمَنَ} مفعول {تَصُدُّونَ} على إعمال الأقرب، ومفعول {تُوعِدُونَ} محذوف لدلالته عليه، ولو كان مفعولَ {تُوعِدُونَ} لقال: وتصدونهم، إلا أن يُجعل {تَصُدُّونَ} بمعنى: تُعْرضون، لازماً.
والضمير في {بِهِ} لـ {اللَّهِ} ؛ أي: تُوعدون وتصدُّون مَن آمن بالله عن سبيله {وَتَبْغُونَهَا} ؛ أي: تطلبون سبيلَ الله عوجاً تصفونها للناس بالعوج، وأنها مُعوجَّة وغيرُ مستقيمة فلا تسلكوها، أو بإلقاء الشُّبه.
وقيل: الضمير المذكور راجع إلى (كلِّ صراط)؛ أي: تُوعدون مَن آمَن به وتصدون عنه، فوُضع الظاهر الذي هو (سبيل الله) موضعَ الضمير تقبيحاً لِمَا كانوا
(1)
في النسخ: "ولا تقعدوا الشيطان" والتصويب من "الكشاف"(2/ 128).
(2)
في (م) و (ك): "جميلة".
عليه، ودلالةً على عظم ما يصدُّون عنه، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} تهكُّمٌ بهم؛ أي: تطلبون ما هو محالٌ.
{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} عَدَدَاً أو عُدَداً.
{فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في النسل والمال
(1)
.
{وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} من قوم نوح وهود ولوط وصالح عليهم السلام، وكانوا قريبي العهدِ مما أصاب المؤتفِكة، والمراد من النظر: الاعتبار بهم.
* * *
{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ} من الطَّوف، صفةٌ غالبة أُقيمت مقام الموصوف، مأخوذةٌ من الاجتماع على الطَّواف
(2)
.
{آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} أطلقه هنا إيماءً إلى أن عدم الإيمان بما أُرسل به نبيٌّ يَستلزم عدم الإيمان بما أرسل به سائر الأنبياء عليهم السلام؛ لأن كلًّا منهم يصدِّق الآخرين.
{فَاصْبِرُوا} الصبر: حبسُ النفس عما تُنازع إليه من الجزع؛ أي: فتربَّصوا وانتظِروا {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} : بين الفريقين بنصر المحقِّين على المبطِلين، فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين.
(1)
في (ف): "أو المال".
(2)
في (ف): "الطريق".
{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} ؛ لأن حكمه حقٌّ وعدل، لا يخاف حيفاً ولا ميلاً
(1)
، والحكم: المنع من الخروج عن الحق.
* * *
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ} ؛ أي: آمنوا بما أُرسلت به تابعِين لك.
{مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ؛ أي: ليكوننَّ أحد الأمرين: إما إخراجُكم عن القرية، وإمَّا عودُكم في الكفر.
والعود: هو الرجوع إلى الحالة التي كان عليها؛ لمَّا شركوا شعيباً عليه السلام في الإخراج مع الذين اَمنوا معه شركوه في العود تغليباً للجماعة على الواحد، وإن لم يكن عليه السلام في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا، وكذلك
(2)
أجرى شعيب عليه السلام جوابه على التغليب.
ويجوز أن يكون قولهم على زعمهم وقولُه عليه السلام للمشاكَلة
(3)
.
ويجوز أن يكون العود بمعنى الصيرورة؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]؛ أي: صار.
(1)
قوله: "لا يخاف حيفا ولا ميلا" كذا في النسخ، ولا يناسب السياق، وعبارة "الكشاف" (2/ 129):(لا يخاف فيه الحيف).
(2)
في "ك": (ولذلك).
(3)
في (ف): "على المشاكلة".
{فِي} أبلغ من: إلى؛ لدلالته على الاستقرار والتمكُّن؛ كأنهم لم يرضَوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم.
{قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الواو للحال، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي: أنعود فيها ونحن كارهون لها، أو: أتُعيدوننا
(1)
فيها على كراهتنا إياها.
* * *
{قَدِ افْتَرَيْنَا} إخبارٌ مقيَّد بالشرط، وهو بمعنى المستقبل لأنَّه لم يقع لكنه جُعل كالواقع للمبالغة، وأُدخل عليه {قَدِ} لتقريبه من الحال؛ أي: قد افترينا الآن إنْ همَمنا بالعود في ملَّتكم بعد أنْ وفقنا الله تعالى للنجاة منها بالتوحيد؛ لأنَّا
(2)
علمْنا أنْ لا شريك له، فإنْ زعمْنا أن له نداً فلا افتراءَ أعظمُ من افترائنا، وقد سبق معنى الافتراء ووجه تقييده بقوله:{عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
(3)
.
{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} شرط جوابه محذوف دل عليه {قَدِ افْتَرَيْنَا} وهو استئناف في معنى التعجُّب؛ كأنهم قالوا: ما أكذبَنا على الله تعالى إن عدنا؛ لأنَّا تحقَّقْنا التوحيد وتيقَّنَّاه فادِّعاءُ النِّد مع اعتقاد التوحيد افتراءٌ في غاية القبح.
وقيل: جواب قسم على تقدير حذف اللام؛ أي: لقد افترينا على هذا التقدير.
(1)
في النسخ: "أتعيدنا"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 130)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 24).
(2)
في (م): "ولأنا".
(3)
تقدم في هذه السورة عند تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 144].
{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} ؛ أي: حفظَنا عنها، فإن النجاة الحقيقية إنما تكون بعد الابتلاء، ولا ابتلاء هنا، فلا بد من المصير إلى أقربِ المجاز.
{وَمَا يَكُونُ لَنَا} وما يصحُّ لنا {أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا} وقتَ {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} عودَنا، هذا هو الذي يقتضيه المساق، وتقدير الخذلان من خذلان التقدير
(1)
.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} لم يقل: قدرةً، أو إرادةً
(2)
لأن الإخبار عن سعة قدرته أو إرادته
(3)
لكلِّ شيء إنما يناسب المقام إذا كان مَساق الكلام للإشعار بوقوع المستثنَى، وأما إذا كان مَساقُه للإشعار بعدم وقوعه فلا يناسب ذلك، إنما المناسب حينئذٍ الإخبار عن سعة علمه وحكمته، وفائدة هذا الأشعارِ حسمُ طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون.
وفي زيادة {رَبُّنَا} مع تمام الكلام بدونه نوعُ تأييد للإشعار المذكور، وفضلُ تأكيد للحسم المزبور، من حيث إنَّ الربَّ في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئاً.
{عَلَى اللَّهِ} خاصة {تَوَكَّلْنَا} في
(4)
أن يثبتنا على الإيمان، ويحفظَنا من الشر والعدوان.
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} : احكُم بيننا وبينهم {بِالْحَقِّ} والفَتَاحة: الحكومة، والفتَّاح: القاضي.
(1)
في هامش (ف): "دس الزمخشري هنا مذهبه الباطل ولم يتفطن البيضاوي. منه". وانظر: "الكشاف"(2/ 130)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 24)، و "البحر"(10/ 202)، و "روح المعاني"(9/ 246).
(2)
في (ف): "وإرادة".
(3)
في (ف): "وإرادته".
(4)
"في": ليس في (م).
أو: أظهِرْ أمرنا ينفتحْ ما بيننا وينكشف، ويتميز المحقُّ من المبطِل بإنزال العذاب عليه وإنجاء المحق، مِن فَتَح المُشكل: إذا بيَّنه.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} على المعنيَين.
* * *
{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} ؛ أي: قال بعضهم لبعض: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} فيما أمركم به ونهاكم عنه في معاملاتكم.
{إِنَّكُمْ إِذًا} ؛ أي: حينئذٍ - هو اسم زمان - {لَخَاسِرُونَ} الأموالَ، وهو سادٌّ مَسدَّ جواب الشرط والقسمِ الموطَّأ باللام.
* * *
(91) - {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : الزلزلةُ الحادثة من الصيحة المذكورة في سورة هود
(1)
عليه السلام.
{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قد سبق تفسيره.
* * *
(1)
في هامش (ف): "من قال في سورة الحجر فقد أخطأ. منه".
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} مبتدأ {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} خبرُه، وكذا ما بعده؛ أي: كأنْ لم يقيموا فيها؛ يقال: غَنِيَ بالمكان: إذا أقام به، والمَغاني: المنازل.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} بالَغَ في تقرير هلاكهم بوجوهٍ:
بالاستئناف
(1)
وإيرادِ الموصول كأنه قال: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالاستئصال أحقَّاءُ به لتكذيبهم. وبقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} ؛ أي: ما بقي أثرٌ منهم كأنْ لم يكونوا قط. وبالتكرير على الوجه الأول، وبكونهما اسميتين، وتعريفِ {الْخَاسِرِينَ} بلام الماهية، وبإطلاقه - أي:{الْخَاسِرِينَ} - في الدارين، وبتوسيط {هُمُ} في الثانية؛ أي: هم الأخصَّاء بالخسران المطلق لا الذين صدَّقوه واتَّبعوه كما زعموا، فإنهم الرابحون فيها.
كلُّ ذلك ردًّا لمقالة الملأ فيما بينهم، وتسفيهاً لرأيهم، واستهزاءً بنصح بعضهم لبعض.
* * *
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} كلام قاله بعد هلاكهم تأسُّفاً وتحزُّناً عليهم، ثم أنكر على نفسه أسفه وشدةَ حزنه عليهم فقال:
{فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} ليسوا بأهلٍ للحزن عليهم؛ لاستحقاقهم ما حل بهم بكفرهم.
(1)
في (ك): "الاستئناف".
أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنه عليهم؛ أي: لقد أَعذَرْتُ إليكم
(1)
، وبالغتُ في الإبلاغ، وبذلت وسعي في النصح لكم والتحذير عما نزل بكم، فلم تصدقوا قولي، فكيف آسى عليكم؟ أي: فلا أحزن عليكم بعد اللُّتيَّا والَّتي
(2)
؛ لكفركم وكونِكم غيرَ مستحقِّين لذلك.
* * *
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} تعديةُ (أَرسل) بـ (إلى)، وإنما أتى بـ {فِي} اعتباراً بمعنى الاستقرار، فإنه يدل على الاستمرار في أمر الإبشار والإنذار، وعند ذلك يظهر استحقاقهم بالأخذ الآتي ذكره.
{إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا} ؛ أي: إلا آخذين أهلها، فهو استثناءٌ مفرَّغ من الأحوال.
{بِالْبَأْسَاءِ} : بالبؤس والفقر.
{وَالضَّرَّاءِ} : والضرِّ والمرض؛ لاستكبارهم عن اتِّباع النبي وتَعزُّزهم، والشدة والبلاء تُلين القلوب القاسية الأبية، وتذلِّل النفوس الطاغية القوية.
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} : لكي يتذلَّلوا ويضعوا تيجان العز والكبر والنخوة.
* * *
(1)
في (ف): "إليهم".
(2)
في (ف) و (م): "التي واللتيا".
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} لفظة {ثُمَّ} للدلالة على امتداد تلك الحالة، ويؤيده ما في عبارة المكان من الإشعار بالتمكُّن؛ أي: ثم أوردنا مكان الحالة السيئة الحالةَ الحسنة مبدِّلين إحداهما بالأخرى إكمالاً لأمر الابتلاء، قال الله تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168].
والحكمة فيه: أن النفوس الجافية الغليظة تنقهِر وتنكسر بالبلاء والشدة، والنفوسَ اللطيفة تنقاد وتطيع بالسعة والنعمة.
{حَتَّى عَفَوْا} : كثروا عَدداً وعُدداً بالنموِّ في أنفسهم وأموالهم، من عفا النباتُ: إذا كثُر، ومنه قوله عليه السلام:"وأعفوا اللحى"
(1)
.
{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} بطراً وأشراً بالنعمة، ونسياناً للنقمة، واعتقاداً أن هذه عادةُ الدهر يُضيق تارة ويوسع أخرى، ويتعاقب فيه المحنة والمنحة كما عليه حال آبائنا، فلم يروا ذلك ابتلاء من الله تعالى.
{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} لمَّا لم يتنبهوا من غفلتهم بإحدى الحالتين فلم يبق إلا أن أخذناهم أشدَّ الأخذ بالعذاب، وهو الأخذ فجأة من غير شعورٍ لأنَّه أعظم حسرةً.
* * *
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} اللام للعهد والإشارةِ إلى القرى التي دلَّ عليها {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} .
(1)
رواه البخاري (5892)، ومسلم (259/ 52)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
{آمَنُوا} وصدَّقوا بدل كفرهم وتكذيبهم {وَاتَّقَوْا} بدل عصيانهم.
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لوسَّعنا عليهم الخير في كل شيء ومن كل جهة ويسَّرنا لهم، وقيل: لآتيناهم المطر والنبات.
{وَلَكِنْ كَذَّبُوا} الرسل {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : بسوء كسبهم المعتادِ من التكذيب والعصيان.
* * *
(97) - {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} .
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الفاء للعطف على {فَأَخَذْنَاهُمْ} وكذا الواو في {أَوَأَمِنَ} ، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} إلخ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والهمزة للإنكار؛ أي: أَبَعْدَ أخذِنا إياهم بتكذيبهم أَمِنَ أهل هذه القرى.
{أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا} البيات إن كان بمعنى البيتوتة فظرف؛ أي: وقتَ بيات، وإن كان بمعنى التبييت فحال؛ أي: مبيِّتاً أو مبيَّتين، أو مصدر لأن التبييت نوعٌ من الإتيان؛ كأنه قال: أن يبيِّتهم بأسُنا تبييتاً.
{وَهُمْ نَائِمُونَ} حال من ضميرهم البارز أو المستتر في {بَيَاتًا} .
* * *
(98) - {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} .
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} نصب على الظرف، والضُّحى بين البُكرة والضَّحوة
(1)
.
(1)
في هامش (ف): "أول اليوم هو الفجر، وبعده الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم =
{وَهُمْ يَلْعَبُونَ} : يشتغلون بأمور الدنيا، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]، والعدول إلى صيغة المضارع للدلالة على التجدُّد المناسب للَّعب.
* * *
(99) - {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} تكريرٌ للتأكيد، وتقريرٌ للجملتين على سبيل التعميم باستعارةٍ لطيفةٍ، وهي استعارةُ المكر للأخذ بغتةً بلا شعورٍ منهم استدراجاً.
{فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ؛ أي: إذا كان استدراجه وأخذُه على هذا الوجه فلا يأمن مكر الله إلا الذين خسروا أنفسهم بالكفر وتركِ النظر والاعتبار، وفي تكرير {مَكْرَ اللَّهِ}
(1)
تهويل وتربيةٌ للمهابة
(2)
.
* * *
= الضحوة، ثم الحر، ثم الظهر، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الآخر، وذلك عند مغيب الشفق الأول، كذا في تفسير الأفاضل. منه". وفي هامش (م):"في الصحاح: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم من بعده الضحى، وهي حين تشرق الشمس، وهي مقصورة تؤنث وتذكر، ثم بعده الضَّحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى، ويضحى ضحياً بلا هاء".
(1)
بعدها في (ف) و (ك): "دون فلا يأمن مكر الله"، والمثبت من (م)، وهو الصواب.
(2)
في (م): "للماهية".
قرئ: {يَهْدِ} بالياء على أن قوله: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ} فاعلُه، وبالنون
(1)
على أنه مفعوله.
و {أَنْ} مخفَّفة من الثقيلة مُعْمَلةٌ في
(2)
ضمير الشأن.
وتعديةُ فعل الهداية باللام إلى المفعول الأول لِمَا فيها من معنى التبيين
(3)
؛ أي: أولم يهدِ وَيتبيَّنْ للَّذين يَخلفون مَن مضى قبلَهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأنُ وهو أنَّا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم
(4)
كما أصبنا مَن قبلَهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين، أو: أولم نبيِّن لهم ذلك.
{وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على ما دل عليه {أَوَلَمْ يَهْدِ} ؛ أي: يغفلون عن الهداية ونطبع، أو كلامٌ مبتدأ عطفَ الجملة على الجملة؛ أي: ونحن نطبع.
ولا يستقيم عطفه على {أَصَبْنَاهُمْ} بمعنى: وطبعنا؛ لأنَّه في سياقِ {لَوْ} ، فيؤدي إلى نفي الطبع، والقومُ مطبوع على قلوبهم.
وأما عطفه على {يَرِثُونَ} فيَلزمه الفصلُ بين إبعاض الصلة بالأجنبي
(5)
؛ لأن المعطوف على الصلة صلةٌ، ولا تعلق لقوله:{أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} بشيء من الصلة.
{فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} سماعَ تفهُّم واعتبار.
(1)
القراءة بالياء قراءة الجمهور، وبالنون تنسب لقتادة ومجاهد وأبي عبد الرحمن السلمي. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45)، و "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 140)، و "روح المعاني"(9/ 265).
(2)
في (م): "معموله".
(3)
بعدها في (ف): "أي: لو نشاء {أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} ".
(4)
"بذنوبهم" ليست في (ف).
(5)
في (ف): "بأجنبي".
{تِلْكَ الْقُرَى} ؛ أي: قرى الأممِ المارِّ ذكرُهم {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} حالٌ منها؛ كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، أو خبر ثان، أو {الْقُرَى} صفةُ {تِلْكَ} و {نَقُصُّ} خبرٌ.
و {مِنْ} للتبعيض؛ أي: نقصُّ عليك بعضَ أنبائها، إذ لهم
(6)
أنباءٌ غيرُها لم نقصَّها
(7)
عليك.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} عند مجيء الرسل بالبينات {بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} : بما كذبوه من قبلِ الرسل بل كانوا مستمرِّين على التكذيب.
أو: فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذَّبوا أولًا حين مجيء الرسل؛ أي: استمرُّوا على التكذيب مع تكرار
(8)
المواعظ وتتابُع البينات، ولم تلن قلوبهم حتى ماتوا.
وتأكيد النفي باللام للدلالة على أن الإيمان كان منافياً لحالهم في تصميمهم على الكفر طُول عمرهم، وشدةِ
(9)
شكيمتهم في عنادهم.
{كَذَلِكَ} مِثْلَ ذلك الطبع العظيم {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} فلا تلين شكيمتُهم بالآيات والنُّذر، وفيه إيذان بأن سبب الطبع كفرُهم الأصلي.
(6)
في (ف): "ولهم" بدل: "إذ لهم".
(7)
في (ف): "نقصصها".
(8)
في (ف): "تكرر".
(9)
في (ف): "ولشدة".
(102) - {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} .
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ} ؛ أي: لأكثر الأمم المذكورين؛ لأن الأقل من كلٍّ منهم آمنوا، أو: للناس على الإطلاق، والجملةُ اعتراضية.
{مِنْ عَهْدٍ} أراد بنفي العهد نفيَ الوفاء به على سبيل المبالغة، يقال: ما له عهد، لمن ينكثُ العهد، والمراد من العهد: إما ميثاق الفطرة في الإيمان والتقوى، وإما قولُهم عند الضر والمخافة:{لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]، أو عهدهم مع الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى:{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134].
{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} ؛ أي: علِمناهم، من: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ
(1)
؛ لدخول (إنْ) المخفَّفة واللامِ الفارقة فيه، وذلك لا يجوز إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلة عليهما، وعند الكوفيين (إنْ) للنفي واللامُ بمعنى: إلا.
* * *
{ثُمَّ بَعَثْنَا} البعث: الإرسال، وهو في الأصل: النقل باعتمادٍ يوجب الإسراع إلى الشيء.
{مِنْ بَعْدِهِمْ} الضمير للرسل أو للأمم.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 136)، و "تفسير البيضاوي" (3/ 26). ومعنى "ذا الحفاظ": صاحب الحفاظ، وهو المحافظة والمراقبة، ويقال: إنه لذو حفاظ ومحافظة، إذا كان له أنفة. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 200).
{مُوسَى بِآيَاتِنَا} : بمعجزاتنا {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ؛ أي: الأشرافِ من قومه، وفرعون كان لقباً لمَن مَلَكَ مصر من العمالقة.
{فَظَلَمُوا بِهَا} الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وتعديتُه بالباء لتضمينه معنى الجَحْد، والمراد مِن ظلمهم: اختيارُهم الكفر على الإيمان.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} النظر: تحديق القلب إلى المعنى لإدراكه، فكأنه قيل: فانظر بعين القلب كيف كان عاقبتهم بسبب إفسادهم، وموضع {كَيْفَ} نصبٌ؛ لأنَّه خبر {كَانَ} ، وتقديره: انظر أيَّ شيء كان آخِرَ أمر الذين أفسدوا.
* * *
(104) - {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ} خطابٌ له بأحسن ما يُدْعَى به، وإجهالُه لِمَا عرفتَ أنه من الألقاب الشريفة المخصوصة بملوك العمالقة، ففيه ائتمارٌ بالأمر الوارد في قوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44].
{إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لم يقل: إليك؛ لعدم اختصاص رسالته عليه السلام له.
ولمَّا كان فرعون قد ادَّعى الربوبيةَ فاتحه موسى عليه السلام بما ينبِّهه على أنه مُبطِلٌ في الوصف الذي ادعاه.
* * *
{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة المفهومة من قوله: {فَظَلَمُوا بِهَا} ، وقرئ:{عَلَىَّ} بالتشديد
(1)
؛ أي: واجبٌ عليَّ، وعلى قراءة التخفيف معنى الحقيق: جدير
(2)
وخليق، إلا أنه ضمِّن معنى المجبول، ولذلك عُدِّي بـ {عَلَى}؛ أي: مجبول على ذلك جديرٌ به، وفيه إشارة إلى أن مَن هو في مقام الرسالة يكون في غاية العصمة عن وصمة الكذب حتى لو قصده لا يَقدر عليه.
{عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} إنما قال: {عَلَى اللَّهِ} لأن في الرسالة تحميلَ العهدة على المرسِل الذي نقل عنه الرسالة.
{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ؛ أي: بما يُبين أني رسول من رب العالمين، ادَّعى الرسالة ثم أردفها بما يدل على صحتها.
ولمَّا قرَّر رسالته فرَّع عليها تبليغَ الحكم بقوله: {فَأَرْسِلْ} ؛ أي: فأطلق {مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ أي: يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُهم ومولد اَبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال تغلُّباً منذ تُوفِّي يوسف عليه السلام وانقرضت الأسباط.
* * *
(106) - {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} مِن عند مَن أرسلك {فَأْتِ بِهَا} : فأَظْهِرها وأحضِرها عندي ليَثبت بها صدقُك {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في الدعوى.
* * *
(1)
هي قراءة نافع، وباقي السبعة بالتخفيف. انظر:"التيسير"(ص: 111).
(2)
في (ك) و (م): "معنى حقيق وجدير".
(107) - {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} .
{فَأَلْقَى عَصَاهُ} أصل (ألقى) من الإلقاء الذي هو الانفصال
(1)
{فَأَلْقَى عَصَاهُ} : أزال اتِّصالها مما كان، وعصا: عود يابس، وأصله: الامتناع ليبسه، يقال: عصى: إذا امتنع، ومنه: العصا لمن عصى.
{فَإِذَا هِيَ} (إذا) للمفاجأة والفاء للتعقيب.
{ثُعْبَانٌ} : حية عظيمة، يقال: انْثَعبَ الماء: إذا جرى باتِّساع، والمَثْعَب: هو المجرى الواسع، ومنه: الثعبان؛ لأنَّه يجري باتِّساع لعظمته.
{مُبِينٌ} أبان عن نفسه أنه ثعبانٌ حقيقةً، لا شيءٌ يشبه الثعبان كما تكون الأشياء المزوَّرة بالشعوذة والسحر.
* * *
(108) - {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} .
{وَنَزَعَ يَدَهُ} ؛ أي: أخرجها من جيبه؛ لقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل: 12]، والنزع: إخراج الشيء مما كان متَّصلاً به ومُلابساً له.
{فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} لها شعاعُ يكاد يُغشي الأبصار ويسدُّ الأفق، وفي قوله:{لِلنَّاظِرِينَ} دلالةٌ على أن بياضها كان شيئًا يجتمع النَّظَّارة على النظر إليه لخروجه عن العادة.
وقيل: بيضاءُ للنُّظَّار، لا أنها كانت بيضاءَ حقيقةً.
ويردُّه قوله تعالى في موضع آخر: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12]؛ لأنَّه صريح في انقلابها أبيض؛ لأن مَظِنَّة السوء عند ذلك.
(1)
في (ك) و (م): "من اللقاء الذي هو الاتصال".
(109) - {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} .
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} وفي موضع آخر: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} [الشعراء: 34]، وذلك أنه قال هو وأشرافُ قومه على سبيل التشاور في أمره، فحُكي عنه تارةً وعنهم أخرى، وفي عبارة (الملأ) نوعُ إشارة إلى هذا من حيث إن الملأ جماعةٌ يجتمعون للتشاور.
{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} : فائق في علم السحر، وهو لطف الحيلة في إظهار أعجوبةٍ تُوهم خرقَ العادة لخفاءِ سببه.
* * *
(110) - {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} بسحره، بأن يُلقي العداوة والفُرقة بينكم، ويستميلَ بعضكم ليحارب به بعضَكم فيخرجَكم من بلادكم.
{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (ماذا) مفعولٌ ثانٍ لـ {تَأْمُرُونَ} على سبيل التوسُّع فيه بأنْ حُذف منه حرف الجر، والمفعول الأول محذوف؛ أي: بأيِّ
(1)
شيء تأمرونني، من آمَرْتُه فأمرني بكذا: إذا شاورْتَه فأشار عليك برأيٍ.
تحيَّر عند غلبته سلطان المعجزة فنسي دعوى الألوهية ومرتبةَ كونه آمراً وناهياً، حتى خاطبهم خطاب الأذلاء المقهورين المأمورين.
* * *
(1)
في (ك): "أي" وهو الموافق لما في "البحر"(10/ 233)، والمثبت من (ف) و (م) وهو الموافق لما في "روح المعاني"(9/ 283)، وكلاهما صواب، على أن أحدهما تقدير مع الباء، والآخر بعد حذفها.
(111) - {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .
{قَالُوا أَرْجِهْ} من الإرجاء، وهو التأخير؛ أي: أخِّر أمره، وهذا يدل على تقدُّم همٍّ من فرعون
(1)
بقتله، على ما دل عليه قوله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26]، فقالوا: أخِّر قَتْلَه واغلبه بالحجة كيلا يُدخل على الناس الشبهةَ، توهموا أنهم بالتأخير، وتقديم التدبير، وبذلِ الجهد
(2)
والتشمير، يغيِّرون شيئًا من التقدير.
{وَأَخَاهُ} يعني: هارون، وكان معه على ما ذكر في موضع آخر.
{وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} الحشر: السَّوق من جهاتٍ مختلفةٍ إلى مكانٍ واحد
(3)
، وتعدية (أرسل) بـ (إلى)، وإنما أتى بـ {فِي} تضميناً لمعنى الاستقرار؛ ليفيد الاهتمام في أول
(4)
أمر الحشر، ولأن المقصود إتيان مَهَرة السحرة ومَن هم في الطبقة العليا من ذلك الجنس، وهو لا يكون إلا بالتتبُّع والتفحُّص، فلا بد من مكث في مظانهم من المدائن.
* * *
(112) - {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} مِثْلِه في عمل
(5)
السحر وعلمه، وقرئ:{سَحَّارٍ}
(6)
وهو أبلغ لأن اعتبار المبالغة في وصف مَن يؤتى للمغالبة أولى.
(1)
في (م) و (ك): "تقدم من هم فرعون".
(2)
في (م) و (ك): "الجد".
(3)
بعدها في (م) و (ك): "أي أخر أمره" ولعل هنا ليس مكانها حيث تقدمت قريبًا.
(4)
"أول": ليس في (م) و (ك).
(5)
"عمل": ليس في (م) و (ك).
(6)
هي قراءة حمزة والكسائي، وباقي السبعة {سَاحِرٍ}. انظر:"التيسير"(ص: 112).
وفي دخول كلمة (كلّ) على المفرد دلالةٌ على أنَّ كل واحد منهم منفرد
(1)
عن الآخرين، مطلوب بالإتيان ومقصودٌ أصالة وبالذات.
* * *
(113) - {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} .
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} ؛ أي: فأرسل الحاشرين وجاء السحرة، فالواو فصيحة كالفاء في قوله تعالى:{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} [الشعراء: 38].
{قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} استئناف على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقوله: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} استفهاماً، والقراءة بالإخبار
(2)
أوقعُ للدلالة على إيجابهم عليه أجراً عظيماً، كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر كثير، ومثلُ هذا التنكيرِ في إفادة التعظيم والتكثير قولُهم: إن له لإبلاً وإن له لغنماً.
والأجر: الجزاء بالخير، فإن الجزاء قد يكون بالخير والشر بحسب العمل وبحسب ما يقتضيه العدل، والغلبة: إبطال المقاومة بالقوة.
* * *
(114) - {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .
{قَالَ نَعَمْ} مجيباً لهم عما سألوه {وَإِنَّكُمْ} الواو للعطف كأنه قال: نعم لكم ذاك وإنكم {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إلى مراتب الجلالة التي يكون فيها الخاصَّة
(3)
ولا
(1)
في (م) و (ك): "منفرداً".
(2)
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حَفْص: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} مَكْسُورَة الألف على الخَبَر، وباقي السبعة على الاستفهام. انظر:"التيسير"(ص: 112).
(3)
في (م) و (ك): "الحاجة".
يتخطَّى إليها العامة، حقَّق أمنيتهم وزاد على ذلك ما لم يتصوَّروه مع المبالغة بـ (إنَّ) واللام؛ أي: لا أقتصرُ على الثواب العظيم، وإن لكم مع الثواب ما يقلُّ معه الثواب وهو التقريب والتعظيم، تحريضاً لهم.
* * *
(115) - {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} .
{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} الإلقاء: إرسال المعتمد إلى جهة السُّفلِ وضدُّه الإمساك، و {إِمَّا} للتخيير، والتقدير: إمَّا أن تلقي أنت أولًا وإما أن نلقي نحن أولًا، دليله ما في موضع آخر:{وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65].
قيل: أظهروا الاقتدار وقالوا: إن بدأت أنت أو بدأنا فلا خوف علينا ولا حذار.
وقيل: بل احترموا وببركة ذلك أسلموا، ولمَّا
(1)
كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبَّهوا عليها بتغيير النظم إلى ما فيه رجحان طرفهم في الإلقاء؛ من الجملة الابتدائية والتأكيد بتوسيط الضمير وتعريف الخبر.
* * *
{قَالَ أَلْقُوا} لمَّا كارموه بالتخيير أكرمهم
(2)
موسى عليه السلام وسوَّغ لهم ما تراغبوا به؛ إظهاراً للفضيلة وتحقيراً لهم وازدراء بشأنهم، وثقةً بالله تعالى وما خصَّصه به من التأييد السماوي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً.
(1)
في (ف): "ولكن".
(2)
في (ك): "كرمهم".
{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} : خيَّلوا إليهم بالحقيقة بخلافه، وأَرَوهم بالحيل والشَّعوذة ما لا وجود له، ومن هنا ظهر أن السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب
(1)
التخييل.
{وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} ؛ أي: أرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم.
وقيل: استفعل هنا بمعنى: أفعل، كأبلَّ واسْتبَلَّ
(2)
. والرهبة: الخوف مع الفزع.
{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وصفه بالعظيم لبُعد مرام الحيلة فيه وشدةِ التمويه، حتى أوجس موسى عليه وسلم في نفسه خِيفةً.
* * *
(117) - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} .
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} {أَنْ} مصدرية، ويجوز أن تكون مفسِّرة
(3)
؛ لأن في الوحي معنى القول.
{فَإِذَا هِيَ} (إذا) فجائيةٌ والفاء فصيحة؛ أي: فألقاها فإذا هي، ونكتة الحذف في مثل هذا قد مر بيانها في تفسير قوله تعالى:{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ} [البقرة: 60] من سورة البقرة.
{تَلْقَفُ} تبتلع تناولاً بفيها سرعةً منها، ويؤيده قراءة:{تَلْقَفُ}
(4)
؛ أي: تبتلع كاللقمة.
(1)
"باب" من "ك".
(2)
أي: حسنت حاله بعد الهزال. وتحرفت في النسخ إلى: (أبيل واستبيل)، والصواب المثبت. انظر:"البحر"(10/ 240).
(3)
في (م): "المفسرة".
(4)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 439)، و "البحر"(10/ 244).
{مَا يَأْفِكُونَ} الإفك: قلب الشيء عن وجهه، و {مَا} موصولة؛ أي: ما يأفكونه، أو مصدرية؛ أي: إفكهم، تسميةً للمأفوك إفكاً مبالغةً.
* * *
(118) - {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{فَوَقَعَ الْحَقُّ} الوقوع: ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقرِّه، والحق: كون الشيء في موضعه الذي اقتضته الحكمة.
{وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من السحر والمعارضة.
* * *
(119) - {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} .
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} ؛ أي: عند ذلك الجمع.
{وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ؛ أي: رجعوا إلى المدينة أذلَّاء مقهورين، والضمير لفرعون وقومه.
* * *
(120) - {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} .
وإنما قال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} دون: وخروا سجَّداً، للمبالغة كأنهم
(1)
ألقاهم ملق لشدة خرورهم؛ لأن الحق بهرهم واضطَرَّهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالكٌ، وقد وفَّقهم الله تعالى لذلك ودبَّر الأمر؛ لينكسر فرعون وقومه بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام
(2)
.
(1)
في (م) و (ك): "كأنما".
(2)
رد القاضي حيث زعم أن فيها وجوهاً وأصله رجه وأرجه. منه.
(121 - 122) - {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لمَّا استشعروا أنْ يتُوهَّم أنهم أرادوا فرعون تداركوا بقولهم:
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} بأنْ أبدلوه منه.
* * *
{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ} استفهامٌ على سبيل الإنكار والتوبيخ؛ أي: أفعلتم هذا الفعل الشنيع، وقرئ بالإخبار
(1)
، وهو أيضًا تقريع وتشنيع بدلالة ما بعده.
{بِهِ} ؛ أي: بموسى عليه السلام لا بالله تعالى؛ لأن قوله في سورة الشعراء: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: 71] لا ينتظِمه.
{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} فيه إيذانٌ بوهن أمره، حيث جعل ذنبهم مفارقة الإذن دون نفس الإيمان به.
{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} ؛ أي: صنعُكم هذه الحيلةَ احتَلْتُموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد وتواطأتم عليها.
{لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} : القِبط، وتَخْلُصَ لكم ولبني إسرائيل، قاله تمويهاً على الناس لئلا يتَّبعوا السحرة في الإيمان.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ ما فعلتُم، وعيد مُجمَلٌ مفصَّله:
(1)
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالاستفهام، وباقي السبعة بالإخبار. انظر:"التيسير"(ص: 112).
(124) - {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} .
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} : من كل شقٍّ طرفاً، وذلك للتشديد في العذاب والتغليظ، فإن الإنسان لا يتعيَّش برجل واحدة ويد واحدة إذا كانتا من جانب
(1)
واحد، بخلافِ ما إذا كانتا من جانبين، ولهذا تُقطع رجل السارق في المرة الثانية من خلافٍ، وإذا كان القطع من وفاقٍ يأساً من الانتفاع بالحياة الباقية يكون الموت بعده راحةً، بخلاف ما إذا كان القطع من خلافٍ، فإن في الموت بعده - خصوصاً إذا كان متراخياً - ألماً جديداً، فأراد فرعون أن يضمِّن وعيدَه الشديدَ بتجديد العذاب بالقتل بعد ما زال ألم القطع وعاد لذة الحياة، على ما دل عليه كلمة {ثُمَّ} في قوله تعالى:
{ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم، قيل: إنه أول مَن قطع وصلب.
* * *
(125) - {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} .
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} : إنا لا نبالي بوعيدك لانقلابنا إلى ربنا ورحمته، كأنهم استطابوا شغفاً إلى لقاء الله تعالى، أو: إنا جميعاً - أي: إنك وإيانا - منقلبون إليه فيحكم بيننا.
* * *
(1)
في (م): "جنس".
{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} النقمة: الأخذ بالعقوبة، وتعديتُه بـ (من) لتضمُّنه معنى: تنال، وعلى هذا يكون قوله:{إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} مفعولاً من أجله استثناءً مفرَّغاً؛ أي: ما تنال منا أخذاً إيانا بالعقوبة لشيء من الأشياء إلا لأنْ آمنا، وهذا ما أشار إليه عطاء في تفسيره حيث قال: أي: ما لنا عندك ذنب تعذِّبُنا عليه إلا أنْ آمنا
(1)
.
ثم فزعوا إلى الله تعالى بقولهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} ؛ أي: على وعيد فرعون؛ لعلمهم أن الصبر مَطهَرة لهم استعارةً بالكناية، شبَّه الصبر بالماء فأورد الإفراغ؛ أي: أَفِضْ علينا من الصبر ما يَغمرنا ويَفيض عنَّا كما يُفْرَغ الماء إفراغاً، والتنوين للتعظيم؛ أي: صبراً واسعاً كثيرًا.
أو: ما يطهِّرنا من أوضار الآثام كما يطهِّر الماءُ من الأقذار.
{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثبِّتنا على السلام إلى الممات.
قيل: إنه فعل بهم ما أَوعدهم.
وقيل: لم يقدر عليهم؛ لقوله تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]. وفيه نظر؛ لأن المراد مَن اتبعهما قبل غلبتهما فلا يتناول السحرة.
* * *
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك.
(1)
انظر: "تفسير البغوي"(2/ 221)، و "البحر"(10/ 250)، وعنه نقل المؤلف.
{وَيَذَرَكَ} عطفٌ على (يُفسدوا في الأرض)، بدؤوا أولًا بالعلة العامة، ثم أتبعوه بالخاصة، قدَحوا بذلك زَنْدَ
(1)
تغيُّظه على موسى عليه السلام وقومه؛ ليكون ذلك أبقى عليهم منازلهم؛ إذ هم الأشراف، وبترك موسى عليه السلام وقومِه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم. وإنما نسبوا الفساد إلى الجميع والتركَ إلى موسى عليه السلام خاصةً؛ لأن الترك المذكور راجع إلى أمر الدِّين وقومُه تابعون له فيه، فذِكرُ تركِه كافٍ، بخلاف الفساد لأنَّه من جهة الدنيا والملك وهم مستقلون فيه.
أو جوابٌ للاستفهام بالواو على معنى: أيكونُ منك تركُ
(2)
موسى عليه السلام وقومِه ويكون [منه] تركُه إياك وآلهتك؟!
وقرئ بالرفع عطفاً على {أَتَذَرُ}
(3)
؛ أي: أتذرُه ويذرُك، بمعنى: تطلق له ذلك
(4)
؟ أو استئنافاً، أو حالاً؛ أي: وهو يذرُك وآلهتك.
وقرئ بالجزم
(5)
، كأنه قيل: يفسدوا ويذرْك، جواباً للاستفهام كقوله تعالى:{فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10].
(1)
في (م): "يزيد".
(2)
في (ف): "أن يكون منك ترك"، وفي (ك):"أن يكون منكر بترك"، وفي (م):"أن يكون منكرا بتركه"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 142)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 29)، وما سيأتي بين معكوفتين منهما.
(3)
تنسب للحسن بخلاف عنه ولنعيم بن ميسرة. انظر: "المحتسب"(1/ 256)، و "الكشاف"(2/ 142)، و "المحرر الوجيز"(2/ 441)، و "البحر"(10/ 252).
(4)
في النسخ: "يطيق"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 142).
(5)
تنسب للحسن بخلاف عنه وللأشهب العقيلي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45)، و "المحتسب"(1/ 256)، و "الكشاف"(2/ 142)، و "المحرر الوجيز"(2/ 441)، و "البحر"(10/ 252).
{وَآلِهَتَكَ} قيل: كان يعبد الكواكب.
وقيل: صنع لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرُّباً إليه، ولذلك قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
وقرئ: (إلاهتك)؛ أي: عبادتك
(1)
.
{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} : سنعيد عليهم ما كنا محنَّاهم به
(2)
ليعلموا {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ؛ أي: وأنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة عليهم، وأنْ لا أثر لغلبة موسى في ملكنا، وأن لا
(3)
يتوهَّم العامة أنه هو المولود الذي حكَم المنجِّمون والكهَنة بذهاب ملكنا على يده.
* * *
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} لمَّا جزع قوم موسى عليه السلام من قول فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} وتضجَّروا سلَّاهم بقوله:
{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ذكَّرهم ما وعَده الله تعالى من إهلاك القِبْط وتوريثهم أرضَهم وديارهم، فاللام في {الْأَرْضَ} للعهد، والأفصح أن تكون للجنس فتتناولَ المعهود - وهو أرض مصر - تناوُلاً أولياً.
(1)
تنسب لابن مسعود وجماعة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45)، و "المحتسب"(1/ 256)، و "الكشاف"(2/ 142)، و "المحرر الوجيز"(2/ 441)، و "البحر"(10/ 254).
(2)
في (ف): "ما كنا فعلناه بهم".
(3)
أي: (ولئلا) كما في "الكشاف"(2/ 143).
وعلَّق إيراث الأرض
(1)
بالمشيئة فأَجمَلَ، ثم بيَّنه بقوله:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} للبشارة بعد الإبهام بأنَّ العاقبة التي تستأهل أن تُسمى عاقبةً - أي: العاقبةَ المحمودة كأنَّ ما عداها ليست بعاقبة - مخصوصةٌ بالمتقين منكم ومن القِبْط؛ إشعاراً بأنهم هم المتقون والعاقبةُ لهم.
وقرئ: {وَالْعَاقِبَةُ} بالنصب عطفاً على اسم {إِنَّ}
(2)
.
* * *
{قَالُوا} ؛ أي: بنو
(3)
إسرائيل: {أُوذِينَا} بقتل الأبناء، والاستعباد
(4)
، والامتهان بالخدمة، وأنواع التعذيب. والأذى: ضرر لا يبلغ بصاحبه أن يأتي على نفْسه.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرسالة، والإتيانُ ينتظِم المجيءَ وما يقابلُه وهو الذهاب.
{وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادته علينا.
{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} تصريحٌ بما رمز إليه من البشارة، وهو إهلاك فرعون وقومَه واستخلافُهم في الأرض.
(1)
في (ف): "الميراث"، وفي (م):"الإيراث".
(2)
تنسب لابن مسعود وأبيٍّ رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45)، و "الكشاف"(2/ 143)، و "المحرر الوجيز"(2/ 442)، و "البحر"(10/ 255).
(3)
في (م): "بني" وأشار في الهامش: "ظ: بنو".
(4)
في (م): "والاستبعاد".
{فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} شكراً أو كفراناً، طاعةً أو معصيةً
(1)
، فيجازيكم بحسَبه.
* * *
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} اَثر عبارة الآل
(2)
على عبارة القوم
(3)
لانتظامها الإناثَ حقيقةً، ولا نكتةَ للتغليب، وللتنبيه على أن أخذهم بذلك لاتِّباعهم فرعون، فيُفهم منه سلامةُ مَن اَمَن مِن قومه، ودخولُ فرعون في الحكم المذكور بطريق الدلالة.
{بِالسِّنِينَ} بالجدوب؛ لقلة الأمطار والمياه والنبات، والسَّنةُ غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكَر عنه ويؤرَّخ به، فصارت كالدابة والنجم، ثم اشتقوا منها فقالوا: أَسْنَتَ القوم، إذا قُحطوا، وجمعت على سنين.
{وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أما السِّنونَ فكانت لباديتهم، وأما نقصً الثمرات فكانت في أمصارهم
(4)
.
(1)
في (ف): "أو معصية أو طاعة"، وفي (م):"بإطاعة أو معصية". وفي "ك": (طاعة أو معصية).
(2)
في (ك): "آثر الآل". وجاء في هامش (م): "الآل: أهل الرجل وأتباعه وأولياءه، ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالبًا، فلا يقال: أهله، وأصله: أهل، أبدلت الهاء همزة فصارت أأل، وتوالت همزتان فأبدلت الثانية ألفاً، تصغيره: أويل وأهيل. ق".
(3)
في هامش (م): "القوم: الجماعة من الرجال والنساء معاً، أو للرجال خاصة، أو تدخله النساء على تبعية، ويؤنث في أقوام".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 144).
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} : لكي يتنبَّهوا
(1)
أنَّ ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، أو يتَّعظوا فتَلينَ قلوبهم وتَرِقَّ بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويتضرَّعوا.
* * *
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ} الفاء فصيحةٌ لترتيب
(2)
مدخولها على مقدَّر دلَّ عليه سياق الكلام ولحاقُه من عدم تنبُّههم لِمَا ذكر، وتفصيل ذلك:
{الْحَسَنَةُ} الخصب والرخاء والسعة.
{قَالُوا لَنَا هَذِهِ} ؛ أي: لكرامتنا خاصة
(3)
واستحقاقِنا لها
(4)
.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : جدبٌ وشدةٌ وضيقٌ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقالوا: هذا بشؤمهم، ولولا مكانُهم فينا لَمَا أصابنا
(5)
التطيُّرُ والتشاؤم، وأصله: التفاؤل بالطير، ومنه: الطائر الذي هو سبب الخير والشر، فغلَب التطيُّر على الشر.
وأصل {يَطَّيَّرُوا} : يتطيَّروا، فأُدغم.
وإنما عرَّف الحسنة بلام العهد الذِّهني، مع (إذا) الدالَّةِ على الوقوع،
(1)
في (م) زيادة: "على".
(2)
في (ف) و (ك): "الفاء الفصيحة ترتيب".
(3)
"خاصة" من (م).
(4)
في (م) و (ك): "بها".
(5)
في (م): "أصبنا".
وصيغةِ الماضي الدالةِ على الاستمرار بأنَّ جنسها مقطوعُ الوقوع
(1)
لكثرته واتساعه، ونكَّر السيئة مع حرف الشكِّ وصيغةِ المضارع؛ لقلَّتها ونُدور وقوعها وتجدُّدها يناسب الإيقاظَ والاتِّعاظ، والحسنة لا يخلو عنها أحد والسيئة لا يقع منها إلا شيء
(2)
.
وهذا إغراقٌ
(3)
في وصفهم بالقساوة والجَفوة والغباوة، بأنَّ الشدائد التي ترقِّق القلوب، وتذلِّل النفوس، وتُلين العرائك، وتكسِر الشكائم، لم توثِّر فيهم، ولم يزدادوا بها إلا انهماكًا في الغي وعُتوًّا في الكفر، ولذلك بولغ في إنكار التطيُّر بموسى عليه السلام ومَن معه بإسنادِ الشر والخير إلى الله تعالى على القصر بـ {إِنَّمَا} ، وتصديرِ الجملة بحرف التنبيه، حيث قال:
{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ} سببُ خيرهم وشرهم {عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أي: كلٌّ بقضائه ومشيئته، وهو الذي أيهما شاء أصابهم به، وليس بيُمن أحد ولا بشؤمه، والتأكيدِ بقوله:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ؛ أنَّ
(4)
ما يصيبهم من الله تعالى ومن شؤم أعمالهم.
* * *
(132) - {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} .
(1)
في (ف) و (ك): "بلام العد الذهني الدالة على الوقوع".
(2)
في (ك): "سيء"، وفي (م):"شر"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 145)، وفيه:(ولا يقع إلا شيء منها)، وكذا نقله عنه الآلوسي في "روح المعاني"(9/ 305)، وجاء في "البحر" (10/ 261) نقلاً عنه أيضًا:(ولا يقع إلا يسير منه).
(3)
في (م): "اعتراف".
(4)
في (ف): "أي".
{وَقَالُوا مَهْمَا} أصله: (ما) الشرطيةُ ضمَّت إليها (ما) المزيدةُ للتأكيد
(1)
، ثم قُلبت ألفها هاءً لئلا يُتوهم
(2)
التكرير، وهو مبالغةٌ في التعميم.
ومحلُّها الرفع على الابتداء، أو النصبُ بفعلٍ يفسِّره:{تَأْتِنَا بِهِ} ؛ أي: أيَّ شيء تُحْضِرنا تأتنا به {مِنْ آيَةٍ} بيان لـ {مَهْمَا} وإنما سمَّوها آيةً استهزاءً، ولذلك قالوا:{لِتَسْحَرَنَا بِهَا} ؛ أي: لتسحر بها أعينَنا، والضميران لـ (مهما)
(3)
: الأول باعتبار اللفظ، والثاني باعتبار المعنى.
وعدلوا في الجزاء عن: لن نؤمن، إلى الجملة الاسمية مع تأكيد النفي بالباء، وتحقيقِ الجزاء بزيادة (ما)، حيث قالوا:{فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: فلا تشتغل بإيرادها فما نحن لك بمصدقين أنها من عند الله تعالى، وهذا منهم غايةُ الضلالة والعناد؛ إذ كذَّبوه بما لم يأت به بعدُ، وأظهروا أنهم مصرُّون على كفرهم أبداً، غيرُ منقادين للحق وإن ظهر وبدا.
* * *
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الطوفان هو الماء المُغرِق
(4)
.
(1)
في هامش (م): "ما هذه في موضع لن في الأصل، بل في لن معنى زائد وهو تأكيد نفي الاستقبال. فتأمل".
(2)
في (ك): "يوهم".
(3)
في النسخ: "والضميران لما"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 146)، و "البحر"(10/ 263)، و "روح المعاني"(9/ 308).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 146)، و "البحر"(10/ 263). ورواه الطبري في "تفسيره"(10/ 379 و 380).
وقال جماعة: هو المطر المتتابع المُضِرُّ.
وهو في اللغة: ما طاف بالقوم وغلبهم من ماءٍ أو مرضٍ أو غيرهما.
{وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} : هي كبار القُراد
(1)
{وَالضَّفَادِعَ} : جمع ضِفْدِع {وَالدَّمَ} .
روي أنهم مُطروا
(2)
ثمانيةَ أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم ولم يدخلها قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، فقالوا لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يكشفْ عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فكشف عنهم ونبت لهم من الزرع ما لم يُعهد مثله فلم يؤمنوا، فبعث الله تعالى الجراد فأكلت عامة زروعهم
(3)
وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ولم يدخل بيوتَ بني إسرائيل منها شيءٌ، ففزعوا إلى موسى عليه السلام ووعدوه التوبة، فرُفع عنهم ثم لم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمَّل فأكل ما أبقاه الجراد، وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين
(4)
أثوابهم وجلودهم فيمصُّها، ففزعوا إليه عليه السلام فرُفع عنهم، فقالوا: قد تحقَّقْنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله تعالى عليهم الضفادع بحيث لا يُكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم، وتَثِبُ إلى قدورهم وهي تغلي، وأفواهِهم عند التكلُّم، ففزعوا إليه عليه السلام وتضرَّعوا، فأخذ عليهم العهود
(1)
في (ف) و (م): "القرد".
(2)
في هامش (م): "على ما سبق آنفاً صوابه: أمطروا". قلت: و (مُطروا) صحيحة أيضًا. انظر: "مختار الصحاح"(مادة: مطر).
(3)
في (ك): "زرعهم".
(4)
في (ف): "في".
ودعا فكَشف الله تعالى عنهم فنقضوا العهد، ثم أرسل الله تعالى عليهم الدمَ فصارت مياههم دماً، حتى كان يجتمع القِبْطيُّ مع السِّبْطيِّ على إناء، فيكون ما يليه دماً وما يلي السِّبطيَّ ماءً، ويمصُّ الماء من فم السِّبْطي فيصيرُ دماً في فيه.
{آيَاتٍ} نصبٌ على الحال {مُفَصَّلَاتٍ} مميَّزاتٍ بعضها من بعضٍ، بين كل اَيتين فصلٌ ومدةٌ، ليُتأمل في كلِّ واحدة حقَّ التأمل، كانت إذا أتتهم اَيةٌ [منها]
(1)
أقامت عليهم أسبوعاً ثم تُقلع عنهم شهراً، ثم تأتيهم أخرى تأكيداً للحجة عليهم، كأنه يقول: قد قالوا: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} لكنا تابعنا لهم الآية ولم نقطع عنهم البراهين بما أَظهروا من الجهالات.
{فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} : فتعاظَموا عن الانقياد للحق والإيمانِ بموسى عليه السلام، وكانوا قد اعتادوا الآثام والإجرام، واكتسابَ أنفسهم العذابَ اللِّزام.
* * *
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} ؛ أي: الطاعون، فمات من القِبْط سبعون ألف إنسان.
وقيل: هذا العذابُ المفصَّلُ. وفيه: أن المناسب حينئذٍ تصدير الكلام بـ: كلما.
{قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} فيه آيةُ غايةِ عنادهم، حيث قالوا:{رَبَّكَ} دون: ربَّنا؛ إظهاراً للإصرار على الإنكار في مقام العجز والاضطرار.
(1)
"منها" سقط من "ك".
{بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} ؛ أي: بذمامك ومَيلك
(1)
إليه، فهو يعمُّ جميع الوسائل بين الله تعالى وبينه عليه السلام من طاعةٍ منه ونعمةٍ من الله تعالى.
وهو صلةٌ لـ {ادْعُ} ؛ أي: ادع لنا ربَّك يكشف عنا العذاب بحقِّ ما عندك من عهدِ الله، أو بمعنى الحال؛ أي: متوسلاً إليه بعهده عندك، أو قسمٌ جوابه {لَنُؤْمِنَنَّ}؛ أي: بعهد الله عندك {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} ، ويجوز أن تكون موصولةً؛ أي: بالذي عَهِدَه إليك أن تدعوَه به فيجيبَك.
وفي إسناد الكشف إليه عليه السلام حيدةٌ عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم به.
{وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إنما زاد قوله: {مَعَكَ} لأنَّه عليه السلام كان طالباً لإرسالهم معه حيث قال: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17].
* * *
(135) - {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} .
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} الفاء فصيحة عاطفةٌ على مقدَّر؛ كأنه قيل: فدعا موسى ربه فكشف عنهم الرجز فلما .. إلخ.
{إِلَى أَجَلٍ} : إلى حدٍّ من الزمان {هُمْ بَالِغُوهُ} مهلَكون فيه، وهو وقت الغرق.
لا يقال: إن منهم مَن مات قبل الغرق، ومنهم من بقي بمصر. لأن لحاق
(2)
الكلام يدفعه على ما ستقف عليه.
(1)
في (ف): "بزمانك ومنك"، وفي (م):"بزمانك وميلك".
(2)
في (ف) و (ك): "إلحاق".
بولغ في وصف الأجل بالجملة الاسمية مع تجريد الخبر عن شائبة الحدوث؛ إشارةً إلى ضرورة بلوغهم الحدَّ المقدَّر لهم ولزومِه.
{إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} جواب لـ (لمَّا)؛ أي: لمَّا كشفنا عنهم الرجز فاجؤوا بالنكث وبادروه من غير توقُّفٍ وتأمُّل.
* * *
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ؛ أي: أحللنا بهم النقمةَ، وهي ضد النعمة.
{فَأَغْرَقْنَاهُمْ} الفاء تفسيرية كما في قولك: رُزق زيدٌ المالَ فمنع المعروف فلم يُحسن إلى الفقراء
(1)
.
{فِي الْيَمِّ} وهو البحر الذي لا يدرَك قعره، وقيل: هو لجَّة البحر ومعظَم مائه، وهذا صريح في أن الناكثين كلَّهم هلكوا بالغرق.
{بِأَنَّهُمْ} : بسبب أنهم {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} والآيات: هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام
{وَكَانُوا عَنْهَا} ؛ أي: عن آياتنا {غَافِلِينَ} غفلتُهم من جهة دلالتها على صدق موسى عليه السلام في دعوى الرسالة غفلةُ عن تلك الآيات في الحقيقة؛ لأنها بدون الدلالة المذكورة لا تبقى آياتٍ، وهذه الغفلة هي سببُ التكذيب.
* * *
(1)
في هامش (ف): "صاحب الكشاف مع وقوفه بهذه الفاء ومع إيراده هذا المثال في تفسير سورة المؤمن ذهب هنا إلى صرف انتقمنا عن ظاهره. منه".
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} بالاستبعاد وهم بنو إسرائيل {مَشَارِقَ الْأَرْضِ} يعني: أرضَ الشام {وَمَغَارِبَهَا} .
ملَّكهم الله تعالى بعد الفراعنة والعمالقة نواحيَها الشرقيةَ والغربيةَ، وتصرَّفوا فيها كيف شاؤوا، وصيغة الجمع للمبالغة في سعتها من جهة الخصب والبركة.
{الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالخصب وسعة العيش، وهذا ظاهر في أن المراد أرضُ الشام لا أرضُ مصر، ولأن
(1)
القوم المستضعفين لم يعودوا إلى ديار مصر بل أقاموا في الأرض المقدسة.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} تحقَّقت عِدَتُه الحسنى بالتمكين في الأرض وتقرَّرتْ بالإنجاز، وهي قوله:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6].
وقرئ: (كلمات ربك)
(2)
؛ لأنها كانت مواعيد.
{بِمَا صَبَرُوا} : بسبب صبرهم، وكفى به حاثًّا على الصبر.
{وَدَمَّرْنَا} : خرَّبنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من القصور والعِمارات {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} من الجنات، أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان، وأصل التعريش: الترفع
(3)
.
(1)
في (م): "لأن" دون واو.
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45).
(3)
في هامش (م): "في نسخة: الترفيع".
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} ؛ أي: البحرَ الذي غرق فيه فرعون وقومه، وهو بحر القُلْزُم.
لم يقل: وجاوز بنو إسرائيل البحر، تنبيهاً على أن جوازه كان خارقاً للعادة، خارجاً عن طور
(1)
البشر، ثم إن: جاوَزَ به، أبلغ من: أجازه، كما أن: ذَهَب به، أبلغ من: أَذْهَبه.
ذكر ما أَحدثوه بعد هلاك
(2)
عدوِّهم وإنجائهم من الأمور الشنيعة عقيبَ ما رأوا من الآيات العظام والنِّعم الجِسام؛ تسليةً لرسول الله عليه السلام مما رأى منهم بالمدينة، وإيقاظاً للمؤمنين لئلا يغفلوا عن سياسة نفوسهم ومحاسَبتها، وحراسةِ أحوالهم ومراقبتها.
{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ} فمروا عليهم {يَعْكُفُونَ} يقيمون {عَلَى أَصْنَامٍ} على عبادتها، قيل: كانت تماثيلَ بقر، وذلك أولُ شأن العجل، وإنما قال:
{لَهُمْ} تنبيهاً على غاية حماقتهم، حيث عبدوا ما يملكونه.
{قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} : صنماً نعكف عليه {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} : أصنامٌ يعكفون عليها، و (ما) كافَّةٌ للكاف، ولم يقل: كآلهتهم؛ لأن مشابهَتَها غيرُ مقصودة، إنما مقصودهم أن يكون لهم أيضًا إلهٌ.
{قَالَ} موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تعجَّب من قولهم بعد ما رأوا
(1)
في (م): "طوق".
(2)
في (م): "إهلاك".
الآية العظمى والمعجزة الكبرى فجهَّلهم، وأكَّد جهْلَهم بالإطلاق، وتكرير النسبة، وتقويتِها بـ (إنَّ)، وإيرادِ الفعل المضارع الدالِّ على التجدُّد الدائم؛ إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في حال
(1)
.
* * *
(139) - {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{إِنَّ هَؤُلَاءِ} ؛ أي: عبدةَ تلك التماثيل {مُتَبَّرٌ} مكسَّر مدمَّر {مَا هُمْ فِيهِ} ؛ أي: يُتبِّر [الله]
(2)
الذي هم عليه على يديَّ ويحطِّم أصنامهم ويجعلُها رُضاضاً
(3)
.
{وَبَاطِلٌ} : مضمحِلٌّ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من عبادتها.
بالَغ في تحذيرهم وتنفيرهم عمَّا طلبوا إليه بإيراد
(4)
{هَؤُلَاءِ} اسماً لـ {إِنَّ} ، وتقديم الخبر في الجملتين بعده، وإيقاعِ {كَانُوا}؛ أي: إن هؤلاء الذين عبدوا الأصنام هم المعيَّنون المعرَّضون بوسمهم وعبادتهم لها للتتبر
(5)
، وأنَّه لا يَعْدُوهم البتةَ، وأنَّه لهم ضربةُ لازبٍ، وهباءٌ ما هم فيه، وما عملوا من شيء من عبادتها فيما سلف من الزمان إلا وهو باطل مضمحلٌّ
(6)
، وإن كان في زعمهم أنه تقرُّبٌ إلى الله تعالى.
(1)
في (ف) و (ك): "الحال".
(2)
ما بين معكوفتين من "الكشاف"(2/ 150)، و "تفسير البيضاوي"(3/ 32)، و "روح المعاني"(9/ 324).
(3)
في (ف) و (م): "ركاضاً".
(4)
في هامش (م): "لعله لفظ صلة هنا ساقط".
(5)
كذا في النسخ، ولعل الأنسب بالسياف:(للتتبير)؛ لأنَّه هنا من: تبَّر، ومصدره: التتبير.
(6)
"مضمحل" من (م).
ثم أنكر عليهم ما طلبوا وتعجَّب من طلبهم عبادة غير الله تعالى مع كونهم مغمورين في نعمه
(1)
بالهمزة وتقديم المفعول فقال:
(140) - {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ} ؛ أي: أغير المستحِقِّ للعبادة {أَبْغِيكُمْ} : أطلب لكم {إِلَهًا} : معبودًا {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} : وهو الذي فعل بكم ما فعل دون غيره؛ من الاختصاص بالنعمة التي لم يُنعم بها على أحد من العالمين.
وفيه تنبيه على سوء مقابَلتهم، حيث قابلوا تخصيص الله تعالى إياهم من أمثالهم بما لا يستحقُّونه تفضُّلًا بأنْ قصدوا أن يُشركوا به أخسَّ شيء من مخلوقاته.
والمراد من {الْعَالَمِينَ} : عالَمِي زمانهم.
وانتصب (غيرَ) مفعولاً بـ {أَبْغِيكُمْ} و {إِلَهًا} تمييز عن (غير) أو حال، أو على الحال و {إِلَهًا} المفعول، فكان (غير) صفةً فلما تقدَّم انتصب حالاً.
* * *
ثم ذكر نعمة الإنجاء وما يتبعه: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} : واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت.
{يَسُومُونَكُمْ} : يبغونكم، استئنافٌ لبيان ما أنجاهم، أو حالٌ من المخاطَبين، أو من {آلِ فِرْعَوْنَ} ، أو منهما، {سُوءَ الْعَذَابِ}: شدتَه {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} بدل منه مبيِّنٌ، والمعنى مبيَّنٌ فيما سبق.
(1)
في (ك): "نعمته".
{وَفِي ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى الإنجاء أو العذاب {بَلَاءٌ} : نقمةٌ، أو محنةٌ {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} وزيادة قوله:{مِنْ رَبِّكُمْ} يرجِّح المعنى الأول.
* * *
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} : ذا القعدة {وَأَتْمَمْنَاهَا} الضمير عائد للمُواعَدة المفهومة من (واعدنا){بِعَشْرٍ} من ذي الحجة، وحذفت الهاء من (عشر) لأن العدد من مؤنث.
{فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} الميقات: وقتٌ قدِّر فيه عملٌ من الأعمال، وفي عبارة {رَبِّهِ} إشارةٌ إلى أنه لمصلحته عليه السلام وتربيته.
{أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} مفعولٌ به لـ (تَمَّ)؛ لأن معناه: بلغ، ويجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من الفاعل وأصله: فتمَّ أربعون ميقاتِ ربه؛ أي: كملت، ثم أسند التمام لـ {مِيقَاتُ} وانتصب (أربعون) على التمييز.
ودلت الآية على أن التاريخ بالليالي دون الأيام، وهذا لأن اللياليَ أوائلُ الشهور، روي أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مَهلك فرعون بكتابٍ من الله تعالى فيه بيانُ ما يأتون وما يذَرون، فلمَّا هلك سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خُلوفَ فيه فتسوَّك، فقالت الملائكة: كنا نَشْتمُّ
(1)
منك رائحة المسك فأفسدْتَه بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشراً.
(1)
في (ك): "نشم".
{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} : كن خليفتي فيهم {وَأَصْلِحْ} ما يجب أن يُصلح من أمورهم، أو: كن مصلِحاً فيهم.
{وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ؛ أي: لا تتَّبع المفسدين في سبيلهم، كقوله:{لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]؛ أي: لا يهدي الخائنين في كيدهم، وهو أسلوب بديعٌ لم يتنبه له الناظرون في كلام الله تعالى، ويجوز أن يكون على طريقةِ التَّضمين؛ أي: ولا تسلك سبيل المفسدين متَّبعاً لهم.
* * *
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} : لوقتنا الذي وقَّتنا له وحدَّدناه، واللام للاختصاص؛ أي: اختَصَّ مجيئه بميقاتنا.
{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} بغير واسطةٍ، كما يكلِّم الملائكةَ، وروي أنه عليه السلام كان يسمع ذلك الكلامَ من كل جهةٍ، وذلك لأن الله تعالى ليس في جهةٍ، وكلامَه ليس من جنس كلام المحدِّثين.
والعدول عن الظاهر وهو: وكلَّمناه، إلى ما ذكر كالعدول عن: ميقاتنا، إلى {مِيقَاتُ رَبِّهِ} والنكتةُ مشترَكة بينهما.
{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : أرني نفسك بأنْ تتجلَّى لي فأنظرَ إليك وأراك، وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزةٌ في الجملة؛ لأن طلب المستحيل على الأنبياء
عليهم السلام محالٌ، وخصوصاً بما
(1)
يتعلق بمعرفة الله تعالى ويقتضي الجهلَ به، وردُّه بقوله:{لَنْ تَرَانِي} ليس لامتناع رؤيته تعالى في نفس الأمر، وإلا لقال: لن أُرى، بل لقصورِ الطالب عن رؤيته لبقية الحجاب، فهي موقوفة على ارتفاعه.
وجَعْلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] ليس بشيء؛ لأن حقَّه عليه السلام في أن يجهِّلهم ويزيلَ شبهتهم كما فعل بهم حيث قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} .
والاستدلال على استحالتها بالجواب أبعدُ عن الصواب؛ إذ لا دلالة فيه على أن لا يراه عليه السلام أبداً، ولا على أنْ لا يراه غيرُه أصلاً، فضلاً من أنْ يدل على استحالتها، ودعوى الضرورة فيه مكابرةٌ أو جهالةٌ لحقيقة الرؤية.
{قَالَ لَنْ تَرَانِي} ؛ أي: لن تُطيق أنت أن تراني.
{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} استدراك يريد أن يبيِّن به أنْ لا يطيقُه، فإنَّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقرَّ فالآدميُّ مع ضعف بِنيته أولى أن لا يستقرَّ، وهذا تسكين لقلب موسى عليه السلام، وتخفيفٌ عنه ثقلَ أعباء المنع.
ولا يذهبْ على مَن نَظر بعينِ الإنصاف وتجنَّب عن التعصُّب والاعتساف أنه ليس بجوابِ مَن سأل محالاً، وقد قال الله تعالى لنوح عليه السلام:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] فلو سأل موسى عليه السلام محالاً لكان في الجواب زجراً مّا.
{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} بعد رفعِ الموانع من البين علَّق رؤيته بالاستقرار، وهو أمر ممكنٌ في نفس الأمر، ففُهم منه أنه ممكنٌ في نفسه، لكن المانع
(1)
في (ف): "ما".
من جهته على ما دل عليه قوله تعالى: {وَ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] حيث قال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ولم يقل: ما كان له تعالى، أتى بالتعليق ثم بالتسويف مبالغةً في تعذُّر المطلب: أما التعليقُ فلبيانِ أن الطاقة البشرية لا تتحمل رؤيته تعالى، وأما التسويف فلبيانِ أنه على تقدير التحمُّل لا بد من ارتفاع موانع زوالها تدريجيٌّ يقتضي مهلةً ومدةً.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ؛ أي: ظهر له ظهورَ المرئيِّ للرائي بأنْ خلق الله تعالى فيه حياةً وحسًّا، وهذا المعنى هو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
، وهو الموافق لمساق الكلام، المطابقُ لأصل أهل السنَّة والجماعة، ومَن صرَفه عن الظاهر فقد دسَّ فيه مذهب الاعتزال.
{جَعَلَهُ دَكًّا} الدكُّ والدقُّ أخوان كالشَّكِّ والشَّقِّ، وإنما قال:{دَكًّا} مبالغةً - كـ: رجلٍ عدلٍ - والمجازُ عقليٌّ، فمَن فسره بالمدكوك على أنه مصدرٌ بمعنى مفعولٍ والمجازُ لغويٌّ فقد أخرجه إلى شيء مغسول، على طريقة كلامٍ عاميٍّ مرذول.
فإن قلتَ: أليس صحةُ
(2)
المرام وصدقُ الكلام يقتضي معنى المدكوك؟
قلت: لا نزاع فيه، إنما الخلاف في طريقة
(3)
إفادته وكيفية إرادته من عبارة الدك.
وقرئ: {دَكَّاءَ}
(4)
أي: أرضاً مستوية.
وقُرئ: (دُكًّا)
(5)
؛ أي: قطعاً، جمعُ دكَّاءَ تأنيثِ أَدَكّ.
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 451)، و "البحر"(10/ 296).
(2)
في (ك): "حجة".
(3)
في "ك": (طريق).
(4)
هي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 113).
(5)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45).
{وَخَرَّ} : سقط {مُوسَى صَعِقًا} مغشيًّا عليه كحالِ مَن تصيبه الصَّعقةُ، لا لهولِ ما رأى من تلاشِي الجبل وإلا لكان حقُّ النظم العطفَ بالفاء، ولمَّا عُطف بالواو عُلم أنه أيضًا ترتَّب على التجلِّي للجبل.
{فَلَمَّا أَفَاقَ} ؛ أي: من غشيته {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} قال الإمام أبو نصر: خرج هذا الكلام منه عليه السلام مخرجَ العادة عند رؤية الأفزاع حسَب ما يجري على ألسنة الأنام عند الأخطار، لا عن ذنبٍ يتذكَّرونه فيتوبون عنه، ونظيرُ هذا التسبيحِ ما في قول عيسى عليه السلام:{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] ونظير ذكر التوبةُ من غير ذنب ما في قول النبيِّ عليه السلام في كلِّ يوم مئةَ مرة: "أستغفر الله وأتوب إليه"
(1)
.
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: بما أُخبرت به في حق الرؤية من أنه لا يُطيقها هذه البنية للبشر
(2)
، وإنما أخفى عليه السلام عليه إلى
(3)
ذلك الوقتِ أنه لا يُعطي الخلق رؤيته في الدنيا مع جوازها ليوجَد منه عليه السلام سؤالُ الرؤية بناءً على معرفة جوازها؛ ليتحقق جواز الرؤية بسؤاله عليه السلام ذلك، فيكونَ حجة قاطعة لأهل الحق على المنكرين له من أهل البدعة.
* * *
(1)
رواه مسلم (2702) من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.
(2)
في (ف): "للبشرية".
(3)
تحرفت في (ف) و (ك) إلى: "أي"، وسقطت من (ف) و (م):"عليه".
{قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} اخترتك {عَلَى النَّاسِ} الموجودين في زمانك، وهارون عليه السلام وإن كان نبيًّا وأكبرَ منه سنًّا لكنه كان وزيراً له مأموراً باتِّباعه، لا كليماً ولا صاحب شرع
(1)
.
{بِرِسَالَاتِي} قرئ على الجمع؛ إذ الذي أُرسل به ضروبٌ، وعلى الإفراد على أن محل الرسالة محل المصدر الذي هو الإرسال
(2)
.
{وَبِكَلَامِي} يعني: أسفارَ التوراة، وإنما أخره لأن الرسالة أسبق زماناً، أو للانتقال من الشريف إلى الأشرف.
{فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} : أعطيتك من الرسالة والحكمة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} من المعروفين بالشكر، وهذا أبلغ من الأمر بالشكر على النعمة بوجوه.
روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة يوم النحر.
* * *
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} لفظ {كُلِّ} هنا للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم، كما في قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23].
والألواح: جمع لوح، وهو الصحفة المهيَّأة للكتابة فيها، وإنما قال:{لَهُ}
(1)
في هامش (م): "فالنظم خلو عن التنبيه على الاصطفاء بالتكلم وهو في هذا الباب أبلغ من غيره".
(2)
هي قراءة نافع وابن كثير، وقرأ باقي السبعة بالجمع. انظر:"التيسير"(ص: 113).
لأن الوقوف
(1)
بالمكتوب فيها على تفصيل كل شيء كان مخصوصاً به عليه السلام.
{مَوْعِظَةً} : تحذيراً بما يَزجر عن القبح، وتبصيراً
(2)
بمواقع الخوف والحذر، وهي مفعول له لا البدل من الجار والمجرور؛ لأن المعنى الذي ذكرنا مقصودٌ بالإفادة في المقام.
{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} من المصالح الدينية والدنيوية.
{فَخُذْهَا} عطف على (كتبنا) على إرادة القول؛ أي: فقلنا: خذها، والضمير للألواح.
{بِقُوَّةٍ} : بجدٍّ وعزيمة.
{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} بواجباتها؛ فإنها أحسنُ من غيرها، أو: بما هو واجب وندبٌ فإنه أحسنُ من المباح، أو: بأحسنِ ما فيها، ما هو حسنٌ وأحسنُ كالصبر بالنسبة إلى الانتصار؛ أي: مُرهم باختيار الأفضل على طريقة الندب.
{سَأُرِيكُمْ} من رؤية العين، ولهذا تعدَّت إلى اثنين.
{دَارَ الْفَاسِقِينَ} الذين أهلكهم الله تعالى بفسقهم، فينتظِمُ دارَ فرعون وقومه، ودارَ العمالقة، ومنازلَ عادٍ وثمودَ، وموعظةً بليغةً تجري مجرى الوعيد على ترك الطاعة؛ أي: وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، ويطيعوا ولا يهملوها وَيفسقوا، سأريكم
(3)
دارَ مَن فَسَق منعوه بهلاكهم ليعتبروا.
(1)
في (ف) و (م): "الموقوف".
(2)
في (م): "وتصييراً". وفي (ك): "وتبصير".
(3)
في (م): "ولا يفسقوا فسأريكم".
وقرئ: (سأُوريكم)
(1)
؛ أي: سأبيِّن لكم، من أَوْرَيتُ الزَّند، وهي لغة فاشية بالحجاز.
وقرئ: (سأورثكم)
(2)
على وفق قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ} .
* * *
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} في الآفاق حتى لا يتفكَّروا في خلقها ولا يعتبروا بها، وفي الأنفس حتى لا يروا فناها
(3)
ويُعجَبوا بها.
{الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} : يتعظَّمون عن الانقياد للأنبياء عليهم السلام طلبًا
(4)
للعلوِّ والرئاسة.
وإنما قال: {فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى كونهم من العالم السفلي الذي لا يليق الرفع بشأنِ مَن كان منها
(5)
، ففيه تمهيدٌ لقوله:
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ؛ أي: بدون الاستحقاق، حالٌ من فاعل {يَتَكَبَّرُونَ} أو صلةٌ؛
(1)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 45 - 46)، و"المحتسب"(1/ 258)، و"البحر"(10/ 308).
(2)
نسبت لابن عباس وقسامة بن زهير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46)، و"البحر"(10/ 309).
(3)
"فناها"من (م).
(4)
في (م): "طالبًا"، وقال في الهامش: في (ظ): "طالبين ".
(5)
في (ك): "فيها".
أي: يتكبرون بما ليس بحق، أي: بباطل، وفيه إنذارٌ للمخاطبين من عاقبة المتكبرين الذين طُبعوا على قلوبهم بسبب شآمة
(1)
التكبُّر، فلا يتفكروا في آيات الله تعالى.
{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} إذ لا يعتبرون بها غفلةً وانهماكًا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم.
{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} ، لاستيلاء الشيطنة عليهم، وقرئ:{الرُّشْدِ} بفتحتين
(2)
، وقرئ:(الرَّشاد)
(3)
، وثلاثتُها لغة.
{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} أراهم الله تعالى السبيلين، قال الله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ورأوهما فآثروا الغيَّ على الرّشد، قال
(4)
الله تعالى {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} ؛ أي: ذلك الصرفُ بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، أو نصب على المصدر؛ أي: سأصرفهم ذلك الصرفَ بسببهما، ويجوز أن يكون قوله:{وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} استئنافُ إخبارٍ منه تعالى عنهم؛ أي: من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبُّرها فأورثَتْهم
(5)
الغفلةُ التكذيبَ بها.
هذا ما قيل، والوجه عندي هو أن يكون إشارةً إلى التكبر؛ لأن سبب الصرف قد طُم من قوله:{الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} لِمَا تقرر في الأصول أن ترتيب
(1)
قوله: "المتكبرين الذين طبعوا على قلوبهم بسبب شامة" من (م).
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ باقي السبعة {الرُّشْدِ}. انظر:"التيسير"(ص: 113).
(3)
نسبت لعلي رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46).
(4)
في (م): "وقال".
(5)
في النسخ: "وتدبيرها وأورثهم "، والمثبت من "البحر"(15/ 312)، والكلام منه.
الحكم على الموصول يدلُّ على علِّيَّة الصلة له، إنما المحتاج إلى البيان سببُ ذلك التكبُّر
(1)
، فالكلام على ما ذكرنا يكون على أحسن وجوه الانتظام، حيث يُشار فيه أولًا إلى أن سبب الصرف هو التكبُّر عن الانقياد للأنبياء عليهم السلام، ثم يصرَّح بأن سبب التكبر تكذيبُ المعجزات الدالةِ على صدقهم، ثم ينبَّه على أن سبب التكذيب انهماكُ المتكبرين في أسباب الغفلة عن جهة دلالة الآيات المذكورة على صدقهم في دعوى النبوة، وإعراضِهم عن النظر فيها، ولا بد من صرف القول المذكور عن ظاهره، وتأويله بالوجه المزبور، كيلا يكون مَظِنّةَ الاعتذار من جهتهم.
* * *
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} من باب إضافة المصدر إلى المفعول به؛ أي: لقائهم
(2)
الآخرةَ، أو إلى الظرف؛ أي: ولقاءِ ما وعد الله في الآخرة.
{حَبِطَتْ} ؛ أي: بَطَلت وتلاشت {أَعْمَالُهُمْ} فلا ينتفعون بها، واحتمالُ عموم الأعمال للسيئات أيضًا قد اندفع بقوله:
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا يجزون إلا جزاءَ ما عملوا من الكفر والمعاصي.
* * *
(1)
في "ك ": (التذكر).
(2)
في (م): "ولقاءهم".
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} : من بعد مفارقته عليه السلام إياهم إلى الطور للميقات.
{مِنْ حُلِيِّهِمْ} الذي استعاروا من القِبْط حين همُّوا بالخروج من مصر، وإضافتُها إليهم للملابَسة؛ لأنها كانت في أيديهم، وأما ما قيل: إنهم ملَكوها بعد المهلَكين فلا صحة له لفظًا ولا معنى:
أما الأول: فلأن التدافُع بين الوجهين يأبى عن عبارة التلاوة
(1)
.
وأما الثاني: فلأن المهلَكين هم الرجال والحليُّ كانت لنسائهم.
وقيل: هذا الحليُّ ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وعلى هذا يصح الوجه الثاني.
والحُليُّ بضم الحاء: جمعُ حَلْيٍ؛ كثُدِيٍّ وثَدْيٍ، وهو اسمُ ما يُتزين به من الذهب
(2)
، وقرئ:{حُلِيِّهِمْ} بكسرها
(3)
بالإتْباع كدِليٍّ، وقرئ بالإفراد
(4)
.
{عِجْلًا} لمَّا كان المتبادِرُ أن يكون عجلًا حقيقةً أبدل عنه قوله: {جَسَدًا} لا روح فيه، لم يقل: بدنًا؛ لأن الرأس وسائرَ الأطراف خارجٌ عنه.
(1)
في (ف) و (م): "العلاوة".
(2)
في (م) زيادة: "والفضة".
(3)
هي قراءة حمزة والكسائي، وقرأ باقي السبعة:{حُلِيِّهِمْ} . انظر: "التيسير"(ص: 113).
(4)
هي قراءة يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 272).
{لَهُ خُوَارٌ} : صوت البقر، قيل: إن السامري لمَّا صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيًّا.
وقيل؛ صاغه بنوع من الحيل، فيدخل الريح جوفَه ويصوِّت.
ونسبة الاتخاذ إليهم لا لأنهم رضوا بفعله، بل لأن المراد اتخاذُهم إياه إلهًا على ما دل عليه التشنيع الآتي ذكرُه، وإنما حُذف قوله: إلهًا، لدلالة مساق الكلام عليه، وفيه إيهام أن ما صنعوا أمر منكر مع قطع النظر عن عبادته، وقرئ:(جُؤار)
(1)
، أي: صياح.
{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} تقريع على فَرْط ضلالهم وإضلالهم بالنظر، أي: ألم يروا حين اتخذوه إلهًا أنه لا يقدر على التكلُّم ولا على الإرشاد كآحاد البشر، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقُوى والمُدر.
ولما كان الإرشاد إلى السبيل ممكنًا بالإشارة كان نفيُ الثاني أبلغَ فأخِّر على طريقة التَّرقِّي.
{اتَّخَذُوهُ} تكريرٌ للذم؛ أي: أقدَموا على ما أقدَموا عليه من المنكَر الفظيع.
{وَكَانُوا ظَالِمِينَ} ، أي: قومًا عادتُهم وضعُ الأشياء على
(2)
غير مواضعها، فلم يكن هذا بِدْعًا منهم ولا أولَ مناكيرهم.
* * *
(1)
نسبها ابن خالويه لأبي السمال العدوي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46).
(2)
"على" من (م).
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} كنايةٌ عن اشتداد ندمهم وتحسُّرهم؛ لأن مِن شأن النادم الشديد التحسُّر أن يَعَضَّ يده غمًّا، فتصير يده مسقوطًا فيها؛ لأن فاه قد
(1)
وقع في يده بلا اختيار.
وقرئ: (سَقط) على البناء للفاعل
(2)
كمرض
(3)
؛ أي: وقع العضُّ فيها.
وقال الزجَّاج: إنه تشبيه بما يحصل في النفس وتصويرٌ للمعقول في القلب، فمعناه: سقط الندم في أنفسهم؛ كما يقال: حصل في يده مكروه
(4)
.
{وَرَأَوْا أَنَّهُمْ} وعلموا أنهم {قَدْ ضَلُّوا} باتخاذه {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} وقرئ: (ربَّنا) بالنصب على النداء
(5)
.
انقطاع إلى الله تعالى، واعترافٌ بعظَم ما أَقدموا عليه، ولما كان ذنبُهم أعظمَ الذنوب بدؤوا بالرحمة التي وسعت كلَّ شيء، ومن نتائجها غفرانُ الذنب
(6)
.
{وَيَغْفِرْ لَنَا} بالتجاوز عن الخطيئة.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : من المغبونين في الدنيا والآخرة.
(1)
"قد"من (ك).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 378)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 46)، و"الكشاف"(2/ 160)، و"المحرر الوجيز"(2/ 455)، و"البحر"(10/ 320).
(3)
قوله: "كمرض"، كذا في النسخ، وهو خطأ؛ لأن المبني للفاعل من (سقط) هو من باب دخل كما في "مختار الصحاح" (مادة: سقط)، بل إن ابن عطية قيد القراءة فقال:(وقرأت فرقة: "سَقَط" بفتح السين والقاف حكاه الرجاج). أما (مرض) فهو مكسور العين فلا يطابق الممثَّل في الوزن.
(4)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 378) بنحوه.
(5)
هي قراءة حمزة والكسائي، قرأا:{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} . انظر: "التيسير"(ص: 113).
(6)
في (ف): "الذنوب".
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} صيغةُ مبالغةٍ {أَسِفًا} : شديدَ الحزن على ما كان منهم في غيبته عليه السلام.
{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} ؛ أي: قمتُم مقامي وكنتم خلَفائي
(1)
حيث لم تمنعوا من عبادة العجل، والخطاب لهارون عليه السلام والمؤمنين معه، أو: بئسما خلفتُموني من
(2)
حيث عبدْتم العجل مكان عبادة الله تعالى، والخطاب لعَبَدة العجل.
{مِنْ بَعْدِي} : من
(3)
ذهابي عنكم، أو: من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والدعوةَ إلى عبادة الله تعالى، والكفَّ عن عبادة غيره، ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة
(4)
المستخلِف.
(ما) نكرة موصوفةٌ مفسِّرةٌ للمستكنِّ في (بئس) منصوبةُ المحلِّ، {خَلَفْتُمُونِي} صفته، والمخصوصُ بالذم محذوف؛ أي: بئس خلافةً خَلَفْتُمونيها من بَعْدي خلافتكم.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} : أتركتُموه غيرَ تامٍّ، استفهامُ
(5)
إنكارٍ، يقال: عَجِلَ عن الأمر: إذا تركه غيرَ تام، إلا أنه ضمِّن معنى (سَبَق) فعُدِّي تعدِيَتَه، يعني: لم تَنْتَظروا
(1)
في (ف) و (ك): "خلفا".
(2)
"من "من (ك).
(3)
قال في هامش (م): "لعله لفظ بعد هنا ساقط".
(4)
في (م) و (ك): "بسير".
(5)
"استفهام" من (م).
وعدَ ربِّكم الذي وَعَدنيه من الأربعين فتركتُم الميعاد غيرَ تامٍّ؛ لقوله تعالى في موضع آخر: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86].
روي أنهم عدُّوا عشرين يومًا بلياليها، فجعلوها أربعين، ثم أحدَثوا ما أحدثوا بعد ما قال لهم السامريُّ: إن موسى عليه السلام لن يرجع، وإنه قد مات، فغيَّروا ما غيرت الأمم بعد موت أنبيائهم عليهم السلام.
{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} : طرحها من شدة الغضب وفَرْطِ الضجر حمية للدين.
قيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح، فلما ألقاها انكسرت فرُفعت ستة أسباعها، وكان فيها كلُّ شيء، وبقي سُبعٌ كان فيها المواعظ والأحكام، ويأباه قوله:{أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} لأن الظاهر منه
(1)
أن المأخوذ هو المَلقيُّ بعينه.
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} ولحيته على ما نصَّ عليه
(2)
في موضعٍ آخر.
{يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} لفَرْط ما دَهمه من الأمر الذي استفزَّه، ظنًا بأخيه أنه قصَّر في الكف.
{قَالَ ابْنَ أُمَّ} في ذكر الأمِّ مع أنهما كانا أخوين لأبٍ وأمٍّ استعظامٌ واسترحامٌ لتذكيره أنهما من بطن واحد بلا شبهةٍ فيه، وأن مراعاة حقِّها أحقُّ وأوجب فإنه أعظم؛ لأنها هي التي قاست المخاوف والشدائد لأجله
(3)
.
قرئ بكسر الميم وطرحِ ياء الإضافة اكتفاءً بالكسرة، وبالفتح لكونها أخفَّ، أو تشبيهًا بخمسةَ عَشَر
(4)
.
(1)
"منه" ليست في (ك).
(2)
"عليه" ليست في (م).
(3)
"لأجله" من (م).
(4)
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر بالكسر، وباقي السبعة بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 113).
{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} ؛ أي
(1)
: لم يَهابوني ولم يستَحْيوا مني.
{وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} ؛ أي: بذلْتُ وسعي في كفِّهم حتى قهروني وقاربوا قتلي، قاله إزاحةً لتوهُّم التقصير في حقِّه.
{فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} : فلا تفعل ما هو أمنيتُهم من الاستهانة بي، وما يَشمتون بي لأجْله، والشماتةُ: فرحة
(2)
العدوِّ بمصائب عدوِّه.
{وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبةِ التقصير.
* * *
(151) - {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما صنعت بأخي {وَلِأَخِي} ضم إليه أخاه في الاستغفار - إنْ عسى فرَّط في حُسن الخلافة
(3)
- ترضيةً له ودفعًا للشماتة عنه.
{وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد الإنعام علينا.
{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : أرحم بنا منَّا على أنفسنا، والو أو للعطف على مقدَّر؛ كأنه قيل: أنت الغفور وأنت أرحمُ
…
إلخ.
(1)
"أي " ليست في (ك).
(2)
في (ف): "فرح".
(3)
قوله: (إن عسى فرط .. ) كذا عبارة الزمخشري، وذكر الطيبي في هذا التركيب إشكالًا ثم أورد بحثا في حله حتى توصل إلى أن المعنى:(واستغفر موسى لأخيه إن فرط في حسن الخلافة)، قال:(ثم أقحم عسى لإعطاء تأكيد معنى إنْ الشرطية، وهو الخلو عن الجزم بوقوع الشرط). انظر: "فتوح الغيب"(6/ 591 - 592).
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} هو ما أمرهم به من قتل أنفسهم، وإنما قال:
{مِنْ رَبِّهِمْ} إشارةً إلى ما في ضمنه من أثرِ الرحمة حيث كان فيه قبول توبتهم، ولهذا قدمه على قوله:{وَذِلَّةٌ} إخراجًا لها عن حيِّز التربية لهم.
{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : هي خروجهم عن ديارهم، وقيل: الجزية.
{وَكَذَلِكَ} مثلَ ذلك الجزاء {نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} على الله سبحانه، ولا فِرْيةَ أعظمُ من فِرْيَتهم: هذا إلهكم وإلهُ موسى، ولعله لم يَفترِ مثلَها أحد قبلهم ولا بعدهم.
* * *
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} من الكفر والمعاصي.
{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} : من بعد السيئات، وعبارةُ {ثُمَّ} للدلالة على أن التماديَ فيها لا يضرُّ بعد ما تاب عنها.
{وَآمَنُوا} ؛ أي: أخلَصوا الإيمانَ؛ لأن أصل الإيمان قد ذكر فيما سبق.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : من بعد تلك العظائم {لَغَفُورٌ} : محَّاءٌ لها وإنْ كبُرت كعبادة العجل، وكثرت كجرائم بني إسرائيل {رَحِيمٌ} بالإمهال وتركِ الاستعجال في الأخذ بالنَّكال.
فكان في عبارة {ثُمَّ} تمهيد لهذا، وتكريرُ {مِنْ بَعْدِهَا} مع {إِنَّ} واللامِ مبالغةٌ في شمول غفرانه وسعة رحمته، عظمت جريمتُهم أولًا ثم عقَّبها بتعظيم مغفرته ورحمته تعظيمًا لا كتعظيمها بل أزيدُ وأزيد ليعلم
(1)
أن الذنوب وإنْ جلَّت فإنَّ عفوه وغفرانه
(2)
وكرمَه وإحسانه إذا تاب صاحبُها وأخلصَ أجلُّ وأعظم، وفيه تحريض على التوبة وحث على الإخلاص.
* * *
{وَلَمَّا سَكَتَ} ضمَّنه معنى زال فعدِّي بـ (عن)؛ أي: زال {عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} ساكتًا، وهو كلام في غاية البلاغة؛ لأن فيه تشبيهَ الغضب بشخصٍ كان يغريه
(3)
على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألقِ الألواح، وخُذ برأس أخيك، على طريقة الاستعارة بالكناية، فكونُ السكوت على حقيقته غيرَ مَجازٍ عن السكوت أبلغُ، أو طريقةِ الاستعارةِ التمثيلية على تشبيه الحال بسكوت الغضب بحال السكوت الناطق الآمر الناهي، وشرطُها أن يكون أجزاء الكلام على معانيها الأصلية.
وقال الزجَّاج: مصدر سَكَت الغضب: سَكْتًا، ومصدر سَكَت الرجل: سكوتًا
(4)
.
(1)
في (ف): "بل أزيد وليعلم".
(2)
"وغفرانه" من (م).
(3)
في (ك): "يقربه".
(4)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 379)، و"البحر" (10/ 331). وما جاء في النسخ من قوله: "
…
سَكْتًا
…
سكوتًا" بالنصب الصواب فيه الرفع على الخبرية، وهكذا جاء في "البحر" بالرفع.
وهذا يقتضي أنه فِعْلٌ على حِدَ؛ وليس من سكوت الناس، ويؤيده قول يونسَ بن حبيب: تقول العرب: سال الوادي يومين ثم سكت
(1)
، فعلى هذا {سَكَتَ} بمعنى:(سكَن)
(2)
وقد قرئ به
(3)
.
وقرئ: (سُكّتَ) و (أُسْكِتَ)
(4)
على أن المسكِتَ هو اللهُ تعالى، أو أخوه بالاعتذار، أو قومه بتوبتهم، وفيه إشارة إلى حُسن إمهال الله تعالى العبدَ إذا تغيَّر عن حاله، وغَلَب عليه ما لا يطيق.
وإذا كان أولو العزم من الرسل يغلبه ما يَصرفه عن الاختيار فكيف الظن بمن دونه؟!
{أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} التي ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا} النُّسخة فُعْلةٌ بمعنى مفعولٍ
(5)
كالخُطْبة وهي المكتوبة؛ أي: فيما نُسخ فيها، يعني: كُتب، والنسخ: النقل، فيقتضي نقل مكتوب من أصلٍ آخر، وقد يُطلق على الكتابة وإن لم يكن نقلٌ من آخَر.
ويجوز أن يكون المعنى: وفيما انْتَسَخ بنو إسرائيل من الألواح.
والوا و في {وَفِي نُسْخَتِهَا} للحال.
{هُدًى} : بيان للحق {وَرَحْمَةٌ} : وإرشاد إلى الصلاح والخير.
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 459)، و" البحر"(10/ 331).
(2)
في هامش (ف): "من هنا ظهر أن القاضي خلط بين المعنيين وغلّط. منه".
(3)
نسبت لمعاوية بن قرة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46)، و"الكشاف"(2/ 163)، و"البحر"(10/ 332).
(4)
انظر القراءتين في المصادر السابقة.
(5)
"بمعنى مفعول" من (م).
{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} : للَّذين يَخُصُّون
(1)
رهبتهم بالله تعالى، والرهبة: خوف معه تحرُّزٌ واضطراب، واللام في {لِرَبِّهِمْ} دخلت جابرةً للضعف العارض للفعل بسبب تأخُّره عن المفعول.
* * *
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ؛ أي: اختار موسى من قومه، فحذف الجارُّ وأُوصل الفعل إليه، وفيه إيهامُ تنزيلِ جلِّ القوم منزلةَ كلِّهم.
{سَبْعِينَ رَجُلًا} القوم لا يكون
(2)
إلا رجالًا، ففائدة قوله:{رَجُلًا} دفعُ احتمال التغليب، والتفخيمُ المستفاد من التنكير.
{لِمِيقَاتِنَا} روي أنه تعالى أمره عليه السلام بأن يأتيه في سبعين من نُجباء بني إسرائيل، فاختار من كلِّ سبط من الأسباط الاثني
(3)
عشر ستةً فزاد رجلان فقال: ليتخلَّف منكم رجلان، فتشاحُّوا
(4)
، فقال: إنَّ لِمَن قعد منكم مثلَ أجرِ مَن خرج، فقعد كالبٌ ويوشعُ وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمامٌ فدخل موسى عليه السلام بهم الغمام، وخرُّوا سجَّدًا، فسمعوه تعالى يكلم موسى عليه السلام يأمره
(1)
في (ك): "يخضعون".
(2)
في (م): "يكونوا".
(3)
في (م): "اثني "، وقال في الهامش: لعله: "الاثني".
(4)
في (م): "فتشاجروا ".
وينهاه، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه عليه السلام وقالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فأخذتهم الرجفة فصُعقوا منها.
{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الاهتزاز والتمايل للهول العظيم، وقيل: هي رجفة الجبل.
{قَالَ} موسى عليه السلام: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} تمنى هلاكه وهلاكهم قبل أن يرى ما رأى، كما يقول المبتلَى ببلية: لو شاء الله لأهلكني قبل هذا، واستَرْحَم الله تعالى فقال: إنك قدرت أن تُهلكنا بسببٍ آخر؛ كإقدار فرعون علينا والإغراق بالبحر وغيرهما، فترحَّمت وأنجيتنا، فإن ترحَّمت مرة أخرى لم يَبْعُد من عَميم إحسانك.
{أَتُهْلِكُنَا} جميعًا {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} من التجاسُر على طلب الرؤية، وكان القائل بعضَهم فسفَّههم.
وقيل: المراد به عبادة العجل، واختيارُ موسى عليه السلام السبعين إنما كان لميقات التوبة، فغشيهم هيبةٌ قلقوا
(1)
منها ورجفوا حتى كادت تَبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك، فخاف عليهم موسى عليه السلام، فبكى ودعا فكشفها الله تعالى عنهم.
{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} : ابتلاؤك
(2)
حين أسمعتَهم كلامك فطمعوا في رؤيتك، أو: أحدثتَ في العجل خُوارًا فضلُّوا به، والضمير للفتنة.
{تُضِلُّ بِهَا} : بالفتنة {مَنْ تَشَاءُ} ضلالَه بالتجاوز عن حدِّه واتِّباعِ المخايل.
(1)
في النسخ: "فألقوا"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 37) والكلام منه.
(2)
في (ف) و (ك): "ابتلاؤهم".
{وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} هدايتَه فتقْوَى بها إيمانه، وكذا كل ابتلاء.
{أَنْتَ وَلِيُّنَا} : مولانا القائمُ بأمرنا {فَاغْفِرْ لَنَا} بمغفرة ما قارفنا {وَارْحَمْنَا} بدفع العذاب عنا.
لمَّا كان هو وأخوه عليهما السلام من المعصومين من الذنوب، فحين سأل
(1)
المغفرة له ولأخيه لم يؤكد المغفرة، بل قال:{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، ولما كان قد اندرج قومه في قوله:{أَنْتَ وَلِيُّنَا} وفي سؤال المغفرة والرحمة، وكان قومه أصحابَ الذنوب، أكَّد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فقال:
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} تغفر الذنب الكبير بالعذر اليسير
(2)
، ثم تَجوده بالعطاء الجزيل الكثير.
* * *
{وَاكْتُبْ لَنَا} ؛ أي: أَثبتْ لنا، الكَتْبُ يستعمل في كل ما يُخلَّد.
{فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} زيادة {هَذِهِ} لتنزيل شأن الدنيا عن شأن الآخرة.
{حَسَنَةً} : عاقبةً وحياةً
(3)
طيبةً، وحُسنَ سيق وتوفيقًا للطاعة.
{وَفِي الْآخِرَةِ} أي: وفيها حسنةً أيضًا، وهي الجنة وما فيها.
(1)
في (م): "سأله".
(2)
"بالعذر اليسير" من (م).
(3)
بعدها في (ف) زيادة: "الدنيا".
{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} : تبنا إليك، مِن هاد يَهُود: إذا رجع.
وقرئ: (هِدْنا إليك) بكسر الهاء من هادَه يَهِيدُه: إذا حرَّكه وأماله
(1)
، ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل وللمفعول، بمعنى: أَمَلْنا أنفسَنا - أو: أُمِلْنا - إليك، ويجوز أن يكون المضموم أيضًا مبنيًّا للمفعول منه على لغةِ مَن يقول: عُود المريض.
{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} تعذيبَه بمقتضَى عدلي.
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} لا يخلو منها مسلم ولا كافر، ولا شيءٌ من الأشياء، ولا اختصاصَ لرحمة الآخرة بمسلمٍ على ما بينَّاه في تفسير سورة الفاتحة.
{فَسَأَكْتُبُهَا} : فسأُثْبتها، والضمير للرحمة.
{لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ والمعاصيَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} خصَّها بالذكر لا لإنافتها لأنها حقُّ الصلاة التي هي عماد الدين، بل لأنها كانت أشقَّ عليهم لحبهم الدنيا.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا} : بجميع آياتنا {يُؤْمِنُونَ} : لا يكفرون بشيء منها.
* * *
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} إما جرُّ صفة لـ (الذين يتقون)، أو بدلٌ منه بدلَ الكلِّ على أن
(1)
تنسب لأبي وجزة السعدي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46)، و"المحتسب"(1/ 260)، و"الكشاف"(2/ 165)، و"المحرر الوجيز"(2/ 460)، و"البحر"(10/ 340).
المراد مَن آمَن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو البعضِ، أو نصبٌ على المدح، أو رفعٌ عليه، أي: هم الذين يتبعون، أو مبتدأ خبره:{يَأْمُرُهُمْ} .
{الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وصفَه بالرسالة باعتبارِ تبليغ الأحكام من الله تعالى، وقدَّمه لأنَّه الأعمُّ حيث يوصف به الملَك، ثم بالنبوة باعتبار إنبائه عن الله تعالى وصفاته، وإخبارِه عن الغيوب وأحوالِ الآخرة، وفيها جهةُ عموم إذا اعتُبر الرسالةُ في بني آدم، فلو اعتُبر بهذه الجهة يكون تقديم الرسالة بالنظر إلى أنه أرسله الله تعالى إلى الخَلق فأنبأهم عنه تعالى، ثم بكونه أميًّا تنبيهًا على أن كمال علمه مع أنه لم يقرأ شيئًا ولم يكتب أصلًا ليس إلا اختصاصًا من عند الله تعالى، واصطفاءً مِن لدُنه وإعجازًا.
والأميُّ: الذي هو على صفة أمة العرب؛ قال عليه السلام: "إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّة لا نَكتبُ ولا نَحسُبُ"
(1)
كأنه نُسب إلى الأم، فإن الولد يُولد من أمِّه غيرَ كاتبٍ ولا قارئ ولا حاسب.
{الَّذِي يَجِدُونَهُ} ؛ أي: يجدون اسمه ونعتَه.
{مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} رفعٌ لذكره، وإشارةٌ بأنه مذكور في كتب الله تعالى أَخبر عنه الأنبياء السابقون، وأقرُّوا بنبوته، وزيادةُ قوله:{عِنْدَهُمْ} لإفادة أنه وجد في الكتابين المذكورَين حال كونهما محفوظَين عندهم
(2)
، فلا احتمالَ لأن يكون ذلك ملحقًا من خارج.
{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} المعروف: ما عُرف بالشرع جهةُ حُسنه، والمنكر: ما عُرف به جهةُ قبحه.
(1)
رواه البخاري (1913)، ومسلم (15/ 1080)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
"عندهم" من (م).
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} التي حرِّمت عليهم كالشحوم وغيرها.
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} كالخمر ولحم الخنزير ونحوِهما، ونسبةُ الحِل والحُرمة إليه عليه السلام لأنَّه مُظهِرُهما، والاختلاف في أداة التعدية لِمَا في الثاني من معنى التكليف دون الأول.
{وَيَضَعُ} : يَحطُّ {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} وقرئ: (أَصْرَهم)
(1)
لأنَّه جنس فيصلح للجمع.
{وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الإصر والأغلال استعارتان لطيفتان للثقل الذي كان عليهم من التكاليف الشاقة المانعة عن حركاتهم بمقتضَى الهوى والقيودِ التي تمنعهم عن اختيارهم.
والإصر في الأصل: الثقل الذي يأصِرُ صاحبه؛ أي: يحبسُه عن الحركة.
أي؛ يخفِّف عنهم ما كلِّفوا به من التكاليف الشاقَّة: كاشتراطِ قتل النفس في صحة التوبة، وقطعِ الأعضاء الخاطئة، والقيودِ الصعبة: كقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريمِ السبت، وأمَّا تعيين القصاص في العمد والخطأ فقد مرَّ ما فيه فتذكَّرْ.
ولا خفاءَ في أن ما أريد بالآصار أشقُّ مما أريد بالأغلال وألصقُ منه، فلذلك ذكرها بالإضافة إليهم دون الأغلال.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} ؛ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، تكريرٌ لتأكيد مدحهم وتعظيمِهم
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46)، و"المحرر الوجيز"(2/ 464)، و"البحر"(10/ 348).
بالصفات المذكورة، وإعلامٌ بأنها هي الموجِبةُ لانحصارِ الفلاح فيهم، والفاءُ للترتيب على ما تقدَّم.
(وَعَزَرُوهُ): منعوه من العدوِّ حتى لا يَقْوَ ى عليه، وقرئ:{وَعَزَّرُوهُ} بالتشديد
(1)
، أي: عظَّموه بالتقوية.
{وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} ، أي: مع نبوَّته، أي: القرآن، وإنما سمي نورًا لأنَّه بإعجازه ظاهرٌ أمرُه ومُظهِرٌ غيرَه، أو لأنَّه كاشفُ الحقائق مُظهِرٌ لها، ويجوز أن يكون {مَعَهُ} متعلقًا بـ (اتبعوا)، أي: واتَّبعوا القرآن مع اتِّباع النبيِّ عليه السلام، فيكون إشارةً إلى اتِّباع السنَّة
(2)
.
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الإشارة بـ {أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بالصفات المذكورة، وإلى أن استحقاقهم للفلاح إنما هو بسببها، وتوسيطُ {هُمُ} وتعريفُ الفلاح قد مرَّ ما يتعلقُ بهما غير مرةٍ.
ومضمونُ الآية جوابٌ لدعاء موسى عليه السلام، متضمِّنٌ لتوبيخ بني إسرائيل على ما صدر منهم من أنواع الكفر والمعاصي، والتعريضِ بهم في تكذيبهم بآيات الله العِظام التي أجراها على يد موسى عليه السلام بقوله: {وَالَّذِينَ
(1)
هي بالتشديد قراءة الجمهور، والتخفيف قراءة شاذة وردت في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 46)، و"المحتسب"(1/ 261)، و"الكشاف"(2/ 166)، و" المحرر الوجيز"(2/ 464)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 37)، و"البحر"(10/ 350). وما شرح به المؤلف قراءة التخفيف قاله الزمخشري في التي بالتشديد، أما شرحه الآتي لقراءة التشديد فهو قول البيضاوي فيها. وكان الأولى بالمؤلف التصدير بالمتواتر بدل الشاذ.
(2)
في هامش (ف): "قال القاضي: اتباع الكتاب والسنة، ولا وجه له لأن إثبات الكتاب مذكور عبارة. منه ".
هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}، وترغيبِهم في الإخلاص والعمل الصالح ببيان حال أعقابهم الذين يتَّبعون النبيَّ المبعوث في آخر الزمان، وتحريضِهم على التصديق بما في التوراة والإنجيل من نَعتهِ
(1)
؛ ليوطِّنوا أنفسهم على الإيمان به طمعًا في الرحمة التي خصَّصها بهم في قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} فيُحشروا معهم وهم عبد الله
(2)
ابن سلَامٍ وأضرابُه
(3)
.
* * *
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} الخطاب عامّ؛ كان كلُّ نبي مبعوثًا إلى قومه خاصةً، ورسولنا عليه السلام إلى الناس كافةً، بل إلى الإنس والجن عامةً.
{جَمِيعًا} حال من {إِلَيْكُمْ} .
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفةُ {اللَّهِ} ، أو بدلٌ منه، ولا يمنعُه الفصل بما هو في حكم المقدَّم، أو نصبٌ على المدح، أو رفعٌ عليه.
أو مبتدأٌ وخبره: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهو
(4)
على الوجوه الأُوَل
(5)
بيانٌ للجملة التي هي الصلة؛ لأن مَن مَلك العالَم كلَّه لا يكون غيرُه إلهًا.
(1)
"من نعته ": ليست في (م) و (ك).
(2)
في (ك): "وعبد الله" بدل: "وهم عبد الله".
(3)
في (ف) و (ك): "وأضرابهم".
(4)
أي: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
(5)
أي: ما تقدم من وجوه في إعراب {الَّذِي لَهُ مُلْكُ
…
}.
وكذلك {يُحْيِي وَيُمِيتُ} بيانٌ لِمَا قبله؛ لأنَّه تقريرٌ لاختصاصه بالألوهية؛ إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيرُه.
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} لمَّا ذكر أنه
(1)
رسولُ الله أمرهم بالإيمان به عليه السلام، وبدأ بالإيمان بالله تعالى لأنَّه أصلٌ يَتفرع عليه
(2)
الإيمان بالرسل عليهم السلام، والتفتَ عن التكلُّم إلى الغيبة تعظيمًا له بتكرار ذكر الرسول وإعادته صفاتِ المدح، وتنبيهًا على أن الذي وجب الإيمان به واتِّباعُه هو
(3)
الموصوف بهذه الصفات لأجْلها كائنًا مَن كان، وإيقاظًا للسامع لئلا يغفل عنه فيتمكَّن وقعُه في نفسه.
{الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} ؛ أي: ما أَنزل الله عليه وعلى جميع الرسل من كتبه ووحيه.
وقرئ: (وكلمته)
(4)
؛ أي: جنسِ ما تكلَّم به، أو القرآنِ، أو عيسى عليه السلام، تعريضًا لليهود، وتنبيهًا على أنَّ مَن لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر
(5)
إيمانه.
وقيل: كلمته التي أوجد بها الكلَّ، وهي قوله: كن.
{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} جعل رجاءَ الاهتداء أثرَ الأمرين تنبيهًا على أنَّ مَن صدَّقه ولم يتابعه بالْتزام شرعه فهو بعدُ في خِطَط
(6)
الضلالة.
(1)
في (م): "أن ".
(2)
"عليه ": ليست في (م) و (ك).
(3)
في (م): "وهو".
(4)
نسبت لمجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46).
(5)
في (ف) و (ك): "يتيسر".
(6)
في (ف) و (م): (حطط)، والمثبت من (ك)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" (3/ 38). و (خِطط) بكسر الخاء: جمع خِطَّة، بكسرها أيضًا، وهي المنزل والدار من قولهم: اختط الدار، إذا=
(159) - {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} يعني: بني إسرائيل {أُمَّةٌ} التنكير للتكثير {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يُرشِدون الناس محقِّين، أو: بكلمة الحق.
{وَبِهِ} وبالحق {يَعْدِلُونَ} في الحكم بين الناس، وهم الثابتون في الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، أتبع ذكرَهم ذكرَ عبدة العجل كما هو عادةُ القرآن في الجمع بين السعداء والأشقياء في الذكر؛ تنبيهًا على أنَّ تعارُض الخير والشر وتزاحُمَ أهل الحق والباطل أمر مستمرٌّ.
وفيه دفعُ
(1)
ما أَوهم تخصيصُ الرحمة في جواب دعاء موسى عليه السلام بالذين يتَّبعون الرسول في آخر الزمان أن غيرهم كلهم أهل الضلالة.
وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل: قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج فآمنوا به
(2)
.
* * *
= ضرب حدودها، وهذه خِطة بني فلان وخِططهم، فقوله:(في خطط الضلالة)؛ أي: نازل ومتمكن فيها، كما يقال: هو في ضلال وفي هدى. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 226).
(1)
في (ف) و (م): "رفع".
(2)
ورد هذا في خبر رواه عبد بن حميد عن مقاتل كما في "الدر المنثور"(3/ 586)، وليس في الأخبار الواردة في هذه الحكاية ما يصح، قال الآلوسي في "روح المعاني" (9/ 414): وضعف هذه الحكاية ابن الخازن [في "تفسيره" (2/ 300)] وأنا لا أراها شيئًا، ولا أظنك تجد لها سندًا يعول عليه ولو ابتغيت نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. اهـ. قلت: يعرض بما جاء في بعض الأخبار: أن الله تعالى فتح لهم نفقًا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} مفعولٌ ثانٍ على تضمين (قطَّعنا) معنى: صيَّرنا، وتأنيثُه على تأويل القطعة أو الفرقة.
{أَسْبَاطًا} بدلٌ منه ولذلك جُمع، أو تمييز لأنَّه أراد: اثنتَيْ عَشْرةَ قبيلةً كل قبيلة أسباطٌ، فوُضع (أسباط) موضع قبيلة للدلالة على أنَّ كلَّ واحد
(1)
منها أسباط تحقيقًا، فعلى هذا (أسباط) قائم مقام المفرد.
{أُمَمًا} بدل من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} ، أو من (أسباط)، أو نعتٌ لها، وفيه إشارةٌ إلى أن كلَّ واحد من الأسباط كانت أمةً كثيرةَ العدد يؤمُّ كلُّ واحدة منهم خلافَ ما تؤمُّه الأخرى، لا تكاد تأتلف
(2)
وتتَّفق، والباقي مر تفسيره في سورة البقرة.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} في التِّيه.
{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} ، أي: فضرب فانبجست، وحذفُه لتقصير اللفظ وتكثير المعنى، وهو أبلغ وجوه الإيجاز
(3)
، وذلك أن فيه إشعارًا بأنَّ الانفجار مسبَّبٌ عن الإيحاء مرتَّب عليه، وأنَّ
(4)
الضرب لا تأثير له بذاته، وأمَّا أنَّ
(1)
في (ف). "على أن كلا".
(2)
في (م) و (ك): "تأتلفه".
(3)
في (ف): "الإعجاز".
(4)
في (ف): "إذ"، وفي (ك):"أن".
موسى عليه السلام لم يتوقَّف في الامتثال فلا دلالةَ عليه في قوله: فضرب، محذوفًا كان أو مذكورًا.
والانبجاس: خروج الماء الجاري بقلَّةٍ، والانفجار: خروجه بكثرة، وكان البدءُ بقلَّة ثم يكثر بالاتِّساع.
{مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} : كلُّ سبطٍ، اسمُ جمعٍ كرُخالٍ
(1)
وثُناءٍ، لا جمعُ تكسير، أو جمعُ إنس، أصلُه كسر الهمزة كشِعْبٍ وشِعَابٍ، فأبدلت الكسرة ضمَّةً.
{مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} ليَقِهم الحرَّ.
{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ؛ أي: وقلنا لهم: كلوا {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} قد مر تفسيره في سورة البقرة.
* * *
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} بإضمار: اذكر، والقرية: بيت المقدس.
{وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} مِثْلُ ما
(1)
في النسخ: "كرخاء"، والمثبت من "الكشاف"(1/ 54) و (2/ 169)، و"البحر"(10/ 357). ورخال براء مهملة وخاء معجمة ولام، واحده: رِخل أو رِخلة، وهي أنثى ولد الضأن. انظر:"حاشية الشهاب"(1/ 302).
في سورة البقرة
(1)
، غيرَ أن هناك:{وَادْخُلُوا} وهنا: {اسْكُنُوا} والسكنى يتعقَّب الدخول، فأُمروا هناك بالمبدأ وهنا بما تسبَّب عنه، وهناك:(فكلوا) بالفاء وهنا بالواو، وذلك لأن الدخول حالةٌ منقضية
(2)
فحَسُنَ ذكر فاء التعقيب بعده، والسكنى حالةٌ مستمرَّة فحَسُنَ الأمر بالأكل معه لا بعده، وأثبت (رغدا) هناك بعد الأمر بالدخول لأنها حالةُ قدوم فالأكل فيها ألذُّ، بخلاف السكنى المذكور هنا، فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها كالأكل عند الدخول، وأما تقديم الحِطَّة على الدخول وتأخُّرُها عنه فلا تفاوت فيه لأن الواو للجمع لا للترتيب، وأما قوله:{وَإِذْ قِيلَ} في مقام {وَإِذْ قُلْنَا} على حذف الفاعل للعلم به، وأما (أنزلنا) و (أرسلنا)، و {يَفْسُقُونَ} و {يَظْلِمُونَ} فمن وادٍ أحد.
{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وعدٌ بالغفران والزيادةِ عليه بالإثابة.
قيل: وإنما أُخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضُّلٌ محضٌ ليس في مقابلةِ ما أُمروا به. ومبناه الغفولُ عن الواو الجامعة بينهما في سورة البقرة الدالةِ على التشريك في المقابلة المذكورة.
* * *
(1)
الآية: (58) منها، وهي قوله تعالى:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} .
(2)
في (م) و (ك): "مقتضية" وهو تحريف.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} مر تفسيره في سورة البقرة.
* * *
{وَاسْأَلْهُمْ} المراد من سؤالهم التقريعُ بقديم كفرهم واعتدائهم حدودَ الله تعالى، والتقريرُ والإعلام بأن هذا من العلوم التي لا تحصل إلا بالتعليم أو بالوحي، فلم يتعلم عليه السلام قطُّ فهو حجةٌ لأنَّه معجزة.
{عَنِ الْقَرْيَةِ} : عن خبرها وحالِ أهلها، وهي أَيْلةُ
(1)
.
{الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر} : قريبةً منه على شاطئه بين مَدْينَ والطُّور، وقيل: مدين، وقيل: طَبرية، والعرب تسمِّي المدينة قرية.
{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} إذ يتجاوزون حدَّ
(2)
الله تعالى في تعظيم السبت بالاصطياد، و {إِذْ} ظرف لـ {كَانَتْ} ، أو {حَاضِرَةَ} ، أو للمضاف المحذوف، ولا يجوز أن يكون بدلًا منه
(3)
بدل الاشتمال؛ لأن (إذ) من الظروف التي لا تتصرَّف
(1)
في (م) و (ك): "إيلياء"، وهو خطأ، وفيها أقوال المثبت واحد منها، وسيأتي غيره، وانظر:"روح المعاني"(9/ 427).
(2)
في (م): " حدود".
(3)
أي: بدل من المضاف المقدر، وهو:(أهل)، يعني: أهل القرية. وهذا ابتداء رد على الزمخشري والبيضاوي اللذين أجازا البدل المذكور، وهذا الرد منقول عن أبي حيان. انظر:"الكشاف"(2/ 171)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 39)، و"البحر"(10/ 363).
ولا يدخل عليها حرفُ جرٍّ، وجعلُها بدلًا يُجوِّز دخول (عن) عليها؛ لأن البدل على نية تكرير العامل، وإنما تُصرِّف فيها بأنْ أُضيف إليها بعض الظروف الزمانية، نحو: يومَ إذْ كان كذا.
وقرئ: (يَعَدُّون)
(1)
، وأصله: يَعْتدون، أدغمت التاء في الدال ونُقلت حركتها إلى العين.
و: (يُعِدُّون) من الإعداد؛ أي: يُعِدُّون آلات الصيد في حال تعظيم السبت، أو يوم السبت وقد نهوا عنه وأمروا بأنْ لا يشتغلوا فيه بغير العبادة
(2)
.
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرفٌ لـ {يَعْدُونَ} ، واحتمال الإبدال قد مرَّ وجه بُطلانه.
{يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} : يوم تعظيمهم للسبت، مصدر سَبَتتِ اليهودُ: إذا عظَّمت سَبْتَهم بالتجرُّد للعبادة.
وقيل: اسم اليوم، والإضافةُ لاختصاصهم بأحكامٍ فيه.
ويرجِّح الأولَ قراءةُ: (يومَ إسباتهم)
(3)
، وقولُه:{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} .
وقرئ: (لا يُسبِتون) مِن أَسْبَتَ، و:(لا يُسبَتون) على البناء للمفعول
(4)
، بمعنى: لا يدخلون في السبت.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 46).
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 170)، و"البحر"(10/ 363).
(3)
نسبت لعمر بن عبد العزيز. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 47)، و"المحرر الوجيز"(2/ 468)، و"الكشاف"(2/ 171)، و"البحر"(10/ 364).
(4)
نسبت الأولى لعلي رضي الله عنه والثانية للحسن. انظر المصادر السابقة.
و {شُرَّعًا} حال من الحيتان، ومعناه: ظاهرةً على وجه الماء، مِن شَرَع علينا: إذا دنا وأشرف.
وقيل: أي: مقبِلًا إليهم مصطفًّا، كما تقول: أُشرعتِ الرماح: إذا مُدَّت مصطفَّةً.
والحيتان: جمع حوتٍ، وأكثرُ ما تَستعمل العرب الحوت في معنى السمكة، واختلف في إطلاق اسم السمكة على ما سوى الحوت من الحيوانات البحرية، والذي نصَّ عليه الشافعي في "الأم" و"المختصَر" أنها تطلق على الجميع، قال صاحب "الروضة": وهو الصحيح.
{كَذَلِكَ} ، أي: مِثْلَ ذلك البلاء الشديد، والظاهرُ أن الإشارة إلى ابتلائهم بإتيان الحيتان يوم السبت وعدمِ إتيانها في سائر الأيام.
{نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : بسببِ استمرارهم على الفسق.
* * *
{وَإِذْ قَالَتْ} عطفٌ على {وَإِذْ} قبلها.
{أُمَّةٌ مِنْهُمْ} : جماعة من أهل القرية من صُلحائهم الذين بالَغوا في وعظهم، وبذلوا المجهود في نهيهم، حتى ملُّوا وأَيسوا من قبولهم، وتفرَّسوا من حالهم أن الوعظ لا يؤثِّر فيهم فتركوا، لآخرين
(1)
منهم لم يتركوا موعظتهم:
(1)
في النسخ: "الآخرين"، وهو خطأ، والمثبت من "الكشاف"(2/ 171)، و"روح المعاني"(9/ 430).
{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} ؛ أي: قد أشرفوا على أن يُهلكهم الله تعالى فيَصْطَلِمَهم.
{أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} غيرَ مصطَلِمٍ.
{قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} ؛ أي: موعظتُنا معذرةٌ إلى الله تعالى لئلا نُنسب إلى تقصير
(1)
في النهي عن المنكر.
وقرئ: {مَعْذِرَةً} بالنصب
(2)
؛ أي: نَعِظُهم معذرةً، على أنه مفعولٌ له، أو: نعتذر معذرةً، على المصدر.
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : ولطمَعِنا في أنْ يتَّقوا بعضَ الاتِّقاء.
* * *
{فَلَمَّا نَسُوا} : تركوا {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} : ما ذكَّرهم به الصُّلحاء، وجُعل التركُ نسيانًا مبالغةً؛ إذ أقوى أحوالِ الترك أن يُنسى المتروك.
{أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} هي عامةٌ في المعاصي، ويدخل فيها صيدُ الحوت دخولًا أوليًّا.
{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالارتكاب للمنكَر، وفيه تنبيهٌ على أن العلة للأخذ هي الظلم.
(1)
في (م): "التقصير".
(2)
هي قراءة حفص، والباقون بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 114).
{بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} : شديدٍ، فعيلٌ من بَؤُسَ يبؤسُ
(1)
بأسًا: إذا اشتدَّ.
و قرئ: (بَئِسٍ) كحَذِرٍ
(2)
.
و: {بَئِيسٍ} و كظِئْرٍ على تسكين العين للتخفيف
(3)
، ونقلِ حركتها إلى الباء؛ ككِبْدٍ في كَبِدٍ.
وقرئ: {بِيسٍ} على قلب الهمزة ياءً كما قُلبت في ذيبٍ
(4)
، أو على أنه فعل الذمِّ وُصف به فجعل اسمًا.
وقرئ: (بَيِّسٍ) كرَيِّسٍ
(5)
على قلب همزة {بَئِيسٍ}
(6)
ياءً وإدغام الياء فيها.
و: (بَيْسٍ) على تخفيف (بيِّس) كمَيْتٍ في مَيِّتٍ
(7)
.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : بسبب استمرارهم على الفسق.
* * *
(1)
"يبؤس "من (م).
(2)
نسبت لأبي عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف. انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 469)، و"الكشاف"(2/ 172)، و"البحر"(10/ 370).
(3)
هي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 114).
(4)
هي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 114).
(5)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 470)، و"الكشاف"(2/ 172)، و" البحر"(10/ 370).
(6)
هي قراءة أبي بكر بخلاف عنه، والوجه الآخر عنه:{بَئِيسٍ} . انظر: "التيسير"(ص: 114).
(7)
هي رواية خارجة عن نافع، وهي خلاف المشهور عنه. انظر:"المحرر الوجيز"(2/ 469)، و"الكشاف"(2/ 173)، و"البحر"(10/ 370).
ولم يُعن أحد بهذه القراءات كما عني بها أبو حيان رحمه في "البحر"، فقد ذكر فيها اثنتين وعشرين قراءة مع شرحها، وقد خرجناها وفصلناها بفضل الله في تحقيقنا له فلتنظر فيه.
(166) - {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} : طَغَوا وتكبروا عمَّا نُهوا عنه، وزادوا عصيانًا وتَفَرْعُنًا.
{قُلْنَا لَهُمْ} على طريقة الأمر التكويني: {كُونُوا قِرَدَةً} ؛ أي: مسخناهم دفعةً.
{خَاسِئِينَ} : أذلَّاءَ مُبْعَدِين عن الناس، وقد مرَّ ما يتعلق بهذا في تفسير
(1)
سورة البقرة.
والظاهر من المعنى: أن الله تعالى عذَّبهم أولًا بعذابٍ شديد، فلم ينتهُوا وعَتَوا بعد ذلك فمسخهم.
وقيل: {فَلَمَّا عَتَوْا} تكريرٌ وتقريرٌ لقوله: {فَلَمَّا نَسُوا} .
والعذاب الشديد: هو المسخ، وعن مجاهد: مُسخت قلوبهم لا أبدانُهم
(2)
.
* * *
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} {تَأَذَّنَ} : عَزَم، وهو تفعُّلٌ من الإيذان وهو الإعلام؛ لأن العازم على الأمر يؤذِن نفسَه به ويحدِّثها، ومثلُه في التفعُّل بمعنى الإفعال: تَوَعَّدَ، بمعنى: أَوْعَدَ، وأُجري مُجرى القَسَم كعَلِمَ اللهُ وشَهِدَ اللهُ، ولذلك أُجيب بما يُجاب به القسم وهو:
{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} ، أي: عزم ربك وأَوْجَب على نفسه ليسلِّطنَّ على اليهود {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ} : يكلِّفُهم {سُوءَ الْعَذَابِ} كالإذلال وضرب الجزية.
(1)
"تفسير"من (م).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 65).
بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه السلام بُخْتَ نَصَّرَ، فخرَّب ديارهم، وقتل مقاتِلتَهم، وسبى نسائهم وذراريهم، وضرب الجزية على مَن بقي منهم، وكانوا يؤدُّونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم لا إلى آخر الدهر - كما قيل
(1)
- بل إلى نزول عيسى عليه السلام؛ لأنَّه بعد نزوله من السماء يضع عنهم الجزية على ما ورد في الحديث المرفوع
(2)
، وعند ذلك ينقلبُ تكليف الجزية إلى أَشَدِّه وهو تكليفُ الإسلام بالقتل
(3)
، وسوءُ العذاب ينتظِمُهما
(4)
.
ويجوز أن يكون المراد من يوم القيامة: وقتَ ظهور بعض شرائطها
(5)
، فحينئذ لا حاجة إلى تعميم سوءِ العذاب، والله أعلم بالصواب.
{نَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} لا يحتاج إلى إعداد الآلات وإحضار الأسباب {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} من تاب وأناب.
* * *
(1)
"كما قيل": ليست في (م) و (ك). والقائل الزمخشري في "الكشاف"(2/ 173).
(2)
رواه البخاري (2222)، ومسلم (155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وتعقب الآلوسي رحمه الله هذا الكلام بقوله: ولا ينافي ذلك [أي: كونُها مضروبة إلى آخر الدهر] رفْعَها عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك الوقتَ ملحق بالآخرة لقربه منها، أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف، فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمةٌ لسيوفهم فلا إشكال. انظر:"روح المعاني"(9/ 438).
(3)
يعني: لا يقبل منهم إلا الإسلام، فيخيرون بينه وبين القتل. انظر التعليق السابق.
(4)
في (ف): "ينتظمها".
(5)
في (م): "أشراطها".
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ} : وفرَّقناهم في أقطارها بحيث لا يخلو قطرٌ منهم، تتميماً لإدبارهم حتى لا يكون لهم شوكةٌ بالاجتماع.
{أُمَمًا} مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ.
{مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} الذين آمنوا [بالمدينة] ونظراؤهم
(1)
، و {الصَّالِحُونَ} فاعلٌ للظرف لاعتماده على الموصوف، أو مبتدأ و {وَمِنْهُمْ} خبرُه والجملة صفة لـ {أُمَمًا} .
{وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ {دُونَ} صفةٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: ومنهم ناسٌ دون ذلك الوصف منحطُّون عن درجة الصلاح، وهم الفَسَقة والكَفَرة
(2)
.
{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} : بالنِّعم والنِّقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما كانوا عليه بالانتهاء.
* * *
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} : من بعد المذكورين {خَلْفٌ} بدلُ سوءٍ، وهو مصدرٌ
(1)
"ونظراؤهم"؛ أي: ممن يؤمن في غير المدينة، وما بين معكوفتين من "تفسير البيضاوي" (3/ 40) والكلام منه. قال الشهاب في "الحاشية" (4/ 231): وقوله (أي: البيضاوي): (وهم الذين آمنوا بالمدينة)، قيل: إنه خلاف الظاهر؛ لتفريع قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} عليهم، وضم المصنف رحمه الله إليه نظراءهم ليخفَّ الإشكال.
(2)
في (م) و (ك): "والكفار".
نُعت به، ولذلك يستوي فيه الواحد والكثير، وقيل: جمع، قال ثعلبٌ: الناس كلهم يقولون: خَلَفُ صِدْقٍ، للصالح، و: خَلَفُ سوءٍ، للطالح.
وكأنه غافل عن قول حسَّان في المدح:
لنا القَدَمُ الأولى إليكَ وخَلْفُنا
…
لأوَّلنا في طاعةِ الله نافعُ
(1)
والمراد به: الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَرِثُوا الْكِتَابَ} : التوراةَ من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها ولا يعملون.
وفي عبارة {وَرِثُوا} إشارة إلى أنها وصلت إليهم بلا استحقاقٍ منهم كما يصل المال الموروثُ من المورِّث الصالح إلى الوارث الطالح.
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} ؛ أي: حطامَ هذا الشيء الأدنى، وهو ما يأخذونه من الرُّشا في الأحكام، وعلى تحريفِ الكلِم للتسهيل على العامة.
و {الْأَدْنَى} : إما من الدنوِّ بمعنى القُرْب؛ لأنَّ الشيء الحقيرَ سهلُ التناول قريبُ المأخذ، وإما من الدناءة بمعنى الخسَّة والمراد به الدنيا وما يُتمتَّع به منها.
والإشارة بـ {هَذَا} لمزيد التحقير، والجملة حالٌ من ضمير {وَرِثُوا} ، أو صفةٌ بعد صفةٍ.
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ} ؛ أي: إذا عُوتبوا على ذلك اعتذَروا بما يَرْجونه من سَعة رحمة الله تعالى، ويقولون: لا يؤاخِذُنا الله تعالى بما أَخذْنا وَيتجاوز عنا
(2)
، وهو يَحتمِل العطفَ والحالَ، والفعلُ مسنَدٌ إلى الجارِّ والمجرور، أو إلى مصدرِ {يَأْخُذُونَ} .
(1)
انظر: "ديوان حسان"(ص: 310).
(2)
"عنا" من (م).
{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في {يقولونَ} ؛ أي: يرجُون المغفرة جازِمينَ بها وهم مصرُّون على ذنوبهم لا يتوبون عنها.
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ} ؛ أي: العهدُ الذي في التوراة.
{أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} عطفُ بيان للميثاق، أو متعلِّق به؛ أي: بأنْ لا يقولوا؛ أي: لا يفتروا على الله تعالى، وهو القطع بالمغفرة مع الإصرار على الذنب، وهو خلاف ميثاق الكتاب.
ويجوز أن تكون {أَنْ} مفسِّرةً، و {لَا يَقُولُوا} نهيًا؛ كأنه قيل: ألم يقل لهم أنْ لا يقولوا .. إلى آخره.
وإنْ فسِّر الميثاق بما بيِّن فيه - وهو أنَّ مَن ارتَكب ذنبًا عظيمًا لا يُغفر إلا بالتوبة - كان {أَنْ لَا يَقُولُوا} مفعولًا له؛ أي: لئلا يقولوا.
{وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} الظاهر أنه عطفٌ على {وَرِثُوا} ، وقوله:{أَلَمْ يُؤْخَذْ} اعتراضٌ أو حالٌ بتقدير (قد).
وقيل: عطفٌ على {أَلَمْ يُؤْخَذْ} من حيث المعنى لأنَّه تقرير له؛ كأنه قيل: أُخذ عليهم ميثاقُ الكتاب ودرَسوا ما فيه.
ومعنى الهمزة في {أَلَمْ يُؤْخَذْ} تقريعٌ وتوبيخٌ على أخذ الرشوة والقطعِ بالمغفرة، ولهذا
(1)
قُبحَ فعلهم بوجوه:
أولها: أنه خلاف ميثاق الكتاب.
الثاني: أنه افتراء على الله تعالى.
(1)
في (م) و (ك): "ولذا".
الثالث: التأكيد بقوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} ؛ أي: من اشتراط التوبة في غفران الذنب
(1)
.
الرابع: قوله: {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ} ؛ أي: من ذلك العَرَض الخسيس {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الرُّشا، وهو تعريض بأنهم يستحبُّون الدنيا على الآخرة ويستبدلونها بها.
ثم التأكيد بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؛ أي: أيأخذون العَرَض الحقير فلا يعقلون أن الدار الآخرة خيرٌ فلا يبيعون الشريف الباقي بالخسيس الفاني.
وقرئ: {تَعْقِلُونَ} بالتاء على الالتفات
(2)
.
وفي الإبهام بقوله: {أَنْ لَا يَقُولُوا} تنبيهٌ على عظم ما يرتكبونه.
* * *
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} تعريضٌ بأنهم لا يمسِّكون بالكتاب إذ يخالفونه، وأنهم لا يصلُّون، وتخصيصُها بالذكر لأنها عماد الدِّين وأمُّ العبادات.
والجملة عطف على {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، و {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} اعتراض بينهما، و
(3)
: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} اعتراضٌ آخر.
(1)
في هامش (م): " قوله: من اشتراط التوبة، هذا عين مذهب المعتزلة، والمناسب أن يترك ويفسر بما ذكر في الكتاب من غيره ".
(2)
هي قراءة نافع وابن عامر وابن ذكوان وحفص، والباقون بالثاء.
انظر: "التيسير"(ص: 102).
(3)
الواو من "ك".
أو مبتدأ خبره
(1)
: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} ؛ أي: منهم، أو على وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهًا على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، وإيماءً إلى أنهم مفسدون بما يفعلون.
أو استئنافٌ لتعليل الخبر المحذوف
(2)
، كأنه قيل: نوفيهم أجورهم لأنا لا نضيع أجر المصلحين
(3)
.
* * *
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} ؛ أي: فلَقْناه من الأصل ورفعْناه.
{فَوْقَهُمْ} يقال: نتَقتِ الدابةُ صاحبَها حين تعدوا به؛ أي: حرَّكته ورفعته.
{كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} في موضع الحال من {الْجَبَلَ} ، والظلَّة: كلُّ ما أظلَّ من سَقيفة أو سَحابٍ، وقرئ بالطاء المهملة من أَطَلَّ: إذا أشرف
(4)
.
{وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} : ساقطٌ عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثِقَلها، فرفع الله تعالى الطُّور فوقهم وقيل لهم: إن قبلتُم
(5)
ما فيها وإلا ليقعنَّ
(6)
(1)
في (م) و (ك): "وخبره". والمراد بالمبتدأ قوله: (الذين يمسكون).
(2)
أي: خبر (الذين يمسكون) محذوف، وجملة:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} استئناف لتعليل هذا الخبر.
(3)
في (م): "المحسنين".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 175).
(5)
في (م) و (ك): "قبلتم".
(6)
في النسخ: "ليقض"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 175)، و"تفسير البيضاوي"=
عليكم، وهذا لا يقتضي تيقُّنهم بوقوع الجبل بهم، وكذا عدمُ ثبوت الجبل في الجوِّ لا يقتضيه؛ لأنَّه على جَرْي العادة، وأما على تقدير خَرْقها
(1)
فلا بُعد فيه، وعدمُ وقوع المتعلّق لا يصلح وجهًا لإطلاق الظن على الاعتقاد الجازم، لعدم الفرق بينهما في عدم الاقتضاء بوقوعه، فالوجه أن يكون الظنُّ هنا على حقيقته
(2)
.
{خُذُوا} على إضمار القول، أي: وقلنا: خذوا، أو قائلين: خذوا {مَا آتَيْنَاكُمْ} من الكتاب {بِقُوَّةٍ} : بجِدٍّ وعزم على احتمالِ تكاليفه ومشاقِّه، وهو حال من الواو.
{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} بالعمل فيه ولا تتركوه كالمنسيِّ.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما أنتم عليه من قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
* * *
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ؛ أي: أَخرج من أصلابهم بَنيهِم على ما يتولَّدون قرنًا بعد قرن، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من {بَنِي آدَمَ} بدلَ البعض، والضميرُ لآدم عليه السلام وبنيهِ لا لبنيهِ خاصةً، ولا يلزم إخراجُ أولاده من حيِّز
(3)
الإرادة، وأما عيسى عليه السلام فخارجٌ من ظهر جدِّه بواسطة أمِّه.
= (3/ 41)، و"روح المعاني"(9/ 447).
(1)
في النسخ: "خرقه"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(9/ 446).
(2)
في هامش (ف): "يعني: أن اليقين المذكور بمعنى الاعتقاد الجازم كما هو المناسب لاعتبار البلغاء، لا الاعتقادِ المطابق للواقع كما هو مصطلح الحكماء".
(3)
في (ك): "غير".
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؛ أي: نَصَب لهم دلائلَ رُبوبيَّته، وركَّب في عقولهم ما يَدْعوهم إلى الإقرار بها، حتى صاروا بمنزلةِ مَن قيل لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ونزَّل تمكينَهم من العِلم بها وتمكُّنهم منزلةَ الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل، ويدلُّ عليه قوله:
{قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (بلى) في سؤال النفي إثباتٌ، فكان إقرارًا والإقرارُ بدون الاعتقاد لا يكون شهادة، ولهذا ردَّ الله تعالى قول المنافقين قالوا:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] فالتصديق ثبت بمقتضى قولهم: {شَهِدْنَا} .
{أَنْ تَقُولُوا} ؛ أي: كراهةَ أنْ تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لم نتنبَّه
(4)
عليه.
* * *
{أَوْ تَقُولُوا} عطفٌ على {أَنْ تَقُولُوا} ، وقرئ كلاهما بالياء
(5)
على ما دَل عليه
(6)
أول الكلام من الغيبة.
{إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فاقتدينا بهم
(7)
؛ لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكُّن من العلم به لا يَصلح عذرًا.
(4)
في (ف): "ننبه". وفي (ك): "يتنبه".
(5)
هي قراءة أبي عمرو، وباقي السبعة بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 114).
(6)
"دل عليه" سقطت من (ف)، و"دل" سقطت من (م).
(7)
في (م): "فاقتديناهم".
{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} ؛ أي: أبعدَ تأسيس آبائنا الشركَ المبطلِين، وجَعْلِهم إياه سنةً لنا تُهلكنا بما فعلوه؟!
وقيل: لمَّا خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخرج من ظهره ذرِّيةً كالذَّرِّ، وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق، وألهمهم ذلك، لخبرٍ رواه عمرُ رضي الله عنه
(1)
.
والمقصود من إيرادِ هذا الكلام هنا إلزامُ اليهود مقتضَى
(2)
الميثاق العامِّ بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاجُ عليهم بالحجج السَّمعية، ومنعُهم عن التقليد، وحملُهم على النظر والاستدلال كما قال:
(174) - {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
{وَكَذَلِكَ} ومِثْلَ ذلك التفصيلِ البليغ {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} قطعًا لعذرهم {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ؛ أي: نَميز بعضَها عن بعضٍ ليتمكَّنوا
(3)
من الاستدلال، ويرجعوا عن التقليد واتِّباع الباطل، والواو للعطف لمقدَّر نبَّهنا عليه.
* * *
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 41) والكلام منه، و"تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاوي أيضًا (1/ 105)، و"تفسير القرطبي"(9/ 376)، و"روح المعاني"(9/ 456). وقد ذكر هؤلاء عن عمر حديثًا في الآية رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 898 - 899)، والإمام أحمد في "المسند"(311)، وأبو داود (4703)، والترمذي (3075). وأعله ابن عبد البر في "التمهيد"(6/ 3) بجهالة الراوي عن عمر، ثم قال: لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها، من حديث عمر وغيره. اهـ. قلت: وثمة حديث آخر عن عمر رضي الله عنه في هذا المعنى أورده الآلوسي (9/ 467)، ورواه الحاكم في "المستدرك"(1682)، والبيهقي في " الشعب "(4040)، وأعله بأبي هارون العبدي، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك": أبو هارون ساقط.
(2)
في (م): "لمقتضى".
(3)
في (م) و (ك): "ليمكنوا".
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: على اليهود {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} هو أحد علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين، اسمه بَلْعَمُ بنُ باعُوراءَ، أُوتي علمَ بعض كتب الله تعالى.
{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} بأنْ كذبها
(1)
وخرج عن حُكمها.
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} خطواتِه، أي: جعَله تابعًا له، وقيل: استَتْبعه، أو: أتبعه ليُضلَّه، فأدركه ولحقه وصار قريناً له.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} : فصار من الضالين.
وقيل: هو أمية بن أبي الصَّلت، كان قد قرأ الكتب، وعلِم أن الله تعالى مرسل في ذلك الزمان رسولًا، وتوقَّع أن يكون هو، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده
(2)
وكفر به.
* * *
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ، أي: إلى منازل الأبرار من العلماء؛ لأن مراد الله تعالى لا يتخلَّف، ولكن حكمته اقتضتْ أن يُتبع إرادتَه اختيارَ العبد.
(1)
في (ك): "كفر بها"، وفي (م):"كفر".
(2)
في (ف): "جحده".
وأُشير إلى هذا حيث قال في موقع (ولكنْ لم نشأ): {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} فذَكر فِعل العبد لا فِعله؛ أي: مال إلى الدنيا وإلى السَّفالة.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في إيثار الدنيا واسترضاءِ قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات.
نسب إيتاء الآيات إلى الله تعالى، وخروجَه عن حكمها إليه؛ إشعارًا بأن الكل إنما يكون بحسب استعداد العبد بإعطاء
(1)
أسباب الكمال، ولكنه بحسب استعداده إلى الجهة السفلية خرج عن حكمها فناسب الشيطان فأغواه فشَقي بها، وعلَّق رفعَه بمشيئة الله تعالى واستدرك عنه بفعل العبد تنبيهًا على أن المشيئة سببٌ لفعله الموجِب لرفعه، وأن عدمه دليلُ عدمها، لاستلزامِ انتفاءِ المسبَّب انتفاءَ السبب، وأن السبب الحقيقيَّ هو المشيئة، وأن الأسباب وسائطُ في حصول المسبَّب إذا تعلقت المشيئةُ به كذلك، ووضع قوله:{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} موضع: أعرض عنها؛ إقامةً للسبب مقام المسيَّب، مبالغةً وتنبيهًا على أن موجِبَ إعراضه هوى
(2)
النفسِ وحبُّ الدنيا، وأنَّه رأس كلِّ خطيئة.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ولكنه أخلد إلى الأرض فحطَطْناه، في مقابلةِ:(رفعناه)، فوَضَع قوله:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} موضعَ فحططناه أبلغَ حطٍّ وأذلَّه مبالغةً؛ أي: صفتُه كصفة الكلب - الذي هو مَثَلٌ في الخسةِ - في أخسِّ أحواله وأذلِّها، وهو دوام اللَّهَثِ سواءٌ حُمل عليه وهِيج أو تُرك ولم يُهَجْ، على ما ذَكر بقوله:
{إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} فإنه دائمًا يلهث لضعف قلبه
(1)
في (ف): "فأعطاه"، و في (م):"فأعطي".
(2)
في (ف): "هو".
وحرارته، بخلاف سائر الحيوانات فإنه يلهث عند التحريك والإزعاج ولا يلهث عند التوريع والإحمام
(1)
.
واللَّهَث: هو إدلاعُ اللسان من النَّفَس الشديد الذي يَلحَقُ الإنسان وغيرَه من شدَّة الإعياء، وهو في الكلاب طبعٌ، وقد يكون من العطش.
محل الجملة الشرطية النصبُ على الحال؛ أي: كمَثَل الكلب لاهثًا في الحالين.
والمراد من التمثيل: أن الاستعداد الخبيث لا يكون من موجِبات الترقِّي
(2)
وأسبابِ الكمال والسعادة، بل يزيده
(3)
نقصًا وانحطاطًا وشقاوة، كما لا تنفعه الآيات بل زادته رجسًا إلى رجسه.
وجه
(4)
التمثيل: أن إيتاء الآيات وأسبابَ السعادات كالتوريع والإحمام، وضلالَه واستعدادَه كلَهَث الكلب وطبيعتِه، ولهذا قيل: معناه: إنْ وعظْتَه فهو ضالٌّ، وإن لم تَعِظْه فهو ضالٌّ.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يعني: لا اختصاص للتمثيل المذكور بالذي ورد في حقِّه، بل يَعُمُّه وأمثالَه من المكذِّبين بآياتنا، كما لا اختصاص للأحكام النازلة بأسبابِ نزولها، ومن هنا يتَّضح وجه التفريع في قوله:
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} المذكورة المشتمِلة على التمثيلات المشبِّهة لمَن حالُه كحالهم.
(1)
في (ف): "التورية والإحمار". وفي (ك): "التؤدة والإحماد".
(2)
في (م): "لا يوجب الترقي "، وفي (ك):"لا موجبات الترقي".
(3)
في (م): "بل يزيد".
(4)
في (م): "ووجه".
{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيه فيتَّعِظون به ويحذَرون مِثلَ عاقبته.
* * *
(177) - {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} .
{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} {سَاءَ} بمعنى: بئس، وأصلُها التعدِّي، تقول: ساءني الشيء يَسُوءني، ثم لمَّا استعملت استعمالَ (بئس)، بُنيت على (فَعُلَ) وجرت عليها أحكام (بئس).
و {مَثَلًا} تمييز للضمير المستكنِّ في {سَاءَ} فاعلًا، وهو مفسَّر بهذا التمييز، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدَها، ولا بد أن يكون المخصوصُ بالذم من جنس التمييز، فاحتيج إلى تقديرِ مضافٍ
(1)
: إما في التمييز، أي: ساء أصحابُ مَثَلِ القوم، وإما في المخصوص، أي: ساء مَثَلًا مَثَلُ القوم، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للجملة السابقة.
{وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} بعد قيام الحجة وعِلمهم بها، إمَّا معطوف على {كَذَّبُوا} فيكون في حيِّز الصلة، أي: الذي جمعوا بين التكذيب والظلم على أنفسهم، وإمَّا كلام منقطِعٌ عن الصلة اعتراضًا للبيان؛ أي: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسَهم؛ لأن وباله لا يتعدَّى إلا إليها، ولهذا التخصيصِ قدِّم المفعول، وهذا الأخيرُ أحسن.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لمَّا تقدَّم ذكر المهتدِين والضالِّين أَخبر تعالى أنه المتصرّف فيهم بما شاء من هدايةٍ وضلال، وفيه تصريحٌ بأن الاهتداء مخصوصٌ بمَن يهدي اللهُ تعالى، وتنزيلٌ
(2)
للهداية التي
(1)
"مضاف" من (م).
(2)
في (م): "وتنزيلًا".
لم يترتَّب عليها الاهتداءُ منزلةَ العدم، وأما اختصاصُ هداية الله تعالى ببعضٍ دون بعضٍ، واستلزامُها للاهتداء، فيردُّه قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]
(1)
.
وفي الإفراد في الأول والجمعِ في الثاني - لاعتبار اللفظ في الأول والمعنى في الثاني
(2)
- والتغيرِ
(3)
عن لفظ الضالين تنبيهٌ على أن المهتدين كنفسٍ واحدةٍ لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين فإن لهم طرقاً لا تنحصر، وأن اجتماعهم لا يُجدي نفعًا في دفع الخسران اللازم لضلالتهم.
وفي الاقتصار في الإخبار عمَّن هداه الله تعالى بالمهتدين تعظيمٌ لشأن الاهتداء، وبيانُ أنه في نفسه كمالٌ تامٌّ لو لم يكن لكَفَى نفعًا جليلًا وربحًا وافيًا؛ لأنَّه المستلزم للفوز الأكبر، والعنوانُ لجميع الكمالات.
* * *
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} : خَلَقْنا {لِجَهَنَّمَ} لمصلحته؛ فإنه مظهر
(4)
جلال الله تعالى
(1)
رد على البيضاوي في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 43).
(2)
"لاعتبار اللفظ في الأول والمعنى في الثاني" من (م).
(3)
في (م): "والتعبير"، ولعلها محرفة عن:(والتغيير).
(4)
في (ف)(ك): "يظهر".
وقهره فلا يناسب الحكمَ تعطيلُه، وفيه تنبيهٌ على سبب خلقه تعالى مَن لا حظ له في
(1)
الاهتداء.
{كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قدَّم الجنَّ على الإنس لأن الكلام في مقام التحقير والإذلال، وهم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا تَنجَع فيهم الدعوة إلى الحق والآيات.
{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} إذ لا يُلقُون أفهامَهم إلى النظر في الدلائل، ولا أذهانَهم إلى طلب الحق ومعرفته.
{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} ، أي: لا ينظرون بها نظرَ اعتبارٍ إلى ما خلق الله تعالى.
{وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} آياتِ الله تعالى سماعَ تدبُّر وتأمُّل، فكأنه لا إدراكَ لقلوبهم ومشاعرهم.
{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} لمَّا لم ينتفِعوا
(2)
بقلوبهم ومشاعرهم جعَلَها مسلوبةَ الفهم الإدراك ثم شبَّههم بالأنعام في عدم الفقه والاعتبار والفهم، أو في أن مشاعرهم لا تتوجه إلا إلى اللذات الحسِّية وأمورِ المعاش، لا تطمح أبصارهم ولا تلتفت بصائرهم إلى أمور المَعاد.
{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ؛ لأنها مع عدم العقل تجتنِبُ المضارَّ وتجلبُ أسباب المسارّ، بخلاف الكفار فإنهم على عكس هذا، كيف وهم يصرُّون على الكفر والإنكار؟ والإصرارُ يُورثُهم الإضرار في هذه
(3)
الدار ودارِ القرار.
(1)
في (م): "من".
(2)
في (م): "ينفعوا".
(3)
في (م): "هذا".
{أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} : الكاملون في الغفلة، بيَّن به سببَ كونهم أضلَّ من الأنعام، وهو الغفلةُ عما أَعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
وفي الآية تعريضٌ لليهود ببيان ما هو صورة حالهم.
* * *
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} التي هي أحسنُ الأسماء؛ لدلالتها على المعاني التي هي أشرفُ المعاني.
{فَادْعُوهُ بِهَا} لا بغيرها، ولا تدعو غيرَه بها
(1)
.
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : واتركوا تسميةَ الذين يَميلون في أسمائه عن الحقِّ إلى الباطل فيسمُّونه بما لا توقيفَ فيه، أو بما يوهم معنًى فاسدًا، كقول أهل البدو: يا أب المكارم، يا أبيض الوجه، أو الذين يَزيغون في أسمائه فيُطلقونها على غيره تعالى، كقولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فلا تبالوا بإنكارهم وإلحادهم
(2)
، أو ذروهم وإلحادَهم في إطلاقها على أصنامهم لتسميتهم آلهةً، أو اشتقاقهم أسماءها منها كاللات من الله، والعزى من العزيز، فلا توافقوهم فيها وأعرضوا عنهم فإن الله تعالى مُجازيهِم كما قال:
{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والتركيب على هذا الوجه أدلُّ.
(1)
"بها" من (م).
(2)
في (م): "فلا تبالوا بإنكارهم واتركوهم وإلحادهم".
وقرئ: {يَلْحَدون} بالفتح
(1)
؛ يقال: لَحَدَ وأَلحَدَ: إذا مال عن المقصد.
ولمَّا قال {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا} كالضالِّين الغافلين والملحدين قفَّاه بما دلَّ على أنه خلَق للجنة كثيرًا وهو قوله:
* * *
(181) - {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم؛ أي: في كلِّ قرنٍ طائفة بهذه الصفة؛ لقوله عليه السلام: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ إلى أنْ يأتيَ أمرُ الله"
(2)
، ففيه دلالةٌ على صحة الإجماع.
* * *
(182) - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} .
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} ؛ أي: بآيات الله التي تضمَّنها القرآن؛ لقوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} [القلم: 44].
والمراد من الاستدراج: الاستدناءُ إلى الهلاك قليلًا قليلًا، يقال: دَرَج الكتابَ؛ أي: طوَاه شيئًا بعد شيء.
قال الخليل: أي: سنطوي عمرهم في اغترارٍ منهم
(3)
. فهو من الدَّرْج بمعنى اللفِّ، ومنه أُدرِج الميت في أكفانه.
(1)
هي قراءة حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 114).
(2)
رواه البخاري (3640)، ومسلم (1921)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 312)، و"زاد المسير"(3/ 294)، و"البحر"(10/ 417).
وقيل: هو من الدَّرَجة، فهو في الأصل: التقريب من المقصود درجةً درجةً بالإصعاد أو الإهباط، ثم اتُّسع فأُطلق على التقريب منه قليلًا قليلًا
(1)
ومنه: دَرَج الصبي، إذا قارَبَ بين خطاه.
والفرقُ بين المعنيين واضح وإن اشتبه على مَن ذكر المعنى الثانيَ وقال: ومنه دَرَج الكتابَ
(2)
.
{مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أنه استدراج، حيث جدَّد لهم النعمة كلما
(3)
جدَّدوا ما يستحقُّون به النِّقمة، فاغترُّوا به:{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44].
* * *
(183) - {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
{وَأُمْلِي لَهُمْ} وأُؤخِّرُ عذابهم، من المليِّ ثقيلةَ الياء؛ يقال: مضى عليه مَلِيٌّ من الدهر وملَاوةٌ - بفتح الميم وضمِّها وكسرها -؛ أي: قطعة منه، عطفٌ على {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} لا على (نستدرجهم)؛ إذ لا حاجة إلى إدخاله في حكم السين، فإن الإملاء يَلزمُه الاستدراج المذكور لزوماً بيِّناً، فتأكيده يُغني عن تأكيد هذا، فمَن قال: عطفٌ على {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}
(4)
، ثم قال: وهو داخل في حكم السين، فقد أخطأ مرتين.
(1)
"قليلا" الثاني من (ك).
(2)
"والفرق بين المعنيين واضح وإن اشتبه على مَن ذَكر المعنى الثاني وقال: ومنه درج الكتاب" من (م).
(3)
في (م): "كما".
(4)
في (م): "نستدرجهم"، والمثبت من (ف) و (ك)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 182)، وعليه تعقَّب المؤلف.
وإنما لم يقل: نملي لهم، على وفق {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} للفرق بينهما، فإن الاستدراج بالتدبير العادي الذي توسَّط فيه المدبِّراتُ أمراً، والإملاء بالتقدير الإلهي الذي لا دخل فيه لأحد.
{إِنَّ كَيْدِي} الكيد: الأخذ على خفاءٍ، فإطلاقُها هنا على الحقيقة لا على التشبيه؛ كما زعمه مَن قال: وإنما سماه كيدًا لأنَّه على صورته، ولا يُعتبر فيه إظهار خلافِ ما أبطنه، وبه يفارق المكرَ، فإنه يشارك الكيدَ في الأخذ المذكور، ويمتاز عنه باشتماله القيدَ المذكور.
{مَتِينٌ} : شديد قوي، أصله من المَتْن، وهو اللحمُ الغليظ الذي على جانب الصُّلب، وهما متنان.
* * *
(184) - {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} الاستفهامُ للتعجب، والواو للعطف على محذوف تقديره: ألم يعلموا ولم يتفكَّروا.
{مَا بِصَاحِبِهِمْ} يعني: محمدًا
(1)
صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ جِنَّةٍ} ؛ أي: جنونٍ، من مسِّ الجن، وكانوا يقولون فيه عليه السلام: شاعر مجنونٌ، بالَغَ في نفي الجنون عنه عليه السلام بنفي الحقيقة منكِّرًا قاصدًا بتنكيرها التقليلَ
(2)
؛ أي: ليس به عليه السلام شيءٌ من الجِنَّة، وبزيادة {مِنْ} الدالةِ على نفي
(3)
(1)
في (م): "بمحمد".
(2)
في (ت): "التمثيل".
(3)
"نفي" من (م).
ما ينسب إليها أيضًا وإن لم يكن منها حقيقةً. وفي تقديم {بِصَاحِبِهِمْ} تعريضٌ لهم، وفي عبارة
(1)
الصاحب إليهم إشارةٌ إلى أنه لو كان به عليه السلام تلك الحال لَمَا خَفِيَتْ عليكم؛ لِمَا بينكم
(2)
من المصاحَبة والمخالطة.
{إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ} عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علا الصَّفا فدعاهم فخذًا فخذًا يحذِّرهم بأس الله تعالى، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنونٌ بات يصوِّت إلى الصباح، فنزلت
(3)
.
فالمعنى: ما هو عليه السلام في تلك الحالة
(4)
إلا منذر {مُبِينٌ} : موضحٌ إنذارَه بأعلى صوت.
* * *
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} نظرَ استدلال {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فيما يدلَّان عليه من عظم ملكه، أو فيما يملك به السماوات والأرض من ملكوتيَّاتهما.
الملكوت: الملك العظيم، أو الملائكة؛ أي: جنسِ الملائكة المدبِّرة
(5)
لهما بأمره تعالى.
(1)
قوله: "عبارة" كذا في النسخ، ولعل الصواب:(إضافة).
(2)
في (م) و (ك): "بينكما".
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 182)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 44)، وفيهما:( .. بات يهوت .. )، ومعناه: يصيح.
(4)
في (ك): "الحال".
(5)
"المدبرة" ليست في (ك).
ثم إنه لم يقتصِر على الحثِّ على النظر في الملكوت، بل نبَّه على أن كلَّ فردٍ من الموجودات محلٌّ للنظر والاعتبار والاستدلال على وجود الصانع ووحدانيَّته، كما قيل:
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ
…
تدلُّ على أنه واحدُ
(1)
فقال: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} : وفيما خلق الله تعالى من كلِّ ما يقع عليه اسم الشيء مما لا يمكن حصرُه؛ ليدلَّهم على كمال قدرة صانعها ووحدةِ فاطرها، وعِظَم شأن مالكها ومدبِّرها، فيعلمون صحةَ ما يدعوهم إليه، وفي إمكان اقتراب أجلهم - فعلَّهم
(2)
يموتون عن قريبٍ - فيسارعون إلى النظر فيما يهديهم إلى الحق، ويبادرون من العمل إلى ما ينجيهم من العذاب قبل مغافَصة
(3)
الأجل وحلول العقاب، على ما ذكره بقوله:
{وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} عطف على {مَلَكُوتِ} ، و (أنْ) مخفَّفة من الثقيلة، أصله: أنه، والضمير فيها وفي {يَكُونَ} ضمير الشأن والحديثِ؛ أي: وفي أنَّ الشأنَ عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، ولا يجوز أن تكون مصدريةً؛ لأنهم نصُّوا أنها تُوصَل بفعلٍ متصرِّفٍ، و (عسى) فعل جامدٌ فلا يجوز أن يكون صلةً لـ (أنْ).
ويجوز أن يراد باقتراب الأجل اقترابُ الساعة.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} ؛ أي: بعد القرآن.
{يُؤْمِنُونَ} متعلِّق بـ {عَسَى أَنْ يَكُونَ} ؛ أي: لعل أجلهم قد اقترب فما بالُهم
(1)
البيت لأبي العتاهية، وهو في "ديوانه" (ص: 104).
(2)
في (ك): "فلعلهم".
(3)
من غافصه: فاجأه، وأخذه على حين غرة. انظر:"القاموس"(مادة: غفص).
لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوحه ولزوم الحجة عليهم؟
وقيل: فواتُه ما هو إلا لكونهم مطبوعًا على قلوبهم.
لمَّا أرشدهم إلى الاستدلال، وحرَّضهم
(1)
على النظر في إمكان قُرب الأجل، أنكر عليهم التثبُّط عن
(2)
الإيمان، ثم قرَّر معنى الإنكار وما يلزمُه وعلَّل ذلك بقوله:
(186) - {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} نفى نفيًا عامًّا أن يكون هادٍ لمَن أضلَّه الله تعالى، فتضمَّن اليأسَ من إيمانهم والمقتَ لهم.
{وَنَذَرُهُمْ} بالرفع اعتراضٌ للبيان؛ أي: وهو يذرهم
(3)
، وقرئ:{وَيَذَرُهُمْ} بالياء، لقوله تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} ، وقرئ به وبالجزم عطفًا على محل {فَلَا هَادِيَ لَهُ} ، كأنه قيل: لا يَهْدِه أحدٌ غيره وَيذَرْهم
(4)
.
{فِي طُغْيَانِهِمْ} : في إفراطِ ترفُّعهم {يَعْمَهُونَ} مهو حال منهم.
* * *
(1)
في (ك): "وحرصهم".
(2)
في (م) و (ك): "من".
(3)
قوله: "وهو يذرهم" كذا قال، وهذا من حق القراءة بالياء الآتية، وأما هنا على القراءة بالنون فالصواب أن يقوله:(ونحن نذرهم). انظر: "روح المعاني"(9/ 511).
(4)
قرأ عاصم وأبو عَمْرو: {وَيَذَرُهُمْ} بالياءِ ورفع الرَّاء وحمزة والكسائيّ بالياءِ وجزم الرَّاء والباقون بالنُّون ورفع الرَّاء. انظر: "التيسير"(ص: 115).
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} ، أي: عن يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] وهو من الأسماء الغالبة، وإطلاقها على ذلك اليوم: أمَّا لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لأنها على طولها كساعةٍ عند الله تعالى.
وقيل: أصلها: ساعة قيام الناس، بالإضافة، فلما غَلبتْ تعيَّنتْ فاستَغْنتْ عن الإضافة، وعلى هذا لا حاجة إلى وجه التسمية.
{أَيَّانَ مُرْسَاهَا} {أَيَّانَ} بمعنى: متى، قيل: اشتقاقه من (أيٍّ) وهو من أَوَيتُ
(1)
، لأن البعض آوٍ إلى الكل.
ويمكن أن يكون تركيبُها من (أيَّ) مع الآن
(2)
، فركَّبتْها له
(3)
؛ لأن معناه: أيَّ وقتٍ.
{مُرْسَاهَا} مصدر، أي: إرساؤها
(4)
، أو اسمُ زمان، والإرساء: الإثبات، من الرُّسوِّ، وهو ثباتُ جسم ثقيلٍ وقرارُه، ومنه: رسا الجبل، ولا أثقل من الساعة.
(1)
في (ف): "من أي وإن أو من أويت"، وفي (ك) و (م):"من أي والثامن أويت"، والصواب المثبت. انظر:"المحتسب"(1/ 268)، و"الكشاف"(2/ 183)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 44)، و"البحر"(10/ 388)، و"روح المعاني"(9/ 517).
(2)
في (ف): "مع آن".
(3)
"له" من (م).
(4)
في النسخ: "إرسائها"، والصواب المثبت.
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان والطاعة، وينهاهم عن الكفر والمعصية، ويحذرهم قيام الساعة، فقالوا: متى هي؟
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} استأثره به لم
(1)
يُطْلِع عليه ملَكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلًا.
لمَّا كان السؤال عن الساعة عمومًا، ثم خصِّص بالسؤال عن وقتها، جاء الجواب عنها عمومًا بقوله:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} ثم خصِّص من حيث الوقت فقيل:
{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ؛ أي: لا يبيِّنها ولا يكشفُ أمرها للناس، واللام للتأقيت كما في {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، والمعنى: إن الخفاء بها مستمرٌّ على غيره إلى وقت وقوعه، ولا يُظهرها إلا في ذلك الوقت الذي تقع فيه بغتةً بنفس الوقوع لا بالإخبار عنها؛ ليكون أَدْعَى إلى الطاعة وأَنْهَى عن المعصية، كإخفاء الأجل الخاصِّ الذي هو وقت الموت.
{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: ثقُلت وكبُرت على أهلها من الملائكة والثَّقَلين، لشدة هولها وعظَمها، كأنه إشارةٌ إلى حكمة إخفائها، أي: لا يطيقون حمل إخبارها، أو: ثَقُلَ إخفاؤها عليهم، فإن ما خَفِيَ أمرُه ثقل على النفوس.
{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} : فجأةً على غفلةٍ منكم؛ كما قال: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49].
وقد ورد في الحديث: "إن الساعةَ تَهِيجُ بالناس والرجلُ يُصْلِحُ حوضَه، والرجل يسقي ماشيتَه، والرجل يقوِّمُ سلعته في السوق، والرجل يَخفضُ ميزانَه ويرفعُه"
(2)
.
(1)
في (م): "ولم".
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 184)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 44)، و"البحر"(10/ 428). ورواه الطبري في "تفسيره"(10/ 610) عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري (6506)، ومسلم (2954).
{يَسْأَلُونَكَ} أي: عن الساعة {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} ، حَفِيَ عن الشيء: إذا بالغ في السؤال عنه، والتركيبُ للمبالغة، ومنه إحفاءُ الشارب، واحتفاءُ
(1)
البقل: استئصاله، وأحفى في المسألة: إذا أَلْحفَ، فالمعنى: عالمٌ بها علمًا متقَنًا لأن مَن بالَغَ في المسألة عن الشيء استَحْكَم علمُه [فيه] وأَتقن، ولهذا عُدِّي بـ (عن)؛ أي: كأنك بليغ في السؤال عنها حتى أحكَمْتَ علمَها.
وقرئ: (حفيٌّ بها)
(2)
؛ أي: عليمٌ بليغ في العلم بها.
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} كرَّره بتكرير {يَسْأَلُونَكَ} لِمَا نِيطَ به من زيادةِ قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} للتأكيد والمبالغة.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ
(3)
علمَها عند الله تعالى لم يؤتهِ أحدًا مِن خَلْقه.
* * *
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} : جلبَ نفعٍ ودفعَ ضرٍّ، وهو إظهار العبودية، وتبرّأ عما يختصُّ بالربوبية من علم الغيب؛ أي: كسائر المماليك والعبيد لا أملك لنفسي شيئًا {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من ذلك فيُلهمني إياه ويوفِّقني له.
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} : ولو كنت أعلمه
(1)
في (ف): "وإخفاء"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 184).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 47) عن ابن مسعود، و"المحتسب"(1/ 269).
(3)
في (ف): "أي"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 44).
لخالفت حالي
(1)
ما هي عليه؛ من استكثار الخير باجتلاب المنافع، والاستخلاصِ عن الشر باجتناب المضارّ، كما هو مقتضى طبع البشر.
وفيه دلالة على أنه لا تأثير للتدبير، وإلا لمَا أَمكن التعبير
(2)
بالتدبير على تقدير العلم بأسباب النفع والضر فتدبر، فإنه موضع النظر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أهل مكة: ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلوَ، فنشتريَ فنربح، وبالأرض التي تريد أن تُجدب فنرحلَ عنها إلى ما أخصب؟ فنزلت
(3)
.
{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} : إلا عبد أرسلت بشيرًا ونذيرًا.
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} متعلِّق بالبشير، ومتعلَّق النذير محذوف للتعميم؛ لقوله تعالى:{أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2]، والقوم مختصٌّ بالرجال فالبشارةُ عبارةً تختصُّ بهم، ودلالةً تعمُّ النساء حيث علِّلت بالإيمان، فإن ترتيب أمرٍ بموصوفٍ
(4)
يدل على علِّيَّة الوصف له، وفيه تحريضٌ للكفار على الإيمان.
* * *
(1)
في النسخ: "حال"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 185)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 45).
(2)
في (ف): "التغيير". وفي (ك): "التغير".
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 313)، و"البسيط" للواحدي (9/ 507)، و"تفسير البغوي"(2/ 256)، و"زاد المسير"(2/ 176) عن ابن عباس، و"تفسير أبي الليث"(1/ 573)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 228)، عن الكلبي، ولعل الوارد عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه. وجاء في أكثر المصادر:( .. فتشتري فتربح .. فترحل .. ) بتاء المخاطب.
(4)
في (ف): "بموصوفه".
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدم.
{وَجَعَلَ مِنْهَا} : من جنسها؛ لقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72].
{زَوْجَهَا} : حواءَ {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} سكونَ الشيء إلى جنسه، فيأنسَ بها ويطمئنَّ إليها، وإنما ذكَّر الضمير ذهابًا إلى المعنى، ليبيِّن أن المراد منها آدم، ويؤكِّدَ معنى الأنس والميل؛ لأن الذَّكر بالأنثى آنسُ وإليها أميلُ، وليناسب
(1)
قوله:
{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} التغشِّي كنايةٌ عن الجماع {حَمَلَتْ حَمْلًا} الحمل بالفتح: ما كان في البطن
(2)
، وبالكسر: ما كان على ظَهر.
{خَفِيفًا} لكونه نطفةً، أو خفَّت عليها ولم تَلْقَ منها ما يلقى الحبالى غالبًا من الكرب والأذى.
{فَمَرَّتْ بِهِ} : فقامت به وقعدت، أي: تردَّدت به لخفَّته كما لم تكن تحبل، واستمرت به كما هو قراءةُ ابن عباس رضي الله عنهما
(3)
؛ أي: لم تزلق ولم تسقط
(4)
ولم تجزع.
(1)
في النسخ: "ليناسب" دون واو، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 186)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 45).
(2)
في (ف): "بطن".
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"المحتسب"(1/ 270)، و"الكشاف"(2/ 186)، و"المحرر الوجيز"(2/ 486)، و"البحر"(10/ 441).
(4)
في (م) و (ك): "تسقط".
وقرئ بالتخفيف
(1)
، أي: فشَكَّت فيما أصابها: هل هو حملٌ أو مرض أو غيرهما؟
وقرئ: (فمارَتْ به)
(2)
؛ أي: جاءت وذهبت وتصرَّفت؛ كما تقول: مارت الريح مورًا
(3)
.
{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} : صارت ذات ثِقْلٍ بكِبَر الولد في بطنها؛ أي: حان وقتُ وضعه.
وقرئ: (أُثْقِلَتْ) على البناء للمفعول
(4)
؛ أي: أثقلها الحملُ.
{دَعَوَا اللَّهَ} الضميرُ لآدم وحواء.
{رَبَّهُمَا} : مالكَ أمرهما، ومتعلَّق الدعاء محذوف يدلُّ عليه جملة جواب القسم.
{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} ؛ أي: دَعَوَا الله ورَغِبَا إليه في أن يؤتيهما ولدًا سويًا قد صَلح بدنُه وكَمل خلقتُه.
(1)
أي: (فمَرَتْ به)، نسبت لابن عباس وأبي العالية ويحيى بن يعمر. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"المحتسب"(1/ 269)، و"الكشاف"(2/ 186)، و"المحرر الوجيز"(2/ 486)، و"البحر"(10/ 440).
(2)
نسبت لعبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 47 - 47)، و"المحتسب"(1/ 270)، و"الكشاف"(2/ 186)، و"المحرر الوجيز"(2/ 486)، و"البحر"(10/ 440).
(3)
وجعله الزمخشري مع المخففة - أي: (فمَرَتْ به) - من معنى واحد، فقال:(من المرية، كقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ} و {أَفَتَمْرُونه}، ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به). انظر: "الكشاف"(2/ 186)، و"البحر"(10/ 440).
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 47)، و"الكشاف"(2/ 186)، و"البحر"(10/ 441).
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لك على نعمائك، ويدخل فيه دخولًا أوليًا الشكرُ على هذه النعمة المجدَّدة
(1)
.
* * *
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا} أي: جعل أولادهما {لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} أي: أتى أولادهما فسمَّوا عبدَ العُزى وعبدَ منافٍ، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وكون الخطاب لغير آدم عليه السلام يأباه قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} .
وقرئ: {شِرْكًا}
(2)
؛ أي: شركةً بأن أَشركا فيه غيرَه، أو: ذوي شرك؛ أي: شركاء.
* * *
(191) - {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
{أَيُشْرِكُونَ} الاستفهام بمعنى التوبيخ {مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (هم) ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها
(3)
آلهةً.
* * *
(1)
في (ف): "المحدودة"، ولعله تحريف، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 45).
(2)
هي قراءة نافع وأبي بكر. انظر: "التيسير"(ص: 115).
(3)
في (م): "إياه".
(192) - {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} .
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي: لعبدتهم {نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} فيدفعون
(1)
عنها ما يعتريها.
* * *
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} ؛ أي: المشركين {إِلَى الْهُدَى} : إلى الإسلام {لَا يَتَّبِعُوكُمْ} .
وقيل: الخطاب للمشركين، و (هم) ضمير الأصنام؛ أي: إن تدْعوهم إلى أن يهدُوكم لا يتَّبعوكم إلى مرادكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله تعالى.
وقرئ: {لا يَتْبِعوكم} بالتخفيف
(2)
.
{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} قد مر ما يتعلق به في تفسير سورة البقرة {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} إنما لم يقل: أم صمتُّم؛ لأن المراد أن يقال: سواءٌ عليكم أأحدثتُم الدعاء أم أنتم على ما أنتم عليه من عادةِ الصمت عن دعائهم فإنهم جماداتٌ، وهو حَسَبَ حالهم لأنَّه إذا دَهمهم
(3)
أمرٌ دعوا الله دون الأصنام؛ كقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} [الزمر: 8] وفيه مبالغةٌ في عدم إفادة الدعاء من حيث هو مسوًّى بدوام الثبات على الصمات.
* * *
(1)
في (ف): "فيرفعون".
(2)
هي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 115).
(3)
في (م): "همهم".
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تعبدونهم وتسمُّونهم آلهة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} من حيث إنها مملوكةٌ مسخَّرة، وإنما سمى الأصنام عِبادًا لأنهم كانوا يعتقدون أنها تَضرُّ وتنفع.
{فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنها قادرة على النفع والضر.
وقيل: ذلك استهزاءٌ بهم؛ أي: قُصارى أمرهم أن يكونوا أحياءً عقلاءَ، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضُل بينكم، ثم أَبطل أن يكونوا عبادًا أمثالهم
(1)
بإثبات أنهم أعجزُ منهم، [فقال]:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} . ويأباه الفصل بقوله: {فَادْعُوهُمْ} إلخ فإنَّ انتظامه مع سياق الكلام والتئامَه للمقام على الوجه الأول كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وقرئ: (إنِ الذين تَدْعون) بتخفيف (إنْ) ونصبِ (عبادًا) على أنها نافية عملت عملَ (ما) الحجازية فرفعت الاسم ونصبتِ الخبر، وفيه خلافٌ أجازه الكسائيُّ
(2)
(1)
في النسخ: "أمثالكم"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 189)، والكلام وما سيأتي بين معكوفتين منه.
(2)
كما في "الأزهية" لأبي عبيد الهروي (ص: 46)، و"أمالي ابن الشجري"(3/ 144)، و"مغني اللبيب" (ص:35).
وأكثرُ الكوفيين، ومن البصريين ابنُ السَّرَّاج
(1)
، والفارسيُّ وابنُ جِنِّي
(2)
، ومنعه الفرَّاء
(3)
وأكثر البصريين واختلف النقل عن سيبويه
(4)
والمبرد
(5)
، والصحيحُ أنه لغةٌ ثبت في النظم والنثر
(6)
.
(1)
في "الأصول في النحو"(1/ 235 - 236).
(2)
في "المحتسب"(1/ 272). وذكره عنهما ابن مالك في "شرح التسهيل"(1/ 393).
(3)
كما في "الأزهية"(ص: 46)، و"أمالي ابن الشجري"(3/ 144)، و"مغني اللبيب" (ص: 35).
(4)
نقل عنه جواز الإعمال ابن مالك في "شرح التسهيل"(1/ 393)، ونقله أيضًا السهيلي وأبو بكر بن طاهر كما ذكر أبو حيان في "التذييل والتكميل"(4/ 277 و 280). أما المنع فنقل عنه في "المقتضب"(2/ 362)، و"الأصول في النحو"(1/ 235)، و"الأزهية" (ص: 45)، و"أمالي ابن الشجري"(3/ 143)، و"المحرر الوجيز"(2/ 489)، و"مغني اللبيب" (ص: 35). والصواب أنه لم يرد في "الكتاب" أي تصريح بالجواز، والذين نقلوا عن سيبويه ذلك إنما اعتمدوا على تأويل بعض عباراته الواردة فيه، وهي تأويلات مردودة عند غيرهم من العلماء، بل نقل أبو حيان في "التذييل والتكميل"(4/ 277) عن ابن عصفور أن الذي يعطيه كلام سيبويه أنها لا تعمل، قال:(لأنه لم يذكرها في نواسخ الابتداء والخبر)، كما يرجح الفول بالمنع عنه أن ممن نقله المبرد في "المقتضب" كما تقدم، وكان أعلم الناس في زمانه بكتاب سيبويه، وقد أخذه عن تلامذة أبي الحسن الأخفش تلميذ سيبويه، والذي كان كما قيل: الطريق إلى كتاب سيبويه. وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في حواشي "البحر"(10/ 448)، وعنه نقل المؤلف هذا البحث.
(5)
نقل المنع عنه السهيلي كما ذكر أبو حيان في "التذييل والتكميل"(4/ 277). لكن كلامه في "المقتضب"(2/ 362) صريح في جواز الإعمال، ونقله عنه ابن السراج في "الأصول في النحو"(1/ 236)، والهروي في "الأزهية" (ص: 46)، وابن الشجري في "أماليه"(3/ 144)، وابن عطية في "المحرر الوجيز"(2/ 489)، وابن مالك في "شرح التسهيل"(1/ 393)، وابن هشام في "مغني اللبيب" (ص: 35).
(6)
سقط من (ف) قوله: "والنثر"، والمثبت من باقي النسخ و"البحر". قال أبو حيان: وقد ذكرنا ذلك مشبعًا في "شرح التسهيل". قلت: يعني كتابه "التذييل والتكميل" وقد ورد هذا البحث =
{أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} قرئ بكسر الطاء وضمها
(1)
، وهما لغتان.
والبطش: الأخذُ بقوةٍ والقدرةُ على الإمساك، وبهذه الزيادة يكون الأخذ من خواصّ اليد من بين
(2)
الأعضاء، كما أن المشي بما فيه من الزيادة على مطلق الحركة يكون من خواصِّ الرجل، وإعادةُ أداة الاستفسار على وجه الإنكار دون أداةِ الجمع؛ للإشعار باستقلال انتفاءِ الكلِّ منهما في الإبطال والإثبات المذكورَين آنفًا.
{أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} {أَمْ} منقطعة فتقدَّر بـ (بل) والهمزة، وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الإبطال، وإنما هو تقرير على نفي كلِّ واحدة من هذه الجملة، وتوجه النفي إلى الوصف لأنهم كانوا يصوِّرون هذه الأعضاء للأصنام.
{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} من بابِ وضعِ الظاهرِ موضعَ المضمَر للتهكُّم بعد إثبات عجزهم؛ أي: استعينوا بهم على الضر إليَّ.
{ثُمَّ كِيدُونِ} ؛ أي: بالِغوا فيما تقدرون عليه من مكروهي
(3)
أنتم وشركاؤكم.
{فَلَا تُنْظِرُونِ} : فلا تهملوني
(4)
فإني لا أبالي بكم، وهذا غايةُ الوثوق على ولاية الله تعالى وحفظه، ولهذا قال بعده على سبيل التأكيد بـ {إِنَّ}:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}
= فيه (4/ 277 - 281)، وقد نقلنا بعضًا من كلامه قبل قليل.
(1)
قرأ بضم الطاء أبو جعفر، وباقي العشرة بكسرها. انظر:"النشر"(2/ 274).
(2)
"بين" ليست في (ف).
(3)
في (ف): "مكروه". والمثبت من باقي النسخ و"تفسير البيضاوي"(3/ 46)، ومعنى (من مكروهي): من أذيتي ومضرتي. انظر: "حاشية القونوي على البيضاوي"(8/ 577). وجاء في نسخة من "البيضاوي": (من مكر أنتم وشركاؤكم). انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 246).
(4)
في (ك): "تمهلوني". وجاء في هامش (ف) و (م): "من لم يتنبه لهذا قال في تفسيره: فلا تمهلوني. منه".
الآيةَ، لمَّا كان بلوغُهم إلى الغاية في بذل الجهد متراخيًا عن الاستعانة المذكورة عطَفه
(1)
عليها بأداة التراخي، وكان عدم الإمهال مترتِّبًا
(2)
عليه صدَّره بأداة التعقيب.
* * *
(196) - {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} .
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} ؛ أي: ناصري وحافظي اللهُ الذي أكرمني بما نزال القرآن عليَّ
(3)
{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} ومن عادته أنه يتولَّى الصالحين من عباده
(4)
.
* * *
(197) - {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} .
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ؛ أي: من دون الله تعالى {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ؛ أي: إنهم عاجزون عن نصرة أنفسهم فضلًا عن نصرة غيرهم، أعاد بيان عجزهم لأن الأول للتقريع والثاني لتعميم
(5)
التعليل لعدم مبالاتهم فلا تكرار.
* * *
(1)
في (م): "عطف".
(2)
في (ف): "مرتبًا".
(3)
وقع بعدها في النسخ زيادة: "لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون أي أنهم عاجزون عن نصرة أنفسهم فضلًا"، وليس هذا مكانها، وستأتي في محلها المناسب قريبًا.
(4)
في هامش (ف) و (م): "قال البيضاوي [أي: زاد هنا بعد كلمة (عباده)]: فضلًا عن أنبيائه، وفيه: أن أعيان الأنبياء كيوسف وسليمان عليهما السلام طلبوا اللحوق بالصالحين والدخول في زمرتهم، فعبارة فضلًا لم تصادف محزها. منه".
(5)
في (م) و (ك): "لتتميم".
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} لأنها جمادٌ لا تحسُّ، وليس هذا موضعَ اشتباهٍ، بخلاف أمر النظر فإنهم صوَّروها بصورةِ مَن ينظر إلى مَن يواجهه، ولهذا قال:
{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} والحال أنه لا قدرةَ فيهم على الإبصار، فليس ما تراه على الحقيقة.
إنما تكرَّر القول في هذا وتردَّدت الآيات فيه لأنَّ أمر الأصنام وتعظيمِها كان متمكِّنًا من نفوس العرب في ذلك الزمان، ومستوليًا على عقولهم، فأطنب القول في ذلك من الله تعالى بهم
(1)
.
* * *
(199) - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
{خُذِ الْعَفْوَ} ؛ أي: السهلَ وما يتيسَّر
(2)
من أفعال الناس وأخلاقهم من غير كلفةٍ، ولا تطلب منهم الجهد وما يَشُقُّ عليهم من التكاليف، من العفو الذي ضدُّ الجَهد
(3)
.
أو: الفضلَ من صدقاتهم وما يسهل عليهم ويتيسر لهم، وذلك قبل وجوب الزكاة.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} : بالمعروف المستحسَن من الأفعال والأقوال والأحوال.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} : ولا تكافئ السفهاء بمثل سفَههم، ولا تمارِهم واحْلُم عنهم، وأعرض عن المذنبين.
(1)
"بهم" ليست في (ف).
(2)
في (ف): "تيسر".
(3)
الجهد بالفتح: المشقة. انظر: "مختار الصحاح"(مادة: جهد).
وهذه الآية جامعةٌ لمكارم الأخلاق، روي
(1)
أنه عليه السلام سأل جبريل عليه السلام عن معنى هذه الآية، فقال: أَعطِ مَن حَرَمك، وصِلْ مَن قَطَعك، واعْفُ عمَّن ظَلَمك، وأَحْسِنْ إلى مَن أساء إليك
(2)
.
وقيل: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يارب، كيف والغضب؟ " فنزل قوله:
(200) - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ}
(3)
. (إمَّا) كلمتان: (إنْ) التي هي للشرط، و (ما) التي هي صلةٌ زائدةٌ، والنون للتأكيد.
والنزغ: الإزعاج بالتحريك إلى الشر؛ أي: اعترَض لك الشيطان بإفسادِ شيء من هذه الأخلاق التي أمرتك بها {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : فاعْتَصِم
(4)
به من الشيطان الرجيم.
{إِنَّهُ سَمِيعٌ} لكلامك {عَلِيمٌ} بمَرامك، كناية عن الاستجابة.
* * *
(1)
في (م) و (ك): "وروي".
(2)
رواه بنحوه ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، كما في "الدر المنثور"(3/ 628). ورواه الطبري في "تفسيره"(10/ 643) من طريق سفيان بن عيينة عن رجل قد سماه، ومن طريق سفيان عن أُميٍّ الصيرفي، ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1638) من طريق سفيان عن أميٍّ عن الشعبي، وكل هذه مرسلات كما قال ابن كثير عند تفسير الآية، وزادة "وقد روي له شواهد من وجوه أُخر". قلت: له شاهد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند أحمد (17452).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(10/ 646) عن ابن زيد مرسلًا.
(4)
في (م) و (ك): "فاستعصم".
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} : إن المؤمنين المتقين الله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} : إذا نالهم وسوستُه
(1)
.
قيل: كأنه: طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثِّر [فيهم]
(2)
.
ومبناه الغُفول عن دلالة المسِّ على التأثير
(3)
.
وقرئ: (طَيْفُ)
(4)
، والطَّيف والطائف: ما ألمَّ بالإنسان من عوارض الشيطان.
وقرئ: (طيِّفُ) بتشديد الياء
(5)
، قال الزجَّاج: طاف الخيال يَطيفُ: إذا ألمَّ به، وطاف عليهم يطوف، أي: دار
(6)
. ومَن جعَل هذا من الطوف الواوي قال: (طَيْفٌ) أصله: (طيِّفٌ) بالتشديد، ثم خُفِّف كالهيْن والهيِّن.
والمراد من الشيطان الجنس ولذلك جُمع ضميره.
{تَذَكَّرُوا} ما أَمر الله به ونهَى عنه {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} بسبب التذكُّر مواقعَ الخطأ
(7)
ومكائدَ الشيطان، فيحترزون عنها ولا يتَّبعونه فيها.
(1)
في (م): "وسوسة".
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 47)، وما بين معكوفتين منه.
(3)
في (ف) و (ك): "التأثر".
(4)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 115).
(5)
تنسب لسعيد بن جبير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"البحر"(10/ 463).
(6)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 396).
(7)
في (ف): "الخطاب".
والآية تقريرٌ لِمَا تقدَّم، وما فيه من وجوب الاستعاذة عند نزغ الشيطان، وبيانٌ أن المتقين عادتُهم إذا أصابهم أدنى نزغٍ وإلمامٍ
(1)
بوسوسته
(2)
أن يستعيذوا ويتذكَّروا قبل أن يصير خاطرًا وجالت فيه النفس بالفكر.
* * *
(202) - {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} .
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ} ، أي: إخوان الشياطين الذين لم يتَّقوا يمدُّهم الشياطين
(3)
{فِي الْغَيِّ} بالتزيين والحمل عليه.
وقرئ: {يَمُدُّونَهُمْ}
(4)
من أَمَدَّ.
و: (يُمادُّونهم)
(5)
كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء، وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال.
{ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} : لا يمسكون عن إغوائهم حتى يَردُّوهم، وهذا أشدُّ من الأول، ولهذا عطف عليه {ثُمَّ}
(6)
المستعارة للتراخي في الرتبة.
ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، والضمير المضاف إليه للجاهلين،
(1)
في (ف): (والأمر)، وفي (ك) (م):"والام"، وكلاهما تحريف، والمثبت من "الكشاف"(2/ 191).
(2)
في (م) و (ك): "بوسوسة".
(3)
في (م): "الشيطان".
(4)
هي نافع. انظر: "التيسير"(ص: 115).
(5)
تنسب للجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"المحتسب"(2/ 271). و"البحر"(10/ 467).
(6)
في (م) و (ك): "بثم".
فيكون الخبر جاريًا على ما هو له، والأول أوجه لأن {إِخْوَانُهُمْ} في مقابلة {الَّذِينَ اتَّقَوْا} .
* * *
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} من القرآن أو مما اقترحوه.
{قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} : هلا جمعْتَها افتراءً وتقوُّلًا مِن عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} [سبأ: 43].
أو: هلَّا أخذتَها مقترَحة، من جبَاهُ: إذا جمعه، أو من جُبي إليه فاجتباه، أي: أخذه.
{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} لستُ بمختلِقٍ للآيات، أو لستُ بمقترحٍ لها.
{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} : هذا القرآن بصائر للقلوب بها يُبصَر الحقُّ ويُدرك الصواب.
{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قد سبق تفسيره.
* * *
(204) - {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} لمَّا ذَكر أن القرآن بصائرُ وهدًى ورحمةٌ أمر باستماعه إذا شُرِع في قراءته، وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاءِ إليه؛ لأن ما اشتمل على تلك الأوصاف حريٌّ بأنْ يُصغى إليه حتى يحصل منه للمنصِت المستمِع هذه النتائجُ العظيمة، فيَستبصِر من العمى وَيهتدي من الضلال، ويُرحم بها.
وقيل: نزلت في الصلاة، كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة القرآن والإنصاتِ له
(1)
.
وإطلاق الأمر يقتضي وجوبهما حيث يُقرأ القرآن مطلقًا، وعامةُ العلماء على استحبابهما خارج الصلاة، وفيه إشكال إذ حينئذ يلزم الجمع بين مَعْنييِ الأمر، ويمكن أن يقال: إنه جائز عند اختلاف المحل على ما ذهب إليه العراقيون من أصحابنا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المكتوبة، وقرأ أصحابه خلفه، فنزلت هذه الآية
(2)
.
ومن هنا اتَّضح وجه احتجاج مَن لا يرى القراءة على المأموم بها، وأمَّا قولُ مَن قال: إنها في الخطبة، فضعيفٌ؛ لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة.
بقي هنا دقيقة أنيقة
(3)
لا بد من التنبيه عليها: وهو أن الإنصات مقدِّمة الاستماع فحقُّه أن يقدَّم في الذكر، وإنما أُخر هنا اهتمامًا لشأنه، وإخراجًا له عن حيِّز الإتْباع إلى حدِّ الاستقلال، وتنبيهًا على أنه مقصودٌ بالذات ومأمورٌ به أصالةً حتى لو كان في مجلس القراءة نائيًا عن القارئ، فحقه أن ينصت وإنْ لم يتيسَّر له الاستماع؛ تعظيمًا لشأن القرآن، وإحرازًا لإحدى الفضيلتين
(4)
، ولو قُدم الإنصات لتَبادَر إلى الفهم أن الأمر به لمصلحة الاستماع فلا يجب بدونها.
* * *
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(10/ 658 و 659) عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(10/ 664).
(3)
في (م): "أنيقة دقيقة".
(4)
في (ك): "الفضلين".
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} عامٌّ في جميع الأذكار؛ من القراءة والدعاء والتهليل والتسبيح وغيرها؛ لأن الإخفاء في النفس أَدخَلُ في الإخلاص والخشوع.
{تَضَرُّعًا} باللسان {وَخِيفَةً} بالقلب
(1)
، مفعول من أجْله؛ أي: لتَضرُّعٍ وخِيفةٍ، أو مصدران منصوبان على الحال؛ أي: متضرِّعًا وخائفًا
(2)
.
{وَدُونَ الْجَهْرِ} معطوف على قوله: {فِي نَفْسِكَ} أي: ذكرًا في نفسك، وذكرًا دون الجهر، أو على {تَضَرُّعًا}؛ أي: وقائلًا قولًا دون الجهر، ولهذا جعل قوله:{مِنَ الْقَوْلِ} بيانٌ
(3)
للجهر.
{بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} : بأوقاتِ الغدوِّ؛ أي: غَدَوات، لمقارنة (الآصال)، وهي جمع أصيلٍ كاليمين والأيمان، وقيل: جمعُه: الأُصُل، وجمعُ الأُصُل: الآصال.
وقرئ: (والإيصال)
(4)
من آصَلَ: إذا دخل في الأصيل
(5)
، وهما عبارةٌ عن الليل والنهار، والمراد به الذكرُ على الدوام.
لمَّا أمر تعالى بالذكر أكَّد ذلك بالنهي عن ضدِّه فقال:
(1)
"بالقلب": ليست في (م).
(2)
في (م) و (ك): "وخافيًا".
(3)
كذا في النسخ، والصواب:(بيانا).
(4)
نسبت لأبي مجلز لاحق بن حميد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"الكشاف"(2/ 192)، و"البحر" (10/ 474). ووقع في النسخ:"بالإيصال"، والتصويب من المصادر.
(5)
في النسخ: "بالإيصال"، والتصويب من "الكشاف"(2/ 192)، و"البحر"(10/ 474).
{وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} عن ذكر الله تعالى، خاطبه عليه السلام والمرادُ نهيُ أمَّته عنها بأبلغ وجهٍ؛ أي: لا تقتدوا بالغافلين لكنْ بالملائكة الذين لا يغفلون، وذلك قوله تعالى:
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} هم الملائكة المقرَّبون، و {عِنْدَ} بيانُ قرب الكرامة دون المكان، فإن الله تعالى يتعالى عن ذلك.
{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} كما أن الاستكبار مقدِّمةُ العصيان، كذلك عدمُه مقدِّمةُ الطاعة.
ثم ذكر الطاعة القلبية - وهو التنزيهُ والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدَّسة - بقوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ} والطاعةَ القالبيةَ - وهي الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى - بقوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، وتقديم (له) للاختصاص؛ أي: ويخصُّونه بالعبادة لا يشركون به، وهو تعريضٌ بمَن عَدَاهم من المكلَّفين، ولذلك شُرع السُّجودُ لقراءته.
* * *
سُورَةُ الأَنفَالِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} : جمع نَفْلٍ، وهو الغنيمة، وأصله الزِّيادة، ومنه نوافل العبادات، وإنَّما سُمِّيَتِ الغنيمة نفلًا لأنها زيادةٌ على القيام بالجهاد وحمايةِ الحَوْزَة والدُّعاء إلى الله تعالى، وعبارةُ {عَنِ} صريحه في أن السُّؤال سؤالُ الاستفتاء، فالمطلوب بيانُ حكمِها.
وقرئ بدون {عَنِ}
(1)
، فيكون السُّؤالُ سؤالَ استعطاءٍ
(2)
، وما يشترطه
(3)
الإمامُ لمن يقتحم خطرًا زائدًا على سهمه يُسمَّى أيضًا نفلًا، فالمعنى: يسألك المقتحِمون للخطر ما شرطْتَ لهم.
وقرئ: (عَلَّنْفَال)
(4)
بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام وإدغام نون {عَنِ} فيها.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48)، و"المحتسب"(1/ 272).
(2)
في (م) و (ك): "الاستعطاء".
(3)
في (م): "يشترط".
(4)
تنسب لابن محيصن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48).
{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ؛ أي: حكمُها مختصٌّ بالله ورسوله، يأمر
(1)
اللهُ تعالى رسولَه عليه السلام بقسمتها على مقتضى حكمته، ويمتثلُ
(2)
الرَّسول صلى الله عليه وسلم أمره تعالى فيها، فيقسمُها على حسب أمرِه، ليس لأحد فيها حكم.
وسببُ نزوله اختلافُ المسلمين في غنائم بدر؛ أنها كيف تقسم؟ ومَنْ يقسمُ المهاجرون منهم أو الأنصار؟
وقيل: شرَط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غَناءٌ أن ينفلِّه، فتَسارعَ شبَّانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلَهم، وكان المال قليلًا، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرَّايات: كنا رِدْءًا لكم، وفئةً تنحازون إليها، فنزلت
(3)
.
وعلى هذا يكون ما شُرِعَ بالسُّنَّةِ منسوخًا بالكتاب قبل العمل به، فلا متمسَّكَ فيه للشافعي رضي الله عنه في أنه لا يلزم الإمامَ أن يفي بما وعدَ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلَتْ أوَّلًا، فصارت الأنفال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزلت:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال: 41]، فقسَم الله تعالى ذلك الخمسَ لرسوله ولمن سمَّى
(4)
فيها
(5)
.
ويوافق هذا ما رُوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: نزلَتْ فيَّ هذه
(1)
في (ف): "بأمر".
(2)
في النسخ: "وتمثيل"، والصواب المثبت.
(3)
رواه أبو داود (2737) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر:"تفسير الطبري"(13/ 368)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 231).
(4)
في (ف): "يسمى".
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(9483)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (ص: 342)، والطبري في "تفسيره"(9/ 175).
الآية، وذلك أنَّه لما كان يومُ بدرٍ قُتل أخي عمير وقتلتُ سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبتُه منه، فقال: ليس هذا لي ولا لك، فاطرحه في القَبَضِ، فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سَلَبي، فما جاوزت إلا قليلًا حتى نزلَتْ سورةُ الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألْتني السَّيفَ وليس لي، بيانه قد صار لي فاذهب
(1)
فخذه"
(2)
.
وعلى هذا يكون المعنى: الأنفال للرَّسول، ويكون ذكر الله تمهيدًا؛ لتعظيم شأنه عليه السلام، والتنبيهِ
(3)
على أنه عليه السلام يتصرَّف فيها على ما يرتضيه تعالى، وتقتضيه الحكمة
(4)
.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} في الاختلاف والتَّخاصم، وكونوا متحابِّين متآخين في الله.
{وَأَصْلِحُوا} بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتفضَّلَ به عليكم، وتسليمِ أمرِه إلى اللهِ والرَّسولِ.
{ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ذات البين: هي
(5)
الأحوال التي تقع بين النَّاس؛ أي: بينكم من الأحوال، ولمَّا كانت ملابِسةً للبَيْن قيل لها: ذات البين، بالإضافة كقوله:{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]، أي: مضمَراتها من السرائر.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في تفويض أمركم إليهما والتسليمِ لحكمهما.
(1)
"فاذهب" سقط من (ك).
(2)
رواه بنحوه الإمام أحمد في "المسند"(1556)، وأصل الحديث رواه مسلم (1748).
(3)
في (ف): "وللتنبيه".
(4)
في (م) و (ك): "ويقتضيه الحكم".
(5)
في (ف): "هي من".
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إيماناً يُعتدُّ به، قد جعلَ التَّقوى وطاعةَ اللّهِ ورسولِه وإصلاحَ ذاتَ البَيْنِ من لوازم الإيمان وشرائطه؛ إيذانًا بأنَّ كمالَ الإيمان موقوفٌ عليها، حتى إذا فُقِدَتْ كانَ كَلَا إيمانٍ، كما تقول: إن
(1)
كنت من الرجال فأوفِ بعهدك، تشير إلى لزوم الوفاء للرُّجولية.
* * *
واللام في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} إشارةٌ إليهم، والمراد: الكاملون في الإيمان، والدلالة عليه قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، كأن غيرهم ليسوا بمؤمنين حقيقةً.
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فرغَتْ لِذِكْرِه؛ استعظامًا له، وتهيُّبًا من جلاله، فلا يخالفونه في أمره، وقيل: هو الرَّجل يهمُّ بمعصيته، فيقال: اتقِ الله، فيفزع عنه خوفًا من عقابه.
وقرئ: (وَجَلَتْ) بالفتح
(2)
، وهي لغة فيه، و (فَرِقَتْ)
(3)
؛ أي: خافت.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي: يقينًا وطمأنينةَ نفسٍ، فإنَّ للإيمان مراتبَ في القوَّة والضَّعف، ورسوخُ اليقين إنما هو بتظاهُر الأدلة
(4)
.
(1)
في (ك): "لأن".
(2)
نسبت ليحيى وأبي واقد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 48).
(3)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "الكشاف"(2/ 196)، و"البحر المحيط"(11/ 13).
(4)
انظر: "تفسرِ البيضاوي"(3/ 49)، وفيه: ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة، أو بالعمل بموجبها، وهو =
وقيل: لزيادة المؤمَن به، ويلزمه تخصيص الآيات بالتي تُلِيَتْ أوَّلًا.
وقيل: وبالعمل بموجبها على قوِل مَن قال بدخول العمل في الإيمان، ويلزمه تخصيصًا بالتي يتعلق بالأعمال زيادة على التَّخصيص الأوَّل، فتأمَّل.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في تقديم الجار والمجرور على الفعل إشارةٌ إلى أنَّ المؤمنين بالإيمان الكامل حقُّهم أن لا يفوِّضوا أمورَهم إلَّا إليه، ويسلِّموا تسليمًا.
* * *
(3) - {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قد مرَّ تفسيره في أوائل
(1)
(سورة البقرة).
* * *
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} قد جمع في الآية بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل وبين أعمال الجوارح من الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الظاهرَ عنوانُ الباطن، والباطنُ أساسُ الظَّاهر، وكما أن الثلاثة الأُوَل أصولُ الأعمال القلبية وملاكُها، فالأُخريان أصول الأعمال القالبية وعيارُها، فهي مستتبعةٌ لسائرها.
{حَقًّا} مصدرٌ مؤكَد لِمَا تقدَّم؛ أي: حَقَّ ذلك حقًّا، أو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: إيمانًا حقًّا.
= قول من قال: الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بناء على أن العمل داخل فيه.
(1)
في (م) و (ك): "أول".
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : كرامةٌ وعلوُ منزلةٍ {وَمَغْفِرَةٌ} لِمَا فرَطَ منهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أُعِدَّ لهم في الجنَّة، لا ينقطعُ عددُه، ولا ينتهي أمدُه.
لمَّا تقدَّمَتْ ثلاثُ صفاتٍ: قلبية وقالبيَّة وماليَّة، يترتَّبُ عليها ثلاثةُ أشياء، فقُوبلَتِ الأعمالُ القلبيَّة بالدَّرجات، والقالبيَّةُ بالغفران، والماليَّةُ بالرِّزق الكريم.
قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} متعلِّق بالمعطوفَين، كـ {مِنْ قَبْلُ} في قوله تعالى:{لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ} [الأنعام: 158]، وقد مرَّ بيانُه في تفسير (سورة الأنعام).
* * *
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} في محلِّ الرَّفع خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: هذه الحالُ كحالِ إخراجك للحراب في كراهتهم إيَّاها
(1)
.
أو في محلِّ النَّصبِ صفةً لمصدر الفعل المقدَّر في قوله تعالى: {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ؛ أي: الأنفال ثبتَتْ للهِ والرَّسول مع كراهتهم ثباتًا مثلَ ثباتِ إخراج ربك {مِنْ بَيْتِكَ} - بالمدينة، أو المدينةِ نفسها؛ لأنها في اختصاصها به من حيث إنها مسكنه ومهاجَرُه كاختصاص البيت بصاحبه - مع كراهتهم إيَّاه.
{بِالْحَقِّ} صفةٌ للمصدر
(2)
؛ أي: إخراجًا ملتبِسًا بالحق.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} حال؛ أي: أخرجَكَ في حال كراهتهم.
وفيه دلالة على أن كراهة الإخراج إنما كانت من بعضهم.
(1)
في (ف): "إياهما".
(2)
في (ف): "المصدر".
وسببُ إخراجِه أنَّ عيرَ قريشٍ أقبلَتْ من الشام فيها تجارةٌ عظيمةٌ، وفيها أربعون راكبًا، فأَخبرَ جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأَخبرَ المسلمين، فأعجبهم تلقِّي العير؛ لكثرة الخير، وقلَّة القوم، فلما خرجوا بلغَ الخبرُ أهل مكَّة، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكَّة، النَّجاءَ النَّجاءَ، على كلِّ صَعبٍ وذَلولٍ، عيرَكم أموالَكم، إنْ أصابَها محمَّدٌ لن تفلحوا بعدَها أبدًا.
فخرج أبو جهل بجميع أهل مكَّة - وهو
(1)
النفير في المثل السائر: لا في العير ولا في النَّفير
(2)
- فقيل [له]: إنَّ العيرَ أخذَتْ طريقَ السَّاحل ونجَتْ، فارجعْ بالنَّاس إلى مكَّة، فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدًا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ببدر، فيتسامعَ جميعُ العرب بمخرجنا، وأنَّ محمدًا لم يُصبِ العيرَ، وأنَّا أعضضناه
(3)
، فمضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسُوقهم يومًا في السنة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي دفران، فنزل جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطَّائفتين؛ إمَّا العير وإمَّا النَّفير
(4)
، فاستشار فيه أصحابه رضي الله عنهم فقال بعضهم:
(1)
في "الكشاف"(2/ 197): "وهم"، وما سيأتي بين معكوفتين منه.
(2)
قوله: "لا في العير ولا في النفير": قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب حين انصرف بنو زهرة إلى مكة: يا بني زهرة، لا في العير ولا في النفير! عني بالعير: عمر قريش التي أقبلت مع أبي سفيان من الشام، وبالنفير: من خرج من المشركين لاستنقاذها من أيدي المؤمنين، وكان ببدر ما كان. قال الأصمعي: يضرب للرجل يحط أمره ويصغر قدره. انظر: "فتوح الغيب" للطيبي (7/ 23).
(3)
قوله: "أعضضناه" أي: استخففنا به وشتمناه، وهي شتيمة عند العرب يريدون بها: عضضت بظر أمك، ومنه قول أبي جهل لعتبة يوم بدر: لو غيرك يقول هذا أعضضته، أي: شتمته. انظر المصدر السابق.
(4)
في (م) و (ك): "قريش".
هلَّا ذكرْتَ لنا القتال حتى نتأهَّب له، إنَّا خرجنا للعير. وهم المراد من الفريق المذكور، وتمام القصة يطلب من كتاب السِّير.
* * *
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} يحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في {لَكَارِهُونَ} ويحتمل أن يكون استئنافَ إخبارٍ.
وجدالهم: قولهم: ما كان خروجنا إلَّا للعير، ولو عرفنا لاستعدَّينا للقتال.
والحقُّ هنا: نصرة دين الإسلام بالجهاد.
{بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} أي: بعدَ تَبيُّنِه بإعلام الرَّسول أنَّهم ينصرون، وهذا أبلغ في الإنكار لجدالهم.
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} حال؛ أي: يجادلونك مُشْبِهين مَنْ يُساق إلى الموت.
{وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حال من ضمير {يُسَاقُونَ} ، شبَّه حالهم في شدَّة فزعهم وفَرْطِ رعبهم لقلَّة عَدَدِهم وعُدَدهم بحالِ مَن يُساق بالذُّل والصَّغار إلى القتل المتيقَّن، وهو مشاهِدٌ لأسبابه، ناظِر إليها.
* * *
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} على إضمار (اذكر)، و {إِحْدَى} ثاني مفعولي {يَعِدُ} ، وقد أُبدل عنها {أَنَّهَا لَكُمْ} بدلَ الاشتمال.
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} هي العير؛ لأنَّه لم يكن فيها إلا أربعون فارسًا، وكانوا يكرهون النَّفْر لشوكتهم بكثرة العَدَد ووفرة العُدَد.
والشَّوكة: الحِدَّة، استُعيرَتْ في الأصل من واحد الشَّوك، فقلبت في كلِّ قوَّة وحدَّة، ومنه: شائك السِّلاح.
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} أي: يثبِّته ويُعليَه
(1)
.
{بِكَلِمَاتِهِ} بآياته المنزَلَة في محاربة ذات الشوكة، أو بأمر الملائكة بالنُّزول لنصرتهم، وبما قضى وقدَّر من قتلهم وأسرهم.
و قرئ: (بِكَلِمَتِهِ)
(2)
؛ أي: بأمره.
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} يستأصلَهم، والدَّابر: الآخِر، مِنْ دَبَرَ: إذا أدبرَ، وإذا
(3)
قطعَ آخرهم لم يبق منهم أحد.
والمعنى: أنَّكم تتمنَّون أن تصيبوا مالًا ولا تلقوا مكروهًا، وهو من سَفْساف
(4)
الأمور، والله يريد إعلاء الدِّين وإظهار الحقِّ، وما فيه فوز الدَّارين، وهو من معالي الأمور.
* * *
(8) - {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} متعلق بمحذوف، أي: فعَل ذلك، ويجوز أن يكون متعلِّقًا بـ {وَيَقْطَعَ} .
(1)
في (م) و (ك): "ويغلبه".
(2)
نسبت لمسلمة بن محارب. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49).
(3)
"أدبر وإذا" زيادة من (م) و (ك).
(4)
في (ف) و (م): "سفاق".
ويجب أن يُقدَّر الفعلُ مؤخَّرًا ليفيد معنى الاختصاص، وأنَّه ما فعلَ إلا لذلك.
وليس بتكريرٍ؛ لأنَّ الأوَّل لبيان المراد وما
(1)
بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الدَّاعي إلى حمل الرَّسول على اختيار ذات الشوكة ونصره عليها.
{وَلَوْ كَرِهَ} ذلك، الجملة في موضع الحال.
* * *
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بدل من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} ، أو نصبٌ بإضمار (اذكرْ)، ويجوز أن يكون متعلِّقًا بقوله:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} .
واستغاثتُهم لأنهم لَمَّا
(2)
علموا أنَّه لا بدَّ من القتال أخذوا يَدْعون الله يقولون: أي ربِّ، انصرنا على عدوِّك، يا غِيَاث المستغيثين أَغِثْنا.
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} أصله: بأني ممدكم، فحذف الجارَّ وسلِّط عليه (استجاب).
وقرئ: (إنِّي) بالكسر
(3)
؛ إجراء للقراءة مُجرى القول.
{بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} بكسر الدال، من رَدِفه: إذا تبعه
(4)
، أي: مُتْبعين بعضُهم بعضًا المؤمنينَ ليحفظوهم، أو أنفسَهم المؤمنين، أو يتقدَّمونهم
(1)
في (م): "فيما"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 51).
(2)
في (م): "أنهم"، وفي (ك):"أنهم لما".
(3)
رويت عن أبي عمرو والمشهور عنه الفتح كقراءة الجمهور. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص:48).
(4)
في (ف): "اتبعه".
فيُتْبِعونهم أنفسَهم. أو من أردفته: إذا جئْتَ بعدَه؛ أي: متَّبعين بعضَهم بعضًا، أو متَّبعين المؤمنين
(1)
.
وقرئ بفتح الدَّال
(2)
، بمعنى: مُتبعين؛ أي: كانوا مقدِّمة الجيش، ومُتْبَعين؛ أي: كانوا ساقَتَهم.
وقرئ: (مردِّفين) بكسر الراء أو فتحها
(3)
وتشديد الدَّال
(4)
، وأصله: مُرْتَدِفين، بمعنى: مترادفين
(5)
، فأدغمت الدال في الفاء، فالتقى ساكنان، فحرِّكت الرَّاء بالكسر على الأصل، أو بالضم على الإتباع.
وقرئ (بآلاف)
(6)
، فيوافق ما في (سورة آل عمران).
(1)
للزمخشري والبيضاوي وشراحهما كلام كثير في تفسير هذه الكلمة وما فيها من الوجوه، وذلك من خلال التفريق بين معنى (اتَّبع) المشدد ومعنى (أَتْبع) المخفف اللذين يحتملهما (أردف)، وما تحتمله الآية من معاني على كل واحد منهما. انظر ذلك في "حاشية شيخ زاده"(4/ 367)، و"حاشية الشهاب"(4/ 256)، و"حاشية القونوي"(9/ 24)، وبهامشها "حاشية ابن التمجيد"، وكذلك "روح المعاني" (10/ 38 - 39). وملخصه كما قال أبو حيان في "البحر" (11/ 29): أنَّ اتَّبع مشددًا يتعدى إلى واحد، وأَتْبع مخففًا يتعدى إلى اثنين، وأردف أتى بمعناهما، والمفعول لـ (اتَّبع) محذوف، والمفعولان لـ (أَتْبع) محذوفان، فيقدر ما يصح به المعنى.
(2)
قرأ بها نافع. انظر: "التيسير"(ص: 116).
(3)
في (م): "أو فتحها".
(4)
بكسر الراء مع تشديد الدال. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49)، و"المحتسب" (1/ 273). وبفتح الراء مع تشديد الدال. انظر:"إعراب القرآن" للنحاس (2/ 91)، و"المحتسب" (1/ 60). وروي عن الخليل أنها بضم الراء إتباعًا لحركة الميم. انظر:"البحر المحيط"(11/ 28).
(5)
في (ف): "مرادفين"، و (ك):"مردوفين".
(6)
تحرفت في النسخ وفي مطبوع "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49) إلى: "بالألف"، =
ووجهُ القراءة على التَوحيد إذا لم يفسَّر الإرداف بإتباع ملائكة آخرين
(1)
أنَّ المرادَ بالألف: الذين كانوا على المقدِّمة أو السَّاقة، أو وجوههم وأعيانهم، والباقي أتباع لهم، أو مَن قاتل منهم.
* * *
واختُلف في مقاتَلتهم، وقد رُوي أخبار تدلُّ عليها، والظَّاهرُ من قوله:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} ؛ أي: الإمداد {إِلَّا بُشْرَى} : إلَّا بشارةً {لَكُمْ} بالنَّصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فيزولَ ما بها من الوَجَل لقلَّتكم وعدم عُدَّتكم = أنهم لم يكونوا نازلين
(2)
للقتال.
وللمخالِف أن يقول: إن الضمير في {جَعَلَهُ} ؛ لقوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} فلا ينافي أن يكون نزولهم للقتال، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} عطٌ على {بُشْرَى} من جهة المعنى، والمراد به مطلق الحدث المدلول عليه ضمنًا على الاتِّساع، كما في قوله: تسمَعُ بالمُعَيديِّ
=والصواب المثبت. انظر: "الكشاف"(2/ 202)، و"المحرر الوجيز"(2/ 504)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 51)، و"البحر"(11/ 28)، و"الدر المصون"(5/ 566)، وقد نص السمين على أنها على وزن:(أحمال).
(1)
أي: إذا لم يفسر المردِفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردِّفين بارتدافهم غيرهم. انظر:"الكشاف"(2/ 202).
(2)
في النسخ: "تاركين"، والصواب المثبت بدلالة السابق واللاحق، ويؤيده قول الألوسي في "روح المعاني" (10/ 42):(وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالًا، وهو مذهب لبعضهم).
خيرٌ من أن تراه، فالمعنى: إلا لبشارتكم ولطمأنينة قلوبكم.
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لا من الملائكة ولا من المقاتلة، أي
(1)
: وما النَّصرُ بالملائكة وسائر الأسباب إلا من عند الله، والمنصورُ مَنْ نصرَه اللهُ تعالى.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} : منيعٌ لا يُغالَب {حَكِيمٌ} في أقواله وأفعاله.
* * *
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} بدلٌ ثانٍ من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} ؛ لإظهار نعمة ثالثة، أو منصوب بـ {النَّصْرُ} أو بما في {عِنْدِ اللَّهِ} من معنى الفعل، أو بما {جَعَلَهُ} ، أو بإضمار (اذكر).
وقرئ بالتَّخفيف
(2)
، مِنْ أَغشَيْتَهُ الشَّيء: إذا غَشَّيْتَهُ إيَّاه
(3)
، والفاعل هو الله تعالى.
وقرئ: {يَغْشَاكُمُ} بفتح الياء، ورفع {النُّعَاسُ}
(4)
، من غَشِيَ.
والنُّعاس: ابتداءُ حال النَّوم قبل الاستقلال.
{أَمَنَةً} مفعولٌ له من جهة المعنى؛ فإنَّ قولَه: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} يتضمَّنْ معنى تنعسون و {يَغْشَاكُمُ} بمعناه، والأَمَنَةُ فعلٌ لفاعله.
(1)
في (ف) و (م): "أو".
(2)
قرأ بها نافع. انظر: "السبعة في القراءات"(ص: 282)، و"جامع البيان في القراءات السبع" للداني (3/ 1135)، و"النشر"(2/ 276)، وسقطت هذه القراءة من مطبوع "التيسير".
(3)
أي: من الإغشاء بمعنى التغشية. انظر: "روح المعاني"(10/ 43).
(4)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 116).
{مِنْهُ} صفة لـ {أَمَنَةً} ؛ أي: أمنًا لكم حاصلًا منه تعالى.
ويجوز أن يُراد بها الإيمان، فيكون فعلَ المغشيِّ، وأنْ يُجعَلَ على القراءة الأخيرة فعلَ النُّعاس على المجاز؛ لأنها لأصحابه، أو لأنَّه كان من حقَّه أن لا يغشاهم
(1)
لشدَّة الخوف، فلما غَشِيَهم فكأنه حصلت له أمنة من الله تعالى لولاها لم يَغْشَهم، كقوله:
يَهابُ النَّومُ أنْ يغشى عيونًا
…
تهابُكَ فهو نفَّارٌ شَرُودُ
(2)
والمعنى: تنعسون في وقتٍ كان ما بكم من الخوف مانعًا من النَّوم، فأمَّنكم اللهُ فنعستم لأَمْنكم.
وقرئ: (أَمْنَةً) كرحمة
(3)
، وهي لغة فيه.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} من الحدَثِ والجنابة.
{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} ؛ أي: الجنابةَ؛ فإنها من تخييله ووسوسته إليهم، وتخويفهم من العطش والجنابة، وذلك أن الشَّيطان تمثَّل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء، ونزل المؤمنون في كثيبٍ أحمرَ تسوخُ فيه الأقدام على غير ماءٍ، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمَّد تزعمون أنكم على الحقِّ، [وإنَّكم تصلون على غير وضوءٍ، وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حقٍّ]
(4)
ما غلبكم هؤلاء على الماء، وما يَنتظرون
(5)
بكم إلا أن يجهدكم العطش،
(1)
في (م) و (ك): "يغشيهم".
(2)
نسب البيت للزمخشري. انظر: "فتوح الغيب"(7/ 40)، و"حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 258)، و"روح المعاني"(10/ 44).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 203)، و"البحر المحيط"(11/ 33).
(4)
ما بين معكوفتين زيادة من "الكشاف"(2/ 203).
(5)
في (ك): "ينظرون".
فإذا قَطع العطش أعناقكم مشَوا إليكم، فقتلوا مَنْ أحبُّوا
(1)
وساقوا بقيتكم إلى مكَّة، فأشفقوا
(2)
، فأُنْزِلَ المطرُ، فمُطروا ليلًا حتى جرى الوادي، واتَّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم الحِياضَ على عُدوة الوادي، وسقَوا الرِّكاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبَّد الرَّمل الذي كان بينهم وبين العدو، حتى ثبتت
(3)
فيه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان
(4)
.
{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} ؛ أي: يشدَّها ويقوِّيَها بالسُّكون وحُسن الظَّن وزوالِ الاضطراب والارتياب.
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} أي: في مواقف الالتقاء للقتال.
والضمير في {بِهِ} للرَّبط؛ فإنَّ القلب إذا قويَ باليقين والوثوق بالله تعالى تثبتُ القدمُ في المعركة، وحينئذ يكون الثُّبوت من لوازم الرَّبط، ويظهر وجهُ عدم الفصل بينهما بإعادة أداة التعليل، كعدم الفصل بين التطهير والإذهاب المذكورين قبل هذا.
وقيل: للمطر؛ فإن به يتلبَّد الرَّمل فلا تسوخ القدم فيه.
وَيرِدُ عليه أنه حينئذ لا يكون الثُّبوت من لوازم الربَّط، فحقُّه أن يعاد فيه أداة التعليل.
* * *
(1)
في (ف): "أجيدكم"، و (م):"احتداء"، وفي (ك):"أخذ"، والمثبت من "الكشاف".
(2)
في (ف): "فاستقوا". وفي "الكشاف": (فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا).
(3)
في (ف): "تثبتت".
(4)
روى نحوه الطبري في "التفسير"(9/ 195)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 78). وهذا السياق من "الكشاف"(2/ 203 - 204).
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} وبدل ثالث، أو متعلق بـ (يثبِّت).
{أَنِّي مَعَكُمْ} أُعينكم في تثبيت المؤمنين، وهو مفعول {يُوحِي} ، وقرئ:(إنِّي) بالكسر
(1)
؛ إجراء للوحي مجرى القول.
{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} بالبشارة، أو بتكثير سوادهم، أو بمحاربة أعدائهم، فيكون قوله:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} كالتفسير لقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا} ؛ إذ لا إعانة كإلقاء الرُّعب في قلوب الأعداء، أو نوع آخر من الإعانة.
والرُّعب: الخوف الذي علا القلب، من قولهم: رَعَبَ السَّيلُ الواديَ: إذا مَلأهُ
(2)
، أو يقطع القلبَ من ترعيبِ السَّنام، وهو تقطيعه.
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} أعاليَها؛ أي: المذابحَ والرؤوس
(3)
والهامات.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} : أصابع؛ أي: الأطراف
(4)
؛ أي: حزُّوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
وزاد هنا عبارة {كُلَّ} المتعدِّد في الأطراف، والمراد: استيفاؤهم بالقطع، أمر الملائكة بأن يقتلوهم على وجهٍ لا يمتنعون على من
(5)
قصدَ أسرهم.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 204)، و"البحر المحيط"(11/ 38).
(2)
في (ف): "ملأ".
(3)
في (م) و (ك): "أو الرؤوس".
(4)
في (م): "أي أصابع الأطراف"، وفي (ك):"أي الأطراف".
(5)
"من" سقط من (ف).
وفيه دليل على أنهم قاتلوا، ومَن أنكره، قال: قوله: {سَأُلْقِي} إلى قوله: {كُلَّ بَنَانٍ} تلقينٌ لهم معنى تثبيتهم، كأنَّه قال لهم قولوا للمؤمنين قولي هذا، أو تفسير للخطاب بأن يكون {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} خطابَ الملائكة، والباقي خطابَ المؤمنين.
* * *
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إشارة إلى ما أصابَ الكفَّار من القتل والعقاب بسبب مُشاقَّتهم لله تعالى وللرسول عليه السلام، والخطاب للرسول عليه السلام، أو لكلِّ واحد
(1)
، وهو أبلغ لدلالته على فظاعة الأمر، والمشاقَّةٌ مشتقَّة من الشَّقِّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعادِين في شَقٍّ خلاف شَقِّ الآخر، كالمعاداة من العدوِّ، والمخاصمة من الخَصْمِ، وكلاهما الجانب.
{يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تقريرٌ للتَّعليل ووعيدٌ لهم بما أُعِدَّ لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدُّنيا بسبب المشاقَّة، ومَنْ شاقَّ فلا يقتصر
(2)
على هذا، فإنَّ اللهَ شديدٌ عقابُه في الآخرة.
* * *
(14) - {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} .
والخطابُ في قوله: {ذَلِكُمْ} للكفرة على طريقة الالتفات، وهو رفعٌ
(1)
في (م) و (ك): "أحد".
(2)
في (ف): "ومن يشاق فلا يقتصرن".
بالابتداء أو الخبر، أي: ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم، أو نصبٌ بفعل يفسِّرُه قولُه:{فَذُوقُوهُ} والفاء
(1)
عاطفة؛ أي: ذوقوا ذلكم فذوقوه، أو: باشروا، قيل: أو عليكم ذلكم، ولا وجهَ له لأن (عليكم) من أسماء الأفعال لا تُضْمَر.
وهذه الجملة تأكيدٌ وتقريرٌ لِمَا سَبَقَ؛ لأنَّ الأولى دالَّة على استحقاقِهم العذابَ العاجلَ مع العذابِ الآجلِ، ولمَّا كان عذاب الدُّنيا بالنِّسبة إلى عذاب الآخرة يسيرًا سُمِّيَ ما أصابهم فيه ذوقًا؛ لأنَّ الذَّوق يُعْرَفُ به الطَّعمُ
(2)
، وهو يسيرٌ.
{وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} عطفٌ على {ذَلِكُمْ} رفعًا ونصبًا، ويجوز أن يكون مفعولًا معه على أنَّ الواو بمعنى (مع)؛ أي: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع العذابِ الآجلِ الذي لكم في الآخرة، ووُضع الظَّاهرُ فيه موضعَ المضمرِ للدَّلالة على أنَّ الكفرَ سببُ العذابِ الآجلِ، أو الجمع بينهما.
وقرئ: (وإنَّ) بالكسر
(3)
، على الاستئناف.
ولَمَّا كانت النَّارُ إعدادُها للكفَّار على ما نطقَ به قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، صَحَّ تقديمُ الجار والمجرور المفيدِ لاختصاصِ عذابها المُعَدِّ لهم.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} حالٌ من {الَّذِينَ كَفَرُوا} .
(1)
في (م) و (ك): "الفاء".
(2)
في (م) و (ك): "بالطعم"، والمثبت من (ف) وهو الموافق لما في "البحر"(11/ 44).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49).
والزَّحْفُ: الجيشُ الدَّهْمُ الذي يُرَى لكثرته كأنَّه يزحفُ؛ أي: يَدبُّ، مِنْ زَحفَ الصبيُّ: إذا دَبَّ على استِه قليلًا، سُمِّيَ بالمصدر.
{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} كنايةٌ عن الفرار، ولا يلزمه الانهزام على ما أفصح عنه الاستثناء الآتي ذِكْرُه؛ أي: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير وأنتم قليل فلا تَفِرُّوا، فضلًا أن تُدانوهم في العَدَدِ والعُدَدِ، أو تساووهم
(1)
.
* * *
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} : هو الكَرُّ بعدَ الفَرِّ لتغريرِ العدوِّ، وهو من باب خدعِ الحرب ومكائدها، يختلُ للعدوِّ أنَّه منهزِمٌ، ثم يعطِفُ عليه.
{أَوْ مُتَحَيِّزًا} : منحازًا {إِلَى فِئَةٍ} : إلى
(2)
جماعة أخرى من المسلمين على القُرْبِ منه؛ لِمَا روى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما: أنَّه خرجَتْ سريَّة وأنا فيهم، ففرُّوا
(3)
، فلَمَّا رجعوا إلى المدينة استحيَوا فدخلوا البيوت، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، نحنُ الفرَّارون. فقال:"بل أنتم العكَّارون، وأنا فئتُكم"
(4)
.
(1)
في (م): "وتسَاووهم".
(2)
في (ك): "أي".
(3)
"ففروا" سقط من (ك).
(4)
رواه أبو داود (2647)، والترمذي (1716)، وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد، ومعنى قوله:"بل أنتم العكَّارون"، العكَّار: الذي يفر إلى إمامه لينصره ليس يريد الفرار من الزحف.
وانتصاب {مُتَحَرِّفًا} و {مُتَحَيِّزًا} على الحال، و {إِلَّا} لغوٌ لا عملَ له، أو الاستثناء من المولِّين؛ أي: إلَّا رجلًا متحرِّفًا أو متحيِّزًا.
ووزن متحيِّز
(1)
: مُتفَيْعِل، لا مُتفعِّل، وإلَّا لكان: متحوِّزًا؛ لأنَّه مِنْ حازَ يحوزُ؛ يقال: حاز الشَّيءَ، أي: ضمَّه وجمعَه، والحيِّز: مجتمَع
(2)
القوم؛ فَيْعَل مِنَ الحوز، والتَّحيُّز الانضمام إليهم والدُّخول في جملتهم، وهو تفعُّل
(3)
من الحيِّز.
والفئة: الجماعة المنقطِعة عن غيرها، مِنَ الفأو
(4)
، وهو قطعُ الرَّأس بالسَّيف.
وإنْ جُعِلَ {زَحْفًا} حالًا من المؤمنين يكون إشعارًا لهم بما سيكون منهم يوم حُنَين، وحين تقدَّمه نهيٌ تولَّوا مدبرين
(5)
وهم اثنا عشرَ ألفًا، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أمَارة عليه.
{فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ؛ أي: استوجبَه.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} هذا إذا لم يَزِدِ العدوُّ على الضِّعْف؛ لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية [الأنفال: 66]، وقيل: هذه الآية مخصوصة بأهل بدرٍ، أو الحاضرين معه في الحرب.
(1)
في (ف): "متحيزًا".
(2)
في (ك): "مجمع".
(3)
في النسخ: "تفعيل" والصواب المثبت.
(4)
في النسخ: "من الفاء" والصواب المثبت. انظر ما سيأتي في هذه السورة عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} .
(5)
قوله: "وحين تقدمه نهي تولوا مدبرين"، كذا في النسخ، ولعل الصواب إسقاط الواو قبل "حين"، وحذف جملة:"تقدمه نهي" كما جاء في المصادر. انظر: "الكشاف"(2/ 206)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 53)، و"البحر"(11/ 49)، و"روح المعاني"(10/ 55).
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هي؛ أي: جهنَّم.
* * *
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} بقوتكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بنصركِم، وإمدادِ الملائكة، وإلقاءِ الرُّعب في قلوبهم وتقويةِ قلوبكم، وهو كالتَّعليل لِمَا تقدَّم من النَّهي عن الانهزام بسبب كثرة العدو.
ورُويَ أنَّه لَمَّا التقى الجمعان يومَ بدرٍ تناولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفًّا من الحصى فرمى بها في وجوههم، وقال:"شاهَتِ الوجوهُ"، فلم يبقَ مشركٌ إلا شُغِلَ بعينه، فانهزموا، ورَدِفَهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لمَّا انصرفوا أقبلوا على التَّفاخُر، فيقول القائل
(1)
: قتلْتُ وأسرْتُ، فنزلت الآية
(2)
؛ صيانةً لهم عن الإعجاب، وتنبيهًا على أن الله تعالى هو الذي هيَّأ لهم هذه الأسباب.
وكذا الحال في الخطاب الآتي ذكره.
وقيل: الفاءُ جوابُ شرطٍ محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم، ولكنَّ اللهَ قتلهم.
ويأباه عطف قوله: {وَمَا رَمَيْتَ} أنتَ
(3)
تلك الرَّمية العجيبة يا محمَّد {إِذْ
(1)
في (ف) ت "القاتل".
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 207)، والكلام بهذا السياق مجموع من عدة أخبار. انظر:"تفسير الطبري"(11/ 87 - 84)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1672 - 1673).
(3)
"أنت": ليست في (م).
رَمَيْتَ} لأنَّك لو رميتها لمَا زاد تأثيرها على تأثير رمي البشر {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} حيث أثَّرَتْ ذلك الأثر العظيم.
أثبَتَ الرَّميةَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّ صورتها وُجِدَتْ منه، ونفاها عنه لأنَّ أثرَها الذي لا يقدر عليه البشر فعلُ الله تعالى، فكانَ الله فاعلَها على الحقيقة لا الرَّسولُ، والفعل قد يُطلَق ويُرادُ به مُسمَّاه، وقد يُطلَق ويراد به كماله والمقصودُ منه - أي: غايته
(1)
- مجازًا.
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ} : وليُنْعِمَ عليهم {مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} إنعامًا جميلًا؛ أي: وللإنعام على المؤمنين ذلك
(2)
الإنعامَ العظيم بالنُّصرة والغنيمة ومشاهدةِ الآيات فَعَلَ ما فعلَ، وما فعلَ
(3)
إلا لذلك.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائهم واستغاثتهم {عَلِيمٌ} بأحوالهم ونياتهم.
* * *
(18) - {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرَّفع؛ أي: المقصود ذلكم، أو: الأمر ذلكم.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} معطوفٌ على {ذَلِكُمْ} ؛ أي: المقصود بلاء المؤمنين وتوهينُ الكافرين، وقرئ:{وَأَنَّ} بالفتح
(4)
؛ أي: ولأن الله تعالى مُعِينٌ للمؤمنين كان ذلك.
(1)
في (ف): "والمقصود منه أنها غاية".
(2)
في (ف): "وذلك".
(3)
"وما فعل" سقط من (ف).
(4)
هي قراءة نافع وابن عامر وحفص، والباقون بكسرها. انظر:"التيسير"(ص: 116).
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} خطابٌ لأهل مكَّة على سبيل التَّهكُّم، وذلك أنَّهم حين أرادوا أن يَنفِروا تعلَّقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللَّهمَّ انصر أعلى الجندَيْن وأهدى الفئتَيْن وأكرم الحزبَيْن
(1)
.
{وَإِنْ تَنْتَهُوا} عن الكفرِ وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لتضمُّنه سلامة الدَّارين وخير المنزلَيْن.
{وَإِنْ تَعُودُوا} لمحاربته {نَعُدْ} في نصرته عليكم.
{وَلَنْ تُغْنِيَ} : ولن تدفع {عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} : جماعتكم {شَيْئًا} من الإغناء {وَلَوْ كَثُرَتْ} فئتكم {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنَّصر والمعونة.
كذا قالوا، ويُشْكِلُ هذا بيوم أحدٍ، فإنهم عادوا فيه للمحاربة وكانت الغلَبة لهم.
وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: إن تستنصِروا فقد جاءكم النَّصر، وإن تنتهوا عن التَّثاقل في القتال والرَّغبة عما يستأثره الرَّسول فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى
(2)
التثاقل نَعُدْ بالإنكار، ولن تغني عنكم كثرتكم حينئذ إذا لم يكن معكم بالنَّصر، وأن الله مع الكاملين إيمانًا.
ويؤيِّد هذا حسنَ الالتئام مع قولِه:
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 208).
(2)
في (ف): "عن".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} ؛ أي: ولا تتولَّوا عن الرَّسول؛ فإنَّ المرادَ الأمرُ بطاعته عليه السلام، والنَّهيُ عن الإعراض، وذكر الله تمهيدٌ
(1)
لاختصاص الرَّسول صلى الله عليه وسلم به تعالى
(2)
، كقوله:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
وفيه تنبيهٌ على أن طاعة الله وطاعة الرَّسول شيءٌ واحدٌ، و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
ويجوز أن يرجعَ الضَّمير في {عَنْهُ} إلى الأمر بالطَّاعة؛ أي: ولا تتولوا عن هذا الأمر.
{وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} ؛ أي: تسمعونه، أو تسمعون القرآنَ والمواعظَ سماعَ فهمٍ وتصديقٍ.
* * *
(21) - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} .
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} كالكفرة والمنافقين ادَّعوا السَّماع.
{وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} لأنهم ليسوا بمصدِّقين، فكأنَّهم غيرُ سامعين أصلًا.
والمعنى: إنكم تصدِّقون القرآنَ والنُّبوَّة، فإنْ تولَّيتم عن طاعةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور كقسمة الغنائم كانَ تصديقُكم كلَا تصديقٍ، وأشبهَ سماعكُم سماعَ مَنْ لا يؤمن.
(1)
في (م): "تمهيدًا".
(2)
في هامش (ف) و (م): "ولولا ذكر التمهيد لأعيد {أَطِيعُوا} كما أعيد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. منه".
(22) - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} .
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} : شرَّ مَنْ يدُبُّ على وجه الأرض، أو: شرَّ البهائم.
{الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} قد مَرَّ تفسيرُه في (سورة البقرة)، جعلهم كالبهائم في عدم انتفاعِهم بالمشاعر والجوارح، ثم جعلهم شرَّها لإبطالهم ما مُيِّزُوا به عنها وفُضِّلوا به عنها
(1)
.
* * *
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} ؛ أي: شيئاً من جنس الخير
(2)
.
{لَأَسْمَعَهُمْ} سماعَ تفهُّم؛ أي: لا يُسْمِعهم لأنَّه لا يجدي فيهم نفعاً، فقوله:{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} ؛ أي: لم ينتفعوا به، تقرير وتأكيد له، فهو مِنْ قَبِيل العطفِ على ما قبلَه باعتبار المعنى.
التَّولي قد يكون للتردُّد والتدبُّر فقوله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} تأسيسٌ لا تأكيدٌ.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} وحَّدَ الضَّمير لأنَّ دعوةَ الله تُسمعُ من الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وقصدُ التَّمهيد يأباه إعادةُ الصِّلة.
(1)
كذا في النسخ: "عنها" والأنسب بالسياق: (عليها). وفي "تفسير البيضاوي"(3/ 55): (ما ميزوا وفضلوا لاجله).
(2)
في هامش (ف): "فلا حاجة إلى قيد اعتبره مَن قال: وقد علم الله أن لا خير فيهم. منه".
{لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلوم الدِّينية؛ فإنها حياة القلب، والجهلُ موته:
الجاهلُ ميتٌ وإنْ لمْ يُدفَن
…
بيتُه قبرٌ وثوبُه كفن
(1)
وقيل: لجهاد الكفَّار؛ لأنهم لو تركوه لغلبوهم وقتلوهم
(2)
، فهو سبب حياتهم، كقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
وقيل: للشهَّادة؛ لقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169].
المرادُ بالاستجابةِ: الطَّاعة والامتثال، وبالدَّعوة: البعث والتَّحريض.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} تحذيرٌ عن تأخير الاستجابة.
وزيادة {وَاعْلَمُوا} لمزيد التَّأكيد؛ أي: إن القلوب بيدِ اللهِ تعالى يقلِّبها كيفَ يشاء، فعجِّلوا بالاستجابة قبل أنْ يُحدِثَ اللهُ تعالى في قلوبِكم ما يشغلنا عنها
(3)
، ويمنعكم عن الامتثال بالأمر.
وقرئ: (بَين المرِّ) بتشديد الرَّاء على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الرَّاء وإجراء الوصل مجرى الوقف
(4)
، على لغةِ مَن يشدِّد فيه.
(1)
لم أقف على قائله، وفي "الكشاف" (2/ 210):
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ
…
فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ
قال الشهاب في "حاشيته على البيضاوي"(2/ 210): (البيت المذكور للزمخشري من قصيدة مدح بها المؤتمن بالله الخليفة). وقال الطيبي في "فتوح الغيب"(7/ 64): البيت من قول أبي الطيب:
لا يُعجِبنّ مَضيماً حُسنُ بزّته
…
وهل تروقُ دَفيناً جودَةُ الكفنِ
(2)
في هامش (ف) و (م): "يأتي في سورة التوبة ما يتعلق بهذا. منه".
(3)
قوله: "ما يشغلنا عنها" كذا في النسخ، ولعل الصواب:(ما يشغلها عنا).
(4)
نسبت للحسن والزهري. انظر: "المحتسب"(1/ 276).
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم على النَّقير والقِطمير من أعمالكم وأحوالكم، قالبيَّةً كانت أو قلبيَّة.
وفيه زيادةُ تحذيرٍ عن التَّقصير بالتَّأخير، وأشير إلى هذا في قوله عليه السلام: "عجِّلوا بالصَّلاةِ قبلَ الفَوْتِ، وعجِّلوا بالتَّوبة
(1)
قبلَ الموتِ"
(2)
.
* * *
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أراد بالفتنة: الظُّلمَ الفاحش، بقرينة {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، والتنكيرِ الدَّال على التَّكثير.
{لَا تُصِيبَنَّ} جواب الأمر؛ أي: إصابتُكم لا تصيب
(3)
الظَّالمين خاصَّة، بل تعمُّ الطَّالح والصَّالح، ثم تكون للظالم عقوبةً، ولغيره كفَّارةً.
والنُّون لتضمُّنه معنى النَّهي، والتأكيدُ بها للمبالغة في النَّهي، و (مِن) للتَّبعيض.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا في تركِ الأمرِ بالمعروفِ عند غلبةِ المنكرِ، فيصيب الفسَقَة بفسقِهم، وغيرَ الفسقة بتركهم الأمر بالمعروف
(4)
.
وهذه الفرقة أيضاً وإن كانوا مذنبين، لكنهم ليسوا من الذين ظلموا؛ أي: باشروا الظلم.
(1)
في (ف): "بالطاعة".
(2)
أورده الصاغاني في "الموضوعات"(34).
(3)
في (ك): "لا تصيبن".
(4)
رواه بمعناه الطبري في "تفسيره"(9/ 218)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1682).
أو نهيٌ بعدَ أمرٍ، كأنَّه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظُّلم فيصيبَ العقابُ أو وبالُ الذَّنب مَنْ ظلمَ منكم خاصَّة.
أو صفةً لـ {فِتْنَةً} على إرادة القول؛ أي: فتنة مقولاً عندها: لا تصيبن، كقوله:
جاؤوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْتَ الذِّئبَ قَطّ
(1)
و (مِن) على هذين الوجهين للتَّبيين.
ويعضد الأخير قراءة: (لتُصيبن)
(2)
على جواب قسمٍ محذوف.
وفي تقييد الظالمين بـ {مِنْكُمْ} في الوجهين الأخيرين تنبيهٌ على أن الظُّلمَ منكم أقبحُ منه من غيركم.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وعيدٌ شديدٌ، وفي
(3)
زيادة {وَاعْلَمُوا} مزيدُ تهديد.
* * *
{وَاذْكُرُوا} : وأخطروا ببالكم أوَّل حالكم {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} قيل: في أوَّل الإسلام قبل أن تكملوا أربعين، وقيل: قبل الهجرة، والخطاب للمهاجرين.
(1)
الرجز دون نسبة في: "البيان والتبيين" للجاحظ (2/ 281)، و"الكامل" للمبرد (2/ 1054)، و"خزانة الأدب"(2/ 109).
(2)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49)، و"الكشاف"(2/ 212).
(3)
في (م): "في".
{مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} مقهورون في أرض مكَّة، لم يقل:(ذليل) مع ما فيه من حُسن
(1)
الازدواج بـ {قَلِيلٌ} ؛ تفادياً عن إطلاقه على مَنْ هو عزيزٌ بعزِّ الإسلام.
وقيل: الخطاب لعامَّة العرب؛ لأنهم كانوا مغلوبين لأهل فارس والروم.
{تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} لأنَّ النَّاس كانوا جميعاً لهم أعداء. والتَّخطفُ: الأخذُ والانتزاعُ بسرعة.
{فَآوَاكُمْ} إلى المدينة، وجعل لكم مأوًى تتحصنون به عن أعدائكم.
{وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} على الكفَّار بمظاهرةِ الأنصار، وبإمداد
(2)
الملائكة يوم بدر.
وعلى تقدير أن يكون الخطاب لقريش يكون المعنى: فآواكم إلى الحرم، ويؤيِّده قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إرادةَ أن تشكروا هذه النِّعم.
وعلى المعنى الآخر يكون المراد من {الطَّيِّبَاتِ} : الثَّمرات؛ لقوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الخون: النَّقص، كما أنَّ الوفاءَ
(1)
في (ف): "جنس".
(2)
في النسخ: "بإمداد" دون واو، والمثبت من "الكشاف"(2/ 213).
التَّمامُ، ومنه تخوَّنه: إذا تنقَّصُه، ثم استُعمل في مقابلة الأمانة والوفاء؛ لأنك إذا خنْتَ
(1)
الرَّجل فقد أدخلْتَ عليه النُّقصان.
ذكر {اللَّهَ} تعالى للتَّمهيد، وخيانتُهم للرَّسول صلى الله عليه وسلم بأن يُضمروا خلاف ما يظهرون، أو بالغُلول في الغنائم.
روي أنَّها نزلَتْ في أبي لُبابة رضي الله عنه، وقصَّتُه مذكورة في كتب التَّفاسير
(2)
.
{وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} فيما بينكم؛ أي
(3)
: لا يصدر منكم خلافُ ما هو من حكم الإيمان، جزمٌ داخل في حكم النَّهي، أو نصبٌ بإضمار (أنْ)، كقوله:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42].
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم تخونون؛ أي: وأنتم علماء تميِّزون الحسَنَ من القبيح.
* * *
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} جعلَ الأموالَ والأولاد فتنةً؛ لأنها سببُ الوقوع في الفتنة، وهي الإثم والعذاب، أو: محنةٌ وبلاءٌ، فلا يحملنكم فيه على الخيانة كأبي لبابة رضي الله عنه، وعليكم أن تحافظوا فيهم على حدود الله تعالى، وهي من جملة ما نزلَ فيه.
(1)
في (ك): "أخنت".
(2)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 236 - 238)، و"تفسير الطبري"(13/ 481)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1684)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (4/ 15)، و"الكشاف"(2/ 214).
(3)
في (ف): "أو".
{وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أن تُؤثروا حبَّ اللهِ تعالى على حبِّهم، وتزهَدوا في الدُّنيا، ولا تحرصوا على حبِّ المال والولد.
وفي قوله: {عِنْدَهُ} تشريفٌ للأجر
(1)
المذكور، وبيانٌ أنه مصونٌ عن الضياع.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} : هدايةً ونوراً في قلوبكم، وتوفيقاً وشرحاً لصدوركم، تفرِّقون به بينَ الحقِّ والباطلِ، أو نصراً يفرِّق بينَ المحِقِّ والمبطِلِ، بإعزاز الإسلام وأهله، وإذلالِ الكفر وحزبه، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41].
أو: ظهوراً يُشْهِرُ أمرَكم وينشرُ صيتكم في أقطار الأرض، من قولهم: بِتُّ أفعل كذا حتى سطع الفرقان؛ أي: الصُّبح.
{وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} : صغائرَ ذنوبكم، أراد بالكفَّارة الإزالةَ، ولذلك قال:{عَنْكُمْ} ، وهي بالحسنات لقوله:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبَكم؛ كبائرَها، والغَفْرُ: السَّترُ، ضمَّنه معنى الرَّحمة، ولذلك قال:{لَكُمْ} ، وكنَّى به عن العفو والتجاوز عنها، وذلك بالاستغفار والشفاعة.
(1)
في (م): "الأجر".
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} باللُّطف الوافي
(1)
في الدُّنيا، والإحسان الباقي في دار القرار، لِمَا عرفْتَ أنَّ العبدَ أُعْطِيَ جزاءَ حسناته بإزالة سيئاته، فكان ما وصل إليه من اللُّطف والإحسان فضلاً من الله تعالى، ووعدُه على التَّقوى أيضاً تفضُّل، فإطلاق
(2)
الأجر على ما وعده في مقابَلته بطريق الاستعارة.
* * *
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ذكَّرَه عليه السلام ما مُكِرَ به حين كان بمكَّة؛ ليشكرَ نعمة الله تعالى عليه في إنجائه من مكرهم وتسليطه عليهم، أي: واذكر وقتَ مكرِهم بك وتسليطه، وتفصيلُه مذكور في كتب التفاسير.
{لِيُثْبِتُوكَ} : ليَسجنوك، أو يُوْثقوك، أو يُثْخنوك بالضرب والجَرح، من قولهم: ضربَه حتى أثبتَه لا حراكَ به ولا بَرَاحَ، وقرئ:(لِيُبَيِّتُوكَ) من البَيَاتِ
(3)
.
{أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكَّة.
{وَيَمْكُرُونَ} بإخفاء المكائد له {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} بإخفاءِ ما أعدَّ لهم حتى يأتيَهم بغتة، أو بردِّ
(4)
مكرهم عليهم، أو بمعاملة الماكرين معهم حيث أخرجهم
(1)
في (ك): "الموافي".
(2)
في (ك): "لإطلاق".
(3)
نسبت لإبراهيم النخعي. انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 350)، و"الكشاف"(2/ 215)، و"البحر المحيط"(11/ 82).
(4)
في النسخ: "يرد"، والمثبت أنسب بالسياق.
إلى بدر وقلَّل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقُتلوا
(1)
.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} إذْ مكرُه أنفذُ من مكر غيره وأبلغُ تأثيراً.
قيل: وإسناد المكر إلى الله تعالى للمزاوجة والمشاكَلة، ولا يجوز إطلاقها عليه تعالى ابتداءً؛ لِمَا فيه من إيهام الذَّم، وكأن هذا القائل غافل عن قوله تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]
(2)
.
* * *
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} هذا غاية مكابرتهم وفَرْطُ عنادهم؛ إذ لو استطاعوا ذلك فما منعَهم أن يشاؤوا، وقد تحدَّاهم وقرَّعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا سورة، مع أَنَفهم
(3)
وفَرْطِ استنكافِهم أن يُغلبوا، خصوصاً في باب البيان.
قيل: هو قول النَّضر بن الحارث، وهو كان موسوماً بينهم بالنُّبل والفَهم، فكان إذا قال قاله كثير منهم واتَّبعوه عليه، كما يفعله الناس اقتداء بعلمائهم.
{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : ما سطَّرَه الأوَّلون من القصص، قد سبق ما يتعلَّق بالأساطير.
* * *
(1)
"فقتلوا" سقط من (ف).
(2)
في هامش (ف) و (م): "قد مر هذا القول ورده في تفسير سورة آل عمران. منه".
(3)
الأنَف كالَأنَفة معناهما الاستنكاف من أَنِفَ: استنكف. انظر: "القاموس"(مادة: أنف).
{وَإِذْ قَالُوا} ؛ أي: واذكر إذ قالوا، وهذا أيضاً من كلام ذلك القائل أبلغُ في الجحود.
روي أنَّه لمَّا قال النضر: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ويْلَكَ إنَّه كلامُ الله تعالى". فقال:
(1)
؛ أي: إن كان القرآن حقًّا منزلاً فأَمطرْ علينا حجارةً خاصَّةً عقوبةً لنا على إنكاره، والمرادة التَّهكُّم وإظهار اليقين والجزم التَّام بكونه باطلاً؛ إغراقاً في الإنكار، وإظهاراً للجرأة فيه، جَحَد القرآن أوَّلاً بأن جعله مثل كلامهم، وسمَّاه أساطير الأولين، ثم بالَغَ في الجحود بشبهةٍ جعلها كالدَّليل على بطلانه زاعماً أنه برهان، وهو لو كان حقًّا لاستحقَّ منكِرُه العقاب، لكنَّا لم نعاقَبْ بإنكارِه، فلم يكن حقًّا.
وقرئ: (الحَقُّ) بالرفع
(2)
، على أنَّ {هُوَ} مبتدأٌ لا فَصل.
وفائدة التعريف: أنَّه
(3)
كانَ هو الحقَّ الذي يدَّعيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أنه كلام الله تعالى منزلٌ عليه؛ لأنَّه لم ينكروا كونَه مطابقاً للواقع كالأساطير
(4)
.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 57) والكلام منه، و"تفسير الطبري"(9/ 223)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1690)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 236).
وأخرج البخاري (4648)، ومسلم (2796) عن أنس رضي الله عنه أن قائل ذلك هو أبو جهل.
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49).
(3)
في (ف) و (ك): "أنه إن".
(4)
بعدها في (ف): "الأولين". وعبارة البيضاوي في "تفسيره"(3/ 58): (وفائدة التعريف فيه الدلالة =
وفائدة التقييد بكونه {مِنَ السَّمَاءِ} مع أنَّ الأمطار لا تكون إلَّا منها: كونها حجارةً مسوَّمة للعذاب، وهي السِّجِّيل، فوُضِعَتْ:{حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} موضعَه، ولهذا قال:
{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؛ أي: بنوعٍ من عذابٍ أليمٍ سواه، إشارةً إلى أنَّ السجِّيلَ نوعٌ أليم من العذاب.
* * *
{وَمَا كَانَ اللَّهُ} ؛ أي: ليس في عادته تعالى {لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} بيانُ سببِ
(1)
إمهالهم، والتَّوقُّفِ في إجابة دعائهم.
واللام لتأكيد النَّفي، والدلالةِ على أن تعذيبهم حالَ كون النبي عليه السلام فيهم غيرُ جائز في الحكمة؛ لأن سنَّة الله تعالى جاريةٌ أن لا يَستأصل قوماً بالعذاب ما دام نبيُّهم بين أظهرهم.
وفيه إشعارٌ بأنهم مُرصَدون للعذاب إذا هاجر عنهم، لدلالة قوله: {وَمَا لَهُمْ
…
} إلخ على إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذِّبُهم إذا فارقْتَهم.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} لمَّا كانت كينونتُه عليه السلام فيهم سبباً لانتفاء
= على أن المعلق به كونُه حقاً بالوجه الذي يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو تنزيله - لا الحق مطلقاً؛ لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غير منزل كأساطير الأولين) وبها تتضح عبارة المؤلف.
(1)
في (ك): "بسبب".
تعذيبهم أكَّدَ خبر {كَانَ} باللام على رأي الكوفيين، أو جعل خبر {كَانَ} الإرادةَ المنتفيَةَ على رأي البصريين، وانتفاءُ الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب، ولمَّا كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكَّد باللَّام، فشتان ما بين استغفارهم وكينونته عليهم السلام فيهم.
{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} حالٌ لقوله: {وَأَنْتَ فِيهِمْ} ، والمراد باستغفارهم: إمَّا استغفار مَن بقي فيهم من المؤمنين، أو قولُهم: اللهم غُفرانك، أو فَرْضُه على معنى: لو استغفروا لم يُعذَّبوا، كقوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
* * *
{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} : وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك، وكيف لا يُعذَّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وحالُهم ذلك، ومِن صدهم عنه إلجاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة، وأما إحصارهم عام الحديبية فقد كان بعد قتل النضر ونظرائه، فلا انتظام له مع ما سيق الكلام له في هذا المقام.
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} مستحقِّين ولاية أمره مع شركهم، وهو ردٌّ لِمَا كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصدُّ مَن نشاء، وندخلُ من نشاء.
{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} : الذين لا يعبدون فيه غيره؛ أي: ما استحقُّوا لولاية البيت وما حظٌّ لهم منها؛ لأنها مخصوصة بالمتقين من المسلمين، ليس كلُّ مسلم يصلح لذلك، فكيف بالمشركين من أعداء الدِّين؟
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنْ لا ولاية لهم عليه، نبَّهَ بالأكثر على أنَّ فيهم مَن يعلم ذلك، ولكن يعاند.
لمَّا نفى عنهم أن يكونوا من ولاة البيت، ذكرَ من فعلهم القبيحِ ما يؤكِّدُ ذلك، وأنَّ مَن كانت صلاته ما يُذكَرُ لا يستأهل أن يكونوا أولياءَه، وما ذكر بقوله:
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} من جملة مَوانع استحقاقهم للولاية، وموجبات استحقاقهم للعذاب، كما ذكر بقوله:{وَهُمْ يَصُدُّونَ} .
والمراد بـ {صَلَاتُهُمْ} : ما يضعونه موضِعَها ويسمُّونه صلاةً، وفيه من التَّهكُّم ما لا يَخفى.
وقرئ: (صلاتَهم) بالنَّصب
(1)
، على أنه الخبر المقدَّم.
{إِلَّا مُكَاءً} : صفيراً، فُعال مِنْ مَكايَمْكو: إذا صَفَر، وقرئ بالقصر كالبُكَا
(2)
.
{وَتَصْدِيَةً} : تصفيقاً، تَفْعِلةً من الصَّدى، ومن الصَّد، على إبدال أحد حرفي التَّضعيف بالياء، يعني: أنهم يضعون الصَّفير والتَّصفيق موضعَ الصَّلاة، ولهذا أورد قوله:
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ} بفاء السَّببية؛ أي: بسبب هذا الكفر ذوقوا وباله في الدُّنيا، والمرادُ عذاب القتل والأسر يوم بدر.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49)، و"المحتسب"(1/ 278).
(2)
أي: بالقصر منوناً (مكاً). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 49).
والظاهر أن تكون اللام للعهد، والمعهودُ ما ذكر في قوله:{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
ووضعُهم المكاء والتَّصدية موضعَ الصلاة: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عُراةً الرجالُ والنساءُ وهم مُشبِّكون بين أصابعهم يَصفُرون فيها ويصفِّقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ يخلِّطون عليه، وُيرون أنهم يصلُّون أيضاً.
{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أتى بصيغة المضارع، وزاد عليها عبارة {كُنْتُمْ} للدلالة على الاستمرار التَّجدُّدي، والمراد: ما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتَّصدية مكان الصلاة.
ولا يجوز أن يكون المرادُ من العذاب عذابَ الآخرة؛ لأن الفاء تأباه، وذلك لأن السببيَّة للعذاب مطلقاً قد استُفيدَتْ من الباء، والفاءُ إنما تفيد إذا كان ذلك العذاب السَّببَ بما ذكره
(1)
معجلاً.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : عن دينه واتِّباع رسوله.
نزلت في المُطْعِمين يومَ بدرٍ، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش، يطعمُ كلُّ واحدٍ منهم كلَّ يوم عشرَ جُزر
(2)
.
(1)
في (ك): "ذكر".
(2)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 664 - 666)، و"المغازي" للواقدي (1/ 144)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 141).
وقيل: في أبي سفيان، استأجر ليومِ أُحِدٍ ألفين من الأحابيش، سوى مَن استجاشَ
(1)
من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقيَّة
(2)
.
وقيل: في أصحاب العير؛ فإنَّه لَمَّا أُصيْبَ قريش ببدرٍ قالوا لكلِّ مَنْ له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حربِ محمَّد؛ لعلنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا
(3)
.
{فَسَيُنْفِقُونَهَا} فائدة تكرارِ ذكر الإنفاق: أنَّ مساقَ الأوَّل لبيانِ الغرضِ منه، والثَّاني لبيان عاقبته ومآل أمره، وأنَّ غرضَهم لا يحصل منه ويُعْقِب الخيبة.
هذا ما قالوا، ويأباه زيادة السين في الثاني، وترتيبه بالفاء على الأوَّل، وكذا يأبى هذا الأخير حملُ الأوَّل على ما كان في يوم بدر، والثاني على ما كانوا في يوم أحد، فالوجه أنْ يُحمَل الأوَّلُ على عزمهم على الإنفاق، والثاني على وقوعه عن قريب متفرِّعاً على ذلك العزم.
{ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لاستلزام إنفاقهم الأموال ندامةً، وسرعةِ انقلابه إليها كأن ذاتها تصير ندامةً مبالغةً.
والحسرة: غمٌّ بما انكشف من فوتِ استدراك الخطيئة، وذكر الغمِّ يسمَّى ندامةً، وأصلها الكشف، من قولهم: حَسَر عن ذراعيه، والحاسر ضد الدَّارع.
{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} : ثم لا يبقى حالهم على النَّدم والحسرة لفَقْد الأموال وفقدان الغرض، حتى يصير آخر الأمر إلى المغلوبية التي هي ضد الحالة التي قصدوها،
(1)
في (ف) و (م). "اجتاش".
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(11/ 170)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1679).
(3)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 60)، و"تفسير الطبري"(11/ 173)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1698).
فيرجعون طلقاء
(1)
، وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين قبل ذلك سجالاً.
ومعنى {ثُمَّ} في الموضعين: غاية بُعْدِ ما بين غرضهم في الإنفاق وبين ما يحصل منه ويقع بعده.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: ثبتوا على الكفر إذ أسلم بعضهم وحسُن إسلامه.
{إِلَى جَهَنَّمَ} خاصَّة {يُحْشَرُونَ} : يُجمعون بالسَّوق من جهاتٍ متعددةٍ. وفائدة تقديم الجار والمجرور دفعُ وَهمِ القرار في مجمع
(2)
آخر.
* * *
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ؛ أي: الفريقَ الكافر من الفريق المؤمن {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ} ؛ أي: الكافرَ {بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} ؛ أي: يجمعهم ويضمَّهم حتى يتراكموا، كقوله:{كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أي: لفرط ازدحامهم {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} جعلَ الكفَّارَ في الانضمام والازدحام والاجتماع في النَّار شيئاً مركوماً، كحطبٍ مرتكبٍ بعضه على بعض، مجموعٍ ملقًى في جهنَّم مبالغةً.
أو: المالَ الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من المالِ الطَّيب الذي أنفقه المسلمون في نصرته، فيجمَعُ الخبيثَ الذي أنفقه المشركون فيجعله في جهنم من جملة ما يُعذَّبون به كمال الكافرين.
(1)
في (ف) و (م): "فيخرجون حلفاءه"، وفي (ك):"فرحون طلقاءه"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 219).
(2)
في (ف): "القرار في تجمع"، وفي (م):"الفرار في مجمع".
واللَّام في قوله: {لِيَمِيزَ} على الأول متعلق بـ {يُحْشَرُونَ} ، أو {يُغْلَبُونَ} ، وعلى الثاني بـ {تَكُونُ} .
وقرئ: {لِيَمِيزَ} من التميُّز
(1)
، وهو أبلغ من المَيز.
{أُولَئِكَ} إشارة إلى الفريق الخبيث على الأوَّل، وإلى الذين كفروا على الثَّاني.
مَنْ قال: أو إلى المتَّقين، فكأنه غفل عن أنَّ منهم مَنْ أسلمَ وحسُن إسلامه.
{هُمُ الْخَاسِرُونَ} الكاملون في الخسران؛ لأنَّهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
* * *
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : لمن بقي من كفَّار قريش بعد مَنْ قُتلَ منهم ببدر، واللَّام للتبليغ.
{إِنْ يَنْتَهُوا} عن معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدُّخول في الإسلام.
{يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله.
وقرئ بالتَّاء والكاف على الخطاب
(2)
.
{وَإِنْ يَعُودُوا} إلى قتاله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} تعليلٌ للجواب أُقيم
(1)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 92).
(2)
أي: (إن تنتهوا يغفر لكم)، ونسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 51).
مقامه، والتقدير: وإن تعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم، فقد مضَتْ سنَّةُ الأولين في أنَّا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم عليهم السلام.
* * *
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : إلى أن لا يوجد فيهم شرك.
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} بأن تضمحل الأديان الباطلة كلُّها، ويبقى فيهم
(1)
دين الإسلام وحده.
{فَإِنِ انْتَهَوْا} عمَّا يجب الانتهاء عنه، والفاء للتَّرتيب على ما تقدَّم.
{فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليلٌ لِمَا تضمَّنه الجواب من عدم التَّقصير في المجازاة، تقديره: فيجازيهم على الامتثال ولا يَضيع نقيرٌ وقطميرٌ من التروك والأعمال.
وقرئ: {تعملون} بالتَّاء
(2)
، على معنى: فإن الله تعالى بما تعملون من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بصيرٌ يجازيكم عليه، ويكون تعليقه بـ {فَإِنِ انْتَهَوْا} - على الغيبة - للتَّغلب؛ أي: إنه بصير بعملكم وعملهم، فينبئكم جميعاً، ويجازي كلًّا بحسب عمله، ومَن وَهَمَ أن إثابتهم للتَّسبُّب فقد وَهِمَ.
* * *
(1)
"فيهم" سقط من "ف".
(2)
هي قراءة يعقوب من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 176).
(40) - {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الامتثال.
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} ناصركم ومتولِّي أموركم، فلا تبالوا بمعاداتهم، وثِقوا بولايته تعالى، وفي زيادة (اعلموا) - لتضمُّنه الدلالة على تنزيلهم منزلة الجاهل لنكتة خطابية تناسب المقام، وتزيد في البلاغة درجةَ الكلام - مزيدُ تهييجٍ لهم على ذلك.
{نِعْمَ الْمَوْلَى} هو، فلا يُضيع مَن تولَّاه {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} فلا يُغلَب مَن يَنصره.
* * *
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ؛ أي: الذي أخذتُموه من الكفَّار قهراً {مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: من أقلِّ ما يقع عليه اسم الشيء، حتى المِخْيَط والخيط، وتصدير الكلام بقوله:{وَاعْلَمُوا} لزيادة الاهتمام.
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} دخلت الفاء في خبر (أنَّ) لتضمُّن العموم الذي دلَّ عليه ما في معنى الشَّرط، و (أن لله) في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالحكم أنَّ للهِ خمسَه.
والجمهور على أن ذكر الله تعالى تمهيدٌ لِذِكْرِ الرَّسول وما عطف عليه؛ تعظيماً وتخصيصاً للمعطوفِينَ به، كما في قوله:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، وأن
(1)
المراد قسم الخُمْسِ على الخمسة المعطوفين.
(1)
"أن" ليست في (ف).
{وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} كأنه قال: فأنَّ لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصِّينَ به تفضيلاً
(1)
لهم على غيرهم.
وليس المراد من قوله: (اعلموا) مجرد العلم يستوي فيه المؤمن والكافر، بل العلمُ المستلزِم للعملِ؛ فإن المقصود بالذَّات من العلم إذا أُمِرَ به هو العمل، والعلمُ مقصودٌ بالعَرض.
وهو متعلق بمحذوفٍ دلَّ عليه: {وَاعْلَمُوا
…
} إلخ؛ أي: اجعلوا الخُمسَ لله وأحبابِه للتقرُّب إليه، فاقطعوا أطماعكم عنه، واصرفوا إلى مَن عيَّنَ من المخصوصين به، واقتنِعوا بالأخماس الأربعة.
والحكم بعدُ باقٍ، إلَّا أنَّ سهمَ الرَّسولِ يُصرَفُ إلى ما كان يُصْرَفُه مِن مصالحِ المسلمين، كما كان يفعله الشَّيخان، وقيل: إلى الإمام، وقيل: إلى الأصناف الأربعة الباقية، وعند أبي حنيفة سقط سهمه عليه السلام بوفاته، وسهم ذوي القربى لأنهم استحقُّوه بالنُّصرة والمظاهرة حينئذٍ، وصار الكلُّ مصروفاً إلى الثَّلاثة الباقية، وعندَ مالكٍ يفوَّض إلى رأي الإمامِ، يصرفه إلى ما يراه أهم.
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمدٍ عليه السلام من الآيات والملائكة والنُّصرة، معطوف على {بِاللَّهِ} .
وقرئ: (عُبُدِنَا) بضمتين
(2)
؛ أي: الرسول والمؤمنين.
{يَوْمَ الْفُرْقَانِ} : يومَ بدرٍ، فإنه فُرِّقَ فيه بين الحقِّ والباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المسلمون والكفار، واليوم الأوَّل بمعنى الوَقْعَة، والثَّاني بمعنى الوقت.
(1)
في (م): "تفضلاً".
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50)، و"البحر المحيط"(11/ 113).
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ختمَ بصفة القدرة؛ لأنَّه تعالى أدالَ المؤمنين
(1)
على قلَّتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم.
* * *
{إِذْ أَنْتُمْ} {إِذْ} بدل من {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} .
{بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} : القُرْبَى؛ يعني: من المدينة، و (العدوة) بالحركات الثلاث: شطُّ الوادي، وقرئ بها، والمشهور الضمُّ والكسر
(2)
.
{وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} : البُعدى؛ تأنيثُ الأقصى، وكان قياسُه قلبَ الواو ياءً كالدنيا والعليا، وكذا كلُّ فعلٍ من بناء الواو تفرقةً بين الاسم والصِّفة، فجاء على الأصل، كالقَوَد وهو أكثر استعمالاً من القُصيا.
{وَالرَّكْبُ} ؛ أي: العيرُ وقوَّادها.
{أَسْفَلَ مِنْكُمْ} في مكانٍ أسفلَ من مكانِكم؛ يعني السَّاحلَ، نصبٌ على الظرف، وهو مرفوعُ المحل لأنَّه خبر مبتدأ، والجملةُ حالٌ من الظَّرف قبلَه.
(1)
أدال الله عز وجل فلاناً من فلان؛ أي: جعل له الدولة عليه، والدالُّ الظافر. انظر:"الغريبين"(2/ 658).
(2)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين، وباقي السبعة بضمها. انظر:"التيسير"(ص: 116). أما القراءة بفتح العين فنسبت إلى الحسن وزيد بن علي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50)، و"المحتسب"(1/ 280)، و"البحر المحيط"(11/ 114).
وفائدةُ التقييد به وتعيينِ مراكز الفريقين: بيانُ الحالة
(1)
الدَّالة على شوكة الكفَّار، وعُدَّةِ غَلَبتهم، واستظهارِهم بالرَّكب، وحرصِهم على المقاتلة عنها، وتوطينِ نفوسهم على أن لا يُخلوا مراكزهم، ويبذلوا جهدهم، وضعفِ شأن المسلمين، والتياث
(2)
أمرهم، واستبعاد غلبتهم عادةً، وأنَّ ظفرَهم بالعدوِّ وغلبتَهم في مثل هذه الحالة ليست إلَّا بتأييدٍ من الله تعالى ونصرِه؛ ليعلموا أنَّ الحولَ والقوَّة والقدرة كلَّه لله تعالى، وأنَّ الفتحَ كان صُنعاً إلهيًّا من خوارق العادات، فيزدادوا إيماناً وثقةً، وذلك أن مركز المؤمنين كان أيضاً رخوةً تَسُوخ فيها الأقدام، ولا يُمْشَى [فيها]
(3)
إلَّا بتعب، ولم يكن بها ماء، بخلاف العُدْوة القُصوى، ويقوِّيه
(4)
قوله:
{وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} ؛ أي: ولو تواعَدْتم أنتم وهم القتالَ، ثم علمتم حالهم في الكثرة والقوة والشَّوكة وتمهُّد العُدَّة، وحالَكم في القلَّة والضَّعف وعدم أسباب الظَّفَر، لاختلفتم أنتم تهيُّباً منهم وتأبِّياً من الظَّفر عليهم وظنًّا بالمغلوبيَّة.
{وَلَكِنْ} دبَّرَ اللهُ تعالى ذلكَ حيثُ وعدَ إحدى الطَّائفتين مبهَمةً، وأخرجكم راغبين في العير، وأخرجهم ليمنعوا عِيرهم
(5)
، وسبَّب الأسبابَ، وجمع بينكم وبينهم على هذه الحالة.
(1)
في (ك) و (م): "للحالة".
(2)
قوله: "والتياث أمرهم"؛ أي: صعوبته والتباسه عليهم، من قولهم: التاثت عليه الأمور وألبست واختلطت. انظر: "حاشية الشهاب غلى البيضاوي"(4/ 277).
(3)
ما بين معكوفتين من "تفسير البيضاوي"(3/ 61).
(4)
في (م) و (ك): "وبقربه".
(5)
في النسخ: "غيرهم"، والصواب المثبت.
{لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} : حَقيقاً بأن يُفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} بدل منه، أو متعلِّق بقوله:{مَفْعُولًا} ، استُعيرَ الهلاكُ للكفرِ والحياةُ للإسلامِ، كما يُستَعارُ الموتُ والحياةُ للجهل والعلم؛ أي: ليكون كفرُ مَن كفرَ عن وضوحِ بيِّنةٍ حتى لا يبقى عند الله تعالى مَعذرةٌ، وَيصدرَ إسلامُ مَنْ أسلمَ أيضاً عن يقينٍ بأنه دينُ الحقِّ الذي يجب الدُّخولُ فيه والتَّديُّنُ به، وذلك أنَّ وقعةَ بدرٍ كانت من الآيات الواضحة التي مَنْ كفرَ بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.
وقرئ: {مَنْ حَيَّ} التَّضعيف
(1)
، لموافقة مستقبلهِ
(2)
.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} بكفرِ مَنْ كَفَرَ وعقابِه، وإيمانِ مَنْ آمنَ وثوابِه، والجمع بين الوَصْفَيْنِ لاشتمالِ الأمرَيْنِ على القول والاعتقاد.
* * *
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا} بدلٌ ثانٍ من {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} ، أو نصبٌ بإضمار: اذكر، أو بقوله:{عَلِيمٌ} ؛ أي: سميع بأحاديث نفوسكم في كراهة القتال،
(1)
وهي قراءة نافع والبزي وأبي بكر. انظر: "التيسير"(ص: 116). ووقع في النسخ: "وحيي"، والصواب المثبت.
(2)
أي: مضارعه وهو يَحْيَى، فكما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي. انظر:"روح المعاني"(10/ 132).
عليم بتدابير أموركم، وتسوية مصالحكم؛ إذ يريكهم في نومك
(1)
قليلاً، أراهم الله تعالى إيَّاه في رؤياه قليلاً، فأخبر به
(2)
أصحابَه، فثبَّتهم ذلك، وشجَّعهم على عدوهم.
{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} الفشل: صنفٌ
(3)
من الوَجَل.
لم يقل: (لفشلتَ)؛ لأنَّه عليه السلام كان معصوماً من النَّقائص، فأسندَ الفشل إليه عليه السلام على طريقة التَّغليب؛ رعايةً لجانِبَي الكلام والمقام.
{وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} : أمرِ القتال، وتفرَّقَتْ آراؤكم بينَ الفرار والقرار.
والتَّنازع: الاختلاف الذي يحاول كلُّ واحدٍ منهما نزعَ الآخرِ صاحبِه
(4)
مما هو عليه.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} : أنعمَ بالسَّلامة من الفشل والتنازع، وعصمَكم منهما.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مما سيكون فيها من الجبن والجرأة والصبر والجزع، وما يغيِّر
(5)
أحوالها.
* * *
(1)
في النسخ: "نومكم"، والصواب المثبت.
(2)
في (ف) و (م): "فأخبره".
(3)
في (ك) و (م): "ضعف".
(4)
قوله: "صاحبه" بدل من "الآخر"، وكان يكفي أحدهما كما في "تفسير الرازي" (15/ 488):( .. نزع صاحبه .. ).
(5)
في (ك): "وما تعسر".
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مئة
(1)
؛ تثبيتاً لهم.
وقيل: تصديقاً لرؤيا الرَّسول، وفيه نظر.
والضميران مفعولا (يُري)، و {قَلِيلًا} نصب على الحال
(2)
.
{وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إنَّ محمداً وأصحابه أَكَلَةُ جَزُورٍ
(3)
.
قلَّلهم في أعينهم قبل الْتِحام القتال له ليَجْترؤوا
(4)
عليهم، ولا يستعدُّوا لهم، ثم كثَّرهم بعده حتى رأوهم مثلَيْهم لتُفاجئهم الكثرة فتهيبهم
(5)
وتكسر حدَّتهم وشوكتهم، وذلك من عظائم آيات تلك الوقعة
(6)
، وليس هذا التَّفاوت في الإبصار مع تساوي الشروط إلا بخرق العادة.
{لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} كرَّره لاختلاف الفعل المعلَّل به، أو لأنَّ المرادَ بالأمرِ ثمَّةَ: الالتقاءُ على وجه المحكي، وهاهنا: إعزاز الإسلام وأهله، وإذلالُ الكفر وحزبه.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فلا رادَّ لقضائه ولا تغيير لتقديره.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37833)، والطبري في "تفسيره"(10/ 38)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1710).
(2)
أي: من المفعول الثاني. انظر: "روح المعاني"(10/ 133).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 225)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 61). دون ذكر اسم القائل عند الزمخشري.
(4)
في (ف): "ليتجرؤوا"، وفي (م):"ليجرؤوا".
(5)
في (ك): "فئتهم"، وفي (م):"فيتهم".
(6)
في (ف): "الواقعة".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ} ؛ أي: حاربتم؛ فإنَّ اللِّقاء مما غلبَ في القتال.
{فِئَةً} الانقطاع معتبر في مفهوم الفئة، أصلها من فَأَوْتَ رأسَه بالسَّيفِ: إذا قطعتَه، والجماعة المنقطعة عن المؤمنين كفَّارٌ أو بغاةٌ، ومَن لم يقف على هذه الدَّقيقة الأنيقة قال: ولم يصفهم لأنَّ المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفَّار
(1)
.
{فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} في مواطن الحرب، داعين
(2)
له، مستظهِرين بذكره
(3)
، ومترقِّبين لنصره.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : تظفرون بالنُّصرة والمثوبة.
وفيه تنبيه على أنَّ المؤمن يجب أن يداوم على ذكر الله تعالى، خصوصاً عند الشَّدائد؛ ليجتمع همُّه ولا يتوزَّع باله، ويتشجَّع
(4)
قلبه، ويطمئنَّ بالتَّوجُّه نحوَه، ويستمدَّ منه فيتأيَّد، ويستظهرَ بقوَّته وحَوْلِه.
* * *
(1)
رد على الزمخشري ومن تابعه. انظر: "الكشاف"(2/ 226)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 62)، و"البحر" (11/ 121). وتعقبه الآلوسي بقوله:(ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فاوت؛ أي: قطعت، والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبني على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال: لم توصف لظهور إلخ وليس بشيء كما لا يخفى) انظر: "روح المعاني"(10/ 142).
(2)
في (ف) و (ك): "دائمين".
(3)
في (ك): "لذكره".
(4)
في (م): "ويشجع".
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} باتفاق الكلمة {وَلَا تَنَازَعُوا} باختلافها، تنازُعَكم بأحد.
{فَتَفْشَلُوا} نصبٌ بإضمار (أنْ)
(1)
، أو جزمٌ داخلٌ في حكم النَّهي.
وقرئ: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالتاء والنصب عطفاً على الأول، وبالياء والجزم على الثاني
(2)
.
أي: تذهب دولتكم، على أن الرِّيح مستعارَة للدَّولة، شبِّهت في تمشِّي أمرها ونفاذه بالرِّيح في جريها وهبوبها، يقال: هبت رياح فلان: إذا آلت إليه الدولة، ومنه قولُ عليٍّ رضي الله عنه:
ولا خيرَ في ودِّ امرئ متلوِّنٍ
…
إذا الريحُ مالت مالَ حيث تميلُ
(3)
وقيل: ذهاب الريح على ظاهره؛ فإنه لم يكن نصرٌ قطُّ إلَّا بريحٍ يبعثُها اللهُ تعالى، كما قال عليه السلام:"نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبورِ"
(4)
.
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالكلاءة والنصر.
* * *
(1)
"أن" سقط من (ف) و (ك).
(2)
نسبت لعيسى بن عمر. انظر: "الكشاف"(2/ 226)، و"المحرر الوجيز"(2/ 536).
(3)
نسب البيت للشافعي. انظر: "تاريخ ابن عساكر"(43/ 11)، أما البيت الذي نسب لعلي رضي الله عنه كما في "ديوانه" (ص: 34) في القصيدة المسماة بـ "الزينبية":
لا خير في ودِّ امرءٍ متملقٍ
…
حلوِ اللسان وقلبه يتلهب
(4)
رواه البخاري (1035)، ومسلم (900)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} ؛ يعني: قريشاً حين خرجوا لحماية العير.
{بَطَرًا} البَطَرُ: سوء احتمال الغنى
(1)
، ومن آثارِه: الفخرُ والأَشرُ.
{وَرِئَاءَ النَّاسِ} ليُثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة.
نزلت في أبي جهل وأصحابه، خرجوا من مكَّة لنصرة العير بالقَيْنات والمعازف، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء بَطِرين طَرِبين مُرائين بأعمالهم. ويلزمه الأمرُ بالتَّقوى والإخلاصِ بناءً على أنَّ النَّهي عن الشَّيء يستلزمُ الأمرَ بضدِّه.
وأمَّا ما قيل: وذلك أنَّهم لما بلغوا الجُحْفَةَ
(2)
وأتاهم رسولُ أبي سفيان أنِ ارجعوا فقد سلِمَتْ عيرُكم، فقال أبو جهلٍ: لا والله حتى نقدَم بدراً، ونشرب بها الخمور، وتَعزف علينا القِيَان، ونُطعم بها مَن حضَرنا من العرب
(3)
. فوافَوها ولكن سُقُوا كأسَ المنايا، وناحَتْ عليهم النَّوائح
(4)
= فلا يصلح وجهاً لخروجهم من مكَّة بَطِرين ومرائين.
{بَطَرًا وَرِئَاءَ} نصب على الحال، أو المفعول لهما.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عطفٌ عليهما: حالَين مطلقاً، ومفعولاً لهما على تأويل المصدر؛ أي: وصدُّوا عن سبيل الله.
(1)
في (ف): "الفتى".
(2)
في (م) و (ك): "جحفة".
(3)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 618)، و"تفسير الطبري"(11/ 217).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 227).
{وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ؛ أي: عالمٌ به فيجازيكم عليه، وعيدٌ وتهديدٌ لمن بقيَ مِنَ الكفَّار.
* * *
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} منصوب بـ {اذْكُرْ} .
{أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها في معاداةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.
{وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ} خبر {لَا غَالِبَ} ؛ أي: كائنٌ لكم، أو صفتُه، وليس صلتَه بمعنى: لا غالب إيَّاكم، وإلَّا لكان منصوباً، كقولك: لا ضارباً زيداً عندَنا.
{الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} والجار: هو المجير الذي يعطي الخائفَ الأمانَ.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المشركين تخوَّفوا من بني بكر بن كنانة؛ إذ كانوا قَتلوا منهم قتيلاً، فلم يأمنوا يومَ خروجهم إلى بدرٍ أن يأتوهم من ورائهم، فتصوَّر لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك وهو من بني بكر، وقال: أنا جارٌ لكم من بني بكر، فركنوا إلى قوله، وساروا وهو معهم، حتى إذا التقى المسلمون والكفَّار أسلمهم شرَّ مَسْلَمٍ، وتبرَّأَ منهم، ولَمَّا نكصَ على عقيبه أخذ الحارث بن هشام بيده فقال: أعلى هذه الحالة تخذلُنا؟ قال: إني أرى ما لا ترون، قال الحارث: والله ما نرى إلا جَعاسيس يثرب
(1)
، قال: إني أخاف الله، قال الحارث: فهلَّا كان هذا أمس، فدفع
(1)
الجعسوس، بالضم: القصير الدميم اللئيم الخلقة والخلق القبيح. "تاج العروس"(مادة: جعس).
في صدر الحارث وانطلق، فانهزم النَّاس، فلما قدموا مكَّة، قال: هزم النَّاسَ سراقةُ بن مالك، فقال: بلغني أنكم تقولون: إني هزمْتُ النَّاسَ، فوالله ما شعرْتُ بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا: ما أتيتنا يومَ كذا؟ فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان
(1)
.
وذهب بعضهم إلى أن التَّزيين
(2)
في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو
(3)
بالوسوسة والمحادثةِ في النُّفوس، ولا يخفَى ضعفه؛ فإن قوله:{وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ليس مما يُلْقَى بالوسوسة، وكذا النُّكوص
(4)
على عقيبه وما بعده من الأقوال، وليس مما يُلْقَى بها.
{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} تراءت: تفاعَلَت من الرُّؤية؛ أي: رأى كلٌّ من الفريقين الأخرى، وهذه الحالة قبل الالتقاء.
{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} لبيانِ أنَّه انهزم على أسوأ الحال.
{وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} : إني رجعت عمَّا كنْتُ ضَمِنْتُ لكم من الأيمان.
{إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} تعليلٌ لبراءته، قاله
(5)
حينَ رأى إمداد المسلمين بالملائكة، كأنه يقول: إني كنْتُ مجيرَكم من النَّاس، وضمنْتُ لكم الغلبة
(1)
رواه عنه الطبري في "تفسيره"(11/ 221)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1715). وانظر الخبر في:"السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 662).
(2)
في النسخ: "التزين"، والصواب المثبت.
(3)
"هو" ليس في (ك).
(4)
في هامش (م): "نكص الشيطان؛ أي: رجع القهقرى خوفاً مما يرى. زيادة، وقوله: على عقيبه".
(5)
في (ف) و (م): "قال".
عليهم، وأرى ما ليس من جنسهم
(1)
جاؤوا لمحاربتكم.
{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} : إني أخاف عقابه على أيدي مَن أراهم ولا ترونهم أنتم.
قال قتادة وابن الكلبي: إن هذه معذرةٌ كاذبة، ولم تلحقه قطُّ مخافةٌ
(2)
.
وقال الزجَّاج وغيره: بل خاف مما رأى من الأمر وهوله أنه يومُه الذي أُنظر إليه
(3)
.
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لا يُرَدُّ عقابه بشيء ولا يُقاوَم، والظَّاهر أنَّه من كلامه؛ إذ على تقدير كونه مستأنفاً يكون تقريراً لمعذرته، ولا يقتضيه المقام، فيكون فضلةً في الكلام.
* * *
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} بالمدينة {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : والذين ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام، بل كانوا على حرف.
وعن الحسن: هم المشركون
(4)
.
(1)
في (م): "جنسكم".
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 539)، و"البحر المحيط"(11/ 129). ورواه عنهما عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 260)، ورواه الطبري في "تفسيره"(11/ 223)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1716)، عن قتادة قال:(ذُكر لنا .. ). وذكره الثعلبي في "تفسيره"(4/ 366) عن قتادة وابن إسحاق.
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 421).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 228).
ويحتمل أن يكون صفةً للمنافقين، والواو للجمع بين الصفتين؛ أي: الجامعون بين النفاق والشرك.
{غَرَّ هَؤُلَاءِ} ؛ أي: المسلمين
(1)
{دِينُهُمْ} حيث وثقوا به، وتعرَّضوا لِمَا لا يَدَيْ
(2)
لهم به، فخرجوا وهم ثلاثُ مئة وبضعةَ عشر إلى زُهاء ألف.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} جواب لهم {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} : غالبٌ لا يَذلُّ مَن استجارَ به وإنْ قلَّ، ويتسلَّط بتأييده على الكثير القوي.
{حَكِيمٌ} يفعل بحكمته ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.
* * *
{وَلَوْ تَرَى} : ولو رأيت؛ فإن (لو) تردُّ المضارع ماضياً، كما تردُّ (إنْ) الماضي مضارعاً، وإنما عدل عن الماضي إلى المستقبل لتصوير الحال الماضية بالاستحضار استفظاعاً لها.
{إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} ببدر، و {إِذْ} ظرفُ {تَرَى}
(3)
، والمفعول محذوف؛ أي: ولو ترى الكفرةَ أو حالَهم حينئذ.
(1)
"أي المسلمين": من (م).
(2)
في (ف): "لما بدى"، وفي (ك) و (م):"لما بدا"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 63)، و"روح المعاني"(10/ 148)، وهو الصواب. و (يدي) مثنى يد بمعنى القدرة؛ أي: لا طاقة لهم به، وهذا التركيب سمع من العرب بهذا المعنى، وحذفت نون التثنية منه كما أثبتت الألف في: لا أباً لك؛ لتقدير الإضافة فيها. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 282).
(3)
"ترى" سقط من (ك).
و {الْمَلَائِكَةُ} فاعل {يَتَوَفَّى} ، ويدل عليه قراءة:{تَتَوَفَّى} بالتاء
(1)
، والأصل في القراءتين التوفيق بينهما مهما أَمْكَن، فلا وجه لِمَا قيل: ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، وهو مبتدأ خبره:{يَضْرِبُونَ} في {وُجُوهَهُمْ} والجملة حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، واستُغني فيه بالضمير عن الواو، وهو على ما ذكرنا حالٌ منهم، أو من {الْمَلَائِكَةُ} ، أو منهما؛ لاشتماله على الضميرين.
{وَأَدْبَارَهُمْ} : ظهورَهم وأستاهَهم، وتخصيصُها بالضَّرب
(2)
لكونِ الخزي والنَّكال في ضربها أشد، ويجوز أن يكون المراد
(3)
تعميمَ الضَّرب لِمَا أقبلَ منهم وما أدبر.
وحُذف جواب {وَلَوْ} للتَّفظيع والتَّهويل؛ أي: لرأيْتَ أمراً عظيماً لا يمكن وصفُه.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ؛ أي: ويقولون: ذوقوا عذاب النَّار؛ فإنَّ الحريقَ اسمُ النَّار، قيل: كانت معهم
(4)
مقامعُ من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار.
* * *
(51) - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
{ذَلِكَ} الضَّرب والعذاب {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} : بسببِ ما كسبتُم من الكفر والمعاصي، وهو خبر لـ {ذَلِكَ} ، يحتمل أن يكون من كلامهم، وأن يكون من كلام الله تعالى.
(1)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 116).
(2)
"وتخصيصها بالضرب" من (م).
(3)
"المراد" من (م).
(4)
"معهم" من (م).
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} جملة حاليَّة لتقرير ما فُهِمَ ممَّا سبَقَ مِن أن ما يُفعل بهم إنما يُفعل
(1)
جزاءً بما كسبوه، فيكون عدلاً مَحْضاً.
ولو قيل: (ليس بظالم) لكان أبلغَ
(2)
، والعدولُ عنه إلى صيغة المبالغة للتَّنبيه على أن شأنه تعالى يقتضي أن يكون كلُّ وصفٍ يثبت له بالغاً إلى حدِّ الكمال.
ومَنْ لم يتنبَّه لهذه الدَّقيقة الأنيقة زعم أنه لأَجْل العبيد
(3)
، ولم يدرِ أنَّ ما يُقالُ: إنَّ اللهَ تعالى ليس بظلَّام للعبيد، نفيٌ للمبالغة
(4)
، ونفي مبالغة الظُّلم لا يستلزم نفي أصله، بل ربَّما يوجب إثباته بدليل الخطاب، وبرجوع النَّفي إلى القيد لا يندفع بما ذُكر؛ إذ المعنى حينئذ نفيُ ظلمه تعالى عن الكلِّ، ولا يلزمه نفيُه عن كلِّ واحد، فإنَّ رفعَ الإيجاب الكلِّيِّ لا ينافي الإيجاب الجزئيَّ.
وقيل: (أنَّ الله) تعالى عطفٌ على (ما قدَّمت)؛ أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب ما كسبوا، وبسبب أنَّ الله ليس بظلَّام؛ لأن تعذيب الكفَّار من العَدْل.
(1)
"إنما يفعل" ليس في (ف).
(2)
يعني: نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته، ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده. وإنما قال المؤلف هذا ليتبعه ببيان العلة في العدول عنه إلى لفظ التنزيل، ولو قال: الكان أبلغ في الظاهر) لكان أولى؛ لئلا يوهم أن يكون لفظ أبلغ من لفظ القرآن.
(3)
في هامش (م): "قاضي". والمراد به البيضاوي، فقد قال في "تفسيره" (3/ 63) حيث قال: و (ظلام: التكثير لأجل العبيد). والمراد: أنه كثِّر توزيعا على الآحاد، كأنه قيل: ليس بظالم لفلان، ولا بظالم لفلان، وهكذا، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك. انظر:"روح المعاني"(10/ 153).
(4)
في (م): "إن الله تعالى ليس بظالم أصلاً"، والمثبت من (ك)، وعبارة:"ليس بظالم أصلا" موجودة فيها لكن مضروب عليها.
وَيرِدُ عليه: أنا سلَّمنا ذلك، لكنَّ تركَ التَّعذيب من مستحقِّه ليس بظلم، بل فضلٌ، فلا ينتهِض نفيُ الظُّلم سبباً للتَّعذيب
(1)
.
وقيل: إنَّ العطف المذكور للدلالة على أن سببيَّته مقيَّدة بانضمامه؛ إذ لولاه لأَمكنه أن يعذبهم بغير ذنوبهم.
وفيه: أنَّ الحاجة إلى ما ذُكِرَ لانحصار السببية فيما كسبوا، بحيث لا يكون التَّعذيب بسببٍ آخر محتملاً، وذلك غير مُستَفادٍ من الكلام، وليس بمقتضًى للمقام.
* * *
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} الكاف في محل الرفع؛ أي: دأبُ هؤلاء مثلُ دأب آل فرعون. والدَّأبُ: العادة والعمل الذي دَأَبُوا فيه؛ أي: واظبوا عليه.
{وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من قبلِ آل فرعون.
{كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} تفسيرٌ لِدَأبهم.
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} كما أخذ هؤلاء.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} لا يغلبُه شيء {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لا يُطَاقُ عقابُه، ولا يردُّه شيء.
* * *
(1)
في (ك) و (م): "بسبب التعذيب"، والمثبت من (ف)، وهو الصواب. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 63)، و"حاشية الشهاب"(4/ 284).
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما حلَّ بهم {بِأَنَّ اللَّهَ} : بسببِ أنَّ اللهَ تعالى {لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} : مبدِّلاً {نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} بالنقمة {حَتَّى يُغَيِّرُوا} : يبدِّلوا {مَا بِأَنْفُسِهِمْ} : ما بهم من الحالِ إلى حالٍ أسوأ منها، كما بدَّلَتْ قريشٌ حالَهم في صلة الرَّحم وعدَمِ التَّعرُّض للآيات والرُّسل وإن كانوا كفرةً؛ لأن الكفرَ لا يمنع النِّعمة الدُّنيوية؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة: 126] بمعاداة
(1)
الرَّسول صلى الله عليه وسلم ومَن تابعه، وإيذائهم، والسَّعي في قتلهم، والاستهزاء بالآيات، إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعث، فبدَّلَ اللهُ تعالى ما أنعمَ به عليهم من الإمهال وحُسن الحال في العاجل، وعاجلهم بالعذاب.
أي: سنَّةُ الله تعالى جارية بأنْ يغيِّر نعمته على من أنعم عليهم عند تغييرهم حالَهم، فالسبب مفهومُ ما ذُكِرَ لا مَنطوقُه.
وأصل {يَكُ} : يكون، فلمَّا دخلها {لَمْ} جزَمتْها، فالْتَقى ساكنان، فحذف الواو، فبقي: لم يكن، ثمَّ لَمَّا كثر استعماله حذفوا النُّون تخفيفاً، فإذا تحركت أثبتوها، قالوا: لم يكنِ الرَّجل، كذا قال الجوهري
(2)
.
والذي ذكره ليس بحتْمٍ؛ فإنَّ النون قد تثبت عند السُّكون كما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} [الأنعام: 139]، وقوله:{لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر: 33].
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بأفعالهم وأحوالهم.
* * *
(1)
قوله: "بمعاداة" متعلق بقوله: "بدلت"؛ أي: (كما بدلت قريش حالها في صلة الرحم
…
بمعاداة).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: كون).
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} تكريرٌ للتأكيد، وفي تفسير تغييره
(1)
زيادةُ دلالة على كفران النِّعم وجحود الحقِّ
(2)
؛ لِمَا في لفظ الرَّبِّ المضاف إليهم من الإشعار بكونه منعِماً عليهم.
وقيل: الأوَّل لتشبيه الكفر والأخذ به، والثَّاني لتشبيه التغيير في النِّعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم.
وفيه: أنَّه لا مساعدة للتَّخصيص المذكور، لا من جهة المقام، ولا من جهة نظم الكلام.
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ} ؛ أي: عاجلاً {بِذُنُوبِهِمْ} على العموم، دلالةُ الباء على السببية المطلقة، والسببيةُ للعذاب العاجل
(3)
إنما تُستفاد من الفاء
(4)
.
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} على الخصوص، وفيه بيان الأخذ بالذُّنوب.
وفي قوله: {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} إشارة إلى أنَّ سببَ الأخذ ظلمُهم، وفيه تقرير لقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]؛ أي: المشبَّهون الذين هم قتلى قريش، والمشبَّه بهم الذين هم آل فرعون والذين من قبلهم، كلُّهم كانوا ظالمين أنفسَهم بالكفر والمعاصي، فتشبهُ
(5)
شدَّة ظلمهم لعقابهم، فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
(1)
في (ف): "تغيير تفسيره".
(2)
في هامش (ف): "كيف وقضية التغيير من تتمة التشبيه الأول. منه".
(3)
"العاجل" من (م).
(4)
"من الفاء" سقط من (ك).
(5)
في (ف) و (م): "فشبه".
(55) - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: أصرُّوا على الكفر ورسخوا فيه؛ لأنَّ
(1)
بمجرَّد الكفر لا يصحُّ الإخبار عنهم بعدم الإيمان.
{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فلا يُتوقَّع منهم الإيمان لكونهم مطبوعاً على قلوبهم.
معنى الفاء السَّببية: التَّنبيه على أن كفرهم في الرُّسوخ بحيث يوجبُ انتفاءَ صدور الإيمان منهم.
* * *
(56) - {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} .
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} بدلٌ من {الَّذِينَ كَفَرُوا} بدلَ الكلِّ أو البعض؛ للبيان أو التَّخصيص، وهم يهود قريظةَ، عاهدهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه، فأعانوا المشركين بالسِّلاح، وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا، ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركبَ كعبُ بن الأشرف إلى مكَّة فحالفهم
(2)
.
وإنما قال: {مِنْهُمْ} لتضمُّن المعاهدة معنى
(3)
أخذِ الميثاق.
والمراد من المرة في قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} : مرةُ
(4)
المعاهدة أو المحاربة.
وإنما كانوا شرَّ الدَّواب؛ لأنَّ نقضَ العهد خروج عن المروءةِ والإنسانيَّة،
(1)
في (ك): "لا".
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(11/ 235)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 152)، و "الكشاف"(2/ 230).
(3)
في (ف) و (م): "مع"، وفي هامش (م):"لعله: معنى"، والمثبت من (ك).
(4)
"مرة" من (م).
فخالفوا مقتضى فطرتهم بالكفر ونقض العهد الأوَّل الفِطري، فانحطُّوا عمَّا جُبِلوا عليه، ثم أصرُّوا على ذلك، ثم نكثوا العهد الظَّاهر، فكانوا شرَّ الدَّواب؛ لكونها على ما جُبلَتْ عليه.
{وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} عاقبةَ الغدر، ولا يبالون بوخامتها في الدُّنيا والآخرة، مِنَ العار والنَّار.
* * *
(57) - {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} وتظفرون بهم؛ أي
(1)
: تقتلهم شرَّ قِتلة، والثَّقف: الإدراك بسرعة.
{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} ؛ أي: فنكِّل هؤلاء تنكيلاً يكون سبباً لشرود مَن وراءهم خوفاً منك. والتَّشريد: التَّفريق على اضطراب.
وقرئ: (فَشَرِّذْ) بالذال المعجمة
(2)
، وكأنه مقلوبٌ من: شَذِّر.
وقرئ: (مِنْ خَلْفِهُم)
(3)
، والمعنى واحد، فإنه إذا شرَّد مَن وراءهم فقد فعَل التشريد في الوراء.
{لَعَلَّهُمْ} : لعل المشرَّدين {يَذَّكَّرُونَ} : يتَّعظون
(4)
.
* * *
(1)
في (م): "أو".
(2)
نسبت لابن مسعود. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50)، و"المحتسب"(1/ 280).
(3)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
(4)
في (ك): "يتفطنون".
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ} معاهدين {خِيَانَةً} بأمارةٍ تلُوح لك
(1)
. الخيانة: نقضُ عهدٍ فيما ائتُمِن عليه.
{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} النَّبذُ: إلقاءُ الخبر إلى مَن لا يعلمه بما يوجِبُ أنَّه حربٌ.
{عَلَى سَوَاءٍ} استواءِ حالٍ من
(2)
النَّابذ والمنبوذ إليهم؛ أي: ألقِ إليهم الخبر أنَّك نقضْتَ العهد الذي بينك وبينهم؛ لتكونوا أنتم وهم في العلم بالنَّقض على استواء؛ أي: مُسْتوين فيه، ولا تحاربهم قبلَ الإعلام؛ فإنه خيانة.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} تعليل للأمر بالنَّبذِ، والنَّهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف.
* * *
(59) - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} .
{وَلَا تَحْسَبَنَّ} خطاب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقوله
(3)
: {الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} مفعولاه.
وقرئ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} بياء الغيبة
(4)
، والفاعل ضمير يعود على الرسول عليه السلام أو على السَّامع، والمفعول الأوَّل:{الَّذِينَ} ، والثاني:{سَبَقُوا} .
(1)
في النسخ: "تلوح ذلك"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 231)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 64).
(2)
سقطت اللوحة رقم (251) من (ك)، وكررت اللوحة (254). وتبدأ اللوحة من هنا، وتنتهي قبل قوله:"مقاومة الكثير من الكفار".
(3)
"وقوله" من (م).
(4)
قرأ بها حفص وابن عامر وحمزة. انظر: "التيسير"(ص: 117).
وقيل: أصله: أنْ سَبَقوا، فحُذفت (أنْ)، كما في قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، ودليله قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(أنهم سبقوا)
(1)
.
وهذه القراءة
(2)
لم ينفرد بها حمزة كما تُوهِّم
(3)
، بل وافقه ابن عامر وعاصم في رواية حفصٍ عنه.
{أنَّهم لا يُعْجِزون} تعليلٌ للنَّهي؛ أي: لا تحسبنَّهم سبقوا فأَفلتوا؛ لأنهم لا يفوتون الله، ولا يجدونه طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم.
وقرئ {إِنَّهُمْ} بالكسر
(4)
، على أنه تعليلٌ على سبيل الاستئناف، والمراد: الإزاحة لِمَا يُحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو.
عن الزهري: أنَّها نزلَتْ فيمَنْ أَفلَت مِن فَلِّ المشركين
(5)
.
* * *
(1)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 414)، و"حجة القراءات" لابن زنجلة (ص: 312)، و"الكشاف"(2/ 231). وهذا الوجه من الإعراب ذكره الفراء وتعقبوه بأن حذف (أنْ) المصدرية ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال، فلا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى. انظر:"روح المعاني"(10/ 164).
(2)
أي قراءة: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} بالياء.
(3)
المتوهم الزمخشري إذ قال في "الكشاف"(2/ 231): (وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة). وقد ردوا عليه بأنها - كما نقل الآلوسي - أنور من الشمس في رابعة النهار، وأن جمعا من كبار الأئمة قد قرؤوا بها أيضا منهم ابن عامر، وهو - كما قال أبو حيان - من العرب الذين سبقوا اللحن، وقرأ على عثمان رضي الله عنه. انظر:"البحر"(11/ 142)، و"روح المعاني"(10/ 163).
(4)
هي قراءة الجمهور عدا ابن عامر فقد قرأ بفتحها. انظر: "التيسير"(ص: 117).
(5)
انظر: "الكشاف"(2/ 231). وكلمة: "فل" سقطت من (ف).
{وَأَعِدُّوا} أيُّها المؤمنون {لَهُمْ} لناقضي العهد، أو للكفار {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} مِنْ كلِّ ما يُتقوَّى به في الحرب، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: سمعته عليه السلام يقول على المنبر: "ألا إنَّ القوَّة الرَّمي"، قالها ثلاثاً
(1)
. والمراد: أنه أقواها.
{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الرِّباط: شدٌّ أيسر من العقد، يقال: ربَطَه يَربِطُه رَبْطاً ورِبَاطاً، وصار اسماً للمربوط، إلَّا أنَّه لا يستعمل إلا في الخيل
(2)
، فالإضافة باعتبار عموم المفهوم الأصلي
(3)
، ويحتمل أن يكون جمع ربيط، كفصيل وفصال.
وقرئ: (رُبط الخيل) بضم الباء وسكونها
(4)
، جمع رباط.
وعطفُها على {قُوَّةٍ} كعطف جبرائيل وميكائيل على الملائكة عليهم السلام.
(1)
رواه مسلم (1917).
(2)
في هامش (ف): "فيه رد لمن وهم وقال: إنه اسم للخيل التي تربط. منه". والقائل لذلك الزمخشري في "الكشاف"(2/ 232).
وفي هامش (ف) أيضاً: "رد لمن وهم أنَّه إضافة الشيء إلى نفسه: منه"، وفوقه:"سعد الدين"، والصواب أن قائله الطيبي تعقيبا على قول الزمخشري، ولفظه: قوله (أي: الزمخشري): (والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله): قيل: فإذن يلزم من إضافته إلى الخيل إضافة الشيء إلى نفسه. انظر: "فتوح الغيب"(7/ 141).
(3)
في (م): "باعتبار عموم مع مفهوم الأصل". والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "نواهد الأبكار" للسيوطي (3/ 477)، والكلام منقول عن السعد التفتازاني كما صرح السيوطي.
(4)
بالضم نسبت إلى الحسن، وبالسكون لأبي حيوة. انظر:"مختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
{تُرْهِبُونَ} الإرهاب: إزعاج النَّفس بالخوف، {بِهِ}؛ أي: بما استطعتم، أو بالإعداد {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}؛ يعني: كفَّار مكَّة.
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} : من غيرهم من الكفرة، قيل: هم اليهود، وقيل: المنافقون، وقيل: الفرس.
{لَا تَعْلَمُونَهُمُ} : لا تعرفونهم بأعيانهم {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} : يعرفهم.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه، وفي عبارة {يُوَفَّ} بعد بيان ما ينفَق بقوله:{مِنْ شَيْءٍ} إشارةٌ إلى أنه وإنْ كان قليلاً فجزاؤه جليل.
{وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} بتضييع العمل.
قيل: أو نقصِ الثَّواب. ومَبناه على استحقاق العبد بالعمل للثواب، وقد عرفت ما فيه في تفسير:{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
* * *
(61)
{وَإِنْ جَنَحُوا} : مالوا، ومنه الجَناح، وتعديتُه باللام أو إلى.
{لِلسَّلْمِ} : للصلح والاستسلام {فَاجْنَحْ لَهَا} وعاهِدْ معهم. وتأنيث الضمير لحمل السّلم على نقيضها وهو الحرب.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : ولا تخف من إبطالهم خداعاً فيه؛ فإنَّ الله تعالى يَعصمك منه ويُحيقه بهم {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم وأحوالهم.
والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتِّصالها بقصتهم، وقيل: عامَّة نسخَتْها آيةُ السَّيف.
* * *
(62)
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} بالصُّلح {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} {حَسْبَكَ} بمعنى: مُحْسِبُكَ وكافيْكَ، قال جريرٌ:
إِنِّي وَجَدْتُ مِنَ المَكَارِمْ حَسْبَكُم
…
أَنْ تَلْبسُوا حُرَّ الثِيَابِ وَتَشْبَعُوا
(1)
{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: بجماعة المؤمنين واتفاقِ كلمتهم، على ما دلَّ عليه قوله:
{وَأَلَّفَ} ؛ أي: أوقع التَّأليف {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} حتى صاروا كنفسٍ واحدةٍ بعد ما كان فيهم من العصبية والغضبية في أدنى شيء، والتَّهالكِ على الانتقام، بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، كما بيَّنَه بقوله:
{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} ؛ أي: تناهي عداوتهم إلى حدٍّ لو أنفق منفقٌ في إصلاح ذاتِ بينِهم ما في الأرض من الأموال لا يقدرُ على الألفة والإصلاح.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بقدرته البالغة؛ فإن المالك للقلوب يقلِّبها كيف يشاء.
(1)
اختلف في نسبة البيت؛ ففي "الكتاب" لسيبويه (3/ 153)، و"أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 239) نسب لعبد الرحمن بن حسان. وفي "الحماسة البصرية"(2/ 265)، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي (2/ 268) نسب لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. وفي "تاريخ بغداد"(9/ 476)، و"تاريخ دمشق"(29/ 181) نسب لحسان بن ثابت رضي الله عنه. وفي "الكشاف"(2/ 233) لجرير.
{إِنَّهُ عَزِيزٌ} تامُّ القدرةِ والغَلَبةِ، لا يُعصى عليه ما يريدُه.
{حَكِيمٌ} يعلم
(1)
أنه كيف ينبغي أن يَفعل ما يريد.
وقيل: الآية في الأوس والخزرج، وكان بينهم من الحرب والوقائع ما أهلَكَ سادتهم ورؤساءهم، ولم يكن لبغضائهم أمدٌ ومُنتهًى، وبينهما التَّجاوُر
(2)
الذي يَهيجُ الضَّغائن ويُديمُ التَّحاسد، وكان كلٌّ من الطَّائفتين يتجنَّب ما آثَرتْه الأخرى، ويكره ما أحبَّته، فأنساهم الله تعالى ذلك كلَّه حتى توافقوا على الإسلام والطَّاعة، وتصادَقُوا وتصافَوْا وتحابُّوا، وصاروا أنصار الله، وذلك من المعجزات الباهرة، والآيات الظَّاهرة
(3)
.
* * *
(64) - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: كفاك الله تعالى وكفى أتباعك من المؤمنين ناصراً، وكفاك الله تعالى وكفاك المؤمنون، على أنَّ (مَن اتَّبعك) في محل النَّصب على المفعول معه، كقولك: حسبك وزيداً درهم، أو الرفعِ عطفاً على اسم الله.
نزلت في البيداء في غزوة بدر
(4)
.
وقيل: نزلت عند إسلام عمر رضي الله عنه
(5)
.
(1)
"يعلم" من (م).
(2)
في (ف) و (م): "التجاوز"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 234).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 234)، وانظر:"تفسير الطبري"(11/ 256)، و"تفسير الثعلبي"(4/ 370).
(4)
انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 549).
(5)
رواه الطبراني في "الكبير"(12470) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 28): (فيه إسحاق بن بشر الكاهلي، وهو كذاب). وقال القرطبي في "تفسيره"(10/ 67): (وقع في =
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} التَّحريضُ: المبالغةُ في الحثِّ على الأمر، من الحَرَضِ، وهو أن يُنهكه المرض حتى يُشرف على الموت. وقرئ:(حَرِّصْ) بالصَّاد المهملة
(1)
.
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} على القتال {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} صابرة عليه {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} تكرار المعنى الواحد بالأعداد المتناسبة في المقاومة للدّلالة على أنَّ حكمَ القليل والكثير واحد.
وشَرَط في الوعد والبشارة بغلبة الجماعة من المؤمنين على عشرةِ أمثالٍ من الكفَّار الصَّبرَ حتى يؤيِّدهم بعونه ونصره، ثم قال:
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} ؛ أي: بسبب أنَّ الكفَّارَ قومٌ جهَلة لا يقاتلون لله تعالى، ولا يثبتون ثبات المؤمنين الذين يبتغون
(2)
بالقتال رضا الله تعالى، فلا يستحقُّون النُّصرة والمعونة؛ لكون دواعيهم منبعثةً من الهوى والشَّيطنة، فاستحقُّوا الهوان والخذلان لتوليهم الشيطان.
* * *
= السيرة خلافه .. ) وانظر باقي كلامه ثمة، وانظر:"السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 342).
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
(2)
في (ف): "يثبتون".
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} كان في أوَّلِ الأمر لخواصِّ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زيادةُ استبصار وقوَّةُ قلب، حتى لقي حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً أبا جهل في ثلاث مئة راكب
(1)
.
فلمَّا اختلط بهم سائر الناس وفيهم مَن يكون به حبُّ الأهل والولد والمال، وأنَّه يضعف القلب عن
(2)
مقاومة الكثير من الكفَّار، خفَّف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين.
{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} بتقديره وتيسيره {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنُّصرة والمعونة، فكيف لا يَغلبون
(3)
؟
في ضمن الآية مبالغة في شدَّة المطلوبية، ولكونه أهمَّ أُثبت
(4)
في أُولى جملتي التَّخفيف، وحذف من الثانية لدلالة السَّابقة عليه.
* * *
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} ؛ أي: ما صحَّ له وما استقام. وقرئ: (للنَّبيِّ) على العهد
(5)
.
{أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} وقرئ {تكونَ} بالتَّاء
(6)
، وقرئ:{أُسَارَى}
(7)
.
(1)
وهي سرية حمزة رضي الله عنه إلى سيف البحر. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 595).
(2)
إلى هنا تنتهي اللوحة التي سقطت من (ك) وتقدم التنبيه عليها.
(3)
في (ف) و (م): "لا يغلبوا".
(4)
في (م): "وأثبت".
(5)
نسبت لأبي الدرداء وأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
(6)
قرأ بها أبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 117).
(7)
قرأ بها أبو جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 277).
{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} بإشاعة القتل؛ أي: يُضعفَ الكفر ويُذلَّه، وَيعزَّ الإسلامُ بالنَّصر
(1)
، ثم يجوز له الأسر بعد ذلك، ولهذا لمَّا كثر المسلمون وضَربَ الإسلامُ بِجِرانِهِ
(2)
نزلَ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
مِنْ أَثْخَنَهُ المرض: إذا أثقلَه، وأصله: الثَّخانة. وقرئ: (يُثَخِّنَ) بالتَّشديد
(3)
؛ للمبالغة.
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} : حطامَها بأخذكم الفداء.
{وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} لكم؛ أي: ثوابَ الآخرة، أو سببَ
(4)
نيله من إعزاز دينه وقمع أعدائه.
وقرئ بجرِّ: (الآخرة)
(5)
، على إضمار المضاف كقوله:
أَكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِيْنَ امْرَأً
…
ونارٍ تَوَقَّدُ باللَّيلِ نَارا
(6)
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} يُغلِّب أولياءه على أعدائه.
{حَكِيمٌ} يعلم ما يليقُ بكلِّ حالٍ ويخصُّه بها، كما أمر بالإثخان ومنع عن
(1)
في (ف) و (ك): "بالقهر".
(2)
أي: ثَبَتَ واستقام، والجِرَانُ: الصَّدْر، والأصل فيه: أنْ يَبْرُك البعيرُ فيَضرِبَ بصدره الأرضَ، يقال ذلك للشيء إذا ثَبَتَ واستَقرَّ. انظر:"مجمع الغرائب" لعبد الغافر الفارسي (مادة: جرن).
(3)
نسبت ليزيد بن القعقاع ويحيى بن يعمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
(4)
في النسخ: "بسبب"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 237)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 67).
(5)
انظر: "المحتسب"(1/ 281)، و"الكشاف"(2/ 237).
(6)
البيت لأبي دؤاد الإيادي، كما في "الكتاب" لسيبويه (1/ 66)، و"الأصمعيات" (ص: 191).
الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيَّر بينه وبين المَنِّ لَمَّا تحوَّلَتِ الحالُ، وصارت الغلبة للمؤمنين.
وروي: أنَّه عليه السلام أُتِيَ يوم بدرٍ بسبعين أسيراً فيهم العبَّاس وعقيل بن أبي طالب، فاستشار فيهم فقال أبو بكر: قومك وأهلك، استَبْقهم لعلَّ الله يتوب عليهم، وخُذْ منهم فديةً يقوَى بها أصحابك، وقال عمر رضي الله عنه: اضرب أعناقهم؛ فإنَّهم أئمَّة الكفر، وإنَّ الله أغناك عن الفداء، مكِّنِّي من فلانٍ - لنسيب له -، ومكِّنْ عليًّا وحمزةَ من أخويهما فلنضرب أعناقهم، فلم يهوَ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إنَّ اللهَ ليُلينُ قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألينَ من اللِّين، وإنَّ اللهَ تعالى يشدِّدُ قلوبَ رجالٍ حتى تكونَ أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مَثَلكَ يا أبا بكر مَثَلُ إبراهيم قال:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومَثَلَك يا عمر مَثَلُ نوح قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، فخيَّر أصحابه رضي الله عنهم فأخذوا الفداء، فنزلت
(1)
.
قيل: فدخلَ عمرُ رضي الله عنه على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله، أخبرني، فإن أجد بكاءً بكيْتُ وإلا تباكَيْتُ، فقال:"أبكي على أصحابِكَ في أخذِهم الفِداءَ، ولقدْ عُرِضَ عليَّ عذابَهم أدنى مِنْ هذه الشَّجرةِ" لشجرة قريبة
(2)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 236). ورواه مطولاً ومختصراً الإمام أحمد في "المسند"(3632)، والترمذي (1714) و (3084) وحسنه، والطبراني في "الكبير"(10258)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 236). ورواه "مسلم"(1736) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه باختلاف يسير. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف"(2/ 35).
وفيه: أنَّهم ما أخذوا الفداء إلا بعد تخييرهم صاحبَ الشرع فلا يستحقُّون العذاب، وفيما ذكر ما يُفصح عن استحقاقهم إيَّاه.
ثم إنَّ المذكور في سبب النُّزول صريحٌ في أنه عليه السلام استشارَ بعضَ أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأخذ برأي أبي بكر في القضية المذكورة، فلا دلالة في الآية المذكورة على أنَّ الأنبياء عليهم السلام يجتهدون، وأنَّه قد يكون خطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه.
* * *
(68) - {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
{لَوْلَا كِتَابٌ} : حكم وقضاء {مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} إثباتُه في اللَّوح: أني لا أعذِّب إلَّا بعد النَّهي، لعذَّبْتكم فيما صنعْتُم، ولم يكن نهاهم.
أو: أنَّ الفدية التي أخذوها ستُحَلُّ لهم؛ قال الحسن: إن الله تعالى أطعم هذه الأمَّة الغنيمة، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به، فعاتب الله تعالى ذلك عليهم، ثم أحلَّه لهم
(1)
.
أو: أن لا يعذِّب أهلَ بدرٍ
(2)
.
{لَمَسَّكُمْ} المس
(3)
: إصابةٌ يتأثَّر منه البشر {فِيمَا أَخَذْتُمْ} : بسبب ما أخذتم من
(1)
رواه الطبري عنه في "تفسيره"(11/ 276).
(2)
وهذا أيضاً مروي عن الحسن، رواه الطبري في "تفسيره"(11/ 281)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1735).
(3)
"المس" سقط من (ك).
الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، لما نزلت هذه الآية
(1)
أمسكوا عن مدِّ أيديهم إلى شيءٍ من الغنائم، فنزل:
(69) - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} الفاء للسَّبب، والسَّبب محذوفٌ، تقديره: أحللْتُ لكم الغنائم فكلوا، وفي عموم (ما غنمتم) تدخل الفدية؛ لأنها من جملة الغنائم، وإذا كان تقدير الكلام ما ذُكِرَ، لا يكون فيه متمسَّكٌ لمن زعم أنَّ الأمرَ الوارد بعد الحظر للإباحة.
{حَلَالًا} حالٌ من المغنوم، أو صفةٌ للمصدر؛ أي: أكلًا حلالًا، وفائدته: إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب العتاب، ولذلك وصفَه بقوله:
{طَيِّبًا} لبيان أنَّه لا تبعةَ فيه، فإنَّ الحلالَ قد يكون مكروهًا، فإذا وُصِفَ بالطِّيبِ لا يبقى هذا الاحتمال، وأمَّا الإباحة فلا تجامعه الكراهة، فالمباح أخصُّ من الحلال، ومن هاهنا تبيَّن أنَّ حقَّ المقدر أن يكون: أحللْتُ، دون: أبحْتُ.
وجُوِّزَ أنْ تكون الفائدة ما وقع في نفوسهم بسبب حرمة الغنائم على الأولين.
وفيه: أنه عليه السلام بعد ما رخَّص وخيَّر بين القتل والفداء لا وجه لأنْ يبقى في نفوسهم احتمال الحرمة، خصوصًا بعدما أقدموا على أخذ الفداء وعملوا بموجب الرُّخصة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في الإقدام على ما لم يُعهَد إليكم فيه حكمٌ.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} غفرَ ذنبَكم {رَحِيمٌ} أباحَ لكم ما أخذتم.
(1)
في (ف): "الأمة"، وسقطت من (ك) و (م)، والصواب المثبت.
ولا يخفى لطفُ موقع هذا الكلام وحسنُ انطباقه بمقتضى المقام، فإن في الأمر بالاتقاء ما يسبق إلى الأوهام من بقاءِ التَّبعة وشيءٍ من الآثام فيما صدرَ عنهم من الإقدام والالتزام.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُم} في ملكتكم
(1)
كأنَّ أيديكم قابضةٌ عليهم {مِنَ الْأَسْرَى} وقرئ: {من الأُسارى}
(2)
.
أُمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم باستمالة
(3)
الأُسارى الذين أخذ منهم الفداء؛ ترغيبًا لهم في الإسلام.
{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} إخلاصًا في الإيمان وصدقًا في النيَّة.
{يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفداء: إمَّا في الدُّنيا إخلافًا، وإمَّا في الآخرة إثابةً.
روي أنَّها نزلَتْ في العبَّاس رضي الله عنه؛ كلَّفه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يفديَ نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمَّد! تركتني أتكفَّف قريشًا ما بَقيْتُ، فقال: "أينَ الذَّهب الذي دفعْتَ إلى أمِّ الفضل وقت خروجك، وقلْتَ لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حَدَث بي حدثٌ فهو لكِ ولعبد الله
(1)
"في ملكتكم" من (م).
(2)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 117).
(3)
في النسخ: "باستحالة"، والصواب المثبت.
وعبيد الله والفضل وقثم"، فقال: وما يدريك؟ فقال: "أخبرني ربي"، قال: فأشهد أنَّك صادقٌ، وأن لا إله إلا الله، وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد اللَّيل، قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك، لي الآن عشرون عبدًا إن أدناهم ليَضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزمَ ما أُحبُّ أنَّ لي بها جميعَ أموال أهل مكَّة، وأنا أنتظر المغفرة من ربكم
(1)
. يعني: الموعودَ بقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
* * *
{وَإِنْ يُرِيدُوا} يعني: الأسرى {خِيَانَتَكَ} : نقضَ ما عهدوك
(2)
{فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ} بالكفر ونقضِ ميثاقه المأخوذ بالعقد {مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} : فأَمْكَنك منهم؛ أي: فأَقْدَرك عليهم؛ يعني يومَ بدر، وهم ورؤساؤهم، فكيف بعد ذهابهم بالقتل؟ فإن عادوا للخيانة فيُمْكِنُك منهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالأحوال {حَكِيمٌ} في الأفعال.
* * *
(1)
روى نحوه الإمام أحمد في "المسند"(3310) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والحاكم في "المستدرك"(5409) - وصححه - من حديث عائشة رضي الله عنها، والبيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 142) عن الزهري وجماعة.
(2)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(عاهدوك).
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} وهم المهاجرين، هجروا أوطانهم حبًّا لله ولرسوله.
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} بأنْ صرفوها في الكراع والسلاح، وأنفقوا على
(1)
المحاويج.
{وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بمباشرة القتال.
{وَالَّذِينَ آوَوْا} أي: آووا المهاجرين إلى ديارهم {وَنَصَرُوا} على أعدائهم، وهم الأنصار.
{أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في الميراث، وكان المهاجرون
(2)
والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نُسِخَ بقوله:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وقيل: بالنصرة والمظاهرة.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} في ذكر
(3)
{آمَنُوا} هاهنا دون الثاني؛ لأنَّ قوله: {آوَوْا} يغني عنه، بخلاف قوله:
{وَلَمْ يُهَاجِرُوا} بل يُوْهِمُ خلافَه.
{مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: من تولِّيهم في الميراث {حَتَّى يُهَاجِرُوا} .
وقرئ: {وِلَايَتِهِمْ} بالكسر
(4)
؛ تشبيهًا للتولِّي بالعمل والصِّناعة كالكتابة والإمارة، كأنَّه بتولِّيه صاحبَه يزاول
(5)
عملًا.
(1)
في (ك): "وأنفقوها في".
(2)
في (م): "المهاجرين".
(3)
"ذكر" سقط من (ف).
(4)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 117).
(5)
في (ف) و (م): "يزول".
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} : فواجبٌ عليكم أن تنصروهم على المشركين.
{إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} : عهدٌ، فإنه لا يجوز أن يُنقض عهدهم بنصرهم عليهم.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذير عن تعدِّي حدِّ الشرع في الموالاة وتركها.
* * *
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ظاهرُه إثبات الموالاة بين الكفَّار، والمراد نهيُ المسلمين عن موالاتهم وموارثتهم؛ لأن الموالاة بينهم مترتِّبة
(1)
على التَّناسب في الكفر، كترتُّبها بين المؤمنين على التناسب في الإيمان، فالمفهوم عدم الموالاة حيث لا تناسُبَ، فيلزم انتفاءُ موالاة المؤمنين
(2)
والكافرين في التَّوارث، ووجوبُ مصارفتهم ومباعَدتهم وإن كانوا الأقارب.
{إِلَّا تَفْعَلُوهُ} : إن
(3)
لم تَمتثِلوا ما أمرتُكم به، ولم تتركوا موالاة الكفار، ولم تفضِّلوا
(4)
نسبة الإيمان على نسبة القرابة، وأخوَّةَ الإسلام على اتصال اللُّحْمية، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفَّار، ولم تجعلوا القرابة دينيَّة فقط.
(1)
في (ف): "مرتبة".
(2)
"على التناسب في الإيمان فالمفهوم عدم الموالاة حيث لا تناسب فيلزم انتفاء موالاة المؤمنين" زيادة من (م).
(3)
في (ف) و (م): "وإن".
(4)
في (ف) و (م): "تفصلوا".
{تَكُنْ فِتْنَةٌ} : تحصل فتنةٌ {فِي الْأَرْضِ} عظيمةٌ، هي ضعفُ الإسلام وقوَّةُ الكفر.
{وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} في الدِّين؛ لأن المسلمين ما لم يصيروا يدًا واحدة على الكفرة لم يقم الدِّين، وازداد الفساد وكبر.
وقرئ: (كثير)
(1)
.
اكتفى بالتَّنكير في توصيف الفتنة بالكبير؛ للتَّنبيه على أنه لا يفي به التفسير.
* * *
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} لمَّا قسم المؤمنين ثلاثةَ أقسام بيَّنَ أنَّ القسمَيْن الأوَّلَيْن المتواصلَيْن هم الكاملون في الإيمان، الذين حقَّقوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه؛ من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق، وأثنى عليهم، ووعد لهم الموعد الكريم مخصوصًا بهم وبمن لحقهم، حيث قال:
{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ؛ أي: مغفرة عظيمةٌ ونوعٌ من الرِّزق لا تَبِعةَ ولا مِنَّةَ فيه، والتَّخصيصُ مستفادٌ من تقديم الجار والمجرور.
والآية الأولى للأمر بالتَّواصل بينهم والموالاة، وهذه لبيان فضلهم، فلا تكرار.
* * *
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 50).
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار؛ أي: حكمُ اللاحقين بهم المتَّسِمين بسِمَتِهم حكمُ السابقين إلى الهجرة وكمالِ الإيمان والموعد؛ ترغيبًا لهم وتكريمًا.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التَّوارث من الأجانب.
{فِي كِتَابِ اللَّهِ} : في حُكمه، أو في اللَّوح المحفوظ، أو في القرآن، وهو آية المواريث، واستُدلَّ بها على توريث ذوي الأرحام.
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم الحكمة في التَّوريث بنسبة الإسلام والمظاهرة أوَّلًا، ثم بنسبة القرابة ثانيًا.
* * *
سورة براءة
(1)
هي آخرُ ما نزل، ولها أسماء أُخر منها سورة التَّوبة.
وعن حذيفة رضي الله عنه: إنَّكم تسمُّونها سورة التَّوبة، وإنَّها سورة العذاب، والله ما تركَتْ أحدًا إلا نالَتْ منه
(2)
.
قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه آيةٌ أو سورةٌ يبيِّن موضعها، وتوفي ولم يبيِّن موضع هذه السُّورة، وكانت قصَّتها تشابه قصَّة الأنفال وتُناسبها؛ لأن في الأنفال ذكرَ العهود وفي البراءة نبذَها قرن بينهما
(3)
.
وأمَّا أنَّها لم تنضم إليها فلأنَّ الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أنهما
(4)
سورة واحدة - وهي سابعة السَّبع الطِّوال - أو سورتان، فتركت بينهما فرجة، ولم تكتب:(بسم الله الرحمن الرحيم)
(5)
؛ رعاية للاحتمالين.
(1)
في (ف): "سورة التَّوبة"، وبياض في (م) و (ك)، والصواب المثبت.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3274)، وصححه. وانظر:"الكشاف"(1/ 241).
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 70). وهذا مأخوذ من حديث عثمان رضي الله عنه الذي رواه أبو داود (786)، والترمذي (3086)، دون ما ذكر من قصة العهود ونبذها.
(4)
في (م): "أنها".
(5)
"الرحمن الرحيم": ليست في (م) و (ك).
ومن قال: إنما تُرِكَتِ التَّسمية بينهما لأنها نزلت لرفع الأمان و (بسم الله) أمانٌ، فكأنه غافلٌ عن أنها توقيفية، لا دخل للرأي في إثباتها وتركها.
* * *
(1) - {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{بَرَاءَةٌ} مبتدأ؛ لأنها موصوفة بقوله: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ؛ أي: حاصلة منهما، خبره:{إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} ؛ أي: واصلةٌ إليهم، ويجوز أن تكون {بَرَاءَةٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه براءة، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير حاصلة، بل يكفي تقدير: واصلة
(1)
؛ أي: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} .
والعهد: الذي يُتقدَّم به لتوثيق الأمر به.
وإظهار ما
(2)
ذكر في صورة الإخبار - وهو أمر في الحقيقة - للمبالغة في مبادرته عليه السلام إلى الامتثال للأوامر الواردة.
وذكرُ الله تعالى تمهيدٌ كما في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]؛ تعظيمًا لشأنه عليه السلام، وإشعارًا بأنَّه مِنَ الله تعالى بمكانٍ يوجب إجلالَه
(3)
، وإنما نَسَبَ البراءةَ إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم والمعاهدة إلى المسلمين؛ لشركتهم في الثانية دون الأولى.
{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} من أهل مكَّة وغيرهم من العرب، فإنهم نكثوا العهد إلا
(1)
"بل يكفي تقدير واصلة" سقط من (ف)، وكلمة "تقدير" سقطت من (ك).
(2)
في (م): "لما"، وهو خطأ.
(3)
في هامش (ف): "ولولا قصد التمهيد لأعيد {مِنَ} كما أعيد {عِندَ} في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} دفعًا لاحتمال التمهيد".
ناسًا منهم من بني ضمرة وبني كنانة، فأمر الله تعالى المسلمين بنبذ العهد إلى النَّاكثين منهم.
* * *
{فَسِيحُوا} السَّيح: السَّير على مَهَلٍ، والجريُ على انبساط، ولا يخفى حسنُ موقعه هنا.
وفيه تلوين الخطاب من صورة الخبر إلى الأمر الظَّاهر، ونقلُه من مخاطَبٍ إلى آخر بلا فصلٍ بينهما بأداة النِّداء، وهذا جائز عند عدم الاشتباه
(1)
، كما في قوله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29]، فلا حاجةَ إلى تقدير القول، ولا بُعْدَ في ترتُّبِ
(2)
الثَّاني على الأوَّل كما في قول الحماسة:
لا تَقْبِرُونِي إِنّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ
…
عَلَيْكُمْ ولكِنْ أَبْشِرِي أُمَّ عَامِرِ
(3)
وإنما زيد قوله: {فِي الْأَرْضِ} تعميمًا للإذن، وإلَّا فمعلومٌ أنَّ السَّيح لا يكون إلا في الأرض
(4)
.
(1)
في هامش (ف): "قائله سعد الدين ذكره في تفسير قوله تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} من سورة البقرة".
(2)
في هامش (ف): "وما قيل عطف لام المخاطب على الأمر الآخر من غير تصريح بالنداء مما منعه النجاة لا ينبغي أن يلتفت إليه".
(3)
البيت للشنفرى الأزدي كما في "الحماسة" مع شرح التبريزي (ص: 188). وانظر: "الأغاني"(10/ 188)، و"محاضرات الأدباء"(2/ 518).
(4)
في هامش (ف): "كان زيد في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} ".
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أمهِلْهم أربعة أشهر ليسيروا فيها على مهلٍ آمنين أين شاؤوا، وهي الأشهر المرادة بقوله:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} على ما يأتي بيانه بإذن الله تعالى.
وقيل: هي شوَّال، وذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرم؛ لأنها نزلَتْ في شوَّال سنة تسعٍ من الهجرة، كان صيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها واجبة، فوافقها النُّزول.
وقيل: عشرون من ذي الحجَّة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر؛ لأنَّ التَّبليغ كان يوم النَّحر، وكانت حرمًا؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرِّم قتلهم وقتالهم، أو على التَّغليب لأن ذا الحجَّة والمحرَّم منها.
وَيرِدُ عليه: أنَّه لا دلالة في كون التَّبليغ العام على رؤوس الأنام يوم النَّحر على ما ذُكِرَ؛ إذ يجوز أن يكون النُّزول قبله، وتحصل فائدة التبليغ بالإعلان والإشاعة.
روي أنه لمَّا ضَرب لهم مدَّة قالوا: نسيح في المدَّة على أمان، ثم نحتال فنمتنع
(1)
، فنزلَ قولُه:
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} لا تَفوتونه وإنْ أَمهَلكم، وزيادةُ:{اعْلَمُوا} للتَّشديد.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} الإخزاء: الإذلال بما فيه الفضيحة والعار؛ أي: مُذِلُّهم بالقتل والأسر في الدُّنيا، والعذابِ في الآخرة، ووضع الظَّاهر موضع الضمير في الموضعين: أمَّا في الأول فلتفخيم أمر الخزي، وأمَّا في الثاني فللدلالة على أن الكفر هو الموجِبُ له، وكذا في:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
* * *
(1)
في (ك): "ثم نمتنع".
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الأذان
(1)
: فعَال بمعنى الإفعال، كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، قيل: معناه النِّداء بالأمر الذي يُسمَع بالأذان.
ورفعُه كرفع {بَرَاءَةٌ} على الوجهين، والواو عاطفة للجملة على الجملة.
{إِلَى النَّاسِ} لما كانت البراءةُ مخصوصةً بالمعاهَدين، والإيذانَ بها للعموم، علَّق الإخبارَ بالبراءة بالمعاهَدين
(2)
، والإخبارَ بالإيذان بذلك بالناس.
{يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} : يوم العيد؛ لأن فيه تمامَ الحج ومعظَمَ أفعاله، ولأنَّ التَّبيلغ كان فيه، ولِمَا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقفَ يوم النَّحر عند الجمرات في حجَّة الوداع فقال:"هذا يوم الحجِّ الأكبر"
(3)
.
وتوصيفُه بالأكبر لأن العمرةَ حجٌّ أصغر، أو لأنَّ المراد من الحجِّ أعمالُه، وما يقع فيه أكبر من سائر باقي الأعمال، أو لأنَّه ظهر فيه عزُّ المسلمين وذلُّ الكافرين.
وأما الموافَقة لأعياد سائر الملل فلا ينبغي أن يُعبأ بها
(4)
في تعظيم حجِّنا، ثمَّ إنَّ التَّوصيف المذكور قد ورد في حجَّة الوداع أيضًا، ولا موافقه ثمَّة.
(1)
من قوله: "بما فيه الفضيحة والعار .. " إلى هنا سقط من (ك).
(2)
"والإيذان بها للعموم علق الإخبار بالبراءة بالمعاهدين" سقط من (ك).
(3)
رواه أبو داود (1954)، وابن ماجه (3058) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وعلقه البخاري بعد الحديث (1742).
(4)
في (م): "به".
{أَنَّ اللَّهَ} ؛ أي: بأنَّ الله، حُذِفَتِ الباء التي هي صلة الأذان تخفيفًا. وقرئ:(إنَّ اللهَ) بالكسر
(1)
، إجراءً للأذان مجرى القول.
{بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، ويندرج فيها عهودهم اندراجًا أوَّليًّا.
{الْمُشْرِكِينَ} عطف على المستكنِّ في {بَرِيءٌ} من غير تأكيدٍ للفصل، أو على محل (إنَّ) المكسورة واسمها
(2)
بلا فصلٍ بأداته.
وقرئ بالنصب
(3)
؛ عطفًا على اسم {أَنَّ} ، أو على أنَّ الواو بمعنى: مع.
ويجوز
(4)
أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر؛ أي: ورسولُه كذلك.
{فَإِنْ تُبْتُمْ} تفريعٌ على ما فُهِمَ ممَّا تقدَّم مِن كون المشركين وآثاره
(5)
سببًا للبراءة المذكورة، وفي هذا التفريع غنًى عن ذكر متعلَّق التَّوبة.
{فَهُوَ} ؛ أي: فالتَوب {خَيْرٌ لَكُمْ} في الدُّنيا والآخرة.
(1)
نسبت للحسن وجماعة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 51).
(2)
قوله: "على محل إن واسمها" هذه عبارة الزمخشري، وعبارة الآلوسي:(على محل اسم إنَّ)، والمؤدى من العبارتين واحد كما أشار إليه الآلوسي بقوله:(ووقع في كلامهم: محل إنَّ مع اسمها، والأمر فيه هين). وقال الطيبي في شرح كلام الزمخشري: (لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه) وهذا بعينه كلام الآلوسي في تعليل العطف المذكور، وزاد عليه:(أي: على محلٍّ كان له قبل دخولها، فإنه كان إذ ذاك مبتدأ). انظر: "فتوح الغيب"(7/ 172)، و"روح المعاني"(10/ 217).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 7)، و"زاد المسير"(3/ 397)، و"البحر المحيط"(11/ 185).
(4)
أي: على القراءة بالرفع.
(5)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:"الشرك وآثاره".
{وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} ، أي: أعرضتم عمَّا دُعيتم إليه {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ} قد مَرَّ أنَّ إقحام (اعلموا) إلى
(1)
مثل هذا المقام للتَّهديد في الوعيد.
{غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} لا تَفوتونه طلبًا، ولا تتخلَّصون منه هربًا.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الأمرُ بالبشارة عامٌّ لكلِّ مَنْ يقدِر عليها، وفيه تلوينُ الخطاب.
{بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة.
* * *
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} استدراك من قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ، بحسب المفهوم، كأنه قيل: لا تُمهلوا النَّاكثين للعهد غيرَ أربعة أشهر، لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم فلا تجعلوهم في حكم النَّاكثين الذين لا رخصة في إمهالهم عن المدَّة المذكورة، ولا يضرُّه تخلُّل الفاصل؛ أعني قوله:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ} إلخ؛ لأنَّه ليس بأجنبيٍّ بالكليَّة، لكونه أمرًا بالإعلام معنًى، كأنَّه قيل: واعلموا أنَّ الله بريءٌ منهم.
قيل: استثناء من {فَسِيحُوا} . ومبناه على تقدير القول بين الفاء ومدخوله، وقد عرفْتَ أنَّه تكلُّفٌ مستغنًى عنه.
وقيل: استثناء من {الْمُشْرِكِينَ} . ورُدَّ بأنَّه يلزم حينئذ تخلُّل الفاصل بالأجنبي مع منافاته لعموم المشركين في قوله
(2)
(1)
"إلى" سقط من (ك).
(2)
في (ف): "وفي قوله"، ومن قوله: "أن الله بريءٌ منهم، قيل: استثناء
…
" إلى هنا سقط من (ك).
والعدول في قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} من المضمَر إلى الظَّاهر لطول العهد، والتَّنبيهِ على أن الشرك
(1)
إذا قارنه الوفاء بالعهد لا يؤثر في النَّبذ. ولا يخفى ما فيه من التَّفخيم لشأن الوفاء.
{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} من
(2)
شرائط العهد، وفي عبارة {ثُمَّ} إشارة إلى أنهم لم يفعلوا ذلك مع تمادي العهد.
{وَلَمْ يُظَاهِرُوا} ؛ أي: ولم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم.
{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ} تفريعٌ على ما تقدَّم، وبيانٌ للمراد من عدم جعلِهم في حكم النَّاكثين.
وإنما قال: {إِلَيْهِمْ} تضمينًا لمعنى الإرسال؛ أي: أتمُّوا عهدهم إلى مدَّتهم مرسِلين إليهم؛ يعني: أمرَ الإتمام، وذلك لَمَّا اعتبر الإعلام في قرينه السابق ذكرُه كان المناسب اعتبارها هاهنا أيضًا.
وفيه دفعُ وهم
(3)
تعميم حكم النَّبْذِ لهم أيضًا، وأمَّا تضمُّن أدُّوا ففيه التزامُ للجمع بين معنيين أحدهما مغنٍ
(4)
عن الآخر.
{عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} المدَّة: زمان طويل الفسحة، واشتقاقه من مَدَدْتُ له في الأجل المهلة، والمراد منتهاها، بقرينة {إِلَى} التي لانتهاء الغاية، فلا حاجة إلى تقدير المضاف.
(1)
في (ك): "المشرك".
(2)
في (ف) و (ك): "هي".
(3)
في (ف): "وهمهم".
(4)
في (ك): "يغني".
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليلٌ وتنبيهٌ على أنَّ قضيةَ التَّقوى إتمامُ العهد، والتَّسوية بين الوفي والغادر.
النَّبذ مخالفة التَّقوى، وإنْ كان الأوَّل مشتركًا
(1)
.
وفيه تتميمٌ لِمَا قصد بقوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} من التَّفخيم لشأن الوفاء بالعهد.
* * *
{فَإِذَا انْسَلَخَ} الانسلاخ: انفصالُ الشَّيء عمَّا يلابِسه ملابَسةَ الْتِحام، مِن سلخ الشَّاة، وإذا كان الانفصال عمَّا يلابسه ملابَسةَ مجاوَرةٍ أو الْتصاقٍ دون الْتحامٍ يقال: انخلع، ولا يقال: انسلخ.
ثم الخلع والسلخ مشتركان في التعلُّق بما يحتوي الشَّيء، وبه يفارقان النَّزْع؛ فإنه يتعلَّق بما يحويه الشَّيء، مثلًا يقال: نزعْتُ المسمار، ولا يقال: خلعتُه، ولا: سلختُه، وإنَّما يقال لآخِر الشَّهر: يوم السَّلْخ؛ استعارةً لعبارة السَّلخ لإزالة النُّور.
{الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي تسعة أشهر لبني كنانة، وأربعةُ أشهر لسائر المعاهَدين
(1)
قوله: "والتسوية بين الوفي
…
" كذا وقعت العبارة في النسخ، وهي عبارة قلقة غير واضحة، ويفسرها كلام حقي والآلوسي، ولفظهما: (تعليل لوجوب الامتثال، وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركًا). انظر: "روح البيان" لإسماعيل حقي الإستانبولي الخلوتي (3/ 386) و"روح المعاني" (10/ 222).
المذكورةُ في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ومَن قال
(1)
: التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها؛ فكأنَّه غفل عن عموم الحكم لبني كنانة.
وقيل: هي رجبٌ وذو القَعدة وذو الحجة والمحرَّم، ويأباه ترتيب الكلام على ما تقدَّم بالفاء.
وأمَّا ردُّه بأنَّه مخالفٌ للإجماع لأنَّه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما ينزل
(2)
بعدُ ما ينسخها، فليس بتامٍّ؛ لأنَّ ناسخ الكتاب لا يلزم أن يكون من الكتاب، وعلى تقدير لزومه كما هو مذهب الشافعي يحتمل أن يكون ناسخه من الكتاب منسوخ التلاوة.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} النَّاكثين عهدهم {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في حلٍّ أو حرمٍ.
ولمَّا كان التَّعريف في الموضعين للعهد لم يكن لمسألة جواز قتال المشركين في الأشهر الحرم تعلُّق بهذا
(3)
المقام، كما سبق إلى بعض الأوهام.
{وَخُذُوهُمْ} الأخذ: الأسر، ومنه: الأَخيذ، للأسير
(4)
.
وليس أسرُهم للاسترقاق؛ لأنَّه لا يجوز في حقِّ المشرك
(5)
، ولهذا أَمر بالحبس، والمراد منه: الإمهال في تخييرهم بين السَّيف والإسلام
(6)
.
(1)
هو الزمخشري وتابعه البيضاوي. انظر: "الكشاف"(2/ 247)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 71).
(2)
"ينزل" من (م).
(3)
في (ف) و (م): "لهذا".
(4)
في (ك): "الأسير".
(5)
لعل الصواب تقييده بمشركي العرب كما فعل الآلوسي انظر: "روح المعاني"(10/ 225).
(6)
في (م) زيادة: "هذا في حق الحاضر والذي في حق الغائب ما ذكر بقوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ}
…
إلخ".
{وَاحْصُرُوهُمْ} ؛ أي: واحبسوهم، ويجوز أن يكون المراد من الحصر المنعُ من التَّبسُّط في البلاد، ويدخل فيه دخولًا أوَّليًّا منعُهم من المسجد الحرام.
{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} ؛ أي: مواضعَ الغِرَّة
(1)
، قال النَّابغة:
أعاذلُ إن الجهل مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى
…
وَإِنَّ الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ
(2)
وقيل: هي كلُّ ممرٍّ ومجازٍ، يرصدونهم كيلا يتبسَّطوا في البلاد، وعلى هذا يكون من قَبيل التأسيس، والتَّأكيدُ خير منه، وانتصابه على الظَّرف.
{فَإِنْ تَابُوا} ؛ أي: من المعاصي، ويدخل فيها دخولًا أوليًّا الرُّجوع عن الكفر، فهي متضمنة للإيمان، ثم قرن به إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ تنبيهًا على مكانهما من الشرع، ويجوز أن يكون من قَبيل الاكتفاء بذكر أمَّي العبادات البدنية والمالية عن جميع العبادات الواجبة.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ؛ أي: التزموا لتينك العبادتين البدنية والمالية، وذلك يتضمَّن التَّصديق بنبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود الأصلي، فمضمون الكلام المذكور منطوق كلمَتي الشَّهادة.
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} تأمينٌ لهم؛ أي: فدعُوهم ولا تتعرَّضوا لهم بشيء من ذلك.
ولا دلالة فيه على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يُخلَّى سبيله؛ لمَا عرفْتَ أنَّ الشَّرط التزامها كما في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].
(1)
في (ف): "الغزاة"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الصواب. انظر:"المحرر الوجيز"(3/ 8)، و"تفسير القرطبي"(10/ 111).
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 8)، و"تفسير القرطبي"(10/ 111). ونسب في "الحماسة البصرية"(2/ 48) لعدي بن زيد العبادي.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} تعليل لِمَا تقدَّم؛ أي: لأنَّ الله غفور يغفر لهم ما سلف {رَحِيمٌ} لا يكلِّفهم المشاقَّ.
ولا يخفى حسنُ انتظامه مع المساق؛ لتضمُّنه الإشارة إلى وجه الاكتفاء بالالتزام لِمَا أمر به.
* * *
{وَإِنْ أَحَدٌ} فاعل فعلٍ مضمَرٍ يفسِّره ما بعدَه لوجود حرف الشرط، وإنما قال:{أَحَدٌ} لعدم الرخصة لإجارة الجماعة؛ لأنها مظنَّةُ الفساد، ولا يتوقَّف عليها تمام المصلحة.
{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لم يقل: (منهم) لعدم اختصاص الحكم بهم على ما يأتي بيانه.
{اسْتَجَارَكَ} : سألك أن تؤمِّنه وتكون جارًا له ليَسمع كلام الله تعالى، ويتبيَّن ما تدعو إليه.
{فَأَجِرْهُ} : فأجبْه إلى ذلك {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} تعالى خاصَّة، أي: يفهمَه ويتدبَّره، فيعلمَ أنه معجِزٌ من عند الله تعالى، وذلك يقتضي مهلةً، ولهذا قال:{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يعني: إنْ لم يؤمن وطلب الرجوع إلى موضع أمنه.
والتعبير عن الفهم بالسمع لأنَّهم من أهل اللِّسان، فيفهمون المعنى كما يسمعون اللفظ.
{ذَلِكَ} الحكم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنَّهم {قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى لطف المعاملة معهم في الإجارة وتبليغ المأمن؛ أي: لا يعلمون حقيقة ما تدعون إليه، فلا بدَّ من الأمان زمانًا حتى يسمعوا ويفهموا الحقَّ فيُذعنوه.
ويجوز أن يكون {لَا يَعْلَمُونَ} منزَّلًا منزلة اللازم؛ أي: ليسوا من أهل العلم والمعرفة، وهذا الحكم عام ثابتٌ أبدًا.
* * *
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} استفهام على جهة التَّعجب والاستبعاد، ومرجعه إلى الإنكار على وجه الأغلب.
{عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} يأمنون به من عذابه في الآخرة
(1)
{وَعِنْدَ رَسُولِهِ} يأمنون به عذاب الدُّنيا من القتل والأخذ، وتكرار {عِنْدَ} للتَّنبيه على اختلاف المراد، وفيه سدٌّ لباب التَّمهيد
(2)
.
وقيل: إنكار واستبعاد لأنْ يكون لهم عهدٌ ولا ينكثوه مع وغرَة
(3)
صدورهم، أو لأنْ يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه.
(1)
في (ك) و (م): "من عذاب الآخرة".
(2)
وقد جرى التنبيه عليه في حاشية (ف) في أول السورة.
(3)
في النسخ: "ولا ينكثون مع غرة"، والمثبت من "تفسير البيضاوي" (3/ 72) وهو صاحب هذا القيل. والوغرة: شدة توقد الحرّ، ومنه قيل: في صدره عليّ وغر بالتسكين؛ أي: ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 302).
ولا يذهبْ عليك أنَّ ما ذكر معنى قولنا: كيف يكون لله ورسوله عهد عند المشركين، لا معنى ما قاله.
{كَيْفَ} حال عن اسم {يَكُونُ} مقدَّمة للاستفهام، و {لِلْمُشْرِكِينَ} خبره، و {عِنْدَ اللَّهِ} صفةٌ لـ {عَهْدٌ} ، أو ظرفٌ لـ {يَكُونُ} .
أو {كَيْفَ} خبر مقدَّم، و {لِلْمُشْرِكِينَ} حال مبيِّنة للعهد، أو {عِنْدَ اللَّهِ} خبر.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} نصبٌ على الاستثناء، أو جرٌّ على البدل، أو رفعٌ على أنَّه كلام مستدرَك، بمعنى: لكن الذين عاهدتم.
{عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هم المستثنون قبله.
{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} على العهد {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} عليه، والفاء الأولى على الوجهين الأوَّلَيْن
(1)
عاطفة الجملة على مقدَّر؛ أي: فتربصوا أمرهم فما استقاموا لكم، وعلى الثَّالث فاء الجزاء؛ لتضمين الموصول معنى الشَّرط، و (ما) شرطيَّة، وجزاء الشرط:{فَاسْتَقِيمُوا} ، أو مصدرية على معنى: فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، والفاء الثانية مكرَّرة للتَّأكيد.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل للأمر بالاستقامة، وإشعار بأنَّ المحافظة على العهد من لوازم التَّقوى.
* * *
(1)
"الأولين" من (م).
{كَيْفَ} إعادة للاستبعاد المذكور على وجه الاختصار، على طريقة الاقتصار على ذكر أوَّل الكلام عند انفهام التَّمام بمعونة المقام.
وأمَّا التَّنبيه على العلَّة فحاصلٌ بدون إعادة {كَيْفَ} .
والمعنى: كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله ولا عهد لله ولرسوله عندهم، وقد عبَّر عن هذا على طريقة إقامة دليل الشيء مقامه بقوله:
{وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} ؛ أي: وحالهم أنهم إن يظفروا بكم. أصل الظُّهور: العلوُّ بالغلبة.
{لَا يَرْقُبُوا} : لا يراعوا {فِيكُمْ} أصل الارتقاب بالبصر، ومنه الرَّقيب، ثم قيل: لكل مَن حافظ على الشَّيء
(1)
وراعاه: راقبه وارتقبه.
{إِلًّا} حلفًا
(2)
، وقيل: قرابة {وَلَا ذِمَّةً} : عهدًا أو حقًّا يعاب على إغفاله.
{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} كلامٌ مستأنفٌ لبيان حالهم المنافية للثَّبات على العهد، وتقديرِ
(3)
عدم مراعاتهم حقَّ الميثاق للحلف
(4)
أو القرابة، والإرضاءُ بالأفواه عبارةٌ عن معاذيرهم الكاذبة ومواعيدهم الباطلة، وإنما ذكر الأفواه لأنها الظاهرة
(5)
.
{وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} عن الإرضاء حقيقةً بما فيها من العزائم على خِلاف ما قالوا، وإنما قال:
(1)
في (ك): "شيء".
(2)
في (ف) و (م): "خلفًا".
(3)
كذا في النسخ ولعل الصواب: "وتقرير".
(4)
في النسخ: "للخلف"، والصواب المثبت.
(5)
في (ف) و (ك): "المظاهر".
{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} لما في بعضهم من التفادي عن الغدر، والتعفُّفِ
(1)
عما يجرُّ إلى أحدوثة السُّوء.
وتوصيفُهم بالفسقِ مع أنَّ الشِّركَ أشدُّ منه؛ لرفع شأن الفسقِ في الذَّمِّ، كما أن توصيف الأنبياء عليهم السلام بالإيمان لرفع شأن الإيمان في المدح، فلا حاجة إلى التَّكلُّف في صرف الفسق عن ظاهره.
* * *
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} استئنافٌ لبيان فسقِهم، وقد مرَّ تفسيرُه في سورة البقرة.
{فَصَدُّوا} ؛ أي: أعرضوا، مِنْ صَدَّ عنه يَصُدُّ صُدودًا، أو منعوا من صدَّه عنه يَصُدُّه صدًا.
{عَنْ سَبِيلِهِ} أراد بالسَّبيل: الدِّينَ الحقَّ، والإضافة إلى الله تعالى للتَّشريف.
{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المخصوصُ بالذَّم محذوف، أو ما دلَّ عليه قوله:
* * *
(10) - {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} .
{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [فهو]
(2)
تفسير لـ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لا تكرير.
(1)
في النسخ: "التعنت"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 73).
(2)
من "تفسير البيضاوي"(3/ 73).
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} : المجاوزون الغايةَ في الظُّلم والشّرارة، والواو للعطف من جهة المعنى على ما تقدم من الجملة الإنشائية.
* * *
{فَإِنْ تَابُوا} ، أي: بعد هذا كلِّه إن رجعوا عن الكفر إلى الإيمان {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} قد مرَّ تفسيره.
{فَإِخْوَانُكُمْ} : فهم إخوانكم {فِي الدِّينِ} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم.
{وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ} اعتراضٌ للتَّحريض على تدبُّر ما فُصِّلَ من الآيات، وما بُيِّنَ من أحكام المشركين المعاهدين والتَّائبين، والحثِّ على المحافظة عليه {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيه إشعار بأنَّ العالِمَ مَن تأمَّل تفصيلها، والواو للعطف على مقدَّر، أي: ننزِّل القرآن ونفصِّل الآيات.
* * *
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} النَّكثُ: النَّقْضُ، وأصله فيما يُفتَلُ ثم يُحَلُّ، فهي في الأيمان والعهود مُستعارَة، وإنَّما قال:{مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} إظهارًا لقبح حال النَّاكثين، حيث عاهدوا ثمَّ أكَّدوا عهدهم بالأيمان.
وأفردَ العهد وجمع الأيمان لأنَّ الأوَّل يكون بالنِّيابة، فعهدُ
(1)
مقدَّمِ جماعةٍ يكون عهدًا لهم، دون الثَّاني فلا بُدَّ مِنْ صدور اليمين من كلِّ واحد منهم.
{وَطَعَنُوا} الطَّعنُ: هو الاعتماد بالعيب، وأصله
(2)
: الاعتماد بالرمح.
{فِي دِينِكُمْ} بصريح التَّكذيب وتقبيح الأحكام؛ أي: أظهروا النَّقض المذكور بالقول، ولا بُدَّ من إظهاره في إباحة القتال، وتخصيصُ الإظهار الأدنى بالذِّكرِ ليُعْلَم الحكم في الإظهار الأعلى، وهو ما يكون بالفعل بالطَّريق الأولى.
ولَمَّا كانَ ذِكْرُ الطَّعنِ في صددِ بيانِ أنَّ نقضَ العهد إنَّما يبيحُ القتل والقتال إذا كان ظاهرًا قولًا أو فعلًا
(3)
لم يكن في الآية دلالة على أنَّ الذِّمِّيَّ إذا طعنَ في الدِّين يُنكَثُ عهدُه ويُباحُ قتلُه
(4)
.
{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وضع الظَّاهر موضع الضَّمير للدلالة على أنَّ سياقَ الكلام في رؤسائهم، بناءً على أنَّ المعاهدة إنَّما تكون لهم
(5)
بحسب العادة، فقوله:{مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} تمهيدٌ له.
ولك أنْ تقول: إنَّ الجزاءَ في الحقيقة: فاقتلوهم، ولَمَّا كان قتلهم مسبوقًا بمقاتلة مقدَّميهم، ودفع مدافعة رؤسائهم من البين، نزَّلها منزلةَ الجزاء على طريقة الكناية بذكر الملزوم عن اللازم.
(1)
كتب فوقها في (م): "فهو" ومعه علامة التصحيح.
(2)
في (ف): "أصله".
(3)
في (ك) و (م). "وفعلا".
(4)
في هامش (ف): "ومن لم يتنبه لهذ قال ما قال وماذا بعد الحق إلا الضلال".
(5)
في (ف) و (م): "بهم".
وقرئ: {أَئِمَّةَ} بتحقيق الهمزتين، والأفصح جعل الثَّانية بينَ بين
(1)
، وأمَّا التَّصريح بالياء فلحنٌ صريحٌ
(2)
.
{إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} تعليلٌ لِمَا ذكر على طريقة تنزيل الشيء الخالي عن التأثير منزلة العدم
(3)
؛ أي: لا أثرَ لعهودهم في المنع عن قتلهم بعد النَّكث، فلا دلالة فيه على أن يمين الكافر ليس بيمين.
وقرئ: {لَا أَيْمَانَ} بالكسر
(4)
؛ يعني أنَّ المانعَ عن قتلهم أخذُ العهد - وقد نقضوه - والإيمانُ، ولا وجود له.
{لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} متعلِّقٌ بقوله: {فَقَاتِلُوا} ، أي: ليكن غرضُكم في قتالهم
(1)
أي: بين مخرج الهمزة والياء، وقد قرأ بتحقيق الهمزتين حيث وقع حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر، وأدخل هشام بينهما ألفًا، أما قراءة بين بين فقد قرأ بها نافع وابن كثير وأبو عمرو كما في "التيسير" (ص: 117)، لكن ذكر في "النشر"(1/ 379) خلافًا بين الرواة عمن قرأ بين بين، فذهب الجمهور من أهل الأداء إلى أنها تجعل بين بين، وذهب آخرون إلى أنها تجعل ياء خالصة، وهذا الوجه الثاني لم يذكره الداني في "التيسير" لكنه أشار إليه في "جامع البيان" كما ذكر ابن الجزري. وانظر:"جامع البيان في القراءات السبع" للداني (2/ 511).
(2)
هذا كلام الزمخشري في "الكشاف"(2/ 251)، وتابعه البيضاوي في "تفسيره"(3/ 73). وقد ردَّ الأئمة على الزمخشري، فقال أبو حيان في "البحر المحيط" (11/ 209): وذلك دأبه في تلحين المقرِئين، وكيف يكون ذلك لحنًا وقد قرأ به رأس البصريين النُّحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارئ مكَّة ابن كثير، وقارئ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع؟! وانظر أيضًا في الرد عليه كلام الآلوسي في "روح المعاني"(10/ 244).
(3)
في هامش (ف): "ومن لم يتنبه لهذ قال ما قال. منه".
(4)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 117).
انتهاءَهم
(1)
عمَّا هم عليه من الكفر والوِزْرِ وسائر العظائم، لا إيصالَ الأذية بهم، كما هو طريق المُؤْذِين.
* * *
{أَلَا تُقَاتِلُونَ} معنى الهمزة الدَّاخلة على نفي القتال: الإنكار والتَّوبيخ، فيفيد المبالغة في الحثِّ والتَّحريض عليه، وتعديدُ الصفات الموجبة له من نكثِ الأيمان، والهمِّ بإخراجه عليه السلام، والبدء بالقتال، تقويةٌ وتأكيدٌ لذلك
(2)
.
{قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} التي حلفوها مع الرَّسول عليه السلام والمؤمنين على أن لا
(3)
يعاونوا عليهم، فعاوَنوا بني بكر على خزاعة.
{وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} حين تشاوَروا بمكَّة في أمره، حتى أذِنَ الله تعالى له عليه السلام في الهجرة.
{وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بالمعاداة والمقاتَلة؛ لأنَّه عليه السلام بدأهم بالدَّعوة، وتحدَّاهم بالكتاب، وألزمهم بالحجَّة، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى المقاتلة، فهم البادون بالقتال.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ} أتتركون قتالهم خشيةَ أنْ ينالكم منهم مكروه
(4)
، والخشيةُ:
(1)
في النسخ: "انتهاؤهم"، والصواب المثبت.
(2)
في (م): "وتأكيدًا بذلك".
(3)
"لا" من (ك)، وفي هامش (م):"لعل لفظ (لا) ساقط".
(4)
في (ف) و (ك): "ينال مكروه".
انزعاجُ النَّفس لتوقُّع ما لا يُؤمَن مِنَ الضَّرر، وإدخال الهمزة إنكارٌ للخشية، وإيماءٌ إلى منافاتها للإيمان، على ما صرَّح به بعدَه بقوله:{فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنَّ الإيمان يستلزم تخصيصَ الخشيةِ باللهِ تعالى، وعدمَ المبالاة بغيره.
وفيه جمعٌ بينَ التَّقريع والتَّشجيع، وهو أبلغ في التَّحريك.
ولَمَّا بالغَ في التَّوبيخ على ترك القتال وبيَّن موجباته، جرَّدَ لهم الأمرَ به صريحًا، ووعَد لهم النَّصر والغلبة، وتعذيبَ الكفار بأيديهم؛ ليكون أوقعَ في نفوسهم، وأشدَّ تثبيتًا لقلوبهم، وتقويةً لعزائمهم، فقال:
* * *
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} قتلًا {وَيُخْزِهِمْ} الخزيُ: ذلٌّ يُستحيى منه.
{وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} النَّصرُ: المعونةُ بدفع الضَّرر، وتعديته بـ {عَلَى} لتضمُّنه معنى التَّغليب.
{وَيَشْفِ} الشِّفاءُ: ملاءمةُ النَّفس بما يزيل عنها الأذى.
{صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} وهم خزاعة، وجه تخصيصهم: أنَّهم الذين نُقِضَ فيهم العهدُ، ونالتهم الحربُ، وكان فيهم مؤمنون كثير، وتخصيص المؤمنين منهم بالذِّكر لأنَّ المقصودَ أصالةً شفاءُ صدورِهم.
* * *
(15) - {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} لِمَا لقوا منهم من المكروه الغيظ
(1)
.
أمرَهم بالقتال، ووعدَ عليه هذه الأشياء، وأنجزَ ما وعدَ، فكان الإخبار بذلك من المعجزات.
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} كلامٌ مبتدأٌ، وإخبارٌ بأنَّ بعضَ أهل مكَّة يتوبُ ويقبلُ الله توبته لصدقها. وكان ذلك أيضًا منفصلًا عمَّا قبله لفظًا، ولكنَّه متَّصلٌ به معنى
(2)
؛ أي: ومن فوائد القتال أنَّه يتوبُ بسببه بعضُ مَن تأمَّل فيه.
وقرئ: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} بالنَّصب
(3)
، على إضمار (أن)، وعلى دخول التَّوبة في جملة ما أجيب به الأمر من حيث المعنى.
{وَاللَّهُ} العدول عن الضمير للتَّفخيم {عَلِيمٌ} : لا يكون عليه خفاءٌ {حَكِيمٌ} : لا يلحقه خطأٌ.
* * *
(1)
قوله: "الغيظ" كذا في النسخ، ولا يظهر لها ارتباط بسابقها ولا بلاحقها، ولعل كلامًا سقط من النسخ، أو أراد أن يذكر شيئًا ثم سها عنه، وقد قال في "البحر" (11/ 231):(وإذهابُ الغيظِ بما نال الكفارَ من المكروه، وهذه الجملةُ كالتأكيدِ للَّتي قَبْلها؛ لأنَّ شفاءَ الصدرِ من ألم الغيظِ هو إذهابُ الغيظِ).
(2)
"معنى" سقط من (ك).
(3)
رويت عن أبي عمرو ويعقوب. انظر: "النشر"(2/ 178).
{أَمْ حَسِبْتُمْ} : {أَمْ} منقطعةٌ تتضمَّن إضرابًا عن اللفظ الأوَّل، لا عن معناه، واستفهامًا فهي تسدُّ مسدَّ (بل) والألفِ للاستفهام، والاستفهامُ
(1)
هنا للتَّوبيخ على حسبانهم.
{أَنْ تُتْرَكُوا} بحالكم
(2)
؛ أي: أخطأتم في ظنِّكم أنَّكم تُترَكون على ما أنتم عليه دون اختبارٍ وامتحان؛ فإنَّكم لا تُترَكون حتى يتميَّز الخُلَّصُ الذين جاهدوا منكم في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا بطانةً من الذين يضادُّون رسول الله والمؤمنين
(3)
يوالونهم ويُفشون إليهم
(4)
أسرارهم، من غيرهم
(5)
.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} : وما في {وَلَمَّا} مِنْ معنى التَّوقُّع منبِّهٌ
(6)
على أنَّ تبيُّن ذلك متوقَّع؛ أي: لم يتبيَّنِ الخُلَّصُ منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم، لِمَا لنفي العلم مع التوقُّع، والمراد به المبالغة في نفي المقاوم على طريق البرهاني؛ لأنَّه لو وقع لكان معلومًا له، فلمَّا لم يُعلَم لزم عدمُ وقوعه.
{وَلَمْ يَتَّخِذُوا} عطفٌ على {جَاهَدُوا} ، داخل في الصلة.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} : بطانةً من الولوج، وهو الدُّخول، ووَلِيْجُكَ: صديقُكَ الذي تُطلعُه على ما في داخلِ قلبِك.
(1)
في (ف): "وألف الاستفهام".
(2)
في النسخ: "بحالهم"، والصواب المثبت.
(3)
في (ف) و (ك): "يتعادون رسول الله والمؤمنون"، وفي (م):"ينقادون رسول الله والمؤمنون". والمثبت من "الكشاف"(2/ 253).
(4)
"إليهم" سقط من (ك) و (م).
(5)
"من غيرهم"، متعلق بـ "يتميز".
(6)
في (م): "مبني".
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيعلم عملَ المجاهدين المخلصين قبلَ وقوعه، فهو كالمُزيح لِمَا يقعُ في الوهم من الشُّبهة في قوله:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} .
* * *
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} : ما صحَّ لهم {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} : شيئًا منها، فضلًا عن المسجد الحرام، والمراد هو، وإنما جُمع لأنَّه قِبْلَةُ المساجد كلِّها وإمامُها، فعامرُه كعامر الجميع.
وقراءتها بالتوحيد في الموضعين
(1)
يوافق المعنيَيْن؛ لأن تعريفه يحتمل العهد والجنس.
{شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} حال من الواو، وفيه إشارة إلى حالهم المنافية؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارةِ بيت الله تعالى، وعبادةِ غيره.
{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} التي يفتخرون بها من العمارة والحجابة والسِّقاية وفكِّ العُناة؛ لأنَّ الكفر الطَّارئ يهدِمُ الأعمال، فكيف بالمقارِن؟
{وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} لكفرهم، دون العصاة من المؤمنين.
* * *
(1)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب الأولَ على التوحيد، وباقي العشرة على الجمع، ولا خلاف على الجمع في الثاني بينهم، إلا رواية ذكرها ابن مجاهد عن ابن كثير في غير المشهور عنه أنه قرأ بتوحيد الثاني. انظر:"السبعة"(ص: 313)، و"التيسير" (ص: 118)، و"النشر"(2/ 278).
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ؛ أي: لا يستقيم ولا يصحُّ عمارة مساجد الله تعالى إلَّا ممَّن آمن، وجمعَ بين الكمالات العلميَّة والعمليَّة.
والإيمان باليوم الآخر المتضمِّنُ للتَّصديق بالمعاد الجسماني لا يكون إلا بطريق السَّمع، فهو بهذا الاعتبار يشمل الإيمان بنبيِّنا عليه السلام؛ لأنَّ المعاد الجسماني لم يُذكَر في غير القرآن من الكتب السَّماوَّية
(1)
، هذا هو الوجهُ لعدم ذكر الإيمان به عليه السلام، وأمَّا قوله:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فلم يغنِ عنه؛ لأنهما يجوز أنْ يُؤخَذا من سائر الشَّرائع.
والعمارةُ تتناول رمَّ ما استَهدمَ منها، وتنظيفَها، وتنويرها بالمصابيح، وتمهيدَ الفُرُش، وإقامةَ الصلوات، وإقامةَ الذِّكر وتلاوة القرآن ودراسة العلوم، وصيانتَها مما لم تُبْنَ له كحديث الدُّنيا وسائر الفضول.
{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} المراد من الخشية: هو الرَّهبة والهيئة والانقماعُ اللَّازمة من تصوُّر عظمة الله تعالى، لا الانفعالُ الجِبِلِّيُّ الذي هو الخوف؛ فإنه ليس بإراديٍّ، وأمَّا هذه فإنَّه من لوازم التَّقوى؛ لأنَّ عِظَمَ الخالق في قلب المؤمن يصغِّرُ المخلوق في عينه، فلا خشية له من غيره.
{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في ذكره بصيغة التَّوقُّع قطعٌ لأطماع
(1)
لم أقف على هذا التعليل عند أحد من المفسرين، وهو غريب فكيف لا يذكر في الكتب السماوية مثل هذا الأمر العظيم الذي هو من أركان الإيمان التي اتفقت عليها الشرائع كلها.
المشركين في الاهتداء، وتبعيدٌ لهم عن مظانِّه؛ لأن الموحِّدين المخلِصين في الأعمال إذا كان اهتداؤهم دائرًا بعسى ولعلَّ، فكيف يطمع فيه المشركون بأعمالهم المبنيَّة على الافتخار والرِّياء والمباهاة، والتَّقرب بها إلى العُزَّى واللَّات؟ ومنعُ
(1)
المؤمنين أن يغترُّوا بأحوالهم، ويتَّكلوا عليها.
* * *
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : السقاية والعمارة مصدران، والحدَث لا يُشَبَّهُ بالجثَّة، فلا بُدَّ مِنْ مُضْمَرٍ مَدلولٍ عليه بقرينةِ الفعلِ
(2)
محذوفٍ للإيجاز، تقديرُه: أجعلتم أهلَ سقاية الحاجِّ وعمارةِ المسجد الحرام كمَن آمن، ويعضدُه قراءة:{سُقاةَ الحاجِّ وعَمَرَةَ المَسْجِدِ}
(3)
، أو: سقايةً كإيمانِ مَنْ آمنَ.
والمعنى: إنكار أنْ يتشبَّه المشركون وأعمالُهم المحبَطةُ بالمؤمنين وأعمالِهم المثبَتةِ
(4)
.
وقوله: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} تقريرٌ لذلك وتأكيدٌ له، وبيَّن عدمَ تساويهم بقوله:
(1)
"ومنع"، معطوف على "قطعٌ".
(2)
في (ف) و (ك): "العقل".
(3)
نسبت لأبي وجزة السعدي. انظر: "النشر"(2/ 278).
(4)
في (ك): "المسة"، وفي (ف):"المشية"، وفي (م):"المشبة"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 75).
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: الكفرةُ ظَلَمَةٌ بالشِّركِ ومعاداةِ الرَّسول عليه السلام، منهمِكون في الضَّلالة، فكيف يساوون الذين هداهم اللهُ تعالى ووفَّقهم للحقِّ والصَّواب؟
وقيل: المرادُ بـ {الظَّالِمِينَ} : الذين يسوُّون بينهم وبين المؤمنين، وإنَّما قال:{لَا يَهْدِي} تنزيلًا للهداية الواقعة في حقِّهم منزلةَ العدم؛ لعدم ترتُّب الأثر عليها.
* * *
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} من أهل السقاية والعمارة عندكم أو ممَّن ليس كذلك، فيندرج فيه أهلهما اندراجًا أوَّليًّا لكونهم مشركين.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} : المختصُّون بالفوز دونكم، أو دون مَن عداهم.
والفوزُ: بلوغُ البغية؛ إمَّا في نيلِ مرغوبٍ أو نجاةٍ عن مكروهٍ، والمراد هنا: الفوزُ الكاملُ، فينتظِمُهما.
* * *
(21) - {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} .
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا} : في الجنَّات
(1)
{نَعِيمٌ} النَّعيم: لينُ العيشِ ورَغدُه {مُقِيمٌ} : دائمٌ.
(1)
في هامش (م): "ويحتمل أن يكون المذكور مشرَّكًا بين المعطوفين، كما في قوله: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ} [الأنعام: 158] ".
وتنكيرُ المبشَّرِ به للتَّعظيم، وكونِه فوقَ وصفِ الواصفِ وتعريفِ المعرِّف.
وفي إسنادِ البِشارة إلى ربهم زيادةُ
(1)
تعظيمٍ للمُبَشَّرِ به وتكريمٍ للمُبَشَّرِ.
وبيانُ كونِ الرَّحمة منه تعالى مع كونه معلومًا لا يخلو عن قصدِ التَّعظيم لها، وإنَّما أطلق الرِّضوان لينتظمَ نوعيه المذكورين في قوله تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].
* * *
(22) - {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أكَّد الخلودَ بالتَّأبيد؛ لآنَّه قد يُستَعمل للمُكثِ الطَّويل.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يُستحقَر دونه
(2)
الأجور الدنيوية.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي في المهاجرين خاصَّة
(3)
. كان قبلَ فتح مكَّة
(4)
مَنْ آمنَ لم يتمَّ إيمانُه إلَّا بأنْ يُهاجِر، ويُصارِمَ أقاربَه الكفرةَ، ويقطع موالاتهم.
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب في البشر أنَّ الأبناء هم التَّبع للآباء.
(1)
"زيادة" من (م).
(2)
في (ف): "عنده".
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 177)، و"الكشاف"(2/ 256).
(4)
في (ك): "الفتح".
والمعنى: لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة؛ لقوله: {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} ؛ أي: اختاروه وآثَروه {عَلَى الْإِيمَانِ} فتعديتُه ب {عَلَى} لتضمينه معنى الاختيار والإيثار
(1)
.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لوضعهم
(2)
الموالاةَ غيرَ موضعها، على خلاف أمر الله تعالى
(3)
.
لمَّا ورد التشديد في أمر المهاجرة قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا مَن خالفَنا في الدِّين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخَرِبت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت
(4)
.
* * *
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} ذُكر الأبناء في هذه الآية لمَّا جلبَتْ
(5)
ذكرَهم المحبَّةُ، والأبناءُ صدرٌ في المحبَّة.
{وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} : أقرباؤكم، مأخوذ من العِشْرة، وقيل: من العَشَرة؛ فإنها جماعة ترجع إلى عقدٍ واحدٍ، كعَقْدِ العَشَرةِ.
(1)
في هامش (ف): "لا لاعتبار التحريض بما يوهم عبارة القاضي".
(2)
في (ك): "بوضعهم".
(3)
في هامش (ف): "لا بد من هذه الزيادة حتى يتجاوز الظلم عن حده اللغوي إلى حده الشرعي".
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 177)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 245)، و"الكشاف"(2/ 256).
(5)
في (م): "جبلت".
{وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} : اكتسبْتُموها، وأصل الاقتراف: اقتطاعُ الشَّيءِ من مكانه إلى غيره.
{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} يعني: ما اشتريتُموه طلبًا للربح تخافون وقوفها وخسرانها بفواتِ وقت نَفاقها.
{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} : منازلُ تعجبكم الإقامة فيها.
{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} أرادَ الحبَّ الاختياريِّ دونَ الطبيعيِّ؛ فإنه لا يدخل تحتَ التَّكليف والتَّحفظ.
{مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} فيه دلالةٌ ظاهرة على أن سياق الكلام في الحضِّ على الهجرة.
{فَتَرَبَّصُوا} جوابٌ ووعيدٌ. والتَّربُّصُ: التَّوقُّف على الانتظار.
{حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعقوبةٍ
(1)
عاجلةٍ وآجلةٍ، وفي العدول عن: حتى يأتيَ أمرُ الله، إلى ما ذكر تفخيمٌ للأمر.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فيه تنزيلٌ لوجود الهداية في حقِّهم
(2)
منزلةَ العدم؛ لعدم الأثر.
وفي الآية تشديد عظيم، وقلَّما يُتخلَّص عنه
(3)
.
* * *
(1)
في (ك) و (م): "وبعقوبة".
(2)
"في حقهم" سقط من (ك).
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 76) وفيه: (وقل من يتخلص منه)، وفي "روح المعاني" (10/ 270):(والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه).
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} الموطنُ: موضعُ الإقامة، ومواطن الحروب: مواقفها، وهي المراد هنا.
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطف على محلِّ {فِي مَوَاطِنَ} ، أي: وموطنَ يومِ حنين، أو التقدير: في أيامِ مواطن كثيرةٍ ويومِ حنين، لتناسُب الأمكنة والأزمنة
(1)
، فيقع حرف النَّسق موقعه، ويجوز أن يُرَاد بالموطن: الوقت، كـ: مقتل الحسين.
{فِي مَوَاطِنَ} بدل من {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} ، ولا يَمنَعُ إبدالَه منه عطفُه على محلِّ {فِي مَوَاطِنَ} ؛ إذ لا يقتضي العطفُ اشتراكَهما فيما أضيف إليه المعطوف، فلا يلزم أن يكون إعجابها إيَّاهم في جميع المواطن.
وحنين: وادٍ بين مكَّة والطَّائف، قيل: انهزم المسلمون يومئذ وهم اثنا عشر ألفًا، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلَّا عمُّه العبَّاس وابنُ عمِّه أبو سفيان رضي الله عنهما
(2)
.
وليس الأمر
(3)
كما قِيل، فإنَّ الثَّابتين معه عليه السلام كانوا عشرة رجال
(4)
،
(1)
في (ف) و (م): "أو الأزمنة".
(2)
رواه مسلم (1775) من حديث العباس رضي الله عنه، وفيه:"فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه". لكن لا يعني ذكر هذين الصحابيين الجليلين في الحديث عدم وجود غيرهم ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيرد التنبيه عليه لاحقًا.
(3)
"الأمر" سقط من (ك).
(4)
عدهم القرطبي في "تفسيره"(10/ 144) فقال: (وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي =
وقد أفصح عنه العبَّاس رضي الله عنه في قوله:
نَصَرْنا رسولَ اللهِ في الحربِ تسعةً
…
وقدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ منهم وأَقْشَعوا
وعاشرُنا لاقى الحِمامَ بنفسِهِ
…
بما مَسَّهُ في اللهِ لا يتوجَّعُ
(1)
وذلك العاشر أيمنُ ابنُ أم أيمن رضي الله عنه.
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: لقد رأيته عليه السلام وإنه على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذٌ بلجامها، والنبيُّ عليه السلام
(2)
يقول: "أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابنُ عبد المطلب"
(3)
، أوَّلُ قوله تثبيتُ المسلمين عامَّة، وآخرُه تثبيتُ عمِّه وابنِ عمِّه خاصَّة؛ فإنَّ في ذِكْرِ جدِّه إشعارًا بأنَّ مَنْ كان من نسله حقُّه القَرار دونَ الفِرار
(4)
، وهذا آيةُ غايةِ الشجاعة، حيث لم يُخْفِ اسمَه ونسبَه
(5)
في تلك الحالة، ولم يَخَفِ الكفَّارَ على نفسِه.
= والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة بن الحارث والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس).
وفي عددهم خلاف، أنقص بعضهم عمن ذكر وزاد آخرون حتى أوصلوهم إلى مئة رجل. انظر:"فتح الباري" لابن حجر (8/ 30).
(1)
انظر: "فتح الباري"(8/ 30).
وانظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 164)، و"الاستيعاب"(2/ 813)، و"أسد الغابة"(1/ 189)، و"تفسير القرطبي"(10/ 145)، والأول في "العمدة" لابن رشيق (ص: 36)، وفيها جميعًا عدا القرطبي:(سبعة) و (فر عنه) و (وثامننا)، بدل:"تسعة" و"فر منهم" و"عاشرنا".
(2)
"والنبي عليه السلام" من (م).
(3)
رواه البخاري (2874)، ومسلم (1776).
(4)
"دون الفرار" من (م).
(5)
"اسمه ونسبه": ليست في (م).
{فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} ؛ أي: تلك الكثرة {شَيْئًا} قليلًا من الإغناء، أو: من أمر العدو.
{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} : بِرُحْبِهَا؛ أي: من الخوف، كما قال الشاعر:
كَأنَّ بِلادَ اللهِ وَهيَ عَرِيْضَةٌ
…
عَلَى الخَائِفِ المَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
(1)
والرُّحب بالضم: السَّعة، وبالفتح: الواسع.
والجار والمجرور في محلِّ الحال؛ أي: مُلْتبسة بِرُحْبِها، ومعنى ضيق الأرض عليهم مع سعتها: أنهم لا يجدون فيها مَنجًى ولا مَهربًا يرتضونها
(2)
؛ لِفرْطِ الرُّعب، فكأنها ضاقت عليهم، أو
(3)
لا يثبتون فيها كمَن لا يسعه مكانُه.
{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ} الكفَّارَ ظهورَكم {مُدْبِرِينَ} : منهزمين، والإدبار: الذَّهاب إلى خِلاف الإقبال.
* * *
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} : رحمته التي سكنوا بها وأمنوا {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
(1)
نسب للبيد في "ثمار القلوب"(ص: 630)، و"محاضرات الأدباء"(2/ 370)، ولرزين العروضي الشاعر في "معجم الأدباء"(3/ 335).
(2)
"يرتضونها" سقط من (ك).
(3)
في (ك): "و".
الْمُؤْمِنِينَ} الذين انهزموا، وقيل: الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب، وتكرير {عَلَى} تنبيه على اختلاف الحال
(1)
.
{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} بأعينهم، والجنودُ: الجموعُ التي تصلح للحرب، والمراد هنا: الملائكة.
{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقتلِ والأسرِ والسَّبي.
{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ؛ أي: ما فُعل بهم جزاءُ كفرهم في الدنيا.
* * *
(27) - {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : الجريمة العظيمة {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} بالتَّوفيق للإسلام، وهم ناس منهم
(2)
.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ} يتجاوز عنهم {رَحِيمٌ} يتفضَّلُ عليهم.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} مصدر، والأفصح أن يجعل {نَجَسٌ} خبرًا على أنهم النَّجاسة بعينها، والمعنى: أنه يجب أن يُجتنَبَ عنهم كما
(1)
في (م): "وتكرير الجار على اختلاف الحال"، وصحح في هامشها إلى المثبت.
(2)
في هامش (ف): "روي أنهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا
…
إلخ".
يُجتنبُ عن النَّجاسة، إلَّا أنَّه بُولِغَ في وصفهم بها، فجُعلوا عينَها للتَّنفيرِ وبيانِ وجوب تبعيدهم عن المسجد.
وقرئ: (نِجْس) بكسر النون وسكون الجيم
(1)
، وهو تخفيفُ نَجِسٍ نعتًا، وأكثر ما جاءه تابعًا لرِجْسٍ، وعلى هذه القراءة لا بُدَّ من تقدير موصوفٍ
(2)
كـ: جِنْسٌ، أو ضَرْبٌ.
{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الفاء للسببية، أي: فلا يَقْرَبوه بسبب أنهم عينُ النَّجاسة، والنَّهيُ عن الاقتراب للمبالغة، أو للمنع عن دخول الحرم، وهو مذهب عطاء، والمراد من نهيهم أن يقربوه: نهيُ المسلمين عن تمكينهم منه، ولهذا صدِّر الكلام بالخطاب لهم، فلا دلالة فيه على أنَّ الكفَّار مخاطبون بالفروع.
وقيل: المراد: المنع عن الحج والعمرة، وعليه أبو حنيفة، ويؤيِّده قوله:{بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فإنَّه لولا هذه الإرادةُ لكان مقتضَى التفريع المذكور انتظامُ النَّهي لبقية أيام هذا العام أيضًا.
والإشارة إلى سنة عشرٍ، وقيل: إلى سنة تسع.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} : فقرًا. وسببُ وروده: أنَّ المسلمين حين مَنعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذفَ الشَّيطان في نفوسهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله تعالى أن يُغنيَهم من فضله
(3)
.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 52).
(2)
في (م): "موصوف له".
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 27)، و"المحرر الوجيز"(3/ 21).
قال الضَّحَّاك: ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذِّمَّة بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ} الآية [التوبة: 29]
(1)
.
وقرئ: (عائلةً)
(2)
، وهو مصدرٌ كالعاقبة، أو نعتٌ لمحذوفٍ؛ أي: حالًا عائلة.
{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : من عطائه أو تفضُّلِه بوجهٍ آخر، وقد أنجز وعدَه بأن فتحَ عليهم بابَ أخذ الجزية من أهل الذِّمَّة، وأخذِ الغنيمة من دار
(3)
الحرب، أو وفَّق
(4)
أهل تَبالةَ وجُرَشَ فأسلموا وامتاروا لهم.
{إِنْ شَاءَ} قيَّده بالمشيئة لا ليُتنبَّه على
(5)
أنه متفضِّل في ذلك؛ لأن قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} صريحٌ في ذلك، بل لتنقطعَ الآمال إليه، ويُتنبَّه على وجه اختلاف الأحوال والأعوام والأشخاص والأقوام.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بمصالح العباد {حَكِيمٌ} فيما حكمَ وأرادَ.
* * *
(1)
رواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(11/ 402)، وانظر:"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1777)، و"تفسير الثعلبي"(5/ 28).
(2)
نسبت لابن مسعود. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 52)، و"المحتسب"(1/ 287).
(3)
في (م): "من أهل درب".
(4)
في (ك): "ووفق".
(5)
"على" سقط من (م).
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، أي: لا يؤمنون بهما على وجهٍ يصحُّ ويُقبَلُ، على ما مَرَّ بيانُه في أوائل سورة البقرة، وإنما قال:{قَاتِلُوا} دون (اقتلوا) إشارة إلى اختصاص الجزية التي ينتهي عندها القتال بمن
(1)
تَحتمِل بِنيتُه الحرابَ، فلا جزية على المرأة والصَّبي والشَّيخ الفاني.
{وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} لم يقل: (أو رسوله) لأنَّه عليه السلام لم يحرِّم شيئًا إلا بالوحي على المذهب الصحيح، فليس المعنى: ما حرَّمَ اللهُ بالكتاب ورسولُه بالسُّنَّة؛ لِمَا في هذا التوزيع من إيهام استقلاله عليه السلام في التَّحريم.
{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} الثَّابت، الذي هو ناسخٌ سائرَ الأديان ومبطلُها.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيانٌ لـ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وتأكيدٌ للحجَّة التي لا بُدَّ من تقديمها على القتال؛ لأنهم كانوا يجدونه عليه السلام في التَّوراة والإنجيل، فلا دلالة فيه من جهة المفهوم على اختصاص قَبول الجزية بأهل الكتاب، كما لا دلالة فيه على اختصاص وجوب القتال بهم.
بيَّنَ في الآية السَّابقة قتالَ المشركين وبيَّنَ في هذه الآية
(2)
قتال اليهود والنصارى، ولو قال: قاتِلوا أهل الكتاب، لكفى، وإنما أَطنب بذكر هذه الأوصاف الذَّميمة تحريضًا للمؤمنين على قتالهم؛ لأنها صفات توجب البراءة منهم والعداوة لهم
(3)
.
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ؛ أي: إلى أن يَقبلوها، وهي عطيةُ عقوبةٍ جزاءً على الكفر،
(1)
في (ك): "ممن".
(2)
"الآية" من (م).
(3)
في هامش (ف): "وجه التفريع هو أن مبنى المفهوم على أن لا يكون للقيد فائدة أخرى".
على ما وظَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الذِّمَّة، وهي على وزن جِلْسَة وفِقْرَة لنوعٍ من الجزاء.
وقيل: من جزى يجزي: إذا كان أهدى إليه، كأنهم أُعطوها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
يَجْزِيكَ أو يُثْنِي عليكَ وإنَّ مَن
…
أَثْنَى عليكَ بما فَعَلْتَ كمَن جَزَى
(1)
مَدَّ وجوبَ القتالِ إلى هذه الغاية، وهذا حكمُ أهل الكتاب بالنَّصِّ، وحكمُ المجوس كذلك بالخبر، وهو قوله عليه السلام:"سُنُّوا بالمجوسِ سُنَّةَ أهلِ الكتابِ غيرَ ناكحي نسائِهم ولا آكلي ذبائِحهم"
(2)
.
(1)
أحد أبيات ثلاثة أنشدتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أمام النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الطبراني في "الأوسط"(3580)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9138).
واختلف في نسبة هذه الأبيات: فنسبت لورقةَ بن نوفل كما في "نسب قريش" للزبيري (6/ 207)، و"قضاء الحوائج" لابن أبي الدنيا (75). ونسبت لابن غريضٍ اليهوديِّ كما في "قضاء الحوائج" لابن أبي الدنيا (76)، و"المجروحين" لابن أبي حاتم (رقم: 449). ونسبت لزهير بن جناب الكلبي كما في "العقد" لابن عبد ربه (1/ 226)، و"المجالسة وجواهر العلم"(1/ 119).
قال الأصبهاني في "الأغاني"(3/ 108): الشعر لغريض اليهودي وهو السمو أل بن عادياء، وقيل: إنه لابنه سعية بن غريض، وقيل: إنه لزيد بن عمرو بن نفيل، وقيل: إنه لورقة بن نوفل، وقيل: إنه لزهير بن جناب، وقيل: إنه لعامر بن المجنون الجرمي، الذي يقال له: مدرج الريح، والصحيح أنه لغريض أو لابنه.
(2)
روى بمعناه ابن أبي شيبة في "المصنف"(16325) عن الحسن بن محمد يرفعه، وهو مرسل.
وشطره الأول دون الاستثناء رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 278) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وفي سنده انقطاع كما نبه على ذلك ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 114) قال: لكن معناه متصل من وجوه حسان. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 354): (تبين أن الاستثناء في حديث عبد الرحمن مدرج). وانظر كلامه على الحديث ثمة.
ولا يجوز هذا في مشركي العرب؛ لقوله عليه السلام: "لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف"
(1)
.
ويجوز في الهنود
(2)
والأتراك والدَّيلم
(3)
عندنا، خلافًا للشافعي، وعند مالك
(4)
: يُؤْخَذْ مِنْ كلِّ كافرٍ إلَّا المرتدَّ.
{عَنْ يَدٍ} حالٌ من الضمير، واليدُ مجازٌ عن القوَّة والقدرة، والمراد قدرة المعطي، وفائدته الإشارةُ إلى أنَّه لا جزيةَ على الفقير العاجز عن الكسب، وإن كان بنيتُه بنيةَ الحراب، وهذه الإشارة من مقتضيات المقام، فلا وجه لتفويتها
(5)
بحمل القيد المذكور على معنًى آخر، كمعنى الإنعام عليهم، ومعنى الطَّاعة والانقياد، ومعنى التسليم بنفسه، على أنَّ هذين المعنَيَين الأخيرَيْن من لوازم القيد الآتي ذكرُه، فلا حاجة لإفادته إلى زيادة قيدٍ آخرٍ.
ومن هنا تبيَّنَ أنَّه لا وجهَ لأنْ يكون المرادُ من القدرة على تقدير الحمل عليها: قدرةَ الأخذِ.
وأما معنى: نقدًا مسلَّمةً عن يدٍ إلى يدٍ، على أنه حال من الجزية، فلا يناسب المقام؛ لِمَا عرفتَ أن الغاية حقيقةً
(6)
هي التَّقبُّل والالتزام، دونَ العطاءِ بالفعلِ.
{وَهُمْ صَاغِرُونَ} : الصَّغارُ: الذُّلُّ والنَّكال الذي يصغِّر قدرَ صاحبه؛ أي: وهم
(1)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(4/ 117 - 118) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
(2)
في هامش (م): في نسخة: "اليهود".
(3)
"والديلم" سقط من (م).
(4)
في (م) زيادة: "اليهود والديلم"، ولا معنى لها.
(5)
في (ك) و (م): "لتقويتها"، ولعله تحريف.
(6)
في "حقيقة" من (م).
أذلَّاء، يأتون لأداء الجزية مشاةً لا ركبانًا، ويؤدُّون قيامًا والآخذ قاعدًا، ويؤخَذ بِلُببهِ عند الأخذِ، ويُحرَّك ويُقال: أدِّ الجزية يا يهوديُّ، أو يا نصرانيُّ.
والجزيةُ على ثلاثِ مراتبَ: على المعتمِل بالسَّنة اثنا عشر درهمًا، وعلى وسط الحال أربعةٌ وعشرون درهمًا، وعلى كامل الحال ثمانية وأربعون درهمًا. كذلك وظَّفها عمر رضي الله عنه
(1)
.
وبهذه الجزية أغناهم الله تعالى عن العَيلة، وهو وجه اتِّصال هذه الآية بالأولى.
* * *
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} إنما
(2)
قال بعضهم من متقدِّميهم، أو ممَّن كان بالمدينة:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} مبتدأ وخبر، وسقط التَّنوين بمنع الصَّرف للعُجمة والعَلَميَّة، ومَنْ نوَّنه من القرَّاء جعله عربيًّا
(3)
، أو لأنَّ {ابْنُ} صفةٌ له، وعلى هذا يكون الخبر متروكًا غيرَ ملفوظٍ ولا ملحوظٍ، وقَصْرُ النقل على هذا القَدْرِ من كلامهم لتجريد الإنكار للتوصيف المذكور، وفيه إيهامُ التبعيد لكلامهم عن حيِّز التَّمام، وتمهيدٌ للمقصودِ من زيادة قوله:{بِأَفْوَاهِهِمْ} على أحد الوجهَيْن الآتي ذكرُهما
(4)
.
(1)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 290)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (5/ 331)، و"المبسوط" للسرخسي (10/ 78).
(2)
في (م): "وإنما".
(3)
قرأ بالتنوين عاصم والكسائي، والباقون بتركه. انظر:"التيسير"(ص: 118).
(4)
في هامش (ف): "من قال: والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا =
{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهو أيضًا قولُ بعضِهم.
{ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} ؛ يعني: أنَّهم يذكرونه صريحًا؛ لأنَّه يفهم بطريق الاستدلال من بعض أفعالهم، فهو لرفع التَّجوُّز في المسند، فغنه أهمُّ من رفع التَّجوُّز في الإسناد.
ونسبة القول إلى الأفواه دون الألسنة لأنَّ النسبة أولى وأشمل وأكمل
(1)
؛ فإنَّ مِنَ الأقوال ما لا حاجة في التَّلفظ به إلى اللِّسان.
ويجوز أن يكون المراد: أنَّه قولٌ لا حقيقةَ له ولا معنى، كالمهملات الملفوظة التي تخرج من الأفواه ولا معنى لها في القلوب.
{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} تقديره: يضاهي قولُهم قولَ الذين كفروا، فحذف المضاف وأُقِيمَ المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعًا، هذا ما قالوا، وعندي أنَّه على طريقة:{لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]؛ أي: لا يهديهم في الكيد، فالمعنى: يضاهونهم
(2)
في القول، والمضاهاةُ: المشابهةُ.
وقرئ بالهمزة
(3)
، من قولهم: امرأة ضَهياءُ، وهي التي ضاهأتِ الرِّجال في أنها لا تحيض.
{مِنْ قَبْلُ} : من قَبْلِهم، والمراد: المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
= مع تهالكهم على التكذيب، فقد استضاء بالمصباح عند طلوع الصباح؛ حيث لم يقنع بما نطق به الكلام، وتمسك بشكوكة العاجز".
(1)
في (م): "دون الألسنة لا أن الآية الأولى أشمل وأكمل".
(2)
في (ك): "يضاهئونهم".
(3)
وهي قراءة عاصم، والباقون بضم الهاء من غير همز. انظر:"التيسير"(ص: 118).
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاءٌ عليهم بالإهلاك، فإنَّ مَنْ قاتله الله هلكَ، ويُفهَم التَّعجُّب من السِّياق؛ لأنَّه كلمة لا يُفاه بها إلا في موضع التَّعجب من شناعة فعل قوم أو قولهم، ولهذا تعجَّبَ بعده من اعتقادهم وتلفُّظهم بالكلمة الشَّنعاء بقوله:
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؛ أي: يُصرَفون عن الحقِّ إلى الباطل، فلا مانع عن الجمع بينهما قصدًا.
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: اتَّخذوا علماءَ اليهود وعُبَّاد النَّصارى كالأرباب، حيث أحلُّوا لهم الحرام فاستحلُّوه وحرَّموا عليهم الحلال فحرَّموه، فقوله:{أَرْبَابًا} ، كقوله:{نَارًا} في قوله: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96].
قال ابنُ السِّكِّيْتِ: الحِبرُ بالكسر: المداد، وبالفتح: العالم والرَّاهب، مأخوذ من الرَّهْبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يُخلص له النِّيَّة دون النَّاس.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ؛ أي: اتَّخذوه ربًّا معبودًا، والرَّبُّ هنا على الحقيقة، ولهذا فصَله عمَّا قبله، مُخرِجًا له عن زمرتهم، مفرِدًا له بالإخبار عنه.
وإنما ذكره بنسبته إلى أمه إظهارًا لعدم صلاحيته للرُّبوبيَّة، وفي التَّعبير عنه بلقبه المشعِر بالربوبية نوعُ تمهيدٍ لذلك المقصود، ولا يخفى ما فيه من النَّعي عليهم.
{وَمَا أُمِرُوا} ؛ أي: وما أمر المُتَّخِذونَ.
قيل: يجوز أن يكون المعنى: وما أُمِرَ المتَّخذون أربابًا، فيكون كالبرهان على بطلان الاتِّخاذ.
وكأنَّ هذا القائل غافل من أنَّ الرَّبَّ في غير المسيح عليه السلام لم يُتَّخذ على الحقيقة.
{إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} وهو الله تعالى، ولا حاجة إلى صرف العبادة عن معناها إلى معنى الإطاعة حتى تحتاج إلى أن يُقال: طاعةُ الرَّسول عليه السلام وسائرِ مَن أَمرَ اللهُ تعالى بطاعته فهو طاعة الله تعالى في الحقيقة.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفةٌ ثانية، أو استئنافٌ مقرِّر للتَّوحيد {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} و تنزيهٌ له عن الإشراك به.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} الإطفاءُ: إذهابُ نور النَّارِ، ثم استُعمِلَ في إذهاب
(1)
كلِّ نورٍ، وفي سورة الصف:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} [الصف: 8]؛ أي: يقومون لذلك الأمر، والتَّجوُّز عن إرادة أمر بالقيام له مجاز
(2)
شائع، فكذا عكسه سائغ، والقيامُ لأمرٍ عبارةٌ عن الاهتمام بشأنه.
{نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} إطفاءُ نورِ الله بأفواهم تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا السحر، مُثِّلَتْ حالُهم بحال مَن ينفخ في نور الشَّمس بفيهِ ليطفئه.
(1)
في (ف) و (ك): "استعمال".
(2)
"مجاز" زيادة من (م).
ويجوز أن يكون المراد من {نُورَ اللَّهِ} : القرآنُ والإسلامُ والحججُ الدَّالة على حقيقته، ويكون المراد من
(1)
(أفواههم): أقوالهم التي لا صحَّة لها؛ فإنها لا تتجاوز عن الأفواه إلى فهم السامع، وعلى هذا يكون الإطفاء ترشيحًا لاستعارة النور
(2)
.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} بإعزاز الإسلام وإعلاء كلمة التَّوحيد، وإنما جاز الاستثناء المفرَّغ من الكلام الموجَب؛ لأن قوله:{يَأْبَى اللَّهُ} أوقعُ من
(3)
موقع (لا يريد الله)؛ ألا ترى كيف قابل قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} بقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ؟.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} حذف جواب {وَلَو} ؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: ولو كره الكافرون إتمامَ نورِ الله أبى إلَّا إتمامه
(4)
.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ؛ أي: محمدًا
(5)
عليه السلام {بِالْهُدَى} بالقرآن، كما في قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{وَدِينِ الْحَقِّ} ، أي: الإسلام.
(1)
"نور الله القرآن والإسلام والحجج الدالة على حقيقته ولكون المراد من" من (م).
(2)
في هامش (ف): "وما روينا أبلغ كافية من الإيماء إلى أنهم لم يتجاوزوا عن الإرادة إلى مباشرة المراد. فافهم".
(3)
"من" من (ك).
(4)
في (ف): "تمامه".
(5)
في النسخ: "محمد" والصواب المثبت.
{لِيُظْهِرَهُ} ؛ أي: دينِ الحق، أو الرسول {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} كالبيان لقوله:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ، ولذلك كرر قوله:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} بوضع (المشركين) موضع (الكافرين)؛ للدلالة على أنهم ضَمُّوا الكفرَ بالرَّسول إلى الشِّرك بالله تعالى.
والتعريف في {الدِّينِ} للجنس، والظهورُ على الجنس إنما يكون بالظُّهور على جميع أفراده، وجميعُ أفراده وقت إرساله عليه السلام إنما هو سائر الأديان، وظهورُ الدِّين على الدِّين إنَّما يكونُ بنسخه وإبطاله.
وعلى تقدير رجوع الضَّمير إلى الرَّسول عليه السلام يكون المراد: ظهوره عليه السلام على أهل سائر الأديان، على تقدير المضاف.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} المراد بهذه الآية: بيانُ نقائص المذكورين فيها، وفي ضمنه نهيُ المؤمنين عن تلك النَّقائص، لمَّا ذكر الله تعالى أنَّهم اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دونِ اللهِ، ذكرَ ما هو عليه كثيرٌ منهم تنقيصًا في شأنهم وتحقيرًا، وأنَّ مِثل هؤلاء لاينبغي تعظيمهم فضلًا عن اتخاذهم أربابًا.
{إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يأخذونها بالرُّشا، والتَّخفيفِ في الشرائع. وأطلق الأكل على أخذ المال مجازًا؛ لأنَّه معظمُ الغرض منه، أو لكونه سبب الأكل.
{وَيَصُدُّونَ} صَدَّ يُستعمَل واقعًا ومجاوزًا
(1)
، فالمعنى: يصدُّون غيرهم.
{عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، أي: عن دينِ الإسلام وشريعةِ محمَّدٍ عليه السلام، أو يصدُّون عنه في أكلهم الأموال بالباطل؛ أي: لا تتوهَّموا في كثير من الأحبار والرُّهبان صلاحًا، ولا تغترُّوا بظاهر زِّيهم وسكونهم؛ فإنَّ ذلك كلَّه
(2)
مصائدُ للمطامع، واستجلابٌ للرِّئاسة، ومكائدُ للصدِّ عن سبيلِ الله والجرِّ إلى الضَّلالة. قال عبد الله بن المبارك:
وهل أفسدَ النَّاسَ إلَّا الملوكُ .... وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
(3)
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ؛ أي: يجمعونهما ويحفظونهما في الأوعية، ومنه قولهم: رجل مُكتنِزُ؛ أي: مجتمِعُ اللحم. وليس من شرطِ الكنزِ الدَّفنُ، ولكن كثُر في حفظ
(4)
المال أن يُدفَنَ حتى تُعورِفَ اسمُ الكنز في المدفون.
وإنَّما خُصَّا بالذِّكر لأنهما قانون التَّموُّل وأثمانُ الأشياء، فالاحتياج إليهما فيما بين النَّاس أكثر، ولا يجوز كنزهما ومنع الناس عن فائدتهما.
{وَالَّذِينَ} مبتدأ اسم موصول ضُمِّنَ معنى اسم الشرط، فلذلك دخلت الفاء في خبره في قوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
(1)
لعله يريد: لازمًا ومتعديًا، وقد تقدم التمييز بينهما عند تفسير قوله تعالى في هذه السورة:{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وقد جزم المؤلف - كما سيأتي - بالتعدية فيه، وأجاز غيره الوجهين. انظر:"روح المعاني"(10/ 304).
(2)
"كله "سقط من (ك).
(3)
رواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 279)، والبيهقي في "الشعب"(7300).
(4)
في (ف): "حفظة".
ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ} معطوفًا على الضمير في قوله: {لَيَأْكُلُونَ} والفصلُ يقوم مقام التأكيد.
وأن يكون محلُّ الموصول منصوبًا عطفًا على اسم (إنَّ) في قوله: {إِنَّ كَثِيرًا
(1)
مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذِ الرُّشا، وكنزِ الأموال والضَّنِّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير.
وأُورد عليه أنه لو أريد أهل الكتاب خاصَّة لقيل: (ويكنزون)، بغير {وَالَّذِينَ} ، فلمَّا زيدَ {وَالَّذِينَ} فقد استُؤْنِفَ معنًى آخرُ، تبيَّن أنه عطفُ جملة على جملة.
وأمَّا تسويته تعالى
(2)
للمسلمين الكانزين غيرِ المنفقين بالمرتَشين من أهل الكتاب باقترانهم بهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم؛ تغليظًا ونهيًا عن الكنز، وبعثًا على الإنفاق، ويدل على هذا أنه لما نزل كبُر على المسلمين، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول لله صلى الله عليه وسلم فقال:"إنَّ اللهَ لم يفرضِ الزَّكاةَ إلَّا ليطيِّبَ بها ما بقيَ مِنْ أموالِكُمْ"
(3)
، فعُلِمَ أنَّ المرادَ بتركِ الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ منعُ الزَّكاةِ.
وقوله عليه السلام: "ما أُدِّيَ زكاتُه فليسَ بكنزٍ وإنْ كانَ باطنًا، وما بلغَ أنْ يُزَكَّى فلم يُزَكَّ فهوَ كنزٌ وإنْ كانَ ظاهرًا"
(4)
معناه: ليس بكنزٍ أُوْعِدُ عليه؛ فإنَّ الوعيد على
(1)
في (م) زيادة: "وهو إشارة إلى الكثير".
(2)
في (ف): "شبهه"، وفي (م):"تسوية"، وفي (ك):"نعته تعالى"، والمثبت هو الأنسب بسياق الكلام.
(3)
رواه أبو داود (1664)، والحاكم في "المستدرك"(1487) و (3282)، وصححه، وفي إسناده عثمان أبو اليقظان وهو ضعيف. انظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 83).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 266)، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 83) من طريق محمد بن جبير عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "كل ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان=
الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمرَ اللهُ تعالى أليقُ فيه، على ما فُهِمَ من قوله:
{وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والضَّمير للفضَّة وحدها، إحالةً للحكم في قرينها على الدِّلالة، وإنما لم يعكس مع ما فيه من اعتبار جانب التَّذكير؛ رعايةً لجهة القُرْبِ، وعلى هذه الطَّريقة سلكَ في قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112] أيضًا.
وأما قوله عليه السلام: "مَنْ تركَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوِيَ بها"
(1)
أو نحوه، فالمراد
= مدفونًا تحت الأرض، وكل ما لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا" قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ، وإنما المشهور عن سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر موقوفًا. ورواه الطبراني في "الأوسط"(8279) وابن عدي في "الكامل"(3/ 426) من طريق سويد بن عبد العزيز عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، ولفظه:"كل مال وإن كان تحت سبع أرضين يؤدى زكاته فليس بكنز، وكل مال لا يؤدى زكاته وإن كان ظاهرا فهو كنز" قال ابن عدي: رفعه سويد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يرويه موقوفًا. والموقوف رواه الشافعي في "مسنده"(ص: 87)، وعبد الرزاق في "المصنف" (7140) و (7141). وفي الباب عن أم سلمة قالت:"كنتُ ألبَسُ أوضاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فقلت: يا رسولَ الله، اكنزٌ هو؟ قال: "ما بلغ أن تُؤَدَّى زكاتُه، فزُكِّيَ، فليس بكَنزٍ" أخرجه أبو داود (1564) واللفظ له، والحاكم في "المستدرك" (1438)، من طريق عطاء عن أم سلمة. ورجاله ثقات إلا أن عطاء - وهو ابن أبي رباح - لم يسمع من أم سلمة فيما قاله علي بن المديني. ومع ذلك فقد صححه ابن القطان، وجودَّ إسناده الحافظ العراقي، فيما نقله عنهما الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 272).
وروى البخاري في "صحيحه"(1404): عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال: من كنزها فلم يؤدِّ زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال. وقد ترجم له البخاري بقوله:(باب ما أدي زكاته فليس بكنز).
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(21480)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 59) - وقال: فيه نظر -، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته. ويشهد له ما رواه الإمام أحمد في "المسند"(21461) بإسناد صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أيضا، ولفظه: "أيُّما ذهبٍ أو=
منها ما لم يؤدِّ حقَّها؛ لقوله عليه السلام: "ما مِنْ صاحبِ ذهبٍ ولا فضَّةٍ لا يؤدِّي منهما حقَّهما إلَّا إذا كانَ يومَ القيامة صفِّحَتْ له صفائح من نارٍ، فيُكْوَى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه"
(1)
.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هو الكَيُّ بهما.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أصله: تُحمَى النَّارُ عليها؛ أي: تُوْقَدُ النَّار ذاتَ
(2)
حَميٍ شديد، من قوله:{نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] فحذفت النَّار لقوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وأُسند الفعل إلى الجارِّ والمجرور فلزم تذكيرُه؛ كما يقال: رُفعتِ القصَّةُ إلى فلان، فإذا حذفت قيل: رُفِعَ إلى فلان.
وفي جعل الإحماء للنَّار، والإبهامِ بإسناد الفعل إلى الظَّرف ثم التفصيلِ وجعلِ نار جهنم مكانًا للإحماء، من المبالغة ما ليس في قولك: تُحمى بالنار، وأمَّا الاكتفاء بضمير القصَّة فقُدِّمَ
(3)
وجهُه.
{فَتُكْوَى بِهَا} الكي: إلصاقُ الشَّيء الحارِّ بالعضوِ
(4)
.
=فضةٍ أُوكِيَ عليه، فهو كَيٌّ على صاحبه حتى يُفْرِغَهُ في سبيلِ اللهِ إفراغًا".
(1)
رواه البخاري (1403)، ومسلم (987) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في النسخ: "ذات النار"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 268) و"تفسير البيضاوي"(3/ 79).
(3)
في (ك): "فقد مرّ".
(4)
في النسخ: "بالفضة"، والمثبت من هامش (م).
{جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} إنَّما خُصِّصَتْ هذه المواضع بالكيِّ لأنَّه في الجبهة أشنعُ، وفي الجنب والظهر أوجعُ لوصول الحرِّ إلى الجوف، بخلاف اليد والرِّجل.
وقيل: لأنَّ الغنيَّ المانعَ للزكاة إذا رأى الفقير انقبضَ وجهه، وإذا ضمَّه والفقيرَ مجلسٌ ازْوَرَّ عنه فعارضه بجنبه، وإذا أمَّله قام وولَّاه ظهرَه.
{هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول.
{لِأَنْفُسِكُمْ} توبيخٌ لهم وتهكُّم بهم؛ أي: كنزتُموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذَّ بها، فكانت عينَ مضرَّتها وسببَ تعذيبِها.
{فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} ؛ أي: وَبالَ ما كنزْتُم
(1)
، أو: ما تكنزونه.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} مَبلغَ عدِّها {عِنْدَ اللَّهِ} ظرفُ {عِدَّةَ} لأنَّها مصدر.
{عَشَرَ شَهْرًا} شهور السَّنة شمسيَّةً كانت أو قمريَّةً كذلك، إلَّا أنَّ المراد هنا الشُّهور القمريَّة.
{فِي كِتَابِ اللَّهِ} : في اللَّوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه في حكمه، صفة لـ {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}؛ أي: مثبتة فيه، وقوله:{يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؛ أي: أمرٌ
(1)
في (ف): "وبال كنزكم".
ثابتٌ في نفس الأمر مذ خلقَ الله تعالى الأجرام والأزمنة، متعلِّق بما فيه من معنى الثُّبوت، أو بالكتاب إن جعل مصدرًا.
{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} واحدٌ فردٌ، وهو رجبٌ، وثلاثةٌ سَرْدٌ، وهي
(1)
: ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم.
{ذَلِكَ} ؛ أي: تحريم الأشهر الأربعة {الدِّينُ الْقَيِّمُ} : دينُ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب ورثوه منهما.
{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} لمَّا كان جمعُ الحُرُم للقلَّة عاد الضميرُ عليها بالنون، تقول العرب: الجذوع انكسرت؛ لأنَّه جمع كثرة، والأجذاع انكسرْنَ؛ لأنَّه جمع قلَّةٍ.
{أَنْفُسَكُمْ} بهتك حرمتها، وعن عطاء: ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحَرم ولا في الأشهر الحرم إلَّا أنْ يُقَاتَلوا، وما نُسِخَتْ
(2)
.
والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهنَّ منسوخة، وأوَّلوا الظُّلم بارتكاب المعاصي فيهنَّ فإنَّه أعظم وزرًا، كارتكابها في الحرم، وحالَ الإحرام.
وقيل: يؤيده ما روي أنَّه عليه السلام غزا هوازن بحُنَين وحاصر الطَّائف في شوال وذي القعدة.
وفيه نظر؛ لأنَّ غزوَ هوازن بحنين كان في شوَّال فلا تأييد فيه
(3)
، وأما محاصرةُ الطَّائف فقيل: إنَّه عليه السلام حاصره بقيَّة الشَّهر المذكور، فلما دخل ذو القعدة انصرف عنه وأتى الجِعْرانةَ وأَحرم منها للعمرة.
(1)
"وهي" ليست في (ف).
(2)
رواه الجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 401)، وانظر:"تفسير الثعلبي"(5/ 43)، و"الكشاف"(2/ 269).
(3)
في هامش (ف): "التفصيل يطلب من "التيسير" في تفسير قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} .
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} : جميعًا، من الكفِّ بمعنى المنع
(1)
، كأنهم كُفُّوا أن يخرج منهم أحدٌ باجتماعهم
(2)
، وقع موقع الحال.
{وَاعْلَمُوا} ؛ أي: كونوا على ثقةٍ ويقينٍ {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بشارةٌ لهم، وضمانٌ بالنَصر، وبيانٌ أنَّ تقوُّلهم سببٌ لنصرهم.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ} مصدر نَسَأه: إذا أخَّره؛ أي: تأخيرُ حرمة الشَّهر إلى شهرٍ آخر، وذلك أنهم كانوا أصحابَ حروبٍ وغاراتٍ، فإذا جاء الشهر
(3)
وهم محاربون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهرًا آخر، حتى رفضوا خصوصَ الأشهر، واعتبروا مجرد الورود، وذلك قوله تعالى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، وهي الأربعة، وربَّما زادوا في عدة الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر ليتَّسع لهم الوقت، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} ؛ أي: من غير زيادةٍ زادوها.
{زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم لَمَّا أحلُّوا ما حرَّم اللّه تعالى وحرَّموا ما أحلَّه زادوا كفرًا على كفرهم.
(1)
في النسخ: "بمعنى منع"، والمثبت هو الأنسب بالسياق.
(2)
في هامش (ف): "وأما ما قيل: فإن الجمع مكفوف عن الزيادة فليس بشيء".
(3)
في (م): "جاء أشهر حرم".
{يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ضلالًا زائدًا.
{يُحِلُّونَهُ عَامًا} الضمير للمنسوء الدَّالِّ عليه النَّسيء.
{وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} ؛ أي: إذا أحلُّوا منها شهرًا عامًا
(1)
رجعوا فحرَّموه في العام القابل، والجملتان تفسير للضَّلال، أو في موقع الحال.
{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ؛ أي: ليوافقوا عدَّة الأربعة، واللَّام متعلقة بـ {وَيُحَرِّمُونَهُ} ، أو بما دَلَّ عليه مجموع الفِعْلَين.
{فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بمواطأة العِدَّة وحدها من غير مراعاةِ وقت.
{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} خذلهم الله وأضلَّهم حتى حسبوا قبيحَ أعمالهم حسنًا.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} على طريقة تنزيل وجودِ ما لا يترتَّب عليه أثره بمنزلة العدم
(2)
.
{الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} من باب وضع الظَّاهر موضعَ المضمر؛ للدّلالة على أنَّ كفرَهم مانعٌ مِن قَبول الهداية وترتُّب الأثر.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} هو حرف استفهام بمعنى التوبيخ {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} النَّفْرُ: التَّنقُّل بسرعةٍ من مكانٍ إلى مكانٍ لأمرٍ يحدث.
(1)
"عامًا" سقط من (م).
(2)
في هامش (ف): "من لم يتنبه لهذا [
…
] التقدير فقال: هداية موصلة إلى الاهتداء".
و {سَبِيلِ اللَّهِ} : طلب رضا الله تعالى.
{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} : تباطأتم وتقاعدتم، وقرئ:(تَثاقَلْتُم) على الأصل
(1)
، وقرئ:(أَثَّاقَلْتُم) على الاستفهام
(2)
، ومعناه: الإنكار والتَّوبيخ، ضمَّنه معنى الميل والإخلاد فعُدي بـ (إلى)؛ أي: مِلْتُم إلى الدُّنيا ولذَّاتها، أو مِلْتُم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم وكرهتم مشاقَّ السَّفر والجهاد.
وهو العامل في {إِذَا} إذا لم يُستفهم به
(3)
، وإذا استُفهم به منع الاستفهامُ عمله فيما قبله، فالعاملُ حينئذ ما دلَّ عليه، أو معنى الفعل في {مَالَكُمْ} كما يعمل في الحال إذا قيل: ما لك قائمًا؟ كأنه قيل: ما تصنعون؟
وما ذكر عبارةٌ عن تخلُّفِهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهِم الغزوَ، واختيارِهم سكنى ديارهم، والتزامِ نخلهم وظلالهم، وكان ذلك في غزوة تبوك، أُمِروا بها بعد رجوعهم من الطَّائف في وقت عُسْرَةٍ وقيظٍ، مع بُعْدِ الشُّقَّة وكثرة العدو فشقَّ عليهم
(4)
.
{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وغرورِها {مِنَ الْآخِرَةِ} : بدلَ الآخرةِ ونعيمها.
{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : فما التَّمتُّع بها
(5)
{فِي الْآخِرَةِ} : في جنب الآخرة {إِلَّا قَلِيلٌ} : مستحقَرٌ.
(1)
نسبت للأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 53).
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 271).
(3)
"به" من (م).
(4)
"فشق عليهم" من (م).
(5)
في (ك): "في التمتع فيها".
{إِلَّا تَنْفِرُوا} : إنْ لا تنفروا إلى ما استُنفرتم إليه {يُعَذِّبْكُمْ} الله {عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} إظهارُ سخطٍ عظيم على ترك النَّفْرِ والتَّثاقل، حيث أوعدهم عليه بعذابٍ مطلَقٍ متناوِلٍ لعذابِ الدُّنيا
(1)
والآخرة، ونكَّره ووصفه بالإيلام وأنَّه يهلكهم ويستبدل بهم قومًا خيرًا منهم وأطوعَ، كأهل اليمن
(2)
وأبناء فارس.
{وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} ؛ أي: إنَّه غنيٌّ عنهم في نصرة دينه، وفي كلِّ أمرٍ لا يقدح تثاقلُهم فيها شيئًا.
وقيل: الضَّمير للرَّسول عليه السلام، أي: ولا تضروه لأنَّ الله تعالى وعدَه بالعصمة والنصرة
(3)
، ووعدُه حقٌّ.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة، كما قال:
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} ؛ أي: إن لم تنصروه فسينصره مَن نصره
(1)
في (ك): "العذاب في الدنيا"، وفي (م):"للعذاب في الدنيا".
(2)
في (م): "يمن".
(3)
"والنصرة" سقط من (ك).
حين لم يكن معه إلَّا رجلٌ واحدٌ، فدلَّ بقوله:{فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} في الماضي على أنَّه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت وأقامه مقامه، أو: فقد حكم الله بنصره وأوجبه على نفسه حين نصره في ذلك الوقت، فلم يكن ليخذله في غيره أبدًا.
{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إسنادٌ مجازيٌّ؛ لأن هَمَّ الكفرة بإخراجِه أو قتلِه سببٌ لإذن الله تعالى بالخروج، فكأنهم أخرجوه.
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} نصبٌ على الحال، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، ولا يخفى ما في التَّعبير المذكور من التَّعظيم للصدِّيق رضي الله عنه؛ إذ المعنى: أحدَ اثنين، والعدول إلى ما ذكر للإشعار بأنه عليه السلام كان تاليًا له في دخولهما الغار، وقد كان كذلك.
{إِذْ هُمَا} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} بدلَ البعض؛ إذ المراد بزمان الإخراج: زمانٌ متَّسِع.
{فِي الْغَارِ} : هو الثُّقب العظيم في الجبل، وهو في جبلٍ بمكَّة يُقال له: ثور، مأخوذ من غار يغور: إذا دخلَ في عمق.
{إِذْ يَقُولُ} بدل {ثان} أو ظرف لـ {ثان} .
{لِصَاحِبِهِ} وهو أبو بكر رضي الله عنه
(1)
: {لَا تَحْزَنْ} الحزن: الغم
(2)
الذي يغلظ على النَّفس، ومنه: الحَزَن، للأرض الغليظة.
(1)
في هامش (ف): "قال أبو بكر رضي الله عنه: حين انتهينا إلى باب الغار قلت: يا رسول الله، الغار موضع المكاره فدعني أدخل قبلك، فإن كان منه شيء مكروه كان لي دونك، فدخل فيه؛ أي: حجره، وكان عليه برد سابري [ ....... ] تلك الحجرة، وبقي حجران فسدهما بعقبه، وقال: ادخل يا رسول الله، فدخل. منه".
(2)
"الغم" من (م).
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بالحفظ والعون.
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} : أَمْنَه الذي تسكن عنده القلوب، والفاء للتعقيب بلا مهلة، وفيه نوع دلالة على أنَّ توكُّله عليه السلام على الله تعالى
(1)
كان سببًا للنُّزول المذكور.
{عَلَيْهِ} ؛ أي: على أبي بكر رضي الله عنه؛ فإنَّه هو الخائف المحتاج إلى الأمن، فأمَّا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقد كان آمنًا ساكنًا بما وعد له من النَّصر.
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} عطف على قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} ، والمراد من الجنود: الملائكة عليهم السلام، والتأييدُ بهم كان في حرب بَدْرٍ وحُنين.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: دعوتَهم إلى الكفر {السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّه} ؛ أي: دعوتُه إلى الإسلام {هِيَ الْعُلْيَا} وتغييرُ الأسلوب للدِّلالة على أن الأُولى أَولى بالتَّغيير والتَّبديل، بخلاف الثَّانية؛ فإنها المستمرة الثَّابتة.
وقرئ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالنصب
(2)
، عطفًا على {كَلِمَةَ الَّذِينَ} ، والرفعُ أبلغُ؛ لِمَا فيه على وفق ما قدَّمناه من الإشعار بأن كلمة الله تعالى عاليةٌ في نفسها، فإنْ فاق غيرُها فلا ثبات
(3)
لتفُّوقه ولا اعتبار، ولذلك وسَّط الفصل.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في انتقامه {حَكِيمٌ} في تدبيره وأحكامه.
(1)
"على الله تعالى" ليس في (ك).
(2)
وهي قراءة يعقوب من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 279).
(3)
في (ف) و (ك): "يناسب".
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الخفَّة والثِّقل مستعاران لمن يمكنه السَّفر بسهولة ومَن يمكنه بصعوبة، وما ذكر في تفسيرهما من المعاني فلا وجه لتخصيص بعضها دون بعضٍ بالإرادة، بل هي معانٍ متفقة، والتَّحقيقُ أنَّ النَّاس أُمِروا جملة، وتلك الأقوال إنما هي على وجه المثال للثِّقل والخفَّة.
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ذكر أكمل ما يكون من الجهاد وأنفعَه عند الله تعالى، وقُدِّمَتِ الأموال في الذِّكر
(1)
لأنَّها أوَّل مصروفٍ وقت التَّجهيز، فرتِّب الأمرُ كما هو في نفسِه.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُم} من الجهاد بأحدهما، ومَن قال: مِن تَرْكه، فلم يُصِب.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخيرَ علمتُم أنه خير.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا} العَرَضُ: خلافُ النَّقد، وقد عَبَّر به عن الغنيمة لأنَّه الغالب فيها؛ أي: لو كان ما دعوا إليه غُنمًا
(2)
{قَرِيبًا} : سهلَ المأخذ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} : متوسطًا، سُمِّي قصدًا
(3)
لأنَّه ممَّا يُقْصَد.
(1)
"في الذكر" سقط من (ك).
(2)
في (ك): "مغنمًا".
(3)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(قاصدا). انظر: "تفسير الرازي"(16/ 56).
{لَاتَّبَعُوكَ} فيما قصدْتَ إليه.
{وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} : المسافة التي تُقْطَع بمشقَّة، وهي القطعة من الأرض التي يَشُقُّ ركوبها على صاحبها.
{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} ؛ أي: المتخلِّفون عند رجوعك من غزوة تبوك معتذِرين.
{لَوِ اسْتَطَعْنَا} : لو كان لنا استطاعةُ الخروج من جهةِ البدن والمال.
والشَّرطيَّة محكيَّة على أن الحَلِف من جنس القول، فلا حاجة إلى تقديره؛ لأنَّ التعدية باعتبار التَّضمين من خارجٍ جائزةٌ، فجوازها باعتبار ما في ضمنها بالطَّريق الأَولى.
{لَخَرَجْنَا مَعَكُم} سادٌّ مسدَّ جوابي القسم والشرط.
وقرئ: {لَوِ اسْتَطَعْنَا} بضم الواو
(1)
؛ تشبيهًا لها بواو الضمير في قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} [البقرة: 16].
{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُم} بدل من (سيحلفون)؛ لأنَّ الحَلِف الكاذب إيقاعٌ للنَّفس في العذاب، أو حالٌ بمعنى: مهلِكين، والإخبار بهذا قبل وقوعه قد كان من المعجزات.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ذلك؛ لأنهم كانوا مستطيعين للخروج.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} الإخبار عن العفو مقصودٌ بالإفادة، فلا يكون كنايةً عن
(1)
نسبت للأعمش. انظر: "المحتسب"(1/ 292).
الخطأ، نعم يفهم منه وجود الخطأ بطريق الاقتضاء، وهذا من لطيف المعاتبة، ولو لم يفتح باب المخاطبة بالعفو لما كان عليه السلام يتحمَّل لقوله
(1)
تعالى:
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ولا يخفى ما في تقديم العفو على ذِكْرِ ما
(2)
يُوْهِمُ العِتاب من تعظيم شأنه عليه السلام، والتنبيه على لطف مكانه، ومَن لم يتنبَّه لذلك قال: إنَّه كناية عن الجناية، ومعناه: أخطأْتَ وبئسَ ما فعلْتَ
(3)
، ثم إنه لم يدرِ أنَّ الإذن المذكور مِنْ قَبِيل الخطأ في الاجتهاد، فهو مظنَّة الثَّواب لا العقاب، والله تعالى أعلم بالصواب.
والإذنُ: رفعُ التَّبعة في الفعل.
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في الاعتذار، متعلِّق بما تقدَّم باعتبار المفهوم لا باعتبار المنطوق؛ فإنه استفهام إنكاري في معنى: هلَّا توقَّفت
(4)
.
فحاصل المعنى: لِمَ أذنْتَ على الفور، فمرجع الإنكار إلى كيفية الإذن لا إلى نفسه.
{وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيه، قيل: إنَّما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئين لم يُؤْمَرْ بهما؛ أخذه للفداء، وإذنه للمنافقين، فعاتبه الله تعالى عليهما.
وكأن هذا القائلَ غافلٌ
(5)
عن ثالثهما، وهو تحريمه عليه السلام ما أحلَّ الله تعالى ابتغاءً لمرضاة أزواجه.
(1)
في (ف) و (م): "بقوله".
(2)
في (ك): "على ما"، وفي (م):"على ما ذكر ما".
(3)
القائل لهذا هو الزمخشري في "الكشاف"(2/ 274)، وقد رد عليه العلماء وعده بعضهم من سوء الأدب، وقد ذكرنا في المقدمة بعضًا مما قيل في الرد عليه.
(4)
في (م): "توقفته"، وفي (ف) و (ك):"توقف"، والصواب المثبت.
(5)
في (ف) و (م): "وقد كان هذا القائل غافلًا".
ثمَّ إنَّ العِتاب ليس على الإذن؛ لِمَا عرفْتَ أنَّه بالاجتهاد، والخطأُ فيه لا يتعلَّقُ به العِتاب، بل على عدم التَّوقف على نزول الوحي في بيانِ شأنهم، على ما نبَّهْتُ عليه آنفًا.
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، فضلًا أن يستأذنوك في التخلُّف عنه، وكان الخُلَّصُ من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذنُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولنجاهدنَّ معه بأموالنا وأنفسنا.
أو: كراهة أن يجاهدوا.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} شهادةٌ لهم بالتَّقوى وعِدَةٌ لهم بثوابه.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} في التَّخلُّف {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تخصيصُ الإيمان بالله واليوم الآخر بالذِّكْرِ في الموضعين إشعارٌ بأنَّ الباعثَ على الجهاد وبذلِ النَّفس والمال للّه تعالى هو الإيمانُ بهما، والوازع عنه عدمه.
{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} : يتحيرون.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} ؛ أي: معكم للغزو {لَأَعَدُّوا لَهُ} ؛ أي: للخروج {عُدَّةً} العدَّةُ: ما يُعَدُّ للأمر ويُهيَّأ له.
وقرئ: (عِدَّةً) بكسر العين
(1)
؛ أي: جماعةً من الآلات.
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} : انطلاقهم للخروج، استدراكٌ عن مفهوم قوله:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} ؛ لأن معناه نفيُ إرادة الخروج، كأنه قيل: ما أرادوا الخروج، وتنزيلٌ لعلَّةِ الشيء منزلتَه؛ فإنَّ المعنى: ولكن تثبَّطوا عنه؛ لأن الله تعالى كره انبعاثهم.
هذا ما قيل في توجيه ما ذُكِرَ، وفيه وقوع (لكنْ) بينَ متَّفقين
(2)
من جهة المعنى، فالوجه أن يكون ذلك من قَبيل حذف الجملة من الكلام لدلالة الباقي عليه، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} الآية [النمل: 15]، وذلك أنه لمَّا احتمل أن يُتوهم أن عدم خروجهم للغزو لعدم تنبُّههم له قبله حتى يتهيَّؤوا
(3)
له، تُدورك دفعه بما ذُكر محذوفَ الصَّدر، فكأنَّه قيل: ليس هذا من تقصيرك في بعثهم للخروج، ولكن كره الله انبعاثهم.
{فَثَبَّطَهُمْ} التَّثبيط: التَّوقيف عن الأمر بالتَّزهيد فيه.
(1)
نسبت لزر بن حبيش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(53).
(2)
في (ف): "النعتين"، وكذا وقع رسمها في (ك) لكن دون نقط، وفي (م):"المعنيين"، والصواب المثبت. انظر:"حاشية الشهاب"(4/ 330)، و"روح المعاني"(10/ 359).
(3)
في (ك) و (م): "تهيؤوا"، والمثبت من (ف) وهو الصواب.
{وَقِيلَ اقْعُدُوا} تمثيل لإلقاء الله تعالى في قلوبهم التَّثبيط وكراهةَ الانبعاث، أو وسوسةِ الشيطان بآمرٍ أمرَ بالقعود عنه، أو حكاية قولِ
(1)
بعضهم لبعض، أو إذن الرسول عليه السلام لهم. وقوله:{مَعَ الْقَاعِدِينَ} ذمٌّ لهم، وإلحاقٌ بالذين شأنُهم القعودُ ولزومُ البيت للعجز عن القيام بمصالح الغزو من النِّساء والصِّبيان والزَّمنى.
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} لم يقل: (معكم)؛ لأن إضرارهم على تقدير خروجهم مختلِطين معهم، لا منفردِينَ عنهم.
{مَا زَادُوكُمْ} شيئًا {إِلَّا خَبَالًا} الخَبَال: الفسادُ في الأشياء المؤتلِفة الملتحِمة.
والزِّيادةُ لَمَّا كانت باعتبار أعمِّ العام الذي وقعَ منه الاستثناء، لم يلزم أن يكون لهم خَبالٌ حتى لو خرجوا فيهم زادوه.
{وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} الإيضاعُ: تهييجُ المركوب على الإسراع؛ أي: لِيَسْعَوا بينَكم بالنَّميمة وإفساد ذاتِ البَيْن، وهو مجازٌ يفيدُ المبالغة في السَّعي بالنَّمائم؛ لأنَّ الرَّاكِبَ أسرعُ من الماشي، ويقوِّيه حذف المفعول؛ لِمَا في التَّعميمِ مِن زيادة المبالغة بتقدير السَّامع كلَّ ما شاء من الرَّاكب، كأنَّه قيل: لأوضعوا كلَّ ما وجدوا مِنَ الرَّكائبِ.
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} حالٌ من ضمير (أوضعوا)؛ أي: يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم، والرُّعبِ في قلوبكم.
(1)
"قول" من (م).
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ؛ أي: نمَّامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو: ضَعَفةٌ مطيعون لهم، يسمعون ما يأمرونهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيعلم ضمائرهم وما يتأتَّى منهم، وعيدٌ لهم من باب وضع الظَّاهر موضع المضمَر؛ للتسجيل عليهم بالظُّلم، وإيجاب الظُّلم للوعيد.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ} بالسَّعي في تشتيت أمرك وتفريق أصحابك.
{مِنْ قَبْلُ} يعني: يومَ أُحُدٍ حين انصرف عبد الله بن أُبَيٍّ بِمَن معه.
{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} : ودبَّروا لك الحِيَل والمكائد، ودوَّروا الآراء في إبطال أمرك.
{حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} : النَّصر والتَّأييد الإلهي {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} على دينه.
{وَهُمْ كَارِهُونَ} ؛ أي: غلبَ أمرُ الله وشرعُه على رغم منهم.
والآيتان لتسلية الرَّسول عليه السلام والمؤمنين على تخلفهم، وبيانِ ما ثبَّطهم
(1)
اللهُ لأجله، وكره انبعاثهم له، وهتكِ أستارهم، وكشفِ أسرارهم، وإزاحةِ
(2)
اعتذارهم؛ تداركًا لِمَا فوَّت الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الإذن.
(1)
في (ف) و (ك): "ما ثبط".
(2)
في (ك) و (م): "وإذاعة".
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} ؛ أي
(1)
: في القعود.
{وَلَا تَفْتِنِّي} : ولا تُوْقِعني في الفتنة، وهي المعصية والإثم، فإنِّي إنْ لم تأذن لي وتخلَّفْتُ بغير إذنك أَثِمْتُ؛ إذ لا يمكنني الخروج معك، فلا بُدَّ لي من التَّخلُّف، أذنتَ أو لم تأذنْ.
أو: لا تُلْقِني في الهَلَكَة؛ فإنِّي إنْ خرجْتُ معك هلك مالي وعيالي؛ إذ لا كافلَ لهم.
أو: لا تفتنِّي ببناتِ الأصفر؛ لِمَا رويَ: أنَّ جدَّ بنَ قيسٍ قال: قد علمَتِ الأنصارُ أني مستَهْتَرٌ
(2)
ببنات الأصفر - يعني: نساء الرُّوم - فلا تفتنِّي بهنَّ، ولكن أُعِيْنُك بمالٍ
(3)
فاتركني
(4)
.
{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} تقديم الظَّرف بعد حرف التَّنبيه إيذانٌ بعِظَمِ ما وقعوا
(1)
"أي" ليست في (ك).
(2)
"مستهتر" سقطت من (ف)، وفي (ك):"قد علمت الأنصار افتتاني"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 277)، وفي "تفسير البيضاوي" (3/ 83):(أني مولع). والمعنى في الكل واحد.
(3)
في (ك): "بمالي".
(4)
رواه الطبراني في "الكبير"(12654) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده يحيى الحماني وهو ضعيف كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 30). وانظر:"سيرة ابن هشام"(5/ 516)، و"تفسير الطبري"(11/ 492)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 207)، و"أسباب النزول" للواحدي (246).
فيه وتخصيصٌ له؛ أي: ما الفتنة إلَّا التي وقعوا فيها، وهي التَّخلُّف، لا ما احترزوا عنه، وما وقعوا إلَّا فيما زعموا أنهم محترِزون عنه.
وفي عبارة: {سَقَطُوا} إشارةٌ إلى أنهم وقعوا فيما وقعوا فيه
(1)
من غفلةٍ وعدمِ تدارُك.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وعيدٌ لهم من بابِ وضع الظَّاهر موضِعَ المضمَر للتَّسجيل عليهم بالكفر، والإشارةِ إلى سبب الإحاطة بهم.
والمراد: إحاطةُ أسبابها بهم، فوُضع المسبَّب موضِعَ السَّبب إشعارًا بشدَّة
(2)
إيجابه له، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
{إِنْ تُصِبْكَ} في بعض غزواتك {حَسَنَةٌ} : ظفرٌ وغنيمةٌ {تَسُؤْهُمْ} لفرط حسدهم.
{وَإِنْ تُصِبْكَ} في بعضها {مُصِيبَةٌ} هي آفَةٌ في النَّفس أو الأهل أو المال، وأصلُه الصَّوب
(3)
، وهو الجري إلى الشيء، ومنه صوَّب الإناء: إذا ميَّله.
والإصابةُ: وقوع الشَّيء بما قُصد به. والصَّوابُ: إصابةُ الحقِّ.
(1)
من قوله: "وهي التخلف" إلى هنا سقط من (ك).
(2)
في (ف) و (م): "الشدة".
(3)
في (ف): "وأصلها الصواب"، وفي (م):"وأصل الصوب".
{يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} الذي نحن متَّسمون
(1)
به من التيقُّظ والحذر والعمل بالحزم.
{مِنْ قَبْلُ} ، أي: من قبلِ ما وقع؛ أي: يتبجَّحون بانصرافهم، ويستحمدون
(2)
رأيهم في التَّخلف.
{وَيَتَوَلَّوْا} عن مقام التَّحدث بذلك إلى أهليهم، أو عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
{وَهُمْ فَرِحُونَ} : مسرورون.
* * *
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} يعني: في اللَّوح المحفوظ.
أمرَ اللهُ تعالى نبيَّنا عليه الصلاة والسلام أنْ يردَّ على المنافقين بأنْ يُعْلمهم أنَّ الشيء الذي يعتقدونه مصيبةً ليس كما اعتقدوه، بل الجميع مما كتبه الله تعالى للمؤمنين؛ فإمَّا أن يكون ظفرًا أو سرورًا في الدُّنيا، وإما أن يكون
(3)
ذخرًا للآخرة، يرشدك إلى هذا قوله:
{هُوَ مَوْلَانَا} أي: الذي يتولَّانا، فإنَّه لتأكيد ما سبقَ مِن الاختصاص.
وأمَّا ما قيل: إنَّ المعنى: إلَّا ما كتبَ اللهُ في اللَّوح وجفَّ به القلم فلا يتغير
(1)
في النسخ: "مسمون"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 278).
(2)
في النسخ الثلاث: "ويستمدون"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 84)، ولفظه: (
…
تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا
…
).
(3)
"ظفرًا أو سرورًا في الدنيا وإما أن يكون" سقط من (ف) و (ك).
بموافقتكم ولا بمخالفتكم؛ فلا يناسبُ المقامَ؛ لأنَّه لا يَصلح ردًّا لهم، ثمَّ إنَّ ما ذَكَرَ على وفقِ ما قاله الجبْريَّة.
وقرئ: (هل يصيِّبُنا) بشديد الياء
(1)
، وهو يُفَيْعِلُ من فَيْعَلَ [لا]
(2)
من فَعَّلَ؛ لأنَّه من بنات الواو؛ لقولهم: صاب السَّهمُ يَصُوبُ.
{وَعَلَى اللَّه} لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لأنَّ حقَّهم أن لا يتوكلوا إلَّا عليه، جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة؛ لتقدُّم
(3)
العلَّة للاختصاص، كأن الواو للعطف والفاءَ لإفادة التَّسبب.
والتَّوكُّلُ: تفويضُ الأمر إلى الله تعالى، والرِّضا بتدبيره، والثِّقةُ بحسن اختياره.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} التَّربُّصُ: التَّمسُّكُ بما يُنتَظر به مجيءُ حينه.
{إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} : إحدى العاقبتين اللَّتين كلُّ واحدة منهما حُسْنَى العواقب: النُّصرة والشَّهادة.
(1)
نسبت لطلحة بن مصرف. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 122)، و"الكشاف" (2/ 278). وفي "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 53) عن طلحة بن مصرف: (لن يصيبنَّا) بـ (لن) بدل (هل)، وبتشديد النون كما قيدها ابن خالويه. وذكرها النحاس عن أعين قاضي الري وردها بقوله: وهذا نحن، لا يؤكّد بالنون ما كان خبرًا، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز.
(2)
من "الكشاف"(2/ 278)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 84)، و"روح المعاني"(10/ 368).
(3)
في (ك): "لتقديم".
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السُّوءتَيْن من العواقب: {يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} ؛ أي: قارعةٍ من السَّماء كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ بِأَيْدِينَا} وهو القَتْلُ على الكفر.
{فَتَرَبَّصُوا} بنا ما ذكرْنَا من عاقبتنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} ما هو عاقبتكم.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} نصبٌ على الحال؛ أي: طائعين أو كارهين.
{لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} أمر في معنى الخبر؛ أي: لن يُتقبَّل منكم نفقاتُكم، أنفقتم طوعًا أو كرهًا، وفائدتُه المبالغة في تساوي الإنفاقين في عدم القَبول، كأنهم أُمروا بأنْ يمتحنوا فينفقوا في الحالين وَينظروا هل يُتقبَّلُ منهم؟ وهو جوابُ قول جدِّ بن قيس: وأُعِينك بمالي.
ونفيُ التَّقبُّل يَحتمِلُ أنْ لا يَتقبَّلَ الرَّسولُ عليه السلام ولا يأخذَ منهم، وأنْ لا يتقبَّلَ اللهُ تعالى منهم ولا يُثيبَ عليها.
و {كَرْهًا} يحتمِل الإلزامَ والإكراه فيؤيِّد الثَّاني، والكراهةَ من المنفقِين فلا يَرْجَح أحدُهما.
ولعَمْري إنهم لا ينفقون إلَّا كراهةً، كما أخبر عنهم
(1)
في الآية التي بعدها، وأمَّا التَّطوُّع فهو على سبيل الفَرْضِ؛ لمساواةِ الكُره في عدم القَبول، أو أن يُعطُوا
(2)
من غير إلزامٍ وإكراه وفي أنفسهم الكراهة.
(1)
في (ك): "أخبرهم".
(2)
في (م): "يطيعوا".
{إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليلٌ لردِّ إنفاقهم على سبيل الاستئناف؛ إذ الفسق هنا هو التَّمرُّد والعتوُّ في الكفر، فيوجِبُ ردَّ كلِّ عمل، وفيه تنفير للمسلمين عن الفسق، وما بعده بيان وتقرير به.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} لا يخفى ما في هذا التَّعبير من حُسْنِ التَّصوير لقَبولِه النَّفقة بصورةِ أمرٍ مرغوبٍ مطلوبٍ، كأنهم طلبوه بالطَّبع؛ فإنَّ كرام العرب مجبولون على حبِّ الإنفاق، ومنَعهم إيَّاه ما بهم من الكفر والنِّفاق.
{إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} ؛ أي: وما منعهم قَبولَ نفقاتهم إلَّا كفرُهم.
وإعادة الجارِّ للتَّنبيه على أن كفرهم به عليه السلام أصالة لا تبعًا لكفرهم بالله تعالى.
{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} : متثاقلين، ذمُّهم على الكسل في الصَّلاة ذمٌّ على النِّفاق الذي يبعث على الكسل، وفقدِ الإيمان
(1)
الذي يبعث على النشاط.
{وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} ؛ لأنهم لا يَرجون بفعلها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا.
(1)
"وفقد الإيمان" مكرر في (ك).
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} الإعجاب بالشَّيء: أنْ يُسَرَّ به سرورَ متعجِّبٍ من حسنِه، راغبٍ فيه، والتَّفريعُ
(1)
على ما تقدَّم باعتبار أنَّ كونَ المال مرغوبًا يؤدِّي إلى كراهة الإنفاق، التي سياق الكلام في ذمِّها.
{وَلَا أَوْلَادُهُمْ} ؛ أي: فلا يَسرُّك أموالهم ولا أولادهم، مستحسِنًا إيَّاها، متعجِّبًا منها؛ فإنَ ذلك استدراجٌ لهم ووَبالٌ، كما قال:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ أي: بسبب ما يتكابدون
(2)
منها، من كُلَفِ الجمعِ والحفظِ، وما ينوبهم من الشَّدائد والمصائب، وآفات النَّهب والسَّبي، وما كلَّفهم الله تعالى من الإنفاق في سبيل الخير على كراهتهم إيَّاه.
ومفعول {يُرِيدُ} محذوف، تقديره: يريد إيتاءهم من الأموال والأولاد.
{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ} الزُّهوق: الخروجُ بصعوبة وشدَّة.
{وَهُمْ كَافِرُونَ} : في حالة كفرهم، متحسِّرين لاهين بالتَّمتُّع بها عن النَّظر في العاقبة، متألِّمين بالتَّعلّقِ بها وحبِّها، متعذِّبين بفراقها.
لَمَّا قطعَ رجاءَهم عن جميع منافع الآخرة بيَّنَ أنَّ الأشياء التي يظنّونها من باب منافع الدُّنيا جعلَها الله تعالى أسبابًا لتعذيبهم بها في الدُّنيا والآخرة.
(1)
في (ك): "والتقريع".
(2)
في (ك): "يتكادون"، ولفظ البيضاوي:(يكابدون لجمعها)، وكله محتمل.
(56) - {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} عطف على مُقدَّر تقديره: ينافقون ويحلفون بالله {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} : لَمِن جملة المسلمين، منصوب بـ (يحلفون) لتضمُّنه معنى القَول.
{وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} لكفرهم الباطن.
{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ؛ أي: يخافونكم على أنفسهم إن أظهروا لكم ما في قلوبهم، فلهذا يحلفون أنهم منكم، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16].
والفَرَقُ في الأصلِ: انزعاج النَّفس بتوقُّع الضَّررِ، فلا يستعمل إلَّا في الخوف الشَّديد.
(57) - {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} حصنًا يلجؤون إليه {أَوْ مَغَارَاتٍ} : جمع مغارة، من غارَ يغير
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المغارات: الغِيران والسَّراديب
(2)
، وهي المواضع التي يُسْتَتر فيها.
{أَوْ مُدَّخَلًا} : مُفْتَعَلٌ من الدُّخول؛ أي: مَسلكًا يُتترَّس
(3)
بالدُّخول فيه.
{لَوَلَّوْا} وجوهَهم {إِلَيْهِ} ؛ أي: لأقبلوا نحوه، والضمير لأحد الثلاثة.
(1)
في (م): "يغور" وقال في الهامش: "يغير".
(2)
في (ك): "المغارات السراديب"، والمثبت موافق لما في "تفسير القرطبي"(10/ 241) والكلام منه، ورواه بنحوه الطبري في "تفسيره"(11/ 504)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1814).
(3)
في (ك): "يندس".
{وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون إسراعًا لا يردُّه شيء، من جمحَ الفرسُ: إذا لم يردُّه اللِّجام.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} : يَعيبك. قال الزُّجاج: اللَّمزُ: التَّعييب مسارَّةً، والهمزُ: التَّعييب مجاهرةً
(1)
.
{فِي الصَّدَقَاتِ} في قِسْمتها، و {فِي} هنا بمعنى الباء السَّببية كما في قوله تعالى:{لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32].
{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} وذكروه بالجميل {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} {إِذَا} للمفاجأة، ناب مناب الفاء الجزائية.
وما أحسنَ مجيءَ جواب هذين الشَّرْطَين؛ لأنَّ الأوَّل لا يلزم أن يقارنه ولا أن يَعتقِبه، بل قد يجوز أن يتأخَّرَ، نحو: إن أسلمْتَ دخلْتَ الجنَّة، وأمَّا جواب الشَّرط الثَّاني فإنَّما جاءَ بـ (إذا) الفجائيَّة ليدلَّ على أنَّه إذا لم يُعطَوا فاجأهم
(2)
سخطهم، ولم يُمْكنْ تأخُّره؛ لِمَا جُبِلُوا عليه من محبَّة الدُّنيا والشَّرَهِ في تحصيلها.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 456). وظاهر كلامه اختيار عدم الفرق بينهما، وكذا في تفسير سورة الهمزة (5/ 361).
(2)
قوله: "فاجأهم" كذا في النسخ، ولعل الصواب:(فاجؤوا)، أو:(فاجأه)؛ أي: النبي، والمذكور قد يكون له وجه على معنى: فاجأ المعطين.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ذِكْرُ {اللَّهُ} تعالى تمهيدٌ للتَّنبيه على أن إعطاءه عليه السلام بأمره تعالى، فهو المعطي في الحقيقة، قال عليه السلام:"والله المعطي وأنا القاسم"
(1)
.
ومفعول {رَضُوا} محذوف؛ أي: رضوا ما أعطاهم الرَّسول عليه السلام، وطابت به أنفسهم، وإنْ قل نصيبهم، وليس
(2)
المعنى: رضوا عن الرَّسول عليه السلام؛ لأنهم منافقون، ولأنَّ رضاهم
(3)
وسخطهم لم يكن إلَّا لأجْل الدُّنيا.
{وَقَالُوا} عطفٌ على {رَضُوا} في حيِّز الشَّرط، والجواب محذوفٌ تقديرُه: لكان خيرًا لهم.
{حَسْبُنَا اللَّهُ} ؛ أي: لكان كافيَنا ورازقَنا من حيث يشاء، فيعطينا كفايتنا وإن تأخرَتْ.
{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ} من صدقةٍ أخرى، وإنَّما قال:{مِنْ فَضْلِه} ؛ لأنَّ ما آتاه الله فضلٌ منه، سواءٌ بكسبِ العبد
(4)
أو بدونه.
{وَرَسُولُهُ} ؛ أي: ويؤتينا رسوله عليه السلام بأمره
(5)
{إِنَّا إِلَى اللَّهِ} ؛ أي: إلى
(1)
رواه البخاري (3116) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(2)
في (ف): "وأنَّه ليس".
(3)
"ولأن رضاهم" ليس في (ك).
(4)
"العبد" ليس في (ف).
(5)
"بأمره" سقط من (ك).
رضائه تعالى {رَاغِبُونَ} : لا رغبةَ لنا إلى زخارف الدُّنيا، فتقديم الجار والمجرور للتَّخصيص.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} قَصر جنسَ الصَّدقات المشتمِلة على الأنواع المختلفة - المشارِ إليه بصيغةِ الجمع - على الأصناف المعدودة تصويبًا لِمَا فعله الرَّسول عليه السلام، ورغمًا لأنوف المنافقين، وردعًا لهم عن اللَّمز، وحسمًا لأطماعهم بإثبات استحقاق غيرهم لها دونهم، وأنَّهم ليسوا منها في شيءٍ، فما لهم
(1)
والتكَلُّمَ فيها وفيمَن قاسمها
(2)
.
فإيرادها استطرادٌ ساقَ إليه الكلام في مثالبهم ورذائلهم، وظهورِ ما أضمروا من معاداة الرَّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مِن فَلَتاتِ لسانهم، ولهذا توسَّطتْ بين ذكر المنافقين
(3)
، ومعناه: إنَّما هي لهم لا لغيرهم، وهو دليل على أنَّ اللَّمزَ
(4)
في قسمة الزَّكاة لا في الغنائم.
والقصرُ المذكور يفيد اختصاصها بالأصناف الثمانية، وعدمَ تجاوزها إلى
(1)
في (م): "هم".
(2)
في (ك): "قسمها".
(3)
في (م) زيادة: "ومن أيديهم".
(4)
في (ك): "الأمر".
غيرهم؛ لا إيجابَ شمولها لهم
(1)
وقسمتِها
(2)
على جميعهم، فيحتمِل استيعابُ الجميع
(3)
الصرفَ إلى بعضهم؛ فأبو حنيفة اختار الثَّانيَ، وعن عمر وابن عباس وحذيفةَ وكثير من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين
(4)
جوازُ صرفها إلى واحد ومنهم.
والشَّافعي اختار وجوب الصَّرْف إلى كلِّ واحدٍ منهم، والتَّسويةِ بينهم، على قضية الاشتراك.
{وَالْمَسَاكِينِ} المسكين: مَن له مال أو كسبٌ ولكن لا يكفيه. والفقير: مَن ليس له واحدٌ منهما، ولهذا قدَّمه.
ورُوِيَ أنَّه عليه السلام سأل المسكنةَ وتعوَّذ من الفقر
(5)
.
{وَالْعَامِلِينَ} : السُّعاةِ في جمع
(6)
الصَّدقات وقبضِها، وإنما قال:{عَلَيْهَا} لتضمين معنى القيام، كأنَّه قيل: القائمين على جميع مصالحها، وكلُّ مَنْ يُبعث
(1)
"لهم" من (م).
(2)
في (ك): "وقسمها".
(3)
في (م): "الجمع ".
(4)
"والتابعين" من (م). وانظر الصحابة - ومنهم المذكورون - والتابعين الذين روي عنهم هذا القول في "أحكام القرآن" للهراسي (3/ 206)، و"تفسير القرطبي"(10/ 245 - 246).
(5)
وذلك في أحاديث، منها دعاؤه صلى الله عليه وسلم:"اللهم أحيني مسكينًا وتوفني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين"، رواه الترمذي (2352) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: غريب، وابن ماجه (4126) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أما تعوذه صلى الله عليه وسلم من الفقر فرواه البخاري (6375)، ومسلم (589)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
ورواه أبو داود (1544)، والنسائي (5460) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
في (ك): "جميع".
معهم مِنْ عَوْنٍ لا يُستغنى عنه فهو منهم؛ لأنَّه يحثُّ
(1)
النَّاس عليهم.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم كانوا أصنافًا ثلاثة: صنفٌ كان النَّبيُّ عليه السلام يتألَّفهم ليسلموا، وصنفٌ يعطيهم لدفع شرِّهم، وصنفٌ كانوا أسلموا وفي إسلامهم ضعفٌ، فيزيدهم بذلك تقريرًا على الإسلام.
كلُّ ذلك كان جهادًا منه عليه السلام لإعلاء كلمة الله تعالى؛ لأنَّ الجهادَ تارةً يكون بالسِّنان، وتارةً يكون
(2)
بالبَيان، وتارةً بالإحسان.
واختُلف في انقطاع هذا الصِّنف بعزَّة الإسلام وظهوره.
{وَفِي الرِّقَابِ} ؛ أي: وللصَّرف في الرِّقاب بأنْ يُعَانَ المكاتَب بشيءٍ منها على أداء النُّجوم، وقيل: بأنْ يُبتاعَ الرِّقاب فيُعتق، وقيل؛ بأن يُفدى الأُسارى.
والعدول من اللَّام إلى (في) للدّلالة على أنَّ الاستحقاق في الجهة لا في الرِّقاب، أو للإيذان بأنَّهم أحقُّ بها وأقوى استحقاقًا؛ لأنَّ (في) للظَّرفية؛ أي: هم مواضعُها التي يوضع فيها؛ لِمَا فيها من الفَكِّ والإنقاذ من الرِّقِّ والغرم والأسر، وحفظِ بيضة الإسلام، والتَّخليصِ من الإشراف على الهلاك.
{وَالْغَارِمِينَ} الذين يَدينون لأنفسهم من غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم وفاءٌ، أو لإصلاح ذات بَيْنٍ بتحمُّل الحمالات وإن كانوا أغنياءَ؛ لقوله عليه السلام:"لا تَحِلُّ الصَّدقةُ إلَّا لخمسةٍ: لغازٍ في سبيلِ اللهِ، أو لغارمٍ، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو رجلٍ له جارٌ مسكينٌ فتصدَّق على المسكين فأهدى المسكينُ للغنيِّ، أو لعاملٍ عليها"
(3)
.
(1)
في (ك) و (م): "يحشر".
(2)
"يكون": ليست في (ك) و (م).
(3)
رواه بمعناه أبو داود (1636)، وابن ماجه (1841)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: وللصَّرف في الجهاد بالإنفاق
(1)
على المتطوِّعة
(2)
، وابتياعِ الكُراع والسِّلاح، وقيل: في بناء القنطرة والمصانع
(3)
.
وإعادة الجارِّ؛ لأنَّه من نوعٍ آخر.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} أخَّره عن سبيل الله تعالى مع أنَّه من قَبيل ما سبقَ؛ رعاية لظاهر الكلام؛ فإنَّ ابنَ السَّبيل يناسبه أن يُذْكرَ بعد السَّبيل، والمراد منه المسافر المنقطِع عن ماله، وابنُ السبيل كالعَلَم، فلذلك لم يُجْمَعْ.
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكِّد؛ لأنَّ معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} : فرضَ اللهُ الصَّدقات لهم، أو حالٌ من الضَّمير في قوله:{لِلْفُقَرَاءِ} .
وقرئ: (فريضةٌ) بالرفع
(4)
، أي: تلك الفريضة.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمواضع الاستحقاق {حَكِيمٌ} يضع الأشياء مواضعها.
{وَمِنْهُمُ} ؛ أي: من المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} روي أنَّ جماعة منهم
(1)
في (ك): "بالإنفاع"، وفي هامش (م):"بالإيقاع".
(2)
في (ف): "المطوعة"، وفي (م):"المتطوع".
(3)
في (ف): "والمضائق".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 283)، ونسبها القرطبي في "تفسيره" (10/ 282) لابن أبي عبلة. قال الزجاج في "معاني القرآن" (2/ 457): ولا أعلمه قرئ به. وقال الفراء في "معاني القرآن"(1/ 444): والرفع في (فريضة) جائز لو قرئ به.
ذمُّوه عليه السلام وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم، فقال بعضهم: لا عليكم إنما هو
(1)
أُذُن سامعةٌ، قد سمع كلام المبلِّغ فتأذَّى، ونحن نأتيه فنعتذرُ فيسمع عذرنا أيضًا فيرضى
(2)
.
وهذا ما ذكره بقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الأُذُنُ مَنْ إذا قيل له شيءٌ سمعه، وحُدِّثَ بشيءٍ لا ينكرُه، فإن الأُذُن الذي هو جارحةُ السَّماع كذلك؛ أي: ليس فيه وراء الاستماع تمييزُ الحقِّ من الباطل.
وأرادوا ذمَّه عليه السلام، فَما ذُكِرَ مِنْ قَبيلِ التَّشبيه، والغرضُ: المبالغة في الذَّمِّ.
وأمَّا إطلاق العين على الجاسوس فمن قَبيل المجازِ العقلي، كإطلاق العَدْل على العادل، والغرضُ منه المبالغة في المدح، فأين هذا من ذاك؟!
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يستمعُ إلى كلامِ كلِّ مَنْ يحدِّثُه بشيءٍ؛ لِكرمِه وحُسنِ خُلقه، فظنَّ أولئك أنَّه لسلامة قلبه وغفلته.
ولقد أحسن مَن قال: عابَه الجُهَّالُ بما هو آيةُ غايةِ كرمه، وعلامةُ حُسنِ شِيمِه
(3)
، قال عليه السلام:"المؤمن غِرٌّ كريمٌ، والمنافقُ خِبٌّ لئيمٌ"
(4)
.
{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أضاف الأذن إلى {خَيْرٍ} للمبالغة، كقولك: رجلُ صِدْقٍ، تريد وصفه بالجَودة والصَّلاح، كأنَّه مطبوعٌ منه ولا يتبيَّن إلَّا به، نحو: خاتم
(1)
في (ك): "هي".
(2)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 248)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 217)، و"المحرر الوجيز" (3/ 52). وانظر:"سيرة ابن هشام"(1/ 521).
(3)
في (م): "سمته".
(4)
رواه أبو داود (4790)، والترمذي (1964)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيهما:"والفاجر" بدل "والمنافق". وقال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
فضَّة، أو مختصٌّ بذلك المعنى، أراد الوصفَ بالخيريَّة، كأنّه قيل: نعم، هو أُذُنٌ، ولكن نِعْمَ الأُذُن، أو: أُذُنٌ في الخير وفيما يجبُ سماعه وقَبوله، لا في كلِّ شيء على الوجه الذي ذمَمتُموه به.
والدَّليل عليه قراءة: {وَرَحْمَةٌ} بالجر
(1)
؛ أي: هو أذنُ خيرٍ ورحمةٍ لا يسمع غيرهما ولا يقبلُه.
وقرئ: (أذنٌ خيرٌ لكم) برفعهما منوَّنَيْن
(2)
، على أن (خيرٌ) صفةٌ له، أو خبرٌ ثانٍ، أو كلًّا منهما
(3)
خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هو أذنٌ
(4)
خيرٌ لكم؛ لأَنه يقبل معاذيركم، ولا يكافيكم
(5)
على سوء ظنِّكم
(6)
.
ثم فسَّره بقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ؛ أي: يصدِّق به لِمَا قام عنده من الأدلة {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: يسلِّم لهم ما يقولون، فالاختلاف في التعدية للاختلاف في المعنى.
{وَرَحْمَةٌ} ؛ أي: هو رحمة، أُريْدَ المبالغة في رحمته لهم، فسلك مسلَك: رجلٌ عَدْلٌ.
{لِلَّذِينَ آمَنُوا} ؛ أي: أظهروا الإيمان {مِنْكُمْ} حيث يقبله ولا يكشف سرَّه.
(1)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 118).
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 53)، و"البحر المحيط"(11/ 334).
(3)
في (م): "كلاهما".
(4)
في (م) زيادة: "منهما" في الهامش.
(5)
في (ك): "يكافئكم".
(6)
في (ك): "دخلتكم".
وفيه تنبيهٌ على أنَّه عليه السلام ليس يقبلُ قولهم جهلًا بحالهم، بل يقبل ترحُّمًا لهم ورفقًا بهم.
وقرئ: (ورحمةً) بالنَّصب
(1)
، تعليلًا لِمَا تقدم من جهة المعنى، فإنَّ:{أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} في معنى: يأذنُ لكم رحمةً.
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إظهارُ ذِكْرِ رسولِ اللهِ تعظيمٌ وإيذانٌ بأنَّ الإيذاءَ
(2)
الذي هذا شأنُه يوجب استيجابَهم العذابَ الأليم.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} الخطاب للمؤمنين {لِيُرْضُوكُمْ} ؛ أي: يحلفون على معاذير عند الاعتذار إليكم في التَّخلُّف عن الجهاد والتَكلُّم بالمطاعن والإيذاء؛ لتَعذُروهم وترضَوا عنهم.
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ذِكْرُ اللهِ تعالى تمهيدٌ لتعظيمِ الرَّسولِ عليه السلام، وبيانٌ أن إرضاءه إرضاءُ الله تعالى؛ أي: ورسولُ الله أحقُّ بالإرضاء بالطَّاعة والموافَقة.
{إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} كما يزعمون؛ لأنَّ الإيمان يقتضي ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، ولو بسخطِ مَن سواه.
(1)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "الكشاف"(2/ 285)، و"البحر المحيط"(11/ 335).
(2)
في (م): "إيذاء".
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} استفهامٌ بمعنى التوبيخ {أَنَّهُ} ؛ أي: الشَّأن {مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} المحادَّةُ: مفاعَلةٌ من الحدِّ، كالمشاقَّة من الشقِّ؛ لأن المتخالفَينِ كلٌّ منهما في حدٍّ.
وذِكْرُ اللهِ تعالى هنا أيضًا تمهيدٌ.
{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} على حذف الخبر؛ أي: فحقّ أنَّ له، أو على تكرير (أنَّ) للتَّأكيد.
قيل
(1)
: يجوز أن يكون معطوفًا على {أَنَّهُ} ويكون الجوابُ محذوفًا، تقديره: مَنْ يحاددِ اللهَ ورسولَه يهلك، فيكون {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في موضع نصب.
وهذا الذي قرَّره لا يصح
(2)
؛ لأنهم نصُّوا على أنَّه إذا حُذِفَ الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشَّرط ماضيًا في اللَّفظ، أو مضارعًا مجزومًا
(3)
بـ (لم)، فمن كلامِهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز: إن تفعل، وهنا حذف جواب الشَّرط، وفعلُ الشَّرط ليس ماضيَ اللَّفظ ولا مضارعًا مقرونًابـ (لم)، وذلك إن
(4)
جاء في كلامهم فمخصوصٌ بالضرورة، وأيضًا فتجدُ الكلامَ تامًّا دونَ تقدير هذا الجواب.
(1)
القائل الزمخشري وتابعه البيضاوي. انظر: "الكشاف"(2/ 285)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 87).
(2)
في (ف): "يصلح". والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في "البحر"(11/ 339)، والكلام منه.
(3)
في (ف): "مقرونًا". والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(4)
في (ك): "أن ما"، والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
{ذَلِكَ} الهلاكُ الدائم.
{الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} الخزيُ: الهوانُ بما يُستحَى مِن مثلِه.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} خبرٌ عن حذرِهم، وقيل: هو بمعنى الأمر، أي: ليحذَرِ المنافقون.
{أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} : على المنافقين، والنَّازل فيهم كالنَّازل عليهم من حيث إنه مقروءٌ محتجٌّ به عليهم.
{سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} : تخبرهم {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} لم يكن ذلك الإخبار لإعلام المخبَر به، بل لإعلام أنَّه لا يخفى على الله تعالى ولا يخفيه عن رسوله عليه السلام.
وفيه هَتْكُ أستارِهم، وإظهارُ أسرارهم للمؤمنين، ولا يخفى ما في هذا المعنى من شدَّة الالتئام بين أجزاء الكلام، واعتبارٌ
(1)
لطيفٌ يناسب المقام، بل التزامٌ لانتشار الضمائر.
ثمَّ إنَّ ما ذكر على تقديرِ الأمرِ ظاهرٌ، وأمَّا على تقدير الخبر فنقول: لكثرة ما كان يُطْلعُ اللهُ تعالى رسولَه
(2)
عليه السلام كانوا يحذرون ذلك، ولخبثِ باطنهم وشدَّة كفرهم كانوا يؤذونه عليه السلام ويستهزءون به، وذلك قوله تعالى:
(1)
في (ف) و (ك): "واعتذار".
(2)
في النسخ: "ورسوله"، والصواب المثبت.
{قُلِ اسْتَهْزِئُوا} صيغةُ أمر، وهو للتَّهديد، ودليله:{إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} من لكُمُونِ إلى البروزِ {مَا تَحْذَرُونَ} ؛ أي: ما تحذرونه من نزول السُّورة في
(1)
أسراركم وهَتْك أستاركم، أو من إظهار مساوئكم
(2)
.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} رُويَ أنَّ ركبَ المنافقين مَرُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرَّجل، يريد أن يفتح قصور الشَّام وحصونه، هيهات هيهات، فأخبر الله تعالى به
(3)
نبيَّه عليه السلام، فدعاهم فقال: قلتُم كذا وكذا؟ فقالوا: لا والله ما كنَّا في شيء من أمرك وأمر أصحابك، ولكن كنَّا في شيء مما يخوض فيه الرَّكب، ليقصر بعضنا على بعضٍ السَّفر، فنزلَتْ
(4)
.
فما ذكر من السؤال والجواب كان مع بعضِهم، إلَّا أنَّه أسند إلى الكلِّ لاتِّحادهم في المنشأ.
{إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الخوضُ في الأصلِ: دخولُ القَدَم فيما كان
(1)
في (م): "نزول السورة وإظهار".
(2)
في هامش (ف): "فلا دلالة فيه على ترددهم في كفرهم".
(3)
"به" من (م).
(4)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 87) وعنه نقل، ورواه الطبري في "تفسيره"(11/ 544 - 545)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1830)، عن قتادة، وعزاه الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 250) لزيد بن أسلم ومحمد بن كعب، وانظر:"تفسير الثعلبي"(3/ 219)، و"المحرر الوجيز"(3/ 55).
مائعًا من الماء والطِّين، ثم شاعَ
(1)
وكثرَ حتى صارَ في كلِّ دخولٍ فيه أذًى
(2)
.
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} تقرير للاستهزاءِ، وتوبيخٌ لهم على استهزائِهم لمن
(3)
يجب تعظيمه ولا يصحُّ الاستهزاء به؛ لأن إيلاءَ المستهزَءِ به حرفَ الاستفهام إنما يصح بعد وقوع الاستهزاء، فلم يعبأ باعتذارهم للعلم بكذبهم في ذلك.
وذِكْرُ اللهِ تمهيدٌ لتعظيمِ آياته، والتَّنبيهِ على أنَّ استهزاءَها راجعٌ إلى الله تعالى.
{لَا تَعْتَذِرُوا} ؛ أي: لا تشتغِلوا بأعذاركم؛ فإنَّها معلومةُ الكذبِ لا تنفعُكم بعد ظهور أسراركم {قَدْ كَفَرْتُمْ} بالاستهزاء والإيذاء {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} بعد إظهاركم الإيمانَ.
{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} لتوبتهم وإخلاصهم، أو لاجتنابهم عمَّا كانوا يفعلونه من الإيذاء والاستهزاء.
{نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} : بكونهم مجرمين مصرِّين على النِّفاق وما كانوا عليه.
(1)
في (ك) و (م): "ثم كان".
(2)
في (م) زيادة: "وموت".
(3)
في (ك): "من"، ولعل الأحسن:(بمن).
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} ؛ أي: جنسٌ واحد كأبعاض الشَّيء الواحد، غيرُ مماثل لجنس المؤمنين.
تعريضٌ بأنَّهم ليسوا من المؤمنين، وتكذيبٌ لهم في حَلِفهم بالله إنهم لمنكم، وتقريرٌ لقوله
(1)
تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} ، وما بعده كالدَّليل عليه ببيانَ
(2)
منافاةِ حالهم لحال المؤمنين، وهو قوله:
{يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالكفر والمعاصي {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} ؛ أي: الإيمانِ والطاعة.
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} قبضُ اليدِ عبارة عن الشحِّ؛ أي: يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الخير.
{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} النِّسيان في الأوَّل كنايةٌ عن التَّرك، والمراد: ترك طاعته، وفي الثاني مجازًا مرتَّبًا على الكناية، والمراد ترك
(3)
رحمتهم، وإنما يعبَّر
(1)
في النسخ: "بقوله"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 88)، و"روح المعاني"(10/ 407).
(2)
في (ف) و (ك): "بيان". والمثبت من (م) وهو الصواب، ولفظ البيضاوي:(وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين).
(3)
"طاعته وفي الثاني مجازًا مرتبًا على الكناية والمراد ترك" من (م) زيد في الهامش وعليه علامة التصحيح، والصواب:(مجاز مرتب).
بالنِّسيان عن التَّركِ مبالغةً إذا بلغ وجوه الترك الوجهَ
(1)
الذي يقترِن به النسيان.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الكاملون في التَّمرُّد والخروج عن دائرة الخير، والمبالغةُ في ذمِّهم بالفسق، وجعلُه غايةً في التَّمرُّد والعتوِّ، والفاروقَ الأعظم بينهم وبين المسلمين، تنفيرٌ للمسلمين عنه.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} التَّفصيل بين الجنسين منهم للاهتمام بشأنهم لأن الكلام في ذمِّهم
(2)
.
{وَالْكُفَّارَ} ؛ أي: المجاهرين بالكفر، بقرينةِ المقابلة، وهي لا تخلو عن الدّلالة إلى
(3)
أنَّهم جنسٌ آخر.
{نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} حال عن معنى {وَعَدَ} ، فإنه كنايةٌ عن وقوع العذاب، كأنه قيل: يعذبهم الله بنار جهنَّم خالدين فيها.
{هِيَ حَسْبُهُمْ} إشارةٌ إلى عظم عذابها، وأنَّه لا مزيد عليه؛ أي: حسبُهم عقابًا وعذابًا إذ لا شيء أبلغ منه.
{وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} : طردَهم وأهانهم مع التَّعذيب.، وقَرَنهم بالشَّياطين الملاعين في التَّبعيد، ففيه بيان عذابهم الروحاني.
(1)
في النسخ: "هو" بدل: " الوجه"، والصواب المثبت. انظر:" المحرر الوجيز"(3/ 56).
(2)
"لأن الكلام في ذمهم" من (م).
(3)
في (ك): (أي)، ولعل الصواب:(على).
{وَلَهُمْ عَذَابٌ} ؛ أي: ولهم نوعٌ من العذاب سوى الصلي بالنَّار.
{مُقِيمٌ} : دائم كعذاب النَّار.
{كَالَّذِينَ} ؛ أي: أنتم مثلَ الذين مِن قبلكم، أو: فعلتم مثل الذين {مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} : منعة وبطشًا {وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} ؛ أي: كانوا أشد منكم قوةً وأقدر، فإذا كنتُم في سوء المعاملة مثلَهم وفي القوة دونهم، فما يُؤْمنكم أن يصيبكم من العقوبة مثلُ ما أصابهم.
ومَن وَهَمَ أنه بيانٌ لتشبيههم بهم وتمثيلِ حالهم بحالهم فقد وَهِمَ
(1)
، فافهم.
{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} الخَلَاقُ: النَّصيب، من الخَلْق بمعنى التَّقدير، وهو ما خُلق للإنسان؛ أي: قُدِّرَ له من خيرٍ، كما سُمِّيَ نصيبًا؛ لأنَّه نُصب له وأثْبِتْ
(2)
، وتقديمه على التشبيه المذكور بقوله:
{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} تمهيدٌ لذمِّهم بذمِّ الأوَّلينَ بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا واشتغالِهم بها، وذهولِهم بلذَّاتها الفانية عن التَّفكُّر في أمر الآخرة والنَّظرِ في العاقبة وطلبِ الفلاح، وتحصيلِ اللَّذات
(1)
في هامش (ف): "فإنَّ اعتبار التفصيل في الوصفين يرشد إلى ما ذكرنا".
(2)
في (ك): "لأنَّه نصيب له" وسقط منه "وأثبت".
الباقية؛ ليتقرَّرَ سوءُ حالهم وسماجةُ فعلهم في أنفسهم، ثم يتفطَّنوا ويتيقَّظوا
(1)
لقبحِ ما هم فيه بتشبُّههم واقتفاءِ آثارهم.
والاستمتاع: طلب المتعة، وهي فعلُ ما فيه اللذةُ من المآكل والمشارب والمناكح.
{وَخُضْتُمْ} ؛ أي: دخلتُم في الباطل {كَالَّذِي خَاضُوا} ، أي: كالذين خاضوا.
(الذي): اسمٌ ناقصٌ يُعبَّرُ به عن الواحد والجمع.
{أُولَئِكَ} الذين رضوا من آخرتهم بدنياهم {حَبِطَتْ} : بَطَلت {أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أمَّا في الآخرة فلأنَّه لا ثواب لهم ولا نجاة من العذاب، وأمَّا في الدُّنيا فلأنهم قصدوا بذلك توهينَ الإسلام وقهرَ أهله وعلوَّ أنفسهم، فأبطل الله تعالى كيدَهم وخيَّبَ أملَهم.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ذهبَ أموالهم فيما ضرَّهم ولم ينفعْهم، ولو ذهب فيما لا يضرُّهم ولا ينفعهم كان خسرانًا، فكيف وقد ذهب فيما يضرُّهم ولا ينفعهم؟!
أشارَ إلى الأوَّلينَ المستمتِعينَ؛ ليَعلَمَ المشبَّهون بهم أنَّ استمتاعَهم وتَلهِّيهِم سببٌ لحَبْط أعمالهم في الدُّنيا والآخرة وخسرانهم المطلَقِ، فيَرتدِعوا.
(1)
في (ك) و (م): "ويتعظوا".
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الاستفهام للتَّقرير والتَّحذير. والنَّبأُ: الخبرُ الذي له شأن.
{قَوْمِ نُوحٍ} أُغرِقوا بالطُّوفان {وَعَادٍ} أُهلِكوا بالرِّيح {وَثَمُودَ} أُهلِكوا بالرَّجفة.
{وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} هلك نمرود ببعوضٍ وكذا أصحابُه.
{وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} أُهلكوا بالرَّجفة على ما صرَّح في سورة الأعراف، والذين أُهلكوا بالنَّار يومَ الظُّلة هم أصحاب الأيكة من قوم شعيبٍ عليه السلام، ولم يقل: وقومِ شعيب؛ لأن كثيرًا منهم آمَنوا له عليه السلام، ولمثلِ هذا عدل فيما سبق من (قوم هود وقوم صالح عليهما السلام إلى:(عادٍ وثمود).
{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} الائتفاك: الانقلاب، والمرادُ: كلُّ مَنْ أُهْلِكَ مِنَ المكذِّبين المتمرِّدين، كما يُقالُ: انقلبَتْ عليه الدُّنيا، ويدخل فيهم دخولًا أوَّليًّا قوم لوط، ولو أريد بها قومه عليه السلام خاصَّة لكان حقَّها أن يُذكَر قبل أصحاب مدين.
{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الضَّمير لكلِّ ما تقدَّم ذكره من الأمم.
{فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} ؛ أي: لم يكن من عادته العقوبة بلا جُرم، ولمَّا تبيَّن هذا مما تقدَّم صَدَّره بأداة التَّفريع
(1)
، وهو كما يكون باعتبارِ الوجود يكون باعتبار
(2)
الظهور.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بإيقاعها فيما يوجب العقوبة، وتقديم المفعول يفيد التَّخصيص.
(1)
في (ك): "التقريع".
(2)
"الوجود يكون باعتبار" زيادة من (م).
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ذكر في مقابلة المنافقين والمنافقات، والمراد: المخلِصون والمخلِصات، وفي العبارة المذكورة إشارةٌ إلى أنَّ حقَّ الإيمان الإخلاص، وأنَّ المنافقين ليسوا
(1)
من جنس المؤمنين.
والمعنى: أنَّ ذكورَهم وإناثهم يتوالون على الدِّين ويتناصرون ويتعاونون، حتى إنَّ الرَّجلَ يخرجُ إلى الجهاد وامرأتَه تهيِّئ أسبابه، ويخرج النِّساء مع الرِّجال أيضًا، فيداوْينَ الجرحى، ويعالجْنَ المرضى، ويُصلحْنَ الطَّعام، ويحملْنَ الماء، وغير ذلك من المهمَّات.
واختيار كلمة التَّبعيض ثمَّة لشدَّةِ الارتباط فيما بينهم، وقوَّةِ اتِّفاقهم على الكفر والنِّفاق
(2)
، وإيثارُ عبارة الولاية هنا للإشارة إلى أن حقَّ الأخوَّة الإيمانيَّة الموالاةُ في المصالح الدِّينية وإنْ كان بينهم
(3)
معاداةٌ في المصالح الدُّنيويَّة.
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} التَّعريف في الموضعين للجنس.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} فهم يذكرون الله تعالى.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فلا يقبضون أيديَهم، والتعريفان
(4)
هنا للعهد، ولو
(1)
في (ف) و (ك): "ليس".
(2)
في (ف) و (ك): "والشقاق".
(3)
"بينهم" ليست في (م).
(4)
في (ك): "التعريفان".
حُمِلَ على الجنس نظرًا إلى أن المدح بالنَّوافل أبلغ، أو مَن يقيم النَّافلة أحرى بإقامة الفرض، لكانَ له وجهٌ.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنَّواهي.
{أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السِّين مؤكِّدةٌ للوعد، مُفيدةٌ لوقوع الرَّحمة لا محالة.
هذا ما بحسب جليل النَّظر، والذي هو بحسب دقيقه أنها مدخلةٌ في الوعد مهلةً لتكون النُّفوس تتنَّعم برجائه، وفضلُه تعالى زعيمٌ بالإنجاز
(1)
.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} ؛ أي: قويٌّ غالبٌ قادرٌ على قهر أعدائه وإعزاز أوليائه بجميع الوجوه.
{حَكِيمٌ} : يضع الأشياء مواضعها، فيخصُّ النِّقمة بالمنافقين والكفَّار، والرَّحمة بأعدائهم على حَسَب استحقا قاتهم، فليتعذَّبوا بكِلَا الأمرين، فهو من تتمَّة وعيد المنافقين على وجهٍ يتضمَّن وعد المؤمنين.
* * *
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ففيه انتقالٌ من التَّضمين والإشارة إلى التَّصريح؛ اهتمامًا لأمر البِشارة.
{جَنَّاتٍ} ؛ أي: السُّكونَ والقرارَ فيها.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لمَّا كان الموعود قرارهم فيها صحَّ أن يكون قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حالًا عنه بلا تأويلٍ.
(1)
في (م): "الإنجاز".
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} تستطيبُها النَّفس، أو يطيبُ فيها العيش، وفي الحديث أنها قصور من اللُّؤلؤ والزَّبرجد والياقوت الأحمر
(1)
.
{فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} مقامٌ معيَّن؛ لِمَا روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عدنٌ دارُ الله التي لم ترها عينٌ ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النَّبيُّون والصِّدِّيقون والشُّهداء"
(2)
.
وهذا لا ينافي تعميم الوعد لسائر المؤمنين، فإنَّ الموعود لهم ما
(3)
حوله من الجنَّات.
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: عَدْنٌ هي بُطْنانُ الجنَّةِ وسُرَّتُها
(4)
.
ولا يجوز أنْ يُراد به معناه اللُّغوي، وهو الإقامة والخلود؛ لِمَا فيه من التكرار في اعتبار معنًى واحد.
(1)
روى نحوه ابن المبارك في "الزهد"(1577)، والطبري في "تفسيره"(11/ 558)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 160) من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما، ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1839) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
ولفظ الطبراني: "عن الحسن، عن عمران بن حصين، وأبي هريرة، قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] قال: قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زبرجدة خضراء
…
". والحديث فيه كلام، وجعله ابن الجوزي في "الموضوعات" (1704). وكلمة: "الأحمر" من (م).
(2)
رواه البزار كما في "كشف الأستار"(3516)، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف"(3/ 1151)، وابن الجوزي في "العلل"(21)، وقال: هذا الحديث من عمل زيادة بن محمد، لم يتابعه عليه أحد.
(3)
في (ك) و (م): "ما في".
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35167)، والطبري في "تفسيره"(11/ 561).
وَعَدهم أوَّلًا بالرَّحمة المطلقة إجمالًا، ثمَّ فصَّلها وفسَّرها بما هو أبهى الأماكنِ التي يعرفونها من جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، ونكَّرها للتَّعظيم لتميلَ إليها طباعهم أوَّلَ ما تقرعُ أسماعَهم، ثمَّ زادَ عليها دفعَ وهم ما يُنَغَّصُ
(1)
به العيش، وهو زوال تلك النِّعمة، ثمَّ وصفَه بأنَّه محفوفٌ بطِيب العيش، معرًّى عن شوائب الكُدُورات التي لا يخلو شيء منها أماكن الدنيا.
وأمَّا زيادة قوله: {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} فلدفع وهم أن تكونَ تلك المساكن خارجةً عن الجنَّات، ويكونَ سكون المؤمنين فيها قبل الدخول في الجنة
(2)
.
ثمَّ وعدهم بما هو أكبر ممَّا تقدَّم ذِكْرُه فقالَ:
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أفرده بالذِّكْرِ ونوَّنه تعظيمًا في شأنه؛ أي: وشيءٌ من رضوان الله تعالى أكبر من ذلك كلِّه؛ لأن رضاه تعالى سببُ كلِّ فوزٍ وسعادةٍ، ومُوجِب كلِّ قُرْبٍ وكرامة.
روي أن الله تعالى يقول لأهل
(3)
الجنَّة: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقِكَ؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وأيُّ شيءٍ أفضل من ذلك؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكم أبدًا
(4)
.
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى جميع ما وعدهم، وقيل: إلى الرِّضوان خاصَّة لتعظيمه، وفيه
(1)
في (ك): "نغص"، وفي (م):"نقص".
(2)
"في الجنة" من (م).
(3)
في (ف): "أهل".
(4)
رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
إخراج ما عدا الرِّضوانَ المذكورَ عن حدِّ الفوز العظيم، ويأباه ما يأتي من قوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فإنه صريحٌ في دخوله في حدِّ الفوزِ المذكور
(1)
.
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لا ما يَعُدُّه النَّاس في الدُّنيا فوزًا؛ لأنَّه يَفنى ويتغيَّر دونه، وينقص ويتكدَّر بخلافه.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} المجاهرين بالقتل والسَّبي {وَالْمُنَافِقِينَ} بإلزام الحجَّة وإقامة الحدود، وتقديم الكفَّار لأنَّ جهادَهم أهمُّ وأتمُّ؛ لكونه باللِّسان أوَّلًا، وبالسِّنَان ثانيًا، وجهاد المنافقين بالثاني فقط.
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في الجهادين.
قال عطاء: نَسَخَتْ هذه الآيةُ كلَّ شيءٍ من العفو والصَّفح
(2)
.
{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} عطفه بالواو؛ دلالةً على أنَّ المذكورَ بعضُ ما أُعِدَّ لهم، فأضمرَ بعضَه ثمَّ عطف عليه ما ذكرَ، ولا يخفى ما فيه من التَّهويل.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هو.
(1)
في (ك): "في الحد المذكور"، وفي (ف):"في حد المذكور"، والمثبت من (م).
(2)
ذكره عن عطاء البغوي في "تفسيره" عند تفسير هذه الآية، وعزي أيضا لابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. انظر:"تفسير الثعلبي"(5/ 69).
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} روي أنَّه أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك
(1)
شهرين ينزل عليه القرآن وَيعيب المتخلِّفين، فقال الجُلَاس بن سُوَيْدٍ: لئن كان ما يقول محمَّدٌ لإخواننا حقًّا لنحن شرٌّ من الحمير، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره، فحلف بالله ما قاله، فنزلت
(2)
، فتاب الجُلَاس وحسُنَتْ توبتُه
(3)
.
{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} هي كلُّ لفظةٍ ترجع إلى الطَّعن في الدِّين أو في الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
{وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} ؛ أي: أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإسلام.
{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} وهو الفَتْكُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك.
{وَمَا نَقَمُوا} : وما أنكروا، أو: ما وجدوا ما يورِثُ نقمَتهم {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ} استثناء مفرَّغ من أعم المفاعيل والعلل، وعلى الأخير يكون الكلام على طريقة قولِ النَّابغة:
ولا عيْبَ فيهِمْ غيْرَ أنَّ سيوفَهم
…
بهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكتائِبِ
(4)
(1)
"في غزوة تبوك" من (م).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(11/ 569) عن عروة وابن إسحاق ومجاهد. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1843) عن كعب بن مالك وابن عباس رضي الله عنهم.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(18303).
(4)
انظر: "ديوان النابغة"(ص: 11). وقد تقدم مرارًا.
أو: ما نقموا إلَّا وحقُّه أن يُشْكَر، وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنكٍ من العيش، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فأَثْرَوا بالغنائم.
{وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} الضمير لله تعالى، وتوسيط ذِكْرِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأنَّه الواسطة في وصول الفضلِ المذكور منه تعالى إليهم.
{فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} والضمير في {يَكُ} للتَّوب، وهذا إحسان منه تعالى ورفقٌ بهم؛ حيث فتح لهم باب التَّوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة، وهذا هو الذي حمل الجُلَاس على التَّوبة.
{وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} بالإصرار على النِّفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالقتل وفي {وَالْآخِرَةِ} بالنَّار {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ينجيهم من العذاب باللُّطف أو بالعنف.
وإنَّما أفرد الأرض بالذِّكْرِ تخصيصًا لِمَا هو المحتمل بالنَّفي، وهذا أبلغ من ذكر السَّماء معها، والتَّصريح بنفي الولي والنَّصير فيه أيضًا
(1)
.
* * *
{وَمِنْهُمْ} ؛ أي: ومن المنافقين {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} قال الضحاك: هم نَبْتَلُ بن الحارث، وجَدُّ بن قيس، ومُعَتِّب بن قشير، وثَعْلَبة بن حاطب، وفيهم نزلَتِ الآية
(2)
.
(1)
لعله يعني: أن تخصيص الأرض بالذكر في نفي الولي والنصير لأنَّه لا ولي ولا نصير لهم في السماء قطعًا فلا حاجة لنفي ذلك في السماء.
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 227)، و"زاد المسير"(3/ 474).
روي أنه قال: يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يرزقني مالًا، فقال عليه السلام:"يا ثعلبةُ، قليل تؤدِّي شكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تطيقُه" فراجعَه، وقال: والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني مالًا لأعطينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فدعا له، فاتَّخذ غنمًا، فنمَتْ كما ينمو الدُّود، حتى ضاقَتْ بها المدينة، فنزل واديًا وانقطع عن الجماعة والجُمُعة.
فسأل عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: كثر مالُه حتى لا يسعه وادٍ، فقال:"يا ويحَ ثعلبة"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقَين لأخذ الصَّدقات، فاستقبلهما النَّاس بصدقاتهم، ومرَّا بثعلبة فسألاه الصَّدقة، وأقرأاه كتابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلَّا جزية، ما هذه إلَّا أخت الجزية، وقال: ارجعا منِّي حتى أراني، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه:"يا ويحَ ثعلبةَ" مرتين فنزلَتْ، فجاء ثعلبة بالصَّدقة، فقال عليه السلام:"إنَّ الله منعني أنْ أقبلَ منك"، فجعل يحثو التُّراب على رأسه، فقال عليه السلام:"هذا عملُك، قد أمرتُك فلم تُطِعني"، فقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يَقبلها، ثم جاء بها إلى عمر رضي الله عنه فلم يَقبلها، ثم جاء بها إلى عثمان رضي الله عنه فلم يَقبلها، وهلَك في زمن خلافته
(1)
.
{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الحجَّ
(2)
؛ ليلائم
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2253)، والطبري في "التفسير"(11/ 578)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7873)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 289 - 292) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال البيهقي: هذا حديث مشهور فيما بين أهل التفسير، وإنما يروى موصولًا بأسانيد ضعاف. وقال الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" (ص: 66): منكرٌ بمرَّة.
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 293). ورواه الطبري في "تفسيره"(22/ 671، 672) عن الضحاك بن مزاحم، وبمعناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، لكن في تفسير قوله تعالى:{إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
المعطوفَ عليه، أعني:{لَنَصَّدَّقَنَّ} إشارة إلى الزَّكاة، فيَحْسُن ترتيبُها على إيتاء المال المشار إليه بـ
(1)
{لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} ، ومن هنا قالوا: الصَّلاح في المال بعد النَّفقة
(2)
في الحجِّ والغزو.
* * *
(76) - {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} : منعوا حقَّ الله تعالى منه {وَتَوَلَّوْا} عن طاعة الله تعالى {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} : وهم قوم عادتُهم الإعراض عنها.
* * *
{فَأَعْقَبَهُمْ} ؛ أي: فعلُهم ذلك من البخل والتَّولي {نِفَاقًا} متمكِّنًا {فِي قُلُوبِهِمْ} لأنَّه كان سببًا فيه، والظاهر أنَّ الضَّمير لله تعالى، أي: فجعل عاقبة فعلهم ذلك نفاقًا ثابتًا في قلوبهم.
{إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} دلَّ على موتهم على النِّفاق، ولذلك لم يقبل الخلفاء زكاة ثعلبة.
والضَّميرُ للهِ تعالى، ويومُ لقائه: وقتُ
(3)
الجزاء، وابتداؤه من وقت الموت.
(1)
في (م): "بقوله".
(2)
في (ك): "الصدقة".
(3)
في (م): "يوم".
أو لفعلِهم، والأعمال تتجسَّم حينئذ، وتحصل الملاقاة حقيقةً، على ما ورد في الأحاديث الصحيحة وإنَّما لم يقل: إلى أن يموتوا؛ تنبيهًا على أن يوم الجزاء ابتداؤه من وقت الموت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه"
(1)
.
{بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى من التَّصدُّق والصَّلاح.
{وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} : وبكونهم كاذبين فيه، فإنَّ خُلْفَ الوعد أختُ الكذبِ، يجوز استعارة اسمه له. فيه وعيدٌ بالعذاب، وتهديدٌ بالعقاب. ثم عقبه تأكيدًا للوعيد بقوله:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} ؛ أي: المنافقون، وقرئ بالتَّاء الفوقانيَّة على الالتفات
(2)
.
{أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} ما أسرُّوه من النِّفاق والعزمِ على إخلاف الوعد، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدِّين، وتسميةِ الصَّدقة جزيةً، وتدبيرِ منعها.
{وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} فلا يخفى عليه شيء من ذلك.
(1)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1117) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 1013): رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" بإسناد ضعيف. ورواه الطبري في "تفسيره"(23/ 468) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه موقوفًا.
(2)
نسبت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسلمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص:54).
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} محلُّه النَّصب، أو الرَّفع على المدح، أو الجرُّ على البدل من الضَّمير في {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} . واللَّمزُ قد مرَّ تفسيره.
{الْمُطَّوِّعِينَ} : المتطوعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثَّ على الصَّدقة، فجاء عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، وأمسك مثلَها، فبارك له الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيما أعطاه وفيما أمسك، وتصدق عاصم بن عدي بمئة وسق تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاريُّ بصاعِ تمرٍ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرَّحمن وعاصم إلَّا رياء، وما تصدَّق أبو عقيل إلا ليُذْكَر مع الأكابر، أو ليذكِّرَه بنفسه لِيُعْطَى من الصَّدقات، والله غنيٌّ عن صاعه، فنزلَتْ
(1)
.
{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} وقرئ بالضَّم
(2)
، وهو مصدر جَهِدَ في
(1)
رواه أبو الشيخ في "تفسيره" عن الحسن مرسلًا مطولًا كما في "الدر المنثور"(4/ 252)، وللقصة شواهد رواها مفرقة الطبري في "تفسيره" (11/ 588 - 596). وانظر:"أسباب النزول" للواحدي (ص:254).
وخبر أبي عقيل رواه البخاري (1415)، ومسلم (1018) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
(2)
قراءة الضم هي قراءة السبعة، أما قراءة الفتح فهي قراءة شاذة نسبت لعطاء والأعرج ومجاهد. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 54). وكان الأولى بالمؤلف أن يصدر بالمتواتر. وانظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 91)، وفيه: ({وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} : إلا طاقتهم. وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر
…
)، فإما أن المؤلف عكس ما جاء فيه، أو أنه وقع في النسخ تحريف بين الضم والفتح.
الأمر: إذا بالغ فيه وحمل على نفسه
(1)
المشقَّة فيه، وقيل: هو بالضَّمِّ: الطَّاقة، وبالفتح: المشقَّة.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} ؛ أي: يهزؤون بهم.
{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} قد مرَّ بيانه في تفسير: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] من سورة البقرة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تنكير العذاب للتَّعظيم، ومعلوم أن العذاب لا يخلو عن ألم، فالتَّوصيف إنما يفيد إذا قصد به المبالغة، وتقديم الجار والمجرور لمحافظة الفاصلة.
* * *
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أراد الخبر عن تسوية الاستغفار وتركه في امتناع الغفران، كما نصَّ عليه في قوله تعالى:{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
وفائدة الأمر به وبتركه أن يُمتحن فيعلم يقينًا أنه لا يتفاوتُ في الحالَيْن عدمُ الغفران.
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} روي أنه سأل عبدُ الله أبنَ عبدِ الله، ابن أُبيٍّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - وكان رجلًا مخلصًا - أن يستغفر لأبيه في مرضه، ففعل، فنزلت، فقال عليه السلام: لأزيدن على السَّبعين، فنزلت:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]
(2)
.
(1)
في (ك) و (م): "نفس".
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 294)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 91)، وما بين معكوفتين منهما، وأورد =
وذلك لأنَّه عليه السلام فهم من السَّبعين العددَ المخصوص؛ لأنَّه الأصل، فجوَّز أن يكون
(1)
حدًّا يخالفه حكم ما وراءه، فبيِّن له أن المراد به التكثير
(2)
دون التَّحديد، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مئة ونحوها في التَّكثير؛ لاشتمال السبعة على جملةِ ما هو الأصول من كسور العدد، فكأنها العدد بأسره.
{ذَلِكَ} إشارة إلى امتناع الغفران، وعدمِ تأثير الاستغفار في حقِّهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني: أنَّ ذلك لعدم قَبولهم له بسبب كفرهم وتمرُّدهم في الفسق والعصيان، ولا لمنعي
(3)
ولا لتقصيرك.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} قد مرَّ أنَّه من قَبيل تنزيل الموجود منزلةَ المعدوم لعدم أثره {الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} المتمرِّدين في كفرهم.
وهذا كالدَّليل على الحكم السَّابق؛ فإنَّ مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر
= عليهما أنّ سورة براءة آخر ما نزل فكيف تكون هذه الآية نازلة بعدها. قاله الشهاب في "الحاشية"(4/ 349). وقال ابن حجر "الكافي الشافي"(ص: 78): (لم أجده بهذا السياق، وأصله في المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفى عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعصيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام يصلي عليه، فأخذ عمر رضي الله عنه بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلى عليه؟ فقال: "إنما خيرنى فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، وسأزيده على السبعين" فصلى عليه، فأنزل اللّه تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} فتُركت الصلاة عليهم. لفظ مسلم). قلت: رواه البخاري (4670، 4672)، ومسلم (2400).
(1)
"أن يكون" مكررة في (ك).
(2)
في (م): "الكثير".
(3)
في (ف) و (م): "بمنعي".
والإرشاد إلى الحقِّ، والمنهمِكُ في كفره المطبوعُ عليه لا ينقلع ولا يهتدي، والتَّنبيه على عذر النَّبي عليه السلام في استغفاره وهو عدم يأسه عليه السلام عن إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضَّلالة، والممنوعُ هو الاستغفار بعد العلم؛ لقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
* * *
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} : الذين لم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك.
المخلَّفُ: المتروكُ خلفَ مَن مضى. والفرحُ: انشراحُ الصَّدر بلذَّةٍ عاجلةٍ.
{بِمَقْعَدِهِمْ} ؛ أي: بقعودهم عن الغزو في المدينة عند خروجه عليه السلام.
{خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} نصبٌ على الظَّرف؛ أي: خلفَه، يُقال: أقام خلاف الحيِّ؛ أي: بعد ارتحالهم، ويعضده قراءة أبي حيوة:(خلف رسول الله)
(1)
صلى الله عليه وسلم على المصدر، أي: خالفوا رسول الله خلافًا، نحو قوله تعالى:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]؛ أي: اضربوا الرِّقاب ضربًا.
وقيل: هو بمعنى المخالفة؛ لأنهم خالفوه عليه السلام، وحينئذ يكون حالًا أو مفعولًا له؛ أي: مخالِفِين له، أو: للمخالفة.
{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} إيثارًا للموجود الفاني على الموجود الباقي
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 54).
{وَأَنْفُسِهِمْ} ترجيحًا للدَّعة على طاعة الله تعالى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: في طريق الغُزاة
(1)
.
والإضافة إلى الله تعالى للتَّشريف والتَّنبيهِ على أن الغزو
(2)
المحمود ما كان خالصًا لله تعالى.
وفي ذكر حالهم هذه في معرض القدح تعريضٌ لحال الباذلين أموالَهم وأنفسَهم في سبيل الله تعالى، المتحمِّلين للمشاقِّ لوجه الله تعالى بالمدح.
{وَقَالُوا} حُذف المقول له للتَّعميم؛ أي: قالوا لكلِّ مَنْ لاقَوه وقدروا على إغوائه وإضلاله:
{لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} في وقته؛ أي: لا تخرجوا للغزو؛ فإنه وقع في شدَّة
(3)
الحرِّ، لا يؤمَن معها قلَّةُ المياه، وهلاكُ الظَّهر، والضَّعفُ عن المشي.
فعاب الله هذا من قولهم، وهدَّدهم عليه بالنَّار بقوله:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} أُقيمت عليهم الحجَّة بأن قيل لهم: فإذا كنتم تجزعون من حرِّ القيظ فنار جهنَّم أشدُّ حرًّا، فأحرى أن تجزعوا منها.
وذِكْرُه في سياق الوعيد لهم يتضمَّن الدلالة على أن حالتهم هذه موجبة للتَّعذيب بنار جهنَّم.
{لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} الفقهُ: الفهم بالفطنة؛ أي: لو كان لهم فهمٌ وفطنةٌ لَمَا رغبوا
(1)
في النسخ: "الغزا"، فإن كان المراد: الغزاء، بمعنى الغزو، فلم أجده.
(2)
في النسخ: "الغزا"، وانظر التعليق السابق.
(3)
"شدة" ليست في (ف).
عن طاعة الله تعالى لِمَا فيها من التَّعب، وهو سببُ الرغبة فيها
(1)
؛ لأن الأجرة للعمل بقَدْر المشقَّة فيه، قال عليه السلام: "أفضل الأعمال أحمزُها
(2)
"
(3)
.
وأما ما قيل: استجهالٌ لهم؛ لأن مَن تصوَّن عن مشقَّة ساعةً فوقع بسبب ذلك التصوُّنِ في مشقَّةِ الأبد كان أجهلَ مِنْ كلِّ جاهل = فلا يناسبه إيثار {يَفْقَهُونَ} على: يعلمون.
* * *
(82) - {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} الفاء للتَّسبب.
والضَّحكُ: حالُ تفتُّحٍ
(4)
وانبساطٍ يظهر في وجه الإنسان عن تعجُّب مع فرحٍ.
والبكاءُ: حالٌ يَظهر في الوجه عن غمٍّ مع جَرْي الدُّموع على الخدِّ.
(1)
"فيها" ليست في (ف).
(2)
في (ف): "أحمدها".
(3)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 233)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 270)، و"غريب الحديث" للحربي (2/ 480). قال أبو عبيد: يروى هذا عن ابن جريج عمن يُحدِّثُه، عن ابن عباس.
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 130): قال المزي: هو من غرائب الأحاديث، لم يرو في شيء من الكتب الستة. وقال القاري في "الأسرار المرفوعة" (ص: 100): قال الزركشي: لا يعرف، وقال ابن القيم في "شرح المنازل": لا أصل له، قلت: ومعناه صحيح؛ لما في الصحيحين عن عائشة: "الأجر على قدر التعب". اهـ. قلت: رواه مسلم (1211/ 126) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "ولكنها على قدر نصَبك" أو قال: "نفقتك".
(4)
في (ف) و (م): "بفتح".
والأمر في الموضعين للتَّكوين، ومجيئه على صيغة المضارع لأن كون تلك الحال في الاستقبال.
وقيل
(1)
: إخبار عمَّا يَؤُول إليه حالهم في الدُّنيا والآخرة، أخرجه على صيغة الأمر للدَّلالة على أنه حتمٌ واجبٌ.
ومبناه على أن يكون الإخراج المذكور أقوى من إبقاء الإخبار على صيغته، ولا يخفى ضعفُه، كيف وما عليه الجمهور - وهو المشهور - أن إخراج الأمر على صيغة الإخبار أقوى من إبقائه على حاله؟!
ويجوز أن يكون المراد من الضحك والبكاء: فرطَ
(2)
السُّرور والغمِّ، ومن القلَّة: العَدَم، ومن الكثرة: الأبد.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من أنواع المعاصي، ويندرج فيه معصيتهم السَّالفُ ذكرُها اندراجًا أوَّليًّا، ففيه تقريرٌ وتعيين لِمَا دلَّ عليه الفاء السَّببيَّة.
والكسب: اجتلاب لفظ بما هُيِّئ له من الأسباب، فلا ينتظِم تركَ الواجب، والمفهوم إنَّما يُعتبر إذا لم يعارضه منطوقُ نصٍّ آخر.
والجمع بين (كان) وصيغةِ المضارع للدلالة على الاستمرار التجدُّدي، واعتباره
(3)
يناسب الإخبار عن الجزاء الدائم.
(1)
في (ف) و (م): "وما قيل".
(2)
في (م): "قوة".
(3)
في (ف) و (ك): "واعتبارها".
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ} الفاء للتفريع على ما تقدَّم، ورجع متعدٍّ من الرَّجع بمعنى الرَّد، والطَّائفة: الجماعة التي من شأنها أن تطوف، ولهذا لا يقال في جماعة الحجارة: طائفة.
والمراد: الجماعة المتخلِّفون، وإنَّما قال:{مِنْهُمْ} لأنَّ كلَّهم لم يكونوا منافقين، أو لأنَّ فيهم من تاب ومات، كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطيبة بطيب
(1)
الخاطر وحسن الاختيار، وأما وصوله إلى زمرة المنافقين فقد كان بكراهة واضطرار، فأُوثر صيغةُ المتعدِّي على اللازم للإشعار بهذه الدَّقيقة الأنيقة.
{فَاسْتَأْذَنُوكَ} الاستئذان: طلب الإذن، وهو رفع التَّبعة في الفعل أو التَّرك، وأصله أن يكون بقولٍ يُسمَع بالأذن.
والفاء فصيحة عاطفةٌ على مقدَّر، تقديره: فمن أراد الخروج إلى غزوة أخرى.
{لِلْخُرُوجِ} ؛ أي: معك. والخروج في الأصل: الانتقال عن محيط.
{فَقُلْ} جواب شرط: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ} نهيٌّ عن خروجهم معه عليه السلام إلى الغزاة، أخرجه على صيغة الإخبار للدلالة على وقوع الامتثال عنهم بالاضطرار، وعدمِ قدرتهم على المخالفة.
{أَبَدًا} الأبدُ: الزَّمان المستقبل من غير انتهاء إلى حدٍّ، ونظيره في الماضي:(قطّ).
(1)
في (ف): "تطييب"، وفي (م):"يطيب".
{وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} الأوَّل لإسقاطهم عن ديوان الغزاة خاصَّة، وهذا لإسقاطهم عن ديوان المجاهدين مطلقًا.
{إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} تعليلٌ للنَّهي المذكور، وكان إسقاطهم عن الدِّيوانَيْن المذكورَيْن آنفًا عقوبةً لهم عن التَّخلف بالاختيار بلا كره واضطرار
(1)
، لا على التَّخلُّف مطلقًا، وللإشارة إلى هذا أتى بعبارة الرِّضا.
{أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي الخَرْجة إلى غزوة تبوك.
{فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} من النِّساء والصِّبيان، وسائرِ مَن لا يليق بالجهاد من أصحاب الأعذار.
* * *
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ} هذه فضيحة لهم بعد الوفاة، وما ذُكر قبلها خزيٌ لهم في حال الحياة.
قال قتادة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيٍّ ابنِ سلولَ في مرض موته، وكان دعاه، فسأله أن يصلِّي عليه، ويقوم على قبره، ويكفِّنه في قميصه، ففعل ذلك، فنزلَتِ الآية
(2)
.
وعن عمر رضي الله عنه أنَّه قال: لَمَّا توفِّي عبدُ الله بنُ أبيٍّ ابنُ سلولَ ووضعناه لنصلِّي عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلْتُ: أتصلِّي على عدوِّ الله، القائل يوم كذا: كذا،
(1)
في (ف) و (ك): "للإكراه والاضطرار".
(2)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 161)، والطبري في "تفسيره"(11/ 614).
والقائل يوم كذا: كذا
(1)
، وعددتُ أيامه الخبيثة، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه، ثم مشى معه، وقام على حفرته حتى دفن وانصرف، فوالله ما لبث إلا يسيرًا حتى نزل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره
(2)
.
وإنما
(3)
قال: {مَاتَ} والمراد الاستقبال؛ لأنَّه كائن لا محالة.
وقوله: {أَبَدًا} منصوب بـ {تُصَلِّ} ، وبه صارت الآية محكَمة، لا بـ {مَاتَ} كما توهَّمه مَن قال: فإنَّ إحياء الكافر للتعذيب له دون التمتُّع، فكأنه لم يَحْيَ
(4)
.
ولم يَدْرِ أنه على التقدير المذكور أيضًا لا حاجة إلى التوجيه المزبور، بل لا وجه له؛ لأن الحياة في البرزخ لا تنافي استمرار الموت الواقع في الدُّنيا.
{وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} القبرُ: حفرةٌ يُدفَنُ فيها الميت، والمراد من القيام عليه معناه الحقيقيُّ، وهو نوع إكرام، وقيل: أراد به المباشرة بأسباب دفنه ومواراته، وعلى هذا يراد بالقبر معناه المصدريُّ، ويندرج فيه التَكفين، فلا يتمشَّى ما قيل: إنما لم ينهَ عن التَّكفين في قميصه، ونهى عن الصلاة عليه؛ لأن الضِّنة بالقميص كانت مُخلَّة
(5)
بالكرم، ولأنه كان
(6)
مكافأةً لإلباسه العبَّاس رضي الله عنه قميصَه حين أُسِرَ ببدر
(7)
.
(1)
"والقائل يوم كذا كذا" سقط من (م). وعبارة البخاري: "القائل يوم كذا وكذا: كذا وكذا".
(2)
رواه بنحوه البخاري (1366)، ومسلم (2400).
(3)
في (ف) و (ك): "إنما".
(4)
قائله البيضاوي في "تفسيره"(3/ 92).
(5)
في (ف) و (م): "مخلًا".
(6)
"كان" سقط من (ف).
(7)
رواه البخاري (3008) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
على أن ما ذكره لا يصلُح تعليلًا لعدم النَّهي عنه، لِمَا عرفتَ أنَّ نزول الآية المذكورة بعد الصَّلاة والتَّكفين، فيكون النَّهي على تقدير وروده عن العود إلى مثله.
وفي المرويات
(1)
قيل له عليه السلام: أَتُلْبِسُ عدوَّ اللهِ قميصَك؟ قالَ: "إنِّي لأرجو أنْ يُسلمَ بقميصي ألفٌ من بني الخزرج"
(2)
، وكان كذلك
(3)
.
{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تعليلُ النَّهي على سبيل الاستئناف.
{وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ، أي: كفروا وأصرُّوا عليه حتى ماتوا على الفسق؛ أي: الخروج عن الطَّاعة.
قال الإمام أبو منصور: سمَّى الله تعالى الكفَّار والمنافقين فاسقين في آيات وإن كان اسم الكافر والمنافق أبلغ في الذَّمِّ من اسم الفاسق؛ لأنَّ اسم الفاسق يأنف منه كل ذي دِينٍ، فإنَّه خروج عما تديَّن به، فأخبر الله تعالى أنهم مع تديُّنهم بالباطل فاسقون في معاملاتهم، خارجون عن دياناتهم، مستوجبون للمذمَّة بتلك الجهة أيضًا
(4)
.
(1)
في (ك): "الروايات"، وفي (م):"وفي بعض الروايات".
(2)
رواه ابن شبة في "أخبار المدينة"(732) عن الحسن، و (734) عن قتادة، وفيهما:(من بني النجار) بدل (من بني الخزرج). ورواه عن قتادة أيضًا الطبري في "تفسيره"(11/ 614)، وفيه:(من قومه).
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 463). وفيه: (فيروى أنه أسلم من بني الخزرج ألف لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم). قلت: وهذا كله لم يرد به خبر يصلح للاحتجاج به.
(4)
انظر: "تأويلات أهل السنة"(5/ 441).
{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ} قد مرَّ تفسيره
(1)
، ومعنى التَّكرير: المبالغةُ في التَّأكيد والتَّقرير، والأمر حقيق به؛ فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد، والقلوب مرتبطة بهما، والنفوس منقبضة
(2)
عليهما.
وإنَّما عطفت هاهنا بالواو دون الفاء لعدم صحَّة التفريع على ما تقدَّم، بخلاف ما سبق فإنَّ للتَّفريع ثمة
(3)
جهةً على ما بُيِّنَ هناك.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} لا تحسبنَّ أنَّ تمكينَ أهل النِّفاق من تنفيذ مرادهم وتكثيرِ
(4)
أموالهم وأولادهم إسداءُ معروفٍ مِنَ الله تعالى إليهم، أو إسباغُ إنعامٍ من لدنه عليهم، إنما ذلك مَكْرٌ بهم، واستدراجٌ لهم، وإمهالٌ لا إهمالٌ، والله قديرٌ مُتَعالٍ.
{وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} فيَعذَّبون بالنَّار في دار القرار أبدًا.
* * *
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} بتمامها على الحقيقة، أو بعضُها على المجاز؛ لأنَّه عَلَمٌ
(1)
في (ك): "التَّفسير".
(2)
في (ك): "مغتبطة" وفي (م): "معتبطة".
(3)
"ثمة" من (م)، وفي (ف):"التفريع".
(4)
في (ك): "وتكثر".
للمجموع المعيَّن، بخلاف القرآن والكتاب فإنَّه يقع كلٌّ منهما على الكلِّ والبعض على الحقيقة.
{أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} {أَنْ} هي المفسِّرة.
{وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} ؛ أي: جاهدوا الكفار متابِعينَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} : ذوو الفضل والسَّعة، مِنْ طال عليه طَولًا.
{وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} : الذين قعدوا عن الجهاد بعذرٍ.
* * *
(87) - {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} .
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} من النِّساء، جمعُ خالفة، وقيل: معناه: مع الخِسَاس
(1)
، من قولهم: فلان خالفةُ قومه: إذا كان دونهم في أسباب الفضل، وهذا تعييرٌ لهم وذمٌّ.
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ؛ أي: خُتِمَ عليها. إنَّما عطفه على ما تقدَّم بالواو دون الفاء؛ تنبيهًا على أنَّ الطَّبع المذكور ليس أثرَ الرضا المذكور، بل الأمرُ بالعكس.
{فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} فضلَ ما في الجهاد من السَّعادة الآجلة على ما في تركه من الرَّاحة العاجلة، ورجحانَ ما في التَّخلف من الشَّقاوة الباقية على ما في عدمه من المشقَّة الزَّائلة.
وعلى هذا يظهر وجه إيثار {لَا يَفْقَهُونَ} على (لا يعلمون).
(1)
في (ف): "الخسايس".
وأيضًا فيه تنبيا على أنَّ أثرَ الطَّبع إزالةُ الفطنة، لا إزالةُ
(1)
الفهم رأسًا حتى ينافيَ بقاء التَّكليف.
* * *
{لَكِنِ الرَّسُولُ} استدراك عمَّا تقدَّم من جهة المعنى، فإنَّ قوله تعالى:{رَضُوا} إلخ، في معنى: لم يجاهدوا أصلًا.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} ؛ أي: المخلِصين من المؤمنين، وإنما قال:{مَعَهُ} إفادةً لمعنى التَّبعيَّة له عليه السلام.
{جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} إنْ تخلَّفَ هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد مَنْ هو خيرٌ منهم وأخلصُ نيَّةً، كقوله تعالى:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38].
صرَّح هاهنا بما قدَّمه تعريضًا.
{وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} إنما أتى بالواو عطفًا على مُضمَر، كأنَّه قيل: فأولئك لهم النُّصرة والغَلَبة.
والمراد من الخيرات: أنواع الغنائم، فإنها جمع خَيْرَةٍ، تخفيف خَيِّرَةٍ، وهو المستحسن من كلِّ شيء، وكثر استعمالها في النِّساء، ومنه ما في قوله تعالى:{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]، ولهذا قيل: أريد هاهنا الحور.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين أدركوا بُغيتهم في الآخرة.
(1)
في (م): "لا زالت"، وفي (ف):"لإزلة".
والحصر في المواضع الثَّلاثة إضافيٌّ.
* * *
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بيانُ وجهِ إدراكهم
(1)
البُغية.
{خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قد مرَّ ما يتعلق به من التَّفسير.
* * *
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} يقال: أَعْذَرْتُ إلى فلان؛ أي: تكلَّمْتُ بالعذر فعَذَرني، أي: قبلَ عُذْري. واعتَذَرْتُ إليه، أي: أَقَمْتُ العذرَ الصَّحيح على أمري، وعذَّرتُ
(2)
بالتَّشديد؛ أي: أتيتُ بما هو في صورة العذر، ولا عذر لي فيه حقيقةً.
والآية قرئت بالتَّخفيف، وهو قراءة ابن عباس رضي الله عنهما
(3)
، وبالتَّشديد وهو قراءة سائر الناس.
فبالتَّخفيف مِن أَعْذَرَ، وبالتَّشديد من اعْتَذَر، على إدغام التَّاء في الذَّال ونقل حركتها إلى العين
(4)
.
(1)
في (م): "لإدراكهم".
(2)
في (ف) و (ك): "وعذرني".
(3)
كما في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 54)، وهي قراءة يعقوب من العشرة كما في "النشر"(2/ 280)، ورواية عن الكسائي - في غير المشهور عنه - كما في "جامع البيان" للداني (2/ 182).
(4)
كذا اقتصر المؤلف على هذا الوجه في تعليل التشديد، بينما ذكر الأئمة وجها آخر له بل وقدموه، =
إخبارٌ عن قومٍ أَتَوا بالعذر الصَّحيح فعُذِّروا - بالتَّشديد - من عذَّر
(1)
، [أو]
(2)
إخبارٌ عن أعراب تكلَّموا بالعذر ولا عذر لهم، فلم يُعذروا، وفي الآية ذمٌّ لهم.
وجملته: أنَّ نزول السُّورة في الجهاد صار النَّاس على أصناف:
منافقو أهل المدينة: وقد ذكرهم
(3)
في قوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86].
والمخلصون: وذكرهم في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} الآية [الأنفال: 74].
وأعراب أهل البادية ممَّن لهم عذرٌ حقيقةً أو لا عذر لهم: وذكرهم الله تعالى في هذه الآية على القراءتين.
وآخرون من الأعراب تخلَّفوا من غير استئذان: وذكرهم في قوله:
{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في ادِّعاء الإيمان، وفى ليله قراءة أُبَيٍّ رضي الله عنه:(كذَّبوا اللهَ) بالتَّشديد
(4)
.
= قال الزمخشري: {الْمُعَذِّرُونَ} من عذَّر في الأمر: إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ، وحقيقته أنه يوهم أن له عذرًا فيما يفعل ولا عذر له. أو: المعذرون بإدغام التاء
…
). ونحوه فعل البيضاوي وأبو حيان والآلوسي. انظر: "الكشاف"(2/ 300)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 93)، و"البحر"(11/)، و"روح المعاني"(10/ 461).
(1)
كذا قال المؤلف رحمه الله، والذي يقتضيه ما ذكره في أول الآية من معاني عذر وتصريفاتها أن يقول هنا:(فعُذِروا - بالتخفيف - من عَذَر)، وهو الموافق لما نقلناه عن الزمخشري في التعليق السابق.
(2)
زيادة يقتضيها السياق، فما قبلها هو المعنى على قراءة التخفيف، وما بعدها على التشديد بكلا وجهيه؛ أي: سواء كان من (عذَّر) أو من (اعتذر). انظر: "الكشاف"(2/ 300).
(3)
في (ف): "ذكر".
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 235)، و"الكشاف"(2/ 300).
ونسبها في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 54) إلى ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وأبي رجاء.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} : من الأعراب، وإنما قال:{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} لأن منهم مَن اعتذرَ للسَّامة
(1)
، لا للكفر.
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدُّنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنَّار.
وقوم آخرون من ضعفاء المسلمين لم يكن لهم عُدَّةٌ، فجاؤوا واستعانوا، وذكرهم في قوله:
* * *
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الذين لا قوَّة لهم بسبب كبر سنٍّ أو زَمانةٍ أو عرجٍ أو عمًى أو غير ذلك {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} الذين بهم علَّة يرجى زوالها، إلَّا أنَّه لا طاقةَ به في الحال {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} لفقرهم {حَرَجٌ}: إثمٌ في التَّأخير.
{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} النُّصح لله تعالى ولرسوله عليه السلام: الإيمان بهما، وطاعتُهما في السِّرِّ والعلن، والقيامُ بما يعود إلى الإسلام والمسلمين بالصَّلاح قولًا وفعلًا كما يفعله النَّاصح لمن ينصحه، ويندرجُ فيه اندراجًا أوَّليًّا ما قيل؛ أي: لم يثبِّطوا غيرهم من الموسرين والأصحَّاء عن الخروج، ولم يُوْهموهم أن قعودهم كان لجواز التَّخلُّف لكلِّ مَن أراده، بل بيَّنوا سببَ تخلُّفهم، ووضعوا القادرين عليه، وقاموا بأسبابهم عند خروجهم وأسبابِ مَن خلَّفوهم بالمعونة.
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ؛ أي: ليس عليهم جُناح، ولا إلى معاتبهم
(1)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(للسلامة)، وعند البيضاوي:(فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره). انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 93).
سبيل. وأمَّا وضع الظَّاهر موضعَ الضَّمير فللدَّلالة على أنَّهم موصوفون بصفةٍ تنافي العِتاب فيفيد المدح والتَّعليل.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} للمسيء، فكيف للمحسن؟!
* * *
{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} عطفٌ على {الضُّعَفَاءِ} ؛ أي: ولا حرج أيضًا على الأصحَّاء الذين لا يستطيعون المشي ويحتاجون إلى المركب وجاؤوك ليسألوك
(1)
مراكبَ تحملُهم عليها. يقال: حمل الأمير فلانًا: إذا أعطاه مركبًا.
{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} حالٌ من الكاف في {أَتَوْكَ} بإضمار (قد)، كقوله:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، أي: إذا ما أتوك قائلًا: لا أجد {تَوَلَّوْا} جوابُ {إِذَا} ، ويجوز أن يكون جوابًا لسؤالٍ مقدَّر كأنَّه قيل: فما حالُهم إذا أجابهم الرَّسول؟ قيل: تولوا، ويكون جوابُ {إِذَا} قولَه:{قُلْتَ} .
{وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} الفَيْضُ: هو السَّيلان عن الامتلاء.
{مِنَ الدَّمْعِ} {مِنَ} للبيان، كما في قولك: أفديك مِن رجلٍ.
قيل: محل الجارِّ والمجرور النَّصب على التَّمييز. ورُدَّ بأنَّ التَّمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جرُّه بـ (مِن).
(1)
في (ف) و (م): "يسألوك".
وأصل
(1)
الكلام: يفيض دمعُها، فعُدل إلى ما ذُكِرَ ليكون أبلغ، كأنَّ العينَ كلُّها دمع فيَّاض.
{حَزَنًا} مفعول له، أو حال، أو مصدر لفعلٍ دلَّ عليه ما قبله.
{أَلَّا يَجِدُوا} ؛ أي: لئلا يجدوا، متعلِّق بـ {حَزَنًا} ، أو بـ {تَفِيضُ} .
{مَا يُنْفِقُونَ} في مغزاهم.
فيه دلالة على أنَّهم مندرجون تحت قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} ، ويجوز أن يكون قوله:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ} معطوفًا على {الْمُحْسِنِينَ} عطفَ الخاصِّ على العام، ويحسِّن هذا قولُه:
{إِنَّمَا السَّبِيلُ} معرَّفًا بالألف واللَّام؛ إذ عاد على النَّكرة.
وكلمة {إِنَّمَا} ليست للحصر، بل هي للمبالغة فيما يريد تقريره، كما في قولِكَ: إنَّما الشُّجاع عنترة.
{عَلَى الَّذِينَ} السَّبيل قد يوصَل بـ (على) وبـ (إلى)، غير أنَّ وصلَها بـ (على) يقتضي ضعف
(2)
المتوصَّل إليه وقلَّة منعته، فلذلك حَسُنت في هذه الآية.
{يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} : واجدون الأُهْبةَ.
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ، كأنَّه قيل: ما بالُهم
(1)
في (ك): "أصل".
(2)
في النسخ: "صفة"، والتصويب من "المحرر الوجيز"(3/ 71).
استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالضَّعَة والدَّناءة والانتظامِ في سلك الخوالف؛ إيثارًا للدَّعة.
وفائدتُه: بيانُ سبب الاستئذان مع الغنى، وهو أمران: رضاؤهم بالدَّناءة، والطَّبعُ على قلوبهم بالخذلان حتى غفلوا وجهلوا وَخَامَة
(1)
عاقبتهم.
{فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} مغبَّته
(2)
.
قد حُصِرَ المعذِّرون في التَّخلُّف في ثلاثة أقسام: الذين فقدوا الاستطاعة البدنيَّة، والذين عدموا الاستطاعة الماليَّة، والذين استحملوه فلم يجدوا ما يحملُهم عليه.
* * *
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} في التَّخلُّف، خطابٌ للصَّحابة رضي الله عنهم {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} مِنْ هذا السَّفر.
{قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} بالمعاذير الكاذبة {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} علَّةٌ للنَّهي عن الاعتذار؛ لأنَّ غرضَ المعتذِرِ أنْ يُصَدَّقَ فيما يعتذِرُ به فلا يعاتَبَ، فإذا لم يُصَدَّقْ يَترك الاعتذار.
{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} علَّة لانتفاء التَّصديق؛ أي: أَعْلَمنا بالوحي إلى نبيِّه عليه السلام بعضَ أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشَّرِّ والفساد.
(1)
في (ك) و (م): "وخابت".
(2)
كلمة غير واضحة في (ك) و (ف)، وفي (م):"معنيه"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 94).
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} رؤيةُ العمل في مثل هذا المقام يكون كنايةً عن فعل الرَّائي ما يستحقُّه العاملُ بسببه؛ أي: سيرى الله تعالى أتُنيبون إليه وتتوبون، أم تَثْبتون على الكفر وتُصرُّون عليه. ففيه وعيدٌ بالإساءة في الدُّنيا، ووعدٌ بالإحسان فيها.
وتقديم {عَمَلَكُمْ} على قوله: {وَرَسُولُهُ} للفصلِ بين الرُّؤيتَيْن؛ تنبيهًا على أنَّ الثَّاني على حقيقته، والمراد مُوجَبُها، وهو الفصاحة على تقدير الثَّبات على الكفر، ولا يخفى أنَّه في غاية الإيجاز والفصاحة.
ثمَّ إنَّ في عبارة التَّسويف إشارةً إلى الإمهال لتدارك الإنابة، ففي الكلام استتابةٌ
(1)
على العطف وجيه
(2)
.
وإنَّما قلنا: إن ما ذُكِرَ مِن الوعد والوعيد في الدُّنيا؛ لأنَّ قولَه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وعدٌ ووعيدٌ في الآخرة.
وفيه تداركٌ لِمَا عسى أنْ يذهبَ إليه الوهم من قوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ} إلى ما لا يليق بشأنه تعالى من الحاجة إلى الرؤية، وسبق علمه ببعض الأشياء بالغفلة عنه، ولهذا وضع {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} موضعَ الضمير؛ أي: لا يخفى عليه خافية ممَّا في قلوبكم، ولا بادرة مما يظهر على ألسنتكم وجوارحكم، فيجازيكم به.
{فَيُنَبِّئُكُمْ} على رؤوس الأشهاد {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تشهيرًا لحالهم، وتقريرًا لو بالهم، وتذكيرًا لِمَا ذهب عن خيالهم وبالهم، على ما أفصح عنه في موضعٍ آخر بقوله:{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، فيتمنَّون عنده المسارعةَ بهم إلى النَّار لِمَا يُحيقهم
(3)
به من الخزي والعار.
(1)
في (ف) و (م): "اتنابة".
(2)
في (ك) و (م): "وجه"، والعبارة غير واضحة.
(3)
في (ف) و (م): "يحفهم".
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} لمَّا ذكر أنَّه يصدر منهم الاعتذار، أخبر ألَهم سيؤكِّدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف بالله، وأنَّ سببَ الحلف طلبهم أن يعرضوا عنهم إعراضَ صفحٍ فلا يلوموهم ولا يوبِّخوهم.
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} ؛ أي: فأجيبوا إلى طَلِبتِهم، وفي تعليل الإعراض عنهم بقوله:{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} دلالة على أنَّه إعراضُ مقتٍ؛ أي: مستقذَرون بما انطَوَوا عليه من النِّفاق، فيجب مباعدتُهم واجتنابهم
(1)
، كما قال في الآية الأخرى:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
وهذا أولى مما قيل: لا ينفع فيهم التَّأنيب فإن المقصود منه التَّطهيرُ بالحمل على الإنابة، وهؤلاء أرجاسٌ لا تقبل التَّطهير؛ لأنَّ قوله:
{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يفيد هذا المعنى؛ أي: إنَّهم أرجاسٌ من أهل النَّار، لا يجدي فيهم التَّوبيخ، والإفادة خير من الإعادة إليهم.
إلَّا أن يُقال: إنَّه تعليل آخر؛ أي: وكَفَتْهم جهنَّم عقابًا وتوبيخًا، فلا تتكلَّفوا في عقابهم.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مصدرٌ مؤكِّد، أو مفعول له، أو حال من {جَهَنَّمُ} .
(1)
في (ف) و (ك): "فيجب اجتنابهم".
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} حُذِفَ هاهنا المحلوف به وأُثْبِتَ فيما تقدَّم؛ اكتفاءً بذكره مرَّة، كما في قوله تعالى:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا} [القلم: 17].
وقوله تعالى: {لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} ؛ أي: غرضُهم من الحلف بالله طلبُ رضاكم لينفعهم في دنياهم.
{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ؛ أي: فإنَّ رضاكم عنهم لا ينفعُهم إذا كان اللهُ تعالى ساخطًا عليهم؛ لأنَّ سخطَ اللهِ تعالى يورثهم عقوبةَ الدُّنيا والآخرة، ورضاكم لا يستلزم رضاه.
والعدولُ عن الضَّمير إلى الظَّاهر للتَّسجيل عليهم بالفسق، والدلالة
(1)
على أنَّ سخطَه تعالى عليهم مسبَّب عن فسقِهم، فلا يحصل رضاه ما داموا فاسقين، وعلى أنَّ الحكم عامٌّ وإنْ كان سببُ الورودِ خاصًّا؛ لأنَّ العبرةَ لعموم اللَّفظ لا لخصوصِ السَّبب.
والمرادُ: نهيُهم عن الرِّضا عنهم والاغترارِ بمعاذيرهم.
لَمَّا ذكرَ حَلِفهم فيما سبقَ لأجل الإعراض جاءَ الأمرُ بالإعراض هنا؛ لأنَّها تتنوَّع بحسب الإعراض، فيكون المعنى على مقتضى الحكمة ولا كذلك الرِّضا، وقد ذكر هاهنا الحلف لأجل الرِّضا وأبرزَ النَّهي عنه في صورة الشَّرطيَّة إخراجًا له مخرجَ التَّردُّد فيه لأنَّه مِنَ الأمور القلبيَّة، بخلاف الإعراض فإنَّه محسوسٌ مشاهدٌ، وجعلَ جوابه انتفاءَ رضاء الله تعالى عنهم، فصار رضا المؤمنين أبعدَ شيءٍ من الوقوع؛ لأنَّ اللَّائق بهم أن لا يرضَوا عمَّنْ لا يرضي الله عنهم.
(1)
في (ك) و (م): "وللدلالة".
{الْأَعْرَابُ} : سكان البوادي {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر؛ لأنَّهم كانوا في البوادي، ولا محالةَ أنَّ خوفَهم هنالك أقلُّ من خوف منافقي المدينة، فألسنتُهم لذلك أطلق، ونفاقُهم أشقُّ إزالةً؛ لقساوة قلوبهم.
{وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ} وأحقُّ بأن لا يعلموا؛ لبعدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيبتهم عن مجالسته، وقلَّة ما يَرِدُ عليهم من مواعظ
(1)
القرآن.
{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} من الأوامر والنَّواهي؛ لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وقوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : يعلمُ حالَ كلِّ واحدٍ مِنْ أهلِ الوَبَر والمَدَر.
{حَكِيمٌ} فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابًا وثوابًا.
ذِكْرُ العِلم بعد العملِ أبلغُ وعدٍ ووعيدٍ، وأكملُ بشارةٍ وتهديدٍ.
* * *
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ} : يصرفُه في سبيل الله ويتصدَّق به
(2)
.
{مَغْرَمًا} : غرامةً وخسرانًا؛ أي: يجعلُه مقصدَه، ولا يرى فيه غير ذلك؛ إذ لا يحتسبُه عند الله، ولا يرجو عليه ثوابًا، وإنَّما ينفقُ رياءً أو تَقيَّة.
(1)
"مواعظ" من (م).
(2)
في (ك): "بصرفه
…
وبتصدق"، والمثبت موافق لما في "تفسير البيضاوي" (3/ 95).
وأصل الغُرْمِ: الدَّين، ومنه تعوّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغرَمِ والمأثم
(1)
، ولكنْ كثر استعمالُه فيما يؤديه
(2)
الإنسان مما لا يلزمُه بحقٍّ، وفي لفظه معنى اللُّزوم، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65].
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} الدَّائرة في الأصل: مصدرٌ سُمِّيَ به كالعاقبة، أو اسمُ فاعل من دار يدور، سُمِّيَ به عُقبةُ الزَّمان التي لا مخلَص عنها، فهي تحيط الشَّيء كما تحيط الدَّائرة.
ويحتمل أن يؤخذ من دور الزَّمان؛ أي: ينتظِر بكم ما تأتي به الأيَّام وتدور به من النَّوائب؛ لينقلبَ الأمر عليكم فيتخلَّصوا من الإنفاق
(3)
.
{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاءٌ عليهم بنحو ما تربَّصوا به، معترِضٌ كقوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64].
{السَّوْءِ} بالفتح، وهو ذمٌّ للدائرة أضيف إليه
(4)
، كقولك: رجلُ سَوءٍ؛ لأنَّ مَن
(5)
دارت إليه ذمَّها بالسوء.
وقرئ بضم السِّين
(6)
، قيل: بالفتح المصدر، وبالضَّم الاسم.
وقال أبو علي: معنى الدَّائرة يقتضي معنى السوء، فإنما هي إضافة بيانٍ وتأكيدٍ، كما قالوا: شمس النَّهار، ولَحْيَا رأسه، ولا يقال: رجل سَوءٍ، إلَّا بفتح السين، ولهذا
(1)
رواه البخاري (832)، ومسلم (589)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في (م) و (ك): "يدريه"، وفي (ف):" بدريه". والصواب المثبت.
(3)
في (م) زيادة: "عليهم".
(4)
فهو من إضافة الموصوف إلى صفته. انظر: "البحر"(11/ 407).
(5)
"من" سقطت من (ف) و (ك).
(6)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 119).
لم تختلف القرَّاء في فتح السين في قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28]
(1)
.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لِمَا يُظهرونه عند الإنفاق {عَلِيمٌ} بما يضمرونه من النِّفاق.
* * *
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لمَّا ذكر مَن يتَّخذ ما ينفق مغرمًا ذكرَ مُقابِلَه، وهو مَن يتَّخذ ما ينفق مَغنمًا، وذكر هاهنا الأصل الذي يترتَّب عليه إنفاق المال في القُرُبات، وهو الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر؛ إذ
(2)
جزاء ما ينفق إنما يَظهر ثوابه الدَّائم في الآخرة، وقد اكتفى ثمَّة بذكر سجيَّة الكفر، وهو اتِّخاذ ما ينفق مَغرمًا والتَّربُّصُ بالمؤمنين الدَّوائر.
{وَيَتَّخِذُ} ؛ أي: يجعل مقصدًا {مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} سببَ قُرباتٍ، وهو ثاني مفعولي (يتخذ)، (وعند الله) صفتُها، أو ظرفٌ لـ (يتخذ).
{وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} : سببَ صلواته؛ لأنَّه عليه السلام كان يدعو للمتصدِّقين، ويستغفر لهم، ولذلك سُنَّ للمتصدَّق عليه أن يدعوَ للمتصدِّق عند أخذ صدقته، لكن ليس له أن يصلِّي عليه كما قال عليه السلام:"اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى"
(3)
؛ لأنَّه منصبُه، فله أن يتفضَّلَ به على غيره.
(1)
انظر: "الحجة" للفارسي (4/ 206)، و"المحرر الوجيز"(3/ 74)، وعنه نقل المؤلف.
(2)
في (ك): "إن".
(3)
رواه البخاري (1497)، ومسلم (1078)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.
أقيم المسبَّب مقام السَّبب في الموضعين لقوَّة الاستلزام، وشدَّة التَّشوُّق إلى اللَّازم.
{أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} شهادةٌ من الله تعالى للمتصدِّقين بصحَّة ما اعتقدوه على أبلغ الوجوه؛ من التَّأكيد بالاستئناف و (ألا) و (إنَّ) المفيدين للتَّحقيق وثبات الأمر وتمكُّنه.
وتنكير {قُرْبَةٌ} للتَّعظيم، والضَّمير لنفقتهم.
{سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} تصديقًا
(1)
لرجائهم؛ لِمَا في السِّين من تحقيق الوعد بإحاطة الرَّحمة عليهم.
وما أقوى دلالة هذا الكلام على رضى الله تعالى على
(2)
المتصدِّقين، وأنَّ الصَّدقة من الله تعالى بمكانٍ إذا خَلَصت النيَّة من صاحبها.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئنافٌ لتقرير ما وعد لهم.
* * *
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} : هم الذين صلَّوا إلى القبلَتَيْن، وقيل: هم الذين شهدوا بدرًا {وَالْأَنْصَارِ} : أهلِ بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعةَ نفر، وأهلِ العقبة الثَّانية، وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عُمَير.
(1)
في (ك): "تصديق".
(2)
في (م): "عن".
وقرئ بالرَّفع عطفًا على (السابقون)
(1)
.
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} اللَّاحقون بالسَّابقين من القبيلين، والذين اتَّبعوهم بالإيمان والطَّاعة إلى يوم القيامة.
{بِإِحْسَانٍ} بإخلاصٍ، قال الله تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112].
{رضي الله عنهم} لطاعتهم وأعمالهم {وَرَضُوا عَنْهُ} لإفاضته عليهم نعمه الدِّينية والدُّنيويَّة.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} وقرئ: {مِنْ تَحْتَهَا}
(2)
.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قد مرَّ تفسيره.
* * *
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} ؛ أي: حول بلدتكم وهي المدينة {مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} وهي جُهَينةُ ومُزينةُ وأَسْلَمُ وأَشْجَعُ وغِفَارٌ.
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} عطفٌ على (ممن حولكم)، أو خبرٌ لمحذوف صفته:{مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} ؛ أي: دربوا فيه، ومَرَدوا عليه
(3)
، ولجُّوا فيه، وهو يستعمل في الشَّرِّ لا في الخير، ونظيره في حذف الموصوف وإقامةِ الصِّفة مقامه، قوله:
(1)
قرأ بها يعقوب من العشر. انظر: "النشر"(2/ 280).
(2)
وهي قراءة ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 119).
(3)
قوله: "ومردوا عليه"، لا وجه لذكره هنا لأنَّه من تعريف الشيء بنفسه.
أنا ابنُ جَلا وطلَّاع الثَّنايا
(1)
وعلى الأوَّل صفة للمنافقين فُصلَ بينها وبينه بالمعطوف على الخبر، أو كلامٌ مبتدأ لبيان تمرُّنهم وتمهُّرهم في النفاق.
{لَا تَعْلَمُهُمْ} : لا تعرفُهم بأعيانهم، بيانٌ لقوله:{مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} ؛ أي: بلغوا من مهارتهم فيه إلى أنْ خَفِيَ حالهم عليك مع كمال فطنتك وصدقِ فِراستك؛ لتنوُّقهم
(2)
في توقِّي مواقع التُّهم.
{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تأكيدٌ للبيان؛ لإفادة تقديم الضَّميرِ التَّخصيصَ؛ أي: لا يعلمهم إلَّا الله وحده، ولا يطَّلع على سرِّهم غيرُه لشدَّة إبطانهم الكفر وإظهارهم
(3)
الإخلاص.
وحملُ {مَرَدُوا} على الاستئناف أبلغُ وأنسبُ لهذه المبالغة.
{سَنُعَذِّبُهُمْ} فيه تحقيق لعذابهم بموجب علمه.
{مَرَّتَيْنِ} بالفضيحة والقتل، أو بأحدهما وعذابِ القبر، أو بأخذِ الزكاة ونهكِ الأبدان، ويحتمل أن لا يراد بها شَفْعُ الواحد، بل يكون المعنى على التَّكثير، كقوله:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} [الملك: 4]؛ أي: مرَّةً بعد مرَّةٍ.
{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} إلى عذاب النَّار في دار القَرار.
(1)
صدر بيت لسحيم بن وثيل اليربوعي. انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 207)، و"الأصمعيات" (ص: 16)، و"الشعر والشعراء" (2/ 643). وعجزه:
متى أضع العمامة تعرفوني
(2)
في (ك): "لتفوقهم". والمثبت من (ف) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"، والتنوق: التصنع والتكلف بإظهار النيقة وهي الحذف وما يعجب الناظر. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 359).
(3)
في (ك): "وإظهار".
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} ؛ أي: لم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة من تخلُّفهم واعترفوا بتقصيرهم ومخالفتهم نادمين.
وهم طائفة من المتخلِّفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لَمَّا بلغهم ما نزل في المتخلِّفين، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد على عادته، فصلَّى ركعتين، فرآهم فسأل عنهم، فذكر أنهم أقسموا أن لا يحلُّوا أنفسهم حتَّى تحلَّهم، فقال: وأنا أقسم أنْ لا أحلَّهم حتى أؤمر فيهم، فنزلت فأطلقهم
(1)
.
{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} هو إظهار النَّدم والاعتراف بالذَّنب.
{وَآخَرَ سَيِّئًا} هو التَّخلُّف وموافقة أهل النِّفاق.
والواو في الخلط أبلغ من الباء؛ لدلالتها على كون كلٍّ منهما مخلوطًا ومخلوطًا به، بخلاف الباء لإفادتها أن يكون أحدهما مخلوطًا والآخر مخلوطًا به.
ويجوز أن تكون بمعنى الباء، والمفعول محذوف، و {عَمَلًا} بدل منه، من قولهم: بعْتُ الشَّاة شاةً ودرهمًا.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: يقبلَ توبتَهم، وهي مدلولٌ عليها بقوله:{اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} .
قال الكلبي: (عسى) من الله تعالى واجب
(2)
؛ أي: هو إطماعٌ، وإطماع الكريم إيجاب.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(11/ 651)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 271)، وابن مردويه كما في "الكافي الشاف" (ص: 80) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
قطعة من الخبر السابق عن ابن عباس.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يتجاوز عن التَّائب ويتفضَّل عليه.
قال بعض العلماء: المسيء منَّا إلى مخلوق إذا خافه لم يخلصه من ذلك إلا شيئان: الإنكار والفِرَار، والمسيء في حقِّ الله تعالى لا ينجيه إلَّا شيئان: الإقرار والقَرار.
قال قائلهم:
أَقْرِرْ بذنبكَ ثمَّ اطلبْ تجاوُزَه
…
واعلمْ بأنَّ جحودَ الذَّنْبِ ذَنبانِ
(1)
* * *
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} روي أنهم لما أُطْلِقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلَّفَتْنا عنك فتصدَّق بها وطهِّرنا، فقال عليه السلام:"ما أُمِرْتُ أنْ آخذَ مِنْ أموالِكم شيئًا"، فنزلَتْ
(2)
.
{تُطَهِّرُهُمْ} عن الذُّنوب، أو حبِّ المال المؤدي لهم إلى مثله، صفةٌ لـ {صَدَقَةً} ، والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث.
وقرئ: (تُطْهِرُهُمْ)
(3)
من أَطَهَره بمعنى طَهَّره، وقرئ:(تُطَهِّرْهم) بالجزم جوابًا للأمر
(4)
.
(1)
بلا نسبة في "الأغاني"(13/ 128)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 170)، و"محاضرات الأدباء"(1/ 285).
(2)
قطعة من خبر ابن عباس المتقدم.
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 54).
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 307)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 96).
ولم يُقرأ: {وَتُزَكِّيهِمْ} إلا بإثبات الياء. والتَّزكيةُ: مبالغةٌ في التَّطهير، وزيادةٌ فيه، أو
(1)
الإنماء والبركة في المال.
{بِهَا} ؛ أي: بالصَّدقة {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} : واعطف عليهم وترحَّم بالدُّعاء والاستغفار لهم.
{إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} : تسكنُ إليها نفوسُهم، وتطمئنُّ قلوبُهم بأنَّ الله تعالى قَبِلَ توبتَهم. وجمعها لتعدُّد المدعوِّ لهم.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} يسمع اعترافهم بذنوبهم {عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم من الغمِّ والنَّدم وصدق التَّوبة.
* * *
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} الضمير إمَّا للمَتوب عليهم، والمراد: أنْ يُمكَّن في قلوبِهم قَبولُ توبتهم، والاعتداد بصدقاتهم، أو لغيرهم والمراد التَّحضيض عليهما.
{أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} إذا صحَّت، لا رسولُه ولا غيرُه.
{عَنْ عِبَادِهِ} تعدية {يَقْبَلُ} بـ {عَنْ} لتضمُّنه معنى التَّجاوز.
{وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} إذا صدرَتْ عن خلوص النِّيَّة.
وأخذها مجاز عن قَبولها، وقَبولُها كناية عن إعطاء الثَّواب في مقابَلته، كما هو شأن الكريم.
(1)
في (ف): "و".
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : وأنَّ مِنْ شأنه قَبولُ توبةِ التَّائبين مرَّةً بعدَ أخرى، والتَّفضُّلُ عليهم بالتَّجاوز عمَّا وقع بين التَّوبتَيْن، والواو للعطف على مُقدَّر، كأنَّه قيل: إن الله هو البَرُّ الكريم، تعليل للكناية المذكورة، وحذفُ أداة التَّعليل لأنَّه قياسيٌّ
(1)
، وتقديمُه على ما ذكر في تعليل قَبول التَّوبة للتَّقريب بين التَّعليل والمعلَّل مهما أَمْكَن، فتأمَّل.
* * *
{وَقُلِ اعْمَلُوا} ما شئتم، ظاهرُه أمرٌ وباطنُه وعدٌ ووعيدٌ، والخطاب للجميع.
{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} خيرًا كان أو شرًا، وقد مرَّ بيانُه.
{وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وفي الخبر: لو أنَّ رجلًا عمل في صخرة لا بابَ لها ولا كوَّة، يخرج عمله إلى النَّاس كائنًا ما كان
(2)
.
{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قد مَرَّ بيانُه، وإنَّما أتى هنا بدل (ثم) حرفُ
(1)
في (ف): "مع أن قياسي"، وفي (ك) و (م):"مع أنه قياس". والصواب المثبت. انظر: "حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 361 - 362). ثم نقل الشهاب تعقبًا عليه فقال: (وقيل عليه: إنه لا حاجة إلى الاعتذار عن حذف أداة التعليل؛ لإمكان تقديرها في المعطوف عليه المقدر، وكل ذلك من ضيق العطن).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(11230)، وأبو يعلى في "مسنده"(1378)، وابن حبان في "صحيحه"(5678)، والحاكم في "المستدرك"(7877) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
التَّقريب
(1)
؛ لأنَّ كلَّ آتٍ قريبٌ؛ ولأنَّ الرَّدَّ عند الموت، وهو محتملٌ في كلِّ آنٍ، والمقام مقام التَّحذير، فلا يناسبه أداة التَّسويف.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وعدٌ في حقِّ المحسن، ووعيدٌ في حقِّ المسيء.
* * *
{وَآخَرُونَ} من المتخلِّفين {مُرْجَوْنَ} قرئ بالهمزة من أرجأه، وبغير الهمزة من أرجيته
(2)
، ومعناه: مؤخَّرون؛ أي: موقوفٌ أمرُهم.
{لِأَمْرِ اللَّهِ} ؛ أي: إلى أمر الله تعالى في شأنهم.
{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} ؛ أي
(3)
: إن أصرُّوا ولم يتوبوا {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إنْ تابوا.
والتَّرديد لنا، ولدفع وهم أن يكون له تعالى قال:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأعمالهم ونيَّاتهم {حَكِيمٌ} بما
(4)
يَفعل بهم، ويدخل فيه أمر التَّأخير دخولًا أوَّليًّا.
وقرئ: (غفورٌ رحيمٌ)
(5)
.
والمراد بهؤلاء كعبُ بن مالك وهِلالُ بن أميَّة ومُرارةُ بن الرَّبيع، أمرَ
(1)
في (ك): "للتقريب".
(2)
قرأ بالهمز ابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وابن عامر، والباقون بغير همز. انظر:"التيسير"(ص:119).
(3)
"أي" سقط من (ك).
(4)
في (م): "فيما".
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 309)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 97).
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصحابَه رضي الله عنهم أن لا يسلِّموا عليهم ولا يكلِّموهم، فلمَّا رأوا ذلك أخلصوا نيَّاتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله تعالى
(1)
.
* * *
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} عطف على {وَآخَرُونَ} ، أو نصب على الذَّم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهم الذين، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا.
والواو عاطفة الجملة على الجملة
(2)
.
وقرئ بغير الواو
(3)
، فاحتَمَل أن يكون بدلًا من قوله:{وَآخَرُونَ} ، وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أو مبتدأً محذوفَ الخبر.
و {تَّخَذُوا} هنا تعدَّى إلى واحد
(4)
كما في قوله: {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 14]؛ أي: عَمِلته.
{ضِرَارًا} ؛ أي: مُضارَّة، مفعولٌ لأجله، لمَّا ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين
(1)
روى حديثهم مطولًا البخاري (4418)، ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(2)
"على الجملة"من (م).
(3)
وهي قراءة نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 119).
(4)
في (ك): "لواحد".
أقوالًا وأفعالًا، ذكر أنَّ منهم مَن بالغ في الشَّرِّ حتى ابتنى مجمعًا للمنافقين يرتِّبون ما شاؤوا فيه من الشَّرِّ، وسمَّوه مسجدًا.
{وَكُفْرًا} : وتقويةً للكفر الذي يُضْمِرونه.
رُوي أن بني عمرو بن عوف لمَّا بنوا مسجد قُبَاء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلَّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجدًا على قصد أن يؤمَّهم فيه ابن عامر الرَّاهب إذا قدم من الشَّام
(1)
.
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} المجتمعين على الصَّلاة في مسجد قباء؛ لأنهم أرادوا أن يتفرَّقوا عنه وتختلفَ كلمتهم.
{وَإِرْصَادًا} : وترقبًا {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ} : لأَجْل مَن حارب الله
(2)
يعني: الرَّاهب، فإنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحُد: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم، فلم يزل يقاتله عليه السلام إلى يوم حنين، انهزم مع هوازن، وهرب
(3)
إلى الشَّام، ليأتيَ من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بقِنَّسْرين وحيدًا
(4)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 309)، وقال ابن حجر في "الكافي الشاف" (ص: 81): (لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد، وليس صدره بصحيح فإن مسجد قباء كان قد أسس والنبي صلى الله عليه وسلم بقباء أول ما هاجر، وبني مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك فبينهما تسع سنين). قلت: وفي ذكر أن الباعث على بنائه حسدهم لإخوانهم نظر، فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم بنوه ضرارًا وكفرا وتفريقا، ولو كان ذلك لمجرد الحسد لما بالغ القرآن في ذمهم، والرسول عليه السلام في هدمه وتحريقه كما سيأتي.
(2)
"لأجل من حارب الله" من (م).
(3)
"وهرب" سقط من (ك).
(4)
انظر: "سيرة ابن هشام"(1/ 585)، و"تفسير الثعلبي"(5/ 92)، و"زاد المسير"(3/ 499)، و"الكشاف"(2/ 310). وقنسرين بكسر القاف وفتح النون المشددة فتحها أبو عبيدة سنة (17 هـ)، وكانت هي وحمص شيئًا واحدًا. انظر:"معجم البلدان"(4/ 403).
{وَرَسُولَهُ} ذِكْرُ اللهِ تعالى تمهيدٌ لتعظيم أمر محاربته عليه السلام.
{مِنْ قَبْلُ} متعلِّق بـ {حَارَبَ} ، أو بـ {اتَّخَذُوا}؛ أي: اتخذوا مسجدًا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتَّخلف؛ لِمَا رُوي أنه بُنِيَ قُبيلَ غزوة تبوك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فقال:"أنا على جَناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله صلَّينا فيه"، فلما قفلَ كُرِّر عليه، فنزلَتْ، فدعا بجماعة منهم الوحشيُّ، فقال لهم: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه فاهدِموه وأَحْرقوه، ففُعِلَ، واتُّخِذَ مكانه كناسةً
(1)
.
{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} : ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى، أو: الإرادة الحسنى، وهي الصَّلاة والزَّكاة والتَّوسعة على المصلِّين، فإنَّهم قد قالوا لَمَّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أتمُّوا بناءه: إنَّا قد بنيناه مسجدًا لذي الحاجة والعلَّة واللَّيلة المطيرة والشَّاتية
(2)
. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في حَلِفهم.
* * *
{لَا تَقُمْ فِيهِ} أراد القيام للصَّلاة، كما في قوله عليه السلام:"مَنْ صامَ رمضانَ وقامَه"
(3)
.
(1)
انظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 530)، وروى نحوه الطبري في "تفسيره"(11/ 673) عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة.
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 97).
(3)
رواه أبو داود (1371)، والترمذي (683)، وابن ماجه (1326) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} يعني: مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسِّسَ لإحياء دين الله تعالى وإظهار شريعته التي لا يقوم بها إلَّا مَنِ اتَّقى اللهَ تعالى.
قال أبو سعيد الخدري وأبيُّ بن كعب رضي الله عنه: قال النَّبي عليه السلام: "هو مسجدي هذا"
(1)
.
{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} من أيَّام وجوده.
وقيل: هو مسجد قُباء؛ لأنَّه
(2)
أوفق للقصَّة.
والأوَّل هو الوجه؛ لأنَّه لا نظر مع الحديث
(3)
؛ ولأنه أوفق لقوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} أولى بأن تصلِّي فيه.
{فِيهِ رِجَالٌ} التَّنكير للتَّعظيم {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} من المعاصي والخصال المذمومة؛ طلبًا لمرضاة الله تعالى، وقيل: من الجنابة فلا ينامون عليها.
استئنافٌ تعليليٌّ يتضمَّن الإشارة إلى أن صلاح جماعة من أسباب ترجيح الصلاة في مسجدهم.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} يرضى عنهم ويُدْنيهم من جَنابه إدناءَ المحبِّ حبيبَه.
روي أنَّه عليه السلام قال: "يا معشر الأنصار، رأيت الله قد
(4)
أثنى عليكم
(1)
رواه مسلم (1398)، والترمذي (3099)، والنسائي (697)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. واللفظ للترمذي والنسائي.
ورواه الإمام أحمد في "المسند"(21107)، والحاكم في "المستدرك"(3284) وصححه، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
في (ف) و (م): "لأنَّه هو".
(3)
في النسخ: "لا نظر مع نظر"، والصواب المثبت. انظر:"المحرر الوجيز"(3/ 82).
(4)
"قد" من (م).
بالطُّهور، فماذا تفعلون عند الغائط؟ " فقالوا
(1)
: نُتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نُتبع الأحجار الماء فتلا:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}
(2)
.
* * *
{عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} ؛ أي
(3)
: بنيانَ دينِه.
{عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} : على قاعدةٍ محكَمة هي التَّقوى من الله تعالى وطلبُ مرضاته بالطَّاعة.
{خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} على قاعدةٍ هي أضعف القواعد وأرخاها.
الشَّفا: الحَرْف والشَّفير.
(1)
في (م): "قالوا".
(2)
روى نحوه الإمام أحمد في "المسند"(15485)، وابن خزيمة في "صحيحه"(83)، والطبراني في "الكبير"(17/ 348)، من حديث عويم بن ساعدة الأنصاري رضي الله عنه.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 212): رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، وفيه شرحبيل ابن سعد، ضعفه مالك وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان. وقال الحافظ في "التقريب": وفي سماعه من عويم نظر.
وروى نحوه أيضًا ابن ماجه (355)، والدارقطني في "السنن"(174) من حديث أبي أيوب وأنس وجابر رضي الله عنهم. وصعفه الحافظ في "التلخيص الحبير"(1/ 113).
وأصل استنجاء أهل قباء بالماء عند أبي داود (44)، والترمذي (3100)، وابن ماجه (357) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
"أي" سقط من (ك).
وجُرُفُ الوادي: جانبه الذي جَرَف أصلَه السُّيولُ وتحفَّر بالمياه فبقي واهيًا، من الجَرْف، وهو انقلاع الشَّيء من أصله.
والهاري
(1)
: الهائر، وهو المتصدِّع الذي أَشْفَى على الهدم والسقوط.
لَمَّا استعار الجُرُف الهائر لمقابل التَّقوى من الباطل الذي هو الفجور والنِّفاق والضِّرار على أنه
(2)
شبَّه الحق الذي هو التَّقوى بقاعدة محكمة قويَّة على طريق الاستعارة بالكناية، ولهذا نكَّر التَّقوى للتَّعظيم، ووصفها بكونها من الله تعالى، ثمَّ رشَّح الاستعارة بقوله:
{فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فإنَّ الجُرُف الهائر سهل الانهيار لخَوَره وقلَّة ثباته واستمساكه، وهو تصويرٌ لسرعة أداء الباطل إلى هُوِيِّ صاحبه في قعر جهنَّم كأنه بني على جُرُفِ وادٍ من أودية جهنم
(3)
جرفَ أصلَه السيلُ.
ويُفهم منه أنَّ تأسيس الذي يقابله على أمر يحفظه عن النَّار ويوصله إلى الرِّضوان الذي أدنى مقتضياته الجنَّة، ولذلك عُطف الرِّضوانُ على التَّقوى، وجُعِلا كأنهما أمران متلازمان ونكِّرت التقوى
(4)
؛ إشعارًا بأن تلازمهما بحيث كلُّ ما يلزم أحدهما يلزم الآخر.
ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلَّ على المقصود من المقام منه. وإنما لم يقل: (فوقع في نار جهنم)؛ لأنَّه ما دام حيًّا أمكنه أن يخلص فيتخلَّص ولا يقع فيها.
(1)
في النسخ: "والهار"، والصواب المثبت.
(2)
قوله: "على أنه" كذا وقع في النسخ، ولعل الأحسن حذفه، أو أن في الكلام سقطًا، ويكون الكلام هكذا:(على أنه مَثَلٌ في قلة الثبات والاستمساك).
(3)
"كأنه بني على جرف واد من أودية جهنم" من (م).
(4)
"ونكرت كالتقوى" من (م).
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: لا يهديهم من حيث هم ظالمون إلى ما فيه صلاح ونجاة، وقد مَرَّ أنَّ نفي الهداية في مثل هذا على طريقة تنزيل ما لا أثر له منزلةَ العدم، وإلَّا فالله هادي الكلِّ إلى مصالحهم.
* * *
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا} : بناؤهم الذي بنوه، مصدرٌ أُريدَ به المفعول، وقيل: هو جمع واحدُه: بنيانةٌ، وحينئذ يكون {الَّذِي} بمعنى: الذين.
والإخبار بقوله: {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} عن المضاف المحذوف؛ أي: بناء بنيانهم الذي بنوها سببَ ريبة؛ فإنَّه حملهم على ذلك، ثمَّ لَمَّا هدمَه رسولُ اللّه - صلى اللّه تعالى عليه وسلم - رسخَ ذلك في قلوبهم، وازدادوا نفاقًا بحيث لا يزول وَسْمه من قلوبهم.
{إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قِطَعًا، بحيث لا يبقى لها قابليةُ الإدراك والإضمار
(1)
، فالتقطيع تصوير لامتناع زوال السّكر
(2)
عن القلوب مع بقائها، وأن زواله
(3)
لا يكون إلا بزوالها
(4)
، وهو في غاية المبالغة.
والاستثناء من أعمِّ الأزمنة؛ أي: وقتَ أن تقطَّع. وهو في محل النَّصب على الظَّرف.
(1)
في (ف): "قابلية الإضمار أو الإدراك".
(2)
في (م): "الشكر"، وفي (ف):"التنكير". وقوله: "السكر" إن كان بفتح السين والكاف فيحتمل الغيظ والغضب، وكذا كل ما يُسكر فهو سَكَرٌ، وإن كان بكسر السين وسكون الكاف فالمراد: ما يسد تلك القلوب ويمنعها عن الإيمان.
(3)
في (م): "زوالها".
(4)
في (ف): "بزواله"، وفي (ك) و (م):"بزوال". والصواب المثبت.
ويجوز أن يكون المراد حقيقةَ التَّقطيع بالقتل، أو في القبور، أو في النَّار.
وقيل: معناه: إلَّا أن يتوبوا توبةً تتقطَّع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم.
وقرئ بحرف الانتهاء
(1)
، و {تَقَطَّعَ} بمعنى تَتَقطَّع
(2)
.
وقرئ: (يُقَطَعَ) بالياء، و (تُقْطَعَ) بالتَّخفيف، و (تُقَطِّعَ) على خطاب الرَّسول صلى الله عليه وسلم أو كلِّ مخاطب
(3)
.
وقرئ: (ولو قطعت) على البناءين
(4)
.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بضمائر العباد {حَكِيمٌ} في التَّمييز بين أهل الصَّلاح وأهل الفساد.
فيدخل في الأول بناؤهم وفي الثانية الأمرُ الوارد في حقِّهم دخولًا أوَّليًّا.
* * *
(111) - {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
(1)
يقصد بحرف الانتهاء: (إلى). ونسبت هذه القراءة إلى الحسن. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 452)، و"الكشاف"(2/ 313).
وقرأ بها أيضًا يعقوب مع الإمالة. انظر: "النشر"(2/ 281).
(2)
وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. انظر: "التيسير"(ص: 120).
(3)
انظر هذه القراءات في "الكشاف"(2/ 313)، و"المحرر الوجيز"(3/ 86)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 98)، و"البحر المحيط"(11/ 437).
(4)
نسب إلى ابن مسعود أنه قرأ: (ولو قُطِّعَتْ قلوبُهم) على إسناد الفعل مجهولا إلى (قلوبهم). انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 452)، و"الكشاف" (2/ 313). ونسب إلى طلحة أنه قرأ:(ولو قطَّعْتَ قلوبَهم) على خطاب النبي أو كل مخاطب. انظر: "الكشاف"(2/ 313)، و"البحر المحيط" (11/ 438). وأورد ابن خالويه عن طلحة أنه قرأ:(حتى تقطع قلوبهم). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 55).
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} استعار الاشتراء لإثابتهم الجنة على بذل الأموال والأنفس في سبيل الله تعالى.
ولم يقل: (بالجنَّة)؛ مدحًا لهم باعتبار أنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم
(1)
بمجرد الوعد، وفيه كمال ثقتهم بوعده تعالى، وأيضًا تمامُ الاستعارة المذكورة به؛ إذ لا بُدَّ لها من قرينةٍ مانعةٍ عن إرادة الحقيقة، ولو قيل:(بالجنة) لم تُوْجَد تلك القرينة؛ لأنَّ الجنَّة صالحةٌ لأنْ تكون أَحَدَ العِوَضَيْن، بخلاف الوعد بها.
{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف لبيان الاشتراء، لا لبيان ما لِأَجْلِه الشِّراء.
وقيل: خبر بمعنى الأمر، كقوله:{وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11] إظهارًا لاهتمامهم بالمأمور به، كأنهم سارَعوا إلى الامتثال، فأخبر عنه، فعلى هذا يكون الاشتراء تمهيدًا له.
{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} تفصيل لمقاتَلتهم
(2)
، وبيانٌ لإحرازهم فضيلتي الجهاد.
وقرئ بتقديم المبني للمفعول
(3)
، ومبناه على إسنادِ فعل البعض إلى الكلِّ، وفيه دلالة على ثبات قلوبهم وجرأتهم
(4)
على العدوِّ، حيث لم ينكسروا بأن قُتِلَ بعضهم، كما قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا}
(5)
.
(1)
"وأموالهم" زيادة من (م).
(2)
في (م): "لمقاتلهم"، وفي هامشها إشارة لنسخة:"لمقاسيهم".
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 93).
(4)
في (م): "جرأتهم".
(5)
قرأ الكوفيون وابن عامر: {قَاتَلَ مَعَهُ} ، وقرأ الباقون:(قُتِلَ) بضم القاف وكسر التاء من غير=
وقيل في توجيهه: إنَّ الواو لا توجب التَّرتيب. ولا
(1)
يجدي؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التَّأخير لا يكون بسلامة الأمر
(2)
.
{وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدر مؤكِّد لما دلَّ عليه قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .
{حَقًّا} صفته {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} أي: أوحى به إلى أنبيائه عليهم السلام، وأثبته في كتبه.
{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} مبالغة في إنجاز الوعد، وتقريرٌ لكونه حقًّا.
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} فافرحوا به غاية الفرح؛ فإنَكم تبيعون فانيًا بباقٍ، وتأخذون ثمنًا من مشترٍ
(3)
بمبيع هو
(4)
ملكه وحقُّه.
خاطبهم على سبيل الالتفات؛ تشريفًا لهم.
واستبشر: فِعْل جاء فيه استَفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ، وليس هذا من معنى الطلب في شيءٍ؛ كعَجِبَ واستَعْجَب
(5)
.
{وَذَلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ؛ لأنَّه الوصول إلى الحظِّ الأغبط من حَطِّ الذُّنوب ودخول الجنَّة بلا حساب.
= ألف. انظر: "التيسير"(ص: 90).
(1)
في (ف) و (م): "ولا هو" والمثبت من (ك)، وهو الصواب. انظر:"حاشية الشهاب على البيضاوي"(4/ 368)، و"روح المعاني"(10/ 530).
(2)
كذا في النسخ، والذي في المصدرين السابقين:(بسلامة الأمير)، وهي كلمة استعملها الشهاب كثيرا في "حاشيته".
(3)
في النسخ: "مشترى"، والصواب المثبت.
(4)
في (ف) و (ك): "وهو".
(5)
"واستعجب" زيادة من (م) و (ك).
{التَّائِبُونَ} رفعٌ على المدح؛ أي: هم التَّائبون، والمراد بهم المؤمنون المذكورون، والدليل عليه قراءة:(التائبين) إلى قوله: {وَالْحَافِظُونَ} نصبًا على المدح، أو جرًّا صفةً للمؤمنين
(1)
.
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: التائبون الموصوفون بهذه الصِّفات من أهل الجنَّة وإن لم يجاهدوا؛ لقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، أو خبره.
{الْعَابِدُونَ} وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ، أي: التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الصِّفات، {الْعَابِدُونَ}: الذين عبدوا الله تعالى وحده مخلصين له الدِّين.
{الْحَامِدُونَ} لنَعمائه، أو لِمَا نالهم من السَّرَّاء والضَّرَّاء.
{السَّائِحُونَ} ؛ أي: الصَّائمون؛ لقوله عليه السلام: "سياحةُ أمتي الصيام"
(2)
، شُبِّهَ بها من حيث إنَّه يعوِّق عن الشَّهوات، أو لأنَّه رياضة نفسانيَّة يُتوصَّل بها إلى الاطِّلاع على خفايا المُلك والملكوت.
أو: السَّائرون للجهاد، أو طلب العلم.
(1)
نسبت هذه القراءة إلى ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 55).
(2)
رواه العقيلي في "الضعفاء"(1/ 317)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 638)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال العقيلي: فيه حكيم بن خذام كان يرى القدر، منكر الحديث. ورواه الطبري في "تفسيره"(11/ 12) عن أبي هريرة موقوفًا، وصوب وقفه ابن كثير عند تفسير هذه الآية.
{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} في الصَّلاة.
{الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان والطاعة {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن الشرك والمعاصي. والعاطف فيه
(1)
للدلالة على أنهما بمنزلةِ خصلةٍ واحدة، كأنه قال: والجامعون بينهما.
وفي
(2)
قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} ؛ أي: فيما بيَّنه وعيَّنه من الحقائق والشَّرائع؛ لأنَّه من تمام تلك الخصلة، فإنَّ مَنْ لم يصدِّق فعلُه قولَه
(3)
، ولم يوافق حالُه مقالَه، لا يجدي أمرُه نفعًا، ولا يفيد نهيُه رَدْعًا.
ومَنْ لم يتنبَّه لهذا قال: إنه للتَّنبيه على أن ما قبله مفصَّل الفضائل وهذا مجمَلُها، وليت شعري ما وجه الدلالة في العاطف على هذا؟!
وقيل: إنه للإيذان بأنَّ التَّعداد قد تمَّ بالسَّامع، من حيث إنَّ السَّبعة هو العدد التَّام، والثَّامن ابتداءُ تعداد آخر معطوفٍ عليه، ولذلك تُسمَّى واوَ الثَّمانية. وتقف بإذن اللّه تعالى على ما فيه في موضعه.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني بهم: هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل
(4)
.
ووضعُ {الْمُؤْمِنِينَ} موضعَ ضميرهم إشعار بأنَّ الإيمان هو الباعث على هذه الخِصال، وأن الكامل في الإيمان مَن كان على الصِّفات المذكورة، وحُذف المبشَّر
(1)
"فيه "من (م).
(2)
في (م): "في". والصواب إثبات الواو؛ لأنَّه معطوف على: "فيه"، أي: (والعاطف فيه للدلالة
…
والعاطف في قوله: {وَالْحَافِظُونَ}
…
لأنَّه من تمام
…
)
(3)
في (م): "قولًا".
(4)
"بتلك الفضائل" سقط من (ك).
به للتَّعظيم؛ كأنَّه قيل: وبشرهم لما
(1)
يجلُّ عن الوصف وإحاطةِ الإفهام والتَّعبيرِ عنه بالكلام.
* * *
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} فائدة دخول {كَانَ} المبالغةُ
(2)
في نفي الفعل الدَّاخلةِ هي عليه بتعديد جهة نعته، عمومًا باعتبار الكون، وخصوصًا باعتبار الاستغفار مثلًا.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} : أن
(3)
يطلبوا المغفرة لهم.
{وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} روي أنَّه عليه السلام قال لأبي طالب لَمَّا حضره الوفاة: "قل كلمةً أحاجُّ بها عند اللّه"، فأبى، فقال عليه السلام:"لا أزال أستغفر لك ما لم أُنْهَ عنه" فنزلت
(4)
.
وفيه: أنَّ موتَ أبي طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزلت بالمدينة.
لا يقال: ما ذكر إنَّما يتمُّ أن
(5)
لو كان نزول الآية عقيب موت أبي طالب، وليس بلازم؛ لجواز أن يكون النبي عليه السلام يستغفر له إلى وقت نزول الآية=
(1)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:"بما".
(2)
في (ك): "للمبالغة".
(3)
في (م): "أي".
(4)
رواه البخاري (3884)، ومسلم (24)، من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.
(5)
"أن" سقط من (ك).
لأنَّا نقول: الظاهر من قوله
(1)
: (فنزلت) إنَّما هو التَّعقيب بلا تراخٍ
(2)
.
وإنما قال: {لِلْمُشْرِكِينَ} دون: الكافرين؛ لأنَّ منهم مَن هو معذور؛ كالذي لم تبلغه الدَّعوة، فلا نهي عن الاستغفار لهم.
وذكر الكلبي: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم زارَ قبر أمِّه في ألف فارس وهو يريد أن يستغفرَ لها، فلمَّا قام عند قبرها فإذا هو بجبريل عليه السلام، فوضع يده على صدره، وتلا هذه الآية، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى المسلمون، فما رؤي يومًا
(3)
أشد باكيّا من يومئذ
(4)
.
{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لا بموتهم على الشِّرك خاصَّة، بل به وبنزول الوحي فيه، فلا يختصُّ النَّهي بالذين ماتوا على الشرك، وإنما قال:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} لعدم المنع عن الاستغفار قبل ذلك؛ لأنَّه طلب التَّوفيق للإيمان اقتضاء، ومَن قال بحجيَّة المفهوم اتخذه دليلًا على جواز الاستغفار للأحياء من الكفار مطلقًا.
(1)
في (ك): (قول)، وفي (م):"قول الراوي".
(2)
ويمكن أن يقال: إن الفاء للسببية لا للتعقيب، يعني أن قوله:(فنزلت) لا يراد به أن النزول كان عقيب القول، بل يراد أن ذلك سبب النزول. انظر:"روح المعاني"(10/ 539).
(3)
"يومًا" من (م).
(4)
لم أقف عليه بهذا السياق، والكلبي كذاب متروك، لكن روى مسلم (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال:"استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". وليس فيه أن الآية نزلت في ذلك، لكن روي عن ابن مسعود نحو هذه القصة على أنها سبب نزول الآية، رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1894)، والحاكم في "المستدرك"(3292)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 189).
ولَمَّا ورد النَّهي عن الاستغفار للمشركين قال النَّاس: إن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه المشرك
(1)
، فنزلت هذه الآية
(2)
.
* * *
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} يعني: بعد موته على الشرك؛ لأن الاستغفار له قبل الموت لا يصلح متمسَّكًا للقائل المذكور - وذلك ظاهر - فلا ينطبق سببُ النزول.
{إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} وقرئ: (أباه)
(3)
؛ أي: وعدها إبراهيم عليه السلام بقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]، فأنجز وعده؛ فإن إنجاز الوعد واجب، ولم يكن موته على الشرك ظاهرًا حينئذ
(4)
عنده عليه السلام، كما هو الظاهر من قوله تعالى:
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} وهذا التَّبيين عنده عليه السلام كان يومَ الجزاء على ما ورد في الحديث الصحيح
(5)
.
(1)
"المشرك" من (م).
(2)
رواه بنحوه النَّسَائِيّ (2036)، والترمذي (3101) وحسنه، من حديث علي رضي الله عنه.
(3)
نسبها ابن خالويه لحماد الراوية ثم قال: ويقال: إنه صحفه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(55).
(4)
"حينئذ"سقط من (ك).
(5)
لعله يقصد ما رواه البخاري (3350) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا=
{تَبَرَّأَ مِنْهُ} ولم يطلب مغفرته بعد ذلك.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} استئناف لبيان ما حمله عليه السلام على الاستغفار لأبيه.
{لَأَوَّاهٌ} فعَّالٌ
(1)
من أَوَّهَ، وهو الذي يُكثر التَّأوُّه؛ أي: الترحُّم والتعطُّف، ولكثرة تأوُّهِهِ كان يتعطَّف لأبيه المشرك.
{حَلِيمٌ} : صبورٌ على الأذى، ولذلك كان يحلم عن أبيه ويتحمَّل أذاه ويستغفر له مع شكاسة خلقه.
* * *
{وَمَا كَانَ اللَّهُ} قد مرَّ وجه زيادة {كَانَ} في مثل هذا المقام.
{لِيُضِلَّ قَوْمًا} : ليَخْلقَ فيهم الضَّلالة، ومَن قال: يسمِّيهم ضلَّالًا، فقد دسَّ فيه مذهب الاعتزال.
{بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإِسْلَامِ {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} بالنَّهي عبارةً أو دلالةً {مَا يَتَّقُونَ} : ما يجب اتِّقاؤه؛ أي: ليس من شأنه تعالى تكليفُ الغافل، فالمهتدي للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الشرع إنما يكون ضالًا إذا كان إقدامه
= تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول اللّه تعالى:"إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار".
(1)
في (م): "يقال".
عليه بعد بيان حظره
(1)
، وكأنه عذر الرسول صلى الله عليه وسلم في الإقدام
(2)
على استغفار أمِّه.
وفيه دليل على أن تكليف الغافل غير واقع في شرائع الأنبياء عليهم السلام.
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم حاجة الغافل إلى البيان فيَعذره، وهو تتميمٌ للبيان المذكور.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ} خاصَّة {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا شريك له {يُحْيِي وَيُمِيتُ} : يَهدي ويُضل {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
لمَّا منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، وأشار بقوله:{تَبَرَّأَ مِنْهُ} إلى وجوب التَّبرِّي منهم بعد ما تبيَّن حالهم، بيَّنَ أن المُلك والحول والقوة كلَّها لله تعالى، وأنَّه الهادي والمضل، ولا ولاية ولا نصرة لهم إلَّا منه؛ ليتولَّوه ويتوجَّهوا إليه بشراشرهم
(3)
، ويتبرؤوا عمَّا عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.
* * *
(1)
في (ك): "خطره".
(2)
"في الإقدام" من (م).
(3)
في (ف) و (م): "بسرائرهم". و (بشراشرهم)؛ أي: بجملتهم وكليتهم. انظر: "حاشية الشهاب"(4/ 371).
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} قال ابن عباس رضي الله عنه: هو
(1)
العفو عن إذنه للمنافقين بالتَّخلُّف عنه
(2)
.
{وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} قيل: هو في حقِّ زلَّات سبقَتْ منهم يوم أُحُد وحُنين، قال الله تعالى:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]. ففيه بعث للمؤمنين على التَّوبة.
والمعنى: ما من أحدٍ إلا وهو محتاجٌ إلى التَّوبة حتى النبيُّ عليه السلام والمهاجرون
(3)
والأنصار رضي الله عنهم؛ لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} ، إذ لا أحد إلا وله حالٌ سينتقِص ما هو فيه بالنسبة إليها، فالتَّرقي منه إليها توبة
(4)
من تلك النقيصة.
وفيه بيانٌ لفضلها وشرفها بأنها مقام الأنبياء عليهم السلام والصَّالحين رحمهم اللّه تعالى.
(1)
في (م): "وهو".
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(10/ 407).
(3)
في النسخ: "والمهاجرين"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 316)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 100)، و"البحر"(11/ 452).
(4)
في (ك): "توبته". وعبارة البيضاوي: (إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة). انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 100)
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: كانت السُّورة تدعى الفاضحة، فلما نزلت هذه الآية سُمِّيَتْ بها: سورةَ التَّوبة.
{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي: اتَبعوا أمره عليه السلام.
{فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} في وقتها؛ فإن السَّاعة في اللغة بمعنى مطلق الزَّمان، والعسرة: الضِّيق والشِّدة والعدم، وهي حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة الظَّهر يَعتقِب العشرة على بعير واحد، والزَّادِ حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، والماءِ حتى نحروا الإبل واعتصروا فُروثها، في شدَّة زمانٍ في حرارة القيظ.
{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ} ؛ أي: بعدما قاربوا من الميل عن اتِّباع الرَّسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، وإنما أسند زيغهم إلى القلب إظهارًا لكونه بمعنى الميل القلبي لا بمعنى الانحراف القالبي.
{مِنْهُمْ} ؛ أي: من المتَّبعين له عليه السلام.
وفي {كَادَ} ضمير الشَّأن، أو ضمير القوم، والعائد عليه الضمير في {مِنْهُمْ} .
لم يقل: زاغت، بل قال:{كَادَ يَزِيغُ} ، ولم يقل: قلوبهم، بل قال:{قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ؛ تنبيهًا على شركة كلهم في القرار على عدم الثبات في مثل
(1)
تلك الحال، وامتيازِ جلِّهم عن الباقين بقوة الثبات.
وفيه إشارة إلى جهة استحقاقهم لِأَنْ يتوبَ الله تعالى عليهم.
وما في قوله: {مِنْهُمْ} من الإبهام؛ لإيهام أنهم ليسوا من المهاجرين والأنصار
(1)
"مثل" من (م).
لعدم انحصار المتَّبعين له عليه السلام فيهما، ما لا يخفى من التَّعظيم لشأنهما، والترفيع لمكانهما عن مَظِنة التَّشنيع.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} على الفريق الذي كاد يزيغ قلوبهم لكيدودتهم، وعلى قراءة عبد الله:(من بعد ما زاغَتْ)
(1)
لزيغهم، وما تقدَّم في حقِّ زلَّاتٍ سبقت من المهاجرين والأنصار في يوم أُحُد وحُنين لا يغني عن هذا، فلا تكرير.
وفي عبارة التراخي إشارةٌ إلى تأخُّر عفوهم [لا]
(2)
إلى تخلُّل الكفر بينه وبين جريمتهم.
{إِنَّهُ بِهِمْ} استئناف تعليلي {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} والجمع بين الاسمين للمبالغة والتأكيد.
* * *
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ} هم الذين تقدم فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} ، معطوفٌ على قوله:{وَالْأَنْصَارِ} .
{خُلِّفُوا} : أُخِّروا وتُرِك أمرهم، لم تقبل منهم معذرة ولا رُدَّت عليهم، فكأنَّهم خُلِّفوا عن المعتذرين {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}: برُحْبها؛
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 55)، و"المحرر الوجيز"(3/ 93)، و"البحر المحيط"(11/ 456).
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
لإعراض النَّاس عنهم
(1)
بالكليَّة، وهو مَثَلٌ لشدة الحيرة.
{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} : قلوبهم من فرط حيرة الوحشة والغَمِّ، بحيث لا يسعها أُنْسٌ ولا سرورٌ.
{وَظَنُّوا} : وعلموا {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} من سخطه {إِلَّا إِلَيْهِ} بالتوبة والاستغفار.
جاءت هذه الجملة في كنف
(2)
{إِذَا} في غاية الحسن والتَّرتيب؛ حيث ذكرَ أوْلًا ما هو كنايةٌ عن ضيق المحل، وثانيًا ما هو كنايةٌ عن ضيق الحال، والأوَّل لا يغني عن الثَّاني لأنَّه قد يضيق المحل
(3)
وتكون النَّفس منشرحة، وثالثًا ما هو كنايةٌ عن اليأس عن النَّاس، والانقطاع إلى الله تعالى.
و {حَتَّى إِذَا} كلمةُ غايةٍ، تقديره: وخلِّفوا إلى هذه الغاية.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} : وفَّقهم للتوبة {لِيَتُوبُوا} أو: أنزل قَبول توبتهم - بقرينة الاستئناف - ليصيروا من جملة التَّوابين، أو: رجع عليهم بالقَبول والرَّحمة مرَّة بعدَ أخرى ليستقيموا على توبتهم بقرينة الاستئناف
(4)
، للتَّعليل بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لمن تاب ولو عاد في يوم ألفَ مرة.
(1)
"عنهم" من (م).
(2)
في (م)، و (ك):"كيف".
(3)
قوله: "وثانيًا ما هو كناية عن ضيق المحل والأول لا يغني عن الثاني لأنَّه قد يضيق المحل" ليس في (م).
(4)
"ليصيروا من جملة التوابين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم بقرينة الاستئناف" سقط من (ك).
{الرَّحِيمُ} المتفضِّل عليهم بأصناف النِّعم، وهم
(1)
المستحقُّون بأنواع النِّعم
(2)
.
* * *
(119) - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} فيما لا يرضاه.
{وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الذين صدقوا في دين الله تعالى نيَّةً وقولًا وعملًا، أو في إيمانهم ومعاهدتهم الله تعالى ورسوله عليه السلام على الطَّاعة، أو في توبتهم وإنابتهم، فيكون المراد هؤلاء الثلاثةَ وأضرابهم.
وقرئ: (مِنَ الصَّادقِيْنَ)
(3)
، ونسبة القراءتين
(4)
إلى المعاني المذكورة على السَّواء.
* * *
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} ؛ أي: ما صحَّ وما جاز لهم.
(1)
في (ف): "وهو".
(2)
كذا وقعت العبارة في النسخ، وجاء في "تفسير أبي السعود"(4/ 109)، و"روح المعاني" (10/ 558):) المتفضل عليهم بفنون الآلاءِ مع استحقاقهم لأفانينِ العقاب).
(3)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 262)، و"زاد المسير"(3/ 514).
(4)
في (ك): "القراءة".
{وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} كمُزينة وأشجعَ وجُهينة وغِفار.
{أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} معاتبةٌ للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التَّخلف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوه، ويُفهَم منها الأمر على أبلغ وجه بملازمته عليه السلام أينما توجَّه غازيًا، وبذل النُّفوس دونه.
{وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} ؛ أي: ولا أن يرغبوا، عطفًا على الأول.
و (رغب) إذا تعدَّى بـ (في) أو الباء يفيد معنى الطَّلب، وإذا تعدَّى بـ (عن) يفيد معنى التَّرك والإعراض.
ومآل المعنى: ولا يرضوا أن يكونوا في خفضِ عيشٍ
(1)
ودَعَةٍ ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في شدَّةٍ ونَصَب.
روي أن أبا خيثمة بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء، فرشَّت له في الظِّل، وبسطت له الحصير، وقرَّبت إليه
(2)
الرُّطب والماء البارد، فقال: ظلٌّ ظليل، ورُطَبٌ يانع، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضَّحِ والرِّيح
(3)
! ما هذا بخير. فقام فرحَل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرَّ كالرِّيح، فمدَّ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطَّريق فإذا براكب يزهاه السَّراب، فقال:"كن أبا خيثمة"
(4)
، فكأنه، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له.
(1)
"عيش" من (ك).
(2)
في (ف): "له".
(3)
في (م): "والرمح".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 319)، و"تفسير البيضاوي" (3/ 101). ورواه البيهقي في "الدلائل" من طريق ابن إسحاق عن عبد بن أبي بكر بن حزم: أن أبا خيثمة
…
، وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 520) عن ابن إسحاق قوله. ورواه الطبراني في "الكبير"(5419) من حديث سعد بن خيثمة، وإسناده ضعيف لضعف يعقوب بن محمد الزهري. انظر:"مجمع الزوائد"(6/ 193). وورد ذكر=
وفي {وَلَا يَرْغَبُوا} يجوز النصب والجزم.
{ذَلِكَ} إشارة إلى وجوب متابعته عليه السلام المدلول عليه بقوله: ما كان لهم أن يتخلَّفوا.
{بِأَنَّهُمْ} : بسبب أنهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} : عطش {وَلَا نَصَبٌ} : تعب {وَلَا مَخْمَصَةٌ} : مجاعة، مَفْعَلة من خموص البطن، وهو ضمرُه، وكني بذلك عن حالة الجوع لأنَّه ملازم لها.
والتَّنكير في الثَّلاثة للتَّقليل.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طريق الجهاد.
{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} بأقدامهم، أو أرجل خيولهم، والموطئُ يجوز أن يكون مصدرًا، وأن يكون موضعًا كالمرجع
(1)
.
{يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وطؤهم إيَّاه {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ} لم يقل: منهم؛ إخراجًا للمسالمين
(2)
منهم، والغيظُ - وهو انقباض الطَّبع بما يرى ممَّا يسوءه - يَنتظِمهم.
{نَيْلًا} شيئًا مَنْ قتلٍ أو جرحٍ أو ضربٍ أو أسرٍ أو تشريدٍ أو أخذِ مالٍ.
{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ؛ أي: حصل لهم بكلِّ واحدٍ من هذه الآثار حسنةٌ مقبولةٌ، فإنَّ كتابته كناية عن حصوله، وذلك مما يوجب المشايَعة.
= لحاق أبي خيثمة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام:"كن أبا خيثمة" ضمن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الطويل في رواية مسلم (2769).
(1)
في (ك): "كالمرح"، وفي (م):"كالمبرح".
(2)
في (ف): "للمساكين".
وإنَّما قال: {بِهِ} مع ذكر أشياء جمعًا؛ لأنَّه لَمَّا أدخل بينَ كلِّ شيئين منها {لَا} مكرّرًا، صار كلُّ واحد منها مفردًا بالذِّكر مقصودًا بالوعد، ولهذا قالوا: مَن حلف لا يأكل خبزًا ولا لحمًا حنثَ بكلِّ واحدٍ منهما، ولو قال: لا يأكل خبزًا ولحمًا، لا يحنث إلَّا بهما جميعًا.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم، فيه إيذانٌ بأنَّ الجهاد إحسانٌ، وأنَّ الإحسانَ مُوجِب للأجر، فيكون تعليلًا لـ {كُتِبَ} .
أمَّا كونه إحسانًا بالنسبة إلى المؤمنين فلِمَا فيه من صيانة حوزة الإسلام عن استيلاء الكفَّار، وأمَّا بالنِّسبة إلى الكفَّار فلأنَه سعيٌ في إصلاحهم وإرشادهم بأقصى ما يمكن، كضرب المداوي للمجنون ليشرب الدَّواء النَّافع.
* * *
{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرةً أو عِلَاقةَ سوط {وَلَا كَبِيرَةً} مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة.
وتقديم النَّفقة الصغيرة مع أنَّ حقَها التَّأخير للاهتمام بشأنها؛ لأنها مظنَّة التَّحقير وعدم الالتفات بها.
{وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} في ذهابهم ومجيئهم، والوادي: كلُّ مُنفرجٍ
(1)
ينفذ فيه السَّيل، اسم فاعل من وَدَى: إذا سالَ، فشاع في معنى الأرض.
{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} : أثْبِتَ لهم ذلك {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} به {أَحْسَنَ مَا كَانُوا
(1)
في (ك): "منعرج".
يَعْمَلُونَ}: أحسنَ عملِهم، مصدر
(1)
، أو مفعول ثانٍ؛ أي: جزاء أحسنِ أعمالهم، أو أحسنَ جزاءِ أعمالهم
(2)
، فيُلحق ما دونه به؛ شكرًا لسعيهم وتوفيرًا لأجرهم.
* * *
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} اللام لتأكيد النَّفي؛ أي: وما استقام لهم أن ينفروا جميعًا لنحوِ غزوٍ أو طلب علمٍ، كما لا يستقيم لهم أن يتثبَّطوا جميعًا؛ فإنَّه مخلٌّ بأمر المعاش، وهو تمهيدٌ لوجوب النَّفر في طلب العلم؛ لأنَّه فهم منه أنَّه لو أَمْكن نَفْرُ الكلِّ ولم يؤدِّ إلى مَفسدةٍ لوجب
(3)
، وهذا لوجوب التَّفقُّه
(4)
على كلِّ مسلمٍ؛ لقوله عليه السلام: "طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم"
(5)
.
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} ؛ أي: فإذا لم يمكن
(6)
نفرُ الكل لمنافاته المصلحة، فهلَّا نفرَ مِنْ كلِّ فرقة كثيرةٍ منهم كقبيلةٍ وأهلِ بلدةٍ طائفةٌ قليلة.
(1)
"مصدر" ليس في (ك)، و"عملهم" ليس في (ف) و (م).
(2)
"أو أحسن جزاء أعمالهم" زيادة من (ك)، و (م).
(3)
"لوجب" سقط من (ك).
(4)
في (ف) و (م) و (ك): "النفقة"، والصواب المثبت.
(5)
رواه ابن ماجه (224)، وأبو يعلى في "مسنده"(2737)، من حديث أنس رضي الله عنه. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 440): ضعيف.
(6)
في (ف) و (م): "يكن".
ليتكلَّفوا الفقاهة، ويتجشَّموا مشاقَّ تحصيلها، وليجعلوا غرضهم في ذلك ونهاية سعيهم إنذارَ قومهم وإرشادهم إرادة أن يحذروا الله تعالى في اجتناب معاصيه وامتثال أوامره.
وتخصيص الإنذار بالذِّكر، وجعلُه وحده غرضَ التَّفقُّه وإن كان العمل به أقدمَ وأهمَّ؛ لأنَّه أشرف وأعلى؛ لأنَّ التَّفقُّه
(1)
لا يكون تفقُّهًا إلَّا عند العمل به، فمَن لم يعمل بما عَلِم فليس بفقيه، ولا شكَّ أنَّ التكميل بعد الكمال، فكان العمل داخلًا في التَّفقُّه، وبعد الكمال بالعلم والعمل لا يكون الغرض منه إلَّا التَّكميل.
وفيه دليل على أن التَّفقُّه في الدِّين والتَّذكير من فروض الكفاية، وأن خبر الآحاد حجَّة لعموم {كُلِّ فِرْقَةٍ} ، فلو كانت فرقة في قرية لوجب خروج بعضهم للتَّفقُّه وإنذارهم، ولوجب عمل الباقين بإخبارهم وإن لم يتواتر، فإنه غير ممكنٍ فيه.
وفي الآية وجهٌ آخر، وهو أنَّ المؤمنين بعدما سمعوا ما أنزل الله تعالى في المتخلِّفين عن غزوة تبوك تسابقوا في الجهاد، فكان إذا بعثَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشًا نفروا عن آخرهم وانقطعوا جميعًا عن استماع الوحي والتَّفقُّه، فأُمِروا أن ينفر من كلِّ فرقةٍ طائفةٌ ليتفقَّه الباقون في الدِّين، فلا ينقطع التَّفقُّه الذي هو الغرض من البعثة والجهاد الأكبر، فإنَّ الجدال
(2)
بالحجَّة أعظم أثرًا من الجدال بالسَّيف، ولينذروا قومهم النَّافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم.
وعلى هذا الوجه فالضمير في {لِيَتَفَقَّهُوا} و {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} و {إِلَيْهِمْ} للفرقة الباقين، وفي {رَجَعُوا} و {لَعَلَّهُمْ} للطَّائفة النَّافرين، وفيه تشتيتُ الضمائر،
(1)
في (ك): "النفقة" في الموضعين.
(2)
في (ك): "الجهاد".
وهو وإن لم يكن مخلًّا بالفصاحة عند انتظام المعنى وانسياق الذِّهن إليه، لكن عدمه أولى، فالراجح هو الوجه الأول.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} : يَقْربون منكم {مِنَ الْكُفَّارِ} أُمِروا بقتال الأقرب منهم
(1)
فالأقرب.
قيل: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا ربَّما يجاوز كفَّارًا ويقاتل الأبعد؛ ليكون آيةً لنبوَّته أنَّه لا يبالي ولا يخافُ مَن تركه، فنزلت الآية تعليمًا للمؤمنين أمرَ الحرب كما علَّمهم ذلك في آياتٍ أُخَر؛ من الأمر بأخذ الحذر، وإعداد ما استطاعوا من قوة.
وقيل: إن الذين يلونهم من الأعداء يوم نزول هذه الآية هم الرُّوم الذين بهم ختم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غزوةَ تبوك، فكان الكلام متَّصلًا بما تقدَّم من غزوة تبوك.
{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} : خشونةً وشدَّة وصبرًا على القتال.
وقرئ: (غلظة) بالحركات الثَّلاث
(2)
.
{وَاعْلَمُوا} قد مرَّ وجه زيادة (اعلموا) في مثل هذا المقام.
{أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ينصر مَنِ اتَّقاه، فهو تبشير لهم بالنَّصر.
* * *
(1)
"منهم" ليست في (ف).
(2)
قرأ بالضم أبان بن عثمان، وبالفتح المفضل عن عاصم. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص:55).
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} : فمن المنافقين {مَنْ يَقُولُ} لبعضهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السُّورة {إِيمَانًا} إنكارًا واستهزاءً بالمؤمنين.
وقرئ: (أيَّكم) بالنَّصب
(1)
، على إضمارِ فعلٍ يفسره {زَادَتْهُ} .
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ؛ أي: فأمَّا
(2)
المخلِصون، والفاء لترتيب الإخبار عنهم وعن مقابِليهم على التنويع والتفصيل على ما تقدَّم
(3)
.
{فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} بزيادة اليفين الحاصل من تدبُّر السُّورة، وانضمامِ الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم.
{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وهم يفرحون بنزولها لزيادة أعمالهم وارتفاع درجاتهم، حتى يتبين ذلك في وجوههم وبشرتهم.
* * *
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : كفر {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} : كفرًا مضمومًا إلى الكفر بغيرها {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه.
إنزالُ القرآنِ لقومٍ شفاءٌ ولقومٍ شَقاءٌ.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 55).
(2)
في (م): "فأما الذين".
(3)
"على ما تقدم" من (م).
{أَوَلَا يَرَوْنَ} يعني: المنافقين، وإنَّما فُتحَتِ الواو لأنها عاطفة دخل عليها ألف الاستفهام للتَّوبيخ، فالكلام مستأنفٌ من وجهٍ، متَّصلٌ من وجهٍ.
وقرئ بناء الخطاب
(1)
؛ يعني: المؤمنين، والاستفهام حينئذ للتَّعجُّب؛ أي: عَجبًا منهم كيف قسَتْ قلوبُهم وعميت أبصارُهم عمَّا يتتابع عليهم من أنواع المحن وأصناف الفتن.
{أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} : يُبتلَون بأنواع البليَّات، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعاينون بما يظهر عليه من الآيات.
{فِي كُلِّ عَامٍ} العام هنا ليس على عمومه، بل مُخصَّص بقرينة المقام.
{مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قيل: هذه الفتنة تَهتكُ أستارهم وتُظهر
(2)
أسرارهم.
{ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} من نفاقهم
(3)
{وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : ولا يتَّعظون بما يصيبهم حتى ينتهون عمَّا هم عليه.
وزيادة {هُمْ} لأنَّ غيرهم يتَّعظون باختبارهم أنَّ سنَّة الله تعالى أنْ لا يُخْليَ أرباب التَّكليف من دلائل التَّعريف والتَّحريكِ لهم في كلِّ وقتٍ بنوعٍ من البيان، والتَّعريكِ في كلِّ أوان بضربٍ من الامتحان، فمنهم من لا يزداد بإيضاح البرهان إلا زيادة الخذلان، والحجبة عن قرائر البيان.
(1)
وهي قراءة حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 120).
(2)
في (ف) و (م): "بهتك
…
وإظهار".
(3)
"من نفاقهم" سقط من (ك).
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} ذكر فيما سبق ما يَحدث منهم من القول على سبيل الاستهزاء، وذكر هاهنا ما يحدث منهم من الفعل استهزاءً.
{نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} : تغامزوا بالعيون؛ إنكارًا لها وسخرية، أو غيظًا
(1)
لِمَا فيها من عيوبهم.
{هَلْ يَرَاكُمْ} قائلين: هل يراكم {مِنْ أَحَدٍ} من المسلمين، يريدون الانصراف سرًّا، لانتفاء صبرهم على الاستماع
(2)
لغلبة الضحك، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال؛ لغلبة الغيظ، فإن لم يرهم أحدٌ قاموا
(3)
، وإن رآهم أقاموا
(4)
نفاقًا.
{ثُمَّ انْصَرَفُوا} عن حضرته عليه السلام مخافةَ الفضيحة على التَّقديرَيْن.
{صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الظَّاهر أنَّه خبر، {بِأَنَّهُمْ}: بسبب أنهم {قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} لسوء فهمهم، أو عدم تدبُّرهم.
لَمَّا كان الكلام في معرض ذِكْرِ الذَّنب بدأ بالفعل المنسوب إليهم بقوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} ، ثم ذكر فعله بهم على سبيل المجازاة
(5)
لهم في فعلهم، كقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
(1)
"أو غيظًا" من (م).
(2)
في (ف) و (ك): "استماع".
(3)
في (ك): "أقاموا".
(4)
في النسخ: "قاموا"، والصواب المثبت؛ أي: مكثوا وبقوا ولم يقوموا.
(5)
في (ف): "المجاز".
ومن بلاغة القرآن وبديعِ نَظْمه: أنه إذا كان القول في تعداد الذَّنب بدأ في ترتيبه من الجهة التي هي عن المذنب، كما في المثالَيْن المذكورين؛ ليكون هذا أشدَّ تقريرًا للذَّنب عليهم، وإذا كان في تعداد نِعَمه تعالى بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عنه تعالى، كما في قوله:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ليكون ذلك منبِّهًا على تلقاء النِّعمة من عنده.
* * *
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} مخاطبة للعرب على جهة تعديد النِّعمة عليهم في ذلك؛ إذ نشأ من مكانهم، وجاء بلسانهم، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة، وتشرفوا به غابر الأيام على سائر الأنام.
وقرئ: (مِنْ أَنْفَسِكُمْ)
(1)
؛ أي: أَشْرَفِكم.
ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} أي: شديدٌ وشاقٌّ عليه عنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ من سوء العاقبة والوقوع في العذاب.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} : على إيمانكم وصلاح شأنكم.
{بِالْمُؤْمِنِينَ} خاصَّة - ففيه تعميم من وجهٍ، وتخصيصٌ من وجهٍ - {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} الرَّأفة: أشدُّ الرَّحمة. والرَّحمةُ أعمُّ منها؛ لأنَّ الرَّحمة تُستَعمل
(1)
نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وابن عباس رضي الله عنهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص:56).
في كلِّ نفعٍ من المطر والسَّعة والعافية وغيرها، فكان المعنى في الرؤوف: الشَّفيق العطوف، وفي الرَّحيم: النَّافع المفضِّل، فلكلٍّ منهما وجهُ تقدُّمٍ على الآخر.
وقيل: قدَّم الرَّأفة على الرَّحمة لأنَّ الرَّأفةَ إنَّما تكون باعتبار الحفظِ والصِّيانةِ عن الآفات والنَّقائص التي يُستحقُّ بها العقاب، والرَّحمةَ باعتبار إفاضة الكمالات والسَّعادات التي يُستحقُّ بها الثواب، فالأُولى من باب التَّزكية، والثَّانية من باب التَّحلية، ولا تكون التَّحلية إلَّا بعد التَّزكية، ونسبتها إلى الأولى نسبةَ {حَرِيصٌ} إلى {عَزِيزٌ} .
* * *
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ} أي: فإن أعرضوا عن الإيمان بك فقل لهم، وفيه تلوين الخطاب، ووجهُ التَّفريع: أنَّ مقتضى الرَّحمة والرَّأفة أنْ لا يدعو عليهم ولا يجازَيهم بالفعل الذي يؤذيهِم، أي: فاقتصِرْ على القول الجامع للتَّرغيب والتَّرهيب.
{حَسْبِيَ اللَّهُ} أي
(1)
: فاستعِنْ بالله تعالى، وفوِّض إليه أمرك، فإنَّه يكفيك مَعرَّتهم ويُعينك عليهم.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كالدَّليل على التَّسليم والتَّوكُّل.
(1)
"أي" سقط من (ك).
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فلا أرجو ولا أخاف إلا منه.
{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : المُلك العظيم، أو الجسم الأعظم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير.
وعن أُبَيِّ رضي الله عنه: آخر ما نزل هاتان الآيتان
(1)
.
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: آخر سورة أُنزِلَتْ كاملةً براءة
(2)
.
ومَن قال
(3)
: وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نزل القرآن إلا آيةً آيةً وحرفًا
(4)
حرفًا ما خلا سورةَ براءة وقل هو الله أحد، فإنَّهما نزلَتَا عليَّ ومعهما سبعون ألف صفٍّ من الملائكة"
(5)
، فكأنه نسي ما قدَّمه من قوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُنزِلَتْ عليَّ سورة الأنعام جملةً واحدةً معها سبعون ألف ملك" الحديث
(6)
، والله أعلم بالصواب
(7)
.
* * *
(1)
روى نحوه الإمام أحمد في "المسند"(21113)، والطبري في "تفسيره"(12/ 101)، والطبراني في "المعجم الكبير"(533).
(2)
رواه البخاري (4364)، ومسلم (1618).
(3)
هو الزمخشري وعنه البيضاوي. انظر: "الكشاف"(2/ 325)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 103).
(4)
في (ك): "حرفًا".
(5)
رواه الثعلبي في "تفسيره"(5/ 5) من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد واه كما قال الحافظ في "الكافي الشاف"(ص: 83).
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 85)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 192).
(7)
"والله أعلم بالصواب" ليست في (ف).