الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ النَّحلِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ؛ أي: دنا وقَرب، يقال لمن طلب الإغاثة وقُربَ حصولها: جاءك الغوث.
والمراد من {أَمْرُ اللَّهِ} : ما أَوْعدهم من قيام السَّاعة، أو إهلاكِ الله تعالى إيَّاهم، وعلى هذا وجه إصابة الفاء في قوله:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} محزَّها ظاهر، بخلاف ما إذا كان المعنى: أنَّ الأمرَ الموعود بمنزلة الآتي المحقَّق من حيث إنه واجب الوقوع.
والاستعجالُ: طلبُ الشَّيء قبلَ حينه، كانوا يستعجلون ما أوعدهم اللهُ؛ استهزاءً وتكذيبًا، فنزلت.
ولما كان المستعجِل المستهزئ معجِّزًا له تعالى عن القدرة على ما أَوْعده
(1)
، وفيه تشبيه بالمخلوق، قال:
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ أي: تنزَّه أنْ يحومَ العجز حولَ سرادق
(1)
قوله: "معجِّزًا له"؛ أي: ناسبًا إليه العجز سبحانه، ومعنى الكلام: لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدًا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده. انظر: "تفسير أبي السعود"(5/ 95)، و"روح المعاني"(14/ 10).
كبريائه، وجلَّ
(1)
أن يكون له شريك في المعبوديَّة، فيدفعَ ما أراد بهم.
كانوا يقولون: إنْ صَحَّ يا محمَّد
(2)
فالأصنام تخلِّصنا منه، فنزلت.
وقرئ: {تُشْركون} بالتَّاء
(3)
، على وفق:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وبالياء على تلوين الخطاب، وأمَّا ما قيل: الخطاب للمؤمنين، أو لهم ولغيرهم؛ لِمَا روي أنَّه
(4)
لَمَّا نزلَتْ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وثبَ
(5)
النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناسُ رؤوسَهم، فنزلت:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}
(6)
= فيأباه التَّصدير بالفاء.
* * *
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} استعار الرُّوح للوحي أو للقرآن؛ لأنَّه تحيَى به القلوب الميتة بالجهل حياةَ الجسد بالرُّوح.
وذكرُه عقيب ما وعدَ به إشارةٌ إلى طريق العلم به، وإزاحة لاستبعادهم اختصاصَه عليه السلام بالعلم به.
(1)
في (ك) و (م) زيادة: "عن".
(2)
أي: (إن صح مجيء العذاب .. ). انظر المصدرين السابقين.
(3)
قرأ بها حمزة والكسائي، والباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 121).
(4)
في (ف): "أنها".
(5)
في (ك) و (م): "فوثب".
(6)
ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه. انظر: "تفسير الثعلبي"(6/ 6)، و"زاد المسير"(4/ 421).
وقرئ: {يُنْزِلُ من أَنزل
(1)
، و:(تَنَزَّلُ) بمعنى: تتنزل
(2)
، و:(تُنَزَّلُ) على المضارع المبني للمفعول
(3)
، من التَّنزيل.
{مِنْ أَمْرِهِ} : بأمره، أو: من أجْل أمره {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أنْ يتَّخذه رسولًا {أَنْ أَنْذِرُوا} : بأنْ أنذروا.
والإنذارُ: الإعلام، ويختصُّ بما فيه تخويفٌ، ولتلك الخصوصية مناسبةٌ للمقام من حيث إن المشرك دائرٌ أمرُه بين الإسلام والسَّيف، فإبلاغ أمرِ التَّوحيد إعلامٌ يتضمَّن التَّخويف بالقتل.
ويجوز {أَن} تكون أنْ مفسِّرة؛ لأنَّ في الوحي معنى القول، أو مصدريةً في موضع الجرِّ بدلًا من {بِالرُّوحِ} ، أو مخفَّفةً من الثَّقيلة.
{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} ، أي: الشأنَ لا إله إلا أنا، أو: خوِّفوا أهل الشِّرك بأنَّه لا إله إلا أنا.
{فَاتَّقُونِ} رجوعٌ إلى مخاطبتهم بما هو المقصود.
والآيةُ تدلُّ على أنَّ الوحيَ بواسطة الملَك، وأنَّ حاصله التَّنبيه على التَّوحيد الذي هو مُبْتَغى كمالِ القوَّة العلميَّة، والأمرِ بالتَّقوى الذي هو أقصى كمالات القوَّة العمليَّة، وأنَّ النُّبوَّة عطائيَّة، والتي بعدها دليلُ وحدانيته، من حيث إنَّها تدلُّ على أنَّه تعالى هو الموجِد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريكٌ لقدر
(4)
على ذلك، فيلزم التَّمانع.
(1)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 75).
(2)
نسبت للحسن وسلام. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 378)، و"البحر المحيط"(13/ 100).
(4)
في (ف) و (ك): "لدل".
(3) - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} : أوجدهما على مقدارٍ وشكلٍ وأوضاعٍ وصفاتٍ مختلفةٍ قدَّرها وخصَّصها بحكمته.
{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ لأنَّه موجِدٌ للعالَم كلِّه، وكلُّ ما سواه مفتقرٌ إليه، فهو المتعالي عن رتبة الكلِّ.
والتَّحقيق: أنَّ قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} تنبيهٌ وإيقاظٌ؛ ليكون ما يَرِدُ بعدَه مُمَكَّنًا في نفسٍ حاضرةٍ ملقيةٍ إليه، وهو تمهيدٌ لِمَا يَرِد
(1)
مِن دلائل التَّوحيد، وقولَه:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} تفصيلٌ لِمَا أجملَه في قوله: {سبحانه وتعالى} ، أيقظَ أوَّلًا ثمَّ نعَى عليهم ما هم فيه من الشِّرك، ثم أردفه بدلائل السَّمع والعقل، وقدَّمَ السَّمعيَّ لأنَّ صاحبه هو القائم بتحرير العقل وتهذيبه أيضًا، فليس النَّظر إلى دليل السَّمع، بل إلى مَن قام به من الملائكة والرُّسل عليهم السلام.
* * *
(4) - {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} .
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} ، لا حسَّ لها ولا حراك، سيَّالةٍ لا تحفظ الوضع والشَّكل.
{فَإِذَا هُوَ} عطفُه على ما تقدَّم باعتبار أنَّ المراد من خَلْق الإنسان: إيجادُه وتربيتُه إلى أن يبلغ حَدَّ النُّطق والإدراك، فأداتا التَّعقيب والمفاجأة أصابتا المحزَّ.
{خَصِيمٌ} : مِنطيقٌ مجادلٌ عن نفسِه في الخِصام.
(1)
في النسخ: "يريد"، والمثبت من "روح المعاني"(14/ 11)، والكلام منقول من "الكشف" كما صرح الآلوسي.
{مُبِينٌ} للحُجَّة على خصمه، مميِّزٌ للحقِّ عن الباطل، فهو صفة مدح؛ أي: نقله من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشَّريفة، وهي حالة النُّطق والإبانة، ويؤيِّده التَّعقيب بذكر ما امتنَّ به عليه في قِوَام معيشته.
وقيل: معناه: مكافحٌ لخالقه، قائلٌ:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، فهو صفةُ ذمٍّ.
ويأباه التَّوصيف بالإبانة، ولا يساعده سباق الكلام ولحاقه ومَساقه؛ فإنه للدلالة على كمال القدرة والإرادة.
* * *
(5) - {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
{وَالْأَنْعَامَ} ذكر أوَّلًا ما هو أكثر منفعةً وألزمُ لمن أُنزل القرآن بلغتهم، وقد شرح الأنعام في سورة الأنعام.
وانتصابُها بمضمَر يفسِّره قولُه: {خَلَقَهَا} ، و {لَكُمْ} في قوله:{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} خبر مقدم لـ {دِفْءٌ} ، و {فِيهَا} حالٌ منه، والجملةُ بيان لِمَا خُلِقَ له.
أو بالعطف
(1)
على {الْإِنْسَانَ} ، و {خَلَقَهَا لَكُمْ} بيانُ ما خُلِقَ لأجله، {دِفْءٌ} مبتدأ خبره {فِيهَا} ، والجملة مع ما بعدها تفصيلٌ لما خلق له
(2)
.
والدِّفءُ: ما يدفَّأُ به؛ أي: يسخَّن فيقي
(3)
البرد.
(1)
قوله: "بالعطف" عطف على "بمضمر"؛ أي: أو انتصابها بالعطف.
(2)
وفي الإعراب لهذه الجملة وجوه أخر ينظر شرحها ومناقشاتها في "البحر"(13/ 305)، و"روح المعاني"(14/ 23).
(3)
في (ك): "فينفي".
{وَمَنَافِعُ} : نسلُها ودَرُّها وظهورها، وإنَّما عَبَّرَ عنها بالمنافع ليتناول غرضها.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ؛ أي: تأكلون ما يُؤْكَل منها، مِنَ اللُّحوم والشُّحوم والألبان.
وتقديم الظَّرف للاختصاص؛ إشارةً إلى أن الأصل المعتدَّ به في أكل اللَّحم إنَّما هو منها، وأمَّا الأكل من غيرها فكغير المعتدِّ به، وكالجاري مجرى التَّفكُّه، فجَعْلُه لمجرَّد محافظة الفاصلة تنزيلٌ للمنزَّل عن منزلته الفاضلة.
* * *
(6) - {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} .
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} : زينة {حِينَ تُرِيحُونَ} : تردُّونها من مراعيها إلى مراوحها بالعشيِّ {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} : تخرجونها بالغداة إلى المرعَى، فإنَّ الأفنية تَزَّيَّنُ بها، ويتجاوَبُ [فيها] الرُّغاءُ والثُّغاءُ
(1)
، فيأنس أهلها ويفرح أربابها، ويُجلُّهم في أعين النَّاظرين إليها
(2)
، ويكسبهم الجاه والحرمة.
وتقديم الإراحة على السَّرح لأنَّ الجَمال فيها أظهرُ إذا أقبلَتْ ملأى البطون حافلةَ الضروع، ثم أوَتْ إلى الحظائر، حاضرةً لأهلها، يأنسون بها مبتهجين.
(1)
الثغاء: صوت الغنم. والرغاء: صوت الإبل. وما بين معكوفتين من "الكشاف"(2/ 594)، ووقع في النسخ:"ويجاوب" والمثبت هو الأنسب بسياق الكلام.
(2)
زاد في (ف): "ولا يخفى لطفُ موقعِ هذا التَّنبيه والتَمهيد السَّابق بقوله: (من)، حيث تضمن الإشعار بأنهم يبتدؤون أكله من البحر مبالغة في تهيئته للأكل في مقام الامتنان، وفي تخصيص أكله طريًا بالذِّكر إشارة إلى أنه في معرض أن يسرع إليه الفساد لكمال لطافته فيسارع إلى أكله، فكأنه قيل: لتأكلوا منه لحمًا في غاية اللطافية". وليس هنا موضع هذا الكلام، وسيأتي في موضعه الصحيح في تفسير قوله تعالى:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} .
وقرئ: (حينًا)
(1)
، على أن {تُرِيحُونَ} و {تَسْرَحُونَ} كلاهما وصف لـ {حِينَ}؛ أي: تريحون فيه وتسرحون فيه.
* * *
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} : أحمالكم {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} ؛ أي: ليس من شأنكم بلوغه بأنفسكم على أقدامكم.
{إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} : إلَّا بجهد ومشقَّةٍ لو لم تكن الإبل، فضلًا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالَكم
(2)
، فكيف إذا فضلت أثقالكم من أن تحملوها، أو لم تكونوا بالغيه بها إلَّا بِشَقِّ الأنفس.
قرئ: {بشقِّ الأنفس} بكسر الشِّين وفتحها
(3)
، وهما لغتان في المعنى المذكور، وقيل: بينهما فرقٌ، وهو أنَّ المفتوح مصدر شقَّ الأمر عليه شَقًّا، وحقيقته راجعة إلى الشَّقِّ الذي هو الصَّدع
(4)
، وأمِّا الشِّق بالكسر فهو للنِّصف، كأنَّه يذهب نصفُ قوته لما يناله من الجهد.
{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} يرأف
(5)
بكم بتيسير مصالحكم ومعايشكم، ويزحمكم بخلق هذه المنافع والحوامل.
(1)
نسبت لعكرمة والضحاك. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
(2)
من قوله: "لو لم يكن .. " إلى هنا ليست في (م).
(3)
بفتح الشين قرأ أبو جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 302).
(4)
"الذي هو الصدع" من (م).
(5)
في (ك): "رؤوف".
(8) - {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} عطف على {الْأَنْعَامَ} ، وواحد الخيل: خائل، كضائنٍ واحدِ ضأن، وقيل: لا واحد له.
{لِتَرْكَبُوهَا} ذكر هنا منفعةَ الرُّكوب عبارةً، وأحالَ تبيين
(1)
منفعة الحمل على الدلالة، وعكس فيما تقدَّم؛ اعتبارًا في كلٍّ منهما للأصالة.
{وَزِينَةً} انتصب بالعطف على محلِّ {لِتَرْكَبُوهَا} على أنَّها مفعولٌ له، وخولف بينهما لا
(2)
لأنَّ الركوب فعل المخاطبين ففُقِدَ شرطُ نَصْبِه، وأمَّا الزينة ففعل الخالق لأنَّه لا يأبى
(3)
عن نظم الثاني في سلك الأول، بل لأنَّ الأوَّل مقصودٌ بالذَّات والثَّاني بالعرض.
وقرئ: (زينةً) بغير واو
(4)
، فجاز أن يكون حالًا عن أحد الضَّميرين، وأن يكون علَّة لـ (تركبوها).
واستُدلَّ به على حرمة لحومهن
(5)
، ووجه الاستدلال: أنَّ المقام مقامُ الامتنان بعدِّ المنافع، والكلام مشتمِل لنوعَي المقصود استئنافًا لها، فلو كان أكلُها حلالًا لكان أحقَّ بالتَّعرُّض من الزِّينة، وأمَّا أكل لحم الحمار وإن كان حلالًا وقتَئذٍ إلَّا أنَّه في معرض التَّحريم، فالامتنان به لا يليق بالحكمة
(6)
.
(1)
في النسخ: "بين"، ولعل الصواب المثبت.
(2)
"لا" سقط من (ف).
(3)
في (ف): "لا يأتي".
(4)
انظر: "المحتسب"(2/ 8).
(5)
في (م): "لحومهما"، وفي (ف):"لحرمهن"، والمثبت من (ك).
(6)
في (م): "بالجملة"، وفي (ف):"بالحكم".
{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} لما فصَّل الحيوانات المحتاج إليها غالبًا احتياجًا ضروريًّا أو غير ضروريٍّ أجملَ غيرها مما لا يُعلم كُنْهُهُ وتفاصيله؛ أي: فيكم ولكم على سبيل الامتنان، أو ما لم تحصوه ولم يكن لكم به علمٌ لكثرتها، دلالة على مزيد قدرته وحكمته، ويدخل فيه ما خلق في الجنَّة والنَّار مما لا يبلغه وَهْمُ أحدٍ ولا خطر على قلبه.
وغيَر النَّظمَ إلى المضارع استحضارًا لإيجاد ما لم يحطْ به علمًا من الأشياء النَّافعة له، والدلالة على قدرته تذكيرًا للنِّعمة، وتعجيبًا، وتقريرًا لدلائل القدرة، وتعجيزًا لما يشركون به من الآلهة.
* * *
(9) - {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، أي: عليه تعالى رحمةً وفضلًا هدايةُ الطَّريق المستقيم الموصل إلى الحقِّ، أو: عليه الطَّريق المستقيم؛ أي: يصل إليه مَن يسلكه لا محالة، كما تقول: هذا الطَّريق على موضع كذا إذا انجرت
(1)
إليه، والقَصْدُ مصدر بمعنى اسم الفاعل، يقال: سبيلٌ قَصْدٌ وقاصدٌ، أي: مستقيم، كأنَّه يقصد الوجه الذي يؤمُّه السَّالك، والمراد بـ {السَّبِيلِ}: الجنس؛ لإضافة (القَصْد) إليها، ولقوله:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} لا يوصِل إلى الحق لسوء استعداد صاحبه.
وقرئ: (ومنكم جائر)
(2)
؛ أي: عن القصد.
(1)
كذا في النسخ، ولعله: انحزت.
(2)
نسبت لعلي وابن مسعود رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72)، و"الكشاف"(2/ 596)، و"البحر المحيط"(13/ 313).
وتغيير الأسلوب لأنَّه
(1)
ليس [بحقٍّ] على الله تعالى الهداية إلى الطَّريق الجائر عن القصد والاستقامة، أو لا
(2)
يوصَل إلى الله سالكها، أو لأنَّ المقصود بيان سبيله، وذكرُ قسيمه إنما جاء بالعَرَض.
{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ؛ أي: لو شاء الله هدايتكم أجمعين إلى قصد السَّبيل لهداكم إليه هدايةً مستلزِمة للاهتداء.
* * *
(10) - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} .
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} : من السَّحاب، أو: من جانب السَّماء.
لَمَّا استدلَّ على وجود الصَّانع الحكيم
(3)
بأحوال الحيوان أتْبَعه بذكر الاستدلال عليه بعجائب أحوال النبات.
{مَاءً} تنكيره لأنَّه خلاف الماء المعهود، حيث لا يسيل بل ينزل قطراتٍ غير متداركة.
{لَكُمْ} متعلق بـ {أَنْزَلَ} ، أو خبر {شَرَابٌ}
(4)
في قوله: {مِنْهُ شَرَابٌ} ؛ أي: مشروبٌ، و {مِنْهُ} على الأوَّل خبرٌ لـ {شَرَابٌ} ، وعلى الثَّاني تبعيضيَّة.
وفي حصر المشروب المستفاد من تقديم {مِنْهُ} دلالة على أنَّ مياه الأرض منه.
(1)
في النسخ: "على أنه"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 221)، وما سيأتي بين معكوفتين منه.
(2)
في (ف): "ولا".
(3)
"الحكيم" زيادة من (م) و (ك).
(4)
في (م): "لشراب".
{وَمِنْهُ شَجَرٌ} : ومنه تكوُّنه، والمراد بالشَّجر: ما يرعاه المواشي، وقيل: كلُّ ما ينبت على الأرض يُطلَق عليه الشَّجر، قال الشَّاعر:
نعلِفُها اللَّحم إذا عَزَّ الشَّجر
(1)
{فِيهِ تُسِيمُونَ} : ترعَون، مِنْ سامَتِ الماشية: إذا رعَتْ، فهي سائمة، وأسامها صاحبُها، وأصلها من السَّومة، وهي
(2)
العلامة؛ لأنها تؤثِّر بالرَّعي علاماتٍ في الأرض.
* * *
{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ} وقرئ بالنُّون
(3)
على التَّفخيم.
{وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} تقديم {الزَّرْعَ} لأنَّه الأصل في الغِذاء
(4)
، وتخصيص الأجناس الثَّلاثة من الثَّمرات وتقديمها لإظهار فضلها وإنافتها
(5)
على سائرها، ولعلَّ تقديم ما يُسامُ فيه على الكلِّ
(6)
لصيرورته غذاء
(1)
الرجز للنمر بن تولب كما في "الحيوان"(7/ 145)، و"الشعر والشعراء"(1/ 309)، و"الأغاني" (22/ 278). ونسبه الزمخشري في "أساس البلاغة" (مادة: لحم) للطرمَّاح.
(2)
في (ك) و (م): "التي هو".
(3)
قرأ بها أبو بكر. انظر: "التيسير"(ص: 137).
(4)
في النسخ: "الغداء"، والصواب المثبت لأن (الغداء) بالدال: طعام الغداة كما أن العشاء طعام العشي، و (الغذاء) بالذال: ما به نماء الجسم وقوامه، وهو المقصود هنا.
(5)
أي: ارتفاعها وشرفها.
(6)
كذا في النسخ: "على الكل"، وفي "تفسير البيضاوي"(3/ 221)، (على ما يؤكل منه).
حيوانيًّا، هو أشرف الأغذية، أسرع ما يكون إلى اللَّبن واللَّحم.
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ؛ أي: وبعض كلِّها؛ لأنَّ كلَّ ما يمكن من الثَّمرات لا يكون في الأرض.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} : لدلالةً واضحة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : ينظرون فيستدلون بها على وجود الصَّانع وحكمته وقدرته.
ولَمَّا كان الاستدلال بإنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النَّبات قال هنا: {لَآيَةً} على صيغة الإفراد.
* * *
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ} بأنَّ هيَّأها لمنافعكم.
{مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} نصب على الحال؛ أي: نفعكم بها حالَ كونها مسخَّرات بأمره التَكويني، أو على المصدر، وجمع للتَّنويع، جمع مُسَخَّر بمعنى تسخير، أي: سخَّرها أنواعًا من التَّسخير، كأنَّه قيل: سخَّرها تسخيرات.
وقرئ برفع {الشَّمسُ والقمرُ والنُّجومُ} على الابتداء، والخبر {مُسَخَّرَاتٌ} بالرَّفع
(1)
، وبرفع {النُّجُومُ} وحدَه ونصبِ ما قبله، و {مُسَخَّرَاتٌ} خبره
(2)
، يعني أنها مسخراتٌ حقيقةً لله تعالى.
(1)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 137).
(2)
وهي قراءة حفص، وقرأ باقي السبعة بنصب الكل. انظر:"السبعة"(ص: 370).
وإنَّما قيل: إنَّها سُخِّرَتْ لكم باعتبار أنَّ فائدة تسخيرها عائدة إليكم، ومَن وهَم أن المعنى: مسخَّرات لِمَا خُلِقْنَ له، فقد وهِم؛ إذ حينئذٍ يكون إعادةً بلا فائدة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} أتى هنا بصيغة الجمع لأنَّ وجه الدّلالات في السَّماوات متعدِّد.
{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ذكَرَ العقلَ لأنَّ الاحتياجَ إلى تجريد العقل الصَّرْف في الاستدلال بها أشدُّ؛ فإنَّ القوَّة الفكرية كافية في الاستدلال بما يشاهد من أحوال النَّبات وتغييراته واختلاف أشكاله وألوانه، وأما أحوال العلويَّات فلا بُدَّ فيها من مزيد عقلٍ ومعرفةٍ بالعلم الطَّبيعي والهيئة والهندسة، ومَنْ زعم
(1)
أنَّ وجه الدّلالة هنا مع تعددُّه أظهرُ من وجهها ثمَّة مع وحدته فقد كابرَ مقتضى العقل الصَّريح.
* * *
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} : من أنواع الحيوان والنَّبات والمعادن، في موضع نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ، أي: وخلقَ وأنبتَ، كذا قال أبو البقاء، استبعدَ تسلُّط {وَسَخَّرَ} على ذلك؛ إذ حينئذ يلغو قوله:{لَكُمُ} ، فقدَّر فعلًا لائقًا
(2)
، ومَنْ لم يتنبَّه لهذا قال: أي: سخَّر لكم ما خلق لكم فيها
(3)
.
{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} : أصنافُه، فإنَّها تتخالف باللَّون غالبًا.
(1)
في (ف): "وهم".
(2)
انظر: "الإملاء" للعكبري (2/ 791).
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 222)، متابعًا في ذلك "الكشاف"(2/ 598).
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي: يعتبرون، فإن اختلافها في الطِّباع والهيئات والمناظر ليس إلَّا بصنع قادرٍ حكيمٍ.
وأفرد (الآية) لأنَّه عبَّر عنه بمفرد، ووصفه بمفرد.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} بأنْ مكَّنكم من الانتفاع به بالرُّكوب والاصطياد والغَوص وغير ذلك.
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} هو الحوت، وإنَّما عبَّر عنه باللَّحم - وهو ما يُؤكَل من الحيوان - تنبيهًا على جهة فضله وامتيازه عن سائر الحيوانات المأكولة، فإنَّها لا تكون لحمًا إلَّا بعد الذَّبح والسَّلخ، ولا يخفى لطف موقع هذا التَّنبيه، والتَّمهيد السَّابق بقوله:(مِن) حيث تضمَّن الإشعار بأنَّهم يبتدؤون أكلَه من البحر؛ مبالغةً في تهيئته للأكل في مقام الامتنان.
وفي تخصيص أكله {طَرِيًّا} بالذِّكر إشارةٌ إلى أنَّه في مَعْرِض أن يسرع إليه الفساد، لكمال لطافته، فيسارع إلى أكله، فكأنَّه قيل: لتأكلوا منه لحمًا في غاية اللَّطافة، وهذا من ألطف الكنايات التي قلَّما يُتنبَّه لها، ولا بدَّ مِنَ الحمل عليها؛ إذ على تقدير إبقائه على ظاهره يكون بيانًا للواقع، خاليًا عن فائدة الخبر ولازمها.
روي أنَّ أبا حنيفة لَمَّا قال: لو حلفَ لا يأكل لحمًا فأكلَ لحمَ السَّمكِ لا يحنث؛ لأنَّ لحم السمك ليس بلحمٍ، سمعَ سفيان الثَّوري قوله، فأنكر عليه محتجًّا بهذه
الآية، فبعثَ إليه أبو حنيفة رضي الله عنه رجلًا سأله عمَّن حلف لا يصلي على البساط فصلَّى على الأرض، هل يحنث أم لا؟ فقال سفيان: لا يحنث، فقال الرَّجل
(1)
أليسَ إنَّ الله تعالى قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]، فعرفَ سفيانُ أنَّ ذلك تلقينَ أبي حنيفة
(2)
.
وقيل في وجه قوله
(3)
: إنَّ مبنى الإيمان على العادة، وعادةُ النَّاس إذا ذُكِرَ اللَّحم على الإطلاق أن لا يُفهَم منه السَّمك، وإذا قال الرَّجل لغلامه: اشترِ بهذه الدَّراهم لحمًا، فجاء بالسَّمك كان حقيقًا بالإنكار.
وهذا معارَضٌ بأنَّه إذا قال لغلامه: اشترِ بهذه الدَّراهم
(4)
لحمًا، فجاء بلحم العصفور، استحقَّ الإنكار أيضًا مع أنَّه يحنث بأكل لحم العصفور مَنْ حلَفَ لا يأكلُ اللَّحم.
لَمَّا أخرج من البحرِ الملحِ الزُّعاقِ الحيوانَ الذي لحمه في غاية العذوبة ونهاية اللَّطافة عُلِمَ أنَّه إنَّما حدث لا بحسب الطَّبع، بل بقدرة الله تعالى وحكمته، حين أظهر الضِّد من الضِّد.
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} كاللُّؤلؤ والمرجان، فإنَّ الحليةَ اسم لِمَا يُتَحلَّى به، وزيادة حرف التَّنفيس
(5)
هنا للدّلالة على أنَّ إخراجها بمشقَّة تقتضي المهلة.
(1)
"الرجل" من (م).
(2)
انظر: "تفسير الرازي"(20/ 6).
(3)
أي: في تعليل قول أبي حنيفة بعدم الحنث، وصاحب هذا القيل هو الزمخشري. انظر:"الكشاف"(6/ 2).
(4)
في (م): "بهذا الدرهم".
(5)
حرف التنفيس: أي: السين، وحرفا التنفيس هما السين وسوف، وإنما سميتا به لأنَّ التَّنفيسَ التَّأخيرُ، =
{تَلْبَسُونَهَا} : تلبسها النِّساء، فهو من قبيل
(1)
إسناد فعل البعض إلى الجملة بقرينة
(2)
السابق.
{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} : جواريَ فيه، تشقُّه بحيزومها مع صوتٍ، مِنَ المَخْرِ، وهو شقُّ الماءِ بصوتٍ.
{وَلِتَبْتَغُوا} عطف على محذوفٍ تقديرُه: لتركبوا فيها ولتبتغوا.
{مِنْ فَضْلِهِ} : من سعة رزقه بركوبها للتِّجارة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: وتشكروا
(3)
الله تعالى على هذه النِّعمة الجليلة؛ حيث يقطع بها المسافة البعيدة في المدَّة القليلة، مع ما فيها من الأحمال والأثقال، بلا مُؤْنَةِ الرَّفع والوَضْع في أثناء السَّفر كما هو المعتاد في مسافرة البر، هذا هو الوجه بتخصيص هذه النِّعمة بتعقيب الشُّكر، وأمَّا جعل المهالك سببًا للانتفاع وتحصيل المعاش فلا يناسب مقام الامتنان بالإحسان، إنما يناسب مقام إظهار القدرة.
* * *
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} عطفٌ على محذوفٍ، تقديرُهُ: والأرض مددناها
= وهما أيضا للاستقبال والتَّأخير. انظر: "دستور العلماء"(2/ 22).
(1)
في (ف) و (ك): "قريب".
(2)
في (م) و (ك): "كقرينه".
(3)
في (ف): "وتشكرون".
وألقينا فيها رواسيَ، ولَمَّا حُذف المعطوف عليه
(1)
عُدِلَ مِنَ الضَّمير إلى الظَّاهر، وقد مرَّ تفسيره في سورة الحجر.
{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} : كراهةَ أنْ تميدَ بكم؛ أي: تتحرَّك وتميل.
والمَيْدُ: الاضطراب، وذلك أنَّ الأرضَ لو بقيَتْ على بساطتها كانت كريَّةً مجيبة للتَّحرك بأدنى سبب، أو متحركةً كالفُلك، فلَمَّا خُلِقَتِ الجبال راسخة فيها
(2)
تفاوتت جوانبُها، وتوجَّهت الجبال نحو المركز بثقلها، فصارَتْ كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة والميل من جانبٍ إلى جانبٍ.
{وَأَنْهَارًا} ؛ أي: وجعل فيها أنهارًا؛ لأنَّ {وَأَلْقَى} فيه معناه.
{وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : لتهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم.
وإنَّما قال: {لَعَلَّكُمْ} لأنَّه لا بُدَّ من الاستدلال في بعض المواضع للاهتداء إلى المقاصد.
* * *
(16) - {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .
{وَعَلَامَاتٍ} : ومعالم
(3)
يَستدلُّ بها السَّابلة
(4)
في النَّهار، من الجبال والأنهار ونحو ذلك.
(1)
"عليه" من (م).
(2)
في هامش (ف): "من قال: فلما خلقت الجبال على وجهها، فقد غفل عن وجه العدول عن (ألقى على الأرض) إلى {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ}، وقد مرَّ في تفسير سورة الحجر. منه".
(3)
"ومعالم" من (م).
(4)
السابلة: أبناء السبيل المختلفة في الطرقات.
{وَبِالنَّجْمِ} المراد به الجنس، أو الثُّريَّا والفرقدان وبناتُ النَّعْش والجَدْي، ويساعده
(1)
قراءته بضمَّتين، وضمٍّ وسكون، على الجمع
(2)
.
{هُمْ يَهْتَدُونَ} باللَّيل في البراري والبحار.
وتقديم النَّجم، وتوسيطُ الضَّمير إقحامًا، وإخراجُ الكلام عن سَنَن الخطاب إلى الغيبة، للدِّلالة على أنَّ هؤلاء المنكرين من قريش بالنَّجم خاصَّةً هم خصوصًا يهتدون؛ لأنَّهم كانوا كثيري الأسفار للتِّجارة، مشتهِرين بأنهم أعلمُ النَّاس بالاهتداء بالنُّجوم في مسائرهم، فكان الاعتبار بذلك ألزمَ لهم، والشكر لله به أوجبَ عليهم، فلذلك خُصِّصوا.
* * *
(17) - {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الهمزة للإنكار دخلت على فاء التَّعقيب؛ أي: بعد هذه الدَّلائل المتكاثرة الواضحة الدِّلالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته وانفراده بخلق ما عدَّد من مبدَعاته يقولون
(3)
بمساواة الخالق المطلَق لِمَا لا يخلق شيئًا.
وأورد (مَن) للجمادات التي هي الأصنام؛ إمَّا للمشاكلة، وإمَّا بناءً على اعتقادهم، وتسميتِهم آلهةً، وعبادتِهم لها، وفيه ضربٌ من التَّهكُّم، وإمَّا لأنَّ المرادَ: كمَن لا يخلق مِن أولي العلم، فكيف بالجماد؟! للمبالغة.
(1)
في (ك) و (م): "ويساعدهما". والمثبت من (ف)، والمعنى: ويساعد الوجه الثاني ما سيأتي من القراءتين اللتين تفيدان الجمع.
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72)، ونسب قراءة الضم والسكون إلى الحسن ومجاهد.
(3)
"يقولون" سقط من (ف) و (ك).
وكان حقُّ الكلام أن يُقال
(1)
: أفمَن لا يخلق كمَن يخلق؛ لأنَّه إلزامٌ لعبدة الأوثان، لكنَّه عكس تفظيعًا لشأنهم، بأنَّهم لَمَّا سمَّوها باسمه، وعبدوها كعبادته، وسوَّوا بينه وبينها، فقد جعلوا الله تعالى من جنس هذه المخلوقات وشبيهًا بها، فأنكر ذلك عليهم.
وحذف مفعول {يَخْلُقُ} لأنَّ المراد نفسُ صدور الفعل منه؛ أي: أيكون الخالق شبيهًا بغير الخالق، أو للتَّعميم؛ أي: أفمَن يخلق كلَّ شيء كمَن لا يخلق شيئًا، أو لأنَّ ما عُدِّدَ من المخلوقات دلَّ عليه؛ أي: أفمَن يخلقُ ما عُدِّدَ من الأشياء العظيمة العجيبة كمَن لا يخلق شيئًا منها، أفلا تذكَّرون بعد هذه التَّنبيهات فتعرفوا فسادَ ذلك؛ فإنَّه لجلائه ووضوحه كالبديهيِّ المغفول عنه.
* * *
(18) - {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} : لا تبلغ طاقتكم ضبطَ عددها، فضلًا عن أن تطيقوا القيام بشكرها، أَتْبع ذلك تعداد النِّعم، وإلزام الحجَّة على انفرادها باستحقاق العبادة؛ تنبيهًا على أنَّ وراءَها مِنَ النِّعم ما لا ينحصر، وأنَّ القيامَ بحقِّ عبادته وشكره غير مقدورٍ لأحدٍ.
{إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث يغفر تقصيرَكم في أداءِ شكرها ويتجاوز عنه.
{رَحِيمٌ} يقطعُها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها، وفيه إشعار بأنَّه تعالى ما كلَّفكم حقَّ الشُّكر؛ لعدم الإمكان، وتجاوَز عن الممكن إلى السَّهل الميسور.
(1)
"أن يقال" ليست في (ف).
(19) - {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
وفي قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ما يُشْعِرُ بأنهم قصَّروا في هذا الميسور أيضًا، فاستحقُّوا العقاب؛ أي: يعلم ما تسرُّون من عقائدكم وعزائمكم وما
(1)
تعلنون من أعمالكم وأقوالكم، وهو وعيدٌ على شركهم باعتبار العلم والعمل، وتقصيرِهم في الشُّكر والعبادة، وتقديم {مَا تُسِرُّونَ} لأنَّ الوعيد من جهة العقائد والعزائم أهمُّ.
* * *
(20) - {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: والآلهةُ الذين يدعونهم الكفَّارُ من دونه تعالى، أو يعبدونهم.
{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} لَمَّا نفى المساواة والمشابهة بينَ مَنْ يخلقُ وبينَ مَنْ لا يخلقُ بيَّنَ أنَّهم لا يخلقون شيئًا؛ ليَنتج أنَّهم لا يساوونه ولا يماثلونه
(2)
.
ثمَّ أثبَتَ لهم صفات تنافي الألوهيَّة تأكيدًا لذلك فقال:
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ؛ أي: وهم ممكِناتٌ مفتقِرةٌ إلى التَّخليق، فكيف تكون آلهة والإلهُ يجب أن يكون واجبَ الوجود غنيًّا عن الكلِّ؟
* * *
(21) - {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .
{أَمْوَاتٌ} : هم أموات. ولَمَّا احتمل أن يكون المعنى: أموات فيما بعدُ، على طريقة:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] دفَعه بقولِه:
(1)
في (ف): "مما".
(2)
في (ف): "يماثلون".
{غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ويجوز أن يكون المعنى
(1)
: جمادات لا يَعرِض لها حياة كما يَعرِض لبعض الأموات، كالنُّطَف التي يحييها الله تعالى ويجعلها حيوانات، وكأجساد الموتى التي يبعثها الله تعالى، وذلك أغرقُ في كونها أمواتًا.
ويجوز أن يكون المعنى: أمواتًا
(2)
حالًا أو مآلًا، غيرَ أحياء بالذَّات؛ ليتناول كلَّ معبود، والإلهُ يحب أن يكون حيًّا بالذَّات لا يعتريه الممات.
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: لا يشعرون متى تُبعث عبَدتهم، فكيف يجازونهم، فإنَّ المعبود يجب أن يعلم عبادة العابد وقتَ بعثه وجزائه حتى يقدر على مجازاته بعد موته؛ فإنَ البعث والجزاء من لوازم التَكليف والعبادة، وفيه تهكُّمٌ بهم وبآلهتهم؟ فإنَّها جمادات لا شعورَ لها بشيءٍ، فكيف ممَّا لا يشعرُ به حيٌّ غير الله تعالى؟
* * *
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} تلخيصٌ للنَّتيجة، وتكريرٌ للمطلوب، بعد إقامة الحجة عليه على أبلغ الوجوه.
{فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} تعكيسٌ للمقصود من النَّتيجة، وبيانٌ لموجِب إنكارهم؛ أي: إنَّه قد ثبت وتحقَّق بالبراهين المذكورة أنَّ الألوهيَّة تمتنع أن تكون إلَّا لله وحدَه، وأنَّه لا شريكَ له فيها، فأنتجَ لهم ذلك إصرارَهم واستمرارهم
(1)
"المعنى" سقط من (ف) و (ك).
(2)
"أمواتا" من (م).
على شركهم، وإنكار قلوبهم للوحدانيَّة، وذلك لعدم إيمانهم بالآخرة، فإنَّ الذي لا يؤمن بها لا ينظر في الدَّلائل ولا يتأمَّلها، بخلاف المؤمن بها.
{وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} : وهم قومٌ عادتهم الاستكبارُ عن التَّوحيد وعن الإقرار به؛ لِمَا رسخَ في قلوبهم من تقليد آبائهم.
* * *
{لَا جَرَمَ} قد سبقَ تفسيره في تفسير
(1)
سورة هود.
{أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيجازيهم على ذلك، وعيدٌ على ما ذُكِرَ على أبلغ وجهٍ، وهو في موضع الرَّفع على الفاعليَّة؛ لأنَّ (جرم) فعلٌ أو مصدرٌ
(2)
.
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} تعليلٌ للوعيد؛ أي: لا يحبُّ كلَّ مستكبرٍ، فكيف
(1)
"تفسير" سقط من (ف).
(2)
كذا أجمل هذا الإعراب، وهو محتاج إلى تفصيل، فقوله:(لا جرم) إما مؤول بالفعل، أو مؤول بالمصدر، أو (جرم) وحده فعل، أو هو اسم (لا)، ولكل ذهب قوم: فذهب الخليل وسيبويه والجمهور إلى أنها اسم مركب مع (لا) تركيب (خمسة عشر)، وبعد التركيب صار معناها معنى فعلٍ وهو: حَقَّ، فهي مؤولة بفعل. وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو: حقًّا. وقيل: (جَرَم) نفسها فعل ماض بمعنى: ثبت ووجب، و (لا) نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] على وجه. و {أَنَّ} وما بعدها على هذه الوجوه في تأويل مصدرٍ مرفوع. وذهب الزجاج إلى أن (جرم) فعل أيضا لكن بمعنى: كسب، وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق، و (لا) كما في القول السابق، و {أَنَّ اللَّهَ .. } منصوب على المفعولية لـ (جرم)، وقيل: إنه خبر (لا) حذف منه حرف الجر و (جرم) اسمها، والمعنى: لا صدَّ أو لا منع في أن الله يعلم .. إلخ. انظر: "روح المعاني"(14/ 74).
بالذي استكبرَ عن توحيده أو اتِّباع رسوله. وفي إطلاق {الْمُسْتَكْبِرِينَ} تعميم برهانيٌ.
* * *
(24) - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} القائلُ بعضُهم على التَّهكُّم، أو الوافدون عليهم، أو المسلمون {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
{مَاذَا} منصوب بـ {أَنْزَلَ} ؛ أي: أيُّ شيءٍ أنزلَ ربُّكم؟ وتقدير الجواب: ما يدَّعون نزوله أساطيرُ الأولين، أو مرفوع بالابتداء؛ أي: أيُّ شيءٍ أنزله ربكم؟ وتقدير الجواب: هو أساطيرُ الأولين، أو: المنزَل أساطير الأولين، على السُّخرية والتَّهكُم.
والمجيبون: المقتسِمون مداخلَ مكَّة ينفِّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} متعلِّق بـ {قَالُوا} على التَّعليل في نفس الأمر لا الفرضِ، واللامُ لامُ العاقبة؛ أي: قالوا ذلك إضلالًا للنَّاس فحملوا أوزار إضلالهم
(1)
كاملة، فإنَّ إضلالهم نتيجةُ رسوخهم في الضَّلال.
{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} : وبعضَ أوزار ضلال مَنْ ضَلَّ، وهو وزرُ
(1)
في (ف): "ضلالهم".
الإضلال؛ فإنَّ ضلاله إنَّما حصل بأمرَيْن: إضلالِ هذا، أو مطاوعةِ هذا، فيتحاملان الوزر.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من المفعول؛ أي: يضلونهم على جهلهم.
وفائدة التَّقييد به: الدِّلالة على أن جهلهم ليس بعذرٍ؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا وينظروا
(1)
، فيعرفوا مَن يقلدونهم، ويميِّزوا بينَ المحِقِّ والمُبْطِل.
{أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} : بئسَ شيئًا يزرونه فعلُهم.
* * *
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: سوَّوا منصوبات
(2)
ليمكروا بها رُسل الله.
{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} : فأتاها أمرُه من جهة العُمُد التي بنوا عليها بأنْ ضَعُفَتْ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} قال ابن الأعرابي: العرب تقول: خرَّ
(3)
علينا سقف، ووقع علينا حائط، إذا كان يملكه
(4)
وإن لم يكن أوقع، عليه، فجاء بقوله:
(1)
في (م): "أو ينظروا".
(2)
أي: صنعوا حيلًا، والمنصوبة: الحيلة. انظر: "حاشية الشهاب"(5/ 325).
(3)
في (م): "تخر".
(4)
تحرف في النسخ إلى: "يهلكه"، والمثبت من المصادر. انظر:"تفسير القرطبي"(12/ 314)، و"البحر المحيط"(13/ 334)، و"روح المعاني"(14/ 81)، وما سيأتي بين معكوفتين من هذه المصادر. والمعنى كما قال الألوسي: أن المراد إذا انهدم وهو في ملك القائل، وإن لم يقع عليه حقيقة.
{مِنْ فَوْقِهِمْ} ليخرج به هذا عن الذي من كلام العرب؛ أي: عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا.
{وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} : لا يحتسبون ولا يتوقَّعون.
تمثيلٌ؛ أي: قد دبَّروا حِيَلًا ليمكروا بها رُسُلَ اللهِ، فجعل الله هلاكهم في تلك المماكر والحِيَل واستئصالَهم بها؛ كحالِ قومٍ بنوا بنيانًا وأحكموا قواعده فأتى الله بنيانهم من جهة الأساس، فسقط عليهم السَّقف وهلكوا.
* * *
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} : يذلُّهم.
قيل: يعذِّبهم بالنَّار؛ لقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192].
ويأباه قوله
(1)
: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} لأنَّه قبلَ دخولهم في النَّار أضاف إلى نفسه الشُّركاء حكايةً لإضافتهم؛ توبيخًا لهم بها وتهكُّمًا بهم.
{الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} : تعادُون المؤمنين في شأنهم.
وقرئ بكسر النُّون
(2)
، بمعنى: تشاقُّونني، فإنَّ مشاقَّة المؤمنين كمشاقَّة الله.
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التَّوحيد فيشاقُّونهم ويتكبَّرون عليهم:
(1)
"ويأباه قوله" سقط من (ف) و (ك).
(2)
وقي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 137).
{إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ} متعلِّق بطرفيه
(1)
{وَالسُّوءَ} : الذِّلَّةَ والعذاب.
{عَلَى الْكَافِرِينَ} تقريرًا لِمَا كانوا يَعِظونهم به، وتحقيقًا لِمَا أَوعدوهم، أو إظهارًا للشَّماتة بهم، وحكى الله تعالى قولهم ليكون لطفًا لمن سمعه.
وقيل: المراد من القائل: الملائكة، ويأباه قوله:
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يحتمل الجرَّ صفةً للكافرين، فيكون داخلًا تحت القول، والنَّصب والرَّفع على الذَّمِّ.
{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بأن عرَّضوها على العذاب المخلَّد. نصت على الحال.
{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} : فسالَموا وأُخبتوا وتولَّوا عمَّا كانوا عليه في الدُّنيا مِنَ الشِّقاق والتَكبُّر والتَّعظُّم.
قيل: حين عاينوا الموت، ويأباه السباق واللحاق.
{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} : مِن كفر وعدوان؛ أي: قائلين ذلك، ويجوز أن يكون تفسيرًا للسلم، على أنَّ المراد به: القول الدَّال على الاستسلام.
لَمَّا جحدوا ما كانوا عليه من الكفر والعدوان رَدَّ عليهم أولو العلم بقولهم:
{بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو مُجازيكم عليه، وهذا أيضًا من باب الشَّماتة، وكذلك:
(29) - {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
(1)
أي: متعلق بالخزي والسوء كلاهما لتوسيطه بينهما، وقد مر التنبيه على نظائر له.
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ؛ أي: كلُّ صنفٍ بابَه المُعَدَّ له. وقيل: أبوابُها: أصناف عذابها.
{خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هي؛ أي: جهنَّمُ.
والوصف بالتَّكبُّر للإيذان باستحقاق صاحبه النَّار، ومَنْ لم يجوِّز الكذب يومئذ أَوَّلَ قولَهم ذلك: بأنَّا لم نكن في زعمنا عاملين سوءًا، ولا يناسبه الرَّدُّ المذكور كما لا يخفى.
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني: المؤمنين، عطف على {قِيلَ لَهُمْ} في
(1)
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} .
{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} ؛ أي: أَنزل خيرًا، وإنما رفع الأوَّل ونصب الثَّاني فرقًا بين جواب الجاحد وجواب المقرِّ؛ أي: إنَّ المتَّقين لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السُّؤال بيِّنًا مكشوفًا، والمشركون عدلوا بالجواب عن السُّؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} كلامٌ مدحَ اللهُ تعالى به القائلين خيرًا، وجعل قولهم ذلك من جملة إحسانهم، وحَمِدهم عليه، ووعدهم به.
فهو كلامٌ مبتدأ لا محلَّ له من الإعراب، ويجوز أن يكون بما بعده بدلًا من
(1)
في (ف): "من".
{خَيْرًا} على أنَّه من كلام المتَّقين؛ أي: قالوا خيرًا، ثم فسَّروا الخير بهذه الجملة، بمعنى: أنزل هذا الكلام بعدما أبهموه وسمَّوه خيرًا.
{حَسَنَةٌ} مكافأة بإحسانهم في الدُّنيا، وهي العصمة والتَّوفيق والنَّجاة من العذاب المعجَّل.
{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} : ولثوابهم في الآخرة {خَيْرٌ} مما لهم في الدُّنيا.
{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} اللَّام للقسم، و (نعم) كلمةُ مدحٍ؛ إذ لا خوف فيها ولا حَزَن، ونعيمها مقيمٌ، وملكُها دائمٌ، وصاحبها فيها خالد.
وحذف المخصوص بالمدح، وهو: دارُ الآخرة؛ لتقدُّم ذكرها.
وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبر مبتدأ محذوفٍ، ويجوز أن يكون المخصوصَ بالمدخ.
{يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} تقديم {لَهُمْ} للتَّخصيص؛ أي: لهم خاصَّةً دون غيرهم.
وعموم {مَا} مع تقديم {فِيهَا} يفيد أنَّ الإنسان لا يجد جميعَ ما يشاء من المشتهَيات إلَّا في الجنَّة.
{كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} فذلكةٌ للتَّأكيد مع تعظيم الجزاء، وفيه تقوية للوجه الأوَّل.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} : طاهرين مِنْ ظُلْمِ أنفسهم بالكفر والمعاصي؛ لأنَّه في مقابلةِ {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ، أو: فرحين ببشارة الملائكة إيَّاهم بالجنَّة، أو: طيبين بقبض أرواحهم، لقوَّة إيمانهم وتوجُّه نفوسهم بالكُلِّيَّة إلى عالم القدس.
{يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} : لا يَحيقكم بعدُ مكروهٌ.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : بسبب ثباتكم على الأعمال الصَّالحة، وإنَّما قال:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} ؛ لأنَّ القبر روضةٌ من رياض الجنَّة في حقِّهم، ومَن غفل عن هذا ذهب إلى ما ذهب، وارتكبَ لِمَا يخلُّ حُسنَ الانتظام في الكلام.
{هَلْ يَنْظُرُونَ} ؛ أي: الكفَّارُ المَارُّ ذكرُهم {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} بقبض
(1)
أرواحِهم {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} : العذابُ المستأصِل الواقع فجأة، وقد سبقَ وجهُ التَّعبير عن مثله بأمر الله تعالى.
وتفسير الأمر بالقيامة يأباه كلمة {أَوْ} ؛ لأنَّ انتظارهما يجامع انتظار الملائكة.
{كَذَلِكَ} : مثلَ ذلك الفعل الشَّنيع القبيح مِنَ الشِّرك والتَّكذيب.
(1)
في (م): "لقبض".
مَن قال هنا: فأصابهم ما أصابهم
(1)
، فكأنَّه غفل عن أنَّ
(2)
الإخبار عنه بعد هذا صريحًا في نظم القرآن يأبى عن اعتباره هنا تقديرًا.
{فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتدميرهم أو تعذيبهم.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما استوجَبوا به ذلك.
(34) - {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} : جزاءُ سيئاتِ أعمالهم، لا على حذف المضاف، بل على تسمية الجزاء باسمها.
{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} : وأحاط بهم جزاؤه، والحيقُ لا يُستَعمَلُ إلَّا في الشَّرِّ.
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} مِنَ البَحائر والسَّوائب وغيرهما ممَّا أحلَّ اللهُ تعالى، وإنَّما قالوا ذلك عنادًا وتعنُّتا وإلزامًا للموحِّدين؛ بناء على زعمهم وقولهم: ما شاء الله يجب
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 226)، وفيه: مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فأصابهم ما أصابهم.
(2)
"أن" من (ك).
وما لم يشأ يمتنع. ومنعًا للبعثة، وإنكارًا للتَّكليف؛ لعدم الفائدة فيهما
(1)
حينئذٍ، وإنكارًا
(2)
لقبيح ما أنكِر عليهم من الشِّرك والتَّحريم ونحوهما، متمسِّكين بأنَّها لو كانت مستقبَحة لَمَا شاءَ اللهُ صدورَها عنهم، ولشاء خلافه ملجِئًا إليه، لا اعتذارًا؛ إذ لم يعتقدوا قبحَ أعمالهم.
{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أي: مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيع من الاستهزاء بالرُّسل، وإنكارِ البِعْثة والتَّكليف، والجدال بالباطل فعلَ أسلافُهم ولَمَّا فُهِمَ منه أنْ إنذار الرُّسل وإرشادهم لم يُجْدِ نفعًا في حقِّ الضَّالين المعاندين اتَّجه السُّؤال بأنْ يُقالَ: فما بالُ المرسلين حيثُ لم يتمُّوا مصلحةَ الإرشاد؛ أجابَ عنه بما حُذِفَ وأُقِيمَ تعليلُه مقامَه - لاستلزام
(3)
العلَّةَ للمعلولِ - قوله
(4)
:
{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ أي: لا بأس فيه فهل عليهم إلَّا الإبلاغ الموضِّح للحقِّ؛ أي: ليس لهم عليهم الهداية، ولكنَّ اللهَ سبَّبَ الأسباب بحكمته، وجعلَ تبليغَ الرُّسل من أسباب الهداية لمن شاء هدايته، فليس عليهم
(5)
إلَّا ما كلَّفهم من التَّبليغ والإبانة؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
ثمَّ بيَّن أنَّ بعثةَ الرُّسل والدَّعوةَ إلى الحقِّ والتَّكليف أمرٌ جرَتْ به السُّنَّة الإلهيَّة
(1)
في (ف): "فيها".
(2)
في (م): "أو إنكار".
(3)
في (م): "لاستلزامه".
(4)
"قوله" من (م).
(5)
في (ك): "عليهم له"، وفي (م):"عليهم له عليه السلام".
في الأمم كلِّها سببًا
(1)
لهدي مَن أراد اهتداءه، وازدياد
(2)
ضلال مَنْ أراد ضلاله، كالغذاء الصَّالح الذي ينفع مَن اعتدل مزاجُه، ويضرُّ مَن انحرفَ مزاجه، بقوله:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} التَّنكير للتعظيم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} و {أَنِ} يجوز أنْ تكون تفسيريَّة؛ لأنَّ البعث يتضمَّنْ معنى القول، وأنْ تكون مصدريَّة؛ أي: بعثناه بأنِ اعبدوا الله.
{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} قد سبق تفسيره في سورة البقرة.
{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} : وفَّقهم للإيمان بإرشادهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} تغيُّر الأسلوب بالعدول عن قوله: ومنهم مَن
(3)
أضلَّه؛ للتَّنبيه على أنَّ الثَّانيَ لسوء استعدادهم، على ما أفصحَ عنه قوله تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
ومَنْ لم يتنبَّه لذلك قال: إذ لم يوفِّقهم ولم يُرِدْ هُداهم.
{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ترتيبُه على موجَب ما تقدَّم من نزول العذاب عليهم، فكأنَّه أخبر عنه، وأحالهم في معرفة ذلك على السَّير في الأرض. ولا اختصاص للأمر المذكور بقريش.
(1)
"سببًا"من (م).
(2)
في (م): "أو ازدياد".
(3)
في (ك) و (م): "لمن".
{فَانْظُرُوا} العطف بالفاء للدِّلالة على أنَّ الغرض من الأمر بالسَّير هو النَّظر المذكور؛ أي: سيروا في الأرض لهذا الأمر، واجعلوه غايةَ سيركم، فالفاء
(1)
ترتِّبُ أحدَ الأمرين على الآخر، يكون الأوَّل وسيلةً للثَّاني
(2)
، لا لتعقيب السَّير بالنَّظر، فتدبَّر.
{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من عاد وثمود وغيرهم؛ لعلَّكم تعتبرون.
{إِنْ تَحْرِصْ} الخطاب للرَّسول صلى الله عليه وسلم.
{عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} مَن حقُّه أن يُضل.
تعليلٌ للجزاء أُقِيمَ مقامَه لاستلزام العلَّة للمعلول، أي: فهوِّنْ على نفسك ولا تتعبها وتسلَّ عنهم؛ فإنَّ هداهم ممتنع.
وقرئ: {لَا يَهْدِي} على البناء للمفعول
(3)
، وهو أبلغ.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ينصرونهم إذ خذلهم الله تعالى، أو يدفعون العذاب عنهم إذ عذَّبهم، وإنَّما نفى الجمع؛ لأنَّ الاجتماع مظنَّة زيادة القوَّة والقدرة على النُّصرة.
(1)
في (م) زيادة: "بيان".
(2)
"للثاني" من (م).
(3)
قرأ بها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 137).
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} مستعارٌ مِنْ جَهَدَ نفسَه: إذا بلغ طاقتها وأقصى وسعها؛ للمبالغة في اليمين، وبلوغ غاية غلظتها، وأقصى وكادتها، وهو في حكم الحال؛ لأنَّ أصله: وأقسموا بالله يجهدون أيمانهم، فحذف الفعل ووضع المصدر مكانه مضافًا إلى المفعول.
{لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أرادوا به نفيَ قدرته تعالى على بعث الموتى، والجملة عطف على:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} تصريحًا بأنَّهم كما أنكروا التَّوحيد أنكر والبعث مقسِمين عليه؛ زيادةً في البَتِّ على فساده؛ للإيذان بأنَّهما كفرتان عظيمتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوَّنا؛ ليُتعجَّب منهما ويُعتبر بهما.
وقد رَدَّ اللهُ عليهم أبلغَ رَدٍّ فقال: {بَلَى} يبعثهم الله.
{وَعْدًا} مصدر مؤكِّد لما دلَّ عليه {بَلَى} ؛ لأنَّ {يَبْعَثُ} موعِد مِن اللهِ تعالى.
{عَلَيْهِ} صفة لـ {وَعْدًا} {حَقًّا} صفة أخرى له؛ أي: وعدًا ثابتًا عليه الوفاء به حقًّا لامتناع الخلف في وعده، ولكون البعث مقتضى حكمته.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّهم يبعثون، أو: أنَّ وعده حقٌّ عليه إنجازُه بمقتضى حكمته، وعدمُ العلم به لا يستلزم العلم بالعدم، فضلًا عن العلم بالامتناع، فما قيل في التَّعليل: لقصور نظرهم بالمألوف يتوهَّمون امتناعه، من قصور النَّظر.
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} تعليل لِمَا دَلَّ عليه {بَلَى} ، أي: يبعثهم ليبيِّنَ لهم، والضَّمير في {مَنْ يَمُوتُ} عامّ للنَّاس كلِّها
(1)
.
{الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو الحقُّ.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} في قولهم: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} ، وهو إشارة إلى السَّبب الدَّاعي إلى البعث، المقتضي له من حيث الحكمة، وهو المميِّز بينَ الحقِّ والباطل، والمحقِّ والمبطل بالثواب والعقاب.
(40) - {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
ثم قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {قَوْلُنَا} مبتدأ، {أَنْ نَقُولَ} خبره، و {إِذَا} لمجرَّد الظَّرفيَّة؛ أي: وقتَ إرادتنا له، أو شرطيَّةٌ محذوفة الجواب لدلالة الجملة الاسمية عليه؛ أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلَّا أنْ نقولَ له: احدُثْ، فحدث عَقيبَ ذلك بلا توقُّف، تمثيل لبيان إمكان البعث وسهولته على الله، وهو أنَّ كلَّ ما تعلَّق به إرادته من الأشياء لا يمتنع عليه ولا يتوقَّف، بل يكون كمأمورٍ مطيعٍ أمَره أَمر مُطاع، فلم يلبث أن يمتثل، والمبعوث أحدُ الأشياء الممكنة
(2)
، فكيف يمتنع عليه؛ ولا قولَ
(3)
.
وقرئ: {فيكونَ} بالنَّصب
(4)
، عطفًا على {نَّقُولَ} أو جوابًا للأمر.
(1)
في (ف): "كلها".
(2)
"الممكنة" زيادة من (م).
(3)
أي: إنما هو تمثيل، وليس هناك قول ولا مقول له، وهذا أحد الأقوال في الآية. انظر:"روح المعاني"(14/ 115 - 116).
(4)
قرأ بها ابن عامر والكسائي. انظر: "التيسير"(ع: 137).
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} هم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون رضي الله عنهم.
ودلَّ قولُه: {فِي اللَّهِ} على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله تعالى لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ.
وقولُه تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} على أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار، والمحبوسون المعذَّبون بمكَّة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} مباءَةً حسنةً، أو: تبوئةً حسنةً.
{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} ممَّا يعجَّل لهم في الدُّنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الضمير للمهاجرين؛ أي: لو كانوا يعملون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، أو للكفَّار؛ أي: لو كانوا يعلمون أنَّ اللهَ تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين بخير الدَّارين لرغبوا في دينِهم.
(42) - {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
{الَّذِينَ صَبَرُوا} على أذى الكفَّار ومفارقة الوطن، ومحلُّه النَّصب أو الرَّفع على المدح.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : منقطعين إلى الله، ومفوِّضين إليه الأمر كلَّه.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} رَدٌّ لقولِ قريش: الله أعظم
(1)
من أن
(1)
في (ف): "أعلى".
يكون رسوله بشرًا؛ أي: جَرَت السُّنَّة الإلهيَّة بأن لا يبعث للدَّعوة إلَّا بشرًا يوحي إليه، والموحَى لا يلزم أن يكون بواسطة الملك، فضلًا عن أن يكون على لسانه، والحكمة في ذلك قد ذُكِرَتْ في سورة الأنعام.
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} : أهل الكتاب، أو علماء الأخبار ليعلموكم
(1)
.
{إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} جوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما قبلَه، وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل ملكًا ولا امرأة ولا صبيًّا للدَّعوة العامة، ولا ينافيه نبوَّة عيسى وهو في المهد؛ لأنَّها أخصُّ من الرِّسالة
(2)
. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يُعْلَم.
{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} : بالمعجزات والكتب، متعلِّق بـ {لَا تَعْلَمُونَ} على أنَّ الشَّرط للتبكيت والإلزام من حيث الاعتراف بعدم العلم، وسبيلُ الجاهل سؤال مَنْ يَعلم، لا الإنكار.
ويجوز أن يتعلَّق بـ {وَمَا أَرْسَلْنَا} داخلًا تحت حكم
(3)
الاستثناء؛ أي: وما أرسلنا إلَّا رجالًا بالبيِّنات، وأن يكون صفة لـ {رِجَالًا}؛ أي: رجالًا ملتبسين بالبيِّنات، أو بـ {نُوحِي} على المفعوليَّة، أو الحال عن الفاعل من القائم مقامَ فاعله،
(1)
"ليعلموكم" من (م).
(2)
في (م) زيادة: "النبوة".
(3)
"حكم" من (م).
على أن قولَه: {فَاسْأَلُوا} اعتراضٌ، ويجوز أن يتعلَّق بـ {أَرْسَلْنَا} مضمرًا، كأنَّه قيل: بِمَ أرسلوا؟ فقيل: بالبينات والزُّبر، فهو على هذا كلامٌ آخر مستأنَفٌ.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} ؛ أي: القرآن، وإنَّما سُمِّيَ ذِكْرًا لأنَّه تذكيرٌ وتنبيهٌ للغافلين.
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الذِّكْرِ بتوسُّط نزوله عليك من الأحكام والمواعيد.
والتَّبيينُ أعمُّ مِنْ أنْ ينصَّ بالمقصود، أو يرشدَ إلى ما يدلُّ عليه كالقياس ودليل العقل.
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} : وإرادةَ أن يتأمَّلوا فيه فيتنبَّهوا للحقائق. والواو للعطف على محذوفٍ تقديرُه: إرادةَ أن يُصغوا إليه.
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} ؛ أي: المكرات السَّيِّئات، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، أو: الذين مكروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابه عن الإيمان، ودخولُ الهمزة على فاء التَّعقيب إنكارٌ لأمنهم بعد اطِّلاعهم على عاقبة المكذِّبين والبيِّناتِ التي أُنْزِلَتْ على الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
{أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} كما خَسَفَ بقارون.
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} ؛ أي: في حالِ غَفلتهم نائمين، ولا
يلزم أن يكون من جانب السَّماء، ولا أن يكون بغتةً، ولهذا جمع بينهما في قوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
(46) - {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} الأخذُ هنا كناية عن الإهلاك، كما في قوله:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
{فِي تَقَلُّبِهِمْ} : في تصرُّفاتهم في أمورهم، وهذا أيضًا زمانَ غفلتهم عن تطرُّق الآفَات؛ لتوغُّلهم في تحصيل
(1)
المهمات، إلَّا أنَّ لهم فيه شعورًا، وهذا تفصيل ما أجمله الضَّحَّاك بقوله: باللَّيل والنَّهار
(2)
.
{فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} : بفائتين، والفاء للدَّلالة على شدَّة الأخذ بحيث لا ينفلت المأخوذ ولو آنًا، وبه تتم الكناية المذكورة آنفًا.
(47) - {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} : على مخافةٍ بأنْ يُهلك قومًا قبلَهم فيتخوَّفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوِّفون، وهو خلاف الإتيان والأخذ المذكورَيْن سابقًا؛ لأنَّه أخذٌ على توقُّعٍ، فيكون الغرضُ التَّعميمَ.
(1)
في (م): "تحصيلهم".
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(14/ 234) عن ابن جريج.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره"(7/ 2284) عن الضحاك: " {فِي تَقَلُّبِهِمْ} يعني على أي حال".
وقيل: هو مِنْ تخوَّفتُه: إذا تنقَّصتَه؛ أي: يأخذهم على تنقُّصهم شيئًا بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا.
{فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} لا يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم لها
(1)
.
وهذا كالتَّعليل للأخذ على التَّخوُّف؛ لأنَّه فيه مهلةٌ وامتدادُ وقت، فيمكن فيها التلافي.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} استفهامُ إنكارٍ؛ أي: قد رأوا أمثال هذه الصَّنائع فما بالُهم لم يتفكَّروا فيها؛ ليظهر لهم كمال قدرته وقهره، فيخافوا منه؟
وإنما قال: {مِنْ شَيْءٍ} لأنَّ المخلوقات على نوعين: ما خلق من شيء كعالَم الأجسام، وما خلق من غير شيء كعالم الأمر، وهو عالم الأرواح، كما قال الله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وإنَّما سمي عالمُ الأرواح: الأمر
(2)
؛ لأَنَّه خُلق بأمرِ: كُن، من غير شيءٍ.
والظِّلُّ من خواصِّ ما في عالَم الخلق، وبهذا اندفع ما قيل: إن بيان {مَا خَلَقَ} بـ {شَيْءٍ} و بيانُ المبهَم بما هو أبهمُ، فافهم.
{يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} التَّفيُّؤ: تَفعُّل من فاء يفيء؛ أي: رجع.
(1)
في (ف) و (م): "بها".
(2)
في (ف) و (ك): "والأمر".
واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلَق الظِّلِّ، سواءٌ كان قبل الزَّوال أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية، وقيل: الفيءُ: الذي هو بعد
(1)
الزَّوال.
{عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} ؛ أي: عن الجوانب كلِّها، استعير اليمين والشِّمال من جنبي الإنسان لجانبي الشَّيء، ثم أراد بـ {وَالشَّمَائِلِ}: الشِّمال والخلف والقُدَّام على طريق التَّغليب؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيء من الجهات كلِّها.
{سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} حالان من الضَّمير في {ظِلَالُهُ} باعتبار المعنى؛ لأنَّه يرجع إلى {مَا} ، ووُحِّدَ باعتبار اللَّفظ.
وجُمع {دَاخِرُونَ} بالواو لتغليب العقلاء على سائر ما خلق الله تعالى، ولأنَّ السُّجود والدُّخور من أوصاف العقلاء، ويجوز أن يكونا حالَيْن من الظِّلال، أو الأوَّلُ منها، والثَّاني من الضَّمير، وهذا أولى، لما فيه من وصف الظِّلال بالسُّجود، ووصفِ أصحابها بالدُّخور الذي هو أبلغ؛ لأنَّه انقيادٌ قهريٌّ مع صفة المنقاد، فيكمل حسنُ المعنى بتصعُّد سجود الظِّلِّ وذي الظِّلِّ وتقارُبهما في الوجود.
ويظهر وجه تغير الأسلوب في الحال الثاني، واسْتُعيرَ السُّجودُ والدُّخور للانقياد والاستسلام والتَّسخير لِمَا يريد من المخلوقات أو من ظلالها، سواءٌ كان بالاضطرار أو بالاختيار، يقال: سجدت النَّخلة: إذا مالت لكثرة الحمل، وسجد البعير: إذا طأطأ رأسه ليُرْكَبَ.
والمعنى والله أعلم: ترجع الظِّلال بارتفاع الشَّمس وانحدارها، أو باختلاف
(2)
مشارقها ومغاربها بتقدير الله، من جانب إلى جانب مُنْقادَةً لِمَا قُدِّرَ لها من التَّفيُّؤ، أو
(1)
في (ف): "الفيء هو الذي بعد".
(2)
في (م): "وباختلاف".
واقعةً على الأرض ملصَقةً بها على هيئة السَّاجد، والأجرام في نفسها داخرةٌ؛ أي: صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها.
{وَلِلَّهِ} خاصَّة {يَسْجُدُ} : يَنقاد لإرادته وقدرته انقيادًا يعمُّ الاختياريَّ والاضطراري، ومَنْ ذَكَرَ بدل الأوَّل ما يكون طوعًا وبدل الثَّاني ما يكون طبعًا، لم يُصبْ في واحدٍ منهما.
{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} بيانٌ لِمَا في الأرض؛ لأنَّ الدَّابة ما يدبُّ في
(1)
الأرض، ولا يلزم أن يكون على وجهها.
والسُّكوت عن بيان ما في السَّماوات، للإشعار بكثرة ما فيها أجناسًا وأنواعًا، ومَن رامَ تعميم البيان زاعمًا أنَّ الدَّبيب هي الحركة الجسمانيَّة، سواءٌ كانت في جسمٍ سماويٍّ أو أرضيٍّ، فقد غفلَ عمَّا في قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] من الدِّلالة على اختصاص الدَّابة بما في الأرض؛ لأنَّ ما في السماء لا يُخْلَق بطريق التَّوالد.
{وَالْمَلَائِكَةُ} خصَّب بالذِّكْرِ معطوفةَ على {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} للتَّعظيم، عطفَ جبريلَ على الملائكة
(2)
؛ أي: والملائكة خصوصًا مِنَ السَّاجدين؛ لأنَّهم أطوع خلقٍ وأعبدُهم.
(1)
في (ف): "على".
(2)
أي: كما عطف جبريل على الملائكة في سورة البقرة، عطف هنا الملائكة على ما في السماوات.
{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته، جملةٌ استئنافيَّة، وتقديم {وَهُمْ} للتَّخصيص.
(50) - {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} خوفَ إجلالٍ وهيبةٍ وتعظيمٍ، حال من ضمير {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ، أو بيانٌ لنفي الاستكبار وتأكيدٌ له؛ لأنَّ مَنْ خافَ الله تعالى لم يستكبرْ عن عبادته.
{مِنْ فَوْقِهِمْ} حالٌ من {رَبَّهُمْ} ، مجاز بمعنى القهر والعلو؛ أي: عاليًا
(1)
لهم قاهرًا.
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} خوفًا له، وعلمًا بعظمته ونفاذ سلطانه وقدرته، ولا دلالة فيه على أنَّ الملائكة مكلَّفون
(2)
بالتَّكليف الشَّرعي الذي يترتَّب عليه الثَّواب والعقاب.
{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أكَّد {إِلَهَيْنِ} بالوصف بـ {اثْنَيْنِ} ، وإنْ دلَّتْ التَّثنية عليه، للدِّلالة على أنَّ مَساق النَّهي هو العدد لا الإلهيَّة، وأنَّ الاثنينيَّة تنافي الإلهيَّة، كما وصف الإله بواحد في قوله:
{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} دلالةً على أنَّ المقصود إثبات الوحدانيَّة دون الإلهيَّة، وأنها لازمة للإلهيَّة.
(1)
في (ف): "غالبًا".
(2)
في (ك): "متكلفون".
{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} التفات من الغيبة إلى التكَلم، إيقاعًا للرَّهبة في القلوب، وتمكينًا لها في النُّفوس، ومبالغةً في التَّرهيب، وتصريحًا بالمقصود، ولذلك قدَّم المفعول مع فاء السَّببية، وكرَّر الفعل، أي: إن كنتم رهبتم شيئًا فإيَّايَ فارهبون دون غيري، فأنا ذلك الإله الواحد القاهر لكلِّ شيء.
(52) - {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} .
{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} التفاتٌ آخر للتَّعظيم، وتقريرِ وجوب تخصيص الرَّهبة به ووجوبِ الانقياد له في قوله:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} ؛ أي: له ما فيهما خلقًا وملكًا، فكيف لا ينقادون له ولا يخصُّونه بالرَّهبة.
وتقديم الظرف تأكيدٌ وتقويةٌ لمعنى الاختصاص الذي في اللَّام، وكذا قوله:
{وَلَهُ الدِّينُ} ، أي: الطَّاعة والانقياد {وَاصِبًا} ؛ أي: واجبًا ثابتًا، أي: وله الجزاء دائمًا سرمدًا لا يزول، وهو تأكيدٌ وتقرير آخر، وتعليلٌ لوجوب الانقياد والرَّهبة؛ أعني: على الوجه الثَّاني، وكذا:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} تأكيدٌ آخر بتقديم المفعول مع أن الهمزة الإنكارَّية داخلة على الفاء التعقيبيَّة؛ أي: أبعد العلم بالتَّوحيد، وتخصيصِ الكلِّ به خلقًا وملكًا، تخصُّون غيرَه بالاتِّقاء؟! وفيه توبيخٌ بليغٌ.
(53) - {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} .
{وَمَا بِكُمْ} : وأيُّ شيءٍ اتَّصل واستقرَّ بكم {مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أو: الذي
اتَّصل بكم فهو مِنَ الله، و {مَا} شرطيَّة، أو موصولة متضمِّنةٌ لمعنى الشَّرط باعتبار الإخبار أو العلم؛ لأنَّ استقرارَ النِّعمة بهم سببٌ للإخبار أو العلم بأنَّه مِنَ الله لا بحصوله منه.
{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الجؤارُ: رَفعُ الصَّوت بالدُّعاء والاستغاثة؛ أي: فما يتضرَّعون
(1)
في كشفه إلَّا إليه.
وفرَّق بين حصول النِّعمة ووقوع الضُّرِّ بعموم {مَا} ، وإيراد الباء الإلصاقيَّة في الجملة الاسميَّة، أي: وكلُّ ما استقرَّ بكم مِنَ النِّعمِ المستمرَّة فهو مِنَ اللهِ، يجب عليكم شكره؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو في حالٍ ما مِن نِعَمٍ كثيرةٍ.
وبإيراد {وثُمَّ} المفيدة
(2)
معنى التَّراخي، والمسِّ الذي هو أدنى إصابة، وجنسِ الضُّرِّ الذي يكفي في إطلاقه أقلُّ ما يطلق عليه الاسم في الجملة الفعليَّة؛ أي: ثمَّ إذا تجدَّد إصابةُ أدنى شيءٍ من جنس الضُّرِّ بعد زمانٍ طويلٍ لا تجأرون إلَّا إليه، وإنما جاء بـ {إِذَا} دون (إنْ) لأنَّ وقوع هذا القَدْر من الضُّرِّ في بعض الأحايين مُحقَّق.
(54) - {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} {ثُمَّ} مُستَعارٌ لاستبعاد الشُّكر
(3)
بعدَ كَشْفِ الضُّرِّ عند تخصيصه تعالى بالتَّضرُّع إليه في طلب كشفه، والعلمِ بحصولِ جميعِ النِّعم منه.
(1)
في (م): "تضرعون".
(2)
في (ك) و (م): "المفيد".
(3)
في (م): "الشرك".
{إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {إِذَا} فجائيَّة، والخطاب عامٌّ، والفريق: هم
(1)
الكفرة، أو خاصٌّ بالمشركين، و {مِنْكُمْ} للبيان لا للتَّبعيض؛ أي: إذا فريق وهم أنتم بربهم يشركون، أو للتبعيض
(2)
على أنَّ منهم مَنِ اعتبرَ وازدجرَ، كقوله:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32].
(55) - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} من نعمةِ الكشف عنهم، بيانٌ لرسوخ الكفران فيهم وغلبته على طباعهم، حتى كأنَّهم جعلوا غرضَهم من الشِّرك كفران النِّعمة.
{فَتَمَتَّعُوا} وقرئ: (فَيُمَتَّعوا) بالياء مبنيًا للمفعول
(3)
، عطفًا على {لِيَكْفُرُوا} ، على أنَّ اللَّام للتَّعليل، ويجوز أن تكون لامَ الأمر الوارد للتَّهديد، والفاء للجواب.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تخليةٌ لهم
(4)
، ووعيد بليغ، ويكون {لِيَكْفُرُوا} أيضًا واردًا على سبيل الخذلان والتَّخلية.
(1)
في (ك): "هو".
(2)
من قوله: "أي إذا فريق وهم أنتم .. " إلى هنا ساقط من (ف) و (ك)، وعبارة:(أو للتبعيض)، مستفادة من كلام الآلوسي في "روح المعاني"(14/ 160) نقلًا عن "الكشف"، ووقع مكانها في (م) كلمتان لم تُجوَّدا.
(3)
نسبت لأبي العالية. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
(4)
أي: تخلية لهم وما هم فيه لخذلانهم. انظر: "روح المعاني"(14/ 162).
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ} ؛ أي: لآلهتهم التي لا يعلمون حقيقتها، فيعتقدون أنَّها تضرُّ وتنفع وتشفع لهم عند الله تعالى، وهي جمادات لا تضرُّ ولا تنفع، على أنَّ العائد إلى (ما) محذوفٌ، أو لجهلهم على أنَّ (ما) مصدرية، والمجعول له محذوف للعلم به، أو لأَلهتهم التي لا علم لها لأنَّها جمادات، فيكون الضَّمير لـ {مَا} .
{نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من أنعامهم وزروعهم تقرُّبًا به إليها.
{تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} مِنْ أنَّها آلهة حقيقةٌ بالتَّقرُّب إليها، وهو وعيدٌ لهم عليه.
(57) - {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} .
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} كانت خزاعةُ وكنانة يقولون: الملائكة بنات الله تعالى.
{سُبْحَانَهُ} تنزيهٌ له عن قولهم، وتعجيب منه.
{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} نصب عطفًا على {الْبَنَاتِ} ؛ أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين؛ أي: يختارون، أو رفع على الابتداء، و {وَلَهُم} خبره، و {سُبْحَانَهُ} اعتراض.
(58) - {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} .
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} : أُخْبِرَ بولادتها {ظَلَّ وَجْهُهُ} : صارَ أو دام
(1)
النَّهارَ
(1)
في (م): "صار ودام".
كلَّه {مُسْوَدًّا} من الكآبة، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن
(1)
الاغتمام والتَّشوير
(2)
.
{وَهُوَ كَظِيمٌ} : مملوءٌ غيظًا؛ أي
(3)
: على المرأة.
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} : يَستخفي منهم {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} : من أجلِ سوء المُبَشَّر به.
{أَيُمْسِكُهُ} محدِّثًا نفسه متفكِّرًا في أن يتركه {عَلَى هُونٍ} : ذُلِّ {أَمْ يَدُسُّهُ} ؛ أي
(4)
: يخفيه {فِي التُّرَابِ} ؛ أي: يئدُه. وتذكير الضَّمير للَفظ {مَا} ، وقرئ بالتَّأنيث فيهما
(5)
.
{أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون لِمَنْ تَنزَّه عن الولد
(6)
ما هذا محلُّه عندَهم، ولأنفسهم مَن هو على ضِدِّ هذا الوصف.
(1)
في (ك) و (م): "مجاز من".
(2)
في (م): "والتشويش"، وفي (ف):"والتشويه". والتَّشوير: الخجل. يقال: شورت الرجل فتشور؛ أي: أخجلته فخجل. انظر: "الصحاح"(مادة: شور).
(3)
"أي" من (م).
(4)
في (م): "أم".
(5)
نسبت للجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
(6)
"عن الولد" من (م).
{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} : صفةُ السَّوء، من الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم، وإرادةِ الذُّكور استظهارًا بهم، وكراهةِ الإناث ووأدِهنَّ خشيةَ الإملاقِ الشَّاهد على أنفسهم بالشُّحِّ البالغ.
{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} من الغِنَى المطلق بالوجوب الذَّاتي والوجود الكامل، والنَّزاهة عن صفات المخلوقين.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} : المنفرد بكمال القدرة والقوَّة على بطشهم وأخذهم بذنوبهم.
{الْحَكِيمُ} : الذي يؤخِّرهم إلى أجلٍ مُسمًّى تقتضيه الحكمة.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} : بسبب كفرهم ومعاصيهم.
{مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} : على الأرض، وجاز إضمارها من غير ذِكْرٍ لدلالة (الدَّابة) عليها؛ لِمَا عرفْتَ أنَّها ما يدبُّ فيها
(1)
.
{مِنْ دَابَّةٍ} لأنَّ غيرَ الإنسان من الدَّواب إنَّما خُلِقَتْ لأجله؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
ولو أُخِذَ الظَّالم بظلمه لانقطع نسل الإنسان؛ إذ ما مِنْ شخصٍ إلَّا في
(2)
آبائه
(1)
في (م) زيادة: "قط".
(2)
في (م): "وفي".
ظالم، فلا دلالة في الآية على أنْ يكون النَّاس كلُّهم ظالمين؛ لِمَا عرفْتَ أنَّ المراد من الظُّلم المضاف إليهم: ما صدر عن بعضهم.
{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} سمَّاه لأعمارهم، أو لعذابهم، كي يتوالَدوا.
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} قد سبق تفسيره في سورة الأعراف.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ؛ أي: ما يكرهون لأنفسهم من البنات، والشركاءِ في الرِّياسة، والاستخفافِ بالرُّسل
(1)
، وأراذلِ
(2)
الأموال.
{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ} مع ذلك {الْكَذِبَ} وهو: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} ؛ أي: عندَ الله تعالى، كقوله:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]، بدل من {الْكَذِبَ} ، أو على إسقاط الحرف؛ أي: بأنَّ لهم.
وقرئ: (الكُذُب) بضمَّتين
(3)
، جمع كذوب، صفة للألسنة.
{لَا جَرَمَ} قد سبق تفسيره في سورة هود
(4)
.
(1)
فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام. انظر: "روح المعاني"(14/ 174).
(2)
في (ف) و (م): "وأرذال".
(3)
نسبت لمسلمة بن محارب. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
(4)
عند تفسير الآية (22) منها، وانظر ما سلف عند تفسير الآية (23) من هذه السورة.
{أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} ردٌّ لكلامهم، وإثباتٌ لضده.
{وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} بالفتح مخفَّفًا ومشدَّدًا، بمعنى: مُقدَّمون إلى النَّار؛ أي: مُعجَّلون. من أفرطْتُ فلانًا وفرَّطْتُه في طلب الماء: إذا قدَّمته.
وقيل: مَنسيُّون متروكون، من أفرطْتُ فلانًا خلفي: إذا خلَّفته ونسيته.
وقرئ بالكسر مخفَّفًا
(1)
، من الإفراط في المعاصي، ومشدَّدًا
(2)
من التَّفريط في الطَّاعات وما يجب عليهم
(3)
.
{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} تسليةٌ للرَّسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغمِّ بسبب جهالات القوم، ووعيدٌ لأهل مكَّة.
{فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} حكاية الحال الماضية التي كانت يُزَيِّن لهم الشَّيطان أعمالَهم فيها. و {الْيَوْمَ} : عبارة عن ذلك الوقت، أراد استحضارَ صورة التَّزيين في وقته للسَّامعين؛ عسى أن يعتبروا بها فيحترِزوا عن مثلها، ويخرجوا عن ولاية اللَّعين. والوليُّ: بمعنى القرين
(4)
، والذي يتولَّونه.
أو حكاية الحال الآتية، وهي حالُ كونهم معذَّبين في النَّار، والفائدة للاستحضار
(1)
قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 138).
(2)
أي: {مُفْرَطُونَ} ، وهي قراءة أبي جعفر المدني. انظر:"النشر"(2/ 354).
(3)
"وما يجب عليهم" من (م).
(4)
في النسخ: "القرب"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 231).
المذكور في أذهان المخاطَبين. والوليُّ بالمعنى المذكور، أو بمعنى النَّاصر؛ أي: فهو ناصرهم اليوم، لا ناصر لهم غيره، فيكون نفيًا للناصر لهم على أبلغ الوجوه.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في النَّار.
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} : للنَّاس {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} من التَّوحيد والقَدَر، وأحوالِ المعاد من البعث والجزاء، وأحكامِ الأفعال من التَّحليل والتَّحريم ونحوهما.
{وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} عطفًا على محلِّ {لِتُبَيِّنَ} ، نصبًا على التعليل؛ لكونهما فعلي فاعل الإنزال المعلَّل بهما، بخلاف التَّبيين، فجيء فيه باللام لفقدان شرط نصبه.
{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} قد سبق وجه
(1)
تنكير الماء.
{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} : أنبَتَ فيها أنواع النبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد يبسها، والتَّعقيب الذي دلَّ عليه الفاء لا ينافي المهلة الواقعة بين المعطوفين؛ لأنَّ ذلك إنما يكون على حسب ما يَعُدُّه الناس متعقَّبًا، والإحياء بعد الإنزال يعدُّ متعقَّبًا
(1)
"وجه" من (م).
لا متراخيًا، ألا ترى إلى صحَّة قولك: تزوج زيد فوُلد له، إذا
(1)
لم يكن إلا مهلةُ الحمل.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أراد بالسَّمع: القَبول، كما في (سمع الله لمن حمده)؛ أي: لقومٍ يتأمَّلون فيها
(2)
، ويعقلون وجهَ دلالتها، ويَقبلون مدلولها. وإنَّما خَصَّ كونها آية لهم؛ لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بها.
ويحتمل أن يكون المعنى: لقوم يسمعون من الغير، فكيف الذين
(3)
يبصرونه؛ أي: ذلك آية للأعمى، فكيف البصير؟!
وهذا التَّخصيص كالتَّخصيص في قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وبما قرَّرناه تبيَّن وجهُ العدول عن: يبصرون، إلى:{يَسْمَعُونَ} .
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} : دلالةً على قدرة الله تعالى وحكمته، والتَّنكير للتَّفخيم.
{نُسْقِيكُمْ} استئناف لبيان العبرة {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ذكَّر الضمير ووحَّده هنا للَّفظ، وأنَّثه في (سورة المؤمنين) للمعنى؛ فإنَّ {الْأَنْعَامِ} اسم جمع، ولذلك عدَّه سيبويه
(1)
في (ك): "إذ".
(2)
"فيها" من (م).
(3)
في (ف): "الذي".
في المفردات المبنيَّة على أفعال
(1)
، ومَن قال: إنه جمع نَعَمٍ، جعل الضَّمير للبعض؛ فإنَّ اللَّبن لبعضها دون جميعها، أو لواحده، أو له على المعنى؛ فإنَّ المرادَ به الجنسُ.
{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} الفَرْثُ: فضالة ما يبقى من العلف في الكَرِش، وكثيف ما يبقى من الأكل في الأمعاء.
{مِنْ} الأولى تبعيضيَّة؛ لأنَّ اللَّبن بعضُ ما في بطونها، والثانية ابتدائيَّة؛ لأنَّ الإسقاء يبتدئ من مادةٍ مبدؤها الدَّم، ومنتهاها الفضلة التي لا حاجة إليها، بل يجب أن تُدفع كالفَرْث دفعًا للضَّرر عن البدن، أو
(2)
من مادة بين الفرث الذي من الفضول المحضةِ والدَّم الذي من الأصول المحضة، فهو بالنِّسبة إلى الفرث أصلٌ؛ لأنَّه لا بُدَّ منه في بقاء النَّسل، وبالنِّسبة إلى الدَّم فضل؛ لأنَّه لا حاجة إليه في بقاء الشَّخص.
وعلى هذا يجوز أن تكون {مِنْ} الثانية أيضًا تبعيضيَّة؛ لأن تلك المادة غير منحصرة في اللَّبن؛ فإنَّ الدَّم الذي يصير غذاءَ الجنين منها، وكذا مادة المنيِّ، وحينئذ يكون المقول المذكور حالًا؛ أي: كائنًا مِنْ بين فرث ودم.
وإنَّما قُدِّم على {لَبَنًا} وهو صفة له في المعنى لأنَّه موضع العبرة، فهو معنًى به جدير بالتَّقديم؛ لكونه حاصلًا من نجس
(3)
، وهو في مَعْرِض أن ينقلب إليه؛ لأنَّه إن لم يسبق يخرج من مخرج فضلات الهضم الرابع
(4)
، وذلك أنَّ العلف ينهضم فتنجذب صفاوته إلى الكبد ويتولَّد منه الدَّم، ويبقى الفرث في
(1)
انظر: "الكتاب"(3/ 230).
(2)
في (م) زيادة: "صح".
(3)
في (م): "جنس".
(4)
فإنَّ الغِذاء يَحصُلُ له في المَعِدَةِ هضمٌ أوَّل، وفي الكَبِد هضمٌ ثانٍ، وفي العروقِ هضمٌ ثالثٌ، وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضمٌ رابعٌ. انظر:"تفسير الرازي"(19/ 173).
الكرش ويتسفَّل، ويتوزَّع الدَّم على الأعضاء ليغذوَها، وَيفْضُل من غذائه قسطٌ صالح يرتقي إلى الضَّرع الذي هو لحمٌ غدديٌّ رخوٌ أبيض، فينقلب الدَّم عند انصبابه إليه
(1)
إلى اللَّبن، هذا هو القول الصَّحيح في تولُّد اللَّبن، فمِن وَهَمَ أنَّ محلَّه بين الفرث والدَّم فقد وَهِم.
{خَالِصًا} : مصفًّى عمَّا يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضيق مخرجه، ولهذا صار {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}: سهلَ المرور في حلقهم.
وأمَّا ما قيل: صافيًا لا يستصحِب لون الدَّم ولا رائحة الفرث، فمبناه الوهم الفاسد المذكور آنفًا، وإلَّا فأين موضع تولُّد اللَّبن من محلِّ الفرث.
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} متعلِّق بما في الإسقاء من معنى الإطعام، أي: نطعمكم منها، فينتظِمُ المأكولَ منها والمشروبَ المُتَّخَذَ من عصيرها، ولا حاجة إلى تقدير محذوفٍ، وتعلُّقه بـ {نُسْقِيكُمْ} يؤدِّي إلى إخراج التَّمر والزَّبيب من الرِّزق الحسن، ولا وجهَ له.
{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} استئناف لبيان الإطعام، وتذكير الضمير باعتبار جنس التَّمر.
ولَمَّا كان اللَّبن لا يحتاج إلى معالجةٍ منَّا أخبرَ عن نفسه تعالى بقوله: {نُسْقِيكُمْ} ، ولَمَّا كان السَّكَر والرِّزق الحسن يحتاج إلى معالجة منَّا قال:{تَتَّخِذُونَ} .
(1)
"إليه" من (م).
وإنَّما قال: {مِنْهُ} لأنَّ منه ما لا يُؤكَل لا محالة.
والسَّكَرُ: مصدر سمِّي به الخمر، وقيل: السَّكَرُ النَّبيذُ.
{وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتَّمر والزَّبيب والدِّبس والخلِّ
(1)
ونحوها، وفي عطفه على {سَكَرًا} تعريضٌ بكراهة الخمر، وأنَّه ليس بحسَنٍ
(2)
، ورمزًا إلى أن السكر وإن كان مباحًا فهو مما يَحسُن اجتنابه، وهذا على ما قالوا: إن الآية نازلة قبل تحريم الخمر.
قيل: لمَّا ميّز السكر من الرزق الحسن قال أكثر الصحابة رضي الله عنهم: لو كان فيها خيرًا لم تميز عن الرزق الحسن، فامتنعوا عن شربها، ونزولُ الآية قبل تحريمها لا ينافي كونَها جامعةً بين العتاب والمنَّة، فإن المنافيَ لإباحتها هو العتاب في الآخرة لا العتاب
(3)
في الدُّنيا الذي مرجعُه النَّهي الإرشادي.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : يستعملون عقولهم بالنَّظر والتَّأمُّل في الآيات.
ولَمَّا قال في بدء الكلام: {لَعِبْرَةً} ناسبَ ختمه بـ {يَعْقِلُونَ} لأنَّه لا يَعتَبِرُ إلَّا ذوو العقول.
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الإيحاء إلى النَّحل: إلهامُها وإيداعها، دلَّ عليه حذاقتُها في صنعتها، وتدبيرِ أمرها، وترتيبِ مراتب عَمَلتها.
(1)
في (م): "والنخل".
(2)
في (ف): "يحسن".
(3)
"والمنة فإن المنافي لإباحتها هو العتاب في الآخرة لا العتاب" سقط في (م).
{أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} : بأنِ اتَّخذي، ويجوز أن تكون {أنْ} مفسِّرة؛ لأن في الإيحاء معنى القول، وتأنيث الضَّمير لأنَّ النَّحل جمعُ نحلةٍ.
{وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} : ما يعرشُ النَّاس ويرفعونه من سقوف البيت، وإنَّما ذُكِرَ بحرف التَّبعيض؛ لأنها لا تتَّخذ في كلِّ جبلٍ وكلِّ شجرٍ وكلِّ ما يعرشون، ولا في كلِّ مكانٍ منها.
وليس المراد من بيتها: ما تبنيه لتُعسِّلَ فيه - كما توهَّمه مَنْ قال: وإنَّما سُمِّيَ ما تبنيه لتُعسِّل فيه
(1)
بيتًا تشبيهًا بالذي بناه الإنسان؛ لما فيه من حُسْنِ الصَّنعةِ وصحَّة القسمة، التي لا يَقوَى عليها حُذَّاق المهندسين إلَّا بآلات رفيعة وأنظار دقيقة، ولعلَّ
(2)
ذكره للتَّنبيه على ذلك - بل ما تتَّخذه
(3)
في الجبال وكُواها وفي متجوّف الأشجار وفيما يَعْرِش ابن آدم من السُّقوف.
{ثُمَّ كُلِي} فيه إرشادٌ إلى العمل، فإنَّها تسوِّي البيوت أوَّلًا، ثم تأخذ في الجَرْس للعسل.
(1)
"فيه" من (م). وقوله: "لتعسِّل فيه"؛ أي: لتضع العسل فيه، وهو تفعيل من العسل. انظر:"حاشية الشهاب"(5/ 348).
(2)
في (ك) و (م): "ولعله"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 233).
(3)
في (ف): "تتخذ".
{مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {كُلِّ} للتَّكثير
(1)
، كما في قوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] و {مِنْ} لابتداء الغاية.
{فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} التي ألهمك، راجعةً إلى بيوتك لا تضلِّين فيها، فإنَّها ربَّما أَبعدَتْ في طلب نجعتها إلى مواضعَ بينها وبين بيوتها فراسخ.
{ذُلُلًا} جمع ذَلول، وهو حال من السُّبُل؛ أي: مذلَّلة، ذلَّلها الله تعالى وسهَّلها لك.
{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} التفات من خطاب النَّحل إلى الغيبة؛ تصريفًا للخطاب إلى النَّاس؛ لأن الغرض الامتنانُ بالنِّعمة الجسيمة بين الغذائيَّة والدَّوائيَّة
(2)
واللَّذة والشِّفاء عليهم، والاعتبارُ بحاله العجيبة، ولطفِ صنعتها التي تبهر العقول، والاستدلالُ بها على قدرة الصَّانع وكمالِ علمه وحكمته.
{شَرَابٌ} يعني: العسل؛ لأنَّه ممَّا يُشْرَب.
وفيه دلالة على ما هو
(3)
المختار عند المحققِّين، مِنْ أنَّ النَّحل يأكل الأزهار والأوراق العطرة، فيستحيل في باطنها، ثم يقيء ادِّخارًا للشِّتاء.
ومَنْ زعم أنَّ العسل نباتيٌّ محضٌّ، وقال: إنها تلتقط بأفواهها أجزاءً طَلِّيةً
(4)
حلوةً صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وتضعها في بيوتها ادِّخارًا= لزمه أن يجعل البطون مستعارة لأفواه النَّحل، ويكون الأكل ترشيحًا لها.
(1)
"كل للتكثير" من (م).
(2)
في (م): "الغداية والدوايبة".
(3)
في (ف) و (ك): "ما فيه".
(4)
نسبة للطل. انظر: "حاشية الشهاب"(5/ 349).
{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيض وأحمر وأصفر وأزرق، بحسب لون النَّور أو سنِّ النَّحل.
{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} لأنَّه من الأغذية الدَّوائيَّة، وقلَّ معجون لم يقع فيه.
وإنَّما نكَّر {شِفَاءٌ} لأنَّ فيه شفاءً مّا لبعض الأمراض لا لكلِّها
(1)
، أو لتعظيم الشِّفاء الذي فيه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإنَّ مَن تَدبَّر اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدَّقيقة والأفعال العجيبة حقَّ التَّدبُّر علم قطعًا أنَّه لا بُدَّ من قادرٍ حكيمٍ يلهمها ذلك ويحملها عليه.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} بآجالٍ مختلفةٍ.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ} : يعادُ، عطف على محذوفٍ تقديره: فمنكم مَنْ يعجَّل وفاتُه ومنكم مَنْ يُرَدُّ، فالواو فصيحة.
{إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : أخسِّه، يعني: الهرمَ الذي يشابه الطفوليَّة في نقصان العقل والقوَّة.
{لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} ليصير إلى حالةٍ شبيهة بحالة الطفوليَّة في النِّسيان وسوء الفهم.
(1)
في (م): "كلها".
(كي): مصدريَّة ناصبة بنفسها الفعلَ بعدها، وهي ومنصوبها في تأويل المصدر مجرور باللَّام التَّعليليَّة المتعلقة بـ {يُرَدُّ} .
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} بمقادير أعمارهم {قَدِيرٌ} يميت الشَّابَ القويَّ، ويُبقي الشَّيخ الضَّعيف، وفيه دليل على أنَّ تفاوت أَجالِ النَّاس بتقدير قادرٍ حكيمٍ، وأمَّا أنَّه لا دخل فيه للاستعداد واقتضاء الطَّبع وسوء التَّدبير فلا دلالة عليه.
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} تقديم اسم الله تعالى للتَّخصيص؛ أي: الله تعالى فضَّل دون غيره بأن جعلكم متفاوتين في الرِّزق.
{فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} ؛ أي: جُعل رزقهم أفضل من رزق غيرهم {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} : بمعطي رزقهم {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} : على مماليكهم فيسووهم بأنفسهم في المأكل والملبس.
{فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} ؛ أي: هم إخوانهم وأمثالهم، فحقُّهم أن يساووهم في ذلك، فالجملة لازمة للجملة المنفيَّة
(1)
ومقرِّرة لها، ويجوز أن تكون واقعة
(2)
موقع الجواب، كأنَّه قيل: فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرِّزق، على أنَّه رَدٌّ وإنكارٌ على المشركين، فإنَّهم يشركون بالله تعالى بعض مخلوقاته في الألوهيَّة، ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم، فيساوونهم فيه.
(1)
"المنفية" من (م).
(2)
في (م): "واقعة لها".
{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ؛ أي: تلك التَّسويةُ شكرُ نعمة الله تعالى، فإذا لم تسوُّوهم بأنفسكم في ذلك فذلك هو كُفْران نعمة الله.
أو: فما المُفضَّلون في الرِّزق برادِّي رزقهم على مماليكهم، فإنَّ رزقهم ما يأكلونه، بل نحن نرزق المماليك كما نرزق الموالي، فهم - أي: الموالي والمماليك - سواءٌ في رزق الله، فلا يحسبَنَّ
(1)
الموالي أنَّهم يرزقونهم، فإنَّه رزقي أجريتُه إليهم، {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} حيث ينسبون رزقَ مماليكهم إلى أنفسهم لا إلى الله، ويجحدون أنَّه مِن عندِ الله، والباء في (بنعمة الله) تحمل الجحود على الكفر حملَ النَّظير على النَّظير.
وعلى الوجه الأوَّل: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} جملة توبيخيَّة، والهمزة الدَّاخلة على الفاء التَّعقيبيَّة وتقديم {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} تقريرٌ للتَّوبيخ، وإنكار لفعلهم؛ أي: أبعدَ علمهم بأنَّ الله هو الرَّزاق، ووضوحِ دلائل ذلك بنعمة الله خاصَّةً يكفرون جاحدين لها، وعلى الوجه الثَّاني فالتَّوبيخ والإنكار إنَّما يكون في الجملة الأخيرة بالأصالة لا فيما قبلها.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ؛ أي: من جنسكم؛ لتأنسوا بها، وليكون أولادكم منهنَّ أمثالكم.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} لم يقل: (منها)؛ لاحتمال العود إلى الأنفس.
(1)
في (ف) و (م): "تحسبن".
{بَنِينَ وَحَفَدَةً} : جمع حافدة، وهو الذي يسرع في الخدمة والطَّاعة، قيل: المراد منهم البنون أنفسهم، والعطف لتغاير الوَصْفَين، وقيل: هم البنات، وفيه - أي: في التعبير عنهن بالحفدة دون البنات - تنصيصٌ على وجه الامتنان بالبنات، وهو أنهنَّ تخدمن في البيوت أتمَّ خدمة.
وقيل: هم الأختان على البنات، وحينئذ يكون إشارة إلى أنَّ البنات من حيث أنهنَّ وصلةٌ بالأجانب نعمةٌ جليلةٌ.
وقيل: هم الرَّبائب، وحينئذ يظهر وجه الاحتياج إلى قوله:{مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
وأمَّا الحمل على أولاد
(1)
الأولاد فيأباه تخصيص البنين بالذكر، فإنَّه حينئذ حقُّه التَّعميم أوَّلًا أيضًا.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : بعضَها؛ لأن كلَّها إنما يكون في الجنة، والمراد: الأطعمة الشهية.
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} وهو أن الأصنام تنفعهم، أو أن من الطيبات ما يحرم عليهم كالبحائر والسوائب.
{وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} حيث أضافوها إلى غيره تعالى، وحرَّموا ما أحلَّ اللهُ لهم.
وإقحام {هُمْ} بينَ قوله: {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ} و {يَكْفُرُونَ} للتَّقوية المعاضِدة للتَّوبيخ والإنكارِ بالهمزة الواردة على فاء التَّعقيب؛ أي: أبعدَ وضوح دلائل بطلان ما يعتقدونه يؤمنون بذلك الباطل؟!
(1)
"أولاد" سقط (م).
ويجوز أن يكون لإبهام التَّخصيص مبالغةً، وكذا تقديم (بالباطل) و (بنعمة الله) على ما تعلَّقتا به
(1)
.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} من مطر ونبات، وهو مفعول {رِزْقًا} إن كان بمعنى المصدر، وبدلٌ منه إن كان بمعنى المرزوق، ويجوز أن يكون مصدرًا لـ {يَمْلِكُ} للتَّأكيد
(2)
؛ أي: ما لا يملك رزقًا مّا شيئًا من الملك.
{مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صلة للرِّزق إن كان مصدرًا، وصفةٌ له إن كان اسمًا.
والتَّنوين في {رِزْقًا} و {شَيْئًا} للتَّحقير والتَّقليل، وفي إبدال {شَيْئًا} من {رِزْقًا} تقليلٌ آخر، وفي إيراد {مَا} دون (مِن) تحقيرٌ آخر.
وفي التَّقييد بقوله: {مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مبالغةٌ في نفي ملك الرزق عنها؛ أي: ما لا يملك
(3)
رزقًا مّا في جهةٍ من جهات العالم، ولا في مكانٍ وقطر منه.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} الضَّمير لـ {مَا} ؛ لأنَّه في معنى الإلهيَّة، وهو من الأفعال التي لا يُقدَّر لها مفعول وتُجعَل مطلقة كالفعل اللَّازم، والمراد: نفي الاستطاعة المطلقة؛ أي: لا يملكون أن يَرزقوا، ولا استطاعةَ لهم أصلًا؛ لأنَّهم أموات، وإنْ
(1)
في هامش (ف): "وأما محافظة الفواصل فإنما يصار إليها عند عدم باعث معنوي. منه".
(2)
"للتأكيد" سقط من (م).
(3)
في (م) زيادة: "لهم".
قُدِّرَ المفعول لدلالة القرينة - وهي مفعول {يَمْلِكُ} - عليه، فالمرادُ بالجمع بين نفي الاستطاعة والملك جميعًا التَّوكيدُ أو نفي الوقوع وإمكانهِ؛ أي: لا يملكون الرِّزق ولا يمكنهم أن يملكوه.
ويجوز أنْ يكون الضَّمير للكفَّار؛ أي: ولا يستطيع هؤلاء الكفرة مع أنَّهم أحياء متصرِّفون عقلًا شيئًا من الرِّزق، فكيف بالجماد الذي لا حراك به ولا حِسَّ؟
(74) - {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} نهيٌ عن الإشراك بالله في التَّشبيه على طريقة التَّمثيل؛ لأنَّ مَن يضربِ المَثَلَ شبَّهَ حالًا بحال وقصَّةً بقصَّة
(1)
، فجعل ضرب المثل مثلًا للإشراك والتَّشبيه، فكأنَّه قيل: ولا تشركوا بالله، وعدل إلى المُنزَل دلالة على التَّعميم في النَّهي عن التَّشبيه وصفًا وذاتًا.
وفي لفظ {الْأَمْثَالَ} لمن لا مثال له أصلًا نعيٌ عظيمٌ على سوء فعلهم، وفيه إدماجُ أنَّ الأسماء توقيفيَّة، وهذا هو الظَّاهر؛ لدلالة الفاء، وعدم ذكر ضرب المثل منهم سابقًا.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} تعليلٌ للنَّهي عن الشِّرك ووعيا عليه؛ أي: إنَّ الله يعلم قبح ما تفعلون وكُنْهَه وعظمه، فهو معاقبُكم عليه بما يوازيه في العظم.
{وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} كُنْهَ ذلك وكُنْهَ عقابه، فلذلك اجترأتم عليه.
ويجوز أن يراد بقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا} إلخ ظاهرُه، وهو النَّهي عن ضرب الأمثال لله
(1)
في النسخ: "حالًا بحال قصة بقصة"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 622)، ولفظه:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} : تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به؛ لأنَّ مَن يضرب الأمثال مشبِّه حالًا بحال وقصةً بقصة).
تعالى، ويكون معنى التَّعليل: إنَّ اللهَ وحدَه يعلم كيف يضرب المثل له وأنتم لا تعلمون ذلك، وكأنه أريد المبالغةُ في أن لا يُلحِدوا في أسمائه تعالى وصفاته، فإنه إذا لم يجز ضرب المثل، والاستعارات يكفي فيها شَبَهٌ مّا، والإطلاق لتلك العلاقة كافٍ
(1)
، فعدمُ جواز إطلاق الأسماء من غير سبقِ تعليم منه تعالى وإثبات الصِّفات أولى وأولى، ثمَّ علَّمهم كيف يُضرب، فضرب مثلًا لنفسه ولمن عُبد دونه فقال:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} {عَبْدًا} بدل من {مَثَلًا} .
{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} (مَن) موصوفةٌ عُطفت على {عَبْدًا} ، أو موصولة.
{فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} مثَّل ما أُشرك به بالمملوك العاجز عن التَّصرف مطلقًا، ومثَّل ذاته تعالى بالحرِّ الذي رزَقه الله مالًا كثيرًا، فهو يتصرَّف فيه وينفق منه كيف يشاء.
وقيَّد العبد بالمملوك ليمتاز عن الحرِّ؛ فإنَّ العبد قد يطلق على الحرِّ باعتبار أنَّه عبد الله تعالى، وبقوله:{لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ليخرج عنه المكاتَب والمأذون، فإنَّهما يقدران على شيء
(2)
.
(1)
في النسخ: "والاستعارة يكفي فيه شبهٌ ما، والإطلاق بتلك العلامة كافٍ"، والمثبت من "روح المعاني"(14/ 221)، والكلام منقول من "الكشف" كما صرح الآلوسي.
(2)
في (م) زيادة: "فكأنه قيل ولا تشركوا بالله شيئًا".
ولا دلالة فيه على أنَّ المملوك لا يملك؛ لأنَّه لم يُجعل قسيمًا للمالك إلَّا بعد التَّقييد بقوله: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ، والأصل في القيود الاحتراز، بل للمخالف - كمالك على ما قيل - أن يتمسَّكَ به بناء على هذا الأصل.
{هَلْ يَسْتَوُونَ} ؛ أي: هل يستوي الأحرار والعبيد، فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ومشتركَين في الإنسانيَّة، فكيف تشركون بالله تعالى وتسوُّون به مَنْ هو مخلوقٌ له مقهورٌ بقدرته؟!
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} }: كلُّ الحمد له، لا يستحقُّه غيرُه، فضلًا عن العبادة؛ لأنَّه مولى النِّعم كلِّها.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فيضيفون
(1)
نعمَه إلى غيره ويعبدونه لأجلها، وكلمة {بَلْ} رَدٌّ لِمَا زعموه من استحقاق الأصنام للعبادة والشكر.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} ؛ أي: لا نفعَ فيه من جهة القول، وقد سبق بيان
(2)
معنى البَكَم، والفرقِ بينه وبين الخَرَس.
{لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فلا يقع فيه من جهة الفعل أيضًا.
(1)
وقع بعدها سقط لوحة رقم (386) من (ك)، وسوف ننبه على نهايته في مكانه.
(2)
"بيان" من (م).
{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} مع ذلك هو ثقل وعيال على مَن يلي أمره ويتولَّاه
(1)
.
{أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} : حيث ما يرسله مولاه في أمرٍ {لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} بنجحٍ ونفعٍ، والتَّنكير للتَّقليل.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : ومَن
(2)
هو مِنطيقٌ فَهِمٌ ذو كفايةٍ ورشد، يأمر النَّاس بالعدل لكونه جامعَ الفضائلِ كلِّها.
{وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ} : وهو في نفسه على طريقٍ {مُسْتَقِيمٍ} ودين قويمٍ؛ أي: كامل مكمَّل.
كرَّر التَّمثيل لزيادة الكشف والإيضاح، وتصويرِ امتناع الاشتراك والتَّشبيه في صورتين محسوسَتَيْن؛ ليتمكَّن في نفس السَّامعين، واحتجَّ في كلِّ واحدٍ من المَثَلَيْن بامتناع الاشتراك والتَّسوية بين ممكنين متماثلين، مع اشتراكهما في الجنسيَّة والمخلوقيَّة على امتناع الاشتراك والتَّسوية بين الأصنام التي هي أخسُّ المخلوقات وأعجزُها وبينَ اللهِ تعالى الواجبِ بذاته الخالقِ القادرِ على الإطلاق.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: يختصُّ به تعالى علمُ ما غاب فيهما عن العباد.
وقيل: يوم القيامة؛ فإنَّ علمه غائب عن أهل السَّماوات والأرض.
(1)
في (م): "وبقوله".
(2)
في (م): "من".
وعلى هذا يكون العدول عن الضمير في قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} ؛ أي: أمرُ قيامها في سرعة وقوعه، إلى الاسم الظَّاهر لِمَا فيه من التَّقوية للخبر.
{إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} : إلَّا كرَجْع
(1)
الطَّرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، تمثيلٌ لأمرٍ آنيِّ الوقوع غير زمانيٍّ بأقلِّ ما يمكن
(2)
أن يدرَك من الزَّمان، ولهذا قال:
{أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ؛ أي: أسرع وأقصر زمانًا بأنْ يكون في مقدار نصف تلك الحركة؛ أو
(3)
في آنِ ابتداء تلك الحركة؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُحيي الخلائقَ دفعةً واحدةً، وما هو دفعيُّ الوجود يكون حدوثه في آنٍ، و {أَوْ} بمعنى: بل.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يقدر على أن يُقيم السَّاعة ويبعث الخلق في أسرع وقتٍ، كما قدر على إحيائهم متدرِّجًا.
ثمَّ دلَّ على قدرته فقال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} بيانٌ لعجزنا في الابتداء، يعني: لم تكونوا قادرين بأنفسكم على الخروج فأنا أخرجتكم، كما أنَّ قوله:
{لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} بيان لجهلنا فيه في موضع الحال؛ أي: غيرَ عالمين.
وفيه دلالة على أنَّ الحركةَ للجنين غيرُ إراديَّةٍ.
(1)
في (م): "كرجوع".
(2)
"يمكن" من (م).
(3)
في (ف): "أي".
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} خصَّهما بالذِّكْرِ - والمراد جميع الحواس - لأنَّهما أشرفها، والاعتبار والاستدلال بمدركاتها أكثرُ، كما خصَّ الصَّلاة والزَّكاة في مواضعَ من القرآن بالذِّكْرِ والمراد جميع العبادات؛ لأنَّهما أصلها.
وتقديم {السَّمْعَ} لأنَّه أعمُّ نفعًا وأتمُّ، حيث يحصَّل به العلوم النَّقليَّة التي لا يتطرَّق فيها الغلط.
{وَالْأَفْئِدَةَ} ؛ أي: أنعم عليكم بهذه الآلات والقِوَى لتدركوا بالحواسِّ والمشاعر
(1)
الجزئيات، وتتنبَّهوا بالأفئدة لكلِّياتها، فتحصل لكم العلوم البديهيَّة، وتقدروا على اكتساب النَّظريَّات بها.
والأفئدة من جموع القلَّة التي جرَتْ مجرى جموع الكثرة؛ إذ لم يَرِدْ في السَّماع غيرها.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : إرادةَ أنْ تشكروا نِعمَه الظَّاهرة والباطنة بالعمل بتلك العلوم، فترثوا العلوم الكشفيَّة، كما قال عليه السلام:"مَنْ عَمِلَ بما علم ورَّثه اللهُ تعالى علمَ ما لم يعلم"
(2)
، فتكمُلوا وتَسْعَدوا.
وإنَّما ذكر
(3)
آلة العلم في مقام الامتنان والحثَ على الشكر دون آلة القدرة
(1)
"والمشاعر" من (م).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 15)، وقال: ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام، فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه، وهذا الحديث لا يُحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل. ورواه الطبراني في "الأوسط" كما ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 136) وقال: وفيه ياسين الزيات وهو منكر الحديث.
(3)
في (م): "ذكرت".
تعظيمًا للعلم، وتنبيهًا على أنَّ المقصود من خلق ابن آدم - بل من إيجاد العالم - هو العلمُ، على ما عُلم من قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: ليَعْرِفون، ومن قوله عليه السلام: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببْتُ أنْ أُعْرَفَ
…
" الحديث
(1)
.
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} : جمع طائر {مُسَخَّرَاتٍ} : مُذلَّلاتٍ للطَّيران بما خُلِقَ لها من الأجنحة وهُيِّئ لها من الأسباب الموافقة لذلك.
{فِي جَوِّ السَّمَاءِ} : في الهواء المرتفع من الأرض. وفي إضافته إلى {السَّمَاءِ} إظهارٌ لجهةِ لطافته تقويةً لمعنى التَّسخير.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ} فيه {إِلَّا اللَّهُ} فإنَّ ثقِلَ أجسادها يقتضي السُّقوط، ولا علاقة فوقها، ولا دعامة تحتها تمسكها، فلا مُمْسِكَ إلَّا الله تعالى بقدرته.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} تسخير الطَّير للطيران بأنْ خلقها خلقةً يمكِن معها الطَّيران، وخلق الجوَّ بحيث يمكِن الطَّيران فيها، وإمساكها مع ما فيها من الثِّقَل في الهواء مع غاية لطافته على خلاف طبعها.
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصَّهم بتلك الآيات لأنَّهم هم المنتفِعون بها.
(1)
قال الزركشي في "اللآلئ المنثورة"(ص: 136): قال بعض الحفاظ: ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ} التي تبنونها من الحجر والمدر {سَكَنًا} فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، وهو ما يُسْكَن فيه أو إليه مِنْ مَسْكن أو مَأْلف.
{وَجَعَلَ لَكُمْ} إنَّما أعاده لأنَّ الامتنان هنا بنوع آخر من النِّعمة.
{مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} التَّنكير للتَّنويع؛ أي: نوعًا غريبًا منها، وهي
(1)
القِباب المُتَّخذة من الأُدُم، ولا حاجة إلى أن يُتكلَّف في تعميمها المُتَّخذة من الوبر والصَّوف والشَّعر؛ لاندراجها فيما يأتي بُعَيد هذا.
{تَسْتَخِفُّونَهَا} : تجدونها خفيفةً، يخفُّ عليكم حملُها ونقلها.
{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} الظَّعن بفتح العين وتسكينها: الارتحال.
{وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} : وقتَ نزولكم وإقامتكم في مسائركم، لم يثقل عليكم ضربها ونقضها، أو يوم قراركم في منازلكم، والأوَّل أولى؛ إذ ظهور المِنَّة في خفَّتها في السَّفر أتمُّ وأظهر.
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} الصَّوف للضَّأن، والوبر للإبل، والشَّعر للمعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، والفصل بما للإبل بينَ ما للضأن وما للمعز لأنَّه أكثر استعمالًا في السَّفر والحضر.
{أَثَاثًا} ؛ أي: أمتعةً وثيابًا تصلح للسَّفر والحضر، منها ما يُلبَس، ومنها ما يُفْرَش، ومنها ما ينصب كأخبية الشَّعر واللبد.
(1)
في (ف): "وهو".
{وَمَتَاعًا} المتاع: ما يُنتفع به ويُتَّجر.
{إِلَى حِينٍ} : إلى أن تَبلى وتَفنى، أو: إلى أن تقضوا منها أوطاركم. والتَّنوين للتَّعظيم، والإشارةِ إلى أنها تبقى مُدَّةً مديدة، أو للإبهام لأنَّه غير معيَّن؛ أي: مدَّة مّا من الزَّمان غير معلومة.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} شرَع في الامتنان بنعمةٍ خالصة عن شَوْب الكسب، ولهذا أعاد الإسناد إلى ظاهر اسم الله تعالى.
{مِمَّا خَلَقَ} في السَّماء كالسَّحاب المظلم على ما ذُكِرَ
(1)
في قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [الأعراف: 160]
(2)
، أو في الأرض كالجبل والشجر.
{ظِلَالًا} : ما يُستظلُّ، لَمَّا كانت بلاد العرب عليها الحرُّ المفرِط امتنَّ عليهم بما يتَّقون به من حرِّ الشَّمس، وفيه نوعُ تمهيدٍ لتخصيص الحرِّ بالذِّكر فيما سيأتي
(3)
.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} : مواضعَ تستكنُّون بها، من الكهوف والغيران.
الإنسان إمَّا مقيم أو مسافر، والمسافر إمَّا غنيٌّ يستصحِب معه ما يستظلُّ به
(1)
هنا انتهى السقط من (ك).
(2)
في (ف): "وظللنا عليكم الغمام"، وهي الآية (57) من سورة البقرة.
(3)
في (م): "يأتي".
ويكنُّ به
(1)
، أو فقير لا يقدر عليه، فامتنَّ على الأوَّل بقوله:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} ، وعلى الثَّاني بقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} ، وعلى الثَّالث بقوله:{جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} .
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} من القطن والكَتَّان والصُّوف، جمع سربال.
قال الزَّجَّاج: كلُّ ما لبستَه فهو سربال
(2)
.
{تَقِيكُمُ الْحَرَّ} اقتصر عليه لكون البرد في بلادهم يسيرًا محتمَلًا، أو اكتفى بأحد الضِّدَّين عن الآخر، وتخصيص الحرِّ بالذِّكر لما أشارَ إليه من كون وقاية الحرِّ أهمُّ عندهم.
{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} يعني: الدُّروع والجواشن.
{كَذَلِكَ} كإتمام هذه النِّعم التي تقدَّمَتْ {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} : تنظرون في نعمه الفائضة عليكم، فتؤمنون به، وتنقادون له.
وقرئ: (تَسْلَمُون) بفتح التَّاء
(3)
من السَّلامة؛ أي: تشكرون نعمه فتَسْلَمون مِن نِقَمه، أو تَسْلَم قلوبُكم من الشِّرك، أو تَسْلَمون مِنَ الجِراح بلبس الدُّروع.
(82) - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} يحتمل أنْ يكون ماضيًا على الالتفات؛ أي: فإن أعرضوا عن
(1)
في (م): "فيه".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (3/ 215).
(3)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 72).
الإسلام، ويحتمل أن يكون مضارعًا؛ أي: فإنْ تتولَّوا، وحُذفَتِ التَّاء، ويكونُ جاريًا على الخطاب السَّابق.
{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ أي: فلا يضرُّك فإنَّما عليك البلاغ، وقد بلَّغْتَ، فهو من باب إقامة السَّبب مقام المسبَّب، فإنَّ البلاغ سببُ العذر، وكونه معذورًا كنايةٌ عن عدم التَّضرُّر من جهة الرِّسالة.
(83) - {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} .
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} يعرف المشركون نعمةَ الله مِن التي عدَدْناها وغيرِها حيث يعترفون بها وأنَّها مِنَ الله.
{ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} بعبادة غير المُنْعِم بها، وبقولهم: هي من الله لكنْ بشفاعة آلهتنا، أو بنسبتها إلى مَن أجراها الله تعالى على يده.
وقيل: {نِعْمَتَ اللَّهِ} : نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات، ثم أنكروها عنادًا، و {ثُمَّ} مستعارٌ لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة
(1)
.
{وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} : الجاحدون عنادًا، وإنَّما قال:{وَأَكْثَرُهُمُ} لأنَّ فيهم مَن لم يكن معاندًا، بل جاهلًا لم يعرف الحق، لنقصان عقله، أو تفريطه في النَّظر، أو لأنَّ فيهم مَن لم تقم عليه الحُجَّة، لأنَّه لم يبلغ حدَّ التَكليف، وعلى هذا يكون الكافر على إطلاقه، وعلى كلَا التَّقديرَيْن لا مساغ لحمل الأكثر على معنى الكلِّ.
(1)
في هامش (ف): "من نظم هذا الوجه مع سياقه في سلك واحد لم يصب. منه".
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر، وهو نبيُّهم.
{ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في الاعتذار؛ أي: لا عُذْرَ لهم، فَدَلَّ بانتفاء الإذن على انتفاءِ العذر.
و {ثُمَّ}
(1)
مستعارٌ لغاية البُعْدِ بينَ تهنئتهم بشهادة الرُّسل عليهم السلام وبين بليَّتهم بانتفاء الإذن في الكلام؛ لما فيها من الإقناط الكلِّي عن العفو والغفران بالمنع من الاعتذار والإدلاء بحجَّةٍ أو شبهة.
{وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاستعتاب: طلبُ الرِّضا وإزالة الغضب، من العُتْبَى
(2)
، وهو الرِّضا؛ أي: لا يُطلب منهم إرضاء الرَّبِّ؛ لأنَّ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل.
و (يومَ) منصوب بمحذوف؛ أي: ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، أو: كان ما لا يدخل تحت الوصف، أو واذكر يوم نبعث.
(85) - {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
وكذا: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} ؛ أي: حاقَ بهم ما حاقَ، أو: شَقَّ عليهم، ونحو ذلك.
(1)
في (ك) و (م): "ثم".
(2)
في النسخ: "العتب"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"، وهو الصواب. انظر:"حاشية الشهاب"(5/ 361).
{فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} ؛ أي: العذاب {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} ؛ أي
(1)
: يمهَلون.
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} : أوثانَهم التي دعَوها شركاء، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه.
{قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} : نعبدهم، أو نطيعهم، وهو اعتراف بكونهم مخطئين في ذلك، أو التماس لأنْ يُشطر عذابهم.
{فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} ، أي: أجابوهم بقولهم: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في أنَّنا شركاء الله، أو في دعوى عبادتنا، ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام
(2)
حينئذٍ، أو في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إيَّاه، كقوله:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].
(87) - {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
{وَأَلْقَوْا} ؛ أي: وألقى الذين ظلموا {إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} : الاستسلامَ لحكمه بعد الاستكبار في الدُّنيا.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} : ضاع عنهم وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من أنَّهم شركاءُ الله، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم حين كذَّبوهم وتبرَّؤوا منهم.
(1)
"أي" من (م).
(2)
في (ف): "للأصنام".
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : مَنعوا عن الإسلام وحَملوا على الكفر.
{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} المُسْتَحَقِّ بكفرهم.
{بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} : بكونهم مفسدين بصدِّهم.
* * *
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} ؛ يعني: نبيَّهم.
{مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : من جنسهم، ومَنْ وَهَمَ أنَّ نبيَّ كلِّ أمَّة كان منهم فقد وهِم، وهذا القيد لم يُذْكَر فيما سبق؛ لدلالة {مِنْ} عليه.
{وَجِئْنَا بِكَ} : يا محمَّدُ {شَهِيدًا} : يشهد {عَلَى} صدق {هَؤُلَاءِ} الشُّهداء، لعلمك بعقائدهم، واستجماع شرعك مجامعَ قواعدهم، وأمَّا كونه عليه السلام شهيدًا على أمَّته فقد عُلِمَ ممَّا تقدَّم.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} استئنافٌ، أو حالٌ بإضمار (قد).
{تِبْيَانًا} : بيانًا بليغًا {لِكُلِّ شَيْءٍ} عبارة (كلّ) للتَّكثير والتَّفخيم، لا للإحاطة والتَّعميم، كما في قوله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25].
وما قيل: من أمور الدِّين على التَّفصيل، أو الإجمال بالإحالة إلى السُّنَّة
والقياس، فيأباه ما في التِّبيان من المبالغة في البيان، ثمَّ إنَّ قوله:(من أمور الدِّين) تخصيصٌ، لا يساعده الكلام، ولا يقتضيه المقام.
{شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} : بشارةً
(1)
{لِلْمُسْلِمِينَ} متعلِّق بـ {وَبُشْرَى} ، ومن حيث المعنى متعلِّق بـ {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أيضًا؛ لقوله تعالى:{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
* * *
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} بمراعاة الوسط بين الأطراف، وسلوكِ طريق الوسط بين طرفي الإفراط والتَّفريط، فهو جماع الفضائل كلِّها، الشاملُ للحكمة المتوسطة بين البلاهة والدَّهاء، والشجاعةِ المتوسطة بين الجبن والتَّهوُّر، والعفَّة المتوسطة بين التَّنزُّه وخور الشَّهوة
(2)
.
فمن الحكمة:
اعتقادًا؛ كالتَّوحيد المتوسط بين التَّعطيل والتَّشريك، والقول
(3)
بالكسب المتوسِّط بين محضِ الجبر والقدر.
(1)
في (م): "وبشارة".
(2)
في (ف) و (ك): "الشره وجمود الشهوة"، وفي "تفسير أبي السعود" (5/ 136):(من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود)، ومثله في "روح المعاني" (14/ 268) لكن بلفظ:(والجمود).
(3)
في (ق) و (ك): "والقوى"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 238)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 136)، و"روح المعاني"(14/ 268)
وعملًا؛ كالتَّعبُّد بأداء الواجبات المتوسِّط
(1)
بين البطالة والتَّرهب، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر المتوسط بين المداهنة والعنف في الأمور الدِّينيَّة.
وخُلُقًا؛ كالتَّواضع المتوسِّط بين الضّعة والتَّكبر، والجود المتوسِّط بين البخل والتَّبذير، والقناعة المتوسِّطة بين الحرص والقعود عن طلب الضَّروري من المعاش.
ولَمَّا كانت مراعاة العدل
(2)
في غاية الصُّعوبة شفَعه بالإحسان بقوله: {وَالْإِحْسَانِ} ليتدارك به ما فات من العدالة احتياطًا؛ فإنَّ العدلَ هو القيام بالواجب في كلِّ شيءٍ، والإحسانَ هو النَّدب، والانحرافُ عن سمة العدالة الذي هو الطَّريق المستقيم لأحد الجانِبَين قد يكون إلى جانب التَّفريط أحسن وإلى جانب
(3)
الإفراط، فالإحسان هو الإتيان بالحسن، والمحافظةُ على جانبه
(4)
؛ كالميل إلى التَّنزيه في الاعتقاد، والتَّطوعِ بالنَّوافل في الأعمال باعتبار الكميَّة، والزِّيادةِ في الإخلاص بالإخفاء باعتبار الكيفيَّة، والميلِ إلى الصَّلابة التي
(5)
هي الحميَّة الدِّينيَّة في الشَّجاعة، وإلى الضَّعة والصَّفح دون الانتقام فيما يتعلَّق بحقِّ نفسه فيها، وإلى الإفراط في الجود، وإلى التفريط في كلِّ ما سواه من خصال العفَّة، ولهذا نهى عن الإفراط في متابعة الشَّهوة وهي الفحشاء.
{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} : وإعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيصٌ
(1)
في (ف) و (م): "المتوسطة"، والمثبت من (ك)، والمصادر السابقة.
(2)
في (ك) و (م): "العدالة".
(3)
"التفريط أحسن وإلى جانب" من (م)، ولعل الصواب:(أو إلى) بدل: (وإلى).
(4)
في (م): "جانب".
(5)
"التي "من (م).
بعدَ التَّعميم للاهتمام به؛ تنبيهًا على فضل هذه الخصلة من بين خصال العدل والإحسان، وكذا الرَّذائل الثَّلاث المذكورة
(1)
بعدها، فإنَّ المنهيَّ
(2)
منها داخل في الأمر بالعدل، وخُصَّتْ
(3)
بالذِّكْرِ والنَّهي عنها بالانفراد؛ تنبيهًا على قُبْحها، وكونها في غاية الرَّذالة، ألا ترى أنَّ البغي هو الظُّلم المنافي لصريح العدل، فلا
(4)
يفيد ذكره إلَّا التَّأكيدَ والمبالغة في التَّحذير.
{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} عن الإفراط في متابعة القوَّة الشَّهوانيَّة كالزِّنا والحرص.
{وَالْمُنْكَرِ} ؛ أي: ما يُنْكَر شرعًا أو عقلًا من إفراط القوَّة الغضبيَّة.
{وَالْبَغْيِ} ؛ أي: الاستعلاءِ والتَّجبُّر على النَّاس والاستيلاءِ، وهو من تسلُّط القوَّة الوهميَّة على العاقلة التي يتولَّد منها
(5)
الشَّيطنة؛ فتارةً يغلب الغضب ويحدث الاستكبار، وتارة يميل إلى الإفراط في باب الحكمة فتحدث الجربزة
(6)
والمكر والتَّفرعُن
(7)
، وتارة تغلب الشَّهوة فتورِث النَّهب وسلب الأموال وغصب حقوق النَّاس، وكلها تنافي العدالة.
ولا يوجد من الإنسان شرٌّ إلَّا وهو داخل في هذه الأقسام الثلاثة
(8)
بتوسُّط
(1)
"المذكورة" من (م).
(2)
في (ك) و (م): "النهي".
(3)
في (ك): "وخصصت".
(4)
في (ف): "ولا".
(5)
في (ك) و (م): "منه".
(6)
الجُرْبُزُ: الخَمث الخبيث، والمصدر: الجَزْبَرَة. انظر: "القاموس المحيط"(مادة: جربز).
(7)
في (ف): "والتنفر عن"، وفي (م):"التغير عن " وكتب على الهامش: "لعلها: التفرعن".
(8)
"الثلاثة" سقط من (ك).
إحدى هذه القوى الثَّلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أجمع آية في القرآن للخير والشَّرِّ
(1)
.
وصارت سببَ إسلام عثمان بن مظعون رضي الله عنه
(2)
.
ولو لم يكن في القرآن إلَّا هذه الآيةُ لكفى به تبيانًا لكلِّ شيءٍ وهدً ى ورحمةً وبشرى للمسلمين.
ولأمرٍ ما عقَّب قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} بها.
{يَعِظُكُمْ} بالأمر والنَّهي، والميْزِ بين الخير والشَّرِّ، حال من فاعل {يَأْمُرُكُمْ} ، أو من مفعوله، أو منهما جميعًا، أو خبر ثانٍ؛ لـ {إِنَّ} .
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : تتَّعظون.
* * *
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10].
{إِذَا عَاهَدْتُمْ} ؛ أي: اثبُتوا على ما عاهدتم الله عليه، وبايعتُم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيمان التي تحلفون بها.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(14/ 337).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2919)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8322)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(11/ 31)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؛ أي: لا تنكثوها بالحِنث بعد إحكام عقدها على أنفسكم بذكر الله تعالى.
{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} : شاهدًا ورقيبًا؛ لأنَّ الكفيلَ شاهدٌ بحال المكفول به رقيبٌ عليه.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} في نقض الأيمان والعهود، وعيدٌ.
* * *
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} : ما غزلتْه، مصدرٌ بمعنى مفعول.
{مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} تعلِّق بـ {نَقَضَتْ} ؛ أي: نقضَتْ غزلها بعدما أبرمته وأحكمته.
{أَنْكَاثًا} : طاقاتٍ، نكثت فَتْلها، جمع نَكْثٍ، وهو ما نُقِضَ فتلُه.
وانتصابه على الحال من {غَزْلَهَا} ، أو المفعولِ الثَّاني لـ {نَقَضَتْ} لتضمُّنه معنى: صيَّرتْ، ولا يجوز انتصابه على المصدريَّة؛ لأنَّ النكث اسمٌ لا مصدرٌ، والمراد: تشبيه النَّاقض بمن هذا شأنه، وهي ريطةُ بنت سعد بن تيمٍ
(1)
القُرشيَّة، فإنَّها كانت خرقاءَ تفعل ذلك
(2)
.
{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} : حال من الضَّمير في {وَلَا تَكُونُوا} .
(1)
"تيم "من (م).
(2)
انظر: "تفسير مقاتل"(2/ 484)، و"تفسير الثعلبي"(6/ 38).
{دَخَلًا} ثاني مفعولٌ تتخذ، أي: متَّخذيها دخَلًا، أي: مَفْسدةً ودخلًا، وأصله: ما يدخل الشَّيءَ ولم يكن منه.
{أَنْ تَكُونَ} بسبب أن تكون {أُمَّةٌ} ؛ أي: جماعة قريش {هِيَ أَرْبَى} : أزيدُ عددًا وأوفرُ مالًا {مِنْ أُمَّةٍ} ؛ أي: جماعة المؤمنين.
{إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} الضَّمير لقوله: {أَنْ تَكُونَ}
(1)
؛ لأنَّه في معنى المصدر؛ أي: إنما يختبركم بكونكم أربى؛ لينظرَ أتُوْفون بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كون به، أم تغترُّون بكثرة قريش وثروتهم وتخافون من قلَّة المؤمنين وفقرهم فتنقضون.
كانت قريش إذا رأت شوكةً وقوَّة في أعادي حلفائهم غدروا وحالفوا أعداءهم، فنُهي المؤمنون عن عادتهم في الغدر
(2)
.
{وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} إذا جازاكم على أعمالكم بالثَّواب والعقاب. إنذار وتحذيرٌ من مخالفة ملَّة الإسلام
(3)
.
* * *
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً} : متَّفقةً على الإسلام.
{وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} بالخذلان {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بالتَوفيق.
(1)
في (م) زيادة: "أمة ".
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 238).
(3)
من قوله: "إذا جازاكم .. " إلى هنا من (م).
{وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سؤالَ تبكيتٍ ومجازاة.
* * *
{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} تصريحٌ بالنَّهي، وتكريرٌ له، تأكيدًا عليهم، وإظهارًا لعِظَم المنهيِّ عنه، ومبالغةً في قبحه، ولهذا وحَّد {قَدَمٌ} ونكَّر في قوله:
{فَتَزِلَّ قَدَمٌ} والمراد: فتزلَّ أقدامكم عن محجة الإسلام {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها، تنبيهًا على أنَّ زللَ قدمٍ واحدٍ عظيمةٌ من العظائم
(1)
، فكيف بأقدام كثيرة؟!
{وَتَذُوقُوا السُّوءَ} : العذابَ في الدَّنيا {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : بسبب صدودكم عن الوفاء، أو صدِّكم غيرَكم عنه، فإنَّ مَنْ نقضَ البيعة وارتدَّ جعلَ ذلك سُنَّة لغيره.
{وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.
* * *
{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} قد سبقَ تفسيرُه في (سورة البقرة)، والمراد هنا من الثَّمن القليل: ما يَعِدُه قريش لضعفاء المسلمين ويشرطون لهم على ارتدادهم.
{إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} مِن نصرِكم وتغنيمكم في الدُّنيا، والتوابِ الجزيل في الآخرة.
{هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} مما يَعِدونكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ؛ أي: إنْ كنتم من أهل العلم والتَّمييز.
(1)
في (ف): "عظائم".
{مَا عِنْدَكُمْ} من أعراض الدُّنيا {يَنْفَدُ} وينقضي
(1)
.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثَّواب الموعود المدَّخر في خزائنه
(2)
لكم {بَاقٍ} : لا يزولُ، وهو تعليلٌ للحكم السَّابق، ودليل على أنَّ نعيمَ الجنَّة باقٍ.
{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ} على أذى الكفَّار ومشاقِّ التَّكاليف ومرارة الفاقة.
{بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بما ترجَّح فعلُه على تركه كالواجبات والمندوبات، وما ترجَّح تركه على فعله ممَّا تركوا
(3)
كالمحرَّمات والمكروهات.
والتَّعبير بالعمل عن الكلِّ للتَّنبيه على أنَّ التَّركَ إنَّما يُثابُ عليه إذا قارنه عمل القلب، وهو النِّيَّة والقصدُ إلى الامتثال بالانتهاء عمَّا نهي عنه، وفي عبارة الصبر نوع إشارة إليه.
وفي الآية دلالةٌ
(4)
على أنَّ المباح حسن، وأنَّه لا يثاب عليه.
وعبارة (كان) للدِّلالة على أنَّ المباح لا يَستحق الأجر وإنْ وُجِدَ الاستمرار عليه، فكيف إذا وُجِدَ نادرًا؟!
* * *
(1)
في (ف): "وينقض"، وفي (ك):"وينقص".
(2)
في (ف): "المؤخر في خزانته"، وفي (ك):"المؤخر في خزائنه"، والمثبت من (م).
(3)
في (م) زيادة: "مما فعلوا".
(4)
في (ف): "دليل".
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بيَّن {مَنْ} لإبهامه، وكونهِ ظاهرًا في الذكور لو لم يبيَّن، ففسِّر بهما ليعمَّ الموعدُ
(1)
.
وإنما قال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة
(2)
، لا في استحقاق الثَّواب ولا في تخفيف العقاب؛ لأنَّه يُجعل هباءً منثورًا، بدلالة نصِّ الكتاب، هذا ما عندي، والله أعلم بالصواب
(3)
.
ثم العمل الصالح لا يكون إلَّا للمؤمن، فزيادةُ القيد المذكور لبيان أنَّ المعنى: مَن عمل صالحًا في الحال، وَهُوَ مُؤْمِنٌ في المآل؛ لأنَّ اعتبارَ
(4)
صفاء الحال بوفاء المآل، والأمورُ بخواتيمها.
{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} في الدُّنيا يعيش عيشًا طيِّبًا؛ لأن المؤمن الصالح إن كان موسرًا فظاهر، وإن كان معسرًا يطيب عيشه
(5)
بالقناعة، والرِّضا بالقسمة، وتوقُّعِ الأجر العظيم في الآخرة، والفاجر بالعكس؛ فإنَّه إن كان معسرًا فظاهر، وإن كان موسرًا فلا يدعه الحرص وخوف العواقب أن يتهنَّأ بعيشه.
وإنَّما قلنا: إنه في الدُّنيا؛ لدلالة قوله:
(1)
في هامش (ف) و (م): "ويحتمل وجهًا آخر ذكر في تفسير سورة النساء، وهو أن تكون (من) للابتداء. منه ".
(2)
في (ف) و (ك): "الكفر".
(3)
"بالصواب" من (م).
(4)
"اعتبار" من (م).
(5)
"عيشه "من (م).
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ يعني: في الآخرة عليه، وليس بتكرارٍ؛ لأنَّ الأوَّل في حقِّ الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظوا، وهذا في كلِّ مَنْ آمن وعمل صالحًا.
* * *
(98) - {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} ؛ أي: إذا أردْتَ قراءته، وإطلاق الفعل على إرادته مِن قَبِيْلِ إطلاق المسبَّب على السَّبب مجازًا؛ لملابسته له ولزومه إيَّاه غالبًا، ودليل المجاز السُّنَّة المستفيضة، وأما الفاء فلا دلالة فيها عليه
(1)
، وإنَّما دلالتها على تأخير المراد بمدخولها
(2)
عن
(3)
المعنى المراد بـ {قَرَأْتَ}
(4)
، وإجماعُهم على صحَّة هذا المجاز قد دلَّ على أنَّ وجود القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه
(5)
.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} : فاسأل اللهَ أن يعيذك من وساوسه؛ لئلا يوسوسك في القراءة.
والجمهور على أنَّه للاستحباب، ولا دلالة فيه على أن المصلِّي يستعيذ في كلِّ
(1)
في هامش (م): "فيه رد على صاحب المفتاح ". ولفظ السكاكي في الاستدلال على المجاز الحاصل من كون {قَرَأْتَ} استعملت مكان: أردت القراءة: (بقرينهَ الفاء في {فَاسْتَعِذْ}، والسنة المستفيضة بتقديم الاستعاذة). انظر: "مفتاح العلوم"(ص: 366).
(2)
في (ف) و (ك): "بدخولها".
(3)
في (ف): "على".
(4)
في هامش (م): "مذكور في الهداية".
(5)
في النسخ: "فيها"، والمثبت من "روح المعاني"(14/ 295)، وقد تعقب الآلوسي هذا الكلام بقوله:(ليس بشيء).
ركعة بناء على أن الحكم المترتب على الشَّرط يتكرَّر بتكرُّره؛ لأنَّ ما يقع في خلال الصَّلاة من القراءات في حكم قراءة واحدة، ولهذا لا تُستَحبُّ الحمدلة والبسملة عند الشروع لكلِّ فعلٍ من أفعال الصلاة.
قيل: تعقيبه لذكر العمل الصالح والوعدِ عليه إيذانٌ بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القَبيل.
ولا يذهبْ عليك أن الأمر الاستحبابي أغنى عن هذا الإيذان.
والأولى أن يقوله: (أستعيذُ بالله) ليوافق القرآن، ويقرُبُ منه:(أعوذ بالله) كذا قالوا، ويردُّه ما رُوِيَ عن ابن مسعود أنه قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال:"قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام، عن القلم، عن اللَّوح المحفوظ"
(1)
.
* * *
(99) - {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} : تسلُّطٌ وولاية {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فإنَّهم لا يطيعون أوامره، ولا يقبلون وَساوِسَه إلَّا فيما يحتقِرون على ندور
(2)
وغفلة، ولذلك أمروا بالاستعاذة.
(1)
رواه الثعلبي في "تفسيره"(6/ 41) مسلسلًا، وعنه تلميذه الواحدي في "الوسيط " (3/ 83 - 84). وقد ورد جواز الاستعاذة بلفظ:(أعوذ باللّه السميع العليم) في حديثي أبي سعيد وعائشة عند أبي داود (775) و (785). وحديث معقل بن يسار عند الترمذي (2922).
(2)
في "على ندور" سقط من (ف) و (ك).
ولما ذكرها عقَّبها بسلب
(1)
سلطانه، لئلا يُتوهَّم أنَّ له سلطةً
(2)
عليهم:
(100) - {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} .
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} : على مَن يتولَّاه ويطيعه دون غيره.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} : بالله تعالى، أو بسبب الشَّيطان {مُشْرِكُونَ} لأنَّه هو الذي حملهم على الإشراك بالله.
* * *
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : نسخنا آيةً بآيةٍ، فجعلنا النَّاسخة مكان المنسوخة لفظًا أو حكمًا.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} في باب المصالح، فإنَّ الشَّرع صلاح حال العباد بحسب المعاش والمعاد، وما يكون مصلحةً في وقت يصير مفسدةً في وقت آخر وبالعكس، والله أعلم بمصالح الجمهور منهم، فينزِّل في كلِّ وقت ما هو صلاح ذلك الوقت، وينسخُ به ما كان صلاحَ الوقت الماضي، وقد تغيَّر في الوقت الآتي إلى مفسدةٍ، فوجدوا مدخلًا للطَّعن لجهلهم بحكمة النَّسخ.
{قَالُوا} ؛ أي: الكفرة: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} متقوِّلٌ على الله، تأمر بشيء، ثم يبدو لك فتنهى عنه، نسبوا إليه عليه السلام الافتراء بأنواع من المبالغة والتَّغليظ، وهي الحصر والخطاب، واسمِ الفاعل الدَّالِّ على الثُّبوت والاستقرار.
(1)
في (ك) و (م): "بسبب".
(2)
في (ك) و (م): "سلطنة".
وهو جواب {وَإِذَا} ، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} اعتراضٌ لتوبيخ الكفَّار على قولهم، والتَّنبيهِ على فساد سندهم
(1)
، ويجوز أن يكون حالًا.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {بَلْ} إضراب عن الافتراء الذي نسبوه إليه، وما بعده تأكيدٌ للاعتراض
(2)
والتَّوبيخ بأنَّهم جاهلون بحكمةِ الأحكام، لا يميِّزون بينَ الخطأ والصَّواب.
وإنما قال: {أَكْثَرُهُمْ} ؛ لأنَّ منهم مَن يعلمها لكن ينكرها عنادًا.
* * *
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} ؛ يعني: جبريل؛ أي: الرُّوح المطهَّر من ألواثِ البشريَّة، وإضافةُ الرُّوح إلى القدُس - وهو الطُّهر - كإضافة حاتم إلى الجود في قولهم: حاتم الجود
(3)
؛ للمبالغة في ذلك الوصف، كأنَّه طبع منه.
وفي {يُنَزِّلُ} و {نَزَّلَهُ} من معنى التدريج في الإنزال على حسب المصالح ما يُشعر بأن التَّبديل إنَّما هو لرعاية المصالح التي فأتت لو أُنْزِلَتْ دفعةً.
{مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} ملتبِسًا بالحكمة.
{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} باعتقادِ أنَّه الحقُّ من ربهم، فإنَّهم إذا لم يتشوَّش
(1)
في (م): "مسندهم".
(2)
في (ف): "للإعراض".
(3)
"في قولهم حاتم الجود" من (م).
اعتقادهم بالنَّسخ وتيقَّنوا أنَّه مقتضَى حكمته، وعلموا أنَّ النَّاسخ هو الذي فيه صلاح الحال دون المنسوخ، ثبتَتْ أقدامهم ورسخَتْ عقائدهم واطمأنَّتْ قلوبُهم.
{وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحكمه، وهما مفعولٌ لهما معطوفان على محلِّ {لِيُثَبِّتَ}؛ أي: تثبيتاً لهم وإرشادًا وبشارةً.
وفيه تعريضٌ بحصول أضداد هذه الخِصَال لمن سواهم من الكفَّار.
* * *
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} أرادوا جبرًا
(1)
الرُّوميَّ، وقيل: جبرًا وسمارًا
(2)
.
{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} لغةُ الرَّجل الذي يُميْلون قولهم عن الاستقامة إليه، يقال: لَحَد وأَلحد: إذا مال عن القصد، ومنه: اللَّحد
(3)
.
{أَعْجَمِيٌّ} غيرُ بَيِّنٍ {وَهَذَا} ؛ أي: هذا القرآن {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} : ذو بيانٍ وفصاحةٍ.
والجملتان مستأنفتان، رَدٌّ لقولهم، وإبطال لطعنهم، وتقريرُه: أنَّ القرآنَ معجِزٌ
(1)
في (ف) و (م): "جبر".
(2)
عبدان نصرانيان كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرأ أن الإنجيل. روى القصة بذلك الطبري في "التفسير"(14/ 367 - 368)، والبيهقي في "الشعب"(138)، عن عبد الله بن مسلم الحضرمي.
(3)
في هامش (م): "رد البيضاوي، فيه رد لمن قال: إنه مأخوذ من لحد القبر. منه ".
بلفظه كما هو معجِزٌ بمعناه، فإنْ زعمتم أنَّ بشرًا يعلِّمه معناه، فكيف يعلِّمه
(1)
هذا الكلامَ الذي بذَّ كلَّ كلامٍ عربيٍّ في البيان والفصاحة، وهو أعجمي؟!
وطعنُهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة دليل على غاية عجزهم.
* * *
(154) - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ؛ أي: الذين يعلمُ اللهُ منهم أنَّهم لا يؤمنون بها؛ أي: لا يصدِّقون أنَّها مِن عند الله تعالى.
{لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} إلى الحقِّ، أو إلى
(2)
طريق النَّجاة في الدُّنيا.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
هدَّدهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماطَ شبهتهم ورَدَّ طعنهم فيه، ثمَّ قلب الأمر عليهم فقال:
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} لأنَّهم لا يخافون عقابًا يردعهم عنه.
{وَأُولَئِكَ} إشارة إلى الذين كفروا، أو إلى قريش.
{هُمُ الْكَاذِبُونَ} بالحقيقة، الكاملون في التكَذيب؛ لأنَّ التَّكذيب بآيات الله
(1)
في (ف): "يعلم ".
(2)
في (ف) و (ك): "وإلى".
هو أعظم الكذب، أو: الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كلِّ شيء؛ إذ لا تردعهم
(1)
عنه مروءة ولا دين، أو: الكاذبون في قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} إلخ.
* * *
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} بدلٌ من {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وما بينهما اعتراض، أو من {وَأُولَئِكَ} ، أو من {الْكَاذِبُونَ} ، أو مبتدأ خبره محذوف دلَّ عليه قوله:{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} ، أو منتصبٌ بالذَّم، أو مرتفعٌ على خبرِ مبتدأ مضمَرٍ على الذَّم، أو {مِنَ} شرطيَّة محذوفةُ الجواب، دلَّ عليه:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} على الافتراء، أو كلمةِ الكفر، استثناءٌ متَّصل؛ لأنَّ الكفر لغةً يعمُّ القول والعقد، كالإيمان.
{وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} لم تتغيَّر عقيدتُه، جملةٌ حاليَّة، ولا دلالة فيه على انحصار الإيمان في التَّصديق القلبي.
{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ} ؛ أي: وسَّعه لقبول
(2)
الكفر، مجازٌ عن الرِّضا وطيب الخاطر.
{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} و التَّنكير للتَّعظيم، وقوله:
{مِنَ اللَّهِ}
(3)
لأن الغضب من العظيم عظيمٌ.
(1)
في (ف) و (م): "يدعهم".
(2)
في (م): "بقول".
(3)
في (م) زيادة: "لرتبته".
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إذْ لا أعظمَ مِنْ جُرْمِه.
روي أنَّ قريشًا أكرهوا عمارًا رضي الله عنه، فأعطاهم بلسانه ما أرادوا مكرهًا، ولما أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي قال:"ما لَكَ؛ إنْ عادوا لك فعُدْ لهم"
(1)
.
وهو دليلٌ على جواز التَّكلُّم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضلُ التَّجنُّبَ عنه، إعزازًا للدِّين.
* * *
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد {بِأَنَّهُمُ} : بسبب أنَّهم {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} : آثروها عليها.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : وبأنَ الله لا يهدي إلى الإيمان مَن حَقَّتْ عليه الضَّلالة، وعَلِمَ منهم الكُفْرَ؛ فإنَّ هذا هو السَّبب الحقيقيُّ، والأوَّل هو السبَّبُ العادي.
* * *
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} قد سبق تفسيره في سورة البقرة.
(1)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 275)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 249)، والحاكم في "المستدرك"(3362)، وصححه.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} : الكاملون في الغَفلة، الذين لا أحدَ أغفلُ منهم؛ لأن غاية الغفلة ومنتهاها: الغفلةُ عن تدبُّر العواقب.
* * *
(109) - {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
{لَا جَرَمَ} قد سبق تفسيره
(1)
.
{أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} : البالغون في الخسران؛ إذ ضيَّعوا أعمارهم وصرَفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلّد.
* * *
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} بالولاية والنَّصر {مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} ؛ أي: عُذِّبوا، كعمار رضي الله عنه. {ثُمَّ} مستعارٌ لتباعُد حال هؤلاء عن حال أولئك.
{ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} على الجهاد وما أصابهم على المشاقِّ.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : من بعد الهجرة والجهاد والصَّبر {لَغَفُورٌ} لما فعلوا قبلُ {رَحِيمٌ} يُنعم عليهم، مجازاةً على ما صنعوا بعدُ.
* * *
(1)
عند تفسير الآية (22) من سورة هود، وعند تفسير الآية (23) من هذه السورة.
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} منصوب بـ {رَحِيمٌ} ، أو بـ (اذكر).
{تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} : عن ذاتها؛ أي: كلُّ شخصٍ يسعى
(1)
في خلاص نفسه لا يهمُّه شأنُ غيرِه، كلٌّ يقولُ: نفسي نفسي.
والمراد بالمجادلة: الاعتذارُ عنها بمثل قولهم: {هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38]، {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
{وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} : جزاءَ ما عملَتْ.
{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : لا يُعاقَبون بغير ذنبٍ، وأمَّا نقص الأجر فلا احتمالَ له بعد التَّوفية.
* * *
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} جعل اللهُ قريةً هذه صفتُها مثلًا لكلِّ قومٍ أنعمَ الله عليهم فأبطرتْهم النّعمة فكفروا فأبدلهم الله بالنِّعمة نقمةً، أو لمكَّةَ خاصَّة.
{كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} : لا يزعجُ أهلَها خوفٌ.
{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} : أقواتُها {رَغَدًا} : واسعًا.
(1)
"يسعى" من (م).
{مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} من نواحيها، ولفظة:{كُلِّ} للتَّكثير.
{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} : بنِعَمه، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتَّاء، كدِرْعٍ وأَدْرُعٍ، أو جمع نُعْم، كبُؤْسٍ وأَبْؤُسٍ.
واختيار جمع القلَّة للتَّنبيه بالأدنى على الأعلى؛ يعني أنَّ كفران النِّعَم القليلة لَمَّا أوجبَ العذاب فكفرانُ النِّعَم الكثيرة أولى به
(1)
.
{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} لَمَّا تقدَّم ذِكْرُ الأمنِ وإيتاءِ
(2)
الرِّزق قابلَهما بالجوع النَّاشئ عن انقطاع الرِّزق، وبالخوف، وقدَّم الجوع لِيَلِي المتأخِّرَ - وهو إتيانُ الرِّزق - كما في قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106].
والإذاقة استُعيرت
(3)
للإصابة، وإنَّما أوثرت عليها للدِّلالة على شدَّة التَّأثير التي تَفوت لو استعملَتِ الإصابة، والعلاقة: المشابهة بين المدرَك من أثر الضَّرر، والمدرَك من طعم المرِّ والبَشِع
(4)
.
واللِّباس استُعير لِمَا غَشِيَ الإنسان من أثر الجوع والخوف، وهو ضررهُما، فالغاشي هو الضَّرر لا الجوع والخوف، وإلَّا لكان {لِبَاسَ الْجُوعِ} تشبيهًا على حَدِّ:
(1)
"به ": ليست في (م).
(2)
"إيتاء" سقط من (ك).
(3)
في (ف): "وحصر الإذاقة استعير"، وفي (ك):"وحصر الإذاقة استعيرت ".
(4)
في (ك): "والشبع "، وهو تحريف، والمثبت من (ف) و (م)، وهو الموافق لما في "الكشاف" (2/ 639). وفي غيره:(المر البشع) بلا عاطف. انظر: "تفسير أبي السعود"(5/ 145)، و"حاشية الشهاب"(5/ 373)، و"روح المعاني"(14/ 322).
لُجين الماء
(1)
، وحينئذ يتبيَّن وجه إيقاع الإذاقة على اللَّباس، إذ المعنى: فأذاقهم ما غشيَهم من ضرر الجوع والخوف.
وبهذا التَّقرير ظهر وجه إيثار التَّجريد على التَّرشيح؛ لأنَّ الإذاقة تفيد ما لا تفيد الكسوة من زيادة التَّأثير الموجبة لقوَّة الإدراك، وأمَّا إيثار اللِّباس على الطَّعم فللدِّلالة على الشُّمول، وهذا أولى مِن حمل اللِّباسِ على انتقاع اللَّون ورثاثة الهيئة اللَّازمين للجوع والخوف؛ إذ حينئذٍ تكون الإصابةُ أبلغَ موقعًا
(2)
.
قرئ: (والخوفَ) بالنَّصب
(3)
؛ عطفاً على {لِبَاسَ} ، أو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي: ولباس الخوف.
{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} : بصنيعهم الذي استمرُّوا عليه، جرى هاهنا على ما هو المراد من القرية، وفيما تقدَّم على ظاهره
(4)
.
* * *
(113) - {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} .
(1)
أي: أذاقها الله الجوعَ الذي هو في الإحاطة كاللباس، ومثله ما قيل في:{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ؛ أي: فصب عليهم ربك عذاباً كالسوط، على معنى: أنواعًا من العذاب مخلوطًا بعضُها ببعض اختلاط طافات السوط بعضها ببعض. انظر: "روح المعاني"(14/ 323).
(2)
أي: إذا حمل اللباس على رثاثة الهيئة، وتغير اللون اللازمين للجوع والخوف - كما ذهب إليه السكاكي في "مفتاح العلوم" (ص: 378) - لا يحسن حينئذ موقع الإذاقة، وتكون الإصابة أبلغ موقعًا، يعني أنه حينئذ استعارة محسوس لمحسوس مثله فتفوت المبالغة التي اختير لأجلها الإذاقة. انظر:"حاشية الشهاب"(5/ 374)، و"روح المعاني"(14/ 323).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 427)، و"البحر المحيط"(13/ 478).
(4)
في (م): "على ظاهر المجاز".
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} يعني: محمَّدًا عليه السلام، والضَّمير لأهل مكَةَ، عادَ إلى ذكرهم بعدما ذكرَ مَثلَهم.
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} : ما أصاب مِنَ الجَدْب الشَّديد، أو ضرب الحديد في حرب بدر.
{وَهُمْ ظَالِمُونَ} : في حال التباسهم بالظُّلم.
* * *
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} أمرهم بأكل ما أَحلَّ لهم، وشُكر ما أَنعم عليهم، بعدما زجرهم عن الكفر، وهدَّد عليه
(1)
بما ذكر مِنَ التَّمثيل والعذاب الذي حلَّ بهم، صدًّا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة.
ومعنى الفاء في {فَكُلُوا} : التَّسبيب، أي: إذا نُبِّهْتُم على سوءِ صنيعِ أهلِ القريةِ ووَخامةِ عاقبتِهم، وذُكِّرْتُم بالتَّمثيلِ، فاعتبِروا بحالِهم، وخذوا بضدِّ ما أنتم عليه من طريق الجاهلية، كيلا يحلَّ بكم مثلَ ما حلَّ بهم.
وجُعل هذا الوصل ذريعةً إلى ما رُتِّبَ عليه مِن تعداد نوعٍ آخرَ من قبائحهم.
وقد سبق في تفسير سورة البقرة ما يتعلَّق بهذا الكلام من وجوه الإعراب، وما في قوله:{طَيِّبًا} من الفائدة الزَّائدة.
{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} إضافة النِّعمة إليه تعالى للتَّشريف، فإنَّ عبادته لا
(1)
في (ك) و (م): "عليهم ".
تَتمُّ إلَّا بالشُّكر على نعمه، فلا وجهَ لِمَا قيل: إنْ صَحَّ زعمُكم أنَّكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادتَه؛ لأنَّ مبناه على اعتبار التَّخصيص في الشَّرط المذكور.
{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وتقديم المفعول لمحافظة الفاصلة؛ إذ لا دخل لمعنى التَّخصيص في التَّعليق.
* * *
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قد سبق تفسيره في سورة البقرة وسورة الأنعام.
لَمَّا أمرهم بتناول ما أحلَّ لهم عدَّد عليهم حرماته
(1)
؛ ليعلموا أنَّ ما عدَاها حِلٌّ لهم، ثمَّ أكَّد ذلك بالنَّهي عن التَّحريم والتَّحليل بأهوائهم فقال:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية [الأنعام: 139].
ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بـ {إنَّمَا} حصرُ المحرَّمات في الأجناس الأربعة وقتَ نزول تلك الآية
(2)
.
(1)
في (ف): "حرمانه ".
(2)
في هامش (ف): "وأما الاستثناء الذي ذكره القاضي بقوله: إلا ما ضم إليها، فلا دخول له في=
وانتصاب {الْكَذِبَ} بـ {وَلَا تَقُولُوا} ، و {هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} بدلٌ منه، أو متعلِّق بـ {تَصِفُ} على إرادة القول؛ أي: ولا تقولوا الكذبَ لِمَا تصف ألسنتكم فتقول هذا حرام وهذا حلال، أو مفعول {وَلَا تَقُولُوا} ، و {الْكَذِبَ} منتصِب بـ {تَصِفُ} ، و {مَا} مصدرَّية، أي: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب؛ أي: لا تحرِّموا ولا تحلُّوا بمجرَّد قولٍ تنطق به ألسنتكم من غير دليلٍ.
وفي نصب {الْكَذِبَ} بوصف الألسنة نوعٌ من المبالغة بديعٌ، ووجهٌ من الفصاحة جميل، ومبالغةٌ في وصف كلامهم بالكذب عظيمةٌ، وهو أنَّه جُعل كأنَّه نفسُ الكذب وحقيقتُه، وكانت مجهولةً فعرَّفته
(1)
ألسنتهم بوصفها وحِلْيتها، وبيَّنه بكلامهم هذا، كقولهم: وجهُها يصفُ الجمالَ، وعينُها تصف السِّحر.
ورُدَّ هذا الوجه الأخير بأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّ المصدر المنسبك مِنْ (أنْ) والفعل لا يُنعت، لا يقال: لا يعجبني أن تخرج السريعُ
(2)
، ولا فرقَ بين هذا وباقي الحروف المصدريَّة.
وقرئ: (الكَذِبِ) بالجرِّ بدلًا من {مَا} ، و:(الكُذُبَ) جمع كذوب أو كِذَاب،
= المقتضى المذكور، كما لا يخفى. منه".
(1)
كذا في النسخ: "فعرفته"، ولعل الصواب:(فعرفتها).
(2)
أي: خروجك السريع، وكانت العبارة في النسخ:"لا تعجبين أن يخرج السريع "، والمثبت مستفاد من كلام أبي حيان الذي يظهر أن المؤلف نفل منه، ولفظه: ولا يُوجَدُ مِن كلامهم: يُعجبُني أنْ قُمْتَ السَّريعَ، يريد قيامُكَ السَّريعُ، ولا: عَجِبْتُ مِن أنْ تَخرجَ السَّريعَ؛ أي: من خروجكَ السَّريعِ. انظر "البحر المحيط"(13/ 480).
بالرفع
(1)
صفة للألسنة، وبالنَّصب على الذَّم، أو بمعنى: الكَلِم [الكواذب] أو هو جمع] الكِذَاب
(2)
.
{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} تعليلٌ لا يتضمَّن الغرض.
لَمَّا كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوبٍ نفى عنهم الفوز بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} : لا يُجدي عليهم افتراؤهم شيئًا. ثمَّ بيَّنه بقوله:
(117) - {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} ؛ أي: منفعتُهم، فمَا
(3)
هم فيه من الأفعال الجاهليَّة والتَّحريم والتَّحليل منفعةٌ قليلةٌ تنقطع عن قريبٍ.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
* * *
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} ؛ أي: في سورة الأنعام، في قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الخ [الأنعام: 146].
{مِنْ قَبْلُ} متعلِّق بـ {قَصَصْنَا} ، أو بـ {حَرَّمْنَا} .
(1)
في النسخ: "وبالرفع" بالواو، وهو خطأ، والمثبت من "الكشاف"(2/ 641).
(2)
انظر القراءات السابقة في "الكشاف"(2/ 641) والكلام وما سيأتي بين معكوفتين منه، "المحرر الوجيز"(3/ 429)، و"البحر المحيط"(13/ 480).
(3)
في (م): "فيما"، وفي هامشها:"فما".
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالتَّحريم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فحرَّمنا عليهم ببغيهم، وهو قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} [النساء: 160].
وفيه تنبيهٌ على الفرق بينهم وبين غيرهم في التَّحريم، وأنَّه كما يكون للمضرَّة يكون للعقوبة.
* * *
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ} يعمُّ الافتراء على الله تعالى وغيرَه.
{بِجَهَالَةٍ} : بسببها، أو ملْتبِسين بها، وتنكيرُها للإبهام، فتشمل عدم العلم بالله تعالى وصفاته، وعقابه وثوابه، وعدمَ التَّدبُّر للعواقب بسبب الغفلة اللَّازمة للانهماك في الشَّهوات، ومتابعةِ الهوى في طلب اللَّذات.
{ثُمَّ تَابُوا} قد دلَّ {ثُمَّ} بالتَّراخي، إلَّا أنَّها قد تُستعار للتَّراخي في الرُّتبة، ولهذا زاد قوله:{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} السُّوء.
{وَأَصْلَحُوا} ؛ أي: تابَ عنه وندم عليه وعزم أن لا يعود
(1)
إليه
(2)
، وأصلح العمل في المستأنف.
{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : مِن بعد التَّوبة، وأمَّا الإصلاح فهو تكميل للتَّوبة لا أنَّها شيء آخر، ولهذا لم يذكر في قوله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17].
(1)
في النسخ: "يعودها"، والصَّواب المثبت.
(2)
"إليه" زيادة من (م).
وإنَّما أعيد {إِنَّ رَبَّكَ} على سبيل التَّأكيد؛ لطول الكلام ووقوع الفصل.
{لَغَفُورٌ} لذلك السُّوء {رَحِيمٌ} : يثيب على الإنابة المستتبِعة للعمل الصالح.
* * *
(120) - {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ؛ أي: كان وحده أمَّة؛ لحصول الكمالات والفضائل التي لا تكون إلَّا متفرعة في أمَّة كثيرة مجموعةٍ فيه:
ليسَ من اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ
…
أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ في وَاحِدِ
(1)
وهو رئيس الموحِّدين، وقدوة المحقِّقين، جادل فِرَقَ المشركين، وأبطل مذاهبهم الزَّائغة بالحُجَج الدَّامغة، ولذلك عقّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين مِنَ الشِّرك والطَّعن في النُّبوَّة، وتحريم ما أحلَّه الله تعالى، أو لأنَّه عليه السلام كان وحده مؤمنًا وسائر النَّاس كفارًا.
وقيل: هي فُعلة بمعنى مفعول، كالرُّحلة والنُّخبة
(2)
، مِن أَمَّهَ: إذا قصده أو اقتدى به، فإنَّ النَّاس كانوا يؤمُّونه للاستفادة ويقتدون بسيرته، كقوله:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].
{قَانِتًا لِلَّهِ} : مطيعًا له، قائمًا بأمره.
{حَنِيفًا} : مائلًا عن كلِّ ذي باطلٍ، مائلًا إلى دين الإسلام؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67].
(1)
البيت لأبي نواس. انظر "ديوانه"(ص: 218)، و"البحر المحيط"(13/ 485)، وفيهما: (وليس لله
…
).
(2)
الرُّحلة: المرحول إليه، والنُّخبة: المنتخَب. انظر: "روح المعاني"(14/ 335).
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ؛ أي: لم يكُ مِنْ عِدادهم، وهذا في سياق النَّفي أبلغ من: لم يشرك، والمراد: استمرار النَّفي، لا نفيُ الاستمرار، فمفهوم (كان) مُقدَّم على مفهوم (لم) في الاعتبار.
وإنما نفى عنه عليه السلام الشِّرك على أبلغ وجه تكذيبًا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملَّة أبيهم
(1)
إبراهيم عليه السلام، وترغيبًا لهم إلى التَّوحيد ودين الإسلام.
* * *
(121) - {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{شَاكِرًا} يجوز أن يكون خبرًا ثالثًا، أو حالًا من أحد الضَّميرين في {قَانِتًا} و {حَنِيفًا} .
{لِأَنْعُمِهِ} إنما جاء بلفظ القِلَّة للتَّنبيه على أنَّه عليه السلام كان لا يُخِلُّ بشكر النِّعَمِ القليلة فكيف بالكثيرة؟!
هذا ما بحسَب جليل النَّظر، والذي هو بحسب دقيقه: أنَّه للتَّنبيه على صعوبة مقام الشُّكر لكلِّها
(2)
بالإشارة إلى عجز البشر، وذلك أنَّه عيه السلام - مع جلالة قدْره - لَمَّا كان قاصرًا
(3)
عن شكر النِّعَم الكثيرة
(4)
، فغيرُه أولى بالقصور عنه.
وإنَّما قلنا: (إنه لَمَّا كان قاصرًا) لأنَّ المقام مقام مدحه بما كان فيه من
(1)
"أبيهم "من (م).
(2)
"لكلها"من (م).
(3)
"وذلك أنه عيه السلام مع جلالة قدره لما كان قاصرًا" من (م).
(4)
في (ف): "عن الشكر للنعم الكثير"، وفي (ك):"عن شكر النعم للكثير".
الأوصاف الكاملةْ، فلولا القصور عنه لكان المذكور على صيغة جمع
(1)
الكثرة.
{اجْتَبَاهُ} : اختاره واختصَّه لنفسه، والاجتباء هو أن يأخذ الشَّيءَ بالكليَّة، وأصله: جمع الماء في الحوض، وهو الجابية
(2)
، حال أو خبر آخَر لـ {كَانَ} .
{وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : أرشده إلى طريقِ الحقِّ.
* * *
(122) - {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} هي
(3)
اسمٌ جامعٌ لكلِّ حالٍ
(4)
جميلةٍ، فيتناول كلَّ خصائصه المذكورة في النُّصوص؛ من الرِّسالة والخُلَّة واللِّسان الصِّدق
(5)
وغير ذلك.
والعدولُ من الغيبة إلى التُّكلُّم للالتفات؛ تعظيمًا لشأنه، وتفخيمًا لما أعطاه.
{فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} : المستحقِّين لكلِّ منزلةٍ رفيعةٍ ودرجةٍ عالية في الجنَّة، لم يقل:(وجعلناه في الآخرة من الصَّالحين) تنبيهًا على أنَّه آثر ذلك الإيتاء إلى أمرٍ آخر، فتدبَّر.
* * *
(1)
"جمع "سقط من (ف).
(2)
في (ف): "الخابية".
(3)
في (ف) و (ك): "من".
(4)
في (ك) و (م): "حالة".
(5)
في (ف): "والصدق".
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الخطاب لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أنَّ مِن أَجَلِّ ما أوتي خليلُ الله صلوات الله عليه، وأَشْرَفِ ما أُولي مِنَ النِّعمة والكرامةِ: اتِّباعُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِلَّتَه؛ لأنَّه
(1)
من جهة أنَّ {ثُمَّ} دلَّت على تباعُد هذا النَّعت في المرتبة عن سائر النُّعوت الَّتي أثنى الله بها عليه، وفيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محلّه ما لا يخفى على الفَطِن.
وفي لفظ: {أَوْحَيْنَا} ، ثم الأمرِ باتَباع الملَّة لا اتِّباعِ
(2)
إبراهيم عليه السلام ما يدلُّ على أنَّه عليه السلام ليس بتابعٍ له، بل هو مستقلّ بالأخذ عمَّن أخذ إبراهيمُ عليه السلام عنه.
وبهذا البيان اندفع ما عسى أنْ يتبادر إلى الوهم مِنْ أنَّه عليه السلام كان دون إبراهيم عليه السلام، ولذلك أُمِرَ باتِّباعه.
واتَّضح إيثار {فَبِهُدَاهُمُ} على: فبِهِم، في قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
والمراد من الاتِّباع: الاتِّباع في أصول الدِّين لا في فروعه؛ لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
والملَّةُ: ما شرَعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه عليهم السلام، مِن أمللْتُ الكتابَ: إذا أملَيْتَه
(3)
.
(1)
"لأنَّه" سقط من (ك).
(2)
في النسخ: "لاتباع"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(14/ 339)، والكلام منقول من "الكشف" كما صرح الآلوسي.
(3)
في هامش (م): "ذكره القاضي في سورة البقرة، ثم زعم هاهنا أنها بمعنى الطريقة حيث قال:=
{حَنِيفًا} ولَمَّا كانَ التَّوصيف بالحنيف في مقام التَّعليل للأمر بالاتِّباع كانَ في معنى: فإنَّه مالَ عن الأديان الباطلة، فعطف عليه قوله:
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان قدوةَ الموحِّدين.
* * *
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} : فُرِضَ عليهم تعظيمُه والتَّخلِّي فيه للعبادة وتركِ الصَّيد.
{السَّبْتُ} : مصدر سبَتَتِ
(1)
اليهود: إذا عظَّمَتْ سَبْتَها.
{عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} : على نبيِّهم، وذلك أنَّ موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرَّغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا وقالوا: نريد يوم السَّبت الذي فرغَ الله تعالى فيه من خلق السَّماوات والأرض، إلَّا شرذمةً منهم قد رضوا بالجمعة، فذلك اختلافهم في السَّبت، فألزمهم الله تعالى السَّبت، وشدَّد الأمر عليهم، وذكَرهم هاهنا لتهديد المشركين، كذكر القرية التي كفرَتْ بأنعم الله تعالى.
{رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ؛ أي: يحكم للمحِقَين بالثَّواب، وللمبطِلين بالعقاب؛ تمييزًا بينهم، وفصلًا لخصومتهم في محلِّ الاختلاف، وهذا ظاهر في أنَّ الاختلاف إنَّما كان بين العاصين والمطيعين، ويشهد لذلك ما في
= [{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}]، في التوحيد والدعوة إليه بالرفق، منه ". وانظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 244)، وما بين معكوفتين منه للتوضيح.
(1)
في النسخ: "سبت". والمثبت من "الكشاف"(2/ 171).
(سورة الأعراف) من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} الآية [الأعراف: 164].
فلا وجه لما قيل: معناه: إنَّما جعل وَبالُ السَّبت، وهو المسخ على الذين اختلفوا فأحلُّوا الصَّيد تارة وحرَّموه أخرى واحتالوا الحيل.
* * *
{ادْعُ} حذف المفعول للتَّعميم، وفيه الإشارة إلى البعثة
(1)
العامَّة، والتَّنبيهُ على فضله عليه السلام على مَن تقدَّمه مِنَ الرُّسل، وفيه تأييدٌ للتَّدارك السَّالف ذكرُه.
{إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} : إلى الإسلام.
{بِالْحِكْمَةِ} : بالمقابَلة المحكمَة، وهو الدَّليل القاطع الموضِّح للحقَ، المزيل للشبهة.
{وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} : بالخطابيَّات
(2)
الإقناعيَّة، والعِبَر النَّافعة، على وجهٍ لا يخفى عليهم أنَّكَ تُناصحهم وتقصد ما ينفعهم.
والأُوْلَى لدعوة خواصِّ الأمَّة الطَّالبين للحقائق، والثَّانية لدعوة عوامِّهم.
{وَجَادِلْهُمْ} : وجادل معانديهم {بِالَّتِي هِيَ} : بالطَّريقة التي هي {أَحْسَنُ إ} طرقِ المجادلة؛ من الرِّفق واللِّين، واختيارِ الوجه الأيسر والطَّريق الأشهر، فإنَّ ذلك أشدُّ تسكينًا لشغبهم
(3)
، وتليينًا لعريكتهم.
(1)
في (ك) و (م): "بعثته".
(2)
في (ك): "بالخطابات".
(3)
في (ف): "أشد تسكينًا لسعيهم "، وفي (ك)"أشد لشغبهم "، وفي (م):"أشد لسعيهم". والصواب المثبت.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ؛ أي: ما عليك إلَّا الدَّعوةُ بهذه الطُّرق، وأمَّا الهدايةُ والمجازاة فليسا إليك؛ فإنَّ الله أعلم بهم، فمَن هديتُه كفاه القدْرُ اليسير من الحكمة إن كان مستعدًّا لها، والموعظة إن كان قائلًا غير منكِرٍ، والجدل الحسن الرَّقيق
(1)
إن
(2)
كان منكرًا منصفًا
(3)
، فلا حيلة في هدايته إن
(4)
كان معاندًا، فكِلْ أمرَه إلى مَن هو أعلم به فإنَّه يجازيه.
وإنَّما قدَّم الضَّالَّ؛ لأنَّ الكلامَ واردٌ فيهم، والخطابَ دائرٌ معهم، وذكرَ مقابله بصيغة الفاعل؛ لأنَّ الدَّوام والثَّبات يناسب حاله.
* * *
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} لَمَّا أمره عليه السلام بالدَّعوة، وبَيَّن له طرقها، أشار إليه وإلى مَن تابعه بمراعاة الحقِّ مع الخلق، وملازمةِ طريق العدالة مع مَن يناصبهم؛ لأنَّ الدَّعوة لا تخلو عن المناداة
(5)
والمناصبة، من حيث إنها ترفع العادات وتبعث على رفض
(6)
المألوفات، وتقدح
(7)
في الأديان والمعتقدات، وتحكم على أهلها بالكفر والضَّلال.
(1)
في (ك) و (م): "الدقيق".
(2)
في (ف) و (ك): "وإن".
(3)
"منصفًا" من (م).
(4)
في (ف) و (م): "وإن".
(5)
في (ف): "المنادات"، ولعل الصواب:"المعاداة".
(6)
في (م): "رفع" وسقطت من باقي النسخ، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 245).
(7)
كلمة غير واضحة في (ك) و (م)، والمثبت من (ف) وهو الصواب. انظر المصدر السابق.
روي أنَّ المشركين مثَّلوا بالمسلمين يوم أُحُد، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة رضي الله عنه وقد مُثِّل به، فقال:"أمَا والذي أحلف به، لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين مكانك"، فنزلَتْ، فكفَّر عن يمينه
(1)
.
وفيه أمر رخصةٍ في المُثْلَة بواحد، ثم نُسِخَتْ المثلة.
وفيه حثّ على العفو؛ تعريضًا بقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} ، وتصريحًا على الوجه الآكد بقوله:
{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ} ، أي: الصبر {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} من الانتقام للمنتقمين.
ويجوز أن يرجع الضَّمير إلى صبرهم
(2)
، ويرادَ بالصَّابرين: المخاطبون؛ أي: ولئن صبرتم لَصَبرُكم خيرٌ لكم، فوُضِعَ الصَّابرون موضعَ الضَّمير؛ ثناءً من الله تعالى عليهم بأنهم صابرون في الشَّدائد، وفيه إرشاد إلى أنَّه إنْ صبرتم فهو شيمتُكم
(3)
المعروفة.
وفيه ترغيب في الصَّبر بالغٌ
(4)
، ثمَّ صرَّح الأمرَ به لرسوله عليه السلام؛ لأنَّه أولى النَّاس به لزيادة علمه تعالى ووثوقه عليه، فقال:
(1)
روى نحوه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 183)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11051)، والدارقطني في "سننه"(4/ 116)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفيه كلام. وروى نحوه أيضًا الطبراني في "المعجم الكبير"(2937)، والحاكم في "المستدرك"(4894)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الذهبي: فيه صالح المري واهٍ. وانظر: "الكاف الشاف"(ص: 97)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 477).
(2)
في (ف) و (ك): "صبرتم".
(3)
في (ف): "سمتكم"، وفي (ك):"شكيمتكم ".
(4)
في (م): "بأبلغ ".
{وَاصْبِرْ} ولَمَّا كان الصَّبر في هذا المقام شديدًا شاقًّا ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال:
{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} : إلا بتو فيقه ومعونته.
ولَمَّا ذكر هذا السَّبب الكلِّي الأصلَ
(1)
في حصول جميع الطَّاعات، ذكر بعده ما هو السَّبب الجزئي القريب فقال:
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وذلك لأنَّ الإقدام على الانتقام لا يكون إلَّا عند هيجان الغضب، وهو إمَّا لفوات نفعٍ كان حاصلًا في الماضي، وإليه الإشارة بقوله:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} : على قتلى أحد؛ أي: ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء، أو على إعراض الكافرين عنك، وإمَّا لتوقُّع ضررٍ في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله:{وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} : في ضيق صَدْرٍ مِنْ مَكرهم.
* * *
(128) - {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} للمعاصي، ويدخل فيها دخولًا أوَّليًّا استيفاءُ الزِّيادة {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} في أعمالهم، بالولاية والفضل.
(1)
في (ف): "الأصلي". وفي (ك): (الأصيل).
ويدخل فيها دخولًا أوَّليًّا ترك الانتقام، فكأنَّه قال: إن أردْتَ أن أكون معك بالفضل والرَّحمة والتَّربية فكنْ من المتَّقين المحسنين.
وقيل: الأوَّل
(1)
إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله، والثَّاني إلى الشَّفقة على خلق الله.
* * *
(1)
في (م): "الأولى".
سُورَةُ الإِسْرَاءِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُبْحَانَ} علَمٌ للتَّسبيح بمعنى التَّنزيه البليغ، وذلك من جهة الاشتقاق من السَّبح، وهو الإبعاد في الأرض، والنَّقلِ إلى التَّفعيل، والعدولِ عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصَّةً، والعاملُ فيه الفعل الذي من معناه لا من لفظه؛ إذ لم يجئ من لفظه الفعل، فالتَّقدير: أُنَزِّهُ اللهَ تنزيهًا، فوقع {سُبْحَانَ} مكانَ: تنزيهًا.
ولَمَّا كان حديث الإسراء مَظِنَّةَ أنْ يذهبَ الوهمُ إلى أنَّه تعالى زمانيٌّ أو مكانيٌّ صدَّره بما هو عَلَمٌ في تبعيده تعالى عمَّا لا يليق بشأنه.
ويجوز أن تكون كلمة {سُبْحَانَ} للتَّعجُّب بها، أشير إلى أعجبِ أمرٍ جرى بينَه وبينَ أفضل خلقه.
{الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الإسراء: سيرُ الليل خاصَّة، فقوله:
{لَيْلًا} لقَطْع مجاز السير خُفيةً، كما أنَّ قوله:{يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} بعدَ قوله: {وَلَا طَائِرٍ} [الأنعام: 38] لقطع مجاز السَّير
(1)
السَّريع.
(1)
في (ك) و (م): "سير".
والتَّنكير لتقليل مدَّة الإسراء، فإنَّه كما يدلُّ على البعضية في الأفراد كذلك يدلُّ على البعضية في الأجزاء، دلَّ على ذلك قول الشَّيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز": إن التَّنكير في {حَيَاةٌ} في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] للدِّلالة على أنَّ تلك الحياة بعض حياة المهموم بقتله
(1)
.
والثَّاني
(2)
هو المراد، يشهد لذلك قراءة:(مِنَ اللَّيلِ)
(3)
، أي: بعضه.
وهذا الإسراء كان جسمانيًّا، ولذلك كذَّبَتْ قريش به، وفي عبارة العبد إشارةٌ إلى ذلك.
{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بعينه، أو من الحَرَم؛ فإنَّه مسجدٌ كلُّه.
{إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} : بيتِ المقدس، سُمِّي أقصى لأنَّه لم يكن وقتئذ مسجد وراءَه.
{الَّذِي بَارَكْنَا} البركةُ: دُرور الخير وثبوتُه، وهي دينيَّة ودنيويَّة
(4)
، وكلاهما مُرادٌ هاهنا؛ لأنَّه مَهبط الوحي ومعبدُ الأنبياء عليهم السلام
(5)
، ومحفوف بالأنهار والأشجار.
والالتفات من الغيبة إلى التَّكلُّم لتعظيم تلك البركات والآيات.
(1)
انظر: "دلائل الإعجاز"(ص: 289).
(2)
أي: دلالة التنكير على البعضية في الأجزاء.
(3)
تنسب لعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما. رواها عن حذيفةَ الطبريُّ في "تفسيره"(14/ 413)، وقال: وكذا قرأ عبد الله.
(4)
في (م): "ودنياوية".
(5)
في هامش (ف) و (م): "قال القاضي: من لدن موسى عليه السلام. وفيه نظر. منه ".
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} كقطعه مسيرةَ شهرٍ، ومشاهدتهِ بيتَ المقدس في برهةٍ من الزَّمان، وتمثُّلِ الأنبياء عليهم السلام، والوقوفِ على مقاماتهم.
وأمَّا البُراق وسرعة سيره فليسا منها؛ لأنَّه عليه السلام رأى الأوَّل قبل السَّير، والثاني قبل الوصول إلى المسجد الأقصى، فلا ترتُّب لرؤيتهما على السَّير إليه
(1)
.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} بلا أُذُنٍ {الْبَصِيرُ} بلا بَصَرٍ. دلَّ على ذلك صورةُ الحصر، فلا تحتاج إلى قرب المسموع وحضور المبصَر
(2)
، فلا يختصُّ بمكانٍ دونَ مكانٍ، فلم يكن الإسراء لأجله، بل أَجْلِ عبدِه.
بدأَ بعبارة التَّنزيه، وختم بإشارته، فتجاوبَ طَرَفا الكلام.
* * *
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التَّوراة.
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا {تَتَّخِذُوا}
(3)
قرئ بالياء على: لئلَّا يتَّخذوا، وبالتَّاء
(4)
على: أنْ لا تتخذوا، كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا
(5)
.
{مِنْ دُونِي وَكِيلًا} : ربًّا
(6)
تَكِلون إليه أموركم.
(1)
في هامش (ف) و (م): "فيه إصلاح لما في كلام القاضي من الخلل، فتأمل. منه ".
(2)
في (م): "البصر".
(3)
زيادة من (م).
(4)
قرأ بالياء أبو عمرو وباقي السبعة بالتاء. انظر: "التيسير"(ص: 139).
(5)
في هامش (ف): "كتب أن فعل كذا"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 648)، والكلام منه، وفيه:(وبالياء على: أي لا تتخذوا).
(6)
في (ف) و (ك): "ما".
(3) - {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} .
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نصب على الاختصاص، أو النّداء إن قرئ بالتَّاء الفوقانيَّة على النَّهي، أو على أنَّه أحد مفعولَي (لا تتخذوا)، و {مِنْ دُونِي} حال من {وَكِيلًا} .
وقرئ بالرَّفع
(1)
على أنه خبر مبتدأ
(2)
محذوف، أو بدلٌ من واو {تَتَّخِذُوا} .
وفيه تذكيرٌ بإنعام الله تعالى عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق، وإيماءٌ إلى أنَّ ذلك لكونهم أتباعَ نوح عليه السلام.
ثم قال في تعليل تلك الفضيلةِ الجليلةِ الثَّابتةِ له عليه السلام:
{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وفيه حَثٌّ للذُّرية على الاقتداء به.
* * *
{وَقَضَيْنَا} أصل القضاءِ: الإحكام والإتمام، وإنَّما قال:
{إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} لتضمين معنى الإنزال؛ أي: أعلمنا إعلامًا محكَمًا متمَّمًا منزلًا إليهم في التَّوراة. وتفسير القضاء بالوحي يأباه.
{فِي الْكِتَابِ} كما لا يخفى على ذوي الألباب.
(1)
نسبت لمجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 75). وانظر: "المحرر الوجيز"(3/ 437)، و"البحر المحيط"(14/ 15).
(2)
"مبتدأ" سقط من (م) و (ك).
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ} جوابُ قسمٍ محذوف، ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قال: وأقسمنا لتفسدن.
{مَرَّتَيْنِ} أولاهما: مخالفة أحكام التَّوراة وقتلُ شعيا
(1)
عليه السلام، وثانيهما قتل يحيى وزكريا عليهما السلام.
ولا حاجة
(2)
إلى ما
(3)
قيل: إن المقتول في الأولى زكريَّا عليه السلام، وفي الثَّانية يحيى عليه السلام؛ لأنَّ الكرَّة الآتي ذكرها
(4)
لم تتخلَّل بينهما.
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} هو غلبة المفسدين منهم على المصلِحين إفراطًا مجاوزًا عن القَدْر. والعُلُوُّ لغةً: هو الغلبة، بحقٍّ كانَ أو باطلٍ.
* * *
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} ؛ أي: وقتُه، والوعد بمعنى الموعود، وهو العقاب، فلا حاجة إلى تقديره
(5)
.
(1)
في (ف) و (م): "شعيب "، وهو تحريف. انظر:"تفسير الطبري"(14/ 469)، و"تفسير القرطبي"(13/ 22 - 21).
(2)
في هامش (م): "ولا وجه ".
(3)
في (ك): "لما" بدل "إلى ما".
(4)
في هامش (م): "بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} منه ".
(5)
أي: العقاب، ويشير إلى تقدير البيضاوي حيث قال:(وعد عقاب أولاهما). وجاء في هامش (ف) و (م): "نعم ألا، حاجة إلى تقدير الوقت؛ لأن المعنى على مجيئه لا على مجيء نفس الموعود. منه".
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} هذا البعث من قبيل تولية بعض الظالمين على بعض، وكان على مقتضى الحكمة ولذلك أسنده تعالى إلى نفسه دون الجَوْس الآتي ذكره، فلا حاجة لصرفه
(1)
عن معناه إلى معنى التَّخلية.
{عِبَادًا لَنَا} سنحاريب
(2)
وجنوده، وقيل: بُخْتَ نصَّر، وقيل: جالوت.
قطع إضافتهم عن نفسه
(3)
لعدم استحقاقهم للتَّشريف المستفاد منها، وأيضًا ما في التَّنكير من التَّهويل يناسب المقام.
{أُولِي بَأْسٍ} : ذي قوَّة وبطش في الحرب.
{شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} وقرئ: (خَلَلَ)
(4)
، وهو واحد الخِلال، كجَبَلٍ وجِبالٍ، ويجوز أن يكون الخِلال أيضًا واحدًا، أي: تردَّدوا وتخلَّلوا بين الدُّور في طلبكم للقتل
(5)
والسَّبي.
وقرئ بالحاء
(6)
، وهما أخوان.
{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} ؛ أي: لا بُدَّ أنْ يُفعَل.
* * *
(1)
في (م): "إلى صرفه ".
(2)
في (ك): "سنجاريب ".
(3)
في هامش (م): "يعني لم يقل: (عبادي)، كما في قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}. منه ".
(4)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 75)، و"البحر"(14/ 20).
(5)
في (ف) و (ك): "في القتل".
(6)
أي: (فحاسوا)، ونسبت لأبي السمال. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 75)، و"البحر المحيط"(14/ 20)، إلا أنه وقع في "الشواذ": بالحاء والشين.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} ؛ أي: الدَّولة والغَلَبة {عَلَيْهِم} ؛ أي: على الذين بُعِثوا عليكم.
{عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} ممَّا
(1)
كنتم.
والنَّفيرُ: مَن ينفرُ معَ الرَّجلِ، ولا يلزم أن يكون من قومه، وقيل: جمعُ نَفَرٍ، وهم المجتمعون لأمرٍ، ولا يلزم أن يكون للذَّهاب إلى العدوِّ.
* * *
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} لأنَّ جزاءَه لها.
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، أي: فالإساءة لها، واللام للاستحقاق كما في قوله تعالى:{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 34].
ولا وجهَ للحمل على الاختصاص؛ لأنَّ نفعَ الإحسان وضررَ الإساءة قد يتعدَّيان إلى الغير، على ما دلَّ عليه الأخبار وشهد له الآثار، وأمَّا الازدواج فإنَّما يصارُ إليه عند تعذُّر المعنى الحقيقيِّ.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} : وقتُ موعودِ المرَّة الآخرة، وجوابُ (إذا) محذوفٌ دلَّ عليه جواب الأولى، أي: بعثناهم، وإنَّما عطف بالفاء مع أنَّه مِنْ تفصيل المجمل
(1)
في (ك) و (م): "كما".
- والظَّاهر فيه العطف بالواو - للدِّلالة على أنَّ مجيءَ وعدِ الآخرة لم يتراخَ عن كثرتهم وثروتهم، وذلك أنَّهم كلَّما ازدادوا عددًا وعُدَّة ازدادوا عدوانًا وطغيانًا، إلى أن تكاملَتْ أسبابُ العزَّة، ففاجأهم الله تعالى على العزَّة.
{لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} بياء الغائبة على الجمع
(1)
؛ أي: ليسوءَ هؤلاء وجوهكم، وإنَّما عدَّى المساءَة إلى الوجوه وإن كانت عليهم لأنَّ آثار الأعراض النَّفسانية ظهورها
(2)
في الوجه.
وقرئ بياء الغائبة على الواحد
(3)
، والضَّمير للقائهم للقراءة السابق
(4)
ذكرها، أو لله تعالى للقراءة بالنُّون وفتح الواو
(5)
.
{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} : بيت المقدس، ويخرِّبوه {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وخرَّبوه.
{وَلِيُتَبِّرُوا} ؛ أي: ليدمِّروا
(6)
{مَا عَلَوْا} : ما غلبوه واستولَوا عليه، أو: مُدَّةَ علوِّهم.
{تَتْبِيرًا} : تفتيتًا. ومنه: التِّبرُ، لفُتاتِ الذَّهبِ.
* * *
(1)
بعدها في (ف) زيادة: "وإنما"، ولا وجه يظهر لها.
(2)
في (ف): "ظهورًا ".
(3)
وهي قراءة ابن عامر وحمزة وأبي بكر. انظر: "التيسير"(ص: 139).
(4)
في (م): "السابقة".
(5)
وهي قراءة الكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 139).
(6)
في (ف) و (م): "ليدبروا". والمثبت من (م) وهو الصواب. انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 32).
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} وعدٌ مِنَ الله تعالى أن يكشف
(1)
عنهم بعد المرَّة الآخرة.
{وَإِنْ عُدْتُمْ} نوبةً أخرى {عُدْنَا} مهو مرَّة ثالثةً إلى عقوبتكم. وقد عادوا فبعثَ اللهُ تعالى عليهم نبينا عليه السلام.
هذا مآلهم في الدُّنيا، ثمَّ ذكرَ مآلهم في الآخرة بقوله:
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} : محبسًا ضيِّقًا. قال القشيري: يُقال للذي يُفرَش: حصير؛ لحَصْر بعضه على بعض بالنَّسج
(2)
.
* * *
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي} : للطَّريقة
(3)
التي {هِيَ أَقْوَمُ} الطُّرق.
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} الفسقُ لا ينافي الإيمان ولا العمل الصَّالح، فلا خروجَ للفسَقَة بأحد القيدَيْن المذكورين، فلا حاجة إلى المكابرة بأن يُقال: كان النَّاس حينئذ إمَّا مؤمن تقي وإمَّا مشرك، وإنَّما حدث الفاسق بعد ذلك.
* * *
(1)
في (ف): "ينكشف".
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 33).
(3)
في (ف): "للطريق ".
(10) - {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .
{وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} عطفٌ على {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا} .
والمعنى أنَّه يبشِّر المؤمنين ببشارَتَيْن: ثوابهم
(1)
، وعقابِ أعدائهم.
{أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في زيادة {أَعْتَدْنَا} هاهنا إنباءٌ عن شدَّة الغضب في حقِّهم.
* * *
(11) - {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} .
{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} حذفت الواو من (يدعو) لفظًا لاستقبال اللَّام السَّاكنة، كما في قوله تعالى:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18]، وحذفت في الخطِّ أيضًا
(2)
، لكنَّها غير محذوفة معنًى.
{بِالشَّرِّ} هو دعاؤه على نفسِه وأهله
(3)
ومالِه عندَ الضَّجر بما لا يحبُّ
(4)
أن يُستجاب له.
{دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} : مثلَ دعاءِه بالخير.
يعني أنَّ القرآن يهديهم إلى ما فيه السَّلامة، وهم يأبون إلَّا أنْ يأتوا بما فيه النَّدامة.
ثمَّ ذكرَ أنَّ ذلك مِنْ عدمِ تثبُّته وقلَّة صبره فقال:
(1)
في (ك) و (م): "ثواب".
(2)
"أيضًا" من (م).
(3)
"وأهله" من (م).
(4)
في (ف) و (م): "لا يجب".
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} العَجلَةُ: طلبُ الشَّيء قبلَ وقته الذي ينبغي أن يقعَ فيه، والسُّرعةُ: عملُ الشَّيء في أوَّلِ وقته.
* * *
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} تدلَّان على القادر الحكيم
(1)
بتعاقُبهما على نسقٍ يترتَّب عليه آثارٌ غريبة وأحكامٌ
(2)
عجيبةٌ.
{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الفاء فصيحة؛ كأنَّه قيل: وخالفنا بين الآيتين: فَجعلنا الآيةَ التي هي اللَّيل لِمَحْوِهِ؛ أي عديمَ النُّور، والآيةَ التي هي النَّهار مبصرةً؛ أي: مضيئةً أهلَه مبصرةً للنَّاس، مِن أبصره فبصُر، فإنَّ الإضاءة لازم الإبصار، على أنَّ الإضافة في الآيتين للتَّبيين.
وقيل: آيةُ اللَّيل القَمَرُ، ومحوه: إخلاؤه عن
(3)
النُّور؛ فإنَّ ما يُرَى فيه نورُ الشَّمس، وآيةُ النَّهار الشَّمسُ، وإبصارُها: نورُها الذي يقع به الإبصارُ.
{لِتَبْتَغُوا} تعليل لجعلِ آيةِ النَّهار مبصرةً.
{فَضْلًا} : رزقًا {مِنْ رَبِّكُمْ} والابتغاءُ: الطَّلبُ، والمعنى: لتقدروا في بياض النَّهار على تحصيل أسباب المعاشِ.
(1)
"الحكيم" من (م).
(2)
في (ف): "وآثار".
(3)
في (ك): "من".
وفي عبارة الفضل إشارة إلى أنَّه لا يجبُ على اللّه تعالى أن يرزقَ عبادَه، وإنَّما ذلك تفضُّلًا، ففيه رَدٌّ على المعتزلة.
{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} تعليل لمحو آية اللَّيل؛ أي: تعلموا باختلاف الجديدين عددَ السِّنين وجنسَ الحساب، وما تحتاجون إليه منه، أو: الحسابَ المتعلِّق بالأوقات، على أنَّ
(1)
التَّعريف للعهد، بقرينة {عَدَدَ السِّنِينَ} ، أو بنقص نور القمر شيئًا فشيئًا؛ لأنَّ معرفة السَّنة القمريَّة المعتبَرة عند العرب بذلك.
{وَكُلَّ شَيْءٍ} كلمة {وَكُلَّ} للتَّكثير والتَّفخيم، لا للتَّعميم والإحاطة، كما سبق إلى وَهمِ مَن قال: مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم
(2)
.
{شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} بيَّنَّاه بيانًا كافيًا. والمقامُ مقامُ الامتنان بإتمام الإحسان، لا مقام الإلزام والإفحام
(3)
، كما سبق إلى بعض الأفهام.
* * *
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} أرادَ بالطَّائر: حظَّه من الخير والشَّر، كأنَّه طير إليه من عشِّ الغيب ووكر
(4)
القدر.
لما كانوا يتيمَّنون ويتشاءمون بسُنوح الطَّائر وبُروحه، استُعِيْرَ لِمَا هو
(5)
سببُ الفرحِ والتَّرح مِنْ قدَرِ اللهِ تعالى.
(1)
"أن" سقط من (ك).
(2)
المراد البيضاوي القائل: وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا.
(3)
في (ف) و (م): "والإقحام".
(4)
تحرفت في النسخ إلى: "وذكر"، والمثبت من "تفسير البيضاوي".
(5)
في (ف): "هي".
{فِي عُنُقِهِ} خصَّ العُنُقَ بالإضافة إليه مِن بين سائر الأعضاء؛ لأنَّ فيه يكون الزائن من القلائد والأطواق، والشَّائن من الأغلال والأوهان، فاستُعِيْرَ لمحلِّ إلزام الخير والشَّرِّ.
{وَنُخْرِجُ لَهُ} اللَّام للاختصاص {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: وقتَ الموت، فإنَّه القيامة الصُّغرى. قال عليه السلام:"مَن مات فقد قامَتْ قيامتُه"(1).
{كِتَابًا} : هيكلًا مصوَّرًا يصوِّر (2) أعمالَه.
{يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصَّلةً، لا منطويةً كما كانت قبلَ ذلك عندَ كونها فيه بالقوَّة، وهما صفتان للكتاب، أو الأوَّل صفة والثاني حال من مفعوله.
وقرئ: (يُلقَّاهُ) على البناء للمفعول (3)، مِنْ لُقِّيتُه كذا.
* * *
(14) - {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
{اقْرَأْ كِتَابَكَ} على إرادة القول، فيقرأُ قارئًا كان أو غيرَ قارئ؛ لأنَّ الأعمال
(1) أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس"(1117) من حديث أنس رضي الله عنه. قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(3680)(2/ 1013): (رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" بإسناد ضعيف). ورواه الطبري في "تفسيره"(23/ 468) موقوفًا من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وهذا القول نقله المؤلف عن الرازي في "تفسيره"(20/ 311)، وهو خلاف الظاهر.
(2)
في (م): "مصدرًا مصور"، وفي (ك):"مصدرًا بصور".
(3)
قرأ بها ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 139).
هناك متمثلةٌ
(1)
بصورها وهيئاتها، يعرفها كلُّ أحد، لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفَها إلا مَن يقرأ، وهذا وجهُ ما روي عن قتادة: يقرأ ذلك اليومَ مَن لم يكن في الدنيا قارئًا.
{كَفَى بِنَفْسِكَ} الباء مزيدة للإشارة إلى لصوق ذلك الوصف ولزومه لها.
{الْيَوْمَ} قدِّم الظرف لتخصيص الحكم المذكور بذلك الوقت.
{عَلَيْكَ حَسِيبًا} حاسبًا أو كافيًا، نصبٌ على التمييز، وتعديتُه بـ (على) لتضمُّنه معنى الشهادة، وتذكيرُه على أن الحساب والشهادة مما يتولَّاه الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلًا حسيبًا، وتقديم الصلة للإشارة إلى أنَّ لكلِّ امرئٍ يومئذ شأنٌ يغنيه عن الْتفاتٍ إلى غيره.
* * *
{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} : فجزاءُ اهتدائِهِ له.
{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فوبالُ ضلالِه عليها.
وأمَّا أنَّ الغير لا ينتفع ولا يتضرَّر بضلاله فلا دلالة فيما ذكر عليه، ولا صحَّة له أيضًا؛ لِمَا قدَّمناه في تفسير قوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} .
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لِمَا مرَّ من تفسيره في سورة الأنعام.
(1)
في (م): "متمثلًا".
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الجمهور على أنَّ هذا في حكم الآخرة خاصَّة، وقالت فرقة: إنه في حكم الدُّنيا والآخرة. ذكره القرطبي
(1)
.
وعلى كلَا التَّقديرَيْنِ لا دلالة فيه على أنَّه لا وجوب قبل الشَّرع: أمَّا على الأوَّل فظاهر، وأمَّا على الثَّاني فلأنَّه لا يلزم من تعليقِ مجموع الحكمَيْن على البعثة تعليقُ كلٍّ منهما عليها.
وإنَّما نفى الكينونة دون البعث لأنَّ المراد الإخبار عن عادته تعالى لا الوعدُ، فعدمُ العذاب مقطوع به إلى وقت البِعْثَة.
وكلمة {حَتَّى} لبيان غاية الأمن عن العذاب، لا لبيان
(2)
غاية عدم العذاب حتى يتعيَّنَ العذاب عند البعثة.
ولَمَّا ذكر تعالى أنَّه لا يعذِّب أحدًا حتى يبعثَ إليه رسولًا بَيَّنَ بعدَ ذلك علَّة
(3)
إهلاكهم بعد البعث - وهي مخالَفة أمر المبعوث إليهم - فقال:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} أي: إذا تعلَّقَ إرادتُنا في الأزل لإهلاك قريةٍ بما فيها في وقتٍ مخصوصٍ.
{أَمَرْنَا} أي: وُجِدَ منَّا الأمر قبلَ مجيء
(4)
ذلك الوقت.
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 43).
(2)
"غاية الأمن عن العذاب، لا لبيان" سقط من (م).
(3)
"علة" من (ك).
(4)
"مجيء" من (م).
{مُتْرَفِيهَا} : منعَّميها
(1)
، خصَّهم بالذِّكْرِ - مع عموم الأمر
(2)
للفريقَيْن بدلالةِ أنَّ الكلام في بيان سبب استحقاق أهل القرية لعذاب الاستئصال - لأنهم الرؤساء المتبوعون، ولأنهم مأمورون بنوعي العبادة البدني والمالي.
{فَفَسَقُوا} فَوُجِدَ
(3)
الفِسْقُ - وهو الخروج عن الطَّاعة - منهم؛ أي: من أهل القرية كلِّهم؛ لِمَا نبَّهْتُ على أنَّ غير المتوفين أيضًا مأمورون، لكنه استغنى بذكر المتوفين عن غيرهم كما اكتفى بذكر الملائكة عن ذكر الجنِّ في قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} [الإسراء: 61] على ما مرَّ تحقيقه في تفسير سورة البقرة.
وقرئ: (أَمِرْنا)
(4)
، بمعنى: كثَّرنا، لقول العرب: أَمِرَ القومُ - بكسر الميم -؛ أي: كثروا، وأمَرهم اللّه - بالفتح -، أي: كثَّرهم، فصارَتِ الحركة مما يصير به الفعل متعدِّيًا، كما في شَتِرَتْ عينُ الرَّجل بكسر التَّاء، وشَتَرها الله بفتحها
(5)
.
(1)
في (ف): "متنعمها".
(2)
في النسخ: "مع عدم الأمر"، والصواب المثبت. وانظر:"روح المعاني"(14/ 444)، ولفظه:(مع توجه الأمر إلى الكل .. ).
(3)
في (ف) و (م): "فوجدوا".
(4)
نسبت ليحيى بن يعمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76).
(5)
وفي كلام المؤلف هنا قصور؛ فإن هذه القراءة تنقض ما ذكره من أمر التعدية واللزوم في الفعل المذكور؛ لأن الرواية فيها بكسر الميم ومع ذلك فهي متعدية، وبها رد البعض ما ذكر من الكلام في قصر التعدية على الفتح واللزوم على الكسر، فذكروا أن وكسر الميم لغةٌ كفتحها، ومعناها: كثرنا، حكى أبو حاتم عن أبي زيد: أمَر الله مالَه وأمِره - بفتح الميم وكسرها -؛ أي: كثره. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 119)، و"معاني القرآن" للنحاس (4/ 133)، و"البحر"(14/ 41) وفيه تفصيل المسألة.
ويؤيِّده قراءة: (آمَرْنا) بالمد
(1)
، و:(أمَّرْنا) بالتَّشديد
(2)
.
{فِيهَا} فيه دلالة
(3)
على أنَّ هلاك نفس القرية أيضًا داخل
(4)
تحت المراد، فلا مجاز في لفظ القرية
(5)
، كما لا مجاز في الإرادة والأمر.
{فَحَقَّ عَلَيْهَا} أي: على القرية بما فيها.
{الْقَوْلُ} : هو وعيد الله تعالى الذي قاله رسولهم عليه السلام.
{فَدَمَّرْنَاهَا} التَّدمير: الإهلاك مع طمس
(6)
الأثر وهدم البناء مع إهلاك أهلها.
{تَدْمِيرًا} ذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم.
* * *
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} (كم) في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} ، و {مِنَ الْقُرُونِ} بيان لـ (كم) وتمييز له؛ أي: كثيرًا من القرون أهلكنا.
{مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} خصَّه بالذِّكْرِ لأنَّه أوَّلُ مَنْ حَلَّتْ بقومه عقوبة الاستئصال.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} يدرِك بواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها.
(1)
نسبت لخارجة عن نافع. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76).
(2)
نسبت لأبي عثمان النهدي، ورويت عن أبي عمرو وعاصم في غير المشهور عنهما. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76).
(3)
"دلالة" سقط من (ف)، و"فيه" سقط من (ك).
(4)
في (ك) و (م): "داخلة".
(5)
"في لفظ القرية" من (م).
(6)
في (ف) و (م): "طمث".
وتقديم الخبير لتقدُّم متعلَّقه
(1)
من المعتقدات والنِّيِّات، فإنَّها أقدم على الأعمال الظَّاهرة التي هي متعلَّقات البصر، والعقاب عليها أشدُّ، والعفو عنها أقلُّ.
* * *
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} : مَنِ استمرَّ على إرادة الدَّار العاجلة ولم ينقطع عنها، دلَّ على ذلك زيادة {كَانَ}
(2)
هنا دون قَسِيمه، وأما اعتبارُ قصر الإرادة عليها بمعونة
(3)
المقابلة فيردُّه عدم صحَّة اعتباره في المقابل، ولا وجه لتخصيصه
(4)
مع الاشتراك في العلَّة.
{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} قيَّد المعجَّل والمعجَّل
(5)
له بالمشيئة والإرادة على اختلاف العبارة؛ لأنَّه لا يجدُ كلُّ مريدٍ ما أراده، ولا كلُّ واحدٍ جميعَ مراده.
ومدلولُ الكلام: أنَّ حصول المرام موقوفٌ على مشيئة الله تعالى، وأمَّا أنَّه لا دخل فيه للهمِّ وللإرادة فلا دلالة عليه فيه؛ فإنَّه يجوز أن يكون ذلك
(6)
من الأسباب العادية، ومشيئة اللّه تعالى إنَّما تتعلَّق بشيءٍ بعد تمام الأسباب العادية إلَّا في خوارق العادات.
(1)
في النسخ: "وتقديم الخبر تقديم متعلقه"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(14/ 449).
(2)
"كان" سقط من (ف).
(3)
في (ك): "لمعونة".
(4)
في (ك) و (م): "للتخصيص".
(5)
"والمعجل" من (م).
(6)
"ذلك" من (م).
و {لِمَنْ نُرِيدُ} بدل من {لَهُ} بدلَ البعض من الكل.
وقرئ: (يشاء)
(1)
، والضمير فيه لله تعالى، ليطابق المشهورة
(2)
.
{ثُمَّ جَعَلْنَا} : صيَّرنا {لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا} حال من الضمير في
(3)
{لَهُ} ، أو من {جَهَنَّمَ} .
{مَذْمُومًا مَدْحُورًا} : مطرودًا من رحمة الله تعالى.
* * *
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} : حقَّها من السَّعي، وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي بالجدِّ.
قال الرَّاغبُ: السَّعيُ: المشيُ السَّريع، وهو دونَ العَدو، ويُستعمَل للجدِّ في الأمر خيرًا كان أو شرًّا
(4)
.
وفائدة اللَّام اعتبار النِّيِّة والإخلاص
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هو الشَّرط الأعظم، فلا ينبغي السَّعيُ إلَّا به.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76)، و"المحرر الوجيز"(3/ 446)، و"البحر"(14/ 44).
(2)
في (ف): "المشهور".
(3)
"الضمير في "من (م).
(4)
انظر: "المفردات في غريب القرآن"(مادة: سعى).
{فَأُولَئِكَ} إشارة إلى مَنِ اتَّصف بهذه الأوصاف {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} من اللّه تعالى؛ أي: مقبولًا عنده مثابًا عليه.
* * *
(20) - {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} .
{كُلًّا} كِلَا
(1)
الفريقَيْن، والتَّنوين بدلٌ مِنَ المضاف إليه {نُمِدُّ} الإمدادُ: المواصلةُ بالشَّيء {هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} بدل
(2)
من {كُلًّا} بدل تفصيل
(3)
.
{مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} متعلِّق بـ {نُمِدُّ} ، والعطاء بمعنى المعطَى.
{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} : ممنوعًا عن عباده؛ مؤمنًا كان أو كافرًا.
* * *
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في العطاء، وانتصاب {كَيْفَ} بـ {فَضَّلْنَا} على الحال.
{وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} من درجات الدُّنيا، و {دَرَجَاتٍ} نصوب على التَّمييز.
{وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} ؛ أي: التَّفاوت فيها أكبر
(4)
؛ لأنَّه بالجنَّة ودرجاتها وبالنَّار ودركاتها.
(1)
في (ك) و (م): "كل من".
(2)
في (م): "بدلان"، وفي (ك):"بدلا".
(3)
في (ف)"من تفصيل"، والمثبت من (ك) و (م)، والمعنى: بدل من {كُلًّا} بدلَ كلِّ على جهة التفصيل، أي: نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم. انظر: "روح المعاني"(14/ 455).
(4)
"أكبر" من (م).
(22) - {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} .
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للإنسان، أو للنَّبيِّ عليه السلام والمراد أمَّته.
والجَعْلُ بمعنى التَّصيير بالعقد
(1)
.
{فَتَقْعُدَ} : فتبنى عاجزًا؛ فإن القعود ممَّا يُكنى به عن العجز.
{مَذْمُومًا مَخْذُولًا} : جامعًا على نفسك الذَّمَّ من الملائكة والمؤمنين، والخذلانَ من اللّه تعالى.
* * *
{وَقَضَى رَبُّكَ} : أمرَ أمرًا مقطوعًا به {أَلَّا تَعْبُدُوا} : بأن لا تعبدوا {إِلَّا إِيَّاهُ} ويجوز أن تكون (أنْ) مفسِّرة، و (لا) ناهية.
قال القرطبي: في مصحف عبد الله: (ووصَّى ربك)، وذكر أبو حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
(2)
: (ووصَّى ربك) فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد، فقُرِئتْ:{وَقَضَى رَبُّكَ} ، إذ لو كان على القضاء ما عصى اللهَ أحدٌ. وقالَ الضَّحَّاك مثلَ ذلك.
(1)
"بالعقد" من (م). والتصيير يكون بالفعل نحو: صيرت الحديد سيفًا والسبيكة سوارًا، وقد يكون بالقول كالتسمية في {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وقد يكون بالعقد. انظر:"حاشية الشهاب"(2/ 16).
(2)
"أنه" من (ف).
ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عبَّاسٍ قال ذلك، وقال: لو قلنا هذا لطعن الزَّنادقة في مصحفنا، وأمَّا التَّعليل الذي نسبوه إليه فهو منافٍ لِمَا نُقِلَ عنه مِن أنَّه ليسَ قضاءَ حكمٍ بل هو قضاءُ أمرٍ
(1)
.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ} : وبأن تحسنوا بالوالدين {إِحْسَانًا} ويجوز أن تتعلَّق الباء بالإحسان، وقد مرَّ في تفسير سورة
(2)
الأنعام تحقيقُ وجهِ جواز تقدُّم صلة المصدر.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} {إِمَّا} هي (إنْ) الشَّرطيَّة زيدت عليها (ما) تأكيدًا لها، ولذلك صحَّ دخول النُّون المؤكِّدة في الفعل، و {أَحَدُهُمَا} فاعل {يَبْلُغَنَّ} ، وبدلٌ من الألف الراجع إلى الوالدين على قراءة:(يَبْلُغَانِّ)
(3)
، و {كِلَاهُمَا} عطف على {أَحَدُهُمَا} على الاحتمالَين، ولا احتمال لأن يكون تأكيدًا لضمير (يبلغان)، لا لكونه معطوفًا على البدل؛ لأنَّه لا يقتضي أن يكون بدلًا فإن عطف التأكيد على البدل شائع، بل لأنَّ فيه دلالة على أنَّ التَّأكيد غير مراد في المقام؛ لأنَّ فائدة تأكيد التَّثنية الشُّمول والإحاطة، ولو قصدت تلك الفائدة لَمَا قيل:{أَحَدُهُمَا} ، فالمانع ذكره لا عطفه على البدل.
وإنَّما قيَّد بقوله: {عِنْدَكَ} لأنَّ مراعاة الأدب مع طول المصاحبة أشقُّ، فكانت مظنَّة التَّقصير، فتدُورك به.
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 50)، وانظر:"معاني القرآن" للفراء (2/ 120)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 76). و"تفسير ابن أبي حاتم"(7/ 2323)، و"المحرر الوجيز" (3/ 447). وجاء في هامش (ف):"وحكي عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: (ووصى ربك)، قال: إنهم ألصقوه بالصاد، فصار قافًا. من تفسير البغوي. منه".
(2)
في (ك): "مر تفسيره في سورة".
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 139).
وإنَّما خَصَّ حالةَ الكبر لأنَّ مَنْ بلغَها يسوءُ خُلُقُه، فكان فيه تقويةٌ لِمَا ذُكِرَ آنفًا من المظنَّة، وأيضًا هي حالة يحتاجان فيها إلى برِّه؛ لتغيُّر الحال عليهما بالضَّعف.
{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا} أراد تعميم النَّهي لكلٍّ منهما، لا تقييدَه بحالة اجتماعهما؛ لعدم تحمُّله أحدَ التَّقديرَيْن.
{أُفٍّ} : صوتٌ يدلُ على التَّضجُّر، وقيل: اسم الفعل الذي هو أتضجَّر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين.
وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتَّنكير، وقرئ بالفتح على التَّخفيف
(1)
، وقرئ منونًا وبالضَّم للإتباع
(2)
.
والنَّهي عن هذه اللَّفظة الدَّالة على التَّضجر والبَرَم
(3)
يُفصح عن النَّهي عن سائر أنواع الإيذاء بطريق الدِّلالة.
وقال الأصمعيُّ: الأفُّ: وسخ الأذن، والتُّفُّ وسخ الأظفار، فكثر استعماله حتى ذكر في كلِّ ما يُتأذَّى به
(4)
. وعلى هذا يكون النَّهي عن الكلِّ بطريق العبارة.
{وَلَا تَنْهَرْهُمَا} النَّهْرُ: الزَّجْرُ والغِلْظَة.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} وهو السَّالمُ عن كلِّ عيب.
(1)
قرأ نافع وحفص بالتنوين وكسر الفاء، وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، وبافي السبعة بكسرها من غير تنوين. انظر:"التيسير"(ص: 139).
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 657)، وفيه:(وقرئ: أفّ، بالحركات الثلاث، منونًا وغير منون: الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم، والضم إتباع كمنذ). وانظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76)، و"المحتسب"(2/ 18).
(3)
(البرم): السآمة والضجر. انظر: "القاموس"(مادة: برم).
(4)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 181).
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ؛ أي: قل لهما قولًا كريمًا بدلَ القول اللَّئيم، وهو أفٍّ، وافعل لهما الفعل اللَّطيف بدل الفعل العنيف، وهو النَّهْرُ. نهى
(1)
عن قولٍ وفعلٍ، وأمر بقولٍ وفعلٍ بدلًا عنهما.
وفي تقرير الثَّاني وجهان:
أحدهما: الطَّائر إذا أراد الطَّيران والارتفاع نشرَ جناحه
(2)
، وإذا أراد ترك ذلك خفض جناحه، فصار خفض الجناح مجازًا مرسلًا مرتَّبًا على الكناية عن فعل التَّواضع.
والثَّاني: أنَّ الطَّيرَ
(3)
إذا ضمَّ فرخه إليه للتَّربية خفضَ له جناحَه، فخفضُ الجناح في الأصل كناية عن حسن التَّدبير، فكأنَّه قيل للولد: اكفل والديك بضمِّهما إلى نفسك كما فُعِلَ ذلك بك حال صغرك، يرشدك إلى هذا قوله:{كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ، ويقوِّي الأوَّل إضافة الجناح إلى الذُّل بطريق الاستعارة التَّخييلية.
وقرئ: (الذِّلِّ) بالكسر
(4)
، وهو الانقياد.
{مِنَ الرَّحْمَةِ} : من فَرْط رحمتك إليهما، حيث افتقرا إلى مَن كان
(5)
أفقر خلق الله إليهما.
(1)
في (ف): "نهر".
(2)
في (ك): "جناحيه".
(3)
"أن الطير" من (م).
(4)
نسبت لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 76).
(5)
في (ف) و (م): "حيث افتقر إلى من هو"، وسقطت "هو" من (ك). والمثبت من المصادر. انظر:"الكشاف"(2/ 638)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 252)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 167).
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} : وادعُ اللهَ تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتفِ برحمتك الفانية، والكفر لا يمنع عن ذلك ما داما حيَّيْن؛ لأنَّ الهداية إلى الإيمان من جملة الرَّحمة بل من معظمها. وصحَّة التَّثنية في قوله:
{كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} باعتبار أن التربية لا تكون إلا عن رحمة، فذكرُ تلك التربيةِ ذكرٌ للرحمة اقتضاءً، فكأنه قال: كما رحماني وربَّياني صغيرًا، وبالعبارة المذكورة نبّه على العلة الموجِبة للإحسان إليهما واسترحامَ الله تعالى لهما، وهي تربيتُهما له صغيرًا، وتلك الحالة مما يزيد إشفاقًا لهما ورحمةً؛ إذ هي تذكير بحالة إحسانهما له وقتَ أنْ لا يقدر على الإحسان لنفسه.
* * *
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} من قَصْدِ البرِّ إليهما، واعتقادِ ما يجب لهما من التَّوفير. وكأنَّه تهديدٌ على أنْ يُضْمِرَ لهما كراهةً واستثقالًا
(1)
.
{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} : قاصدين الصلاح {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ} الأوَّابُ: الرَّجَّاعُ عن ذنبه بالتَّوبة.
{غَفُورًا} ما فرط منهم عند حرج الصَّدر من أذيَّة أو تقصير، وفيه تشديدٌ عظيمٌ.
ويجوز أن يكون عامًّا لكل تائبٍ، ويندرج فيه الجاني على أبويه التَّائبُ من جنايته اندراجًا أوَّليًّا؛ لوروده على أثره.
* * *
(1)
في (م): "واستقلالًا".
(26) - {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} .
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} لَمَّا أمرَ ببرِّ الوالدين أمرَ بصلة القرابة.
والحقُّ هنا: ما يتعيَّن له من صلة الرَّحم، وسدِّ الخلَّة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكلِّ وجهٍ.
{وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قد مرَّ تفسيرهما.
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} أصل التَّبذير: التَّفريق، من إلقاء البِذر في الأرض، وهو تفريق حبَّاته.
والفرق بينه وبين الإسراف: أنَّ الإسراف تجاوز في الكميَّة، وهو جهل بمقادير الحقوق، والتَّبذيرُ تجاوزٌ عن موضع الحقِّ، فهو جهلٌ بمواقعها، وكلاهما مذمومان، والثَّاني أدخلُ في الذَّمِّ، ويُفصح عن التَّفاوت بينهما قوله:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وقوله:
(27) - {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} : أتباعَهم الملازِمين لهم، فإنَّ العرب تسمِّي الملازم للشيء أخًا له، فتقول: أخو المكارم: إذا كان مواظبًا عليها.
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} : كثيرَ الكفران لِنِعَمه، جَحودًا لحقوقه. ودخول (كان) فيه إخبارٌ لعادته ومذهبه
(1)
.
* * *
(1)
في (م) زيادة: "في القديم".
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} ؛ أي: إن عرضَتْ لك حاجةٌ أحوَجَتْك إلى الإعراض عن هؤلاء المحتاجين لضيقِ يدٍ انتظارَ الرِّزق ترجوه من اللّه تعالى.
{فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} فلا تدعْ تعهُّدَهم بالقول الجميل، والميسورُ مَن يُسِرَ الأمرُ، مثل: سُعِد ونُحِس.
كان النَّبيُّ عليه السلام إذا سُئِلَ ولم يكن عنده ما يعطيه سكتَ انتظارًا لرزقٍ يأتي من اللّه تعالى؛ كراهةَ الرَّدِّ، فنزلَتْ هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سُئِلَ ولم يكن عنده ما يعطي قال:"رزقنا اللّه وإيَّاكم من فضله"
(1)
.
وذلك قوله: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} ؛ أي: لا تسكت فيكونَ إيحاشًا لهم، ولا تؤيسهم
(2)
فيكونَ إيلامًا لهم.
ولا يجوز أن يتعلق {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} الجواب؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب (أمَّا) وما يلحق بها في المذهب المنصور، إلَّا إذا أريد التَّعلُّقُ المعنويُّ، فيُضمَرُ ما يَنصبه
(3)
، ويُجعل المذكور جاريًا مجرى التفسير.
* * *
(1)
ذكرته كتب التفسير دون. انظر: "معاني القرآن" للزجاج (3/ 236)، و"التفسير الوسيط" للواحدي (3/ 105)، و"المحرر الوجير"(3/ 450).
(2)
في (ك): "توئسهم"، وفي (ف):"تومسهم").
(3)
في النسخ: "فيضمن ما تضمنه". والتصويب من "حاشية الشهاب"(6/ 27)، و"روح المعاني"(14/ 488).
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} تمثيلان لمنع الشَّحيح وإتلاف المبذر، نهى عنهما أمرًا بالاقتصاد الذي هو بين التَّبذير والإمساك، وأمَّا الكرم فلا اختصاصَ له ببذل النَّوال، بل يعمُّ سائر الأحوال.
{فَتَقْعُدَ} : فتبنى عاجزًا.
{مَلُومًا} : يلومُك النَّاسُ على الشُّحِّ، وهذا أثر المنهيِّ أولًا
(1)
.
{مَحْسُورًا} : منقطعًا عن النَّفقة والتَّصرُّف بسبب التَّبذير، وهذا أثر المنهي ثانيًا.
والأوجه أن يكون كلاهما مرتَّبًا على الثَّاني، وأمَّا الأوَّل فقد اكتُفي فيه
(2)
بما فُهم من تمثيله على أقبح وجهٍ في التَّصوير.
* * *
{رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} : يوسعه ويضيِّقه لمن يشاءُ، لا لعجزٍ ولا لبخلٍ.
{إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا} عالمًا بخفيَّات أمورهم.
{بَصِيرًا} بمصالحهم، فيوسع لقومٍ ويضيِّق لآخرين على مقتضى علمه وحكمته.
ويجوز أن يكون المعنى: أنَّ البسط والقبض يليق له تعالى العالِمِ بالسَّرائر
(1)
في النسخ: "ولا"، والصواب المثبت.
(2)
في (ك) و (م): "اكتفى به".
والظَّواهر، وأمَّا العباد فحقُّهم أن يقتصدوا، أو أنَّه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى، فاستنُّوا بسنَّته ولا تُفْرِطوا
(1)
ولا تُفرِّطوا، وعلى كِلا التَّقديرَيْن يكون جاريًا مجرى الاستئناف للتَّعليل.
ويجوز أن يكون تمهيدًا لقوله:
* * *
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} : مخافة فقرٍ، وكان هذا نهيًا عن وأدِ البنات، وكانوا يفعلونه.
{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ} لا أنتم، فلا وجهَ لقتلهم بسبب الرِّزق، وزيادة قوله:
{وَإِيَّاكُمْ} لبيان أنَّ رزق الآباء أيضًا على الله تعالى، فكيف يتولَّى رَزْقَ الغير مَن يعجزُ عن رَزْق نفسه.
{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} لِمَا فيه من قطع التَّناسل وانقطاع النَّوع.
قرأ الجمهور: {خِطْئًا} بكسر الخاء وسكون الطاء والهمزة والقصر، وقرأ ابن عامر:(خَطَأً) بفتح الخاء والطَّاء والهمزة والقصر
(2)
، وقرأ ابن كثير:(خِطَاءً) بكسر الخاء وفتح الطَّاء والهمزة
(3)
والمدِّ
(4)
.
(1)
"ولا تفرطوا" من (م).
(2)
هي رواية ابن ذكون عنه. انظر: "التيسير"(ص: 140).
(3)
"والهمزة" من (م).
(4)
انظر: "التيسير"(ص: 139 - 140).
وقال النَّحاسُ: لا أعرف لهذه القراءة وجهًا
(1)
، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطًا.
وقال أبو علي: هي مصدر خاطأ يُخاطئ، وإنْ كنَّا لا نجد: خاطأ، ولكن وجدنا: تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ فدلَّنا عليه
(2)
.
والخِطْءُ والخَطَأ مصدر خَطِئ يَخْطأُ كالحِذْر والحَذَر.
ويقال: خَطِئَ: إذا أثم، وأخطأ: ضدُّ تعمَّد.
والخِطْءُ - بالكسر - لا يكون إلَّا تعمُّدًا، والخَطَأ - بالفتح - قد يكون عمدًا، وقد يكون خطأً.
* * *
(32) - {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} .
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} بمباشرةِ مقدِّماته، وهذا نهيٌ عنه بأبلغ وجهٍ.
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} : فعلةً ظاهرةً في القبح متناهيةً فيه.
{وَسَاءَ سَبِيلًا} : وبئس طريقًا طريقُه، لا لأَنَّه غصب على الإبضاع؛ لأَنَّه غير لازم له، بل لأَنَّه يؤدِّي إلى النَّار.
* * *
(1)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس (4/ 147).
(2)
انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي (5/ 97)، و"المحرر الوجيز"(3/ 452)، و"البحر"(14/ 67 - 68)، وعنه نقل المؤلف.
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} قَتْلَها بأنْ عصَمها وحقن دمها بالإسلام، أو بالعهد.
{إِلَّا بِالْحَقِّ} إلَّا بحقٍّ يوجب قتلَها كالرَّجم، أو يبيحه كالقِصاص.
قيل: إلَّا بإحدى ثلاثٍ: كفرٍ بعد إيمانٍ، وزنًا بعد إحصانٍ، وقتلِ مؤمن معصوم عمدًا. وفيه نظرٌ ذكرناه في تفسير
(1)
سورة الأنعام
(2)
.
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} غير موجَب لقتله، ولا مبيحٍ له، سواءٌ كان محمدًا أو خطأ، فإن الظُّلم غير مشروط بالعمد، شهد
(3)
بذلك أنهم شرطوا الأوَّل في الشَّهيد دون الثَّاني.
{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} : هو مَن له حقُّ الطَّلب بدمه شرعًا.
{سُلْطَانًا} تسلُّطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على مَن عليه.
{فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} نهيٌ عمَّا كانت الجاهلية تفعلُه مِن قتلِ الجماعة بالواحد.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتاء المخاطبة جزمًا، والخطاب للوليِّ، وقرأ الباقون بياء الغائبة جزمًا، والضمير يرجع إلى الوليِّ
(4)
.
ورجوعه إلى القاتل وتوجيهُ الخطاب إليه، تأباه عبارة الإسراف؛ فإنَّ حقَّه النَّهيُ عن القتل مطلقًا.
(1)
"تفسير" من (ك).
(2)
لم يرد أي نظر على ما ذكر من هذه الثلاثة عند تفسير شبيهتها في سورة الأنعام.
(3)
في (ف): "شهيد".
(4)
انظر: "التيسير"(ص: 140). ونسبها لحمزة والكسائي فقط. وقال في "البحر المحيط"(14/ 72): في نسخة من "تفسير ابن عطية": "وابن عامر. وهو وهم".
{إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} تعليلٌ للنَّهي على الاستئناف، والضَّمير للوليِّ لتناسق الضَّمائر.
ونصرُه بتسليط الله تعالى إيَّاه على القاتل، وأمرِ
(1)
الولاة بمعاونته.
ووجه التَّعليل: أنَّ الوليَّ إن
(2)
أسرف في القتل وتجاوز عن حدِّ الشَّرع ينقلب عليه الأمر ويدخل تحت القاتلِ ظلمًا.
* * *
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} قد مرَّ الكلام في نظيره
(3)
.
والنَّفسُ ميَّالة إلى المال والمباشرةِ دون القتل، ولهذا خُصَّ النَّهيُ عن القربان بالأوَّلَين.
{إِلَّا بِالَّتِي} : إلَّا بالطَّريقة الَّتي {هِيَ أَحْسَنُ} الطَّرائق.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قد مَرَّ في (سورة الأنعام).
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} عامٌّ لِمَا عقده الإنسان بينه وبين ربِّه، وما عقده بينه وبين آدميِّ في غير معصية.
{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ؛ أي: مسئولًا عنه، فحذف الجارُّ وأوصل {مَسْئُولًا} إلى الضَّمير، كما في قوله:{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] أي: به.
(1)
في (ف): "وأمره".
(2)
في (ك) و (م): "إذا".
(3)
"في نظيره" من (م)، والمراد ما جاء في شبيهة هذه الآية من سورة الأنعام.
وقيل: إنَّ العهد يُسألُ تبكيتًا لناقضه، فيُقال: لم نقضْتَ؟ كما تسألُ الرَّحم عن وصلِها وقطعها.
قيل: ويجوز أنْ يُراد: صاحبُ العهد كان مسؤولًا، وعلى هذا لا يظهر وجهٌ للعدول
(1)
عن الضَّمير إلى الاسم الظاهر.
وقيل: أي: مطلوبًا يُطلَب من العاهد أن لا يضيِّعه ويفيَ به.
وفيه تعسُّف لفظًا ومعنًى؛ أمَّا الأوَّل فظاهر إذ حينئذٍ يكون المسؤول عدمَ تضييعه لا نفسَه، وأمَّا الثَّاني فأظهر؛ لأنَّه حينئذ لا يزيد على معنى: أوفوا بالعهد، وقد ذُكِرَ في مقام التَّعليل له على الاستئناف.
* * *
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} ؛ أي: لا تبخَسوا فيه، وفائدةُ قوله:{إِذَا كِلْتُمْ} - أي: وقتَ كيلِكم - تضمُّنُ النَّهي عن الكيل بنقصانٍ ما ثم تكميلِه
(2)
بعد زمان.
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} القسطاسُ: الميزانُ صغيرًا كان أو كبيرًا، وقيل: هو القبَّان، لفظٌ روميٌّ عُرِّبَ، والإجراء على قانون لغة العرب ليس بشرط في التَّعريب على ما حقَّقناه في رسالتنا المعمولة فيه.
و {الْمُسْتَقِيمِ} : السَّويُّ.
{ذَلِكَ خَيْر} في الدُّنيا؛ لأنَّه أمانةٌ توجب المحمَدة والرَّغبة في معاملته.
(1)
في (ك): "العدول".
(2)
في (ف) و (م): "تم تكميله"، وفي (ك):"تم كيله". والصواب المثبت. والمراد: أنْ لا يَتأخَّرَ الإيفاءُ عن وقتِ الكيلِ، بأنْ يكيلَ به بنقصانٍ ما ثُم يوفِّيه بَعْدُ.
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} : عاقبةً، إذ لا يبقى عليه تَبعة في الآخرة، تفعيل من آل: إذا رجع. ففيه نفع الدَّارين.
* * *
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا تَتبع
(1)
ما لا علم لك به من قولٍ أو فعلٍ، نهى أنْ يقولَ ما لا يعلمُ وأنْ يعملَ بما لا يعلم، ويدخل فيه التَّقليد على العمياء، يقال: قَفَوْتُه وقَفَيْتُه: إذا تَبِعْتَ أثره، ومنه القافَة
(2)
لتتبُّعهم الآثار، وقافيةُ كلِّ شيء
(3)
آخرُه.
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ} : إشارة إلى الثلاثة المذكورة، ولا اختصاص له بالعقلاء.
قال الزَّجَّاج ووافقه الطَّبري: إنَّ العرب تعبِّر عمَّا يعقل وعمَّا لا يعقل بـ (أولئك)، وأنشد قول الشاعر:
والعيشَ بعدَ أولئكَ الأيَّامُ
(4)
(1)
بتشديد التاء وتخفيفها. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 31).
(2)
في (ف) و (م): "القافية".
(3)
في (ف): "كلٍّ"، وفي (ك):"كلِّ بيت".
(4)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (3/ 239)، و"تفسير الطبري"(14/ 596)، و"البحر" (14/ 77). وفي قوله:"ووافقه الطبري" نظر؛ لأنَّه يوهم المتابعة، في حين أنهما متعاصران، ولفظ أبي حيان أكثر دقة حيث قال: (وحَكَى الزَّجَّاج أن العرب تُعبِّرُ عمَّن يَعْقِلُ وعمَّا لا يَعقلُ بأولئك، وأَنشدَ هو والطَّبريُّ
…
). والبيت لجرير. انظر: "ديوانه"(2/ 990)، وفيه:(أولئك الأقوام)، وصدره:
ذُمَّ المنازلَ بعدَ منزلةِ اللِّوى
وإنْ نُظر إلى
(1)
غلبة استعماله في العقلاء فنقول: لَمَّا كانت تلك الأعضاء مسؤولةً عن أحوالها شاهدةً على صاحبها أُجْرِيَتْ مجرى العقلاء.
{كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} {عَنْهُ} في موضع نصب، والضَّمير عائد على معنى {أُولَئِكَ}؛ أي: عن كلِّ واحدٍ ممَّا تقدَّم، و {مَسْئُولًا} فيه ضمير يعود على {كُلُّ}
(2)
من حيث اللَّفظ، وهذا الضَّمير هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله.
ويجوز أن يكون {مَسْئُولًا} مسندًا إلى {عَنْهُ} كقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، والمجرور بالحرف لا يلتبس بالمبتدأ، ومنع تقديم الفاعل وما يقوم مقامه كان لذلك.
ولا دلالة في الآية على أنَّ العبدَ مؤاخذٌ بالعزيمة؛ إذ يجوز أن يكون ما سُئِلَ عنه الفؤاد الظُّنونَ والعقائد.
* * *
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ} المشي إنَّما يكون في الأرض، فالتَّقييد به لقطع المجاز شائعٌ فيه كما في الذَّهاب.
{مَرَحًا} نصب على الحال؛ أي: ذا مرح
(3)
، ولا بُدَّ مِنَ التَّقدير؛ لأنَّ المبالغة المستفادةَ من التَّوصيف بالمصدر لا تناسب المقام؛ لأنَّ المرادَ النَّهيُ عن أصل المرح، لا عن المبالغة.
(1)
"إلى" من (م).
(2)
"كل" زيادة من (م).
(3)
في النسخ: "ذات مرح"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 667)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 255)، و"البحر"(14/ 79).
وقرئ: (مَرِحًا) بالكسر
(1)
.
والمرحُ: هو الخيلاء والكبر، وقد دلَّ قوله تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] على أنَّ المرح هو مشي المختال.
{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} بشدَّة وَطأتك {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} بتطاوُلك، وهو تهكُّم بالمختال.
* * *
(38) - {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} قرئ بالرَّفع والإضافة إلى السَّيِّئ منه؛ لأنَّه سبق ذكر المأمور به والمنهيِّ عنه، فكان القبيح بعضَه.
وقرئ منوَّنًا غيرَ مضافٍ
(2)
، على أنَّها خبرُ {كَانَ} ، والاسم ضمير {كُلُّ} ، والإشارة إلى المنهيات من الخصال المذكورة.
{عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} بدل من {سَيِّئُهُ} أو صفةٌ لها، ولا حاجة إلى الحمل على المعنى؛ لأنَّها في حكم الصِّفات، ولا اعتبار بتأنيثه، ويجوز أن يكون حالًا من المستكِنِّ في {كَانَ} ، أو [في] الظرف
(3)
على أنه صفةٌ لـ {سَيِّئُهُ} .
والمراد به: المبغوض المقابل للمرضيِّ، لا ما يقابل المراد
(4)
.
(1)
نسبت ليحيى بن يعمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 77).
(2)
القراءة الأولى بالرفع والإضافة قراءة الكوفيين وابن عامر، والقراءة الثانية بالنصب والتنوين؛ أي:"سيئةً" قرأ بها الباقون. انظر: "التيسير"(ص: 140).
(3)
في النسخ: "ظرف"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير البيضاوي"(3/ 255)، و"البحر"(14/ 81)، و"روح المعاني"(14/ 515).
(4)
في (ف): "لا مقابل المراد"، وفي (ك):"لا تقابل المراد"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في=
{ذَلِكَ} إشارة إلى الأحكام المتقدِّمة {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ؛ أي
(1)
: من الأشياء الموضوعة في مَواضعَها، متعلق بـ {أَوْحَى} ، أو بدلٌ من {مِمَّا}
(2)
، أو حال من الضَّمير المنصوب المحذوف العائد على {مَا} .
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} للتَّنبيه على أنَّ التَّوحيد مبدأ الأمر
(3)
ومنتهاه، ورتَّب عليه أوَّلًا ما هو عائدُه في الدُّنيا، وثانيًا ما هو نتيجته
(4)
في العُقْبى، فقال:
{فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا} تلوم نفسك {مَدْحُورًا} : مطرودًا مبعَدًا، على سبيل الإهانة والاستخفاف به.
* * *
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} خطاب للذين قالوا: الملائكة بنات الله تعالى. والهمزة للإنكار؛ [أي]
(5)
: أفخصَّكم ربُّكم على وجه الخلوص والصَّفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيبًا لنفسه.
= "تفسير البيضاوي"(3/ 256)، وفيه:(لا ما يقابل المراد لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى).
(1)
"أي" من (م).
(2)
في (ك) و (م): "أو بدل من ما"، والمثبت من (ف)، وهو الصواب.
(3)
في (ف): "للأمر".
(4)
في (ف): "نتيجة".
(5)
زيادة يقتضيها السياق.
{وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} : بناتًا لنفسه، هذا خلاف المعقول، والتَّعبير عن البنات بالإناث لإظهار جهةِ خساستهن.
{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصَّةُ بعض الأجسام لسرعة زوالها، ثمَّ بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بجعل الملائكة الذين هم من أشرف
(1)
الخلائق أدونَهم.
* * *
(41) - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} .
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : كرَّرنا هذا المعنى بوجوهٍ مِنَ التَّقرير، فتركُ الضَّمير لأنَّه معلوم.
{فِي هَذَا الْقُرْآنِ} : في مواضعَ منه، ويجوز أنْ يُرادَ بـ {هَذَا الْقُرْآنِ}: إبطالُ إضافة
(2)
البنات إليه تعالى؛ لأنَّه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذكره، بتقدير: ولقد صرَّفنا القولَ في هذا المعنى، أو أوقعنا التَّصريف
(3)
فيه.
وقرئ: (صَرَفْنا) بالتَّخفيف
(4)
، وكذلك:
{لِيَذَّكَّرُوا} قرئ مشددًا ومخففًا
(5)
؛ أي: كرَّرناه ليتَّعظوا ويعتبروا ويطمئنُّوا إلى ما يحتجُّ به عليهم.
(1)
في (م): "أشراف".
(2)
"إضافة" زيادة من (م).
(3)
في (ف) و (م): "التعريف"، وفي هامش (م):"التصريف".
(4)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 77).
(5)
قرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف مخففًا، والباقي بفتحها مشددًا. انظر:"التيسير"(ص:140).
{وَمَا يَزِيدُهُمْ} التَّصريف المذكور {إِلَّا نُفُورًا} عن الحقِّ، والنُّفورُ مقابلُ الطَّمأنينة.
* * *
(42) - {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} .
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} أيَّها المشركون، والكاف في موضع نصب؛ أي: مثلَما، وقرئ بالياء
(1)
، على أنَّ الكلام مع الرَّسول عليه السلام.
{إِذًا لَابْتَغَوْا} ؛ أي: طلبوا متواصلين {إِلَى ذِي الْعَرْشِ} ؛ أي: مغالَبته وإفساد ملكه، أشير إلى ذلك بالتَّعبير عنه تعالى بـ {ذِي الْعَرْشِ} .
{سَبِيلًا} لأنهم شركاؤه على الغرض المذكور، كما يفعل الملوك بعضُهم بعضًا، وهذا على وفق قوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
* * *
(43) - {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
{سُبْحَانَهُ} تنزَّه تنزيهًا {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا} : تعاليًا {كَبِيرًا} : متباعدًا غايةَ البُعْد عمَّا يقولون.
* * *
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وينزِّه عما هو
(1)
قرأ ابن كثير وحفص بالياء، والباقون بالتَّاء. انظر:"التيسير"(ص: 140).
من عوارض الإمكان ولواحق الحدوث بدلالته على الصَّانع القديم الواجب لذاته قطعًا لسلسلة الحاجة.
{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ} إيُّها القاصرون عن النَّظر الصَّحيح {تَسْبِيحَهُمْ} في
(1)
عبارة قوله: {تَفْقَهُونَ} دلالة على أنَّ تسبيحهم من جنس ما يُفْهَم بدقَّة النَّظر؛ لا
(2)
من جنس ما يدرك بآلة السَّمع، فتعيَّن حمله على معنى الدِّلالة، ولم يبنَ وجهٌ للحمل على المشترك بينها وبين اللَّفظ.
{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على الغفلة والشِّرك {غَفُورًا} لمن تاب منكم.
* * *
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا} هو يسترك عنهم.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: لما نزلت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، أقبلت العوراء أمُّ جميل بنت حرب وفي يدها فِهْرٌ والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلمَّا رآها أبو بكر قال: يا رسول اللّه، لقد أقبلَتْ وأخاف أن تراك، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"إنها لن تراني"، وقرأ قرآنًا، فوقفَتْ على أبي بكرٍ ولم ترَ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
في (ف): "وفي".
(2)
في (ف): "لأنَّه".
(3)
روى نحوه البزار في "مسنده"(15)، وأبو يعلى في "مسنده"(25)، وابن حبان في "صحيحه"(6511) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ومَن وهَم أنَّه حجاب الفَهْم، كأنَّه ما فَهِم أنَّه بينهم وبين القرآن، لا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
{مَسْتُورًا} عن أعين النَّاس؛ أي: ليس من جنس الحجُب الظَّاهرة.
* * *
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} : أغطيةً، جمع كنان، وإنَّما لم يقل:(وجعلنا قلوبهم في أكنَّة) مع أنَّه أبلغ في تصوير المعنى المقصود؛ للإشعار بأنَّه أمرٌ عارضٌ كسبيٌّ، لا ذاتيٌّ خَلْفيٌّ، فإنَّ كلَّ مولودٍ يُولَد على الفطرة السَّليمة.
{أَنْ يَفْقَهُوهُ} : كراهةَ أن يفقهوه
(1)
، والضَّمير لما يُدْعَون إليه، ويجوز أن يكون مفعولًا لِمَا دلَّ عليه قوله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ؛ أي: منعناهم أن يفقهوه.
{وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} لم يقل: (أن يسمعوه)؛ اكتفاءً بما فُهِمَ بقرينة قرينه
(2)
.
وهذه حكايةٌ لِمَا كانوا يقولونه، على ما دلَّ عليه قوله:{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 4، 5].
قوله
(3)
(4)
صريحٌ في أنَّ عدمَ سماعهم بسبب إعراضهم
(1)
"كراهة أن يفقهوه" من (م).
(2)
"قرينه" من (ك).
(3)
في (ف): "قولهم".
(4)
من قوله: " {وَقَالُوا قُلُوبُنَا}
…
}
…
" إلى هنا سقط من (ك).
لا لمانعٍ في آذانهم، فقولهم:{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} إظهارُ كراهة منهم، لا إخبارٌ عن عارضتهم، ومَن غفل عن هذا قال: ولَمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللَّفظُ والمعنى أثبَتَ لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللَّفظ.
ولم يدرِ أنَّ الأوَّل موقوف على الثَّاني، فالجعل الثَّاني على تقدير كونه حقيقةً كان
(1)
في الأمرين.
وأيضًا مبنَى ما ذكره على أنْ يكون الضَّمير في {يَفْقَهُوهُ} للقرآن، ويأباه قوله:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ} إذْ لا وجهَ للعدول عن الضَّمير إلى الاسم الظَّاهر.
وأيضًا ما في الآية الأخرى قوله: {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} بدلَ: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} ظاهر في خلافه.
{وَحْدَهُ} : واحدًا غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم.
قال سيبويه: (وحدَه): اسمٌ موضوع موضعَ المصدر وهو: إيحاد، الموضوعُ موضع الحال وهو: مُوْحِد
(2)
.
{وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} : نافرين من استماع التَّوحيد، على أنَّ النُّفور جمعُ نافر، كشهود في جمع شاهد، ويجوز أن يكون مصدرًا على غير الصَّدر
(3)
، أو كان قوله:{وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} بمعنى: نفروا، وهذا دليل على أنهم قادرون على الاستماع، لا وقر في آذانهم حقيقةً.
* * *
(1)
في (ف): "كما".
(2)
انظر: "الكتاب"(1/ 376 - 378)، و"البحر"(14/ 91).
(3)
في النسخ: "المصدر"، والصواب المثبت. انظر:"تفسير القرطبي"(13/ 96)، و"البحر"(14/ 91).
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} : بسببه الدَّاعي إلى الاستماع؛ مِن الهزء بك وبالقرآن، ومن اللَّغو.
{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ظرف لـ {أَعْلَمُ} ، وكذا:{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} : يتناجَوْنَ بالطَّعْنِ في القرآن؛ أي: نحن أعلم بغرضهم من الاستماع في حالَتي الإصغاء والإعراض بالتَّناجي.
و {نَجْوَى} : مصدر، ويحتمل أن يكون جمع نَجِيٍّ.
{إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} بدلٌ من {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} على وضع (الظالمين) موضعَ الضَّمير للدِّلالة على أن تناجيَهم بقولهم هذا.
والمسحورُ: مَنْ سُحِرَ فاختلَّ به عقلُه.
* * *
(48) - {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} .
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} في أمر الحشر والبعث، بدلالة قوله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78].
وإنَّما قال هنا: {الْأَمْثَالَ} لأنَّهم ضربوه بعبارات شتَّى وصورٍ متعدِّدة.
وقيل: مثَّلوك بالشَّاعر والسَّاحر والكاهن والمجنون.
ويردُّه أنَّهم ما مثَّلوه عليه السلام بما ذُكِرَ
(1)
، بل قالوا تارةً: إنه ساحر، وأخرى:
(1)
"بما ذكر" من (م).
إنه شاعر .. ، إلى غير ذلك، وأيضًا لو كان المعنى ما ذكر لقيل: فيك، لا {لَكَ} ؛ لأنَّه عليه السلام حينئذ يكون
(1)
مَن ضُرِبَ فيه الأمثال.
{فَضَلُّوا} عن الحقِّ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إليه.
* * *
(49) - {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} .
{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا} بيانٌ لِمَا ضربوه، ولولا الفَصْلُ بينه وبين المبيَّن بالجمل التَّفريعيَّة لكان حقُّه التَّصديرَ بالفاء التَّفصيليَّة.
والعامل في (إذا) ما دلَّ عليه {لَمَبْعُوثُونَ} ، تقديره: أنُبعث إذا كنَّا عظامًا، والاستفهام للإنكار.
{وَرُفَاتًا} صدِّر بالواو العاطفة إخراجًا له مخرجَ الاستقلال في كونه منشأً للاستبعاد.
والرُّفاتُ: الأجزاء المفتَّتة
(2)
مِنْ كلِّ شيء مكسَّر، ولمَا فيه من زيادة معنى التَّفتُّت أُوثرَ على الحُطَام، ولم يُلْتَفَتْ إلى ما فيه من صنعة الجناس.
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} على الإنكار والاستبعاد لِمَا بَيْن غضاضة الحيِّ ويبوسة الرَّميم من المباعدة والمنافاة. و {خَلْقًا} : مصدر أو حال.
* * *
(50) - {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} .
{قُلْ} جوابًا لهم: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} ردَّ قوله: {كُونُوا} على قولهم:
(1)
"يكون "من (م).
(2)
في (ك): "المتفتتة".
{كُنَّا} ، كأنَّه قيل: كونوا حجارة أو حديدًا ولا تكونوا عظامًا، فإنَّه يقدر على إحيائكم، أوثر في الحجارة صيغةُ الجمع رعاية للمناسبة لـ {كُونُوا} ، والعدول في الحديد إلى صيغة الإفراد لِمَا في مفرده من صنعة
(1)
الجناس مع الجديد.
* * *
{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ؛ أي: ممَّا يكبر عندكم عن قَبول الحياة؛ لكونه أبعد شيء منها، فإنَّ قدرته تعالى لا تقصُر عن إحيائكم؛ لاشتراك الأجسام في قَبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظامًا ورفاتًا وقد كانت غضَّة موصوفة بالحياة قبلُ
(2)
؟! والشَّيء أصلٌ لِمَا عهد فيه مما لم يُعهد.
وإنَّما قال: {فِي صُدُورِكُمْ} لأنَّ أثر الاستعظام البليغ يظهر فيها، فإنَّ القلب يضطرب عند ذلك لِمَا يعتريه من الخشية.
{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وكنتم ترابًا، وما هو أبعدُ منه من الحياة.
{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} يقال: أنغضَ رأسَه؛ أي: حرَّكه كالمتعجِّب من الشَّيء، وكلُّ حركة في ارتجاف نَغْضٌ.
والعدول من التَّعدية إلى (إلى) لتضمُّنه التَّوجُّه والالتفات.
(1)
في (ف): "صنعة"، وسقطت "من" من (ك) و (م).
(2)
في (ف): "قيل".
{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} انتصابه على الخبر أو الظَّرف، و {أَنْ يَكُونَ} اسم {عَسَى} ، أو خبره والاسم مضمر.
أجابهم بقرب وقوعه، لا لأنَّ كلَّ آتٍ قريبٌ، بل لأنَّه مضى أكثر الزَّمان وبقي أقلُّه.
ولم يجبهم
(1)
بتعيين وقته لأنَّ ذلك مما استأثره اللّه تعالى بعلمه.
ولم يوردوا تلك الأسئلة استرشادًا بل عنادًا واستهزاءً، وقد أُخْرِجَتْ أجوبتهم بطريق الجِدِّ
(2)
والتَّحقيق وعدم المبالاة باستهزائهم، وفيه نوعُ تمهيد للأمر بحسن المجادلة الآتي ذكرُه.
* * *
(52) - {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} .
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} بدلٌ من {قَرِيبًا} .
والدُّعاءُ: النِّداء إلى المحشر بكلامٍ يسمعه الخلائق؛ قال عليه السلام: "إنَّكم تُدْعَونَ يوم القيامة بأسمائكم وأسماءِ آبائكم، فأحسِنوا أسماءَكم"
(3)
.
{فَتَسْتَجِيبُونَ} الاستجابة: موافقة الدَّاعي فيما دعَا إليه بالفعل لأجْل دعائه.
(1)
في (ك): "يجئهم".
(2)
في (ك): "الحد".
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(21693)، وأبو داود (4948)، من طريق عبد اللّه بن أبي زكريا الخزاعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ولم يسمع عبد اللّه من أبي الدرداء رضي الله عنه. انظر:"المراسيل"(ص: 97).
{بِحَمْدِهِ} حال منهم؛ أي: حامدين لله
(1)
تعالى على الإحياء، أو على كمال قدرته؛ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه: ينفضون التُّراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللَّهم وبحمدك
(2)
.
{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (تظنون) معلَّقة عن العمل، فالجملة بعده في موضع نصب، وقلَّما ذكر النَّحويُّون في أدوات
(3)
التَّعليق (إنْ) النَّافية.
وانتصاب {قَلِيلًا} على أنَّه نعتٌ لزمانٍ محذوفٍ؛ أي: إلَّا زمانًا قليلًا؛ كقوله: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 113]، ويجوز أن يكون نعتًا لمصدرٍ محذوفِ.
* * *
{وَقُلْ لِعِبَادِي} يعني: المؤمنين {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : الكلمةَ التي هي أحسن، ولا يخاشِنوا المشركين.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} : يلقي بينهم الفساد بالوسوسة، ويغري بعضهم على بعض لتقعَ بينهم المشارَّة
(4)
والمشاقَّة، وقد مَرَّ في آخر (الأعراف) تحقيق معنى النَّزغ.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} : ظاهرَ العداوة.
(1)
في (ف): "الله".
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(7/ 2334).
(3)
في (ك): "أداة"، وفي (م):"أدات".
(4)
المشارَّة: المخاصمة. انظر: "مختار الصحاح"(مادة: شرر).
أُمِروا بحسن المجادلة، ونُبِّهوا على أنَّه قد يكون من الشيطان إجراء
(1)
وإغواء، وذُكِّروا بعداوته القديمة لهم.
* * *
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بالتَّوفيق للإسلام {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بالإماتة على الكفر.
وكلمة {أَو} للدلالة على الانفصال الحقيقي بين الشَّيئين.
والجملة تفسير لـ {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وما بينهما اعتراض؛ أي: قولوا لهم هذه الكلمة ونحوَها، ولا تصرِّحوا بأنَّهم مِن أهل النَّار؛ فإنه يَهيجهم على الشَّرِّ.
قيل: مع أنَّ ختام أمرهم غيبٌ لا يعلمه إلَّا الله.
وفيه: أنَّ الظَّاهر عموم النَّهي للتَّصريح بما ذُكِرَ، ولو كان مؤوَّلًا بمعنى: أنَّ عملَهم عملُ أهل النَّار، وهذه الضَّميمة لا تصلح علَّة له.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} : موكولًا إليك أمرهم تقسرهم على ما أُمروا به.
وإنما قال: {عَلَيْهِمْ} دون: إليهم؛ إفادةً لمعنى القسر والإلجاء.
* * *
(1)
في (م): "إعزاء".
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيختارُ منهم لنبوَّته وولايته مَن يليقُ بهما
(1)
، وهو رَدٌّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيمُ أبي طالب نبيًّا، وأن يكون العراةُ الجُوَّعُ أصحابَه.
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} بالرِّسالة، وبكونه صاحب شريعة، وبكونه من أولي العزم، وبكونه خاتم الأنبياء.
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} يعني: أنَّ
(2)
داود عليه السلام وإن لم يكن من أولي العزم، ولا صاحبَ شريعة، لكنَّه من جملة المفضلين بالرِّسالة، حيث أوتي كتابًا، وقد مَرَّ ما يتعلق بالزَّبور من الكلام في آخر سورة النِّساء
(3)
.
* * *
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنَّها آلهة {مِنْ دُونِهِ} تعالى، كالملائكة وعُزَيرٍ والمسيح عليهم السلام.
{فَلَا يَمْلِكُونَ} : فلا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} كالمرض والفقر
(4)
والقحط {وَلَا تَحْوِيلًا} : ولا تحويلَ ذلك منكم إلى غيركم.
* * *
(1)
في (م): "بها".
(2)
"أن" من (م).
(3)
لم يرد هناك سوى قوله: (وقرئ: {زَبُورًا} بالضم، وهو جمع زِبْرٍ بمعنى مَزبورٍ).
(4)
في (ف): "والقهر".
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} ، أي: يدعونهم آلهةً
(1)
{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} : القُرْبَة بالطَّاعة.
{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} بدل من واوِ {يَبْتَغُونَ} ؛ أي: ينبغي مَن هو أقربُ منهم إلى الله الوسيلة، فكيف بغيرِ الأقرب؟!
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} كسائر العباد، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟!
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} : حقيقًا بأنْ يَحذره كلُّ أحدٍ حتى الملائكة والرُّسل.
* * *
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} : مخرِّبوها {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} عن مقاتل: وجدت في كتب الضَّحَّاك في تفسير هذه الآية: أمَّا مكَّة فيخربها الحبشة، و تهلك
(2)
المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالتُّرك، والحبال بالصَّواعق والرَّواجف، ثمَّ ذكرها بلدًا بلدًا
(3)
.
(1)
في النسخ: "يدعون آلهة"، والصواب المثبت، يعني: أولئك الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة. انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 106)، و"البحر"(14/ 110)، و"روح المعاني"(14/ 560).
(2)
"تهلك" سقط من (ك).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 674).
{أَوْ مُعَذِّبُوهَا} ، أي: معذِّبو أهلِها، على أنَّ المجاز في الإسناد دون المسنَد، وإلَّا لقيل: أو معذِّبوهم.
{عَذَابًا شَدِيدًا} بالقتل وأنواع البليَّة.
{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ} : في اللَّوح المحفوظ {مَسْطُورًا} : مكتوبًا.
* * *
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} المقترَحة، استُعير المنع للتَّرك؛ للمبالغة، ولا يجوز استعارته للصرف؛ لأنَّه أيضًا ممتنعٌ في حقِّه تعالى.
والباء للتَّعدية، فإنَّ أرسل يتعدى بنفسه وبالباء، قال كُثَيرٌ:
لقدْ كذبَ الواشونَ ما بُحْتُ عندَهم
…
بِسِرٍّ ولا
(1)
أرسلْتُهم برسولِ
(2)
{إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} : إلَّا لتكذيب أمثالهم في الطَّبع من الأمم السَّالفة كعاد وثمود؛ يعني أنَّها لو أُرْسِلَتْ لكذَّبوا بها تكذيبَ أولئك الأمم، واستوجبوا الاستئصال على مقتضى مستثناه، وهو خلاف مقتضى الحكمة، لا لأنَّ فيهم مَن يؤمنُ؛ لأنَّه غير مانع مِن
(3)
استئصال المعاندين خاصَّة كما وقع في قوم نوح عليه السلام، بل لأنَّ فيهم مَنْ يلد مَن يؤمن.
(1)
في (ك) و (م): "وما".
(2)
انظر: "ديوانه"(ص: 278) وفيه: (بليلى) بدل "بسر"، و (برسيل) بدل "برسول".
(3)
في (ك) و (م): "عن".
ثمَّ ذكرَ بعضَ مَنْ كذَّبَ بالآيات المقترحة فاستؤصِلَ بقوله:
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} باقتراحهم {مُبْصِرَةً} نصب على الحال، وهي قراءة الجمهور، وقرئ بالرَّفع
(1)
على إضمار مبتدأ؛ أي: هي مبصرةٌ، أضيف الإبصار إليها مجازًا لَمَّا كانت يبصرها النَّاسُ.
وقرئ: (مَبْصَرَةً) بفتح الصَّاد، اسم مفعول
(2)
.
{فَظَلَمُوا بِهَا} ؛ أي: جحدوا بها.
{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ} المقترَحة {إِلَّا تَخْوِيفًا} من نزول العذاب المستأصِل، وإن لم يخافوا نزل.
* * *
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} : واذكر إذ أوحينا إليك {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} فهُم في قبضة قدرته، وأحاط بقريش؛ أي: أهلكهم؛ يعني في وقعة بدر، والتَّعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه.
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} ليلةَ المعراجِ، وكانت رؤيةَ عينٍ إلا أنَّها لَمَّا كانت باللَّيل سُمِّيَت
(3)
رؤيا، كما يُقال: بات يفعل كذا: إذا فعل ليلًا، فيسمَّى ما يفعله:
(1)
نسبت لزيد بن علي. انظر: "البحر المحيط"(14/ 114).
(2)
نسبت لقتادة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 77)، و"المحرر الوجيز"(3/ 467).
(3)
"سميت" سقط من (ف) و (م).
بيوتةً
(1)
وإنْ لم يكن نومًا، فلا متمسَّك فيه
(2)
لمن زعم أنَّها كانت في المنام، بل نقول: إنْ تمسَّكَ به يكون حجَّةً عليه لا له؛ لأنَّ رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحدٌ ينكرها، وقد كانت تلك الرؤية فتنة على ما نطقَ به قوله:
{إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وهي ارتدادُ قومٍ من المسلمين حين أخبرهم النَّبيُّ عليه السلام أنَّه أُسْرِيَ به.
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} عطف على {الرُّؤْيَا} ، وهي شجرة الزَّقُّوم، واللَّعنُ لطاعمها، وإنَّما وصفت هي به مجازًا للمبالغة، أو قيل ذلك لأنَّها في أَبْوَرِ مكانٍ من الرَّحمة، وهي أصل الحميم، أو لأنَّها مكروهة، ويأباهما قوله:
{فِي الْقُرْآنِ} قال أبو جهل ومَنْ معه: هذا محمَّد يتوعَّدكم بنار تحرق الحجارة، ثمَّ يزعم أنها تنبت الشَّجرة، والنَّار تحرق الشَّجرة؟! وما نعرف الزَّقُّوم إلَّا التَّمر بالزُّبد. ثمَّ أمرَ أبو جهل جاريةً له فأحضر تمرًا وزبدًا، وقال لأصحابه: تزقَّموا، فافتتن بهذه المقالة
(3)
بعضُ الضعُّفاء
(4)
.
ولم
(5)
يعلموا أنَّ مَنْ قدرَ أن يحمي وَبَر السَّمندل
(6)
من أن تأكله النَّار،
(1)
في (ف) و (م): "سيّوتة".
(2)
"فيه" من (م).
(3)
في (م): "المقابلة".
(4)
روى نحو هذه القصة الإمام أحمد في "المسند"(3546)، وأبو يعلى في "مسنده"(2720)، وانظر:"المحرر الوجيز"(3/ 468).
(5)
في (ف) و (م): "وما".
(6)
في (ف) و (م): "من وبور السمندر". والسمندل: طائر بالهند لا يحترق بالنار، وسماه بعض أهل اللغة: سندل بغير ميم، ومنهم من سماه: سمند بغير لام، وقيل: إنه حيوان كالفأر، ولك أن تقول: إنه فارسيّ بالراء - كما وقع في أشعارهم - وعرب باللام. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 45).
وأحشاءَ النَّعامة من أذى الجمر، قدرَ أن يخلق في النَّار شجرةً لا تحرقها.
وقرئ بالرَّفع على الابتداء
(1)
، والخبر محذوف؛ أي: والشَّجرةُ الملعونةُ في القرآنِ كذلك.
{وَنُخَوِّفُهُمْ} بأنواع التَّخويف {فَمَا يَزِيدُهُمْ} التَّخويف {إِلَّا طُغْيَانًا} : عتوًّا {كَبِيرًا} : متجاوزًا عن الحدِّ.
* * *
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} قد مَرَّ تفسيرُه. {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} : لمن خلقتَه من طينٍ، فنصب على نزع الخافض، ويجوز أن يكون حالًا من الرَّاجع إلى الموصول؛ أي: خلقتَه وهو طين، إنكارٌ وتعليل على ما صرَّح به في قوله:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، أو من الموصول؛ أي: أسجد له وأصله
(2)
طين؟! وَيرِدُ عليه أنَّه حينئذ يضيع قوله: (خلقته).
* * *
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 676)، و"البحر المحيط"(14/ 121).
(2)
في (ف): "وهو"، والمثبت من باقي النسخ، وعبارة "الكشاف"(2/ 676) جمعت بينهما، حيث قال:(حال من الموصول والعامل فيه (أسجد)، على: أأسجد له وهو طين، أي: أصله طين).
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} الكاف للخطاب لا محل له من الإعراب على ما مرَّ تحقيقه في سورة الأنعام، و {هَذَا} مفعول أوَّل، و {الَّذِي} صفتُه، والمفعول الثَّاني محذوف لدلالة صلته عليه.
والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ بأمري بالسُّجود له لِمَ كرمته عليَّ؟! والإكرامُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحمَدُ عليه، وتعديته بـ (على) لتضمُّنه معنى التَّفضيل.
{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} كلام مبتدأ، واللَّام موطِّئة للقسم، وجوابه:
{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} : لَأقود منهم حيث شئتُ، من قولهم: حنكْتُ الفرسَ: إذا جعلْتَ في فيه الرَّسَن، وكذلك: احتَنكْتُه.
{إِلَّا قَلِيلًا} لا أقدر على أن أقاوم شكيمتَهم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65].
قال الحسنُ: ظنَّ ذلك لأنَّه وسوسَ [إلى] آدمَ عليه السلام فلم يجد له عزمًا
(1)
.
* * *
(63) - {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} .
{قَالَ اذْهَبْ} لشأنك الذي اخترتَه. أمره أمرَ إهانةٍ، وعقَّبه بذكر ما جزاه بسوء فعله من جزائه وجزاء أتباعه فقال:
{فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} : جزاؤك وجزاؤهم، فغلَّب المخاطب على الغائب.
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 117)، وما بين معكوفتين منه.
{جَزَاءً} نصبٌ على المصدر بإضمار فعله، أو بما في {جَزَاؤُكُمْ} من معنى: تُجازَون، أو حالٌ موطِّئة لقوله:
{مَوْفُورًا} : مكمَّلًا لا نقصان فيه عن قَدْرِ الاستحقاق، مِنْ وَفَرْتُه وَفْرًا
(1)
.
* * *
{وَاسْتَفْزِزْ} : واستَخِفَّ، أصله القطع بشدَّةٍ، يقال: فزَّزَ الثَّوبَ: إذا قطَّعه بشدَّةِ تخريق، والمعنى
(2)
: استَزِلَّه بقطعك إيَّاه عن الحقِّ.
{مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} أن تستفزَّ {بِصَوْتِكَ} : بدعائك إلى الفساد.
{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} الإجلاب: السَّوق بجلَبَةٍ من السَّائق، وهو الصِّياح.
{بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} : بأعوانك من راكب وراجلٍ، والرَّجْل: اسم جمعٍ لراجل، كرَكْبٍ وصَحْبٍ، اسم جمعِ راكبٍ وصاحبٍ.
وقرئ بكسر الجيم
(3)
، [وبالضم] وهي لغة فيه كنَدِسٍ ونَدُسٍ
(4)
.
{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} بحملهم على جمعها من غير وجهها
(5)
وإنفاقها في غير حقِّها.
(1)
"وفرًا" ز من (م).
(2)
في (ف): "المعنى".
(3)
قرأ حفص بكسر الجيم، والباقون بإسكانها. انظر:"التيسير"(ص: 140).
(4)
في (ك) و (م)"كفرس ونوس"، وفي (ف):"كفرس وندس"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 678)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 261)، وما بين معكوفتين منهما.
(5)
"من غير وجهها" من (م).
{وَالْأَوْلَادِ} بالحثِّ على تحصيلهم بالوجه المحرَّم، والاشتراك فيهم بتسميتهم بعبد العُزَّى ونحوه، والتَّضليل بالحمل على الأديان الزَّائغة.
{وَعِدْهُمْ} المواعيدَ الباطلة، كشفاعة الآلهة والاتِّكال على كرامة الآباء، وتأخير التَّوبة بطُول الأمل.
{وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} اعتراضٌ لبيان مواعيده. والغرورُ: ما اغتُرَّ به.
* * *
(65) - {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} .
{إِنَّ عِبَادِي} يعني: المخلصين، والإضافة للتَّشريف.
{لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ} : على إغوائهم {سُلْطَانٌ} : قدرة
(1)
.
(2)
يتوكَّلون به في الاستعاذة منك.
* * *
{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} ؛ أي: هو الذي يزجي، والإزجاءُ: السَّوق.
{لَكُمُ} : لمنافعكم {الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : من رزقه.
{إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} حيث سهَّلَ لكم ما تعسَّر من أسبابه.
* * *
(1)
في (ف): "وقدرة".
(2)
"لهم" من (م).
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} : خوفُ
(1)
الغرق {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ} : ذهب عن أوهامكم
(2)
مَن تدعونه في حوادثكم.
{إِلَّا إِيَّاهُ} وحدَه؛ فإنَّه حينئذ لا يخطر ببالكم سواه، ولا تدعون لكشفه إلَّا إيَّاه.
وقيل: ضَلَّ كلُّ مَنْ تعبدونه من إعانتكم إلَّا إيَّاه.
وفيه: أنَّ هذا المعنى لا اختصاص له بوقتِ الخوف.
{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} : خلَّصكم عن هول البحر وأخرجكم {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص في العبادة.
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} كالتَّعليل للإعراض، ولم يخاطبهم بذلك، بل أسنده إلى الجنس لطفًا بهم.
* * *
{أَفَأَمِنْتُمْ} الهمزةُ للإنكار، والفاء للعطف على محذوفٍ تقديره: أنجوْتُم فأمِنْتم فحملكم ذلك على الإعراض.
{أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} الخسفُ: أنْ تُهارَ الأرضُ بالشَّيء، وتعديتُه بنفسه، و {بِكُمْ} حالٌ؛ أي: مصحوبًا بكم.
(1)
في (ك): "فرق".
(2)
"عن أوهامكم" من (م).
قال الجوهري: خَسَفَ به الأرضَ؛ أي: غاب به فيها
(1)
.
{جَانِبَ الْبَرّ} : ناحيةُ الأرض، وسمَّاه جانبًا؛ لأنَّه يصير بعد الخسف جانبًا.
{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} : ريحًا تَحصِبُ؛ أي: ترمي بالحصباء رميًا متتابعًا.
{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} يحفظكم من ذلك. وفي
(2)
عبارة {ثُمَّ} إشارةٌ إلى أنَّه تعالى يحفظهم مرَّة، ولا يعود إليه بعد الكفران والعودِ إلى الشِّرك.
* * *
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ}
(3)
: في البحر، لم يقل:(إليه)؛ إذ لا يلزم من العود إلى الشَّيء التَّلبّس
(4)
به.
{تَارَةً أُخْرَى} بخَلْق الدَّاعي إلى ذلك.
{فَيُرْسِلَ
(5)
عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ}: لا تمرُّ بشيءٍ إلا قصَفته؛ أي: وكسرته بشدَّة.
{فَيُغْرِقَكُمْ} قرئ بالتَّاء
(6)
، على إسناده إلى ضمير الرِّيح.
(1)
انظر: "الصحاح"(مادة: خسف).
(2)
في (ف): "في".
(3)
في (م): "نعيدكم" بالنون، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، قرأا:(أن نخسف)(أو نرسل)(أن نعيدكم)(فنرسل)(وفنغرقكم) بالنُّون في الخمسة، وقرأ باقي السبعة بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 140).
(4)
في (ف): "التلبيس".
(5)
في (م): "فنرسل"، وهي قراءة سبعية كما تقدم.
(6)
قرأ بها أبو جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 308).
{بِمَا كَفَرْتُمْ} : بسبب كفرانكم نعمة الإنجاء.
{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ} : بسبب ما فعلنا {تَبِيعًا} : مُطالبًا به
(1)
يَتْبعنا بانتصار. قال الفرَّاء: التَّبيعُ: طالبُ الثَّأرِ
(2)
.
* * *
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} تكريمًا مشتركًا فيما بينهم، بحيث لا يختصُّ ببعض دون آخر
(3)
، ولهذا أتى بصيغة الجمع، والمراد: الكرامة البدنيَّة، ولهذا عبَّرَ عنهم بوصف البنوَّة.
وعبارته وإن كانت لم تتناول آدم عليه السلام، لكن دلالته متناولة له عليه السلام، وذلك أنَّ ترتيب التَّكريم على وصف البنوَّة المضافة إليه لا تخلو عن دلالة على أنَّه عليه السلام منشأُ التَّكريم ومبدؤه، فلا حاجة إلى تأويل بني آدم بنوع الإنسان، بل لا وجه له؛ إذ حينئذ تفوت الدِّلالة على التَّكريم المشترك
(4)
.
ولما أَبهم في جهة التَّكريم للتَّعظيم، وأَتى بالتَّعميم في جانب المكرَّم حيث ذكره بصيغة الجمع النَّصِّ في التَّكثير، دون اسم الجنس المحتمِل للقليل والكثير
(5)
،
(1)
"به" سقط من (ك).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 127).
(3)
في (ف): "دون بعض آخر".
(4)
"المشترك" من (م).
(5)
في (م): "للقليل والتكثير"، وفي (ف):"التقليل والكثير". والمثبت من (ك)، ويصح أيضًا:"للتقليل والتكثير".
تضمَّنَ أوَّل الكلام وآخره المبالغة، فكان أحرى أن يصدَّر طرف الكلام بحرف التَّأكيد مرَّة بعد أخرى.
قيل: ومن جملة كرامته أنَّ كلَّ حيوان يتناول طعامه بفمه إلَّا الإنسان، فإنَّه يرفعه إليه بيده.
وفيه نظر؛ لأنَّ القردة مع أنَّها من الحيوانات الخسيسة تشاركه فيما ذكر، فلا يصلح كرامةً، ولا أنْ يُعَدَّ خاصيَّة له.
{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ؛ أي: حفظناهم فيهما، فإنَّ الحمل يتضمَّن الحفظ عادة، حتى لم تُخسف بهم الأرض، ولم يُغرقهم الماء، أو: حملناهم على الدَّوابِّ والسُّفنِ، من حملْتُه: إذا جعلْت له ما يركبه.
{وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} مِنْ ضُروب الملاذِّ وفنون النِّعَم ما لم يجعله لشيءٍ من سائر
(1)
الحيوانات.
لَمَّا فرغَ عن تفصيل بعض
(2)
وجوه تكريمهم
(3)
البدنيِّ شرعَ في الإخبار عن تكريمهم النَّفسانيِّ، وأجملَ فيه إشعارًا بقصور العبارة عن تفصيله.
{وَفَضَّلْنَاهُمْ} تفضيلًا مشتركًا كذلك {عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} بالشَّرف والكرامة.
أتى بالتَّأكيد هاهنا اهتمامًا لكونه معنويًّا، بخلاف تلك الأحوال الثَّلاثة، ولأنَّ
(1)
في (م): "شيء لسائر".
(2)
"بعض" من (م).
(3)
بعدها في (م) زيادة: "لواحد"، ولا يظهر لذكرها معنى.
الأحكام المذكورة من شواهد هذا
(1)
الحكم، فكأنَّ شهاداتها تأكَّدَتْ بعضُها ببعض، فظهر أثر تلك الشَّهادات في الدَّعوى.
ولَمَّا كان سياق الكلام في النِّعم المشتركة بين أفراد الإنسان شريفِها وخسيسِها - على ما نبَّهت عليه آنفًا - ظهرَ وجه تخصيص الحكم المذكور بالكثير؛ فإنَّ كلَّ فردٍ من أفراد الإنسان غيرُ مفضَّل على جميع ما عداها، وذلك ظاهر فيه
(2)
، ولا دلالة فيه
(3)
على عدم تفضيل جنسه على جنس الملائكة؛ لأنَّ في تفضيل جنسٍ على جنسٍ آخر لا حاجة إلى تفضيل جميع أفراد الثَّاني، بل يكفي تفضيل فردٍ من الأوَّل على جميع أفراد الثَّاني.
* * *
{يَوْمَ نَدْعُو} نصب بإضمار (اذكر)، أو ظرفٌ لِمَا دلَّ عليه {وَلَا يُظْلَمُونَ} .
وقيل: هو على الإغراء؛ أي: احذروا يوم ندعو.
[وقرئ: (يُدْعَو)] على قلب الألف واوًا في لغةِ مَن يقول: أَفْعَو، [في: أَفْعَى]، ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، أو ضميرُه، و {كُلَّ} بدل منه، والنونُ محذوفة لقلَّة المبالاة بها؛ فإنَّها ليست إلا علامة الرَّفع، وهو قد يقدَّر كما في: يدعى
(4)
.
(1)
"هذا" من (م).
(2)
"فيه" سقط من (ك).
(3)
"فيه" من (م).
(4)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 262)، والكلام وما بين معكوفتين منه. وانظر القراءة المذكورة أيضًا =
{كُلَّ أُنَاسٍ} : كلَّ جماعةٍ من الإنس. والأناس
(1)
: أصل النَّاس، وهو اسم جمعٍ، وقد مرَّ بيانه في أوائل سورة البقرة.
{بِإِمَامِهِمْ} : بمن ائتموا به من نبيٍّ أو مقدَّمٍ في الدِّين أو كتابٍ أو دِين.
وقيل: بكتاب أعمالهم؛ فإنه يرجع إليه في تعرّف الأعمال.
ويردّه: أنَّ المدعوَّ إلى كتاب الأعمال كلُّ واحد من الإنس، لا كلُّ جماعة منه؛ لعدم الاشتراك بين الاثنين في كتابٍ واحدٍ.
وقيل: بأمَّهاتهم، جمع أمٍ، كخِفافٍ في جمع خُفٍّ، والحكمة في ذلك: إجلال عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسنينِ، وأن لا يفتضح [أولاد] الزنا
(2)
.
ويردُّه أيضًا ما أشرنا إليه من كلِّ أمٍّ ليست مما يشترك فيه
(3)
جماعة من الإنس.
ثم إنَّ ثالث ما ذكر من وجوه الحكمة مردودٌ بما ذكر في الصَّحيحَيْن من الحديث الدَّال على أنَّ النَّاس يُدعَوْن في الآخرة بأسمائِهم وأسماءِ آبائهم
(4)
.
= في "المحرر الوجيز"(3/ 473)، و"البحر"(14/ 137)، ونسباها للحسن.
(1)
في (ف): "وأناس"، وسقطت من (ك).
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 682)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 262)، وما بين معكوفتين منهما.
(3)
في (ك): "فيها"، وفي (م):"فيهما".
(4)
يشير إلى ما رواه البخاري (6177)، ومسلم (1735)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ولفظ مسلم:"إذا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ يومَ القيامة يُرْفَعُ لكلِّ غادرٍ لواءٌ فيقالُ: هذه غَدْرةُ فلانِ بنِ فلانٍ"، قال القرطبي:(فقولُه: "هذه غدرة فلان ابن فلان" دليلٌ على أن الناس يُدْعَون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يَرُدُّ على مَن قال: إنما يُدْعَوْن بأسماء أُمَّهاتهم لأن في ذلك سَترًا على آبائهم). انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 131). قلت: وأوضح منه ما رواه الإمام أحمد في "المسند"(21693)، وأبو داود (4948)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، لكن إسناده ضعيف لانقطاعه، وقد تقدم في تفسير هذه السورة عند قوله تعالى:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} .
{فَمَنْ أُوتِيَ} من المدعوِّين {كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ؛ أي: كتابَ عمله.
{فَأُولَئِكَ} أورده جمعًا على معنى (مَن)، وقد حُمل على اللفظ أوَّلًا فأُفرد في قوله:{كِتَابَهُمْ} ، وفي قوله:{بِيَمِينِهِ} .
{يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} لكمال صحوهم، ووفور عقلهم، والذين يؤتَون كتابهم بشمالهم فهم لتحيُّرهم وتردُّدهم لا يقرؤون كتابهم، وأشير إليه في قوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] حيث لم يذكر
(1)
القراءة فيه.
وفي قوله: {يَالَيْتَنِي} دلالة ظاهرة على أنَّه لا يحبس ألسنتهم عن التَّكلُّم، وتعليق القراءة على إتيان الكتاب باليمين لا يخلو عن الدِّلالة على ما أشير
(2)
إليه بعدم ذكر القراءة في مقابله.
{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي: لا يُنقصون عمَّا يَستحِقُّون من الجزاء أدنى شيءٍ، وقد مرَّ شرح الفتيل في سورة النِّساء.
* * *
(72) - {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} .
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} ؛ أي: مَن كان في هذه الدَّار أعمى عن النَّظر في آيات اللّه تعالى وغيره فهو في الآخرة أعمى.
ولما نزل هذه الآية جاء عبد اللّه بن أمِّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
(1)
في (ك): "يذكروا".
(2)
في (ف): "يشير".
يا رسول اللّه، أنا في الدُّنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل اللّه تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
(1)
.
فلا دلالةَ فيما ذكر على أنَّ مَنْ أوتي كتابَه بشماله لا يقدر على القراءة لعدم بصرِه، وقد مرَّ في تفسير قوله تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ} ما يقلع عِرْق الشُّبهة.
وقد جُوِّزَ أن يكون الثَّاني بمعنى التَّفضيل، ويعضد ذلك ظاهر ما عطف عليه من قوله:{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} ، ومنْ ثمَّة قرأ أبو عمرو الأوَّل ممالًا والثَّاني مفخَّمًا
(2)
، لا لأنَّ أفعل التَّفضيل تمامه بـ (مِن)، فكانت ألفُه في حكم الواقعة في وسط الكلام، وأمَّا الأوَّل فلم يتعلَّق به شيء، فكانت ألفه واقعةً في الطَّرف متعرِّضة
(3)
للإمالة
(4)
؛ لأَنَّه منقوض بالإمالة في قوله تعالى: {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} [البقرة: 61]، بل لأنَّه أراد أبو عمرو أنْ يفرِّق بينهما لَمَّا اختلف معناهما، واجتمعا في آيةٍ واحدةٍ، وإنَّما أمال الأوَّل دون الثَّاني لِمَا ذُكِرَ؛ فإنَّه يصلح للإحجاز
(5)
وإن لم يصلح للغلبة.
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} منه؛ لبطلان الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة.
* * *
(1)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(7/ 27)، وأورده البيضاوي في تفسير سورة الحج مقدما له بـ (قيل)، وهي صيغة التمريض عنده، وقال الشهاب: لعل تمريضه لعدم ثبوته عنده لأنّ ابن أم مكتوم رضي الله عنه لا يخفى عليه مثله. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 303).
(2)
انظر: "التيسير"(ص: 140).
(3)
في (ف) و (م): "معترضة"، وفي "الكشاف":"معرضة".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 683)، وهنا آخر كلامه، وما بعده تعقب من المؤلف عليه.
(5)
"للإحجاز" كذا في النسخ، وجاء في هامش (م):"لعله: للإحجاج".
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (إن) هي المخفَّفة، واللَّام هي الفارقة، والمعنى: إنَّ الشَّأن قاربوا بمبالغتهم أن يخدعوك فاتنين بالاستنزال.
{عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الأحكام.
{لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} : غيرَ ما أوحينا إليك.
نزلت في ثَقيفٍ، قالوا: لا ندخل في
(1)
أمرك حتى تعطيَنا خصالًا نفتخرُ بها على العرب، لا نُعْشَر ولا نُحْشَر ولا نُجبِّي في صلاتنا، وكلُّ ربًا لنا فهو لنا، وكلُّ ربًا علينا فهو موضوع عنَّا، وأنْ تمتِّعنا باللَّات سنةً، وأنْ تحرِّم واديَنا كما حرَّمتَ مكَة، وإن قالت العربُ: لم فعلْتَ ذلك؟ فقل: إنَّ اللّه أمرني به
(2)
.
وقيل: في قريش، قالوا: لا نمكِّنكَ من استلام الحجر حتى تُلِمَّ بآلهتنا وتمسكها بيدك
(3)
.
(1)
في (ف): "من".
(2)
ليس له رواية يحتج بها، فقد ذكره الثعلبي في "تفسيره"(6/ 118) عن ابن عباس، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/ 67) في نزول هذه الآية وقال: رواه عطاء عن ابن عباس. ثم ذكر نحوه عن عطية عن ابن عباس. وذكره أيضًا (2/ 196) في نزول قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113]، وقال: هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك. وقال ابن حجر في "الكافي الشاف"(ص: 100): ذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند. وقال العراقي كما في "روح المعاني"(15/ 32): لم نجده في كتب الحديث. قلت: رواه ابن شبة في "أخبار المدينة"(884) عن الكلبي.
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(6/ 117)، و"زاد المسير"(5/ 67)، قال ابن الجوزي: قاله سعيد بن جبير وهذا باطل.
• أي: لو اتَّبعْتَ مرادهم {لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} وخليلُهم بريءٌ من خلَّة اللّهِ تعالى.
(74) - {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} .
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} ولولا تثبيتُنا إيَّاكَ {لَقَدْ كِدْتَ} : {تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} جواب {وَلَوْلَا} يقتضي إذا كان مثبتًا امتناعَه لوجود ما قبله، فمقاربةُ الشَّيء القليل من الرُّكون - وهو الميل اليسير - لم يقع منه عليه السلام، فضلًا عن وقوع ذلك الشَّيء القليل من الميل اليسير، وهذا غايةُ المبالغة في تنزيهه عليه السلام عن الميل إلى أهوائهم
(1)
، والكون في صدد نفيه دلالة ظاهرة على أن قوله تعالى:{لَيَفْتِنُونَكَ} بيانُ قصدهم، لا فعلُه عليه السلام، أي: لو
(2)
قاربْتَ.
* * *
(75) - {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} .
{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الضِّعفُ بمعنى
(3)
: المضاعف، وكان أصل الكلام: لأذقناك عذابًا ضِعفًا في الحياة الدُّنيا وعذابًا ضِعفًا في الممات، ثم حذف الموصوف، وأُقيْمَتِ الصِّفة مقامَه، وهو الضِّعف، ثم أضيف الصِّفة إضافة الموصوف، فقيل:{ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، والمعنى: لضاعفنا لك العذاب المعجَّل للعصاة في الحياة الدُّنيا، وما نؤخِّره لهم لِمَا بعد الموت.
(1)
في (ك) و (م): "هواهم".
(2)
"لو" سقط من (ف).
(3)
"بمعنى" سقط من (ك).
وفي ذكر الكيدودة وتقليلِ الميل مرَّة بعد أخرى مع إتْباعها الوعيدَ الشَّديد بالعذاب المضاعف في الدَّارين دليل بيِّن على أنَّ مَن كانت درجته أرفعَ وَنِعَمُ اللّه تعالى عليه أسبغَ كانَ وعدُ اللّه تعالى في حقِّه أبلغَ.
{ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يدفع عنك عذابَنا بالغلَبة علينا.
* * *
{وَإِنْ كَادُوا} الضَّمير لأهل مكَّة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} قد مرَّ معنى الاستفزاز.
{مِنَ الْأَرْضِ} ؛ أي: من أرض مكَّة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} متعلِّق بـ {كَادُوا} .
{وَإِذًا} ؛ أي: لو أخرجوك منها {لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ} : بعدَكَ، وقرئ:{خِلَافَكَ} وهو لغة فيه
(1)
؛ أي: لم {إِلَّا قَلِيلًا} : قَدْرَ ما ينزل بهم العذابُ.
وما أخرجوه عليه السلام منها، بل خرجَ بنفسه امتثالًا لأمر الهجرة، نعم أزعجوه عليه السلام، لكن التَّعليق على الإخراج لا على الإزعاج.
وقيل: الضَّمير ليهود المدينة، و {الْأَرْضِ} أرضُها، وذلك أنَّهم أرادوا المكرَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، [فقالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء بالشام]
(2)
ولكنَّك تخاف الرُّوم، فإنْ كنْتَ نبيًّا فأخرج إليها، فإنَّ اللّه سيحميك كما
(1)
قرأ ابن عامر وحفص والكسائي: {خِلَافَكَ} ، بكسر الخاء وفتح اللام وألف بعدها، والباقون بفتح الخاء وإسكان اللام. انظر:"التيسير"(ص: 141).
(2)
ما بين معكوفتين من "المحرر الوجيز"(3/ 476).
حمى سائر الأنبياء عليهم السلام، فوقع ذلك في قلبه لِمَا يحبُّ
(1)
من إسلامهم، فرحل من المدينة مرحلةً، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية
(2)
.
وعلى هذا أيضًا لم يوجد إخراجه عليه السلام، كما هو الظَّاهر من قوله:{وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} .
وقرئ: (لا يلبثوا)
(3)
، منصوبًا بـ {وَإِذًا}
(4)
على أنَّه معطوف على قوله: {وَإِنْ كَادُوا} ، لا على خبر (كاد)، فإنَّ {وَإِذًا} لا يعمل إلَّا إذا كان معتمِدًا ما بعدها على ما قبلها.
* * *
(77) - {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} .
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} نصب على المصدر؛ أي: سَنَّ اللّهُ ذلك سُنّةً، وهو أن يُهلك كلَّ أمَّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، فالسنَّة للمرسِل، والإضافة إلى المرسَل
(5)
لأدنى ملابَسةٍ، دلَّ على ذلك قوله:{وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} هو: تغييرًا.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "يجب".
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 476). ورواه بنحوه البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 254) عن عبد الرحمن بن غَنْم.
(3)
انظر: "المختصر في القراءات الشاذة"(ص: 77).
(4)
في (ك): "بإذن".
(5)
في (ك): "للمرسل".
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} : لزوالها، وقيل: لغروبها، وأصله: الميل، وهو ينتظِم المعنيين؛ قال ابن عطيَّة: الدُّلوكُ: هو الميل في اللُّغة
(1)
فأوَّلُ الدُّلوك هو الزَّوال، وآخرُه هو الغروب
(2)
.
وقال الماوردي: مَن جعل الدلوك اسمًا لغروبها فلأنَّ الإنسان يدلُكُ عينيه براحته ليتبيَّنها حالةَ المغيب، ومَن جعله اسمًا لزوالها فلأنَّه يدلك عينيه لشدَّة شعاعها عند ذلك
(3)
.
واللَّام للسَّبب؛ لأنَّها إنَّما تجب بزوال الشَّمس.
{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} : هو اجتماع اللَّيل وظلمته، وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة.
وقيل: المراد بالصَّلاة: صلاة المغرب، وقوله:{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} بيانٌ لمبدأ الوقت ومنتهاه، على أنَّ الدُّلوك هو الغروب، واستُدلَّ به على امتداد الوقت إلى غروب الشَّفق.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} : وصلاةَ الصُّبح، سُمِّيَتْ قرآنًا لأنَّه ركنُها
(4)
كما سُمِّيَتْ ركوعًا وسجودًا لذلك، ولكنْ لا دلالة فيه على ذلك
(5)
، كما لا دلالة في تسميتها
(1)
"في اللغة" سقط من (ك)، و"اللغة" سقط من (ف)، والمثبت من (م) وهو الموافق لـ "المحرر الوجيز".
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 477).
(3)
انظر: "النكت والعيون"(3/ 263).
(4)
في النسخ: "ركنه"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 264)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 189).
(5)
أي: على الركنية.
قنوتًا على أنَّ القنوت ركنها، وكذا لا دلالة فيه على وجوب القراءة فيها، لجواز أن يكون التجوُّز بها لكونها
(1)
مندوبة في الصَّلاة، نعم لو كان المجاز في {الْفَجْرِ} بأن يكون المراد منه الصلاةَ في ذلك الوقت لدلَّ الأمر بإقامتها على الوجوب فيها
(2)
عبارةً، وفي غيرها دلالة.
وانتصب {قُرْآنَ} عطفًا على {الصَّلَاةَ} قاله الفرَّاء
(3)
. أو على الإغراء، أي: فعليك بقراءة الفجر، قاله الزَّجَّاجُ وعزاه إلى البصريِّين
(4)
.
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} "تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار"، رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح
(5)
.
والآية جامعةٌ للصَّلوات الخمس إنْ فُسِّرَ الدُّلوكُ بالزَّوال، ولصلاة اللَّيل فقط إن فُسِّرَ بالغروب.
* * *
(79) - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ} (مِن) للتَّبعيض، والفاءُ ناسقةٌ على مضمَرٍ؛ أي: قُم فتهجَّد به، أي: بالقرآن.
(1)
أي: القراءة.
(2)
"فيها" من (م).
(3)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 129)، وفيه:"أي: وأقم قرآن الفجر".
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 142). وعنه نقل المؤلف القولين، ولم نجد قول الزجاج عند غيره.
(5)
رواه الترمذي (3135). وانظر حديث أبي هريرة عند البخاري (648)، ومسلم (649).
والتَّهجُّد: التَّيقُّظ من النَّوم، لا تركُ النَّوم
(1)
مطلقًا.
قال الحجَّاج بنُ عمرٍو صاحبُ النَّبيِّ عليه السلام: أيحسب أحدكم إذا قام في اللَّيل كلِّه أنَّه قد تهجَّد؟! إنَّ التهجُّدَ الصلاةُ بعد رقدة، ثمَّ الصَّلاة بعد رقدة، ثم الصَّلاة بعد رقدة، كذلك كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وهو من الهجود، يقال: تهجَّد: إذا ألقى الهجود - وهو النَّوم - عن نفسه، وهذا الفعل جارٍ مجرى تَحوَّبَ وتَحرَّجَ وتأثَّمَ وتحنَّثَ: إذا ألقى ذلك عن نفسِه.
{نَافِلَةً لَكَ} : زائدةً على
(3)
تلك الفرائض المذكورة في الآية السَّابقة، والزَّائد حقُّه أن يكون من جنس المزيد عليه، فالتَّهجدُ من الفرائض، وإنَّما قال {لَكَ}: لأنَّه ليس بفرض في حقِّ أمَّته، وقد روي عنه عليه السلام:"ثلاثة عليَّ فريضة ولأمَّتي تطوُّع: قيام اللَّيل، والوتر، والسِّواك"
(4)
.
ومَن زعمَ أنَّه تطوُّع في حقِّه أيضًا فسَّر النَّافلةَ بالزِّيادةِ؛ أي: زيادةً لك في الدَّرجات، وذلك لأنَّه عليه السلام مغفورٌ له، فهو إذا تطوَّع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادةً في درجاته، وغيرُه من الأمَّة تطوُّعهم كفَّارات لذنوبهم، وتدارُكٌ لخللٍ يقعُ في الفرائض.
(1)
"لا ترك النوم" من (م).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(3/ 225) بإسناد فيه ابن لهيعة، وابن أبي خيثمة بإسناد فيه عبد الله ابن صالح كاتب الليث. وحسن إسناده ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 16) لاعتضاد الروايتين، وقال الآلوسي: أغرب الحجاج بن عمرو. انظر: "روح المعاني"(15/ 54). قلت: والحجاج بن عمرو مختلف في صحبته، وقال أبو نعيم: شهد صفين مع علي. انظر: "الإصابة"(2/ 35).
(3)
في (م): "عن".
(4)
رواه الطبراني في "الأوسط"(3290)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 264): فيه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني وهو كذاب.
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} {مَقَامًا} نصب على الظَّرف على تقدير العامل أو تضمينه، إذ لا يصلحُ
(1)
للعمل في مثل هذا الظَّرف إلَّا فعل فيه معنى الاستقرار، ويجوز أن يكون حالًا؛ أي: ذا
(2)
مقامٍ محمود.
وروى التِّرمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمَّتي"، وقال: هذا حديث حسن
(3)
.
فالمقام: الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة، ومعنى كونه محمودًا: أنه تعالى يقيمه عليه السلام فيه فيشفع، فيَحمده الخلقُ.
* * *
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} المدخل والمخرج بضم الميم بمعنى: الإدخال والإخراج.
والصِّدق: بمعنى المرضيِّ، يقال: رجلُ صِدْقٍ؛ أي: مرضيُّ الخُلُق.
وقرئ: (مَدْخَلَ) و (مَخْرَجَ) بفتح الميم
(4)
، بمعنى الدُّخول والخروج، على معنى: أدخلْني فأدخلَ دخولًا وأخرجْني فأخرج خروجًا.
وقيل: المراد إدخاله مكَّة ظاهرًا عليها، وإخراجه منها آمنًا.
(1)
في (ف): "يصح".
(2)
في النسخ: "ذات"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 687).
(3)
روى نحوه الترمذي (3137).
(4)
نسبت لعلي بن أبي طالب وأُبي رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 77).
وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالمًا.
وقيل: إدخاله المدينة وإخراجه من مكَّة.
وفيه: أنَّ المناسب حينئذٍ تقديم
(1)
الإخراج على الإدخال.
وقيل: {أَدْخِلْنِي} فيما أمرتَني به، {وَأَخْرِجْنِي} عمَّا نهيتَني عنه.
والظَّاهرُ أنَّه عامّ في جميع موارده عليه السلام ومصادره، دنياويَّةً وأخراويَّةً.
وقيل: المراد: الإدخال في القبر والإخراجُ منه، ليتَّصل بقوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
{وَاجْعَل لِى مِنْ لَّدُنكَ} مَرَّ تفسير (لدن) في آل عمران.
{سُلْطَانًا نَصِيرًا} : حجَّة تنصرني على المخالف، أو: مُلْكًا ينصر الإسلام على الكفر، فاستجاب له بقوله:{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
والنَّصرُ: التَّمكينُ من الانتصار من العدوِّ.
* * *
(81) - {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} .
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الإسلامُ {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، أي: ذهب الكفر، يقال: زهق
(2)
روحُه: إذا خرج.
{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي: لم يزل مضمحِلًّا.
* * *
(1)
في (ف): "تقدم".
(2)
في (ف): "رهوق".
{وَنُنَزِّلُ} قرئ بالتَّخفيف والتَّشديد
(1)
.
{مِنَ الْقُرْآنِ} {مِنَ} للتَّبيين، كقوله تعالى:{مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] قدِّم المبهَم اهتمامًا؛ أي: كلُّ شيءٍ نزلَ من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يستصلِحون به دينهم، ويتَّعظون به في دنياهم، فموقعُه منهم
(2)
موقعُ الشِّفاء من المرضى.
وعن النَّبيِّ عليه السلام: "مَنْ لم يستشفِ بالقرآنِ فلا شفاهُ اللّهُ"
(3)
.
أو للتَّبعيض، وليس معناه أَنَّه منقسمٌ إلى ما هو شفاء، وإلى ما ليس بشفاء، بل المعنى أنَّه نزلَ شيئًا فشيئًا، فالنَّازل في كلِّ وقتٍ بعضٌ.
{مَا هُوَ شِفَاءٌ} كلُّه {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} بتفريج الكروب، وتطهير العيوب، وتكفير الذُّنوب، مع ما تفضَّل به تعالى من الثَّواب في تلاوته.
{وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ؛ أي: نقصانًا؛ لتكذيبهم وكفرهم، قال قتادةُ: ما جالسَ أحدٌ القرآنَ إلَّا قامَ بزيادةٍ أو نقصانٍ
(4)
.
* * *
(1)
قرأ أبو عمرو بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد. انظر: "التيسير"(ص: 75).
(2)
"منهم" من (م).
(3)
رواه الثعلبي في "تفسيره"(6/ 129) من حديث رجاء الغنوي، وفي إسناده أحمد بن الحارث الغساني وهو متروك. انظر:"الكافي الشاف"(ص: 102). ورجاء الغنوي لا يصح حديثه ولا تصح له صحبة، كما في "التمهيد"(2/ 495).
(4)
رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص: 56).
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} بالصِّحة والسَّعة {أَعْرَضَ} عن ذكر اللّه كأَنَّه مستغنٍ عنه {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تأكيدٌ للإعراض؛ لأن الإعراضَ عن الشَّيء: أن يولِّيه عرضَ وجهِه. والنَّأي بالجانب: أن يلوِيَ عنه عطفه ويولِّيه ظهره.
ويجوز أن يكون كنايةً عن الاستكبار؛ لأنَّه من عادة المتكبِّرين.
وقرئ: {نَاءَ} على القلب
(1)
"أو على أنه بمعنى: نهض.
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} ؛ أي: مرض أو فقر {كَانَ يَئُوسًا} : شديدَ اليأس من رَوح اللّه تعالى.
* * *
(84) - {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} .
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} : على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضَّلالة، يقال: طريق ذو شواكِلَ؛ وهي الطُّرق
(2)
التي تتشعَّب منه، ويشهدُ لذلك قوله:
{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} : أسدُّ مذهبًا وأبيَنُ طريقةً.
* * *
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الذي يحيَى به بدن الإنسان ويدبِّره
(3)
.
(1)
وهي قراءة ابن ذكوان. انظر: "التيسير"(ص: 141). وفي (ف): "بالقلب".
(2)
في (ف) و (ك): "الطريقة".
(3)
أي: عن حقيقة الروح الذي هو مدبّرُ البدنِ الإنساني ومبدأُ حياتِه. انظر: "تفسير أبي السعود"(5/ 192).
{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من الإبداعات الكائنة بأمر (كنْ) من غير مادَّةٍ ومدَّةٍ وتولُّدٍ من أصلٍ كأعضاء جسده.
وفيه إشارة إلى أن الرُّوح ممَّا لا يمكن معرفة ذاته إلَّا بعوارضَ تميِّزه
(1)
عمَّن يلتبس به، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23} بذكر بعض صفاته، وهذا القدْر من البيان لا ينافي الإبهام المذكور فيما روي أنَّ اليهود قالوا لقريش: اسألوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الرُّوح؛ فإنْ أجابَ عنها أو سكتَ فليس بنبيِّ، وإنْ أجابَ عن بعضٍ وسكتَ عن بعضٍ فهو نبيٌّ، فبيَّنَ لهم القصَّتين وأبهم أمر الرُّوح
(2)
؛ لأنَّ السُّؤال كان عن حقيقته، وهي باقية على إبهامها.
وقيل: {الرُّوحِ} جبريلُ عليه السلام.
وقيل: خلق أعظم
(3)
من الملَك.
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} تستفيدونه بتوسُّط حواسِّكم؛ فإنَ اكتساب العلوم النَّظرية من الضَّروريَّات المستفادة من المحسوسات غالبًا، ولذلك قيل: مَن فقدَ حسًّا فقد
(4)
فقدَ علمًا، وأكثر الأشياء لا يدركه الحسُّ.
* * *
(1)
"تميزه" من (م).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 69) عن قتادة.
(3)
في (ف): "عظيم".
(4)
"فقد" من (ك).
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} {لَنَذْهَبَنَّ} جوابُ قسمٍ محذوف مع نيابته عن جزاء الشَّرط، واللَّام الدَّاخلة على (إنْ) موطِّئةٌ للقسم، والمعنى: إنْ شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصُّدور والمصاحف.
{ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} أي: لا تجد بعد الذَّهاب مَن يتوكَّل علينا باسترداده
(1)
وإعادته محفوظًا مسطورًا.
* * *
(87) - {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} .
{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لكن لا نشاء ذلك رحمةً من ربِّك.
وقيل ة إلَّا أن يرحمك ربُّك فيردَّه عليك، كأن رحمته تتوكل
(2)
عليه بالردِّ، وهذا امتنانٌ من اللّه تعالى ببقاء القرآن محفوظًا بعد المنَّة العظيمة في تنزيله.
{إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} إذ جعلَك سيِّد ولدِ آدم، وأعطاكَ المقامَ المحمود، وأنزل عليك هذا الكتاب، وأبقاه محفوظًا.
* * *
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} لم يذكر الملَكَ معهما، لا لأَنَّه قادر على الإتيان بمثله؛ لأنَّه مردود بقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(1)
في (م): "باسترداد به"، وفي (ك):"باستردادته".
(2)
في (ك): "متوكل".
[النساء: 82]، بل لأنَّ الفعل المذكور ممَّا لا يليق لشأنه، ولا يجوز أن يُنْسَبَ إليه؛ لأنهم معصومون لا يفعلون إلا ما يُؤْمَرون.
{عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} في كمال بلاغته وحسنِ نظمه وجَودةِ تأليفه.
{لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب قسم محذوف دلَّ عليه اللَّام الموطِّئة، ولولا هي لكان جوابَ الشرط بلا جزمٍ؛ لكون الشَّرط ماضيًا.
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لتفخيم شأن ما عَجزَ عنه الثَّقلان.
ولما كان الاجتماع على أمرٍ قد يُوجَد بدون المظاهرة فيما بينهم كاجتماع المجتهدين على حكمٍ شرعيٍّ قال:
{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} : ولو تظاهروا على ما اتَّفقوا عليه من المعارضة بإتيان مثله، ولا يصلح هذا أن يكون تقريرًا لقوله:{ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} ؛ لأنَّ المقدِرة
(1)
على الإتيان بمثله أصعب من القدرة على استرداد عينه، ونفيُ الشَّيء إنَّما يقرِّر نفيَ
(2)
ما دونه، لا ما فوقَه.
* * *
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} تفسيرُه في هذه السُّورة.
{مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} من كل معنًى هو كالمثل في غرابته وحُسن موقعه.
{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ} (أبى) مُتأوَّل بالنَّفي؛ أي: فلم يرضوا {إِلَّا كُفُورًا} : إلَّا جحودًا.
(1)
في (ف): "القدرة".
(2)
"نفي" سقط من (ك).
(90) - {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} .
{وَقَالُوا} تعنُّتًا واقتراحًا بعدما لزمتْهم الحجَّة ببيان إعجاز القرآن وانضمام غيره من المعجزات: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ} قرئ بالتَّخفيف والتَشديد
(1)
.
{لَنَا مِنَ الْأَرْضِ} : أرضِ مكَّة.
{يَنْبُوعًا} : هو عينٌ ينبع ماؤه؛ أي: يفور، يَفْعولٌ من نبعَ الماءُ، كيَعْبوبٍ من عبَّ الماء
(2)
: إذا زَخَر.
* * *
(91) - {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} .
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} هذا بالتَّشديد بالإجماع
(3)
لمكان {الْأَنْهَارَ} .
{خِلَالَهَا} وسطها {تَفْجِيرًا} ؛ أي: يكون لك بستانٌ يشتمِل على ذلك.
* * *
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} يعنون قولَ الله تعالى: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وهو القطَع
(4)
لفظًا ومعنًى.
(1)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الجيم مخففّا، والباقون بضم التَّاء وكسر الجيم مشددًّا. انظر:"التيسير"(ص: 141).
(2)
في النسخ: "عبة الأرض"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 693)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 266)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 194)، و"روح المعاني"(14/ 116).
(3)
"بالإجماع" من (م).
(4)
في (م): "كقطع".
وقرئ: {كِسْفًا} بالسُّكون
(1)
، وهو فِعْلٌ بمعنى مفعولٍ، كالطِّحْن، أو مخفَّف من المفتوح كسِدَرٍ وسِدْرٍ.
{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} ؛ أي: عيانًا، والقَبيل بهذا المعنى المناسب للمقام الخالي عن التعسُّف مذكورٌ في "الصِّحاح"
(2)
.
* * *
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} : من ذهبٍ، وقد قرئ به
(3)
، وأصله الزِّينة.
{أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} في معارجها، يقال: رقَى في السلَّم: إذا صعد إليها.
{وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} : ولن نصدِّق لرقيِّك، فاللَّام للصِّلة، يقال: آمن له: إذا أذعن له، على ما مرَّ في سورة يوسف عليه السلام.
{حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} من السَّماء فيه تصديقك.
{نَقْرَؤُهُ} فلا يحتاج إلى نقلك إيَّاه. وهذا القيد لعدم اعتمادهم النَّبيَّ عليه السلام في تبليغ القرآن.
{قُلْ} وقرئ: {قَالَ}
(4)
؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
قرأ نافع وعاصم وابن عامر بفتح السين والباقون بإسكانها. انظر: "التيسير"(ص: 141).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: قبل).
(3)
رويت عن عبد اللّه، وهي من قبيل التفسير لا القراءة. انظر:"تفسير الطبري"(15/ 85)، و"المحرر الوجيز"(3/ 485)، و"البحر المحيط"(14/ 178).
(4)
وهي قراءة ابن كثير وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 141).
{سُبْحَانَ رَبِّي} تعجُّبًا
(1)
من اقتراحاتهم عليه، أو تنزيهًا للّه تعالى من أن يأتي، أو يُتحكَّم عليه.
{هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} كسائر الرُّسل بشرًا مثلهم، وكان الرُّسل لا يأتون قومهم إلَّا بما
(2)
يُظهِرُ اللّهُ تعالى عليهم من الآيات، فليس أمرُ الآيات إليَّ، إنَّما هو إلى اللّه تعالى، فما بالُهم يتجبَّرون
(3)
عليَّ.
* * *
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} قد مرَّ تفسير المنع في هذه السُّورة.
{أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} : وما منعهم عن الإيمان بعد نزول الوحي ومجيء القرآن.
{إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} : إلَّا قولُهم هذا، وكان المانع اعتقادَهم بموجَب ما قالوا مِن أنَّ اللّهَ تعالى أجَلُّ مِنْ أن يكون رسولُه من جنس البشر، إلَّا أنَّه عبر عنه بالقول تنزيلًا له وإخراجًا عن حيِّز الاعتقاد.
* * *
(1)
في (ف): "تعجيبًا".
(2)
"بما" من (م).
(3)
في (م): "يتحيرون".
{قُلْ} في جوابهم: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} يتصرَّفون فيها بمشي قاطنين
(1)
فيها، وليس لهم قدرة الصُّعود إلى السماء، فيسمعون من أهلها ويعلمون ما يجب علمُه.
{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} ليكون من جنسهم فيفهمون كلامه ويسكنون إليه، فأمَّا أنتم فبشرٌ
(2)
، فبعثني اللّه إليكم بشرًا مثلكم؛ لتكون قلوبكم أسكن إليه، وأنتم لكلامه أفهم؛ فإنَّ مقتضى الحكمة أن يكون الرَّسول من جنس المرسَل إليه.
{مَلَكًا} حال من {رَسُولًا} ، ويحتمِل أن يكون موصوفًا به، وكذا الحال في {بَشَرًا} .
* * *
(96) - {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} .
{قُلْ} جوابًا لهم - حين قالوا: مَنْ يشهدُ لك
(3)
بأنَّك رسولُ اللّه؟ -:
{كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} نصبَ {شَهِيدًا} على التَّمييز؛ أي: حسبي اللّه تعالى من الشهداء، أو على الحال؛ أي: كفى باللّه تعالى في حال شهادتنا.
والعدول من (بينَنا) إلى ما فيه
(4)
التَّكريرُ للتَّأكيد.
(1)
في (ف): "بالخير"، وفي (ك) لعلها:"فالحين".
(2)
"فبشر" سقط من (ك).
(3)
"لك" من (م).
(4)
بعدها في (ك): "من".
{إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا} بخفيَّات أسرارهم {بَصِيرًا} : مطَّلعًا على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم فيجازيهم عليه.
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وتهديدٌ للكفَّار.
* * *
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ} أتى هاهنا بضمير الجمع؛ تنبيهًا على أنَّ نسبة الضَّالين إلى المهتدين نسبةُ الجماعة إلى الواحد، ولذلك قال:{أَوْلِيَاءَ} مع أن نفي الولي الواحد أبلغ.
{مِنْ دُونِهِ} يهدونهم.
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} مسحوبين عليها، أو: ماشين عليها.
روي في "الصحيحين" أنه قيل لرسول صلى الله عليه وسلم اللّه صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إنَّ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على
(1)
أن يمشيَهم على وجوههم"
(2)
.
{عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} إنهم يحشرون على هذه الصِّفة، ثم يخلق لهم ذلك قبل دخولهم في النَّار:
فأبصَروا؛ لقوله تعالى {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53].
وتكلموا؛ لقوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13].
(1)
"على"من (م).
(2)
روى نحوه البخاري (4760)، ومسلم (2806)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وسمعوا، لقوله تعالى:{سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
وقيل: لا يبصرون ما يُقرُّ أعينَهم، ولا يسمعون ما يلذُّ مسامعهم، ولا ينطقون ما يُقبل منهم.
ويردُّه: أنَّ
(1)
قولَه تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65] صريح في نفي القدرة على مطلَق التكلُّم عنهم، وأن قوله تعالى:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} دلَّ على أن ذلك في الموقف قبل الانصراف عنه إلى النَّار، وبهذا اندفع احتمالُ أن يكون ذلك بعد الدُّخول فيها أو عند المشارفة عليها.
{مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} : سكن لهبها.
الخَبْوُ: سكون النَّار عن الالتهاب، وما قيل: بأنْ أكلَتْ جلودهم ولحومهم
(2)
، يردُّه قولُه تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}
(3)
[النساء: 56]؛ لأنَّه صريح في النَّار لا يُتجاوز في تعذيبهم عن حدِّ الإنضاج إلى حدِّ الإغراق والإفناء
(4)
.
{زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} : توقُّدًا، وإنَّما قال:{زِدْنَاهُمْ} دون: زدناها، بناءً على أنَّهم
(1)
"أن "سقط من (م).
(2)
القائل هو البيضاوي في "التفسير"(3/ 268)، وهذا المذكور أعلاه لفظه، متابعًا الزمخشري القائل: كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدِّلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل اللّه جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد. انظر:"الكشاف"(2/ 695).
(3)
"غيرها" سقط من (ك) و (م).
(4)
ذكر على هذا الكلام ردودٌ ومناقشة تنظر في "روح المعاني"(15/ 133).
وَقودُها، على ما نطق به قوله تعالى:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
(1)
[البقرة: 24].
* * *
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} قد مَرَّ تفسيرُه في هذه السُّورة.
* * *
{أَوَلَمْ يَرَوْا} ؛ أي
(2)
أو لم يعلموا ذلك علمًا يقوم مقام العيان في حقِّ الإيقان.
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وإذا قدر على خلق مثلهم قدرَ على إعادتهم خلقًا جديدًا.
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} هو
(3)
الموت، أو القيامة.
{فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} : جحودًا.
* * *
(1)
"والحجارة" من (م).
(2)
"أي" من (م).
(3)
في (ف): "وهو".
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده، تقديره: لو تملكون، فحذف (لملك) وأبدل من الضَّمير المتَّصل الذي هو الواو ضميرٌ منفصل وهو {أَنْتُمْ} لسقوط ما يتَّصل به من اللَّفظ، كقوله:
وإنْ هو لم يحمل على النَّفسِ ضيمها
(1)
وفيه دلالة على اختصاص المخاطبين في الإمساك مع الإيجاز.
{خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} ، أي: خزائنَ نِعَمه.
{إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ} ، أي: لأمسكتموها.
{خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} : لأجْل خوف الفقر.
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} : مضيِّقًا للنَّفقة.
وزيادة {وَكَانَ} لبيان أنَّ الإنسان مجبول على الشُّحِّ والضِّنة، ومَن يوقَ شحَّ نفسه إنَّما يوقَ بعِصْمة اللّه تعالى إيَّاه، وما ذكر جوابٌ قولهم:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90]، حتى نتوسَّع في المعيشة؛ أي: لو توسَّعتُم لبخلتُم أيضًا.
* * *
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قد مَرَّ تفسيرُه في سورة الأعراف، وليس
(1)
للسموءل، انظر:"ديوانه"(ص: 93)، وعجز البيت:
فليس إلى حسن الثناء سبيلُ
انفجار الماء من الحجر وانفلاقُ البحر ونَتْقُ الطُّور منها، بدلالة أنَّ الخطاب في قوله تعالى:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ} [الإسراء: 102] لفرعون، وهذه الآيات بعضها بعد هلاكه وبعضها عنده.
{فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ أي: فاسأل علماء بني إسرائيل {جَاءَهُمْ} ؛ أي: جاء أسلافهم.
والعامل في {إِذْ} محذوفٌ، تقديره: فاسأل عن حديث أو قصَّة بني إسرائيل إِذْ جَاءَهُمْ.
{فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} ؛ أي: ساحرًا، قاله الفرَّاء وأبو عبيدة
(1)
، فوضع المفعول موضع الفاعل، كما تقول: هذا مشؤوم وميمون؛ أي: شائم ويامن، ويشهد لذلك قوله:
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} فإنَّه ظاهر في ردِّ أن تكون تلك الآيات سحرًا.
قرأ الكسائي: {عَلِمْتَ} هو بالضم
(2)
؛ أي: قال موسى: علمْتُ أنا، وقرأ البا قون: بالفتح؛ أي: علمْتَ أنت يا فرعون؛ لأنَّه عاند مع علمه؛ لقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
يقول: إنَّك لصحَّة عقلك وسلامة حسِّك تعلم أنَّ ما جئْتُ به من الآيات
(1)
انظر: "زاد المسير"(3/ 57)، و"تفسير القرطبي"(13/ 183).
(2)
انظر: "التيسير"(ص: 141).
ليس بسحرٍ، بل هي حجَّة اللّه تعالى، التي مَن تأمَّلها استبصر فيها؛ أي: تيقَّنَ أنَّها مِن عنده تعالى.
وانتصب {بَصَائِرَ} على الحال، والعامل فيه محذوف، تقديره: أنزلها بصائر.
{وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} : هالكًا وخاسرًا، وقيل: مصروفًا عن الخير.
وكان موسى عليه السلام عالمًا بذلك بيقين، وإنما قال:(أظن) إظهارًا للتَّفريط في تقرير ما ادَّعاه، وفائدته: دفع وهم المبالغة فيه، وصونُه عن مظنَّة الإفراط
(1)
.
* * *
(103) - {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} .
{فَأَرَادَ} فرعون {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ} : أن يُخرج موسى عليه السلام وقومَه بالنَّفي أو القتل، وقد مرَّ في هذه السُّورة ما يتعلق بمعنى الاستفزاز.
{مِنَ الْأَرْضِ} : أرضِ مصر، أو الأرضِ مطلقًا.
{فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} : فحاق به مكرُه.
* * *
(1)
كذا علل الظن في كلام موسى عليه السلام، وكلام الزمخشري في ذلك أوضح وألصق بالسياق حيث قال:(قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورًا فأنا أظنك مَثْبُورًا هالكًا، وظني أصح من ظنك؛ لأن له أمارةً ظاهرة وهي إنكارك ما عرفتَ صحته، ومكابرتك لآيات اللّه بعد وضوحها، وأما ظنك فكذب بحت؛ لأن قولك مع علمك بصحة أمري: (إني لأظنك مسحورًا) قول كذاب. انظر: "الكشاف"(2/ 698).
{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ} : من بعد فرعون وإغراقه {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} التي أراد أن يستفزَّكم منها.
هذا على تقدير دخول موسى عليه السلام ومَن معه من بني إسرائيل
(1)
مصرَ بعد هلاك فرعون ظاهرٌ
(2)
، وأما على تقدير عدم ذلك - على ما ذهب إليه بعضهم - فلا بُدَّ من تعيين التَّعريف في {الْأَرْضَ} للجنس، أو القولِ بأنَّ الأمر المذكور
(3)
لأولادِ مَن معه عليه السلام لا لهم
(4)
.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} يعني: قيام القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} : مختلطِين.
اللَّفيف: ما اجتمع من النَّاس من قبائل شتَّى، قال الأصمعي: اللَّفيف جمعٌ، وليس له واحد، وهو مثلُ الجميع
(5)
.
* * *
(105) - {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} .
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ؛ أي: ما أنزلنا القرآن إلى سماء الدُّنيا إلَّا محفوظًا عن اعتراء البطلان، وما نزل على الرَّسول إلَّا كذلك.
وتكرير (الحق) باسمه الظَّاهر للتَّفخيم.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} بالثَّواب للمطيعين {وَنَذِيرًا} بالعقاب للعاصين، وليس لك شيء وراء ذلك.
(1)
"من بني إسرائيل" من (م).
(2)
في (م): "ظاهرًا".
(3)
"المذكور" من (م).
(4)
في (ك) و (م): "لأبيهم" بدل "لا لهم".
(5)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس (4/ 204).
(106) - {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} .
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} : نزَّلناه مفرَّقًا منجَّمًا، وقرئ بالتَّشديد
(1)
؛ لكثرة نجومه.
{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} : تثبُّتٍ وترسُّلٍ
(2)
، فإنَّه أيسر للحفظ، وقرئ بالفتح
(3)
، وهو لغةٌ فيه.
{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} على حسب الأسباب ومقتضى الحكمة.
* * *
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} يتضمَّن الإعراض عنهم، والاحتقار لهم، وعدمَ الاكتراث بهم، فإنَّ إيمانهم بالقرآن لا يزيده
(4)
فضلًا، وامتناعَهم عنه لا يورثه نقصًا.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم مؤمنو أهل الكتاب مثلَ عبد اللّه بن سلام وأضرابِه - تعليل له؛ أي: إن لم تؤمنوا به فقد آمن به مَن هو خيرٌ منكم.
{مِنْ قَبْلِهِ} : من قبلِ نزولِ القرآنِ.
{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن
(5)
{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} : تعظيمًا لأمر اللّه تعالى، وشكرًا لإنجاز وعده في الكتب السابقة ببعثة محمَّد عليه السلام.
(1)
نسبت لأبي وابن عباس ومجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 78).
(2)
في (ك): "ترتل"، وفي (م) زيادة:"وترسل عنهم".
(3)
نسبت لقتادة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 78).
(4)
في (ك) و (م): "يزيدهم"، وهو تحريف.
(5)
"القرآن" من (م).
والخُرورُ: السُّقوط بسرعة، وإنما ذكر الأذقان مبالغةً في التَّحامل على الجبهة والأنف، حتى كانه يلصقُ الذقن
(1)
بالأرض، واللَّام بمعنى: على، وقيل: للاختصاص. وفيه ما فيه.
وانتصابُ {سُجَّدًا} على الحال.
* * *
(108) - {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} .
{وَيَقُولُونَ} ؛ أي: في سجودهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} . عن خُلف الوعد {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} : إنه
(2)
كانَ وعدُه كائنًا لا محالة.
* * *
(109) - {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} .
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} كرَّره لاختلاف الحال أو السَّبب، فإنَّ الأول للشكر عند إنجاز الوعد، والثَّاني لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن
(3)
.
{يَبْكُونَ} أتى هاهنا بالفعل إشعارًا للتَّجدد، فإنَّ منشأ البكاء - وهو
(4)
التَّفكُّر والتَّذكُّر - ممَّا يتجدَّد، بخلاف منشأ السُّجود.
{وَيَزِيدُهُمْ} سماعُ القرآن {خُشُوعًا} كما
(5)
يزيدهم علمًا ويقينًا باللّه، وقد مرَّ تفسير الخشوع في سورة البقرة
(6)
.
(1)
"الذقن" من (م).
(2)
في (ك): "إن".
(3)
"القرآن" زيادة من (م).
(4)
في (ك): "هو"، وسقط من (م).
(5)
في (ك): "لما"، وسقط من (ف).
(6)
عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . ووقع في (ف): "آل عمران".
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} نزلت حين سمع المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا اللّه، يا رحمن"، فقالوا: إنه ينهانا أن نعبدَ إلهًا آخر، وهو يدعوه
(1)
!
والمراد: التَّسوية بين اللَّفظين بأنهما يطلَقان على ذاتٍ واحدة وإن اختلفا في اعتبار الإطلاق:
عباراتُنا شتَّى وحُسْنُكَ واحدٌ
…
وكلٌّ إلى ذاك الجمالِ يشيرُ
(2)
والدُّعاء بمعنى التَّسمية، وهو يتعدَّى إلى مفعولَيْن، حذف أولهما استغناءً عنه. و {أَوِ} للتخيير.
وقيل: نزلت حين قالت اليهود: إنَّك لَتُقِلُّ ذكرَ الرَّحمن وقد أكثرَه الله - تعالى - في التَّوراة
(3)
.
والمعنى: أنهما سيَّان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود، ويعضده قوله:
{أَيًّا مَاتَدْعُوا} . أصله: إلَّا ما تدعوه فهو حسنٌ، فوُضِعَ موضعَه.
{فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} للمبالغة والدَّلالة على ما هو الدَّليل عليه. وكونها حُسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 123).
(2)
انظر: "البرهان في علوم القرآن"(2/ 160).
(3)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(4/ 88)، وابن الجوزي في "زاد المسير"(5/ 99) عن الضحاك.
والتَّنوين في {أَيًّا} عوض عن المضاف إليه، و {مَّا} صلة لتأكيد ما في (أيّ) من الإبهام، والضَّمير في (له) للمسمَّى؛ لأنَّ التَّسمية له لا للاسم.
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} : بقراءةِ صلاتك، على حذف المضاف؛ حتى لا يَسمع المشركون؛ فإن ذلك يحملهم على السَّبِّ واللَّغو فيها.
{وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} كلَّ المخافتة حتى لا تُسمع مَن خلفَك من المؤمنين.
والمخافتةُ: خفضُ الصَّوت.
{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ} : بينَ الجهر والمخافتة {سَبِيلًا} : وسطًا؛ فإنَّ خير الأمور أوسطُها.
وقيل: معناه: لا تجهر بصلاتك كلِّها، ولا تخافت بها بأسرها، وابتغ بين ذلك سبيلًا؛ بالإخفات نهارًا والجهرِ ليلًا.
* * *
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} فيه ردٌّ لمن قال: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولمن قال:{الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولمن قال: الملائكة بنات اللّه.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : في الألوهيَّة، وفيه رَدٌّ للثَّنويَّة القائلين بتعدُّد الآلهة.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} من اليهود؛ لأنَّهم أذلُّ النَّاس، ففيه رد لقولهم:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
وقال الحسين بن الفضل: يعني: لم يذلَّ فيحتاجَ إلى وليٍّ وناصرٍ، فيجيرَه من الذُّلِّ بعزَّته وكبريائه
(1)
.
وهذا قول حسن يعضده قوله:
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} التكبير أبلغ لفظةٍ للقرب في معنى التَّعظيم والإجلال، وإنَّما أكِّدَ بالمصدر تحقيقًا له، وإبلاغًا في معناه.
ولَمَّا كان اتِّخاذ الوليِّ قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماءِ من الذُّلِّ، وقد يكون بالتَّفضُّل والرَّحمة لمن والى
(2)
من عباده الصَّالحين، كانَ النَّفيُ لمن ينتصر به من أجل المذلَّة، أو كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهَيْن، فنفى الجهةَ التي لأجْل النقص
(3)
، بخلافِ الولد والشَّريك فإنهما نُفيا على الإطلاق لعدم احتمالهما الوجهَين في شأنه تعالى.
وإنَّما رتَّب الحمد على وصفه بنفي الولد والشَّريك
(4)
والذُّل؛ لأنَّ مَن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كلِّ نعمة، فهو الذي يستحق كلَّ الحمد.
وهذه السُّورة الكريمة ابتدأت بتنزيه اللّه تعالى واختُتمت به.
* * *
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 194).
(2)
في (ف): "ولي".
(3)
في (م): "النقض".
(4)
من قوله: "بخلاف الولد
…
" إلى هنا من (م).
سُوْرَةُ الكَهْفِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} في ترتيب استحقاق الحمد على إنزال القرآن تنبيهٌ على عظمِ شأنه مِن بينِ النِّعم الجِسام، وذلك بهدايته إلى ما فيه كمالُ العباد، ودعوتهِ إلى ما به انتظامُ صلاح المعاش والفلاح في المعاد.
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} مِنْ تتمَّة الصِّلة على أنَّه عطف بيان، إذ المعنى: أنزل على عبده الكتاب الكامل في بابه.
قال ابن السِّكيت؛ كلُّ ما ينتصبُ كالحائط والعُود يقال فيه: عَوَج بالفتح، والعِوَج بالكسر: ما كان في أرضٍ أو دِينٍ أو معاشٍ
(1)
.
وما قيل: إنه بالكسر في المعاني، مردود
(2)
بقوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 107].
وتنكيره لتعميم النَّفي أنواعَ الانحراف عن سَنَن الاستقامة، من جهة الاختلال في التَّركيب، والاختلاف في النظم، والتنافي في المعنى.
* * *
(1)
انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 125).
(2)
في هامش (م): "رد لصاحب الكشاف والقاضي".
{قَيِّمًا} على الكتب السَّابقة بالتَّغيير
(1)
والتَّقرير، أو بمصالح العباد، فيكون وصفًا له بالتَّكميل بعد وصفه بالكمال.
وقيل: المراد إثبات الاستقامة والاعتدال. فاتَّجه عليه السُّؤال عن فائدة الجمع بينه وبين العوج؛ فإن المفهوم من أحدهما عَيْنُ ما فُهم من الآخر.
وأجيب: بأنَّ فائدته التَّأكيد، فربَّ مستقيمٍ مشهودٍ له بالاستقامة لا يخلو عن أدنى عوج عند السَّبر والتفحُّص
(2)
.
ويَرِدُ عليه
(3)
- بعد الإغماض عن أنَّ ما ذكر فيما شهد له العباد -: أنَّ ذلك إنما يصحِّح ذكرَ النَّفي عقيب الإثبات دون العكس، وبعدَ اللُّتَيَّا والتي أنَّ التَّأسيس خيرٌ من التَّأكيد، والإفادة أولى من الإعادة.
وانتصابه على الحال من {الْكِتَابَ} ، لا من الضمير في {لَهُ}
(4)
؛ لِمَا فيه من الرَّكاكة التي يجب تنزيه كلام
(5)
اللّه تعالى عنها.
(1)
في (م): "في التغيير".
(2)
في (م): "السبر والتفصح"، وفي (ف):"السير والفحص"، وفي "الكشاف" (2/ 702):(السبر والتصفح).
(3)
في هامش (م): "رد لصاحب الكشاف".
(4)
في هامش (م): "رد العلامة البيضاوي".
(5)
"كلام" من (م).
ولا حاجة إلى تقدير مضمر
(1)
؛ لأنَّ مبناه أن يتعيَّن عطف {وَلَمْ يَجْعَلْ} على {أَنْزَلَ} ، وقد عرفتَ فساد ذلك المعنى
(2)
.
{لِيُنْذِرَ} أطلقه لعموم الجنس وعدم اختصاصه بأحد الفريقين، على ما أفصح عنه قوله تعالى:{أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2] وفي إطلاقه هنا
(3)
دفعُ وهم الاختصاص السابق إلى الفهم من قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا} [الكهف: 4].
{لِيُنْذِرَ} عذابًا {بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} . تقدَّم الكلام عليه في سورة هود عليه السلام.
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} : بأنَّ لهم، وإنْ ضمَّن {وَيُبَشِّرَ} معنى يبيِّن لم يحتجْ إلى الباء.
{أَجْرًا حَسَنًا} : ثوابًا جميلًا في الجنَّة، وأمَّا نفس الجنَّة ففي التَّبشير بها يكفي الإيمان، ولا حاجة إلى العمل الصَّالح عند أهل الحقِّ.
* * *
(3) - {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} .
{مَاكِثِينَ فِيهِ} : في الأجر، أو
(4)
في محلِّه {أَبَدًا} لا إلى غاية.
* * *
(4) - {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} .
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} . خصَّهم بالإنذار بعدَ ما عمَّ الجميعَ؛
(1)
في هامش (م): "رد لصاحب الكشاف".
(2)
في (م): "المبنى".
(3)
في (ك): "هذا".
(4)
"أو" من (ك).
لغاية فحش صنيعهم، ورتَّبه على القول إشعارًا بأنهم استحقُّوا الإنذار به مع قطع النَّظر عن الاعتقاد، وأبهم المنذَر به ليذهب الوهم كلَّ مذهب، وفيه ما لا يخفى من التَّهويل به.
* * *
{مَا لَهُمْ بِهِ} ؛ أي: بما قالوا {مِنْ عِلْمٍ} : شيءٌ من العلم؛ لاستحالة المعلوم. والجملة في موضع الحال؛ أي: قالوا جاهلين به.
{وَلَا لِآبَائِهِمْ} ؛ أي: قلَّدوا
(1)
فيه آباءهم وهم مثلُهم في الجهل.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً}
(2)
؛ عظُمَتْ مقالتُهم هذه في الافتراء على اللّه تعالى.
قراءة الجمهور بالنَّصب على التَّمييز، وقرئ بالرَّفع على الفاعليَّة
(3)
، والأوَّل أولى وأبلغ؛ لما فيه من الإبهام والتَّبيين.
وفيه معنى التَّعجُّب، ومرجعُه إلى تعظيم الأمر في قلوب السَّامعين، كأنَّه قيل: ما أكبرَ كلمةً!
{تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} صفة للكلمة، ووصفها بذلك مع أنَّ العلم الضَّروري حاصلٌ بأنَّ شأن جنسها ذلك، فلا بُدَّ له من فائدة، وهي الإشعار بأنَّه لا ينبغي أن
(1)
في النسخ: "قدروا"، ولعل الصواب المثبت.
(2)
في النسخ: "كبرت كلمة تخرج"، والصواب المثبت.
(3)
نسبت للحسن وعيسى. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 78).
تتَّصف هذه الكلمة بقصد قلبي
(1)
لوضوح بطلانها، فكأنَّه قيل: تخرج بنفسها بلا إخراج منهم، ففيه تأييد لقوله:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} .
{إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} : إلَّا قولًا كذبًا.
* * *
(6) - {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} .
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} (لعلَّ) للتَّرجي في المحبوب والإشفاق في المحذور.
والبخع والبخوع: الإهلاك من شدَّة الوَجد.
{عَلَى آثَارِهِمْ} عبَر عن إدبارهم وتباعُدهم عن التَّصديق بالقرآن على وجهٍ فصيحٍ، شبَّهه وإياهم حين تولَّوا عنه ولم يؤمنوا به، وما تداخله من الوَجْد والأسف على تولِّيهم، بمَن فارقَه أحبَّتُه، فهو يتساقط حسراتٍ على آثارهم، وَيبخَع على نفسه وجدًا عليهم، فالاستعارة تمثيليَّة.
وقرئ على الإضافة
(2)
، وهو للاستقبال إن قرئ:{إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} بالكسر، وللمضي إن قرئ بالفتح
(3)
، بمعنى: لأنْ لا يؤمنوا، فلا يجوز إعمال {بَاخِعٌ} إلَّا إذا جعل حكاية حال
(4)
ماضية لتصوير تلك الحالة في ذهن السَّامع واستحضارها.
(1)
في (ف): "يغضد قلبي"، وفي (م):"بقصد قلب".
(2)
أي: (باخعُ نفسِك)، ذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير"(5/ 104) عن سعيد بن جبير وأبي الجوزاء وقتادة. وهي في "الكشاف"(2/ 704) دون نسبة، والكلام منه.
(3)
ذكرها ابن خالويه في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 78)، والكسر قراءة الجمهور.
(4)
في (ف): "جعل حالًا"، وفي (ك) و (م):"جعل حالها"، والمثبت من هامش (م).
{بِهَذَا الْحَدِيثِ} : القرآن.
{أَسَفًا} مفعول له؛ أي: لفَرْط الحزن، ويجوز أن يكون حالًا.
* * *
(7) - {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ} من الزَّخارف، يرشدك إلى هذا قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24].
{زِينَةً لَهَا} مفعول ثانٍ لـ {جَعَلْنَا} مهو بمعنى: صبَّرنا، ويحتمل الحالَ على أنَّه بمعنى: أوجدنا.
{لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} في تعاطيه، وحسنِ عمل
(1)
الزُّهد فيها، وترك الاغترار بها، ثمَّ زهَّد في الميل بقوله:
(8) - {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} .
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} : ترابًا لا نبات فيه. والجُرُز: الأرض
(2)
التي قطع نباتها، من الجَرْزِ بمعنى القَطْع.
فيه
(3)
تسلية لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين عمَّا احتوته أيدي المترَفين من زينتها.
* * *
(1)
في (م): "العمل".
(2)
"الأرض" من (م).
(3)
"فيه" من (م).
(9) - {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} .
{أَمْ حَسِبْتَ} : بل أحَسِبْتَ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} الكهف: الثُّقْب المتَّسع في الجبل، وما لا يتَّسع منه فهو غار. ذكره القرطبيُّ
(1)
.
والرَّقيم: اسمُ الجبل، أو الوادي، أو القرية
(2)
، أو الكلب، أو لوحٌ رُقِمَتْ فيه أسماؤهم وجُعِلَتْ على باب الكهف.
وقيل: الرَّقيم: أصحاب الغار الذي انطبق عليهم فذكرَ كلُّ واحدٍ منهم
(3)
أصلحَ عمله، وفي هذا خبر معروف أُخْرِج في "الصحيحين"
(4)
.
وقال قومٌ: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرَّقيم بشيء.
{كَانُوا} في بقائهم أحياءً مدَّةً مديدة بلا غذاء.
{مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} ؛ أي: أحسبْتَ أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ بينِ
(5)
آياتنا عجبًا؟ فليس كذلك، بل كلُّ آياتنا عجبٌ، وفي آياتنا ما هو أعجب منهم.
وقال القشيريُّ: أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم حيث أضافه إلى نفسه بقوله: {مِنْ آيَاتِنَا} ، فقلبُ
(6)
العادة من اللّه ليس بمستبدَعٍ
(7)
.
* * *
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 211)، وفيه: (النقب المتسع
…
).
(2)
"أو القرية" زيادة من (م).
(3)
"منهم" سقط من (ك).
(4)
رواه البخاري (2272)، ومسلم (2743)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
"بين" زيادة من (ك).
(6)
في (ك): "وتعليب"، وفي (م):"ونقليب"، وفي (ف):"وتغليب". والمثبت من "لطائف الإرشادات".
(7)
انظر: "لطائف الإشارات"(2/ 378).
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} حين الالتجاء إليه، وروي أنَّهم كانوا شبَّانًا من أبناء الأشراف أرادهم دقيانوس الملك على الشِّرك، فأبوا وهربوا إلى الكهف
(1)
.
{فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} : من خزائن رحمتك الموجبة للمغفرة والرِّزق والأمن.
{وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار.
{رَشَدًا} نصير بسببه مهتدين، أو اجعل
(2)
أمرنا كلُّه هدًى.
والرَّشَد: إصابة الطَّريق المؤدِّي إلى البغية، وكذا الرُّشْد والرَّشاد.
وأصل التَّهيئة: إحداث هيئة الشَّيء.
* * *
(11) - {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} .
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} ؛ أي: منعناهم أن يسمعوا.
قال قطرب: هذا كقول العرب: ضرب الأمير على يد الرَّعية؛ أي: منعهم عن الفساد، وضرب السَّيِّد على يد عبده المأذون [له في التجارة]: إذا منعه من التَّصرف
(3)
.
(1)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(6/ 147) عن محمد بن إسحاق.
(2)
في (ك): "إذا جعل". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 274).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(6/ 157)، و "تفسير القرطبي"(13/ 220). وما بين معكوفتين منهما.
وتخصيص الآذان بالذِّكر لأنَّ النَّوم قلَّما ينقطع إلَّا من جهتِهِنَّ، ولا يستحكِم إلَّا مع تعطُّلها، أشير إلى ذلك في قوله عليه السلام:"ذاك رجلٌ بالَ الشَّيطان في أذنه"
(1)
.
والذَّاهبون إلى أنَّ المعنى: ضربنا عليها حجابًا من أنْ تَسمعَ، ذاهلون عن أنَّ الحجاب لا يناسب آلةَ السمع، ولذلك أُدخل السَّمعُ في قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] تحت الختم دون التَّغشية، على ما اعترفوا به وذكروه في تفسيره.
{فِي الْكَهْفِ سِنِينَ} ظرفان لـ {فَضَرَبْنَا} .
{عَدَدًا} قال الزَّجَّاج: أي: تُعَدُّ عدًّا
(2)
لكثرتها؛ لأنَّ القليل يُعرَف مقداره من غيرِ عَدٍّ
(3)
، فإذا كثر عُدَّ
(4)
.
وأمَّا قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} فهو على القلَّة؛ لأنَّهم كانوا يَعدُّون القليل ويزنون الكثير.
* * *
(12) - {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} .
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} ؛ أي: من نومهم، يقال لمن أُحيى أو أقيم من نومه: مبعوث؛ لأنَّه كان ممنوعًا من الانبعاث والتَّصرف.
(1)
رواه البخاري (3270)، ومسلم (774)، من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
في (ك): "عددًا".
(3)
في (ف): "عدد".
(4)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (3/ 271).
{لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشَّيء إلى الوجود ومشاهدتهِ، وهذا على نحو كلام العرب، وإلَّا فقد كان الله عَلِمَ. ذكره القرطبي
(1)
، فلا حاجة إلى إثبات التَّعليقَين لعلمه تعالى حاليٍّ أو استقباليّ
(2)
.
{أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} المختلفَيْن؛ منهم أو من غيرهم.
{أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} ضَبَط أمدًا لزمانِ لبثهم.
والأمدُ: الغايةُ، وما في {أَيُّ} من معنى الاستفهام علِّق عنه {لِنَعْلَمَ} ، فهو مبتدأٌ و {أَحْصَى} خبره، وهو فعل ماضٍ، و {أَمَدًا} مفعوله
(3)
، و {لِمَا لَبِثُوا} حالٌ منه
(4)
، أو مفعول له
(5)
.
وقيل: إنه المفعول، واللَّام مزيدةٌ، و (ما) موصول
(6)
، و {أَمَدًا} تمييز.
وقيل: {أَحْصَى} : اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزَّوائد، كقولهم: هو أحصى للمال، وأفلسُ من ابن المُذَلَّق
(7)
.
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 221).
(2)
رد على البيضاوي في قوله: ({لِنَعْلَمَ}: ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًا مطابقًا لتعلقه أو، تعلقًا استقباليًا). انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 274).
(3)
في (ف) و (ك): "مفعول له".
(4)
أي: من {أَمَدًا} النكرة وجاز لتقدمه. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 79).
(5)
قوله: "أو مفعول له" فاللام للتعليل لازمةٌ لكونه غيرَ مصدر صريح وغيرَ مقارنٍ أيضًا، و (ما) مصدرية غير وقتية. انظر المصدر السابق.
(6)
قوله: "وقيل .. " الخ، مرَّضه لأنَّ اللام لا تزاد في مثله، و (ما) موصولة بمعنى الوقت، والعائد محذوف؛ أي: فيه، وجوِّز فيها على هذا المصدرية وهو بعيد. انظر المصدر السابق. والممرض هو البيضاوي، وعنه نقل المؤلف.
(7)
رجل من عبد شمس بن سعد بن زيد مناة، وكان لا يجد في أكثر أوقاته في بيته قوت ليلة =
ورُدَّ عليه بأن بناء اسم التَّفضيل من غير الثَّلاثي المجرد شاذٌّ فلا يُقاس عليه، ولأنَّ {أَمَدًا} لا ينصب بأفعل؛ لأنَّه لا يعمل، ولا بـ {لَبِثُوا} ؛ لعدم سداد المعنى عليه، فإنْ زعمْتَ نصبه بإضمار فعل يدلُّ عليه {أَحْصَى} كما في قوله:
وأضربَ منَّا بالسُّيوفِ القوانسا
(1)
[على: نضرب القوانسا] فقد أبعدْتَ المتناوَل وهو قريب، حيث أبيْتَ أنْ يكون فعلًا، ثمَّ رجعْتَ مضطرًا إلى تقديره
(2)
.
لكنَّه مردودٌ:
أمَّا أوَّلًا: فلأنَّ دعواه الشُّذوذَ مذهب أبي عليٍّ، وعند سيبويه هو قياس، وبه أخذ الزَّجَّاج، وعلى اختيار ابن عصفور: أنَّ الهمزة إذا كان لغير النَّقل كـ: أشكلَ الأمرُ، وأظلمَ اللَّيل، يجوز أن يقال: ما أشكلَ هذه المسألة! و: ما أظلم هذا اللَّيل! والهمزة في {أَحْصَى} ليست للنَّقل
(3)
.
وأما ثانيًّا: فلأنَّ قولَه: إن أفعل لا يعمل؛ ليس بصحيح؛ لأنَّه يعمل في التَّمييز، ومَن زعم أن {أَحْصَى} اسم تفضيل لم يجعله مفعولًا به، بل جعله تمييزًا، ومثله ما
(4)
يقال: زيد أقطع النَّاس سيفًا.
= واحدة. انظر: "جمهرة الأمثال"(2/ 107).
(1)
عجز بيت للعباس بن مرداس، وصدره:
أكرَّ وأحمى للحقيقة منهم
انظر: "الأصمعيات"(ص: 205)، و "الحماسة" بشرح المرزوقي (1/ 441)، و "الخزانة" (8/ 319). والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الفارس.
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 706) وما بين معكوفتين منه.
(3)
انظر: "البحر المحيط"(14/ 232).
(4)
في (ك) و (م): "بما".
وأمَّا ثالثًا: فلأنه يجوز أن يكون
(1)
نصب {أَمَدًا} على نزع الخافض، تقديره: لما لبثوا من أمدٍ، على أنَّ الأمد بمعنى المدَّة. ولعل هذا مراد الطَّبري حيث ذهب إلى
(2)
نصب {أَمَدًا} بـ {لَبِثُوا}
(3)
.
وأمَّا رابعًا: فلأن اسم التفضيل ينصب المفعول به في مذهب الكوفيين، فلا اضطرار إلى تقدير فعل، إنما ذلك على تقدير ثبوت نزول القرآن على مذهب البصريين، وأنَّى ذلك
(4)
.
* * *
{نَحْنُ نَقُصُّ} قد مرَّ تفسيره في سورة يوسف عليه السلام.
{عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} النَّبأُ: خبرٌ ذو شأن {بِالْحَقِّ} : بالصِّدق.
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} : جمع فتًى، كصبيٍّ وصِبْيَة {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} الرَّبُّ: السَّيِّد النَّاظر في مصلحة عبيده، وللإشعار بذلك عدل عن: آمنوا بنا.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} بالتَّثبيت.
* * *
(1)
"أن يكون" من (م).
(2)
في (ك): "إلى أن".
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(15/ 178).
(4)
انظر: "البحر المحيط"(14/ 232)، وهذه الردود على الزمخشري منقولة منه مع شيء من الاختصار والتصرف.
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} من المجاز: ربط الله على قلبه: صبَّره، ومنه: رابط الجأش، لمَّا كانَ الخوف والقلق يزعج القلوب عن مقارِّها - ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]- قيل في مقابِله: ربط قلبه، إذا تمكَّن وثبت، وهو تمثيل.
والعدول من التَّعدية إلى (على) من باب: (يجرحْ في عراقيبها)
(1)
؛ للمبالغة.
{إِذْ قَامُوا} على قدم الصِّدق، مجازٌ؛ يُقال: قام إلى أمر كذا: إذا عزم عليه بغاية الجِدِّ.
{فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} لم يقل: (رباً) لأنَّ جهة توحُّده تعالى ألوهيَّةً لا ربوبيَّة.
{لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} والله لقد قلنا إذاً قولاً
(2)
شططاً.
والشَّططُ: الخروج عن الحدِّ بالغوا فيه، يقال: شَطَّ منزلُ فلان: إذا جاوز القَدْر في البعد، مصدر وُصِفَ به للمبالغة.
* * *
(1)
قطعة من بيت لذي الرمة يمدح نفسه، وهو في ديوانه (1/ 156)، وتمامه:
وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها
…
إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
(2)
"قولًا" من (ك).
{هَؤُلَاءِ} مبتدأ {قَوْمُنَا} عطف بيان {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} خبره. وهو إخبار في معنى إنكار.
{لَوْلَا يَأْتُونَ} {لَوْلَا} حرف تخضيضٍ بمعنى: هلَّا، صحبه الإنكار.
{عَلَيْهِمْ} على ألوهيَّتهم {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} : بحجَّة بالغة ظاهرة.
فيه دليل على فساد التَّقليد في أصول الدِّين.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة الشَّريك إليه تعالى.
* * *
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} خطاب مِن بعضِهم لبعضٍ، والاعتزال يشمل الجسمانيَّ والقلبي من مفارقة قومهم ومعتقداتهم.
{وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} عطف على الضَّمير المنصوب، سواءٌ كان (ما) موصولة
(1)
أو مصدرَّية، والاستثناء متَّصل إن كانوا يعبدون الله تعالى مع آلهتهم، ومنقطِع إن لم يعرفوه
(2)
تعالى.
ويجوز أن تكون {وَمَا} نافيةً على أنَّه إخبار من الله تعالى عن الفتية
(3)
بالتَّوحيد، معترِض بين (إذ) وجوابه تحقيقاً لمضمون الجملة.
(1)
في (ك) و (م): "موصولاً".
(2)
في (م): "يعرفونه".
(3)
في النسخ: "الغيبة"، والتصويب من البيضاوي وأبي السعود والآلوسي.
{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ} : يبسطِ الرِّزق لكم ويوسِّع عليكم {مِنْ رَحْمَتِهِ} في الدَّارين.
{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} : ما ترتفقون به؛ أي: تنتفعون. قالوا ذلك ثقةً بفضل الله وقوَّةً في رجائهم.
وقرئ: {مَرْفِقاً} بفتح الميم وكسر الفاء
(1)
.
قال الجوهري: مَنْ قرأ: {مِرْفَقًا} ، جعله مثل مِقْطَعٍ، ومن قرأ:{مِرْفَقًا} جعله اسماً مثل مَسْجِدٍ، ويجوز: مَرْفَقاً؛ أي: رفقاً، مثل: مَطْلَعٍ، ولم يُقرأ [به]
(2)
.
* * *
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} الخطاب للنَّبيِّ عليه السلام، أو لكلِّ أحد
(3)
، والمعنى: إنَّك لو رأيتهم لرأيتهم كذا، لا أنَّ المخاطب رآهم على التَّحقيق.
{تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} : تنحَّى وتميل، فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيَهم، وأصله: تتزاور، فأُدغمت التَّاء في الزَّاي.
(1)
وهي قراءة نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 142).
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (مادة: رفق)، وما بين معكوفتين منه.
(3)
في (ف): "واحد".
وقرئ بحذفها
(1)
، وقرئ:{تَزَاوَرُ} كتَحْمَرُّ
(2)
، و (تَزْوارُّ) كتَحْمَارُّ
(3)
، وكلُّها من الزَّور بمعنى الميل.
{ذَاتَ الْيَمِينِ} : جهة اليمين
(4)
، وحقيقتُها: الجهة المسمَّاة باليمين.
{وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} قال الخليل في "كتاب العين": إذا عدلْتَ عن شيء في مسيرك قلت: قرضْتُ يمنةً أو يسرةً
(5)
.
في تعدية القرض إيَّاهم دون الكهف - على خلاف تعدية {تَزَاوَرُ} - دلالةٌ على أنَّ الشَّمس كانت تدخل الكهف إذا غربت إلَّا أنَّه لا يقع شعاعها عليهم كيلا ينتبهوا؛ فإنَّ لشعاع الشَّمس وحرها تأثيراً في الانتباه، وهذا من تتمَّة ما قصد بالضَّرب على آذانهم.
{ذَاتَ الشِّمَالِ} يعني: يمين الكهف وشماله؛ لقوله:
{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} ؛ أي: هم في متَّسع داخلَ الكهف، بحيث لا يراهم مَن كان ببابه، وينالهم رَوح الهواء، ولا يؤذيهم كربُ الكهف، وهذا أيضاً مِنْ تتمَّة ما ذُكِرَ.
قيل: وذلك لأنَّ باب الكهف في مقابَلة بنات النَّعش
(6)
، وأقربُ المشارق
(1)
قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 142).
(2)
قرأ بها ابن عامر، والمصدَّر بها قراءة الحِرْميين وأبي عمرو. انظر:"التيسير"(ص: 142).
(3)
نسبت للجحدري وأيوب السختياني وابن أبي عبلة وغيرهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79)، و"المحتسب"(2/ 25).
(4)
"جهة اليمين" زيادة: في (م).
(5)
انظر: "العين"(5/ 50).
(6)
بنات نعش: سبع كواكب تشاهد جهة القطب الشمالي، شبهت بحملة النعش. انظر: "المعجم =
والمغارب إلى محاذاته مشرقُ
(1)
رأس السرطان ومغربُه، والشمسُ إذا كان مدارها مدارَه تطلع مائلةً عنه مقابِلةً لجانبه الأيمن، وهو الذي يلي
(2)
المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر، فيقع شعاعها على جانبيه
(3)
، ويحلِّل عفونته، ويعدِّل هواءه، ولا يقع عليهم فيؤذيَ أجسامهم ويُبليَ ثيابهم.
ومَبناه الغُفول عمَّا في تعرُّضهم من الدِّلالة على دخول الشَّمس في الكهف عند غروبها، ثمَّ إنَّ ما ذكره
(4)
من حكم مقابلة بنات النعش يختلف باختلاف الأقاليم طولاً وعرضاً.
ثمَّ إنَّ قوله: (ولا يقع عليهم فيؤذي أجسامهم ويبلي ثيابهم) إخراجٌ لِمَا وقع في شأنهم من خوارق العادات عن حدِّها ببيان أسبابها العاديَّة، على أن ما ذكره لا يصلح سبباً كافياً.
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} قالوا: {ذَلِكَ} ليسَ إشارة إلى الإيواء، ولا إلى التَّزاور والتَّعرض، بل إلى حفظ الله تعالى إيَّاهم في ذلك الكهف تلك المدَّة الطَّويلة.
مَن تبرَّأ عن اختياره في احتياله، وصدق رجوعه إلى الله تعالى في أحواله، ولم
= الوسيط" (مادة: نعش).
(1)
في (ك) و (م): "ومشرق"، والمثبت من (ف) وهو الموافق لما في البيضاوي وأبي السعود والآلوسي.
(2)
في النسخ: "وهي التي تلي"، والتصويب من البيضاوي وأبي السعود والآلوسي.
(3)
في النسخ: "جانبها"، والمثبت من البيضاوي، وعند أبي السعود:(جنبيه)، وعند الآلوسي:(جنبه).
(4)
في (ك): "ذكر".
يستعن
(1)
بغير الله مِن أشكاله؛ آواه إلى كهف أفضاله، وكفاه جميع أشغاله، وهيَّأ له محلًّا يتفيَّأ فيه من برد ظلاله بكمال إقباله
(2)
.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} بالتَّوفيق {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الذي أصاب الفلاح.
ثناءٌ عليهم بأنهم جاهدوا في الله تعالى، وأسلموا له وجوههم، فلطَف بهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة.
{وَمَنْ يُضْلِلْ} الإضلال من الله تعالى بخلقِ دواعي الإضلال، وعند المعتزلة مؤوَّل بالخذلان.
{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} : مَن يليه ويرشده، والخطاب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو لكلِّ أحدٍ كما في السَّابق واللَّاحق.
* * *
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا} لانفتاح عيونهم وتنفُّسهم، وأمَّا تقلُّبُهم فإنَّما يقع أحياناً، فلا يصلح سبباً لحسبان كلِّ
(3)
لكلِّ مَن يراهم.
وأيقاظ: جمع يَقظ، بضم القاف وكسرها، وهو من
(4)
اليقظان.
{وَهُمْ رُقُودٌ} : نيام.
(1)
في (م): "يستغن".
(2)
انظر: "لطائف الإشارات"(2/ 382).
(3)
في (ف) و (ك): "سببا لكل".
(4)
"من" زيادة من (م).
{وَنُقَلِّبُهُمْ} أضاف التَّقليب
(1)
إلى نفسه لأنَّه بتخليقه، خالياً عن الأسباب العادية وشرائطها.
{ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولو لم يُقلَّبوا لأكلتهم الأرض
(2)
.
و {ذَاتَ} منصوب على الظَّرف؛ لِمَا مَرَّ أنَّ حقيقتها الجهة.
وقرئ: (ويقلبهم) بالياء، والضَّمير لله، و:(تقلُّبَهم) على المصدر منصوباً بالفعل
(3)
، يدلُّ عليه {وَتَحْسَبُهُمْ}؛ أي: وترى تقلُّبهم.
{وَكَلْبُهُمْ} أكثر المفسرين على أنَّه كلبٌ حقيقةً، وكان لصيد أحدهم أو زرعه أو غنمه. ذكره القرطبي
(4)
.
فلا تأييد في قراءة: (وكالبُهم)
(5)
- أي: صاحبُ كلبهم - لِمَا قيل: إنَّه كلب راعٍ مرُّوا به، فتبعهم وتبعه الكلب، بل التَّأييدُ بخلافه؛ إذ الظَّاهر منها أن يكون الكالب من الفتية.
وقالت فرقة: لم يكن كلباً حقيقةً، وإنَّما كان أحدَهم وقد كان قعد عند باب الكهف طليعةً لهم؛ كما سمِّي النَّجم التَّابع للجوزاء كلباً.
(1)
في (م): "التقلب".
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 186 و 191).
(3)
انظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 26)، و"الكشاف"(2/ 709) والكلام منه، و"المحرر الوجيز"(3/ 503)، و"البحر المحيط"(14/ 241).
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 230).
(5)
انظر: "الكشاف"(2/ 709)، و"البحر المحيط"(14/ 242).
وقد حكى أبو عُمر المُطَرِّز أنَّه قرئ: {وكالئهم}
(1)
، وحُمل على هذا الرَّجلِ؛ إذ
(2)
بَسْطُ الذِّراعين واللُّصوقُ بالأرض مع رفع الوجه للتطلُّع
(3)
هيئةُ الرَّبيئةِ المستخفي بنفسه.
ويحتمل أن يراد بالكالب: الكلب.
{بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} أُعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضيِّ؛ لأنَّها حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، ولم يُقصد الإخبار عن فعل الكلب.
وعند الكسائي وهشامٍ، وأبي جعفرٍ من البصريين
(4)
: كونُه بمعنى المضيِّ غيرُ مانعٍ من العمل.
والذِّراع: من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى.
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 504)، و"تفسير القرطبي"(13/ 237)، و"البحر"(14/ 242). ووقع في النسخ تحريف في الاسم وفي القراءة، فالقراءة وقعت فيها:"وكالبهم"، أما الاسم فوقع فيها:"أبو عمرو المطرزي"، والصواب المثبت، وأبو عمر هو محمد بن عبد الواحد البغدادي الزاهد المعروف بالمطرز، لازم ثعلباً فأكثر عنه حتى سمي بغلام ثعلب، توفي سنة (345 هـ). انظر:"وفيات الأعيان"(4/ 329)، و"سير أعلام النبلاء"(15/ 508).
(2)
في النسخ: "إذا"، والصواب المثبت.
(3)
في (ف) و (م): "للتطليع".
(4)
"من البصريين" كذا ذكر المؤلف، والذي في "البحر المحيط" (14/ 242) والكلام منه:(ذهب الكسائي وهشام ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء)، فلعل المؤلف استبدل (من أصحابنا) بـ (من البصريين)، والصواب والله أعلم أن مراد أبي حيان بأصحابه هو: الأندلسيون، فأبو جعفر المذكور هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللخمي، وهو قرطبي جياني الأصل توفي بإشبيلية سنة (592 هـ)، وكان محدثاً مقرئاً مجتهداً في العربية. انظر:"الديباج المذهب"(1/ 210).
{بِالْوَصِيدِ} : بالباب، ولم يكن للكهف بابٌ، فالمراد منه موضع الباب، ولذلك قال أبو روق: فم الشِّعب.
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: لو شاهدتَهم، أصله: الإشراف على الشَّيء ناظراً إليه، ويكنى به
(1)
عن المشاهدة الكاملة، والخطاب لمن في:{وَتَرَى الشَّمْسَ} .
وقرأ ابن كثير بالتَّشديد للمبالغة
(2)
، وقرئ بضم الواو
(3)
.
{لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} : لأعرضْتَ بوجهك عنهم، وانتصب {فِرَارًا} على المصدر إمَّا لـ (فررْتَ) محذوفةً، وأما لـ (ولَّيت)؛ لأنَّه بمعنى: لفررْتَ، أو على العلَّة، أو على الحال.
{وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} : خوفاً يملأ صدرَك بما ألبسهم الله تعالى من الهيبة.
وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم وأجرامهم.
وقيل: لوحشة مكانهم. ويأباه قوله: {مِنْهُمْ} .
والصَّحيح في أمرهم على ما قال ابن عطية: أنَّ الله تعالى حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ليكون لهم ولغيرهم فيهم آيةٌ، ولم يُنكر النَّاهض إلى المدينة
(1)
بعدها في (م): "أي".
(2)
قوله: "وقرأ ابن كثير
…
"، كذا قال، ولعله سهو أو سبق قلم، فليس هنا خلاف في القراءة، ويدل على سهو المؤلف عبارة البيضاوي (3/ 276):(وقرأ الحجازيان: {لَمُلِّئْتَ} بالتشديد للمبالغة) وستأتي.
(3)
نسبت لابن وثاب والأعمش. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 451)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 78)، و"المحتسب"(1/ 55)، و"المحرر الوجيز"(3/ 504)، و"البحر المحيط"(14/ 243).
إلَّا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمَّ
(1)
وأيضاً لَمَا قال بعضهم لبعض
(2)
: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
وقيل: لانفتاح
(3)
عيونهم.
وقيل: لوحشة مكانهم
(4)
.
وبالجملة: كان النَّاس محجوبين عنهم
(5)
بالرُّعب، لئلَّا يصلوا إليهم.
وقرئ: {وَلَمُلِئْتَ} بالتَّشديد
(6)
للمبالغة.
و {رُعْبًا} مفعول ثانٍ، أو تمييز، وقرئ {رُعْبًا} بضمِّ العين
(7)
.
* * *
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} البعثُ: التَّحريك عن سكون، أي: أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليه من هيآتهم لم يتغيَّر شيء من أبدانهم وثيابهم.
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 505).
(2)
"لبعض" زيادة من (ك).
(3)
في (ف): "لانتفاخ".
(4)
هذا القيل تكرار لا داعي له.
(5)
"عنهم" من (م).
(6)
قرأ بها ابن كثير ونافع. انظر: "التيسير"(ص: 143).
(7)
قرأ بها ابن عامر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 143).
{لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} : ليسأل بعضُهم بعضاً، ويتعرَّفوا ما لهم وما صنع الله تعالى بهم، فيَعتبروا ويستدلُّوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقيناً، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم، ويستبصِروا به أمر البعث.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} دخلوا الكهف في أوَّل النَّهار فنظروا حين استيقظوا فإذا هو آخرُه
(1)
، فقالوا:{لَبِثْنَا يَوْمًا} ، ثمَّ رأوا من الشمس بقيَّة فقالوا:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، وكان عندهم كذلك، فلم يوصَفوا فيه بالكذب، ولم
(2)
يؤاخَذوا به.
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إنكاراً عليهم من بعضهم.
استدلَّ ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما بهذه الآية على أنَّ الصَّحيح من الأقوال في عددهم أنهم سبعة؛ بناءً على أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة
(3)
.
قيل: إنهم دخلوا الكهف غدوةً، وكان انتباههم بعد الزَّوال، فظنُّوا أنَّهم في يومهم، فلمَّا نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. وفيه نظر قد مرَّ وجهه.
ولَمَّا أخذهم ما يأخذ مَن نام طويلاً من الحاجة إلى الطَّعام قالوا:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} كأنَّهم قالوا: خذوا فيما يهمُّكم، ودعوا أمر ذلك إلى الله تعالى.
{بِوَرِقِكُمْ} قرئ بكسر الرَّاء وسكونها، والتَّثقيل وإدغام القاف في الكاف،
(1)
في (ف): "آخر"، وفي (م):"آخر النهار".
(2)
في (ف) زيادة "يقل".
(3)
يعني: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} هذا واحد، ثم:{قَالُوا لَبِثْنَا .. قَالُوا رَبُّكُمْ} فالجمع في كل من {قَالُوا} الأول والثاني إذا كان أقله ثلاثة أصبحوا ستة، فيكون المجموع سبعة.
وبالتَّخفيف مكسور الواو مدغماً وغير مدغم، ورُدَّ الإدغام لالتقاء السَّاكنين على غير حدِّه
(1)
.
والوَرِقُ: الفضَّةُ المضروبة. نصَّ عليه في "الصحاح" و"القاموس"
(2)
.
كانوا قد استصحبوا حين خرجوا دراهمَ لنفقتهم، وكانت حاضرةً عندهم، فلهذا أشاروا إليها بقولهم:{هَذِهِ} .
{إِلَى الْمَدِينَةِ} هي طَرَسوس.
{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} الضَّمير للمدينة والمراد أهلها بطريق الاستخدام، والمصير في أمثال هذا إلى الحذف مِن ضِيق العَطَن
(3)
.
{أَزْكَى طَعَامًا} : أكثر بركة، قال ابنُ عبَّاس وعليٌّ رضي الله عنهما: إنَّه الأرزُّ
(4)
؛ فإنَّه يزاد بالطَّبخ، وهو من تدبير قليل البضاعة.
(1)
قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة بإسكان الراء وباقي السبعة بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 143). وقرأ أبو رجاء بكسر الواو والراء والإدغام، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وإسكان الراء والإدغام. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79)، و"الكشاف"(2/ 710)، و"المحرر الوجيز"(3/ 505)، و"البحر المحيط"(14/ 245). ونقل المؤلف كل ما ذكر من "تفسير البيضاوي"، وقال الشهاب شارحا ومعلقا: والتخفيف تسكين الراء والتثقيل كسرها مع فتح الواو فيهما، وقوله (أي: البيضاوي): وغير مدغم، لم يذكره جار الله، وأمّا التثقيل وكسر الواو فلم يقرأ به. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 85).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: ورق)، و"القاموس المحيط" (مادة: ورق).
(3)
(من ضيق العطن)؛ أي: من ضيق مجاله في المعاني والبيان، والأصل في (العطن): مبرك الِإبل عند الماء. وقوله: "والمصير في أمثال هذا
…
" إلى هنا من (م).
(4)
لم أقف عليه، وذكره القرطبي دون عزو كما سيأتي.
وفي "تفسير القرطبي": قيل: إنهم أمروه أن يشتري ما يُظنُّ أنَّه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يُطَّلَع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة، ولهذا قيل: ذلك الطعام الأرز
(1)
.
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} ؛ أي: ويتكلَّفْ في استعمال
(2)
دقائق التَّدبير في دخول المدينة وشرائه الطَّعام، فلا يُعلم به في ذهابه وإيابه.
{وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} : ولا يفعلنَّ ما يؤدي إلى الشُّعور بكم.
* * *
والضمير في: {إِنَّهُمْ} عائدٌ على ما دلَّ عليه المعنى من أهل تلك المدينة.
{إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} : إنْ يطَّلعوا عليكم، أو إن يظفروا بكم {يَرْجُمُوكُمْ}: يقتلوكم برمي الحجارة {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} : يصيِّروكم فيها.
وقيل: العود على معناه الشَّائع؛ لأنهم كانوا أوَّلاً على دينهم ثم آمنوا، وإنما لم يقل:(إليها) لأنَّه لا يلزم من العود إلى الشيء التلبُّسُ به.
{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} : ولن تفوزوا بخير أبداً إن ارتدَّيتُّم
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 237).
(2)
في (ف): "استعماله".
(3)
في (ف) و (ك): "أردتم".
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} المفعول محذوف، تقديره
(1)
: أعثرناهم عليهم؛ أي: كما أنمناهم وبعثناهم لتزداد
(2)
بصيرتهم أطلعناهم عليهم، وأصله: أنَّ مَنْ عثر برجله على شيء وهو غافل نظر إليه حتى يعلمه، فاستُعير العثور للظهور.
{لِيَعْلَمُوا} ؛ أي: ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث، أو الموعود الذي هو البعث {حَقٌّ} لأنَّ حالهم في نومتهم
(3)
وانتباههم بعد المُدَد المتطاولة كحالِ مَن يموت ثم يُبعَث.
{وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} : وأنَّ القيامة لا ريب في إمكانها؛ فإنَّ مَنْ توفَّى أنفسهم وأمسكها ثلاث مئةٍ سنينَ حافظاً أبدانَهم عن التَّحلُّل والتَّفتُّت، ثمَّ أرسلها إليهم قَدَرَ أن يتوفَّى نفوس جميع النَّاس ممسكاً إيَّاها إلى أن يَحشر أبدانها فيردَّها عليهم.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ} ظرف لـ {أَعْثَرْنَا} .
{بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أمْرَ الفتية حين أماتهم الله تعالى ثانياً، فقال بعضهم
(4)
: ماتوا، وقال آخرون: ناموا نومَهم أوَّل مرَّة.
(1)
في (ك) و (م): "التقدير".
(2)
في (ف) و (م): "ليزدادوا".
(3)
في (ك): "نومهم".
(4)
في (ك): "قوم"، وسقطت من (ف).
{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ} ، أي: على باب كهفهم {بُنْيَانًا} لئلَّا يتطرَّق إليهم النَّاس والدَّواب، ولا يتعرضَ لهم السِّباع.
{رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} بأحوالهم أنَّهم ماتوا أو ناموا.
{قَالَ} ولم يقل: (وقال) لأنَّه لم يُذْكَر في معرض المنازعة.
{الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} ؛ أي: قال عظماؤهم بعد الاتِّفاق على البناء عليهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} يُصلَّى فيه ويُتبرَّك بمكانهم.
* * *
{سَيَقُولُونَ} الضمير لمن خاض في قصَّتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين:
{ثَلَاثَةٌ} هم ثلاثة رجال {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، أي: جعَلهم أربعةً بانضمامه إليهم، قيل: هو قول اليهود.
{وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قاله النَّصارى، وإنما لم يذكره بالسِّين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه.
{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} : يرمون رمياً بالخبر الخفيِّ الذي لا مطَّلع لهم عليه.
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قاله المسلمون بإخبار الرَّسول عليه
السلام عن جبريل
(1)
على ما أنبأ عنه إخراج هذا القول
(2)
عن حيِّز الرَّجم بالغيب.
وأمَّا إتباعُه قولَه: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فلا دخل له في الإنباء المذكور.
ولا دلالة في قوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أنَّ ذلك القليل من جنس الإنس حتى يتمشَّى أن يُقال: أثبت العلم بهم لطائفةٍ بعد ما حصر أقوال الطَّوائف في الثَّلاثة المذكورة؛ فإنَّ عدم إيراد الرَّابع في نحو هذا المحل دليل العدم، مع أنَّ الأصل ينفيه، ثم ردَّ الأوَّلَيْنِ بالإتباع المذكور ليتعيَّن الثَّالث
(3)
.
وأمَّا التَّمسُّك بالواو بأنْ يقال: إنَّها
(4)
دخلت على الجملة الواقعة صفةً للنَّكرة، تشبيهاً لها بالواقعة حالاً عن المعرفة؛ لتأكيد لصوق الصِّفة بالموصوف، والدِّلالة على أنَّ اتِّصافه بها أمر ثابت
(5)
= فضعيفٌ؛ لأنها من المحكيِّ لا من الحكاية، فدلالتُها على الثُّبوت عند القائل، لا عند الله تعالى.
نعم لو قيل: إنَّها تدلُّ على تصديق القائلين بأنَّهم سبعة؛ لأنَّها عاطفة على كلام
(6)
مصدَّق، تقديره: نعم وثامنهم كلبهم؛ كما إذا قال قائل: زيدٌ شاعرٌ، وقيل: وفقيهٌ أيضاً؛ أي: نعم، وفقيه أيضاً.
(1)
في (ف) و (ك): "وحي"، والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(3/ 277).
(2)
في (ف): "إخراج"، وفي (ك):"إخراجه".
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 277). وقوله: ثم رد بصيغة الماضي معطوف على حصر، وقيل إنه مصدر مجرور معطوف على ما حصر وما مصدرية. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 88).
(4)
في (ف) و (ك): "بالواو بأنها".
(5)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 277) ..
(6)
في (ف) و (ك): "الكلام".
وفي الخبر: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أَفضلت الحمر؟ قال: "وبما أفضلت السِّباع"
(1)
. قال السُّهيْلي: يريد: نعم وبما أفضلت السِّباع
(2)
.
وقال جماعة ومنهم الإمام أبو منصور الماتُريدي: لم يبيِّن اللهُ تعالى ذلك لأهل الكتاب ولا لنبيِّه عليه السلام، ولو كان أعلمه لم يقل:{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} ؛ لأن علمه به يغنيه عن السُّؤال عنهم
(3)
.
{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} : فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلَّا جدالاً ظاهراً غير متعمّق فيه، وهو أن تقصَّ عليهم
(4)
ما أوحى الله تعالى إليك فحسب، من غير تجهيلٍ لهم ولا تعنيفٍ لهم في الرَّدِّ عليهم.
{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : ولا تستفتِهم من جهتهم. قاله
(5)
ابن عبَّاس ومجاهد وقتادة
(6)
.
روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السُّؤال. ذكره القرطبي
(7)
.
(1)
رواه الدارقطني في "سننه"(175) و (176) من حديث جابر رضي الله عنه وضعفه. وضعف الحديث النووي في "المجموع"(1/ 232).
(2)
انظر: "أمالي ابن سمعون"(1/ 384)، و"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود"(14/ 76).
(3)
انظر: "تأويلات أهل السنة"(7/ 156).
(4)
"عليهم" من (ف).
(5)
في النسخ: "قال"، والصواب المثبت.
(6)
رواه عنهم الطبري في "تفسيره"(15/ 222 - 225).
(7)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 249). وانظر أيضاً: "معاني القرآن"(2/ 138)، و"الوسيط" للواحدي (3/ 143).
(23) - {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} .
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} : لأجل شيء تعزم عليه {إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ} الشَّيء.
إنَّما قال: {فَاعِلٌ} بالتَّنوين دون الإضافة لمكان قوله:
{غَدًا} ومبنَى ذلك على قاعدةٍ ذكرناها في تفسير: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
* * *
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : إلَّا بأنْ يشاء الله؛ أي: إلا ملْتبساً بمشيئة الله
(1)
قائلاً: إن شاء الله.
وهذا نهيُ تأديبٍ مِن اللهِ تعالى لنبيِّه عليه السلام حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين. فسألوه فقال:"ائتوني غداً أخبركم" ولم يَستثنِ، فأبطَّأ
(2)
عليه الوحي حتَّى شقَّ عليه، وكذَّبته قريشٌ
(3)
.
فقوله: {غَدًا} بمعناه الحقيقيِّ، لا بمعنى ما يُستقبل من الزَّمان، وعدمُ اختصاص الحكم به من جهة دلالة النَّص لا من جهة عبارته.
(1)
في (ف) و (ك): "أي ملتبساً أي بمشيئته".
(2)
في (ف): "فبطأ".
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 668). ورواه ابن إسحاق في "السير والمغازي"(ص: 201): حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكره مطولاً.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ} ؛ أي: مشيئةَ ربِّك، وقل: إن شاء الله، كما رُوي أنَّه لما أنزل قال عليه السلام:"إن شاء الله"
(1)
.
{إِذَا نَسِيتَ} إذا فرَط منك نسيانٌ لذلك ثمَّ تذكَّرتَه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد سنةٍ ما لم يحنث
(2)
.
قال القرطبي: هذا في تداركه التبرُّك
(3)
بالاستثناء للتَّخلُّص
(4)
عن الإثم، وأما الاستثناء المغيِّر حكماً فلا يصحُّ إلَّا متَّصلاً
(5)
.
ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربَّك بالتَّسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء؛ مبالغةً في الحثِّ عليه.
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} : يدلَّني {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} : لأقرب رشداً وأظهرَ دلالةً على أنِّي نبيٌّ مِن نبيٌّ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك، من حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلُّ
(6)
.
والظَّاهر أن يكون المعنى: إذا نسيْتَ شيئاً فاذكر ربَّك عند نسيانه
(7)
، وذِكْرُ ربِّك عند نسيانه أن تقول: عسى ربِّي أن يهديني لشيء آخر بدلَ هذا المنسيِّ أقرب منه
(1)
في "الفتح السماوي" للمناوي (2/ 794): أخرجه ابن مردويه.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 225)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11069)، والحاكم في "المستدرك"(7833) وصححه.
(3)
"التبرك" سقط من (ف) و (ك)، وفي (م):"الترك"، والمثبت من "تفسير القرطبي".
(4)
في النسخ: "والتخلص" والمثبت من "تفسير القرطبي".
(5)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 251).
(6)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 278).
(7)
"عند نسيانه" من (م).
رشداً، أو
(1)
أدنى خيراً ومنفعةً منه، ولعلَّ النِّسيان كان خيراً، لقوله تعالى:{أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106].
* * *
(25) - {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} .
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} يريد لبثهم فيه أحياءً مضروباً على آذانهم.
{ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} قرأ حمزة والكسائي بالإضافة
(2)
، على وضع الجمع موضع الواحد في التَّمييز، كقوله:{بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103].
ومَن قال: على وضع الجمع موضع الواحد، ويحسِّنه هاهنا أنَّ علامة الجمع فيه جبر لِمَا حذف من الواحد، وأنَّ الأصل في العدد إضافته إلى الجمع
(3)
= فقد تدافع طرفا كلامه؛ لأنَّ مبنى قوله: (على وضع الجمع موضع الواحد) هو أن يكون الأصل الإضافةَ إلى الواحد
(4)
.
وقرأ الجمهور بتنوين {مِائَةٍ} ونصبِ {سِنِينَ} على أنَّه عطفُ بيان، وحملُه على البدليَّة ضعيفٌ؛ لأنَّه يلزم أن لا يكون العدد مقصوداً
(5)
.
{وَازْدَادُوا تِسْعًا} قيل: إنهم لبثوا ثلاثَ مئةِ سنةٍ شمسيَّةٍ بحساب الأمم، ولما
(1)
في (ك): "و".
(2)
انظر: "التيسير"(ص: 143).
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 278).
(4)
في هامش (م): "قال القرطبي نقلاً عن أبي علي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد قد تضاف إلى الجموع. منه".
(5)
في (ف) زيادة: "وأن".
كان الإخبار هنا للعرب ذُكرت التِّسع؛ إذ المفهوم عندهم من السِّنين القمريَّة، فهذه الزِّيادة هي ما بين الحسابَيْن، فهو بيان لما أجمله تعالى قبلُ.
وقيل: إنَّه حكاية كلام أهل الكتاب؛ فإنَّهم اختلفوا في مدَّة لبثهم، كما اختلفوا في عددهم؛ فقال بعضهم: ثلاث مئةٍ، وقال بعضهم: ثلاثَ مئة وتسعَ سنين.
* * *
ويعضده قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه: (وقالوا لبثوا)
(1)
، وقولُه تعالى:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} .
{لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ما غاب فيهما وخفيَ من أحوال أهلهما
(2)
، وأنَّه هو وحده العالمُ به.
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أمران معناهما: إنشاءُ التَّعجب.
والهاء في {بِهِ} لله، محلُّه الرَّفع على الفاعليَّة عند سيبويه؛ لأنَّ أصله عنده: صار ذا بصر، كأَغَدَّ البعيرُ: صار ذا غدة، ثمَّ نُقِلَ إلى التَّعجُّب، وغُيِّرَ إلى صيغة الأمر؛ لأَنَّه إنشاءٌ، والتَّعجُّب إنشاءٌ، فبرزَ الضَّمير لأنَّ ضمير الغائب لا يستتر في أمر المخاطب، وزيدَ الباء. فيه لتأكيد التَّعجُّب، ولخلوه عن الضم لم تختلف صيغته بحسب اختلاف المخاطب إفراداً وتثنية وجمعاً
(3)
.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس (4/ 226)، و "تفسير الثعلبي"(6/ 165).
(2)
في (ك): "أحوالها".
(3)
من قوله: "ولخلوه عن الضم .. " إلى هنا من (م).
وعند الأخفش: منصوبٌ على المفعوليَّة، والفاعل ضمير المخاطب، وهو كلُّ أحدٍ، والهمزة للتعدية، والباء مزيدة.
وعند بعضهم: الهمزة للصيرورة والباء للتعدية
(1)
.
والإتيان بصيغة التَّعجب للدِّلالة على أنَّ أمره تعالى في الإدراك خارج عمَّا عليه إدراك السَّامعين والمبصِرين؛ إذ لا يحجبه شيء، ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف، وصغير وكبير، وخفيٌّ وجليٌّ.
{مَا لَهُمْ} : لأهل السَّماوات والأرض {مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} : من متولٍّ لأمورهم.
{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} : في قضائه {أَحَدًا} منهم، ولا يجعل له فيه مدخلاً
(2)
.
وقرئ بالتاء والجزم على النَّهي
(3)
.
* * *
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} : من القرآن، ولا تَسمع لما يَهذون به من طلب التَّبديل.
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} ؛ أي: لا يقدر أحدٌ غيره على تبديلها.
(1)
"والباء للتعدية" من (م)، وهو الموافق لما في "روح المعاني"(15/ 297)، وهذا القول عزاه الآلوسي للزجاج.
(2)
في (م): "مدخلًا فيه".
(3)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 143).
{وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} : ملتجأً تعدِل إليه إن هممْتَ به.
* * *
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} : واحبسها وثبِّتها {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قد مرَّ تفسيره في سورة الأنعام.
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ؛ أي: لا تَصرف عيناك النَّظرَ عنهم إلى غيرهم، من عدَوْتُه عن الأمر: صرفتُه عنه، وما تصرفُه العين ليس إلا النَّظر، فحُذِفَ لظهوره.
قيل: ولا تجاوزهم نظرَك إلى غيرهم، وتعديتُه بـ (عن) لتضمينه معنى نبا
(1)
. وفيه: أنَّ عدا بمعنى جاوز يتعدَّى بنفسه وبـ (عن).
قال الجوهري: عدَاه: جاوزه، وما لي عن فلان مَعْدًى؛ أي: تجاوُزٌ إلى غيره
(2)
ثمَّ إنَّ معنى الصَّرف أمسُّ للمقام من معنى التَّجاوز.
وقرئ: (ولا تُعْدِ)[و: (لا تُعَدِّ)] من أعداه وعدَّاه
(3)
.
(1)
أي: لما ضمِّن معنى (نبا) عدِّي تعديته، يقال: نبا الشيء عنه ينبو؛ أي: تجافى وتباعد، ونبا بصري عن الشيء: إذا اقتحمه ولم يعلق به. انظر: "حاشية شيخ زاده على البيضاوي"(5/ 472).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: عدا).
(3)
قرأ الحسن: (ولا تُعْدِ) بضم التاء وكسر الدال، وقرأ الحسن وعيسى:(ولا تُعَدِّ). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79)، و"الكشاف"(2/ 717)، والكلام وما بين معكوفتين منه.
{تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حال من الكاف على المشهورة
(1)
، ومن الضَّمير المستتر في الفعل على غيرها، والعامل على الأوَّل أيضاً الفعل السَّابق؛ كما
(2)
سبق في قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
(3)
.
ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، وتوحيد الضَّمير لأنهما عضوٌ واحد في الحقيقة، أو لاتحاد الإحساس، أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر، واستبشاعُ
(4)
إسناد الإرادة إلى العين مندفعٌ بأنَّها كناية عن إرادة صاحبها، كما يقال: تستلذُّه العين أو السَّمع، وإنَّما المستلِذُّ الشَّخصُ.
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} : مَن جعلنا قلبه غافلاً {عَنْ ذِكْرِنَا} وقرئ: (أغفَلَنَا قَلْبُهُ)
(5)
بإسناد الفعل إلى القلب، على معنى: حَسِبَنا قلبُه غافلين
(6)
عن ذكرنا إيَّاه بالمؤاخذة.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قيل: نزلَتْ في أميَّة بن خلف، وذلك أنَّه دعا النَّبيَّ عليه السلام إلى تبعيد الفقراء عنه وتقريب صناديد قريش
(7)
.
(1)
في (ف) و (ك): "المشهور"، والمثبت من (م)، والمراد: القراءة المشهورةُ في السبعة المتواترة. انظر. "حاشية الشهاب"(6/ 96).
(2)
في (ك) و (م): "لما".
(3)
في (م): "فاتبع ملة .. ". وفي "روح المعاني"(15/ 313) نقلا عن "الكشف": "بل ملة
…
".
(4)
في (ك): "واستتباع"، وفي (ف):"والاستتباع". والمثبت من (م)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(5)
نسبت لعمرو بن فائد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79).
(6)
في (ف): "غافلًا".
(7)
انظر: "تفسير الثعلبي"(6/ 166)، و"زاد المسير"(5/ 133).
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ؛ أي: مجاوزاً فيه الحدَّ. ذكره الجوهري
(1)
.
* * *
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} {الْحَقُّ} خبرُ مبتدأ محذوف، و {مِنْ رَبِّكُمْ} حال مؤكِّدة، أو خبرٌ بعد خبر؛ أي: جاء الحقُّ وزاحت
(2)
العلل، فلم يبقَ إلَّا اختيارُكم لأنفسكم ما شئتم.
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ليس هذا بترخيص وتخييرٍ بين الإيمان والكفر، وإنَّما هو وعيدٌ وتهديدٌ، وجيء بلفظ الأمر والتَّخيير لأنَّه لمَّا مكِّن مِن اختيار أيِّهما شاء، فكأنَّه مخيَّر
(3)
مأمورٌ بأنْ يتخيَّر ما شاء من النجدَيْن.
قيل: هو لا يقتضي استقلالَ العبدِ بفعله؛ فإنَّه وإن كان بمشيئته، فمشيئتُه ليست بمشيئة
(4)
.
وكأنَّه زعم أنَّ الأمر بالإيمان والكفر يكون أمراً بجعلهما وإيجادهما حتى قال ما قال، والحقُّ كون
(5)
العبد مأموراً بالكسب فقط، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال.
(1)
انظر: "الصحاح"(مادة: فرط).
(2)
في (ك): "وراحت".
(3)
"مخير" من (ك) و (ك)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 719)، والكلام منه.
(4)
هذا كلام البيضاوي في "تفسيره"(3/ 279).
(5)
في (ف) لعلها: "حرر".
{إِنَّا أَعْتَدْنَا} : هيَّأنا {لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} هو ما يُمَدُّ فوقَ صحن الدَّار. ذكره الجوهري
(1)
.
فارسيٌّ معرَّب، أصله: سَراطاق، لا سَرَايَرْدَه، كما تُوهَّم.
وما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه على ما خرَّجه الترمذي - وقال فيه: حسن صحيح - من قوله عليه السلام: "لِسُرادق النَّار أربعُ جُدُرٍ
…
"
(2)
يعضدُ ما ذكرنا، ويردُّ ما قيل: إنَّه الحجرة
(3)
التي تكون حول الفسطاط، وما قيل: إنَّه الحائط.
{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} من العطش.
{يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} أي: يؤتوا بماء كالمهل
(4)
، وإنَّما قال: يُغاثوا على طريقة:
تحيَّة بينهم ضربٌ وجيعُ
(5)
(1)
انظر: "الصحاح"(مادة: سردق).
(2)
رواه الترمذي (2584)، وقال: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. والمؤلف في نقل التصحيح عن الترمذي تابع في ذلك القرطبي في "تفسيره"(13/ 262).
(3)
كذا في النسخ: "الحجرة"، ومثله في مطبوع "الكشاف"(2/ 719)، وجاء في "تفسير البيضاوي" بهامش "حاشية الشهاب"(6/ 98)، و"فتوح الغيب" للطيبي (9/ 464)، و"روح المعاني" (15/ 321):(الحجزة) بالزاي، قال الشهاب: قوله (أي: البيضاوي): (الحجزة) بالزاي المعجمة، أي: ما يحجز ويمنع من الوصول إليه من خندق ونحوه، أو بالمهملة؛ أي: الحظيرة التي تجعل حوله.
(4)
"أي: يؤتوا بماء كالمهل" زيادة من (م).
(5)
عجز بيت لعمرو بن معدي كرب. انظر: "الكتاب"(3/ 50)، و"النوادر" لأبي زيد (ص: 150)، و"الخزانة"(9/ 265)، وقال البغدادي: ولم أره في شعره. وصدره:
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ
تهكُّماً.
والمُهْلُ: هو ماءٌ غليظٌ كدُرْديِّ الزَّيت
(1)
. ذكره ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
، ويوافقه ما في حديث التِّرمذي عن النَّبيِّ عليه السلام أنَّه قال:"كعَكَرِ الزَّيْتِ"
(3)
.
{يَشْوِي الْوُجُوهَ} : من فَرْط حرارته إذا قُدِّمَ ليُشرَب، وهو صفة ثانية لـ (ماءٍ)، أو حال منه؛ لأنَّه قد وُصِفَ فحَسُن مجيء الحال منه، أو من (المهل)، أو الضميرِ في الكاف.
{بِئْسَ الشَّرَابُ} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوف تقديره: بِئْسَ الشَّرَابُ هو؛ أي: الماء الذي يغاثون به.
{وَسَاءَتْ} النَّارُ {مُرْتَفَقًا} : متَّكأً، وأصله: الاتِّكاء على المرفق، وهذا لمشاكلة قوله:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} ، وإلَّا فلا ارتفاق لأهل النَّار ولا اتِّكاء، إلَّا أن يكون كنايةً عن عدم النُّوم، كما في قوله:
نام الخليُّ وبِتُّ اللَّيل مرتفِقاً
(4)
(1)
دردي الزيت: عكره وما يستقر منه في قعر الإناء. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 98).
(2)
رواه هناد بن السري في "الزهد"(283)، والطبري في "تفسيره"(15/ 249).
(3)
رواه الترمذي (2581) و (2584) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، ورشدين قد تكلِّم فيه. وقد تقدمت قطعة منه قريباً.
(4)
صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو في "ديوان الهذليين"(1/ 104)، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة (1/ 400)، و"تفسير الطبري"(15/ 253)، و"الكشاف"(2/ 619)، ورواية الديوان:"مشتجراً". وعجزه:
كأنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحٌ
الخلي: الذي لا هم له، والصاب: شجرة مرة لها لبن يحرق العين إذا أصابها، والمذبوح: المشقوق.
(30) - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} التَّنكير للتَّقليل.
* * *
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} : إقامةٍ؛ إذ هو وسَط
(1)
الجنان.
وإنما جيء بلفظ الجمع لسعتها، بحيث كان كلُّ بقعة منها صالحةً لأنْ تكون جنَّة.
ويجوز أن يراد بالجنَّات: سائر الجنان، وإضافتها إلى {عَدْنٍ} لأنَّه معظمُها.
والجملة خبر {إِنَّ} ، وما بينهما اعتراض؛ أو
(2)
هو أيضاً خبرٌ على قيام {مَنْ أَحْسَنَ} مقامَ الضمير؛ لأنَّ {مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} : {الَّذِينَ
(3)
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ويأباه التَّقليل
(4)
المستفاد من التَّنكير في {عَمَلًا} ، أو على أن الضمير
(5)
مستغنًى عنه بعموم {مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ، كما هو مستغنًى عنه في قولك: نِعْمَ الرَّجلُ زيدٌ.
وأمَّا حذفه على أنَّ المعنى: مَن أحسن عملاً منهم. ففيه أنَّه يؤذِنُ تنوُّع {الَّذِينَ
(1)
في (ف): "متوسط".
(2)
في (م): "إذ" وهو تحريف.
(3)
في (ف) و (م): "والذين".
(4)
في النسخ: "فيأباه التعليل"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(15/ 326).
(5)
"على أن الضمير" معطوف على "على قيام من أحسن .. ".
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى مَن أحسن عملاً، وإلى مَن لم يحسنه، ولا صحَّة له
(1)
.
أو الخبر هو، و {أُولَئِكَ} كلام مستأنَف لبيان الأجر المبهَم.
ويجوز أن يكون الثَّاني بدلاً عن الأوَّل، فلا يحتاج الأوَّل إلى خبر، كما في قول الشَّاعر:
إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ سربلَهُ
…
سِرْبالَ مُلْكٍ به تُرْجَى الخواتيمُ
(2)
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} قد مرَّ تفسيره في سورة البقرة.
{يُحَلَّوْنَ} : يُجعل لهم حليًّا، بنى التَّحلية للمفعول إشعاراً بأنَّهم يكرَّمون بذلك ولا يتعاطونه بأنفسهم.
{فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ} الأولى للابتداء، والثَّانية للتَّبيين صفةٌ لـ {أَسَاوِرَ} ، وتنكيرها لإبهام أمرها في الحسن، وهي جمع أسورة، والأسورة: جمع سِوار بالكسر: زينةٌ تُلْبَسُ في الزِّند من اليد.
وقال أبو عمرو: واحد الأساور: الأُسْوار بالضَّم
(3)
، وهو بمعنى السِّوار، لا جمعُه.
{وَيَلْبَسُونَ} أسند فعل اللُّبس إليهم لأنَّ الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه، خصوصاً إذا كان باديَ العورة
(4)
.
(1)
هذا على تقدير كون (مِن) تبعيضية، وليس بمتعين لجواز كونها بيانية، ولو سلم فلا بأس به، فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان:"أن تعبد الله كأنك تراه". انظر: "روح المعاني"(15/ 326).
(2)
البيت لجرير. كما في "ديوانه"(بشرح محمد بن حبيب)(2/ 672).
(3)
في "الصحاح"(مادة: سور) عن أبي عمرو بن العلاء: (إسوار).
(4)
في (ك): "مأوى الصورة"، وفي (ف) و (م):"بادي الصورة"، والمثبت من "البحر المحيط"(14/ 272).
{ثِيَابًا خُضْرًا} لأنَّها أحسن الألوان وأكثرها طراوة، وقد روي فيها في ذلك أثر أنها تزيد في ضوء البصر
(1)
.
{مِنْ سُنْدُسٍ} : ما رقَّ من الدِّيباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} : ما غلظ منه، معرَّب فارسيُّه: اصطبرك.
جمع بين النَّوعَيْن للدِّلالة على أنَّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة
(2)
، وهي السَّرير في الحجال، خصَّ الإتِّكاء لأنَّه هيئة المتنعِّمين.
{نِعْمَ الثَّوَابُ} الجنَّة ونعيمها {وَحَسُنَتْ} الأرائك {مُرْتَفَقًا} : متَّكأً.
* * *
(1)
رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(289) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يرفعه: "النظر إلى الخضرة يزيد في البصر والنظر إلى المرأة الحسناء يزيد في البصر". وهو خبر باطل كما في "الميزان" ترجمة أبي الفضل محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث.
ونحوه رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 286) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي إسناده أبو البختري القاضي رمي بالوضع. انظر:"المقاصد الحسنة"(ص: 275).
وقد ذكر هذا الحديث ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 112)، وكذا ابن القيم في "المنار المنيف" (ص: 62) وغيرهما.
ورواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 144)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(10/ 282) موقوفاً على ابن عبَّاس رضي الله عنهما، ولفظه: (ثلاث تجلو البصر: النظر إلى الخضرة
…
).
(2)
في (ف) و (ك): "أريك".
{وَاضْرِبْ لَهُمْ} للكافرين والمؤمنين {مَثَلًا رَجُلَيْنِ} حالَ رجلَيْن مفروضَيْن أو موجودَيْن.
{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ} : بُستانَيْن {مِنْ أَعْنَابٍ} : من كروم.
والجملة بتمامها بيان التَّمثيل، فلا محلَّ لها من الإعراب
(1)
، أو صفة الرَّجلَيْن، [فموضعها النصب].
{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} ؛ أي: جعلناه مُطيفاً
(2)
بهما، وهذا مما يُؤْثِره الدَّهاقين؛ أي: يجعلوها مؤزرةً
(3)
بالأشجار المثمرة.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} : جعلها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه.
وصف العمارة بأنها متواصلةٌ متشابكة لم يتوسطها ما يقطعُها ويفصل بينهما، مع الشَّكل الحسن والتَّرتيب الأنيق.
* * *
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} : ثمرها، وإفراد الضَّمير لإفراد {كِلْتَا} ، ولو قيل:(أتتا) على المعنى لجاز، والمختار هو الأوَّل.
{وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ} ؛ أي: لم تنقص مِنْ أُكُلِها {شَيْئًا} يُعهَد في سائر البساتين.
(1)
قوله: "فلا محل لها من الإعراب"، وقع بعد قوله:"أو صفة الرجلين"، والصواب المثبت. انظر:"البحر"(14/ 275)، و"روح المعاني"(15/ 336)، وما سيأتي بين معكوفتين منهما. ووقع في النسخ:"لا محل له .. " والصواب المثبت.
(2)
في (ك): "جعله مطيفاً"، وفي (م):"جعلته مطبقاً"، وفي (ف):"جعلناه مطيقاً"، والصواب المثبت.
(3)
في (ف) و (ك): "مؤيدة".
{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} ليدومَ شربها، فإنَّه الأصل، ويزيد بهاؤها.
* * *
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} ؛ أي: أنواع المال؛ مِن ثمَّر ماله: إذا كثَّره.
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} الظَّاهر منه أنَّهما ليسا بأخوَين.
{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} ؛ أي: يراجعه في الكلام ويجاوبه، من حارَ: إذا رجع.
{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} : أولاداً، دلَّ على ذلك قول صاحبه:{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} ، والمراد الذُّكور؛ لأنهم ينفرون معه دون الإناث.
* * *
(35) - {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} .
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} بصاحبه ليريَه ما فيها، ويعجِّبَه منها، ويفاخرَه بما ملَكَ من المال دونه.
وإفراد الجنَّة تجريد الكلام
(1)
لما سبق من الغرض، وصوناً له عمَّا يخيِّل أمراً آخر، والغرض هاهنا: بيان ما قاله عند دخول
(2)
جنَّته، والتَّعرُّض لتعدُّدها فضلةٌ في ذلك، وهذا كما تقول إذا رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللَّابس قصير، ولو قلت: اللابسة قصيرة، جئْتَ بما هو لُكْنةٌ
(3)
(1)
قوله: "وإفراد الجنة تجريد الكلام"، كذا في النسخ، ولعله ضرب على ألف (إفراد) في (م)، ولعل صواب العبارة:(وأفرد الجنة تجريداً للكلام) بدلالة ما عطف عليه من قوله: "وصوناً".
(2)
في (ك): "دخوله".
(3)
في (ف): "لكنت"، وفي (م):"لنكتة".
وفضولُ قول؛ لأنَّ الكلام لم يقع في ذكورة اللَّابس وأنوثته، وإنما وقع في غرضٍ وراءهما.
{وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بتعريضها لسَخَطِ الله تعالى، بعُجبه وكفره، وهو أفحش الظُّلم.
{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ} ؛ أي
(1)
: تَهلِكَ {هَذِهِ} : الجنَّة {أَبَدًا} وهذا لاغتراره بانتظام أحواله واطِّراح النَّظر في عواقب أمثاله.
* * *
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} : كائنةً.
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} إقسامٌ منه لاعتقاده
(2)
أنَّه تعالى إنَّما أولاه ما أولى لاستئهاله واستحقاقه إيَّاه لذاته، وهو معه أينما يلقاه، على أنَّه إنْ رُدَّ إلى ربِّه على سبيل الفَرْض.
{لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا} : من جنَّته. وقرئ: {منهما}
(3)
؛ أي: من الجنتين.
{مُنْقَلَبًا} : مرجعاً وعاقبة؛ لأنها فانية، وتلك باقية، وانتصابه على التَّمييز.
* * *
(1)
في (م): "أن".
(2)
"لاعتقاده" من (م).
(3)
قرأ بها نافع وابن كثير وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 143).
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} أراد: خلْقَ أصله آدم عليه السلام، أو أصل مادَّته، وذلك أن ماء الرَّجل يتولَّد من أغذية حاصلة من تراب، فنبَّهه أوَّلاً على ما تولَّد منه بالواسطة، ثم على ما تولَّد منه بالذَّات فقال:
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} فإنَّها مادَّته القريبة.
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} : جعلَكَ إنساناً ذكراً بالغاً مبلغَ الرِّجال سويًّا.
قيل: عدَلَكَ. ويردُّه قوله تعالى: {فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].
جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى؛ لأنَّ منشأ الشَّكِّ في قدرته تعالى
(1)
، ولذلك رتَّبَ الإنكار على خلقه إيَّاه من تراب، كأنَّه يقول: مَن اعترف بخلقه تعالى إيَّاه من التَّراب لا ينكر إعادته منها؛ لأنَّها أهون منه، فالإنكار بالثَّاني لا يجامع الاعتراف بالأوَّلى.
* * *
(38) - {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} .
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} استدراك من قوله: {أَكَفَرْتَ} ؛ لأَنَّه استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ، فهو في الحقيقة إخبار عن كفره.
وأصل {لَكِنَّا} : لكنْ أنا، فحذفت الهمزة، فتلاقَتِ النُّونان، فكان الإدغام.
وقرئ بالألف في الوصل
(2)
؛ لتعويضها من الهمزة، أو لإجراء الوصل مجرى الوقف.
(1)
في (م): "في قدرة الله تعالى".
(2)
وهي قراءة ابن عامر، وفي الوقف جميع السبعة يقرؤونها بإثبات الألف. انظر:"التيسير"(ص: 143).
وقرئ: (لكنْ أنا) على الأصل
(1)
، و {هُوَ} ضمير الشَّأن، وهو بالجملة الواقعة خبراً له خبرُ (أنا)
(2)
، أو ضمير {اللَّهُ} و {اللَّهُ} بدلٌ، و {رَبِّي} خبرُه، والجملةُ خبر (أنا).
وقرئ: (لكنْ هو الله ربي)
(3)
، و:(لكن أنا لا إله إلا الله ربي)
(4)
.
* * *
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} : وهلَّا قلْتَ عند دخولها:
{مَا شَاءَ اللَّهُ} {مَا} موصولةٌ مرفوعةُ المحل على أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديرُه: الأمرُ ما شاء الله، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: ما شاء الله كائن، أو شرطيَّةٌ منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أيَّ شيءٍ شاء الله كان؛ إقراراً بأنَّها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها، وإن شاء أبادها
(5)
.
(1)
نسبت لأبيٍّ والحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79)، و"الكشاف"(2/ 723).
(2)
في (م): "خبر إن" وسقطت من باقي النسخ، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 281)، والكلام منه.
(3)
نسبت لعيسى الثقفي. انظر: "الكشاف"(2/ 723)، و"البحر المحيط"(14/ 284).
(4)
نسبت لابن مسعود. انظر: "الكشاف"(2/ 723) وفيه: (لكن أنا لا إله إلا هو ربي)، وفي "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 79) عن ابن مسعود: (لكن هو الله ربي لا إله إلا هو).
(5)
في النسخ: "أباها"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 281)، والكلام منه. قال الشهاب في "الحاشية": أبادها بمعنى: أفناها وأهلكها.
{لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} وقلتَ: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} اعترافاً بالعجز على نفسك، والقدرةِ لله تعالى، وأن ما تيسَّر
(1)
لك من تعميرها وتدبير أمرها فبمعونته وإقداره.
{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} مَن رفع {أَقَلَّ}
(2)
جعله خبراً، وجعل {أَنَا} مبتدأً، والجملةَ مفعولاً ثانياً لـ {تَرَنِ} ، ومَن نصبه جعل {أَنَا} فصلاً أو تأكيداً للمفعول الأوَّل.
* * *
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} في الدُّنيا أو في الآخرة لإيماني، وهو جواب الشَّرط.
{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} على جنَّتك بكفرك {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} : مراميَ، واحده: حُسبانةٌ، قاله الأخفش وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي: الصَّواعق
(3)
.
{فَتُصْبِحَ} دلَّ على إتيان الحسبان باللَّيل.
{صَعِيدًا زَلَقًا} : أرضاً اصطلم جميعُ ما عليها من النَّبات، كالرَّأس إذا حُلِقَ لا يبقى عليه شعر، مصدر بمعنى المفعول، مِن زَلَق رأسه زَلْقاً: إذا حلَقه.
* * *
(1)
في (ك): "يتيسر".
(2)
هو عيسى بن عمر. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 457)، و"المحرر الوجيز"(3/ 518)، و"البحر المحيط"(14/ 287).
(3)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 193).
(41) - {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} .
{أَوْ يُصْبِحَ} عطف على {وَيُرْسِلَ} ، على تنويع ما ترجَّى إلى آفَةٍ سماويَّة وآفَةٍ أرضيَّة.
{مَاؤُهَا غَوْرًا} ؛ أي: غائراً، مصدر بمعنى الفاعل، يقال: غار الماء غوراً: إذا سفلَ في الأرض.
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ} ؛ أي
(1)
: للماء الغائر {طَلَبًا} : لن تقدر على طلبه؛ لعدم بقاء الأثر منه.
* * *
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} الواو فصيحة عاطفة على مقدَّر هو تحقّق ظنّه، وثمرُه: أمواله، وإحاطتُه عبارةٌ عن إهلاكه بالكليَّة، وأصله من أحاط به العدو، فإنَّ قوماً قد أحاط بهم العدوُّ قلَّما ينجو منهم
(2)
شخصٌ، ثم استعمل في كلِّ إهلاك
(3)
.
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} كنايةٌ عن التَّحسُّر والنَّدم، فإنَّ النَّادم يقلِّب كفَّيه ظهراً لبطنٍ، فكأنَّه قيل: يندم.
{عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} : في عمارتها، فهو متعلِّق بـ {يُقَلِّبُ} ، ويجوز أن يكون حالاً؛ أي: متحسِّراً على ما أَنفَقَ فيها.
(1)
"أي" من (م).
(2)
"منهم" من (ك).
(3)
في (ك) و (م): "هلاك".
{وَهِيَ خَاوِيَةٌ} : ساقطةٌ {عَلَى عُرُوشِهَا} بأن سقط عروشُها على الأرض، وسقط الكروم فوقها.
{وَيَقُولُ} عطف على {يُقَلِّبُ} ، أو حال من ضميره.
{يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} تذكَّر موعظة أخيه، فعلم أنَّه أُتِيَ من جهة شركه وطغيانه، فتمنَّى لو لم يكن مشركاً حتى لا
(1)
يُهلك الله أمواله، ويحتمل أن تكون توبةً
(2)
عن الشِّرك وندماً على ما سبق منه.
* * *
(43) - {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} .
{وَلَمْ تَكُنْ} بالتَّاء والياء
(3)
{لَهُ فِئَةٌ} قد مرَّ ما يتعلَّق باشتقاق (فئة) في آل عمران.
ولَمَّا افتخر بعزَّة نفَره أخبر تعالى أنَّه لم يكن له جماعة يُجْدونه نفعاً
(4)
.
وحُمل: {يَنْصُرُونَهُ} على المعنى دون اللَّفظ؛ أي: يقدرون على نصره بدفع الإهلاك، أو ردِّ المهلَك
(5)
، وأما الإتيان بمثله فليس من النَّصر؛ لأنَّه
(6)
المعونة بالقهر والغَلَبة، لا مطلق المعونة.
(1)
"لا" من (م).
(2)
في النسخ: "توبته"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 282)، والكلام منه.
(3)
قرأ حمزة والكسائي بالياء، والباقون بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 143).
(4)
في (م): "تبعاً".
(5)
(رد المهلك) بفتح اللام؛ أي: ردّه بعينه إن قيل بجواز إعادة المعدوم بعينه، أو بمثله إن لم نقل به. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 104).
(6)
في (ف): "لأن".
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: هو القادر وحده على ذلك.
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} : قادراً على الانتصار بنفسه.
* * *
(44) - {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} .
{هُنَالِكَ} : في ذلك المقام وتلك الحال {الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} : النُّصرة له وحدَه، لا يقدر عليها غيره، تقرير لقوله:{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وقرئ بالكسر
(1)
، ومعناه: السُّلطان والملك؛ أي: هنالك السُّلطان والملك لله تعالى، لا يُغلب ولا يُمتنع عنه.
أو
(2)
في مثل تلك الحالة الشَّديدة يتولَّى
(3)
اللهَ تعالى ويؤمنُ به كلُّ مضطر، فيكون تنبيهاً على أن قوله:{يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} كان عن اضطرار وجزع ممَّا دهاه من شؤم
(4)
كفره، ولولا ذلك لم يقلها.
ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية لله ينصر فيها
(5)
أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم، ويشفي صدورهم من أعدائهم، يعني: أنَّه نَصَر فيما فَعَل بالكافر صاحبَه المؤمن، وصدَّق قولَه:{فَعَسَى رَبِّي} الآية.
وقيل: {هُنَالِكَ} إشارة إلى الآخرة؛ أي: في تلك الدَّار الولاية لله تعالى؛
(1)
أي: {الْوَلَايَةُ} بكسر الواو، قرأ بها حمزة والكسائي. انظر:"التيسير"(ص: 143).
(2)
في النسخ: "و"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 724).
(3)
في النسخ: "يقوى"، والمثبت من "الكشاف".
(4)
في (ك): "شدة"، والمثبت موافق لما في المصدر السابق.
(5)
في (ك) و (م): "بها"، والمثبت موافق لما في المصدر السابق.
كقوله
(1)
: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، ويعضده قوله:{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} .
وقرئ: {الْحَقِّ} بالرَّفع والجرِّ
(2)
، صفةً لـ {الْوَلَايَةُ} و {لِلَّهِ} .
وقرئ بالنَّصب
(3)
على المصدر المؤكِّد
(4)
.
وقرئ: {عُقْبًا} بالسُّكون وبالضَّم
(5)
، وقرئ:(عُقْبَى)
(6)
على فُعْلَى، وكلُّها بمعنى العاقبة.
* * *
{وَاضْرِبْ لَهُمْ} : ومثِّل لهم، من قولهم: هذه الأشياء على ضَرْبٍ واحد؛ أي: مثالٍ واحد.
{مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : صفتَها الغريبةَ
(7)
في سرعة تَقضِّيها
(8)
وذهابِ نعيمها بعد إقبالها واغترار النَّاس بها.
(1)
في النسخ: "لقوله"، والمثبت من المصدر السابق.
(2)
قرأ أبو عمرو والكسائي بالرفع، وباقي السبعة بالجر. انظر:"التيسير"(ص: 143).
(3)
نسبت لعمرو بن عبيد وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79)، و"الكشاف"(2/ 725)، و"المحرر الوجيز"(3/ 519).
(4)
أي: المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة، والناصب له عامل مقدر كما تقول: هذا عبد الله حقاً، أي: الحق لا الباطل. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 105).
(5)
قرأ عاصم وحمزة بإسكان القاف، وباقي السبعة بضمها. انظر:"التيسير"(ص: 143).
(6)
نسبت لعاصم في غير المشهور عنه. انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 519).
(7)
في (ك): "القريبة".
(8)
في (ك): "نقضها".
{كَمَاءٍ} هو كماءٍ {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} ، أي: بالماء، والباء للسببيَّة؛ أي: فالتفَّ بسببه وخالط بعضُه بعضاً من كثرته وتكاثفه، ويجوز أن تكون للتَّعدية؛ أي: نجع في النبات حتى رَويَ ورفَّ
(1)
.
وحقُّ هذه الباء أن تدخل في أقل المخلوطَيْن، وسلك هنا مسلك القلب؛ للمبالغة في كثرة الماء.
{فَأَصْبَحَ} ؛ أي: أتى أمر الله، على ما أفصح عنه في سورة يونس عليه السلام، فالفاء فصيحة، نكتتها الإشعار بسرعة الزَّوال.
{هَشِيمًا} : متكسِّراً
(2)
من اليبس متفتِّتاً {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} : تفرِّقه، وقرئ:(تُذْريه)
(3)
، والتَّشبيه تمثيليٌّ، شبَّه الهيئة
(4)
المنتزعة من أحوال الدنيا بالهيئة المنتزعة من أحوال النَّبات
(5)
، إلَّا أن إيلاء أداة التَّشبيه بالماء لا يخلو عن نوع إشعارِ شَبَهِ الدُّنيا بالماء في أنَّ قليله يَروي وكثيرَه يُردي، كما ورد في الخبر قال عليه السلام:"ذرِ الدُّنيا وخذ منها كالماء؛ فإنَّ القليل منها يكفي، والكثيرَ منها يُطغي"
(6)
.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الإنشاء والإفناء {مُقْتَدِرًا} : قادراً.
(1)
(نجع): دخل، من النجعة وهي الارتحال والحركة - وليس هنا بمعنى: نفع، من قولهم: نجع فيه الدواء إذا نفعه - وإذا دخل فيه فقد خالط أجزاءه حقيقة، و (روي) كرضي؛ أي: تمّ شربه، و (رفَّ) بمعنى: تحرك بلطف لرطوبته ونضرته. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 105).
(2)
في (ف) و (م): "منكسراً".
(3)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79).
(4)
في (م): "والتشبيه تمثيل الهيئة".
(5)
في (ك) و (م): "النباتات".
(6)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 289).
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لأنَّ في المال جَمالاً ونفعاً، وفي البنين قُرَّة ورفعاً.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} : الأعمال الخيِّرات التي تبقى ثمرتها للإنسان أبدَ الآباد، من أيِّ نوعٍ كان من أنواع القول والعمل.
وقيل: هي النيَّات والهَمَّات؛ لأن بها
(1)
يُقبَل العمل ويُرْفَع.
{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} من المال والبنين {ثَوَابًا} : عائدة.
{وَخَيْرٌ أَمَلًا} إذ ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمِّل بها في الدُّنيا.
* * *
{وَيَوْمَ} ؛ أي: اذكُرْ يومَ {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} من سُيِّرتْ، وقرئ:{نُسَيِّرُ}
(2)
من سيَّرنا، و:(تَسِيْرُ) مِنْ سارَتْ
(3)
؛ أي: تَسير في الجو كما يسير السَّحاب، كما قال في آية أخرى:{وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، وهذا بعدَ كونها كالعِهن المنفوش.
ومَن ذهب إلى أنها تسير سيرَ السَّحاب ذهب إلى أن يكون المعنى: يُذهَب بها بأنْ تُجعَل هباءً منبثًّا، فذهب عن صوب الصَّواب.
(1)
"بها"سقط من (ك)، و (ف).
(2)
قرأ الكوفيون ونافع {نُسَيِّرُ} بالنون وكسر الياء، وباقي السبعة بالتاء وفتح الياء، و {الْجِبَالَ} بالنصب على الأولى والرفع على الثانية. انظر:"التيسير"(ص: 144).
(3)
نسبت لابن محيصن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79).
{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} : ظاهرةً ليس عليها ما يسترها من جبلٍ ولا شجر
(1)
ولا بنيان.
وقرئ: (وتُرَى) على بناء المفعول
(2)
.
{وَحَشَرْنَاهُمْ} الحشرُ: السَّوق من جهاتٍ مختلفة إلى مكانٍ واحدٍ، ومجيئه ماضيّا بعد {نُسَيِّرُ} و {وَتَرَى} لتحقيق الحشر.
وقيل: للدِّلالة على أن حشرهم قبل التَّسيير ورؤيتِها بارزة؛ ليعاينوا ويشاهدوا ما وعدلهم، كأنَّه قيل: وحشرناهم قبل ذلك، فلا حاجة إلى جعل الواو للحال بإضمار (قد)، بل لا وجه له، ويردُّه ما دلَّ على أنَّ ذلك قبل الحشر من الآيات، كقوله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13، 14].
{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} بالنُّون والياء
(3)
، يُقال: غادره: إذا تركه، ومنه الغدر
(4)
؛ لأنَّه ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السَّيل.
* * *
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} شُبِّهَتْ حالهم بحال الجند المعروضين على السُّلطان، ولا
(1)
في (ك): "ولا من شجر".
(2)
نسبت لعيسى. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79).
(3)
قرأ بالنون الجمهور، وبالياء عاصم في غير المشهور عنه. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص:80).
(4)
في (ف): "الغدرة".
حاجة إلى ما قيل: لا ليعرفهم، بل ليأمرَ فيهم
(1)
، إنَّما الحاجة إليه إذا شُبِّهَتْ حاله تعالى بحال السُّلطان المعروض عليه جندُه.
{صَفًّا} مفردٌ ينزَّل منزلة الجمع؛ أي: صفوفاً؛ لِمَا ورد في الحديث الصحيح: "يَجمع الله الأوَّليْنَ والآخرِيْنَ في صَعِيْدٍ واحدٍ صُفوفاً"
(2)
. ومَن غفل عن هذا قال: مصطفِّين ولا يحجب أحدٌ أحداً.
{لَقَدْ جِئْتُمُونَا} معمولٌ لقولٍ محذوفٍ تقديرُه: وقلنا، وهو حالٌ، ولا يجوز أن يكون عاملاً في {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ} لِمَا عرفْتَ أنَّه قبل الحشر، وهذا القول بعدَه.
{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ؛ أي: مجيئاً مثلَ مجيء خلقكم.
{أَوَّلَ مَرَّةٍ} ؛ أي: "حفاةً عراةً غُرْلاً"؛ كما ورد في الحديث
(3)
.
وقيل: عراةً لا شيء معكم من المال والولد؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
{بَلْ} للإضراب بمعنى: الانتقال من كلام إلى كلام ليس بمعنى الإبطال.
{زَعَمْتُمْ أَلَّنْ} (أنْ) مخففَّة من الثَّقيلة، وفُصل بينها وبين الفحل بحرف النفي كما فُصل في قوله:{أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3].
(1)
قوله: (ليعرفهم) مضارع عرف منصوب، أو مصدر من التعرُّف مجرور، بيان لأن العرض قد يكون لتعرّف السلطان جنده، وقد يكون لتنفيذ أمره، والمقصود التشبيه بالاعتبار الثاني. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 107).
(2)
رواه البخاري (3361)، ومسلم (194)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (3349)، ومسلم (2860)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
{نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} : مكانَ وعدٍ أو
(1)
زمان وعد لإنجاز
(2)
ما وُعدتم على ألسنة الأنبياء عليهم السلام من البعث والنشور.
* * *
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} : صحائفُ الأعمال في الميزان، أو في أيدي العباد، واحدٌ أريد به الجمع؛ لأَنَّه جنسٌ.
{فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ} الإشفاق: الخوف من وقوع المكروه مع تجويز أن لا يقع.
{مِمَّا فِيهِ} من السَّيئات.
{وَيَقُولُونَ} الواو للحال: {يَاوَيْلَتَنَا} هذه لفظةُ مَن وَقعَ في شدَّةٍ.
والويل: الهُلْك، والنِّداءُ لمن يحضر لهم، كأنَّهم قالوا: يا مَن بحضرتنا انظروا هلكتَنا.
{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} (ما) استفهاميَّة مبتدأ، و (لِ هذا) في موضع الخبر، تقديره: أيُّ شيء لهذا الكتاب؟ تعجيبٌ لشأنه.
(1)
في (م): "و".
(2)
قوله "لإنجاز" تحرف في النسخ إلى: "لا يجاوز"، والتصويب من "الكشاف"(2/ 726)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 283).
{لَا يُغَادِرُ} جملةٌ حاليَّة {صَغِيرَةً} : سيِّئةً صغيرةً، قدَّمها لأنها أَدخَلُ في التَّعجيب {وَلَا كَبِيرَةً} يعني: لا يترك شيئاً من المعاصي.
{إِلَّا أَحْصَاهَا} الإحصاء هنا كنايةٌ عن الضَّبط والحفظ، وإسناده إلى حفظ الكتاب مجازٌ.
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا} من خيرٍ وشرٍّ {حَاضِرًا} : موجوداً
(1)
في الخارج، على ما دلَّ عليه قوله:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 6]، لا بوجوده
(2)
في الكتابة؛ لأنَّه إعادةٌ
(3)
للمعنى السابق.
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} بإحضارِ ما لم يعملوا، ولا بعدمِ إحضار
(4)
بعضِ ما عملوا.
* * *
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} لَمَّا بَيَّنَ حالَ المغرور بالدُّنيا، وكانَ السَّببُ تسويلَ الشَّيطان، زهَّدهم أوَّلاً في زخارفها، ثمَّ نفَّرهم عن الشَّيطان بتذكير
(5)
ما بينهم من العداوة القديمة.
(1)
في (م): "موجودة"، و في (ف):"بوجود".
(2)
في (ك): "موجود".
(3)
في (م): "أعاد".
(4)
في (ك): "ولا بإحضار".
(5)
في (ف): "بتذكر".
{كَانَ مِنَ الْجِنِّ} استئنافٌ للتعليل، كأنَّه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجنِّ.
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} : فخرج عن أمره تعالى بترك السُّجود، والفاءُ للتَّسبيب.
ومَن قال: هذا الكلامُ المعترِضُ تعمُّد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم
(1)
. فقد سها حيث أساءَ في عبارة التَّعمُّد.
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الهمزة للإنكار والتَّعجُّب
(2)
، والفاء للعطف على مقدَّرٍ تقديره: أتعلمون
(3)
أنه عدوُّ الله تعالى وعدوُّ أبيكم فتتخذونه {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} : تستبدلونهم بي.
قال الشَّعبيُّ: سألني رجل فقال: هل لإبليس زوجة؟ فقلْتُ: إنَّ ذلك عرسٌ لم أشهده، ثمَّ ذكرْتُ قولَه:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} ، فعلمْتُ أنَّه لا يكون ذريَّةٌ إلَّا من زوجة، فقلْتُ: نعم
(4)
.
{وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ولم يقل: أعداءٌ، في مقابَلة {أَوْلِيَاءَ} ؛ إنباءً عن اتِّحادهم في أمر العداوة، وشدَّة اتفاقهم على ذلك.
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} من الله تعالى إبليسُ وذريَّتُه.
* * *
(1)
القائل هو الزمخشري في "الكشاف"(2/ 727). ووقع في النسخ: "بصيانة الملائكة".
(2)
لو قال: "للتعجيب" لكان أولى. انظر: "الكشاف"(2/ 727)، و"روح المعاني"(15/ 381).
(3)
"أتعلمون" زيادة: في (م).
(4)
روى نحوه ابن الجوزي في "أخبار الظراف"(54).
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ} وقرئ: (ما أشهدناهم)
(1)
.
{خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: [و] لا أشهدْتُ
(2)
بعضهم خلقَ بعضٍ، كقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، ففي إحضار إبليس وذريَّتِه خلقَ السَّماوات والأرض وإحضارِ بعضهم خلقَ بعضٍ توطئةٌ لنفي الاعتضاد، والذي
(3)
ذكره بقوله:
{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} ؛ يعني: ما كنْتُ متَّخذُهم {عَضُدًا} ؛ أي: أعواناً.
فوُضع {الْمُضِلِّينَ} موضعَ الضَّمير ذمًّا لهم بالإضلال واستبعاداً للاعتضاد
(4)
بهم، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاءَ لي في العبادة؟!
وقيل: الضَّمير للمشركين، والمعنى: ما أشهدتُهم خلقَ ذلك؛ أي: لم أستعنْ بهم وبرأيهم، وما أوقفتُهم على أسرار ملكي، فلا فضيلة
(5)
لهم دون غيرهم، حتى لو آمنوا تبعهم النَّاس كما يزعمون، فلا تلتفت إلى قولهم طمعاً في نصرتهم للدِّين؛ فإنَّه لا ينبغي لي أن اعتضد بالمضلِّين لديني.
(1)
نسبت ليزيد بن القعقاع وعون العقيلي والسجستاني. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 79).
(2)
ما بين معكوفتين من "الكشاف"(2/ 728)، وكلمة "لا" من (ك) و (م).
(3)
في (ك): "الذي".
(4)
في النسخ: "الاعتضاد"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 274).
(5)
"فلا فضيلة" من (م).
ويعضده قراءة: {وَمَا كُنْتُ}
(1)
على خطاب الرَّسول عليه السلام.
ويجوز أن يقال: فيه ردٌّ لأرباب التَّنجيم وأصحاب الهيئة والمتبحِّرين في علم الطِّب
(2)
.
وقرئ: {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} على الأصل، و:(عَضداً) بالتَّخفيف، و:(عُضُداً) بالإتْباع، و:(عَضَداً) كخَدَمٍ
(3)
: جمع عاضد، مِن عضده: إذا قوَّاه، والأصل فيه: عَضُدُ اليد، ثم وُضع موضع العون والتَّقوية؛ لأنَّ اليد قوامُها العَضُدُ، وإنَّما أُوقع الواحد موقعَ الجمع؛ لأنَّه في سياق النَّفي أبلغ.
* * *
{وَيَوْمَ يَقُولُ} ؛ أي: للكفَّار؛ وقرئ بالنَّون
(4)
، وإنَّما لم يقل:(شركاءنا) على هذه القراءة
(5)
لأنَّ المقامَ مقامُ إظهار التَّوحيد.
{نَادُوا شُرَكَائِيَ} في عبادتكم {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنَّهم شفعاؤكم، ليمنعوكم من عذابي.
(1)
قرأ بها أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 311).
(2)
بياض في (ف)، وسقط من (ك)، والمثبت من (م).
(3)
انظر هذه القراءات في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80)، و"الكشاف"(2/ 728)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 284)، وعنه نقل المؤلف.
(4)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 144).
(5)
"على هذه القراءة" زيادة من (م).
{فَدَعَوْهُمْ} فنادوهم للإعانة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} : فلم يغيثوهم
(1)
.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} بين الدَّاعين والمدعوِّين {مَوْبِقًا} : حاجزاً؛ لقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28].
قال ابن الأعرابيِّ: كلُّ شيء حاجزٍ بين شيئين فهو مَوْبِقٌ.
أو: جعلنا تواصلهم في الدُّنيا مهْلِكاً في الآخرة. قاله الفراء
(2)
.
يقال: وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً، ووَبِقَ يَوْبَقُ وَبَقاً
(3)
: إذا هلك، والموبِقُ: اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ.
* * *
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} : رأوها مِن مكانٍ بعيدٍ فظنُّوا أنَّها تأخذهم في الحال، وفي الخبر:"إنَّ الكافرَ يرى جهنَّم ويَظنُّ أنَّها مواقِعَتُه مِنْ مسيرةِ أربعينَ سنةً"
(4)
.
والمواقعةُ: ملابسةُ الشَّيءِ بشدَّة، ومنه: وقائع الحروب
(5)
.
(1)
وفي: (ك): "فلم يعينوهم". وفي (ف): "فلم يستغيثوهم".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 147).
(3)
في النسخ: "وبوقاً"، والمثبت من "الصحاح" (مادة: وبق).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(11714)، وأبو يعلى في "مسنده"(1384)، ونحوه عند الحاكم في "المستدرك"(8766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الحاكم، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 336): وإسناده حسن على ما فيه من ضعف.
ويشهد له ما رواه ابن حبان في "صحيحه"(7352) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لإسناد حسن.
(5)
في (ف): "الحرب".
{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} : انصرافًا، أو: مكانًا ينصرفون إليه.
* * *
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : من كلِّ نوعٍ من أنواع المعاني الغريبة. وتصريفُه: تنقيله في وجوه البيان على تمكين الأفهام.
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} : أكثرَ الأشياء التي يتأتَّى منها الجدال.
والجَدْلُ
(1)
: شدَّة الفَتْل من المذهب
(2)
بطريقِ الحِجاجِ، ولا يلزم أن يكون بالباطل، ولذلك احتيجَ إلى التَّقييد به في قوله تعالى:{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56].
وانتصابه على التَّمييز.
* * *
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} : من الإيمان
(3)
{إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} : الرَّسولُ أو القرآن {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} : ومن الاستغفار عن الذُّنوب.
(1)
في (ك) و (م): "والجدال "، والصواب المثبت. انظر:"تهذيب اللغة"(10/ 342)، و" المحرر الوجيز"(3/ 166).
(2)
"من المذهب" من (م).
(3)
أي: وما منع الناس من أن يؤمنوا، فـ {أَنْ} مصدرية مقدر قبلها حرف الجر: من.
{إِلَّا} تقديرُ أو طلبُ {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : وهو الاستئصال، فحذف المضاف وأُقِيْمَ المضافُ إليه مقامَه.
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} : عذاب الآخرة.
{قُبُلًا} بكسر القاف وفتح الباء: عيانًا، وقرئ بضمهما
(1)
، وهو لغة فيه، أو جمع قبيل بمعنى: ضُروب، وقرئ بفتحتين، وهو أيضًا لغة
(2)
، وانتصابه على الحال من أحد المفعولين.
* * *
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} بالثَّواب والعقاب، للمطيعين والعاصين.
{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} : باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات، وإنكارِ كون البشر رسلًا
(3)
من الله تعالى.
{لِيُدْحِضُوا بِهِ} : ليزيلوا بالجدل {الْحَقَّ} عن مقرِّه ويُبطلوه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها
(4)
.
{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} ؛ يعني: القرآنَ {وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} : والذي أُنذروه من العقاب، أو: إنذارهم.
(1)
قرأ الكوفيون بضمتين، وباقي السبعة بكسر القاف وفتح الباء. انظر:"التيسير"(ص: 144).
(2)
انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة (ص: 269)، و"الكشاف"(2/ 729).
(3)
في (ف) و (م): "رسولًا".
(4)
في (م): "الندم وهو إزلاقها "، وفي (ف):"العدم وهو إذلاقها"، وفي (ك):"القدم وهو انزلاقها"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(2/ 729)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 285).
{هُزُوًا} : استهزاء، وقرئ بالسُّكون
(1)
، وهو ما يُستهزء به.
* * *
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} : بالقرآن.
{فَأَعْرَضَ عَنْهَا} : فلم يتذكر حين ذُكِّرَ ولم يتدبَّر.
{وَنَسِيَ} عاقبةَ {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ؛ أي: لم يتذكَّر ما يترتَّب على فعله من العذاب.
والتَّعبير عن عدم التَّذكُّر
(2)
بالنِّسيان للمبالغة، وإنما حَسُن التجوُّز عن الجملة باليدين لأنَّ المسْنَد
(3)
ممَّا يُكسب، وهما أقوى آلته.
{إِنَّا جَعَلْنَا} مرتبط بقوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} على أنَّه تعليل لإصرارهم على ما كانوا عليه، وما بينهما من قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ} إلخ جملةٌ معترضةٌ في تقبيح حالهم.
{عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} قد مزَ تفسيرُه في سورة بني إسرائيل.
{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} فلا يكون منهم اهتداء البتَّة لشدَّة تصميمهم.
{إِذًا أَبَدًا} مدَّة التَّكليفِ كلِّها، و {إِذًا} جزاءٌ وجوابٌ للرَّسول عليه السلام،
(1)
قرأ بها حمزة عند الوقف، وكذا في الوصل لكن مع إبدال الواو همزًا. انظر:"التيسير"(ص: 74).
(2)
في النسخ: "التذكير"، والصواب المثبت. وسقطت "عدم " من (ف) و (ك).
(3)
في (ف): "المسند".
على تقدير قوله: مالي لا أدعوهم
(1)
؟ فإنَّ حرصه عليه السلام على إسلامهم يدلُّ عليه.
* * *
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} : البليغ المغفرة {ذُو الرَّحْمَةِ} هو: الموصوف بالرَّحمة.
ثم استشهد على ذلك بإمهال أهل مكَّة مع إفراطهم في عداوة الرسول عليه السلام، فقال:
{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في الدُّنيا.
{بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} وهو يوم القيامة، أو يوم بدر.
{لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} : منجًا ولا ملجأً، يقال: وألَ: إذا نجا، [و] وألَ إليه: إذا التجأ إليه.
* * *
(59) - {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} .
{وَتِلْكَ الْقُرَى} يريد: قرى الأوَّلين من ثمودَ وعادٍ وقوم لوط وأضرابهم، إشعارٌ لهم إليها ليعتبروا.
و {وَتِلْكَ} مبتدأ، و {الْقُرَى} صفةٌ أو عطفُ بيان، والخبر:
(1)
في النسخ: "ما لي أدعوكم" والصواب المثبت. انظر: "الكشاف"(2/ 730)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 285)، و"البحر"(14/ 312)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 230)، و"روح المعاني"(15/ 399).
{أَهْلَكْنَاهُمْ} ويجوز أن تكون {الْقُرَى} الخبر، و {أَهْلَكْنَاهُمْ} جملةٌ حاليَّة، كقوله تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52]، وأن تكون {وَتِلْكَ الْقُرَى} نصبًا بإضمار:(أهلكنا) على شريطة التَّفسير.
و {الْقُرَى} مجازٌ عن أهلها، وذلك خير من تقدير المضاف، ولا بدَّ من أحدهما؛ ليكون مرجع الضمائر.
{لَمَّا ظَلَمُوا} هو مثلَ ظلم أهلِ مكَّة
(1)
، وفيه إشعارٌ بعلَّةِ الإهلاك تحذيرًا منها، وبهذا استدلَّ ابنُ عصفور على حرفيَّة المَّا)، وأنها ليست بمعنى (حين)؛ لأنَّ الظَّرف لا دلالة فيه على العلَّة
(2)
.
وإنَّما تُرك مفعول {ظَلَمُوا} تنزيلًا له منزلة اللَّازم؛ ليذهبَ الوهمُ كلَّ مذهبٍ.
{وَجَعَلْنَا} : وضربْنا {لِمَهْلِكِهِمْ} المُهْلَك بضم الميم وفتح اللَّام: الإهلاك.
{مَوْعِدًا} : وقتًا معلومًا لا يتأخَّرون عنه، كما ضربنا لأهل مكَّة يوم بدر. وقرئ بفتح الميم واللَّامُ مفتوحة أو مكسورة
(3)
؛ أي: لهلاكهم.
* * *
(1)
في (م): "مثل ظلم مكة".
(2)
انظر: "البحر المحيط"(14/ 313)، و"الجنى الداني في حروف المعاني" لبدر الدين المرادي (ص: 595).
(3)
قرأ أبو بكر بفتح الميم واللام، وحفص بفتح الميم وكسر اللام، وباقي السبعة بضم الميم وفتح اللام. انظر:"التيسير"(ص: 144).
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى} مقدَّر بـ: اذكُر
(1)
.
{لِفَتَاهُ} هو
(2)
يوشع بن نون، ابنُ أخت موسى عليه السلام، وإنَّما قيل:(فتاه)؛ لأنَّه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ منه العلم، والعرب تسمِّي التِّلميذ فتًى وإن كان شيخًا.
{لَا أَبْرَحُ} : لا أزال أسير، فحذف الخبر لدلالة حالهِ - وهو السَّفر - وقولهِ:{حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} من حيث إنها غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له.
ويجوز أن يكون الخبر {حَتَّى أَبْلُغَ} على أن يكون أصل الكلام: لا يَبرح مسيري
(3)
، فينقلب الضَّمير والفعل بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وأن يكون
(4)
المعنى: لا أبرح ما أنا عليه؛ يعني: ألزمُ المسيرَ والطَّلبَ ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرح المكانَ، فلا يستدعي الخبرَ.
و {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} : ملتقاهما، وهما: الكُرُّ والرَّسُّ بأرمينية. قاله السُّديُّ
(5)
.
وقيل: بحرا فارس والرُّوم. ويَرِدُ عليه: أنهما لا يلتقيان، ولا يقرب أحدهما من الآخر.
(1)
في (ك) و (م): "مقدر بالذكر".
(2)
في (ك) و (م): "وهو".
(3)
في (ف): "مسير"، وفي (م):" فسيرى"، وفي هامشها:"لعلها: مسيري".
(4)
أي: (ويجوز أن يكون) كما هي عبارة الزمخشري. انظر: "الكشاف"(2/ 731).
(5)
رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور"(5/ 423)، وذكره أبو العباس القرطبي في "المفهم"(6/ 195)، وتلميذه القرطبي المفسر في "تفسيره"(13/ 316)، وتحرفت (الرس) في النسخ إلى:"الراس"، والمثبت من المصادر. وانظر:"معجم البلدان"(3/ 44).
وفي "التَّيسير"
(1)
: كان البحرُ الذي
(2)
يعملون فيه أصحابُ السَّفينة ما بين بحر فارس إلى بحر الروم.
وإذ لا اتِّصال بينهما فلا صحَّة لهذا الكلام أيضًا.
ولعل (فارس)
(3)
محرَّف من: فاس، وهي بالمغرب
(4)
حاضرةُ البحر، من أجلِّ المدن القديمة، ويعضده ما قاله محمَّد بن كعب: إنَّ مجمعَ البحرين عند طنجة
(5)
، وما قاله أبيُّ بن كعب: إنَّه بإفريقية
(6)
.
وقول الخضر لموسى عليهما السلام حين سلَّم عليه: "وأنَّى بأرضك السَّلام "
(7)
يدلُّ على أنَّ ملاقاتهما لم تكن بين بحر فارس والزُوم؛ لأنَّ تلك الأرض أرضُ بني إسرائيل وما يقرب منها، وهي منشأ السَّلام
(8)
ومعدن الإسلام.
وقرئ: (مَجْمِعَ) بكسر الميم
(9)
.
قال الجوهري: الموضع مَجْمَعٌ ومَجْمِعٌ؛ كمَطْلَعٍ ومَطْلِعٍ
(10)
.
(1)
"التيسير في التفسير" لنجم الدين، أبي حفص: عمر بن محمد النسفي الحنفي، المتوفى بسمرقند سنة (537). انظر:"كشف الظنون"(1/ 519).
(2)
في (ف): "كان الذين".
(3)
في (ك): "بحر فارس".
(4)
في (ك) و (م): "بالغرب".
(5)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 309).
(6)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 316).
(7)
رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(8)
في (م): "الإسلام".
(9)
نسبت لعبد الله بن عبيد بن مسلم بن يسار. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80).
(10)
انظر: "الصحاح"(مادة: جمع).
{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} الحُقُبُ: الدَّهر، وقيل: ثمانون سنة، وقيل: تسعون؛ أي: أسير زمانًا طويلًا، والمعنى: حتى بلوغ المجمع ومُضيِّ الحُقب.
روي في "الصحيحين": أنَّ موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أيُّ النَّاس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب اللهُ عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى إليه: إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا ربِّ، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مِكْتَلٍ، فحيثما فقَدْتَ الحوت فهو ثَمَّ، فأخذ حوتًا فجعله في مكتل ثمَّ انطلق، وانطلق معه فتاه يوشَعُ بنُ نونٍ، حتى إذا أتيا الصَّخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر
(1)
.
قيل: اضطراب الحوتِ كان بعد ما استيقظَ يوشع عليه السلام، وتوضَّأ من عين الحياة، فانتضح الماء عليه، فعاش ووثب في الماء
(2)
.
* * *
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} ؛ أي: مجمع البحرين، و (بين): ظرف أضيف إليه على الإتباع.
{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [أي: نسيا] تفقُّدَ أمره وما يكون منه [مما جعل] أمارةً على الظَّفر بالمطلوب
(3)
.
(1)
رواه بنحوه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
ورد نحو هذا ضمن رواية البخاري (4727)، وهي زيادة أنكرها الداودي كما في "فتح الباري"(8/ 415)، وانظر كلامه ثمة.
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 732)، وما بين معكوفتين منه.
ولا وجهَ لما قيل: نسيَ موسى عليه السلام أن يطلبه ويتعرَّفَ حالَه، ويوشعُ عليه السلام أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر؛ لأنَّ هذا النِّسيان منه قبل ذلك، على ما دلَّ عليه قوله:
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} الفاء فصيحة تُفصح عن مقدَّرٍ يدلُّ على حياة الحوت وسقوطه في البحر، على ما نقل فيما سبق.
{سَرَبًا} ؛ أي: جَعَل سبيله في البحر كالسَّرب، وهو الثُّقب الذي يُدخل فيه فيُسلك منه إلى موضع، وفي الحديث المارِّ ذكره:"وأمسكَ اللهُ عن الحوت جِرْيَةَ الماءِ، فصار عليه مثل الطاق"
(1)
.
وأمَّا السَّارب في قوله تعالى: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} فبمعزَلٍ عن هذا؛ لأنَّه بمعنى الظَّاهر، صرَّح به الجوهري
(2)
، ودلَّ عليه بقوله:{مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد: 10] مقابَلته.
ونصبُه على المفعول الثَّاني، و {فِي الْبَحْرِ} حالٌ منه، أو من السَّبيل، ويجوز تعلقه بـ (اتخذ).
* * *
(62) - {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} .
{فَلَمَّا جَاوَزَا} مجمع البحرين، وفي الحديث المذكور:"فانطلقا بقيَّة يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد".
{قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} ما نتغدَّى به.
(1)
رواه البخاري (3401)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
انظر: "الصحاح"(1/ 146)(مادة: سرب).
{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا} قيل: لم ينصَبْ موسى عليه السلام في سفرٍ غيره، ويؤيِّده التَّقييد بقوله:
{هَذَا} وقيل في الحديث المذكور: إنه عليه السلام لم ينصَبْ حتى جاوز الموعد.
{نَصَبًا} : تعبًا وعناءً.
قيل: عنى هنا
(1)
: الجوع، ولا يخفى أنَّ الفعل وتعديتَه إنَّما يناسبان الأوَّل.
وجه الارتباط بين الكلامَيْن: أنَّ القعود للتغدِّي يتضمَّن الاستراحة، فكأنَّه قال: آتنا غداءنا حتى نتغدى ونستريح زمانًا.
* * *
قال له فتاه: {أَرَأَيْتَ} : أعلمْتَ ما دهاني
(2)
{إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} ؛ أي: أقَمنا عندها.
{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ؛ يعني: أَمْرَ ذكرِهِ في مَعْرِضِ الاعتذار لِمَا جرى في الحوت من المعاهدة، وذلك
(3)
على ما ذكر في "صحيح البخاري ": أنَّ موسى عليه السلام قال له: لا أكلِّفُكَ إلَّا أنْ تخبرني بحيث يفارقك الحوت. فقال: ما كَلَّفْتَ كثيرًا
(4)
.
(1)
في (ف): "عناؤه".
(2)
في (م): "دعاني".
(3)
في (ف): "وذكر".
(4)
رواه البخاري (4726) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل من الضَّمير؛ أي: ما أنساني ذكرَه إلَّا الشَّيطان.
وفي مصحف عبد الله: (وما أنسا نيه أنْ أذكِّرَكَهُ
(1)
إلَّا الشَّيطان)
(2)
؛ أي: وسوسني وشغلني بغيره حتى نسيْتُ، والحال وإن
(3)
كانت لغرابتها أجلَّ من ذلك، إلَّا أنَّه لَمَّا اعتاد مشاهدة
(4)
أمثالها عند موسى عليه السلام وألفها قلَّ اهتمامه بها، فهو اعتذار عن نسيانه.
{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} ؛ أي: اتِّخاذًا عجبًا، والمفعول الثَّاني الظَّرف.
وإنَّما كان عجبًا لخروجه من المكتل، وحياته بعد كونه مشويًّا أو مأكولًا بعضٌ منه، وإمساك جريةِ
(5)
الماء عليه.
وقيل: سبيلًا عجبًا.
وفيه: أنَّ أكثر العجائب ليس بحال السَّبيل، وأيضًا لو كان المعنى ذلك لقيل: واتخذ في البحر سبيلًا عجبًا
(6)
.
وهو من كلام يوشع عليه السلام.
وقيل: قال موسى عليه السلام في جوابه: {عَجَبًا} ؛ أي: تعجُّبًا.
(1)
في النسخ: "أذكر له"، والمثبت من مصادر التخريج الآتية.
(2)
انظر: "الكشاف"(2/ 733)، و"المحرر الوجيز"(3/ 529)، و"البحر المحيط"(14/ 326).
(3)
في (م): "والحال إن".
(4)
في (ف) و (ك): "بمشاهدة".
(5)
في (ك): "جري "، والمثبت هو الموافق لما تقدم قريبًا في الحديث.
(6)
وفيه مناقشة ذكرها الشهاب في "الحاشية"(6/ 118).
وقيل: الفعل لموسى عليه السلام؛ أي: اتخذ موسى عليه السلام سبيل الحوت في البحر.
وبردُّهما تأخير {قَالَ} عنه.
* * *
(64) - {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} .
{قَالَ ذَلِكَ} الإشارة إلى فَقْدِ الحوت؛ لما مرَّ في الحديث أنَّه قيل: "فحيثما فقدْتَ
(1)
الحوت فهو ثمَّة".
{مَا كُنَّا نَبْغِ} تقديره: نبغيه؛ أي: نطلبُه؛ لأنَّه أمارة المطلوب.
{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} ؛ أي: على طريقهما الذي جاءا منه.
{قَصَصًا} : اتِّباعًا لذلك الأمر، فانتصَب على المصدرَّية بإضمار (يقصَّان)، على ما أفصح عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المارِّ ذكرُه حيث قال في تفسيره: "فرجعا يقصَّان آثارَهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة، فإذا رجل مسجًّى ثوبًا، فسلَّم عليه موسى، فقال الخَضِرُ: وأنَّى بأرضِكَ السَّلام؛ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتُكَ لتعلِّمني ممَّا عُلِّمْتَ
(2)
رُشْدًا"
(3)
.
* * *
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} هذه إضافة تشريفٍ واختصاصٍ، وهو الخَضِرُ، اسمه
(1)
في (ك): "فقد".
(2)
في (ف): "علمته ".
(3)
رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
إيليا، شهد بذلك الحديث المذكور
(1)
، واتَّفق عليه الجمهور، وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما سمِّيَ الخَضِرُ خَضِرًا لأنَّه جلسَ على فروةٍ بيضاءَ فاهتزَّتْ تحتَه خضراء"
(2)
، والفروة هنا: وجه الأرض. قاله الخطَّابيُّ
(3)
.
{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الرَّحمة هنا: النُّبوَّة
(4)
، كما في قوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].
{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} ممَّا يَختصَّ بنا، ولا يُعلَم إلَّا بتوفيقنا، وقد مرَّ ما يتعلَّق بـ (لدن) في (آل عمران).
{عِلْمًا} : هو علم الغيوب.
* * *
(66) - {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} .
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} على هذه المصلحة.
بدأ بالاستفهام والاستئذان، ووصف نفسه بالاتِّباع، ومدحَه بالعلم، وأظهر الرَّغبة فيما عنده من العلم، وهذا غاية التَّواضع من موسى عليه السلام، وتعليمٌ لِمَن طلبَ العلم من غيره، ولا يناسِبُهُ تقدير الشَّرط على أن يكون المعنى: على شرط أن تعلِّمَني.
(1)
يعني بأن اسمه الخضر، رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (3151)، وهو عند البخاري (3402).
(3)
انظر: "أعلام الحديث" للخطابي (3/ 1553).
(4)
في (ف) و (م): "الرحمة هنا الرحمة والنبوة".
{مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} : علمًا ذا رشد، وهو إصابة
(1)
الخير. وقرئ بفتحتين
(2)
، وهما لغتان كالبُخْل والبَخَل.
وهو مفعول {تُعَلِّمَنِ} ، أو مصدر في موضع الحال، وذو الحال الضَّمير في {أَتَّبِعُكَ} ، ومفعول {عُلِّمْتَ} العائد المحذوف، وكلاهما منقولان من (عَلِم) الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون علَّةً لـ {أَتَّبِعُكَ} .
وكون موسى عليه السلام صاحبَ شريعة لا ينافي أن يتعلَّم من غيره ما لا حاجةَ إليه في شريعته.
* * *
(67) - {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} .
{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أراد نفي الصَّبر معه، إلَّا أنَّه بالغَ فيه حيث نفى استطاعته على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه كأنَّه لا يصحُّ ولا يستقيم، دلَّ على ذلك قوله:
(68) - {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} .
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ} والصَّبرُ: تجرُّع مرارة حبس النَّفس ومنعِها
(3)
عمَّا تُنازعُ إليه.
{عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ؛ أي: إنَّ صبرك على ما لا خبرة لك به مستَبْعَدٌ، وهذا كالتَّعليل للنَّفي السَّابق، ومجيئُه بالواو شائع.
وفيه تدارُكٌ لِمَا عسى أنْ يُتوهَّم أنَّه نَسب إليه عليه السلام عدمَ التثبُّت.
(1)
في (م): "وإصابة".
(2)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 144).
(3)
في النسخ: "ومنعه"، ولعل الصواب المثبت.
قيل: فيه إبداء [عُذرٍ] له
(1)
، حيث لا يمكنه الصَّبر لِمَا يرى من المناكير؛ لأنَّ الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم السُّكوت عند ذلك.
وفيه: أن ثالثها ليس بمنكَرٍ شرعًا ولا عقلًا، وأيضًا قد عرفْتَ أنَّ المنفيَّ نفسُ الصَّبر معه، لا استطاعتُه.
و {خُبْرًا} تمييزٌ، أو مصدر على غير الصدر
(2)
؛ لأنَّ {لَمْ تُحِطْ} بمعنى: لم تَخْبَره، والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وما يُختَبرُ منها.
* * *
(69) - {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} .
{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} معكَ، غيرَ منكِرٍ عليك.
وتعليق الوعد بالمشيئة للاستثناء، ولا بُدَّ منه صونًا للوعد عن الخُلف؛ فإنَّه لا يجوز خصوصًا في حقِّ الأنبياء عليهم السلام.
{وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} عطف على {صَابِرًا} ؛ أي: صابرًا وغيرَ عاصٍ، كقوله تعالى:{صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]؛ أي: وقابضاتٍ.
أو على {سَتَجِدُنِي} ، فلا محل لها من الإعراب.
وفيه: أنَّه حينئذ لا يكون مقيَّدًا بالمشيئة، ولا بُدَّ منه
(3)
كيلا يلزمَ الخلف المذموم، حيث وعد أنْ لا يعصيَ له في أمرٍ، وقد أمره بترك السُّؤال، ولم يُطعه
(4)
فيه.
(1)
في النسخ: "فيه إبداله "، وما بين معكوفتين زيادة من "البحر المحيط "(14/ 330).
(2)
في النسخ: "المصدر"، والصواب المثبت. انظر:"البحر"(14/ 331).
(3)
أي: ولا بد من التقييد بالمشيئة.
(4)
في (ف) و (م): "تعطه "، وقال في هامش (م):"لعله يطعه "، وفي (ك):"يعظه ".
وإنَّما قلنا: فلا محل له من الإعراب مع أنَّه مَقول القول على هذا الوجه؛ لأنَّه لا تأثير للعامل في المعنى، وإنَّما أثره حينئذ مجرَّد اللَّفظ، والجملة هناك ليست واقعة موقع المفرد ليكتَسيَ حكمه محلًّا.
وهذا تواضع آخر من موسى عليه السلام بعد تمنُّعٍ كان من الخَضِر عليه السلام، ثم يحكم عليه بوجهٍ آخر على ما أفصح عنه قولُه:
(70) - {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} .
{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي} وقرئ بالنُّون الثَّقيلة
(1)
.
{عَنْ شَيْءٍ} أنكرتَهُ منِّي ولم تعلم وجهَ صحَّته.
{حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} حتى أنبَئّكً ببيانه.
وهذا من الخضر عليه السلام تأديبٌ وإرشادٌ، ولو صبرَ ودأبَ لرأى العجبَ، لكنَّه أكثرَ من الاعتراض، فتعيَّن الفراق والإعراض
(2)
.
* * *.
{فَانْطَلَقَا} ؛ أي: انطلق موسى والخضر عليهما السلام، وأمَّا يوشع عليه السلام فقد صرفه موسى عليه السلام وردَّه إلى بني إسرائيل، وفي الحديث السابق ذكرُه:"فانطلقا يمشيان على ساحل البحر"، وفي الحديث المذكور:
(1)
وهي قراءة نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 144).
(2)
في (ف): "والاعتراض".
"فمرَّتْ سفينة فكلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما
(1)
بغير نول ".
{حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} (ركبَ) متعدٍّ، وإنَّما
(2)
قيل: {فِي السَّفِينَةِ} إظهارًا لِمَا في ركوبها خاصَّة من بين المراكب من معنى الدُّخول.
{خَرَقَهَا} قال عليه السلام في الحديث المذكور: "فلما ركبا في السَّفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلعَ لوحًا من السفينة بالقَدُومِ".
قال أبو العالية: لم يرَ الخضرَ حين خرق السَّفينة غيرُ موسى عليه السلام، وكان عبدًا لا يَراهُ إلَّا مَن أرادَ الله أن يريه
(3)
، ولو رآه القومُ حينئذٍ لمنعوه مِنْ خَرْقِ السَّفينة
(4)
.
{قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ؛ أي: فعلْتَ ذلك وغرضُكَ إغراقُ أهلها.
وقرئ بالتَّشديد للتَّكثير
(5)
، وقرئ بالياء ورفع {أَهْلَهَا}
(6)
، أي: فعلتَه لشيءٍ
(7)
يُغرق أهلها، وقيل: إنها لام العاقبة، والأُولى أَولى في مقام الإنكار.
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} : منكرًا، مأخوذ من الأَمِر؛ لأنَّه الفاسد الذي يحتاج إلى
(1)
في (ف): "فحملوهم"، وهو الموافق لرواية البخاري (4725).
والمثبت من باقي النسخ وهو لموافق لما رواه البخاري (122)، ومسلم (2380/ 170).
(2)
في (ف): "وأما".
(3)
في (ك): "يراه".
(4)
رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 425)، وهو في "تفسير لقرطبي"(328/ 13).
(5)
نسبت للحسن وأبي رجاء. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80).
(6)
أي: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ، وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر:"التيسير"(ص: 144).
(7)
في (ك): "أي فعلته شيء". وفي (م): "ما فعلته شيء".
أن يؤمَر بتركه، ومنه أَمِرَ القوم: إذا كثروا، أي: احتاجوا إلى مَن يأمرهم وينها هم، ومنه الأمر من الأمور، أي: الشَّيء الذي من شأنه أن يؤمَر فيه، ولهذا لم يكن كلُّ شيء أمراً، ومن هنا
(1)
ظهر وجه إيثار {شَيْئًا} على (أمرًا) مع ما فيه من صنعة الجناس.
ولو كان الأمر هنا بمعنى العظيم - كما قيل - لروعي حسنُ التناسب
(2)
لفظًا، وقيل: أمرًا إمرًا؛ لعدم المانع من جهة المعنى حينئذ.
* * *
(72) - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} .
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ظاهره تذكير للقول السابق، وباطنه تقرير لصعوبة الصَّبر معه، وإشارة إلى منكَر ارتكبه موسى عليه السلام، وهو عدم محافظته الوعد، فكأنَّه قصد المعارضة، ولهذا ضمَّنَ كلامه الاعتذار عن ذلك، على ما أفصح عنه قوله تعالى:
(73) - {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} .
{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} من أمري؛ أي: بسبب نسياني.
والمؤاخذة على ترك التَّحفُّظ لا على النِّسيان؛ لأنَّه غير مقدور، ولذلك لم يقل: على ما نسيْتُ، فكأنَّه قال: ما صدر عنِّي ما صدرَ إلَّا بسبب أمرٍ غير مقدور، وصيغة النَّهي كقرينها قد تجيء للالتماس، وهو المناسب للمقام.
{وَلَا تُرْهِقْنِي} الإرهاقُ: إدراك الشَّيء ممَّا يغشاه، ومنه: غلام مراهق: إذا قارب أن يغشاه حالُ البلوغ.
(1)
في (ك) و (م): "هاهنا".
(2)
في (ف): "التأديب".
{مِنْ أَمْرِي} : هو اتِّباعُه إيَّاه.
{عُسْرًا} ، أي: ولا تُغشني عُسْرًا من أمري، يعني: ولا تعسِّر عليَّ متابعتَكَ بالمؤاخذة على ما صدرَ بسبب النِّسيان، ويسِّرها على الإغضاء.
و {عُسْرًا} مفعولٌ ثانٍ لـ (ترهق)، وقرئ بضمَّتين
(1)
.
* * *
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا} وفي الحديث السَّابق ذكره: "ثم خرجا به من السَّفينة، فبينما هما يمشيان على السَّاحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده ".
{فَقَتَلَهُ} فما
(2)
قيل: كان قتله بفتل عنقه، أو بضرب رأسه بالحائط، مردودٌ بنصِّ الحديث الصَّحيح، وكذا ما قيل: أضجعه فذبحه.
والفاء هنا للدلالة على عدم تراخي القتل عن لقاء الغلام، بخلاف خرق السفينة، فإنَّه لم يتعقَّب الرُّكوب كذلك فلم يذكر الفاء ثمَّة.
ولَمَّا كان القتلُ قتلَ معصوم - حقيقةً أو ظاهرًا، على اختلافٍ في صغره - لم يتمالك
(3)
أن يعترضَ، ولا دخلَ في ذلك لدلالة الفاء على عدم التَّروِّي والاستكشاف.
(1)
قراءة أبي جعفر المدني. انظر: "النشر"(2/ 216)، و"إتحاف الفضلاء" (ص: 185).
(2)
في (ك) و (م): "مما".
(3)
في (ك): "يتماسك". وفي (م): "يتملك ".
{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} وقرئ: {زَكِيَّةً}
(1)
.
قال الكسائي: هما لغتان، مثل {قَاسِيَةً} و {قسيَّة}
(2)
{المائدة: 13].
وقال أبو عمرو: الزَّاكية التي لم تذنب قطّ، والزَّكيَّة: التي أذنبت وتابت. ولذلك اختار الأولى
(3)
.
وهذا على ما قاله الجمهور: أنه كان صغيرًا غيرَ بالغ.
وقال الحسن والكلبي: كان بالغًا يقطع الطَّريق، ويعضده:
{بِغَيْرِ نَفْسٍ} ؛ أي: من غير أن قتلَتْ نفسًا، يفهم منه أنه لو كان مِن
(4)
قَتْلِ نفسٍ لم يكن به بأس، والظَّاهر منه كبر الغلام لأنَّ الصَّغير لا يُقاد، ولا تنبيه فيه على أنَّ القتل لا يُباح إلَّا حدًّا أو قصاصًا، كيف ولا صحَّة للحصر على ما نبَّهْتُ عليه في تفسير سورة الأنعام.
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} : منكرًا، وقرئ بضمَّتين
(5)
.
اختلفوا أيَّما أبلغ {إِمْرًا} أو {نُكْرًا} ، فقيل: هنا القتل واقع وهناك مترقَّب فـ {نُكْرًا} أبلغ.
وقيل: هذا [قتلُ واحدٍ وهناك، إهلاكُ جماعة فـ {إِمْرًا} أبلغ.
(1)
في (ك) و (م): "زاكية، وقرئ: زكية". وقرأ الكوفيون وابن عامر بتشديد الياء من غير ألف، وباقي السبعة بالألف وتخفيف الياء. انظر:"التيسير"(ص: 144).
(2)
قرأ حمزة والكسائي بتشديد الياء من غير ألف، وباقي السبعة بالألف وتخفيف الياء. انظر:"التيسير"(ص: 99).
(3)
انظر: "حجة القراءات" لأبي زرعة (ص: 424).
(4)
في "المحرر الوجيز"(3/ 532) والكلام منه: (عن).
(5)
قرأ بها نافع وأبو بكر وابن ذكوان. انظر: "التيسير"(ص: 144).
قال ابن عطيَّة: وعندي أنَّ {إِمْرًا} أفظع وأهول من حيث هو متوقَّعٌ عظيمٌ، و {نُكْرًا} أبينُ
(1)
في الفساد؛ لأن مكروهه قد وقع
(2)
.
ومَن غفل عن هذا قال: ولعلَّ تغيير النَّظم بأنْ جُعل خرقُها واعتراضُ موسى عليه السلام مستأنفًا، وفي الثَّانية جُعل قتله من جملة الشَّرط واعتراضُه جزاءٌ؛ لأنَّ القتل أقبح، والاعتراضَ عليه أَدْخَلُ، فكان جديرًا بأنْ يُجعل عمدة الكلام
(3)
. فالوجه في التَّغيير ما قد عرفتَه من أن تعقيب القتل للِّقاء دون الخرق للركوب اقتضى ذلك.
* * *
(75) - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} .
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} في زيادة {لَكَ} مشافهةٌ بالعتاب زجرًا وإغلاظٌ ليس في الأوَّل؛ لأنَّ مُواقعةَ التَّساؤل في ثانيهِ بعد التَّقدُّم إلى ترك السُّؤال واعتذارٍ بالنِّسيان أقطع وأفظع في مخالفة ما كان أَخذ على نفسه من الصَّبر وعدم العصيان.
* * *
(76) - {سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} .
{سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} : بعد هذه المرَّة، أو هذه المسألة.
(1)
في (ف): "بين ".
(2)
انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 532)، وما بين معكوفتين منه.
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 289).
{فَلَا تُصَاحِبْنِي} وإن طلبت صحبتك، وقرئ:(فلا تُصْحِبْنِي)
(1)
، قال الكسائي: فلا تتركني أصحبك
(2)
.
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} ؛ أي: بلغْتَ مِن قِبَلي مبلغًا تُعذَر به في ترك مصاحبتي.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي موسى استحيى فقال ذلك، ولو لبث
(3)
مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب "
(4)
.
وقرئ: {لَدُنِّي} بتخفيف النون وضم الدال، وبالتخفيف والسكون وفتح اللَّام، وبضمِّ اللَّام وسكون الدَّال
(5)
.
(1)
نسبت للجحدري والنخعي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 81).
(2)
انظر: "النكت والعيون"(3/ 330)، و"تفسير القرطبي"(13/ 333).
(3)
في (م): "ثبت".
(4)
انظر: "الكشاف"(2/ 736 - 737)، ورواه أبو داود (3984)، والنسائي في "الكبرى"(11248)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وورد نحوه من حديث أبيٍّ المتقدم عند البخاري (122)، ومسلم (2380)، ولفظ مسلم:"رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجَّل لرأى العجب، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76]، ولو صبر لرأى العجب ".
(5)
قرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وأبو بكر بإسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون، والباقون بضم الدال وتشديد النون. انظر:"التيسير"(ص: 145). وقال أبو بكر بن مجاهد: (وروى أبو عبيد عن الكسائي عن أبي بكر عن عاصِم في كتاب القراءات: (لُدْني) بضم اللَّام وتسكين الدَّال وهو غلط). فقال أبو علي الفارسي: (يشبه أن يكون التغليط من أبي بكر أحمد في وجه الرواية، فأما من جهة اللغة ومقاييسها فهو صحيح). وذكرها الأزهري وقال: (هي لغة لبعض العرب، كان الضمة في الدال، فنقلت إلى اللام). انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 396)، و"معاني القراءات" للأزهري (2/ 117)، و"الحجة" للفارسي (5/ 162).
و قرئ: (عُذُرًا) بضمَّتين
(1)
.
* * *
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} : قرية
(2)
بجزيرة الأندلس، روي ذلك عن أبي هريرة
(3)
. وقيل: بالجزيرة الخضراء، وقيل: إنها برقة، وأما ما قيل: إنها أنطاكية، وما قيل: إنها أُبُلَّة
(4)
، وبصرة، فمبناه على أن يكون أحد البحرين بحرَ فارسَ، وقد عرفتَ ما فيه.
وقيل: إنها باجروان أرمينية، وذلك على
(5)
ما قيل: إنَّ البحرين بنهر الكرِّ والرسِّ
(6)
.
{اسْتَطْعَمَا} الاستطعام: سؤال الطَّعام
(7)
، والمراد به هنا بقرينة آخر الكلام: سؤالُ الضِّيافة والقِرى.
{أَهْلَهَا} كرَّر ذكر الأهل تعظيمًا لهم، ولأنَّ المراد من الأهل في الأوَّل:
(1)
نسبت لعيسى. انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 533)، و"البحر المحيط"(14/ 337).
(2)
"قرية": ليست في (ك) و (م).
(3)
انظر: " المحرر الوجيز"(3/ 533)، و"تفسير القرطبي"(13/ 334).
(4)
في (ك): "ايليا". وقد اختلفت المصادر فيها بين: (أَيْلة) و (الُابُلة). انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 334).
(5)
"على" زيادة من (ك).
(6)
في (ك): "والراس"، وقد تقدم أنه تحريف.
(7)
في (ك): "للطعام".
البعض، كما هو المتبادِر المعتاد، والمراد به في الثَّاني: الكل، فكان المناسبُ إعادتَه باسمه الظَّاهر؛ لأنَّ الظَّاهر من الضَّمير عوده على ما ذكر أوَّلًا بعينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لئامًا
(1)
، فطافا في المجالس فاستَطعما"
(2)
.
{فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} وقرئ: (أن يُضِيْفُوهما)
(3)
. يقال: ضافَه: إذا كان له ضيفًا، وأضافه وضيَّفه: أنزله وجعله ضيفَه، هذا حقيقة الكلام، ثم شاع الضِّيافة كنايةً عن القِرى والإطعام، وبهذا انطبق مقتضى المقام.
{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} الانقضاض: السُّقوط بسرعة، وانقضَّ: انفعل، مطاوع قضَضْتُه، وقيل: افعلَّ من النَّقض، كاحمرِّ من الحمرة.
وقرئ: (أن يُنْقَضَ)
(4)
، و (أن ينقاصَ) بالصَّاد المهملة
(5)
، من انقاصَت السن: إذا انشقت طولًا، والإرادةُ مستعارة للمشارَفة كالهم والعزم.
{فَأَقَامَهُ} ذكر في الحديث المارِّ ذكرُه "أنَّه قال بيده "؛ أي: أشار إليه بها، وهو الأشبه بسائر أفعاله.
(1)
في (ك): "لئام "، والمثبت موافق لرواية مسلم.
(2)
هو إحدى روايات حديث أبي بن كعب السابق الذي ساق المصنف أطرافًا منه، رواها مسلم (2380).
(3)
نسبت لابن الزبير وأبي رزين وأبي رجاء وسعيد بن جبير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص:81).
(4)
بلا نسبة في "المحتسب"(2/ 31)، ونسبت لأبي بن كعب في "المحرر الوجيز"(3/ 534)، و"البحر المحيط"(14/ 339).
(5)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه، وكذا:(ينقاض) بالضاد المعجمة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 81).
{قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ} افْتَعَل من تَخِذَ، كاتَّبع من تَبِع، وليس من الأخذ عند البصريين، وقرئ:{لَاتَّخَذْتَ}
(1)
؛ أي: لأخذْتَ، واختلفوا في إظهار الذَّال وإدغامها
(2)
.
{عَلَيْهِ أَجْرًا} كانت الحالُ حالَ اضطرار وافتقار إلى المَطعم، وقد أَلزمتهما
(3)
الحاجة إلى آخر كسب المرء، وهو المسألة، فلم يجدا مواسيًا، فلمَّا أقام الجدار لم يتمالك موسى عليه السلام لِمَا رأى مِنَ الحِرْمان ومساس الحاجة أن قال ذلك، وبما قرَّرناه تبيَّن وجه تقديم استطعامهما عن أهل القرية وإبائهم
(4)
التضييف.
* * *
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ؛ أي: هذا الاعتراضُ الأخير سببُ فراقنا بحكم ما شرطْتَ على نفسك.
وإضافة الفراق إلى البَيْن إضافةُ المصدر إلى الظَّرف على الاتِّساع، وقرئ على الأصل
(5)
.
(1)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 145).
(2)
أظهرها ابن كثير وحفص، وأدغمها باقي السبعة. انظر:"التيسير"(ص: 44).
(3)
في (ف): "لزمتهما"، وفي (ك) و (م):"لزمتها". والصواب المثبت.
(4)
زاد في (ك): "عن".
(5)
أي: (فراقٌ بيني وبينَك)، ونسبت لابن أبي عبلة. انظر:"الكشاف"(2/ 740)، و"زاد المسير"(5/ 178)، و"البحر المحيط"(14/ 342).
تكريرُه بالإضافة إلى أحدهما مرَّة، وإلى الآخر أخرى مع كفاية: بيننا؛ لمعنى التَّأكيد. قاله سيبويه
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قول موسى عليه السلام في السَّفينة والغلامِ لله تعالى، فلم يكن سبباً للفراق، وكان قوله في الجدار لنفسه في طلب شيءٍ من الدُّنيا فكان سببًا له
(2)
.
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} : سأخبرك بما في باطن ما لم تقدر أن تصبرَ عليه لكونه منكرًا، أو غير مناسِبٍ للحال بحسب الظَّاهر. والسِّين للتَّأكيد.
* * *
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} لقومٍ ضعفاء لعارضتهم البدنيَّة كالزَّمانة والعمى والخرس، أو لعجزهم عن دفع الظلم، وهذا كما تقول لرجلٍ غنيٍّ وقع في وهلةٍ أو خَطْبٍ: مسكين؛ مرحمةً لحاله وشفقةً عليه، فلا دلالة فيه على أن المساكين تُطلق على مَن يملك مالًا إذا لم يكفه.
{يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} قد مرَّ ما يتعلَّق بتعيين البحر.
{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أجعلَها ذاتَ عيب، تفريع على كون السَّفينة للمساكين.
وقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} كالتَّعليل للتَّفريع، ومجيئه بالواو كثير في القرآن؛ منها قوله
(1)
انظر: "الكتاب"(2/ 402).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(15/ 321).
تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، فعلى هذا نظمُ الكلام في غاية الحُسن، ومَن لم يتنبَّه له تكلَّف في توجيهه
(1)
.
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} : أمامَهم، وقد قرئ به
(2)
، أو خلفَهم وكان رجوعهم إليه.
{مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صحيحةٍ سالمةٍ، وقد قرئ بكلٍّ منهما
(3)
.
{غَصْبًا} من صاحبها.
* * *
{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ} فيه تغليبٌ.
{مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} : يُغْشيهما {طُغْيَانًا} عليهما {وَكُفْرًا} لنعمتهما بعقوقه
(4)
، ويُلحق بهما شرًّا، ويقرنَ بإيمانهما طغيانَه وكفره
(5)
، فيجتمعَ في بيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٍ.
أو يُعديَهما بدائه
(6)
، ويضلَّهما بضلاله، فيرتدَّا بسببه، ويَطغَيَا ويكفرا بعد الإيمان.
(1)
في (ك) و (م): "يتكلف في توجيهه ".
(2)
قرأ بها ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري (3401)، ومسلم (2380).
(3)
قرأ ابن عباس: (صالحةٍ) كما في رواية الصحيحين السابقة، أما قراءة:(سالمة) فلم أقف عليها.
(4)
تحرفت في النسخ إلى: "بعقوبة"، والمثبت من "الكشاف"(2/ 741)، و"تفسير البيضاوي"(3/ 290).
(5)
في (م): "وكفرانه".
(6)
في النسخ: "بذاته"، والمثبت من "الكشاف"، وفي "تفسير البيضاوي":(بعلته).
أو بممالأته إيَّاهما
(1)
على طغيانه وكفره حبًّا.
وإنَّما خشيَ ذلك لأن الله تعالى أعلمه.
وقرئ: (فخافَ ربُّك)
(2)
؛ أي: كَرِه كراهةَ مَن خاف سوءَ عاقبته
(3)
.
قيل: ويجوز أن يكون قوله: {فَخَشِينَا} حكايةَ قوله تعالى، ولا يلائمه.
* * *
(81) - {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} .
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} : أن يرزقَهما بدله ولدًا.
{خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} : طهارةً من الذُّنوب والأخلاق الرديَّة.
{وَأَقْرَبَ رُحْمًا} والرَّحمةُ مصدران كالكُثْرِ والكَثْرةِ؛ أي: رحمة وعطفًا لديه، وقرئ:(رَحِمًا) بالتَّخفيف
(4)
.
نتصابه على التَّمييز، و (أفعل) هنا ليس للتَّفضيل؛ لأنَّ ذلك الغلام الكافرَ فيه، والمناسب للمقام أن لا يكون فيه رُحْمًا أيضًا، على أنَّ التَّفضيل بين
(1)
كذا في النسخ، والصواب:(بممالأتهما إياه)، وفي "تفسير البيضاوي":(بممالأته) وإسقاط (إياه)، وهو صواب أيضًا.
(2)
هي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه. رواها عنه الطبري في "تفسيره"(15/ 357). ونسبت لأبي بن كعب رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 157)، و"الكشاف"(2/ 741).
(3)
في (ف): "عاقبته ". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (6/ 199)، وقال الشهاب: قوله: كراهة من خاف سوء عاقبة؛ أي: ككراهته، إشارة إلى أنه استعارة إذ الخوف لا يليق بجنابه تعالى، وقيل: إن الخوف مجاز مرسل عن لازمه وهو الكراهة.
(4)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80).
التَّمييزين
(1)
بحمل أحدهما على التَّفضيل دون الآخر، لا يخلو عن نوعِ خللٍ في حسن النَّظم.
* * *
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} هي القرية المذكورة قبلها.
{وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} : هو كلُّ مالٍ مدخور
(2)
من ذهب وفضة، وروي مرفوعًا أنه كان ذهبًا وفضة
(3)
.
وعن قتادة: أُحِلَّ الكنز لمن قبلنا وحُرِّمَتِ الغنيمة
(4)
.
ولا دلالة فيه على أنَّه كان للأب الصَّالح حتى يُحتاج إلى الاعتذار بأنَّ الكنز المذموم ما لا تُؤدَّى زكاته.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} اعتداد بصلاح أبيهما، وحفظ
(5)
لحقِّه فيهما.
قيل: كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء.
{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} : قوَّتهما. قال الجوهري: هو ما بين ثماني
(1)
في (م): "التمييز".
(2)
في (ك): " مذخور".
(3)
رواه الترمذي (3152) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال: غريب.
(4)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 407)، وروى الطبري شطره الأول في "تفسيره"(15/ 365).
(5)
في (م): "وحفظه".
عشرة إلى ثلاثين
(1)
. والمراد: الإدراك إلى قوَّة الرَّأي لا إلى الحُلُم.
{وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} يعني: أراد الله تعالى بقاءَ ذلك المال مدفونًا محفوظًا عن أيدي التغلُّب إلى زمان بلوغهما مبلغَ الرِّجال الكاملينَ في الرَّأي، القادرين على استخراج الكنز سالمًا عن تعدِّي الغير، فإنَّ الصِّبيان والرِّجال العاجزين عن التَّدبير لا يقدرون على ذلك.
أسند الإرادة أوَّلًا إلى نفسه وإلى الله تعالى؛ لأنَّ التبديل بمباشرته إهلاكَ الغلام، وخلقِ اللهِ تعالى البدل، وثالثًا إلى الله تعالى وحده لأنَّه لاْ مدخل له أصلًا في بلوغ الغلامين أشدَّهما، ولأنَّ الأوَّل شرٌّ، والثَّالث خيرٌ، والثَّاني ممتزجٌ.
ولك أن تقول: في إضافة الفعل إلى نفسه على صيغة الانفراد نوعُ قصور في مراعاة أدب الكلام، فلا يُلتزم
(2)
إلا لعلَّة، وهي موجودة في الأوَّل ومفقودةٌ في الثَّاني، ولا مجال للإضافة إلى نفسه في الثَّالث، وتلك العلَّة صونُ جناب العزَّة أن يُعزَى إليه ما هو شرٌّ ظاهر.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} : نعمةً منه، وهي المالُ الحاصل بالسُّهولة، الواصلُ إلى صاحبه بلا كُلْفةِ الكسب.
وانتصابه على الحال، وقيل: مفعولٌ على أنَّ الرَّحمة بمعناها الشائع، أو مصدرٌ منصوب بـ {فَأَرَادَ رَبُّكَ} لأنَّه بمعنى: رحمهما، وأما تعلُّقه بمحذوف تقديره: فعلتُ ما فعلتُ رحمةً من ربِّك، فلا يلائمه قوله:
{وَمَا فَعَلْتُهُ} ، أي: ما فعلْتُ ما رأيتَه {عَنْ أَمْرِي} : عن رأي، إنَّما فعلتُه بأمر الله تعالى.
(1)
انظر: "الصحاح"(مادة: شدد).
(2)
في (ك): "يلزم ".
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أصله: تَستطع، فحذف التَّاء تخفيفًا.
* * *
(83) - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} .
{وَيَسْأَلُونَكَ} اليهود امتحانًا، أو مشركو مكَّة.
{عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} هو إسكندر الملك اليوناني المقدوني، وتلقيبُه بذي القرنين لِمَا روي مرفوعًا أنَّه مَلَكَ قَرْنَي الدُّنيا شرقَها وغربها
(1)
، قال الشَّاعر وهو التُّبَّعُ اليماني:
قد كان ذو القرنين جدِّي مسلمًا
…
ملكًا تدينُ له الملوكُ وتسجدُ
بلغَ المشارقَ والمغاربَ يبتغي
…
أسبابَ أمرٍ من حكيمٍ مرشدِ
(2)
وما قيل: إنه إسكندر الرُّومي ملك فارس والرُّوم، مردودٌ بأنَّه تلميذ أرسطو، ومذهبه مذهب الفلاسفة، وذو القرنين هذا لا شبهة في إسلامه وولايته، إنَّما
(3)
الخلاف في نبوَّته.
قال القرطبي: والظَّاهر من علم الأخبار
(4)
أنَّ إسكندر اثنان:
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 743). وقال ابن حجر في "الكافي الشاف"(ص: 104): (لم أجده مرفوعًا، وإنما رواه الدارقطني في "المؤتلف" من رواية عبد العزيز بن عمران، عن سليمان بن أسيد، عن الزهري قال: إنما سمي ذا القرنين لأنَّه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها).
(2)
انظر: "فتوح مصر"(1/ 103)، و"تاريخ دمشق"(17/ 332)، و"تفسير القرطبي"(13/ 370). مع اختلاف في بعض ألفاظه.
(3)
في (ف): "وإنما".
(4)
في (ف): "العلماء الأخبار"، وفي (ك) و (م):"الأخبار"، والمثبت من "تفسير القرطبي".
أحدهما: كان على عهد إبراهيم عليه السلام، وهو الذي قضى له حين تحاكموا في بئر السبع بالشام.
والآخر: كان قريبًا من عهد عيسى عليه السلام
(1)
.
{قُلْ} في جوابهم: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ} من ذي القرنين {ذِكْرًا} : خَبَرًا.
* * *
(84) - {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} .
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: أعطيناه التَّمكين فيها، وزيادةُ اللام للاختصاص.
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} من مهمَّات الملك {سَبَبًا} أصل السَّبب: الحبل
(2)
، ثمَّ تُوسِّع فيه حتى صار يُطلَق على ما يُتوصَّل به إلى الغرض.
* * *
(85) - {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} .
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} الفاء فصيحة، تقدير الكلام: أراد بلوغ المغرب فاتَّبع طريقًا يوصله إليه حتى بلغ. وقرئ بقطع الألف مخفَّفة التَّاء
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 366). ووقع في النسخ: "موسى عليه السلام "، والمثبت من المصدر.
(2)
في (ف): "الجعل".
(3)
قرأ الكوفيون وابن عامر: {فَأَتْبَعَ} {ثُمَّ أَتْبَعَ} {ثُمَّ أَتْبَعَ} في الثلاثة بقطع الألف مخففة التَّاء، والباقون بوصل الألف مشددة التاء. انظر:"التيسير"(ص: 145).
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ؛ أي: كثيرةِ الحَمْأة، وهي الطِّينة السَّوداء، من حَمِئَتِ البئر حَمَأً بالتَّحريك: إذا كثرَتْ حمأتُها
(1)
.
وقرئ: {حامِيَةٍ}
(2)
؛ أي: حارَة.
وقيل: لا تَنافيَ بينهما؛ لجواز أن تكون العين جامعةً للوَصْفَين، أو تكون {حَمِئَةٍ} من الحمأة، فخفِّفَتِ الهمزة وقُلِبَتْ ياء لانكسار ما قبلها، ويأبى عن ذلك ما جرى بين ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما.
وتفصيلُه على ما ذكره القرطبي: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقرأنيها أبيٌّ كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، وقال معاوية رضي الله عنه: هي {حامِيَةٍ} ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: وأنا مع أمير المؤمنين، فجعلوا كعبًا بينهم حكمًا، وقالوا: يا كعب، كيف تجدها في التَّوراة؟ فقال: أجدها: تغرب في عينٍ سوداء، فوافقَ ابنَ عبَّاس رضي الله عنهما
(3)
.
فإنه على تقدير التَّوفيق بين القراءتَيْن على أحد الوجهَيْن المذكورَيْن لَمَا تمشَّى الخلاف المزبور، ففيه تجهيل لهؤلاء الأعلام.
(1)
في القرطبي: (حَمَأْتُ البئرَ حَمْأً - بالتسكينِ -: إذا نَزَعْتَ حَمْاتها، وحَمِئتِ البئرُ حَمَأً - بالتحريك -: كَثُرَت حَمْأَتُها).
(2)
قرأ بها ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 145).
(3)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 369). والخبر رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 411)، والطبري في "تفسيره"(15/ 375)، والواحدي في "الوسيط"(3/ 164 - 165).
وما ذكره القفَّالُ: ليس المراد أنَّه انتهى إلى الشَّمس غربًا وشرقًا حتى وصل جِرمها؛ لأنَّها تدور مع السَّماء حولَ الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عينٍ من عيونها، بل هي أكبر منها أضعافًا مضاعفة
(1)
= مبناه على أصولٍ فلسفيَّةٍ لا تعويل عليها
(2)
.
ومنهم مَن تعمَّق وقال: لعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك، إذ لم يكن في مطمحِ بصره غير الماء، ولذلك قال:{وَجَدَهَا تَغْرُبُ} ، ولم يقل: كانت تغرب.
ويرِدُ عليه أن الوجدان يدل على الوجود، ولو كان المعنى على ما ذكر لقيل: رآها تغرب، ثم إن في إطلاق العين على البحر المحيط ما لا يخفى على ذي بصيرة.
{وَوَجَدَ عِنْدَهَا} عند تلك العين {قَوْمًا} كانوا كفَّارًا، فخيَّره فيهم بين الأمرين.
{قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} مَن قال: إنَّه كان نبيًّا تمسَّك بهذا الخطاب، ومَن أنكره قال: كان الخطاب على لسانِ نبيٍّ في عهده، واحتمالُ الإلهام لا يجدي؛ لأنَّ الدَّعوة إلى الحقِّ لا تكون إلَّا من نبيٍّ أو نائبه.
{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} بالقتل على الكفر {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ} لم يقل: لهم، دلالةً على الثُّبوت والاستقرار.
{حُسْنًا} ، أي: ذا الحسنَى فيهم، دعوتهم إلى الله تعالى وتوحيده.
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 370).
(2)
بل ما قاله القفال رحمه الله هو الأقرب إلى الصواب عدا ما ذكره من كون الشمس تدور حول الأرض، وتتمة كلامه كما في المصدر السابق: (بل المرادُ أنَّه انتهَى إلى آخِرِ العِمَارةِ مِن جهة المغربِ ومن جهةِ المشرِقِ، فوجدها في رأْيِ العين تَغْرُبُ في عينٍ حَمِئَةٍ، كما أنَّا نشاهدُها في الأرضِ الملساءِ كأَنَّها تدخلُ في الأرضِ
…
).
وما قيل: خيَّر الله تعالى بين القتل والأسر، وسمَّاه: إحسانًا في مقابلةِ القتل - يأباه قوله: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} ؛ لأنَّه دلَّ على أنَّه آثر الدَّعوة، وقد كان في التخيير
(1)
بلفظ: {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}
(2)
، وإضمارِ متعلَّق التَّعذيب مع إظهار متعلَّق الحسنى، إيماءٌ إلى ترجيح الشِّقِّ الثَّاني، فنبَّه له
(3)
وآثر ما يحقُّ الإيثار.
* * *
{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} : أمَّا مَن دعوتُه فظلمَ نفسه بعدم قَبول الدَّعوة والاستمرار على الكفر.
{فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أتى بحرف التسويف إشعارًا بما يتخلل بين اختيارهم عدم قَبول الدَّعوة وتعذيبِهم بالقتل من الإمهال بتكرار الدَّعوة إظهارًا لإصرارهم على الكفر.
وبنون العظمة في {نُعَذِّبُهُ} على عادة الملوك في قولهم: نحن فعلنا.
{ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} كان خطابه لأتباعه، فإنَّه تعالى لَمَّا خَيَّرَه بينَ الأمرَيْنِ المذكورَيْنِ أعلم بذلك أتباعه.
[وقيل: فيه إشعار بأنَ التَّخْييرَ لذي القرنين ليس مِن اللهِ تعالى، إذ لو كان كذلك لكانَ التَّركيبُ] ثم يُرَدُّ إليك [فتعذبه]
(4)
.
{فَيُعَذِّبُهُ} في الآخرة {عَذَابًا نُكْرًا} : عذابًا منكرًا لم يُعهد مثلُه.
(1)
في (ك) و (م): "التنجيز".
(2)
في النسخ: "إما أن تتخذ فيهم حسنى".
(3)
في (ف): "فسر له "، وفي (ك):"فسهله".
(4)
ما بين معكوفتين مستفاد من "البحر"(14/ 359)، ولا يستقيم السياق إلا بمثله.
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} مما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ} في الدَّارين.
{جَزَاءً الْحُسْنَى} : جزاءُ الفعْلةِ الحُسنى.
وقرئ منوَّنًا منصوبًا على الحال
(1)
؛ أي: فله المثوبةُ الحسنى مجزيًّا بها، أو على المصدر لفعله المقدَّر حالًا؛ أي: يُجزى بها جزاءً، أو على التَّمييز.
وقرئ منصوبًا غيرَ منوَّن
(2)
، على أنَّ تنوينه حُذِفَ لالتقاء السَّاكنين، ومنونًا مرفوعًا
(3)
، على أنه المبتدأ والخبر [الجارُّ والمجرور، و {الْحُسْنَى} بدله]
(4)
.
{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا} : ممَّا نأمرُ به {يُسْرًا} : قولًا ذا يسر. وقرئ بضمَّتين
(5)
.
قيل: ويجوز أن تكون {أَمَّا {وَأَمَّا} للتَّقسيم دون التَّخيير؛ أي: ليكن شأنك معهم إمَّا التَّعذيب وإمَّا الإحسان؛ فالأوَّل لمن أصرَّ على الكفر، والثَّاني لمن تاب.
ويأباه تصدير الجواب بـ {إِمَّا} التَّفصيليَّة؛ لأنَّه يستدعي لسبق
(6)
الإجمال، وعلى ما ذكر إجمال في الكلام السابق.
(1)
وهي قراءة حفص وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 145).
(2)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 540)، و"البحر المحيط "(14/ 361).
(3)
نسبت لعبد الله بن أبي إسحاق. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 471)، و"المحرر الوجيز"(3/ 540)، و"البحر المحيط"(14/ 361).
(4)
ما بين معكوفتين مستفاد من المصادر. انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 292)، و"البحر"(14/ 361)، و"روح المعاني"(15/ 558).
(5)
أي: (يُسُرأ)، قرأ بها أبو جعفر حيث وقعت. انظر:"النشر"(2/ 216).
(6)
في (ف): "سبق".
(89) - {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} .
{(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} : ثم اتَّبع طريقًا، وهو الذي يوصله إلى المشرق، [وقرئ]
(1)
بقطع الألف مخففة التاء.
* * *
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} يعني: الموضعَ الذي تطلع الشَّمس عليه
(2)
أوَّلًا من معمورة الأرض. وقرئ بفتح اللَّام
(3)
.
قال الجوهري: والمطلع أيضًا
(4)
: موضعُ طلوعها
(5)
. فلا حاجة إلى إضمار مضاف.
{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} ؛ أي: حجابًا يستترون به عند طلوعها، قيل
(6)
: لا جبلَ فيها ولا شجر ولا مأوى، ولا لهم ثوب يسترهم، فإذا طلعت عليهم الشمس دخلوا في الأسراب - وقيل: في النَّهر - فإذا ارتفعت عنهم خرجوا إلى معايشهم.
* * *
(1)
ما بين معكوفتين زيادة يقتضيها السياق، وقد تقدم تخريج القراءتين في الموضع الأول.
(2)
في (ف): "تطلع فيه الشمس".
(3)
نسبت للحسن وعيسى وابن محيصن. انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 540)، و"زاد المسير"(5/ 187)، و"البحر المحيط"(14/ 361).
(4)
في (ك): "والمطلع هنا"، والمثبت من باقي النسخ والمصدر.
(5)
انظر: "الصحاح"(3/ 1253)(مادة: طلع).
(6)
في (ف): "وقيل".
(91) - {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} .
{كَذَلِكَ} ؛ أي: أمرُ ذي القرنين كذلك؛ أي: كما وصفناه في رِفعة المكان وبَسطة الملك.
و [قيل]
(1)
: لم نجعل لهم من دونها سترًا مثلَ ذلك السِّتر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كلِّ جنس، والثِّياب من كلِّ صنف.
{وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من العَدد والعُدد.
{خُبْرًا} تكثيرًا كذلك؛ يعني: أن كثرة ذلك بلغت مبلغًا لا يحيط به إلَّا علم اللَّطيف الخبير.
* * *
(92) - {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} .
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} ثم اتَّبع طريقًا آخر، وهو المعترض بين المشرق والمغرب، آخذًا
(2)
من الجنوب إلى الشَّمال.
* * *
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} هما على ما ذكره وهبٌ: جبلان متَّسعان في السَّماء أملسان، يزلق عليهما كلُّ شيءٍ
(3)
.
(1)
ما بين معكوفتين من "الكشاف"(2/ 745).
(2)
في (ف): "أخذ".
(3)
انظر: "زاد المسير"(5/ 189). وفيه: "هما جبلان منيفان في السماء" دون "أملسان يزلق عليهما كل شيء". وروى نحوه مرفوعًا أبو الشيخ في "العظمة"(4/ 1468). والمنيفان:=
وإنَّما سُمِّيا سدَّين لسدِّهما فجاج الأرض، وكانت بينهما فجوة يلج
(1)
فيها يأجوج ومأجوج، وهذا المكان في منقطع أرض التُّرك.
وما قيل: هما جبلا أرمينية وأذربيجان؛ وهمٌ.
وقرئ: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بالضَّم
(2)
.
قال الكسائي: هما لغتان، كالمَكْث والمُكْث.
وقال أبو عمرو: السَّدُّ بالفتح: الحاجز بينك وبين الشَّيء، وبالضَّمِّ: الغشاوة في العين
(3)
.
ولهذا قال مَن قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو بالفتح، وما كان من صنعة الله تعالى فهو بالضَّم.
وانتصب {بَيْنَ} على أنه مفعولٌ به؛ لأنَّه من الظروف المتصرفة.
{وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا} اختلف في عددهم وصفاتهم، ولم يصحَّ في ذلك شيء.
{لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} : لا يفقهونه من إشارة ونحوها إلَّا بجهد ومشقَّة، فإنَّ زيادة (يكاد) قد تكون لإفادة هذا المعنى، كما في {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، وذلك لقلَّة فطنتهم، وأما غرابة اللغة فلا يصح علةً لهذا.
= المرتفعان كما قال الشهاب في "الحاشية"(6/ 134).
(1)
في (م) و (ف): "تلج ".
(2)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين وباقي السبعة بضمها. انظر: "التيسير"(ص: 145).
(3)
انظر القولين في "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 306).
وقرئ: {يَفْقَهُونَ}
(1)
؛ أي: لا يُفْهِمون السَّامعَ كلامَهم، أو لا يبينونه
(2)
إلَّا بمشقة لغرابة لغتهم أو لَثْغتهم.
* * *
{قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} دلَّ هذا الخطاب على أنَّه لقبُ تعظيم، وهو في المعنى الذي ذكرناه فيما سبق دون غيره من المعاني المذكورة في التَّفاسير، وقدرةُ ذي القرنين على فهم قولهم وتفهُّمهم من جملة الأسباب التي آتاه الله تعالى.
{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} اسمان لقبيلتين من ولد يافث، ممنوعا الصَّرف، ولا دلالة فيه على عجميَّتهما لوجود علَّتين أخريين: التَّأنيث والعلميَّة. وقرئا مهموزين
(3)
.
قال الأخفش: مَن همز جعل الألف من الأصل، كأنه من أجيج النَّار، ومَن لم يهمز جعل الألف زائدة وقال: يأجوج من يَجَجْت [ومأجوج من مَجَجْت]
(4)
.
وقال أبو عليٍّ: إن همز يأجوج فهو من أجَّت النَّار، وإن لم يهمز فيمكن أن
(1)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 145).
(2)
في (ف): "يثبتونه".
(3)
قرأ عاصم بهمزهما، وباقي السبعة بغير همز. انظر:"التيسير"(ص: 146).
(4)
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (3/ 57)، و"الصحاح" (مادة: أجج)، و"تفسير القرطبي"(13/ 377). وما بين معكوفتين من المصادر.
يكون خفَّفَ الهمزة فقلبت ألفًا مثل: راس، وأما مأجوج فهو مفعول من أجَّ، وإن لم يُهْمَز فيجوز أن يكون على التَّخفيف وأن يكون فاعولًا من مَجَّ
(1)
.
{مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالقتل والتَّخريب والإتلاف، قيل: كانوا يخرجون أيَّام الرَّبيع فلا يتركون أخضرَ إلَّا أكلوه، ولا يابسًا إلَّا احتملوه، وقيل: كانوا يأكلون النَّاس.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ} استفهام على جهة حُسن الأدب.
{خَرْجًا} : جعلًا، نخرجه من أموالنا
(2)
.
وقرئ: {خَراجًا}
(3)
، قال أهل اللغة: الخَرْجُ: ما يُخرج من المال، والخَراجُ: ما يُخرج من الأرض، وقيل: كلاهما واحد كالنَّوْل والنَّوال.
{عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} يمنعُهم من
(4)
الخروج علينا.
وقرئ: {سَدًّا} بالفتح والضم
(5)
.
قال القرطبي: قال الخليل وسيبويه: الضمُّ هو الاسم والفتح المصدر، وقال عكرمة وأبو عمرو وأبو عبيدة: ما كان بخلق الله تعالى ولم يشاركه فيه أحد فهو بالضَّم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح، ويلزم أهلَ هذه المقالة أن يقرؤوا هنا
(1)
انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي (5/ 172)، وانظر:"تفسير القرطبي"(13/ 378).
(2)
في (ف) زيادة "امها"، وفي (م) زيادة "إنهابًا". والمثبت من (ك) و" الكشاف" و"تفسير البيضاوي".
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 146).
(4)
في (ف): "عن ".
(5)
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بالضم، وباقي السبعة بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 146).
بالفتح، وفيما
(1)
سبق [{بَيْنَ السَّدَّيْنِ}] بالضَّم، وهي قراءة حمزة والكسائي
(2)
.
والعجب أنَّ الكسائي ينكر الفرق بينهما معنى، فحقُّه أن لا يخصِّص أحدهما بموضع والآخر بموضع آخر، وأبو عمرو يعترف بالفرق وموجَبُه التَّخصيص المذكور، فكلٌّ منهما أخذَ ما هو حقُّ صاحبه.
* * *
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي} : ما جعلني فيه مكينًا من كثرة المال والملك {خَيْر} مما يبذلون لي من الخَرَاج، فلا حاجة.
وقرئ: {مَكَّنَنِي} على الأصل
(3)
.
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أراد معاونتهم بعمل اليد وبقوَّة البدن
(4)
، والتَّخصيصُ بقوَّة العمل من ضعف الفِطْنة، فكأنه قال: رفعتُ عنكم مؤنةَ المعونة بالمال، فأعينوني بخدمةٍ بلا أجر، وهذا من تأييد الله تعالى، حيث آثر ما هو أيسرُ في حقِّهم، وأنفعُ في حقِّه، وأسرع في قضاء الحاجة.
{أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} الرَّدمُ: السَّدُّ المتراكِبُ، من قولهم: ثوب مُردَّم: إذا كان رقاعًا فوق رقاع.
* * *
(1)
في (ف): "فيما".
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 384)، وما بين معكوفتين منه، وتقدمت القراءة في مكانها.
(3)
وهي قراءة ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 146).
(4)
في (ك): "بقوة البدن "، وفي (ف):"بقوة اليدين".
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} الزُّبر - بفتح الباء وضمها -: جمع زُبرة، وهي القطعة العظيمة، ولا يلزم أن يكون من الحديد، دلَّ عليه قوله تعالى:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} [المؤمنون: 53]، ولذلك قيَّده بالإضافة إلى الحديد، وإعطاؤها من قبيل تحصيل
(1)
الآلة بالخدمة؛ لأنها ممَّا تحصل بمجرد العمل، فلا حاجة إلى صرف الإيتاء عن معناه إلى معنى المناولة، ولا دلالة على ذلك في قراءة:{آتُونِي} بكسر النَّون موصولة الهمزة
(2)
، على معنى: جيئوني
(3)
.
والباء محذوفة حذْفَها في (أمرتك الخير)؛ لأنَّه هنا
(4)
في معنى الإعطاء غاية لا بعينه
(5)
.
{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} في الكلام محذوفٌ تقديرُه: فأتوه بما طلب حتَّى إذا ساوى، يعني: البناء بَيْن الصَّدَفينِ، والصَّدفُ: الجبل المرتفع. ذكره الجوهري
(6)
.
(1)
في (ف): "تخصيص ".
(2)
قرأ أبو بكر: (ردمًا ائتوني) بكسر التنوين وهمزة ساكنة بعده من باب المجيء، وإذا ابتدأ كسر همزة الوصل وأبدل الهمزة الساكنة بعدها ياء. انظر:"التيسير"(ص: 146).
(3)
في النسخ: "جئتموني "، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(3/ 293).
(4)
في (ك) و (م): "لأنَّه لا هنا".
(5)
في (ف): "غايته لا بعينه"، وفي (م):"غايته لا يعاينه".
(6)
انظر: "الصحاح"(مادة: صدف)، وفيه:"والصَدَفُ والصُدَفُ: منقطَعُ الجبلِ المرتفع، وقرئ بهما قوله تعالى: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} ".
وقرئ بضمَّتين، وبالضَّمِّ والسُّكون
(1)
، وبالفتح والسُّكون
(2)
، وبفتح الأوَّل وضمِّ الثَّاني
(3)
، والكلُّ بمعنًى واحد.
{قَالَ انْفُخُوا} ؛ أي: على زبر الحديد بالأكيار.
{حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} ؛ أي: جعل النَّفخُ ما نُفِخَ فيه كالنَّار بالإحماء.
{قَالَ آتُونِي} فيه القراءتان اللَّتان في {آتُونِي} المتقدمة.
{أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} : نحاسًا مُذابًا من القِطر؛ لأنَّه إذا أذيب قَطَرَ كما يقطر الماء، منصوب بـ {أُفْرِغْ} ، وتقديره: آتوني قطرًا أفرغ عليه قطرًا، فحُذف الأوَّل لدلالة الثَّاني عليه؛ إذ لو أُعمل الأوَّل لقيل: أفرغه؛ إذ لا يُضمر في الثَّاني على الفصيح.
* * *
(97) - {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} .
{فَمَا اسْطَاعُوا} حذف التاء تخفيفًا لقربها من الطَّاء، وقرئ بالإدغام
(4)
، وهو على غير حدِّه؛ إذ لا يصحُّ إلَّا أن يكون قبل الإدغام متحرِّك أو حرف مدٍّ ولين، ولذلك قال أبو علي: هي غير جائزة
(5)
.
وقرئ بقلب السِّين صادًا
(6)
.
(1)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} بضمتين، وأبو بكر بضم الصَّاد وإسكان الدَّال، والباقون بفتحتين. انظر:" التيسير"(ص: 146).
(2)
نسبت لقتادة. انظر: "المحرر الوجيز"(3/ 543)، و"البحر المحيط"(14/ 370).
(3)
نسبت للماجشون. انظر: "المحتسب"(2/ 34)، و" المحرر الوجيز"(3/ 543).
(4)
أي: بإدغام التاء في الطاء، وهي قراءة حمزة. انظر:"التيسير"(ص: 146).
(5)
انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي (5/ 178).
(6)
انظر: "الكشاف"(2/ 748)، و"البحر المحيط"(14/ 371).
{أَنْ يَظْهَرُوهُ} : أن يَعْلوه بالصُّعود لارتفاعه وانملاسه.
{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لصلابته وثخانته.
* * *
{قَالَ هَذَا} إشارة إلى السَّدِّ {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} على عباده.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} ، أي: فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي، تفريع على ما ذُكِرَ؛ يعني لَمَّا كان وجوده رحمة ينعدم عند انتهاء زمان الرَّحمة بانقضاء المستحقِّين لها.
{جَعَلَهُ دَكَّاءَ} : مدكوكًا مبسوطًا مسوًّى بالأرض، وكلُّ ما انبسط بعد ارتفاعه فقد اندكَّ، ومنه الجملُ الأدكُّ: المنبسط السَّنام.
وقرئ: {دَكَّاءَ} بالمدِّ
(1)
، أي: أرضًا مستوية.
{وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} كائنًا لا محالة، وهو آخر القصَّة.
* * *
(99) - {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} .
{وَتَرَكْنَا} : جعلنا {بَعْضَهُمْ} بعض الخلق
(2)
{يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ} يضطرب {فِي بَعْضٍ} فيختلطون إنسُهم وجنُّهم
(3)
حيارَى.
(1)
قرأ الكوفيون بالمد والهمز من غير ثنوين والباقون بالتنوين من غير همز. انظر: "التيسير"(ص: 146).
(2)
في النسخ: "الحق "، والمثبت من "الكشاف"(2/ 748).
(3)
في النسخ: "السهم وجهنم". والمثبت من المصدر السابق.
{وَنُفِخَ فِي الصُّور} هذه النَّفخة نفخة الإنشاء، لا نفخةُ الإفناء، دلَّ على ذلك الفاء التَّعقيبيَّة في قوله:
{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} للحساب والجزاء، وما هو لقيام السَّاعة إنَّما هو نفخة الإفناء.
* * *
(100) - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} .
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ} : وأبرزنا لهم.
{عَرْضًا} أشار بتنكيره إلى خروجه عن حدِّ التَّعريف والبيان.
* * *
(101) - {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} .
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} : عن آياتي التي يُنظر إليها، فأُذكَرُ بالتَّوحيد والتَّعظيم.
{وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} : استماعًا
(1)
لذكري وكلامي لفرط صممهم عن الحقِّ، وهذا أبلغ من إثبات الصَّمم لهم؛ لأنَّ الاسم قد يستطيع السَّمع إذا صيح به
(2)
.
* * *
(1)
في النسخ: "إسماعا"، والتصويب من "تفسير البيضاوي"(3/ 294).
(2)
"به" من (ك).
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : (أفظنَّ الذين كفروا)، وقد قرأ كذلك ابن مسعود رضي الله عنه
(1)
، معطوف على قوله:{كَانَتْ} {وَكَانُوا} دلالةً على أن الحسبان ناشئ من التَّعامي والتَّصامِّ، وأُدخل عليه همزةُ الإنكار ذمًّا على ذمٍّ، وقطعًا له عن المعطوف عليهما لفظًا لا معنًى؛ للإيذان بالاستقلال المؤكِّد
(2)
للذَّم في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، من وضع الظاهر مقام المضمَر زيادة للذَّم.
{أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي} : هم
(3)
مَنْ عُبِدَ من الملائكة والمسيح وعزيرٍ عليهم السلام.
{مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} يعني: أنَّهم لا يكونون أولياء كما حكي عنهم: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ: 41].
[وقرئ]
(4)
: (أَفَحَسْبُ الذين كفروا)
(5)
؛ أي: أفكافيهم
(6)
ومُحْسِبُهم أن يتخذوهم أولياء، على الابتداء والخبر، أو على الفعل والفاعل؛ لأن النَّعت إذا اعتمد الهمزة ساوى الفعلَ في العمل.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} استئناف لبيان خطأ حسبانهم، وفي جعل جهنَّم نزلًا
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 749)، و"المحرر الوجيز"(3/ 545)، و"البحر المحيط"(14/ 373).
(2)
في النسخ: "بالاستقلال المذكور"، والمثبت من "روح المعاني"(15/ 586)، والكلام من "الكشف" على ما صرح به الآلوسي.
(3)
"هم "من (ك).
(4)
ما بين معكوفتين زيادة لتوضيح الكلام. وانظر: "الكشاف"(2/ 749).
(5)
نسبت لعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80)، و"الكشاف"(2/ 749).
(6)
في (ف) و (م): "أمكافيهم".
لهم - وهو ما يقام للنَّزيل
(1)
؛ أي: الضيف - تهكُّمٌ بهم، وتنبيهٌ على أنَّ لهم وراءها من العذاب ما تُستعذب وتُستلذُّ جهنَّم بالنِّسبة إليه.
* * *
(103) - {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} .
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} نصب على التَّمييز، وجُمع لتنوُّع أعمالهم.
* * *
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : ضاع وبطل لكفرهم وإنكارهم الحشر.
قيل: هم الخوارج أهلُ حَرُوراءَ.
وقيل: هم الرُّهبان أصحاب الصَّوامع.
ويردُّهما قوله تعالى بعد ذلك: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، إذ ليس منهما مَن يكفر بلقاء الله تعالى والبعث والنَّشر.
ومحله الرَّفع على الخبر المحذوف، فإنَّه جواب السُّؤال، أو الجرُّ على الوصف، أو على البدل، أو النصب
(2)
على الذَّم.
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} لعُجبهم واعتقادهم أنَّهم على الحقِّ.
* * *
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} بدلائله المنصوبةِ على التَّوحيد والنُّبوَّة، أو: بالقرآن.
(1)
في (ف) و (م): "للتنزيل ".
(2)
في (ف): "البدلية أو انتصب".
{وَلِقَائِهِ} بالبعث على ما هو عليه، أو: لقاءِ عذابه.
{فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بكفرهم فلا ينتفعون بها، لا بنيل الثَّواب ولا بتخفيف العذاب.
{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} : فلا نضع لهم ميزانًا لوزن
(1)
أعمالهم؛ لانحباطها.
وقيل: فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا.
وَيرِدُ عليه: أنَّ حقَه حينئذ أن يعطف بالواو عطفَ أحدِ الفرعين على الآخر، لأنَّ منشأ الإزدراء بهم كفرُهم بآيات الله تعالى ولقائه، لا حبوطُ أعمالهم.
* * *
(106) - {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} .
{ذَلِكَ} ؛ أي: الأمر ذلك، وقو له:{جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مبيِّنة له.
ويجوز أن يكون {ذَلِكَ} مبتدأً، والجملة خبره، والعائد محذوف؛ أي: جزاؤهم به، أو {جَزَاؤُهُمْ} بدلُه، و {جَهَنَّمُ} خبره، أو {جَزَاؤُهُمْ} خبره، و {جَهَنَّمُ} عطف بيان للخبر.
{بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} ؛ أي: بسبب ذلك، وقد تقدَّم تفسيره الهزو
(2)
.
* * *
(107) - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ} فيما سبق مِن حكم الله ووعده.
(1)
في (ف) و (ك) تحتمل: "بوزن" أو "يوزن "، وفي (م):"يوزن". والصواب المثبت.
(2)
في (ك) و (م): "تفسير الهزء". وتقدم تفسير كليهما عن قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} .
{جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} قد مرَّ معنى النزل وما فيه من التَّنبيه. و {الْفِرْدَوْسِ} : البستان الذي يجمع محاسن كلِّ بستان. قاله الزَّجَّاج
(1)
.
وروي مرفوعًا أنَّه أوسط الجنَّة وأعلاها
(2)
.
* * *
(108) - {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} .
{خَالِدِينَ فِيهَا} نصبٌ
(3)
على الحال، ولَمَّا كان ما ذكر في سابق تقديره تعالى لم يحتج هاهنا إلى تقدير.
{لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} ؛ أي: لا يطلبون عنها التَّحوُّل؛ إذ لا مزيد عليها حتى تنازعَهم إليه أنفسُهم، بل فيها جميع ما تشتهي أنفسهم، وهذه غاية الوصف.
والتَّحوُّلُ: التَّنقُّل من موضعٍ إلى موضعٍ، والاسم: الحِوَل. ذكره الجوهري
(4)
.
وفيه تأكيد الخلود؛ لأنَّهم إذا لم يريدوا الانتقال عنهما لا يُنْقَلون
(5)
؛ لعدم الإكراه فيها.
* * *
(1)
انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (3/ 315).
(2)
روى البخاري (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن في الجنة مئة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة - أراه - فوقه عرش الرَّحمن، ومنه تفجر أنهار الجنَّة".
(3)
في (ك): "نصبه".
(4)
انظر: "الصحاح"(4/ 1680)(مادة: حول).
(5)
في (ك): "لا ينتقلون "، وفي (م):"لم ينتقلون".
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} هو في الأصل: الحاوي شيئًا بعدَ شيءٍ على اتِّصال، وصار اسمًا لكلِّ ما يُمَدُّ به الشَّيء على العموم، والمراد هنا: الحِبر، وهو اسم خاصٌّ لِمَا في المِحبرة.
{لِكَلِمَاتِ رَبِّي} : لكلماتِ علمه وحكمته.
{لَنَفِدَ الْبَحْرُ} : لنفد جنسُ البحر؛ أي: لم يبقَ منه شيء؛ لتناهيه.
{قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} قرئ بالتَّاء والياء
(1)
.
{كَلِمَاتُ رَبِّي} لعدم تناهيها، وفي نفاده قبل نفادها لا يلزم تحقُّق نفادها بعد نفاده، ولذلك يقع الطَّلاق الواحد إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالقٌ واحدةً بعد واحدةٍ.
{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} : بمثلِ البحر الموجود مَددًا لنفد أيضًا، والكلمات أيضًا غيز نافدة؛ ضرورةَ أنَّ كلَّ ما يدخل تحتْ الوجود متناهي
(2)
المقدار، فلا بُدَّ مِنْ نفاده، بخلافِ ما لا نهاية له فإنَّه يستحيل نفادُه.
و {مَدَدًا} : تمييز، وهو مثلُ المداد، وقرئ:(مِددًا) بكسر الميم
(3)
، جمع مِدَّة، وهي
(4)
ما يَستمدُّه الكاتب فيَكتبُ به.
(1)
قرأ حمزة والكسائي بالياء، والباقون بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 146).
(2)
في النسخ: "متناه"، والصواب المثبت.
(3)
نسبت للأعرج. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 80).
(4)
في (ف): "وهو".
وقرئ: (بمثله مدادًا)
(1)
.
وسبب نزوله: أنَّ اليهود قالوا: في كتابكم: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وتقرؤون:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فنزلَتْ. يعني أن ذلك خيرٌ كثيرٌ، ولكنَّه قطرةٌ من بحر كلمات الله تعالى
(2)
.
* * *
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} في العجز عن الإحاطة عن كلماته
(3)
، إلَّا أنِّي أفارقكم بنزول الوحي عليَّ، وبعضِ الإحاطة بسببه.
{يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} نبَّه على الوحدانيَّة؛ لأنَّهم كانوا كفارًا بقولهم: عزيرٌ ابن الله، ثمَّ حضَّ على ما فيه النجاة بقوله:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الرَّجاء: توقُّع الخير في المستقبل، وهو الطَّمع أيضًا، لكنَّه يُستعمل في الأمور المحمودة.
وفرِّق بين الرَّجاء والاغترار: بأنَّ الرَّجاء يكون لمن مهَّد أسباب المرجوِّ، والاغترار لمن أخلَّ بها.
(1)
نسبت لابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص:80).
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 162)، و"المحرر الوجيز"(3/ 546)، و"الكشاف"(2/ 750).
(3)
"عن كلماته" كذا في النسخ، ولعل الصواب:(بكلماته).
والمراد من لقاء الله تعالى: كرامتُه، وتقدير المضاف على أن يكون الكلام:(حُسْنَ لقاء ربِّه) لا يغني عن هذا التَّجوُّز، وهذا يغني عنه.
{فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} لائقًا لذلك الرَّجاء.
{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} قال ابن جبير: لا يرائي في عمله، ولا يبتغي إلَّا وجهَ ربِّه خالصًا لا يخلط به غيره
(1)
.
روي: أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنِّي أعمل العمل لله تعالى، فإذا اطَّلع عليه أحدٌ سرَّني؟ فقال:"إن الله لا يقبل ما شُوْرِكَ فيه" فنزلَتْ تصديقًا له عليه السلام
(2)
.
وعنه عليه السلام: "اتقوا الشِّركَ الأصغرَ" قالوا: وما الشِّركُ الأصغرُ؟ قال: "الرياء"
(3)
.
(1)
انظر: "النكت والعيون"(3/ 350)، و"زاد المسير"(5/ 203).
(2)
قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"(2/ 313): (غريب، وذكره الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس رضي الله عنهما. قلت: هو في "أسباب النزول" (ص: 292).
ورواه بنحوه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(1591)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 304)، من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومحمد بن مروان كذاب، والكلبي متروك، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، والإسناد كما ترى.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(23630) و (23636) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4301) من حديث محمود بن لبيد عن رافع بن خديج رضي الله عنهما.
ورى نحوه البزار في "مسنده"(3481)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7160)، والحاكم في "المستدرك"(7937)، وصححه.
والآية جامعة لخاصَّتي العلم والعمل، وهما التَّوحيد والإخلاص في الطَّاعة.
وقرئ: (تشرك) بالتَّاء
(1)
، التفاتًا من الغيبة إلى الخطاب، ثم عاد إلى الالتفات من
(2)
الخطاب إلى الغيبة في {رَبِّهِ}
(3)
. والله أعلم بالصواب.
* * *
(1)
انظر: "البحر المحيط"(14/ 383).
(2)
"الالتفات من": ليست في (م).
(3)
"والله أعلم بالصواب" ليست في (ف).
سُورَةُ مَرْيَمَ عليها السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {كهيعص} .
{كهيعص} قد سبق القول فيه
(1)
.
* * *
(2) - {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} .
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبرُ محذوفٍ؛ أي
(2)
: هذا ذِكْر، أو خبرُه محذوفٌ؛ أي: فيما يُتْلَى عليك ذكرُ.
وقرئ: (ذَكَّرَ) مشدَّدًا على الماضي من التذكير، ونصبِ (رحمةَ)
(3)
؛ أي: هذا المتلوُّ ذكَّرَ رحمةَ ربِّك.
(1)
في هامش (س): "تقدم الكلام في أول البقرة على الحروف المنقطعة التي في فواتح السور بما يتوقف عليه هناك، كذا في تفسير الشيخ الإمام أثير الدين أبو [كذا] حيان رحمه الله".
(2)
في (م): "تقديره".
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86) ونسبها ليحيى بن يعمر، و"المحتسب"(2/ 37) ونسبها للحسن.
و: (ذَكِّر) على الأمر
(1)
، وهذا صريحٌ في عدم اتصاله بما قبله، فالوجه أن يُعرب الباقون موافقًا لهذا؛ لأن الأصل في القراءات التوافق.
{عَبْدَهُ} مفعول الرحمة، أو الذكر، على أن الرحمة فاعلُه على الاتِّساع، كقولك: ذَكَرني جودُ زيد.
{زَكَرِيَّا} بدل منه، أو عطف بيان له.
* * *
(3) - {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} .
{إِذْ} ظرف للرحمة، دلالةً على أن وقت ندائه هو وقت رحمة ربِّه لم يتخلَّف عنه.
{نَادَى رَبَّهُ} النداء قد يُستعمل في مطلَق الخطاب، كما في قوله:{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم: 24] فلا تَنافيَ في قوله: {نِدَاءً خَفِيًّا} بين الصفة والموصوف.
أي: دعا دعاءً سرًّا
(2)
؛ لأن
(3)
الإسرار والجهر
(4)
عند الله سِيَّان، وعندنا الإسرارُ أبعدُ من الرياء وأقرب إلى الصفاء، وأخفاهُ لئلا يُلام على طلب الولد في أوانِ الكِبَر، فإنه كان حينئذٍ متجاوزًا إلى الهَرَم، على ما دلَّ عليه قوله:{وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} .
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86) ونسبها ليحيى بن يعمر.
(2)
في (م): "مسرًّا".
(3)
في (ف) و (ك): "لا أن ".
(4)
في هامش (س) و (ف): "من قال: لأن الإخفاء والجهر، كأنه غافل من أن مقابل الإخفاء الإعلان دون الجهر فإنه مقابل الإسرار. منه". وفيه رد على البيضاوي في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} لأن الإِخفاء والجهر عند الله سيان).
{قَالَ رَبِّ إِنِّي} استئناف لتفسير النداء {وَهَنَ الْعَظْمُ} الوَهن: الضعْف، وقُرئ بالحركات الثلاث
(1)
، وتخصيص العَظْم؛ لأنَّه دعامة البَدَن وأصلُ بنائه؛ فتطرُّق الضعف إليه موجبٌ لتطرُّقه إلى كل البدن، ولأنه أصلبُ ما فيه، فإذا وهنَ كان ما وراءَه أوهنَ، وتوحيدُه لأن المراد الجنس، ولو جمع لكان قصدًا إلى معنًى آخر، وهو أنه لم يَهِن منه
(2)
بعضُ عظامه ولكن كلُّها، وذلك ليس مقصودًا بحسب المساق، وما زاد على المقصود يُعدُّ لُكْنةً
(3)
وفضولًا.
ولما اقتضى المقامُ تعريف الحقيقة في العَظْم دون الرأس احتيج إلى زيادة قوله: {مِنِّي} هنا دون قوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ؛ أي: استولى الضعفُ على الظاهر والباطن، وذكر هذا يزيد الدعاء توكيدًا؛ لِمَا فيه من الاتِّكال على حول الله تعالى
(4)
وقوَّته، والتبرِّي عن الأسباب الظاهرة، شَبَّه الشيبَ بشُواظ النار، لا في بياضه وإنارته فقط، بل فيهما وفي أن النار كما تشتعل في الجسم وتسري فيه حتى تُحيله إلى غير حاله المقدَّم، كذلك الشيب يأخذ في الرأس ويسري شيئًا فشيئًا حتى يُحيله إلى غيرِ لونِه الأول، وشبَّه انتشاره في الشعر وفشوَّه فيه وأَخْذَه منه كلَّ مأخذٍ باشتعال النار في سرعة التهابه وتعذُّر تلافيه.
(1)
قرأ الجمهور بفتح الهاء، والأعمش بكسرها، وفرئ بالضم، انظر:" البحر المحيط"(14/ 391).
(2)
في (ك): "فيه ".
(3)
في (ك) و (ف): "نكتة"، بدل قوله:"يعدّ لكنة".
(4)
في (ف) و (م): "حوله تعالى".
ولا بدَّ في التشبيه الثاني من اعتبار معنى السرعة في وجه الشَّبَه، إذ به يُعلم كون الشيب في وقته، فتتمُّ الكناية عن المعنى المراد وهو الدخول
(1)
في سنِّ الشيخوخة، فإن الشيب قد يأخذ من الرأس كلَّ مأخذٍ قبل ذلك إلا أنه يكون على تدريجٍ ومهلٍ.
ثم أخرج الأول مخرج الاستعارة المَكْنيَّة، والثاني مخرج الاستعارة التصريحيَّة، وأصل الكلام: اشتعل الشيبُ في الرأس، لا: اشتعل مشيبُ الشعر في الرأس؛ لأن الشيب: مخالطة الشعر الأبيض بالأسود، فترك تلك المرتبة إلى ما هو أبلغ منها من جهات:
أولها: إسناد الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شمول الاشتعال.
وثانيها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.
وثالثها: تنكير {شَيْبًا} لإفادة التعظيم.
واكتفى باللام عن الإضافة لا اعتمادًا على علم المخاطب، وإلَّا لما ذكر {مِنِّي} فيما سبق، بل اعتمادًا على أن المتبادِر من العطف على المقيَّد اعتبارُ القيد فيه.
{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: كنتُ مستجابَ الدعوة قبل اليوم سعيدًا غيرَ شقيٍّ فيه، يقال: سَعِدَ فلانٌ لحاجته، إذا ظفر بها، و: شَقِيَ، إذا خاب ولم ينلها، يعني: أنه تعالى عوَّده بالإجابة وأطمعه فيها، ومن حقِّ الكريم أن لا يخيب مَن أَطْمَعه
(2)
.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): " الوصول"، والمثبت من (س).
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "عبارة التنبيه الواقع في كلام القاضي لم تصب محزها. منه ". وعبارة=
وفيما ذكر تذكُّر لعادات تفضُّله تعالى في إجابة أدعيته، وتوسُّلٌ به، وذلك نِعْمَ الوسيلة، وتحسينُ الظَّنِّ بالإجابة، فإن له تأثيرًا فيها:"قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي"
(1)
.
* * *
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} : ابنُ العمِّ والعَصَبةُ، وجمعه: الموالي.
{مِنْ وَرَائِي} قال أبو عبيدة: أي: من جهة الموت الذي هو قدَّامي، قال الشاعر:
أيرجو بنو مروانَ سمعي وطاعتي
…
وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا
(2)
كأنه لم يَرَ فيهم من الخِلال ما يَصلحون به للقيام مقامه في الدِّين.
وقرئ: (خَفَّت)
(3)
، وتعلُّقُ الظرف به ظاهرٌ، يعني: أنهم خَفُّوا قُدَّامه ودرَجوا ولم يبقَ منهم مَن به تقوٍّ واعتِضادٌ.
= البيضاوي: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} بل كلما دعوتك استجبت لي، وهو توسل بما سلف معه من الاستجابة، وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادًا فإجابته معتادة، وأنَّه تعالى عوده بالإِجابة وأطمعه فيها، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه).
(1)
رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، من حديث أبي هريرة ضي الله عنه.
(2)
انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (2/ 2)، ونسب البيت فيه لمساور بن حمئان من بني ربيعة، ونسب لسوار بن المضرَّب في "الكامل" للمبرد (2/ 268)، و" الأضداد" للأصمعي (ص: 20).
(3)
نسبت لعثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86).
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} العاقر: التي لا تلد لكِبَر سِنِّها، وفي عبارة (كانت) دلالةٌ على أنها استمرَّت مدَّة على تلك الحالة.
والظاهرُ من تقديم هذا القول أنه أراد الولد منها، وقد مَرَّ وجهه في سورة آل عمران، ويناسب هذا أن يكون المراد من {يَعْقُوبَ} أبا امرأته.
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} اختراعًا منك بلا سبب؛ لأني وامرأتي لا نَصلح للولادة {وَلِيًّا} ابنًا يلي أمرك بعدي.
* * *
(6) - {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} .
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ} قرئ: برفعهما، صفة لـ (ولي)، أي: هب لي ولدًا وارثًا منِّي العلمَ ومن آلِ يعقوب النبوَّةَ، ومعنى وراثةِ
(1)
النبوَّة: أنه يصلح لأَن يُوحى إليه، ولم يُرد أنَّ نفس النبوَّة تُورَث.
وبجزمها
(2)
على أنه جوابٌ للدُّعاء.
ورَدَّ أبو عبيدة قراءةَ الجزم، وقال: لأن معناه: إن وهبتَ وَرث، وكيف يُخبر الله تعالى بهذا وهو أعلم به [منه]
(3)
؟!.
{مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعقوبُ
(4)
بن ماثانَ أخو عمرانَ أبو مريمَ.
(1)
في (ف): "وراثته".
(2)
هي قراءة أبي عمرو والكسائي، وقرأ باقي السبعة بالرفع، انظر:"التيسير"(ص 148).
(3)
انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (2/ 2)، و"تفسير القرطبي"(13/ 415)، والكلام وما بين معكوفتين منه.
(4)
"يعقوب": ليست في (ك) و (م).
وقرئ: (يرثُني وارثَ آل يعقوب)، على الحال من أحد الضميرين
(1)
.
و: (أُويرِثٌ) بالتصغير
(2)
، لا لصغره؛ لأنَّه
(3)
لا يناسب المقام، بل للمدح، كقول حباب
(4)
بن المنذر: أنا جُذَيْلُها المُحكَّك وعُذَيقُها المرجَّب
(5)
.
(1)
نسبها الزمخشري لابن عباس والجحدري. انظر: "الكشاف"(2/ 503)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 6)، وعنه نقل المؤلف. وكونه على الحال قاله الزمخشري، وكونه من أحد الضميرين زاده البيضاوي، وكونه على زنة اسم الفاعل قاله الشهاب. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 145)، وقال الطيبي في "فتوح الغيب" (9/ 571): بنصب (وارث)، ثم قال:(قيل: هو: حالٌ؛ أي: يرث علمي ويرث علم آل يعقوب). ولا أرى هذا التقدير موافقاً لما أراده البيضاوي، كما لم أجد مَن قدره من شراح البيضاوي، والمراد - والله أعلم - على تقدير كونه حالًا من فاعل {يَرِثُنِي}: يرثني حالة كوني وارثَ آلِ يعقوب؛ أي: وقد كنت وارثًا لهم، وعلى تقدير كونه حالًا من مفعوله: يرثني حالة كونه وارث آل يعقوب، أي: فيكون بوراثتي وارثًا لآل يعقوب. وجاء في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 83) عن ابن عباس والجحدري: (يرثني وارثًا) بالفتح والتنوين. كذا قال ابن خالويه، وهو يؤيد ما ذكرناه من التقدير، ولم يذكر الزمخشري التنوين.
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 83)، و"الكشاف"(2/ 503)، و"البحر المحيط"(14/ 395).
(3)
في هامش (ف): "رد لمن قال وعد بإجابة دعائه. منه ".
(4)
في (م): "حيان".
(5)
قاله الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه، يريد أنه قد جربته الأمور وله رأي وعلم يُشتفى بهما كما تشفى الإبل الجربى باحتكاكها بالجذل. والخبر رواه البخاري (6830) مطولًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. الجذيل: تصغير الجذل وهو أصل الشجرة. والمحكك: الذي تتحكك به الإبل الجربى، وهو عود ينصب في مبارك الإبل لذلك. والعذيق: تصغير العذق وهو النخلة. والمرجب: الذي جعل له رجبة وهي دعامة تبنى حولها من الحجارة.
و: (وارثٌ من آلِ يعقوب)
(1)
على أنه فاعل (يرثني)، وهذا يسمَّى التجريد؛ لأنَّه جرِّد عن المذكور أولًا مع أنه المراد.
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ومرضيًّا في أخلاقه وأفعاله، أو: راضيًا عنك
(2)
وبحكمك.
* * *
(7) - {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} .
{يَازَكَرِيَّا} ، أي: فاستجبنا دعاءه وقلنا: يا زكريا، دلَّ على ذلك قوله في سورة الأنبياء:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90].
{إِنَّا نُبَشِّرُكَ} كانت البشارة بواسطة المَلَك على ما نصَّ عليه في سورة آل عمران.
{بِغُلَامٍ} وفيه بشارةٌ بثلاثة أمور: الولدِ، وكونهِ ذكرًا، وبلوغهِ الحُلُم، واختلفوا في بقائه بعد أبيه، والظاهر من قوله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أنه بقي بعده.
{اسْمُهُ يَحْيَى} تولَّى اللهُ تعالى تسميته؛ تشريفًا له.
{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} لم يُسمَّ أحدٌ بيحيى قبله، وفيه دلالة على أن في التخصيص باسمٍ مستحسنٍ نوعَ تشريفٍ للمسمَّى، وقد سبق معنى {يَحْيَى} وبيان اشتقاقه
(3)
.
* * *
(1)
انظر: "المحتسب"(2/ 38)، ونسبها لعلي بن أبي طالب وابن يعمر وجماعة.
(2)
في (ف) و (ك): "منك".
(3)
في هامش (ف): "لا بالأسامي العربية مطلقًا كما توهم".
{قَالَ} زكريا: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} استفهامٌ تعجُّبي يدلُّ على التصديق بوقوع المخبَر به والاعترافِ بكمال قدرته عليه؛ لأن التعجُّب إنما ينشأ من استغرابٍ مقارنٍ للتصديق به؛ لتضمُّن الاستخبار أنه يُولَد له على هذه الحالة أو بعد الإحالة.
فاندفع ما قيل: لِمَ استَبعد واستَعجب؟ وأجيب: بأنه ليجاب
(1)
بما أجيبَ به، فيزدادَ المؤمنون إيقانًا ويرتدع المبطلون.
وليتَ شِعري مَن المراد من الموقنين والمبطلين وقد كان دعاؤه مخفيًّا عن الغير؟!
ثم إنه عليه السلام فَهِمَ من البشارة المذكورة أنَّه يرى بلوغ يحيى عليه السلام أوانَ الحلم، فازداد به التعجُّب، ولهذا قال:{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} دون: أنى يكون لي ولد، وأنَّه يُولد من امرأته التي طلب الولد منها، ولهذا قال:
{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}
(2)
هو اليُبسُ والجَساوةُ في المفاصل والعظام - كالعود اليابس - من أجل الكِبَر والطَّعْن في السِّنِّ العالية.
* * *
(1)
"ليجاب" من (س) وحدها، وهو الموافق لما في "الكشاف"(2/ 6)، وهو السائل والمجيب.
(2)
في (م): "أنى يكون لي غلام وقد بلغت من الكبر عتيًا".
{قَالَ} المَلَك المبلِّغ للبشارة تصديقًا له: {كَذَلِكَ} : الأمر كذلك {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ؛ أي: بأن أردَّ عليك قوَّة الجِماع وأفتقَ رَحِمَ امرأتك للعُلوق
(1)
.
وقرئ: (وهو عليَّ هَيِّنٌ)
(2)
على العطف على محذوف، أي: أجعله
(3)
وهو عليَّ هيِّن.
{وَقَدْ خَلَقْتُكَ} أراد خَلْق مادَّته لا خلق صورته؛ لأنَّه عن شيء، فلا يناسب السباق واللحاق
(4)
، ولهذا قال:
{مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: مِن قبل خَلْقك بشرًا {وَلَمْ تَكُ} حينئذٍ {شَيْئًا} بل كنتَ لا شيئًا محضًا، وليس فيه تعرُّضٌ للخلافية المشهورة.
* * *
(10) - {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} .
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} : عَلَامةً أعلم بها أنه علقَ؛ لأزيد في الشكر وفي دعاء
(5)
السلامة.
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "وما قيل: لا احتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب، لا يناسب المقام؛ لأن الأسباب العادية غير مرفوضة في خلق يحيى عليه السلام. منه ".
(2)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 83).
(3)
في (ك): "أفعله".
(4)
في (س): "السياق واللحاق "، وفي (م):"السابق واللاحق".
(5)
في (ف) و (ك): "وفي علة"، وفي (س):"ودعاء" وسقطت منها (في).
{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} : علامتُك أن تمتنِعَ من كلام الناس دونَ ذكرِ اللهِ تعالى.
{ثَلَاثَ لَيَالٍ} دلَّ ذكر الليالي هنا والأيامِ في سورة آل عمران على أنَّ المنع من كلام الناس استمرَّ ثلاثة أيام ولياليهنَّ؛ للتجرُّد للذِّكر والشكر.
{سَوِيًّا} حالَ كونك سويَّ الخلق، سليم الجوارح، ما بِكَ خرسٌ ولا بَكَمٌ.
* * *
(11) - {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .
{فَخَرَجَ} مُشرِفًا {عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} ؛ أي: المسجد، وكانوا ينتظرون فتحه ليصلُّوا فيه بأمره على العادة.
{فَأَوْحَى} : أشار {إِلَيْهِمْ} لقوله: {إِلَّا رَمْزًا} ، {أَنْ سَبِّحُوا}: صلُّوا، و {أَنْ} هي المفسِّرة {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} طَرَفَي النهار.
* * *
(12) - {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} .
{يَايَحْيَى} على تقدير القول {خُذِ الْكِتَابَ} : التوراة {بِقُوَّةٍ} بجدٍّ، أَخذُه: قَبولُه، وكون أخذِه بقوَّةٍ العملُ به كما هو حقُّه.
{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} يعني: الحكمةَ وفَهْم التوراة {صَبِيًّا} قيل: دعاهُ الصبيانُ إلى اللعب، فقال: ما للَّعب خُلِقنا.
* * *
(13) - {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} .
{وَحَنَانًا} شفقةً ورحمةً للناس، وإنما قال
(1)
: {مِنْ لَدُنَّا} مع أنَّ الكُلَّ من عند الله تعالى، للدلالة على أنَّ شفقته عليه السلام كانت زائدة على ما في جِبِلَّة
(2)
الناس، خارجةً عن المعتاد.
{وَزَكَاةً} وطهارةً من الذنوب، فلم يُعْهَد بذنب.
{وَكَانَ تَقِيًّا} مستمرًّا على الإطاعة والتجنُّب عن المعاصي.
* * *
(14) - {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} .
{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} ، أي: محسِنًا إليهما في الغاية.
{وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} الجبَّار: الذي يُعاقِب على غضب نفسِه لا على استحقاقِ الجاني، قال تعالى:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130].
والعَصِيُّ: المبالِغ في العصيان، وهو مخالفةُ الأمر، فإن الظاهرَ المبالغةُ في النفي دون المنفي، والعدول عنه للإشعار بأن شأن النفوس القويَّة البلوغُ إلى الغاية في كلِّ صفة بها، ممدوحةً كانت أو مذمومةً.
* * *
(15) - {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} .
{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} تحيَّةٌ من الله تعالى {يَوْمَ وُلِدَ} أتى هنا بصيغة الماضي، وفي قوله:{وَيَوْمَ يَمُوتُ} بصيغة المضارع؛ لأن مساق الكلام بعد ولادته وقبل موته.
(1)
في (ف): "قلنا"، وفي (ك):"قيل".
(2)
في (ف): "حيلة".
{وَيَوْمَ يُبْعَثُ} مطلق البعث يعمُّ ما في القبر، إلا أنه حينئذٍ لا يُطلَق عليه الحيّ، فقوله:{حَيًّا} لتعيين بعث الآخرة
(1)
.
قال ابن عيينة
(2)
: أوحشُ ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يُبعث
(3)
. فهذه فجاءات ثلاث، لا فجاءةَ أعظمُ منها، ويحيى عليه السلام يُحيَّى بالسلام
(4)
في هذه المواطن العظام.
* * *
(16) - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} ؛ أي: القرآن {مَرْيَمَ} يعني: قصَّتها.
{إِذِ} ظرف لمضاف مقدَّر، وقيل:(إذ) بمعنى (أَنْ) المصدرية، وتقديره: واذكر مريم انتباذَها، على أن (انتباذَها) بدلٌ من {مَرْيَمَ} .
وأما ما قيل: إنه بدل من قصَّةِ مريم بدلَ الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها، أو بدلَ الكُلِّ لأن المراد من الظرف الأمر الواقع فيه= فلا يَرِدُ عليه أنَّ الزمان إذا لم يكن خبرًا عن الجثَّة ولا حالًا منها ولا وصفًا لها لا يكون بدلًا منها.
{انْتَبَذَتْ} ؛ أي: انفردت وقعدت نبذةً، أي: ناحيةً؛ وهذا إذا جلس قريبًا منك حتى لو نبذتَ إليه شيئًا وصل إليه، ولذلك احتاجت إلى ضرب الستر بينها وبينهم
(5)
، ويُرشِد إلى هذا قولُ:{مِنْ دُونِهِم} .
(1)
في (م): "لتعيين البعث ".
(2)
قوله: "قال ابن عيينة" من (م)، وهو الموافق لما في "تفسير القرطبي".
(3)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 27 و 427)، والخبر رواه البيهقي في "الزهد الكبير"(598).
(4)
في (ف): "ويحيى عليه بالسلام ".
(5)
في هامش (ف) و (م): "فيه ردٌّ لما في التيسير من أنه للاستتار من الشمس. منه ".
{مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا} انتصابه على تضمين الانتباذ معنى الإتيان، أو على الاتِّساع.
{شَرْقِيًّا} شرقيَّ بيت المقدس، أو شرقيَّ دارها، ولذلك اتخذ النصارى المشرقَ قبلةً.
* * *
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} : سترًا تستَّرت به عن أهلها؛ بدلالة قوله: {مِنْ دُونِهِمْ} .
قيل: قعدت في مَشْرقة
(1)
للاغتسال من الحيض، فاحتجبت بشيء يسترها.
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} ؛ أي: جبرائيل عليه السلام، والإضافة للتشريف.
{فَتَمَثَّلَ لَهَا} ؛ أي: تصوَّر لمريم {بَشَرًا سَوِيًّا} معتدل الخَلْق، حَسَن الصورة
(2)
، وإنما مثّل كذلك لا للاستئناس بكلامه وتهييج شهوتها فتنحدرَ نطفتها إلى رَحِمها، إذ حينئذٍ لا يكون مَثَلُه كمَثَل آدم عليه السلام في الخَلْق بلا واسطةِ نطفة، بل لئلَّا تنفرَ عنه، فتسمع كلامه وتُبتلى به فتظهر عفَّتها.
ولمَّا رأت رجلًا قد دخل عليها فجأةً في الخلوة، ظنَّت أنه يريدها بسوء، وعلمت أنها لا تقدر على دفع ذلك، فاستعاذت بالله:
(18) - {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} .
(1)
مثلثة الراء: محل شروق الشمس والقعود فيه شتاء. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 149).
(2)
في هوامش (س) و (ف) و (م): "السوي يقال فيما يصان عن الإفراط والتفريط من حيث القدر والكيفية، ذكره الراغب. منه".
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} استئناف على تقدير سؤال، وفي ذكر الرحمن تذكيرٌ ليوم الجزاء، فإنه تعالى رحيم الدنيا ورحمن الآخرة.
{إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} تتَّقي الله وتخشاهُ فلا تَقْرَبني، فحذف الجزاء لدلالة الحال عليه، وهذا كقول القائل: إن كنت مؤمنًا فلا تَظلمني، أي: ينبغي أن يكون إيمانُك مانعًا لك من الظلم
(1)
.
* * *
(19) - {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} .
{قَالَ} جبريل: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} في عبارة الرسول إشارة إلى أن توسُّطه في الخبر دون الأَثَر، وأتى بالرَّبِّ مضافًا إليها؛ لنوعٍ من الدلالة في أول الكلام على أن الرسالة لإيصالِ النعمة والإحسان الخاصِّ بها من بين العباد، ولما كان في مفهوم الخبر باعتبار هذا المعنى مظنَّةُ الاستبعاد أكَّده بـ:{إِنَّمَا} .
{لِأَهَبَ لَكِ} حكاية لقول الله تعالى، دلَّ على ذلك قراءة:{ليهب} بالياء
(2)
، ويناسبه وصف الرسالة، وفي عبارة الهبة إشارة إلى أن ما أعطيَ لها يصل إليها بسهولة.
{غُلَامًا} قد مرَّ ما فيه من وجوه البشارة.
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "المقام مقام الحثِّ على الانزجار، فالوجه ما ذكرنا، لا ما قيل: إن كنت تقياً فإني أعوذ منك، فكيف إذا لم تكن كذلك. منه ".
(2)
قراءة أبي عمرو، وورش عن نافع، والحلواني عن قالون عن نافع. انظر:"التيسير"(ص: 148)، و"النشر"(2/ 317).
{زَكِيًّا} : طاهرًا من الأدناس، أو ناميًا على الخير والبركة.
* * *
(20) - {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} .
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} : ولدٌ
(1)
.
{وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} جعل المسَّ هاهنا بقرينة المقابَلة عبارةً عن النكاح الحلال.
{وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فاجرة
(2)
تبغي الرجال؛ أي: تطلب الشهوة من أيِّ رجلٍ كان.
ولا يكون الولد عادةً إلا من أحد هذين
(3)
.
و (البغي) فعول، فقلبت الواو ياء وأدغمت، وكسرت الغين إتباعًا، ولذا لم يُلحق تاءَ التأنيث.
أو: فعيل، ولم يلحقها التاء لأنها بمعنى مفعولة وإن كانت بمعنى فاعلة، فإنه قد يشبَّه به، نحو: مِلحفةٌ جديدٌ.
* * *
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فيه إشارة إلى أن حقها أن يكون ولد إلا أنها روت كلامه بعبارته. منه".
(2)
ليست في (ك)، ويوجد بياض مكانها في (ف).
(3)
في هامش (س) و (ف): "إنما قال هاهنا لأنَّه جعل في آل عمران كناية عن مطلق النكاح حلالًا كان أو حرامًا. منه ".
{قَالَ كَذَلِكِ} : الأمرُ كذلك من خلق غلامٍ منكِ بغير أبٍ {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ؛ أي: إعطاء الولد بلا أبٍ عليَّ سهلٌ.
{وَلِنَجْعَلَهُ} تعليلٌ معلَّلُه محذوف، أي: وفعلنا ذلك لنجعله {آيَةً لِلنَّاسِ} : علامةً لهم وبرهانًا على كمال قدرتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا} على العباد يهتدون بإرشاده.
{وَكَانَ} خلقه {أَمْرًا مَقْضِيًّا} تَعلَّق به قضاءُ الله تعالى في الأزل.
فلما اطمأنَّت إلى قوله، دنا منها فنفخ في جَيْبِ درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها.
* * *
(22) - {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} .
{فَحَمَلَتْهُ} ؛ أي: الموهوبَ
(1)
{فَانْتَبَذَتْ بِهِ} ؛ أي: فاعتزلت وهو في بطنها، والجارُّ والمجرور في موضع الحال {مَكَانًا قَصِيًّا} بعيدًا من أهلها.
* * *
{فَأَجَاءَهَا} جاء بها، ذكره الجوهريُّ
(2)
.
وقيل: ألجأها، وهو منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغيَّر بعد النقل إلى معنى الإلجاء، ونظيره: آتى، حيث لم يستعمل إلا في معنى الإعطاء.
(1)
في (م): "فحملته كالموهوب".
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: جيأ)، وفيه: وأجأته؛ أي: جئت به.
وفيه نظرٌ، قال الجوهريُّ: وآتاه، أي: أتى به، ومنه قوله تعالى:{آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أي: ائتنا به
(1)
.
{الْمَخَاضُ} وقُرئ بالكسر
(2)
، وكلاهما مصدرُ مَخَضَت المرأةُ: إذا تحرَّك الولد في بطنها للخروج.
{إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} كأنها طلبت شيئًا تستند إليه وتتعلق به كما تتعلَّق الحامل لشدَّة وجع الطَّلْق. والجِذْع: ساقُ النخلة اليابسة الذي لا سَعَفَ عليه ولا غصن
(3)
.
ولعلَّه تعالى ألهمها ذلك ليريَها من آياته ما يسكِّن روعها، ويُطعمَها الرُّطَب الذي هو طعام النُّفساء، والتعريف للجنس، ولا مساغ للعهد؛ لأن شرطه أن يكون معروفًا عند المخاطب، وهو مفقود هاهنا.
{قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} ليس تمنِّي الموت لِمَا عَرَضتْها من شدَّة وَجَع الطَّلْق
(4)
، إذ لا حاجة حينئذٍ إلى قوله:{وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} بل لأنها خافت أن يقع بسببها قومُها في البهتان والنسبة إلى الزنى، وتمنِّي الموت من جهة الدِّين جائز.
وقرئ: {نَسْيًا} بالفتح
(5)
، وهما لغتان كالوِتْر والوَتْر، وهو الشيء المتروك لا يُذكر كأنه منسيٌّ، وقيل: ما شأنه أن يُنسى ولا يُطلب، كالذِّبح لِمَا يُذبح.
(1)
انظر: "الصحاح"(مادة: أتي).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، ونسبها لابن كثير في رواية.
(3)
في هامش (س) و (ف) و (م): "قال القاضي: لا رأس لها ولا خضرة، صوابه: ولا غصن، لا احتمال للخضرة في النخلة اليابسة. منه ".
(4)
في هامش (س): "رد للكواشي".
(5)
قرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحفص بالفتح، انظر:"التيسير"(ص: 148)، و"النشر"(2/ 318).
وقيل: هو بالفتح مصدر، وبالكسر اسمٌ للمنسيِّ المتروك، كالقَشر والقِشر.
* * *
(24) - {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} .
{فَنَادَاهَا} كانت المناداة مخاطبةً لها، يعضده قراءةُ:(فخاطبها)
(1)
.
{مِنْ تَحْتِهَا} وهو جبريلُ عليه السلام؛ لأنَّه كان في مكان أخفضَ عنها، أو كان هاهنا بمنزلة القابلة، أو: عيسى عليه السلام؛ لأنَّه خاطبها مِن تحت ذيلها.
وقُرئ: {مِنْ} بالكسر
(2)
، والفاعل مضمَر وهو عيسى أو جبريل عليهما السلام، على أن الهاء في {تَحْتِهَا} للنخلة.
{أَلَّا تَحْزَنِي} : أي لا تحزني، أو: بأن لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} جَدولًا، هكذا روي مرفوعًا
(3)
.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك نهرًا قد انقطع ماؤه، فأجراه الله تعالى لمريم
(4)
.
والنهر يُسمَّى سريًّا؛ لأن الماء يَسري فيه.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، ونسبها لزرٍّ وعلقمة.
(2)
قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم وخفض التاء، وباقي السبعة بفتح الميم ونصب التاء. انظر:"التيسير"(ص: 148).
(3)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 6 - 7)، والحاكم في "المستدرك"(3413) وصححه، من قول البراء، وذكره البخاري في "الصحيح" قبل الحديث (3436) من قول البراء أيضًا، ورواه الطبراني في "الصغير"(685) من حديث البراء مرفوعًا، وإسناده ضعيف.
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 434)، ورواه الطبري في "التفسير"(15/ 506 - 507) بنحوه.
فإن قلتَ: ما تقول في قول الحسن: {سَرِيًّا} : سيدًا
(1)
، من السَّرو، يعني عيسى عليه السلام؟
قلتُ: ليس بقولٍ حسنٍ؛ لأنَّه مخالفٌ للتفسير المرفوع.
وفي المثل: إذا جاء نهرُ اللهِ بَطَلَ نهرُ مَعْقِل.
* * *
(25) - {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} .
{وَهُزِّي إِلَيْكِ} الهَزُّ: تحريكٌ مخصوصٌ تتبعه الحركتان المتدافعتان إلى الجانبَين المتقابلَين، وتعديته بـ (إلى) لتضمُّنه معنى الجذب، وفائدته: التوطئة لما قصد بقوله: {عَلَيْكِ} ، فإن الهَزَّ إذا لم يكن بالمدِّ لا يكون سقوط الثمر على الهازِّ
(2)
.
والباء في قوله: {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} متعلِّق بالبطش الثابت اقتضاء.
{تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} في {تُسَاقِطْ} تسع قراءات
(3)
: {تُسَاقِطْ} بإدغام التاء، و:(تَتَساقَط) بالفكِّ، و:{تُسَاقِطْ} بطرح الثانية، و:{تُسَاقِطْ} بالياء وإدغام التاء، و:
(1)
سقطت: "سيدا" من (م)، وسقطت "سريا" من النسخ عدا (م)، وسقط ما بعدها من (ف) و (ك).
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "ولا يلزم أن تكون إحداهما إلى قدّام الهازّ والأخرى إلى مقابله، بل قد تكون إحداهما إلى يمينه والأخرى إلى شماله، فلا تلزم أن يكون بالجذب والدفع، كما توهَّمه القاضي. منه".
(3)
قرأ الجمهور بالقراءة الأولى، وحمزة بالثالثة، ويعقوب وشعبة - بخلف عنه - بالرابعة، وحفص بالخامسة. انظر:"التيسير"(ص: 148)، و"النشر"(2/ 318)، وتنظر باقي القراءات في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 84)، و"الكشاف"(3/ 13)، وعنه نقل المؤلف كل ما ذكر من القراءات.
{تُسَاقِطْ} ، و:(تُسْقِط) و: (يُسْقِط) بالتاء والياء من أسقط، و:(تَسْقُط) و: (يَسْقُط) بالتاء والياء من سقط؛ بالتاء للنخلة، والياء للجِذع أو للرُّطَب
(1)
.
{رُطَبًا} تمييز أو مفعول {جَنِيًّا} ؛ أي: مجنيًّا، وهو الطريُّ بغباره، البالغُ نهايةَ النُّضج.
* * *
{فَكُلِي} من المجنيِّ {وَاشْرَبِي} من السَّريِّ {وَقَرِّي عَيْنًا} بالولد الرضيِّ، و {عَيْنًا} تمييز؛ أي: طِيبي نفسًا بعيسى عليه السلام، وارفضي عنكِ ما أحزنك.
وقرئ: (وقِرِّي) بالكسر
(2)
، وهو لغة نجدٍ، واشتقاقُه من القَرِّ، فإنَّ دمعة السرور باردةٌ، ودمعة الحزن حارَّة، ولذلك يقال: قرَّة العين وسُخْنتُها للمحبوب والمكروه.
أو: من القرار، فإن العين إذا رأت ما يَسُرّ النفس، سَكَنَت إليه من النظر إلى غيره.
{فَإِمَّا} أصله: إنْ ما، ضمَّت (إنْ) الشرطيَّة إلى (ما) وأدغمت فيها {تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}؛ أي: فإنْ رأيتِ آدميًّا يسألك عن حالك.
{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} : إمساكًا عن الكلام؛ أي: صمتًا، وقد قرئ به
(3)
، وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام.
(1)
في (س): "أو للهز".
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 14)، و"البحر المحيط"(14/ 423).
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 14)، و"البحر المحيط"(14/ 424).
وقيل: صيامًا حقيقة، وكان صومهم فيهْ الصمت، وإنما أُمرت به لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يُبرئ به ساحتها، ولئلَّا تجادل السفهاء، وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة، وقد تُسمّى الإشارة كلامًا وقولًا، ويجوز أن يكون إخبارها به وقولها:
{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} قبيل دخول
(1)
اليوم؛ أي
(2)
: لا أكلِّم آدميًّا وإنما أُكلِّم الملائكة، وذلك أن العدول من (أحدًا) إلى {إِنْسِيًّا} يفيد بدلالة المفهوم هذه الدقيقة، ويدمج فيه معنى
(3)
كرامة أخرى وهي رفعة منزلتها.
* * *
(27) - {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} .
{فَأَتَتْ بِهِ} بعيسى عليه السلام، الباء للتعدية كما في: ذهب به، لا بمعنى (مع).
{قَوْمَهَا} بعد ما طهرت من نفاسها {تَحْمِلُهُ} حالٌ منها، فلمَّا رأوه معها {قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} بديعًا منكرًا، والفَرْي: القَطْع، كأنه يقطع العادة.
* * *
(28) - {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} .
{يَاأُخْتَ هَارُونَ} كان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل مي مَا كاَنَ {مَا كَانَ أَبُوكِ} عمران {امْرَأَ سَوْءٍ} زانيًا.
(1)
في النسخ عدا (س): "وصول"، والمثبت من (س).
(2)
في (م): "لأني"، وسقطت من (ف) و (ك).
(3)
"معنى" ليست في (ف) و (ك).
{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ} حنَّةُ {بَغِيًّا} زانيةً؛ تقريرٌ لأن ما جاءت به
(1)
فريٌّ، وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحشُ.
* * *
(29) - {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} .
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إلى عيسى عليه السلام؛ أي: كلِّموه ليجيبكم.
{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} المعهود {صَبِيًّا} حال، معناه: أنه كان من أهل المهد وإن لم يكن في تلك الحالة في المهد، كما يقال: صبيّ يرتضع، وإن كان لا يرتضع حالةَ الإخبار عنه، ولهذا زيدت لفظة {كَانَ} للتأكيد.
* * *
(30) - {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} .
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} لما أُسكِت بأمر الله لسانُها الناطق، أَنطقَ الله لها اللسانَ الساكتَ.
{آتَانِيَ الْكِتَابَ} الإنجيل {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} عن الحسن: أنه كان في المهد نبيًّا، وكلا مه معجزته
(2)
.
وقيل: معناه: أن ذلك سَبَق في قضائه، أو جعل الآتي لا محالة كأنه وُجد.
* * *
(31) - {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} .
(1)
"به" من (ف) وليست في باقي النسخ.
(2)
انظر: "النكت والعيون"(3/ 370)، و"تفسير النسفي"(3/ 36).
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} : نفَّاعاً حيث كنت، أو: معلِّمًا للخير.
{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} لمَّا كان الأمر بهما مؤجَّلًا عبَّر عنه بالتوصية
(1)
، فإن الوصية التقدُّم في الأمر الذي يكون بعدما وقِّت له {مَا دُمْتُ} أي: مدَّةَ حياتي.
* * *
(32) - {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} .
{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أي: بارًّا بوالدتي، وقرئ بالكسر
(2)
على أنه مصدر وصف به، منصوب بفعلٍ دلَّ عليه (أوصاني)؛ أي: وكلَّفني بِرًّا، ويؤيِّده القراءة بالكسر والجرّ
(3)
عطفًا على (الصلاة).
{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} وقد سبق تفسيره {شَقِيًّا} : عاصيًا.
* * *
(33) - {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} .
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ} التعريف للجنس، وفيه تعريض بضدِّه على أعدائه، كقوله تعالى:{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] فإنه تعريض بأن العذاب على مَن كذَّب وتولَّى.
{وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} قد سبق بيانه.
(1)
في هامش (س) و (ف): "من فرق بينهما لم يصب. منه ".
(2)
نسبت لأبي نهيك وأبي مجلز. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 84)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 42).
(3)
أي: بكسر الباء وجر الراء. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 10) والكلام منه، و"البحر المحيط"(14/ 429).
(34) - {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} .
{ذَلِكَ عِيسَى} : الذي تقدَّم نعتُه هو عيسى، لا ما يصفه النصارى أو اليهود، وهو تكذيب للفريقين فيما يصفانه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفانه به، ثم عكَس الحكم.
{ابْنُ مَرْيَمَ} نعت أو خبر ثانٍ، أي: لا
(1)
نسبةَ فيه من جهة الأب، ففيه ردّ لليهود في زعمهم
(2)
أنه ابنُ يوسفَ النجَّارِ.
{قَوْلَ الْحَقِّ} صفةُ {عِيسَى} أو بدلُه، أو خبرٌ آخر، ومعناه: كلمةُ
(3)
الله، لا نفسُه ولا ابنُه ولا ثالثُه، ففيه ردٌّ لفِرَق النصارى، وقد سبق وجه كونه كلمة الله في سورة آل عمران.
وقيل: خبرٌ محذوف المبتدأ، أي: هو قولُ الحقِّ الذي لا ريبَ فيه، والإضافة للبيان، والضمير للكلام السابق.
وقرئ بالنصب على المدح
(4)
، أو على المصدر، أي: أقولُ قولَ الحقِّ.
وقرئ: (قالُ الحقّ)
(5)
، وهو بمعنى القول.
{الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} : في أمره يختلفون، من المراء، فقالت اليهود: ساحر كذَّاب، وقالت النصارى ما سيأتي تفصيله. وقرئ بالتاء على الخطاب
(6)
.
(1)
"لا" من (س)، وسقطت من باقي النسخ.
(2)
"زعمهم" ليست في (ف).
(3)
في (ف): "حكمة".
(4)
قراءة عاصم وابن عامر، والرفع قراءة باقي السبعة. انظر:"التيسير"(ص: 149).
(5)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 84)، ونسبها لابن مسعود.
(6)
انظر: "البحر المحيط"(14/ 429)، ونسبها لعلي والسلمي.
{مَا كَانَ لِلَّهِ} ؛ أي: ليس من شأنه {أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} جيء بـ (من) لتأكيد النفي {سُبْحَانَهُ} نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد.
{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} تبكيت للنصارى بعد تكذيبهم، بأنَّ مَن إذا أراد شيئًا أوجده بـ {كُنْ} كان منزَهًا عن شَبَهِ الخَلْق والحاجة في اتخاذ الولد بإحبال الإناث.
وقرئ: {فَيَكُونُ} بالنصب على الجواب
(1)
.
* * *
(36) - {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} سبق تفسيره في سورة آل عمران.
وقرئ بالفتح
(2)
على: ولأَنَّ، أو على العطف على الصلاة.
* * *
(37) - {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} الحزب: الفرقة المنفردة برأيها، وهم أربع فرق: نسطوريَّة، ويعقوبيَّة، وإسرائيليَّة، وملكائيَّة
(3)
.
(1)
هي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 76).
(2)
أي: بفتح همزة (أنَّ)، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. انظر:"التيسير"(ص: 149).
(3)
في (ك): "وملكانية". والمثبت من باقي النسخ، وهو القياس، قال الشهاب: وملكاء - بالمد - علم غير عربي، والنسبة إليه: ملكائية، بهمزة بعد الألف الممدودة، والجاري على الألسنة وفي نسخ القاضي: ملكانية، نسبة إلى ملكاء على غير القياس، كصنعاني نسبة إلى صنعاء، وكل هذا محتاج=
{مِنْ بَيْنِهِمْ} : من بين أصحاب عيسى عليه السلام، أو: من بين قومه، أو: من بين الناس، وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى عليه السلام حين رُفعَ، ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول أربعة كانوا عندهم أعلمَ أهل زمانهم، وهم: يعقوب، ونسطور، وإسرائيل، وملكاء
(1)
:
فقال يعقوب: هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء.
وقال نسطور: كان ابنَ الله، أظهره ما شاء ثم رفعه إليه.
وقال إسرائيل: الله إله، وهو إله، وأمُّه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى.
وقال الرابع: كذبوا، كان عبدًا مخلوقًا نبيًّا.
فتبع كلَّ واحد منهم قومٌ.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} من الأحزاب، إذ الواحد منهم على الحقِّ.
{مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، أي: في شهودهم هول القيامة، على أن المراد من اليوم الواقعة.
* * *
(38) - {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الجمهور على أن لفظَه أمرٌ، ومعناه التعجُّب، والله تعالى لا يوصَف به، ولكن المراد أن أسماعهم وأبصارهم جدير بأن يُتعجَّب منها بعدما كانوا صُمًّا عميًا في الدنيا، و {بِهِمْ} مرفوع المحلِّ على الفاعلية، كـ: أكرم بزيد، معناه: كَرُم زيد جِدًّا.
= إلى تصحيح النقل فيه فانظره. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 157).
(1)
في (م): "وملكان".
{يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ؛ أي: يوم القيامة.
{لَكِنِ الظَّالِمُونَ} أُقيم الظاهر مقام الضمير؛ إشعارًا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث تركوا الاستماع والبصر حين يجدي عليهم.
{الْيَوْمَ} في الدنيا {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} تسجيلٌ على تركهم ذلك بأنه ضلالٌ بيِّن.
* * *
(39) - {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} يوم القيامة؛ لأنَّه يَتحسَّر فيه الناس، المسيء على إساءته، والمحسن على قلَّة إحسانه.
{إِذْ} بدل من {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أو ظرف للحسرة وهو مصدر.
{قُضِيَ الْأَمْرُ} : فُرغ من الحساب، وتصادَرَ
(1)
الفريقان إلى الجنة والنار.
{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} هنا عن الاهتمام لذلك المقام.
{وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : لا يصدِّقون به، متعلِّق بقوله:{فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} و ما بينهما اعتراض، أو بـ {وَأَنْذِرْهُمْ}؛ أي: أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين، فيكون حالًا متضمِّنة للتعليل.
* * *
(40) - {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} أي: نتفرَّد بالملك والبقاء عند تعميم الهُلك
(1)
أي: صدر كلٌّ من موقف الحساب إلى مقرِّه، فإما إلى الجنة وإما إلى النار. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 159).
والفناء، وذكرُ (مَن) لتغليب العقلاء، وهذا يدلُّ على فناء الأرض أيضًا
(1)
.
قوله: {نَحْنُ نَرِثُ} مبتدأ وخبر، والجملة في محلِّ الرفع خبرُ (إنَّ)، ولا يجوز أن يكون (نحن) فَصْلًا؛ لأنَّ (نرث) نكرةٌ، والفَصْل لا يقع إلا بين معرفتين، أو قريبين من المعرفة.
{وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ؛ أي: يردُّون فيجازَون جزاءً وفاقًا، في محلِّ الرفع بالعطف على (نرث) أو على الجملة الاسميَّة.
* * *
(41) - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} ملازمًا للصدق كثيرَ التصديق؛ لكثرة ما صدَّق به من غيوب الله تعالى وآياته، ويجوز أن تكون المبالغة من جهة الكيف.
{نَبِيًّا} استنبأه اللهُ تعالى.
* * *
{إِذْ قَالَ} بدل من {إِبْرَاهِيمَ} وما بينهما اعتراض
(2)
، أو متعلق بـ {كَانَ} أو بـ {صِدِّيقًا نَبِيًّا} ، والمراد بذكر الرسول إياه وقصَّته في الكتاب: أن يتلوَ ذلك على الناس ويبلِّغه إياهم، كقوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] وإلَّا فاللهُ عز وجل ذاكره، ومورده في تنزيله.
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فالمراد من البدل في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} تبدُّل الذات. منه ".
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "قد مرَّ في أول السورة ما يتعلق بمثل هذا البدل. منه ".
{لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ} التاء عوض من ياء الإضافة، ولذلك لا يقال: يا أبتي، ويقال: يا أبتا، وإنما يذكر للاستعطاف، ولذلك كرَّرها.
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} المفعول فيهما منسيٌّ غيرُ منويٍّ.
{وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} يحتمل أن يكون (شيئًا) في موضع المصدر؛ أي: شيئًا من الإغناء، وأن يكون مفعولًا به، من قولك: أَغْنِ عنِّي وجهَك، أي: بَعِّد.
دعاهُ إلى الهدى وبيَّن ضلاله، واحتجَّ عليه أبلغَ احتجاج وأرشقَه
(1)
برفقٍ وحسنِ أدب، حيث لم يصرِّح بضلاله، بل طلب العلَّة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخفُّ به العقلُ الصريح، ويأبى الركون إليه فضلًا عن عبادته التي هي غاية التعظيم، ولا تحقُّ إلَّا لمن له الاستغناءُ التامُّ والإنعام العام.
ونبَّه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعله لغرضٍ صحيح، والشيء لو كان حيًّا مميِّزًا سميعًا بصيرًا مقتدرًا على النفع والضرر، ولكن ممكِنٌ
(2)
، لاستنكف العقلُ القويم عن عبادته وإن كان أشرف الخلق؛ لِمَا يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جمادًا لا يسمع ولا يبصر؟!
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه الحقَّ القويم والصراط المستقيم لمَّا لم يكن محظوظًا
(3)
من العلم الإلهي، مستقلًّا بالنظر السويِّ، فقال:
{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ولم يُسمِّ أباه
(1)
وأرشقه بالشين المعجمة والقاف بمعنى: ألطفه. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 160).
(2)
أي: ولكن كان هذا الشيء ممكنًا. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 11).
(3)
في (م): "محفوظا"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 12).
بالجهل المفرط، ولا نفسَه بالعلم الفائق، بل جعل نفسَه كرفيقٍ له في مسيرٍ
(1)
يكون أعرفَ بالطريق، ثم ثبطه
(2)
عمَّا كان عليه بأنه مع خلوِّه عن النفع مستلزم للضُّرِّ؛ لأنَّه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به، فقال:
(44) - {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} .
{يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} استهجن ذلك، وبيَّن وجه الضُّرِّ فيه بأن الشيطان مستعصٍ على ربِّك المولي للنِّعم كلِّها بقوله:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاصٍ، وكلّ عاصٍ حقيق بأن تُستردَّ منه النِّعم ويُنتقم منه، ولذلك عقَّبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجرُّه إليه فقال:
(45) - {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} .
{يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قرينًا في جهنم؛ لأن الوليَّين لا يكادان يفترقان في محبوبٍ أو مكروهٍ، فجعله وليًّا في هذه الحالة لما قلنا
(3)
، وإن كانا متباغضين يومئذٍ، كما قال تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وإنما قال: {يَمَسَّكَ} دون: يصيبك، ليعلم أن العذاب جسمانيٌّ، والتنكير فيه للتعظيم، وقصدُ التقليل من عبارة المسِّ لا يناسب المقام
(4)
، فلا يساعده الكلام:
(1)
في النسخ عدا (س): "مسير"، والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(2)
في النسخ عدا (س): "ثم تبصرا"، والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في المصدر السابق.
(3)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فيه ردٌّ للقاضي في قوله: أو ثابتًا في موالاته. منه ".
(4)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فيه ردٌّ، كأنه نسي ما قدَّمه في تفسير قوله تعالى: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} الآية من سورة البقرة".
أما الأول: فلأنَّ المقام مقام التخويف فلا يناسبه التخفيف.
وأما الثاني: فلأنَّ المسَّ ممَّا يقصد به المبالغة في الإصابة، كما في قوله تعالى:{أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} [الحجر: 54] وذلك لأن المسَّ اتصال الشيء بالبشرة بحيث يباشر
(1)
الحاسَّة.
وإنما قال: {مِنَ الرَّحْمَنِ} لأن العذاب من مظنَّة الرحمة أفظعُ وأشنع، وإنما قال:{أَخَافُ} رعايةً لمقتضى شفقة النبوَّة.
* * *
{قَالَ أَرَاغِبٌ} الرغبة: اجتلابُ الشيء لما فيه من المنفعة، وتعديتُه بـ (في)، وإذا تعدَّى بـ (عن) يفيد ضدَّه.
{أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} قابَل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل:{يَاأَبَتِ} بـ: (يا بنيَّ)
(2)
، ولا تأثير فيه لتأخيره، بل لو قدِّم لكان أشنع وأوقع؛ لأن المقام مقام العنف دون اللطف.
وقدَّم الخبر على المبتدأ لأنَّه كان أهمَّ عنده، وصدَّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضربٍ من التعجُّب، كأنها ممَّا لا يَرغب عنها عاقل.
ثم هدَّده فقال: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} عن مقالتك فيها {لَأَرْجُمَنَّكَ} : لأقتلنَّك بالرُّجام
(3)
، أو: لأضربنَّك بها حتى تتباعد، أو: لأشتمنَّك.
(1)
في (ف) و (م): "يتأثر"، و في (ك):"تناثر".
(2)
في (ك): "بني".
(3)
في هامش (م): "أي: حجارة عظام".
{وَاهْجُرْنِي} عطف على محذوف يدلُّ عليه {لَأَرْجُمَنَّكَ} تقديره: فاحذرني واهجرني.
{مَلِيًّا} : زمانًا طويلًا، من المُلَاوة، أو:{مَلِيًّا} بالذهاب عنِّي.
* * *
(47) - {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} .
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} سلام توديع ومتاركة، ومقابلةٍ للسيئة بالحسنة؛ أي: لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعضَ ما يؤذيك، ولكن:
{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وَعَده بطلب المغفرة له من الله تعالى.
قيل: لعلَّه يوفِّقك للتوبة
(1)
والإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر: استدعاءُ التوفيق لما يوجب الغفران وهو الإيمان.
وَيرِدُ عليه: أنه لو كان كذلك لما كان وعدُه هذا مستثنًى عن القدوة الحسنة بقوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4].
{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} بليغًا في البِرِّ واللُّطف.
* * *
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أراد بالاعتزال: المهاجرة {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: وما تعبدون من أصنامكم.
(1)
في (ف) و (ك): "بالتوبة".
{وَأَدْعُو رَبِّي} : وأعبدُه وحده، ثم قال تواضعًا وهضمًا للنفس وتنبيهًا على أن الإجابة والإثابة تفضُّل غير واجب، وأن مِلاك الأمر خاتمتُه وهو
(1)
غيب، وتعريضًا لشقاوتهم بدعاء آلهتهم:
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} : خائبًا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم.
* * *
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بالهجرة إلى الشام {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} ولدًا {وَيَعْقُوبَ} نافلةً.
أول ما وُهب له إسماعيل عليه السلام، على ما مرَّ في تفسير قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] وإنما خُصَّ إسحاق بالذِّكر؛ لأنَّه شجرة الأنبياء عليهم السلام، أو لأنَّه أراد أن يَذكر إسماعيلَ بفضله على الانفراد.
{وَكُلًّا} " أي: كلَّ واحد منهما {جَعَلْنَا نَبِيًّا} ؛ أي: لمَّا ترك الكفارَ الفجَّار لوجهه عوَّضه أولادًا أبرارًا.
* * *
(50) - {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} .
{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} النبوَّةَ والأولاد والأموال.
(1)
في (م): "هو".
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} ثناءً حسنًا، وهو الصلوات على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في الصلوات إلى قيام الساعة؛ استجابةً لدعوته:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] عبَّر باللسان عمَّا يوجد به، كما عبَّر باليد عمَّا يُعطى بها، وهو العطية، ووصفه بالصدق؛ لأنَّه ثناءٌ حسنٌ لا كذب فيه.
{عَلِيًّا} : رفيعًا مشهورًا.
* * *
(51) - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} قرئ بالفتح؛ أي: أخلصه الله واصطفاه، وبالكسر، أي: أَخلَص العبادةَ لله
(1)
، فهو مُخلَص بما له من السعادة بأصل الفطرة، ومُخلِص فيما عليه من العبادة بصدق الهمَّة.
{وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} أرسله اللهُ إلى الخَلْق فأَنبأَهم عنه، ولذلك قدَّم {رَسُولًا} مع أنه أخصُّ وأعلى.
* * *
(52) - {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} وهو جبلٌ بين مصرَ ومَدْيَن.
{الْأَيْمَنِ} : من ناحيته اليمنى، من اليمين، والمعنى: أنه حين أقبل من مَديَنَ يريد مصرَ، نُودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام، بأنْ تَمثّل له الكلام من تلك الجهة.
(1)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالفتح، وباقي السبعة بالكسر. انظر:"التيسير"(ص: 147).
أو: مِن جانبه الميمونِ، من اليُمن.
{وَقَرَّبْنَاهُ} تقريبَ منزلةٍ ومكانة دون منزلٍ ومكان.
{نَجِيًّا} : مناجيًا، كنديم بمعنى منادمٍ، حالٌ من أحد الضميرين.
وقيل: مرتفعًا، من النَّجْو وهو الارتفاعُ؛ لِمَا روي أنه رفع فوق السماوات حتى سمع صرير القلم
(1)
.
* * *
(53) - {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} .
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا} : من أجلِ رحمتنا {أَخَاهُ} مفعولٌ {هَارُونَ} و عطفُ بيانٍ أو بدلٌ {نَبِيًّا} حالٌ منه هي المقصودة بالهبة؛ أي: وهبنا له نبوَّةَ أخيه، وإلَّا فهارونُ كان أكبرَ سنًّا منه
(2)
.
* * *
(54) - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ذكَره بذلك لشهرته به واتِّصافه بأشياءَ من هذا الباب لم تُعهَد مِن غيره.
{وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} بُعثَ بشرعِ أبيه إلى قومٍ دون قومِ أبيه، وهم: جُرْهُم، فكان صاحبَ شريعة بالنظر إليهم لاختصاص شرع أبيه بحسب
(3)
دعوته لقومه.
* * *
(1)
روي عن سعيد بن جبير أنَّ جبرائيل عليه السلام أردفه حتى سمع صريرَ القلم والتوراة تكتب له. رواه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 286)، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور"(5/ 515).
(2)
في هامش (س) و (ف): "فلا حاجة إلى التكلف بأن الأنبياء آباء الأمم. منه ".
(3)
في (س) بدلًا منها كلمة غير واضحة.
(55) - {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} .
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} اشتغالًا بالأهمِّ، وهو: أن يُقبِل الرجلُ على نفسه ومَن هو أقرب الناس إليه بالتكميل.
وقيل: أهل أمته
(1)
، فإن الأهل يُطلَق على القوم، كما في قوله:{انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16].
{بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} إنَّما خُصَّا لأَّنهما أُمَّا العباداتِ الدينية والمالية.
{وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} لاستقامة أقواله وأفعاله.
* * *
(56 - 57) - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} هو أخنوخ أوَّل مرسل بعد آدمَ عليه السلام، وأوَّل مَن خطَّ بالقَلَم، وخاطَ اللباس، ونَظَر في علم النجوم والحساب، واتَّخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، وقاتَلَ بني قابيل
(2)
.
واشتقاقه من الدَّرْس يردُّه منعُ صرفه، نعم لا يَبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبًا من ذلك، فلقِّب لكثرة دَرْسه، إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثينَ صحيفةً
(3)
.
{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} وهو شرف النبوَّة والزُّلفى عند الله تعالى.
(1)
في (ك): "ملته".
(2)
انظر: "النكت والعيون"(3/ 378)، و"البحر المحيط"(14/ 454).
(3)
انظر: "الكشاف"(2/ 513)، و"البحر المحيط"(14/ 454).
وقيل: معناه: رَفَعتْه الملائكة إلى السماء الرابعة أو السادسة، وعن الحسن: إلى الجنة
(1)
.
* * *
{أُولَئِكَ} إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس.
{الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بأنواع النِّعَم الدينية والدنياوية.
{مِنَ النَّبِيِّينَ} {مِنْ} للتبعيض؛ لأن المذكورين ليسوا مُطلَقَ المنعَم عليهم، بل الذين وقعوا خبرًا عن {أُولَئِكَ} ، وهم بعض الأنبياء.
{مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} بدلٌ منه بإعادة الجارِّ.
{وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؛ أي: ومن ذرِّيَّة مَن حملنا مع نوح خصوصًا، وهم مَن عدا إدريس عليه السلام، فإن إبراهيم كان من ذرِّيَّة مَن حملنا مع نوح عليه السلام لا من ذريته، وإلَّا لقيل: ومن نوح
(2)
.
{وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} الباقون {وَإِسْرَائِيلَ} ؛ أي: ومن ذرية إسرائيل، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام على أنَّ أولاد البنات من الذرِّيَّة.
(1)
انظر: المصدرين السابقين.
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فاتضح فساد ما قيل: فإن إبراهيم عليه السلام كان من ذرية سام بن نوح عليه السلام. منه ".
{وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} : ومن جملة مَن هدينا إلى الحقِّ {وَاجْتَبَيْنَا} من الأنام للنبوَّة والكرامة.
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} ؛ أي: إذا تُليت عليهم كتبُ الله المنزلةُ، وهو كلام مستأنف إن جعلْتَ {الَّذِينَ} خبرًا لـ {أُولَئِكَ} لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له مع ما لهم من علوِّ الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزُّلفى من الله تعالى، وإن جعلْتَه صفة له كان خبرًا.
وقرئ: (يتلى) بالياء
(1)
لوجود الفاصل، مع أنَّ التأنيث غيرُ حقيقي.
{خَرُّوا سُجَّدًا} سقطوا على وجوههم ساجدين رغبةً.
{وَبُكِيًّا} باكين رهبةً، جمع: باكٍ، كـ: سجود وقعود، في جمع: ساجد وقاعد.
* * *
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} فعَقَبهم وجاء بعدَهُم عَقِبُ سوءٍ، يقال: خَلَفُ صدقٍ، بفتح اللام، وخَلْفُ سوءٍ بالسكون، لسكونها
(2)
.
{أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} بتركها، وقيل: بتأخيرها عن وقتها، ولا يناسبه {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} ؛ لأنَّه صريح في أنه في حقِّ الكفار.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 85) ونسبها لشبل بن عباد المكي.
(2)
قوله: "لسكونها"، كذا في النسخ، ولا يظهر لها وجه، ولم يذكرها البيضاوي، مع أن العبارة منقولة منه.
{وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} : ملاذَّ النفوس، وعن عليِّ رضي الله عنه: من بَنَى الشديدَ، وركب المنظورَ، ولَبِس المشهورَ
(1)
.
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} : شرًّا، كلُّ شرٍّ عند العرب غَيٌّ، وكلُّ خيرٍ رشادٌ.
* * *
{إِلَّا مَنْ تَابَ} رجع عن الكفر {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} بعد إيمانه {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقرئ على البناء للمفعول
(2)
، من أدخلَ.
دخول الجنة غير مشروط بالعمل الصالح، وإنما ذكر ذلك لقوله:{وَلَا يُظْلَمُونَ} ؛ أي: ولا يُنقصون {شَيْئًا} من جزاء أعمالهم ولا يُمنعونه، بل يُضاعَف لهم، ويجوز أن ينتصب {شَيْئًا} على المصدر، وفيه بيان أن كفرهم السابق لا يضرُّهم ولا يُنقص أجورهم.
* * *
(61) - {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} .
{جَنَّاتِ} بدل من {الْجَنَّةَ} بدل البعض؛ لاشتمالها عليها، أو منصوب على المدح.
وقرئ بالرفع
(3)
على أنه خبر مبتدأ محذوف.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 514)، و"البحر المحيط"(14/ 457).
(2)
هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 97).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 85).
{عَدْنٍ} عرفة؛ لأنَّه عَلَمٌ بمعنى العَدْن وهو الإقامة، أو هو عَلَمٌ لأرض الجنة لكونها مكانَ إقامة، ولذلك صحَّ وصف ما أضيف إليه بقوله:
{الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} ؛ أي: عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحاتِ لِمَا سبق ذكرهم؛ لأنَّه أضافهم إليه وهو للاختصاص، وهؤلاء أهلُ
(1)
الاختصاص.
{بِالْغَيْبِ} : بالوحي إلى نبيِّه؛ أي: وَعَدها وهي غائبة عنهم، أو: هم غائبون عنها.
{إِنَّهُ} ضمير الشأن أو ضمير الرحمن {كَانَ وَعْدُهُ} ؛ أي: موعودُه وهو الجنَّة {مَأْتِيًّا} ، أي: هم يأتونها.
* * *
(62) - {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} اللَّغو: الشيء الساقط الذي لا يعتدُّ به من الكلام وغيره، ولذلك قيل لما لا يعتدُّ به في الدِّيَة من أولاد الإبل: لَغْوٌ، وللساقط الذي لا يعتدُّ به في الأَيمان: اليمين اللَّغْو
(2)
.
{إِلَّا سَلَامًا} ؛ أي: لكنْ يسمعون سلامًا من الملائكة، أو من بعضهم على بعض. أو: لا يسمعون فيها إلا قولًا يَسلمون فيه من العَيْب والنَّقيصة
(3)
. فهو استثناء منقطِع عند الجمهور.
(1)
في النسخ عدا (س): "لأهل "، والمثبت من (س).
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "ذكره صاحب الكشاف في سورة البقرة. منه ".
(3)
في هامش (س) و (ف) و (م): "في تقرير القاضي خلل فليتأمَّل. منه ".
وقيل: متصل على تنزيل غير المحتمل منزلةَ المحتمل مبالغةً في نفي اللغو، يعني: مظنَّة سماع اللغو في حقِّهم، على تقدير أن يكون السلام لغوًا، وذلك محالٌ، والمعلَّق على المحال محالٌ، كقوله:
ولا عَيْبَ فيهم غير أنَّ سيوفَهم
…
بهنَّ فلولٌ من قِراعِ الكتائبِ
(1)
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} لمَّا كان أعدلُ أحوال المطاعم وأبعدُها من الضرر هو الغَداءَ والعَشاءَ، عرَّفهم جل جلاله اعتدالَ أحوال أهل الجنة في مآكلهم، وضَرَبَ لهم البُكرة والعشيَّ مثلًا لذلك، وإلَّا فلا بُكرة ولا عشيَّ
(2)
ثمَّة.
ويجوز أن يُراد معنى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35]؛ أي: لهم ذلك غيرُ منقطع، وهذا كما يقول الرجل: أنا أُصبح وأُمسي في ذِكْرك، وبِرُّ فلانٍ يغدو إليَّ ويروح، أي: لا ينقطع.
* * *
(63) - {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} .
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} ؛ أي: نجعلها ميراثَ أعمالهم، يعني: ثمراتها وعاقبتها، أو نُبقي الجنة على المتَّقي كما يبقى مال المورِّث
(3)
على الوارث، على استعارة الإيراث في الإبقاء، فإن الوراثة أقوى سبب للتمليك والاستحقاق، فإنها من حيث إنها لا تُعقَب بفسخٍ ولا استرجاعٍ ولا تبطل بردِّ وإسقاط.
(1)
البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (ص: 11)، ويستشهد به البلاغيون على تأكيد المدح بما يشبه الذم، انظر:"خزانة الأدب"(3/ 327)، و"روح المعاني""16/ 128". وقد تقدم في مواضع من هذا الكتاب.
(2)
في (م): "عشية".
(3)
في (س): "الموروث".
وقيل: يرثون زيادة في كرامتهم المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا؛ لأن الكفر موتٌ حكمًا.
{مَنْ كَانَ تَقِيًّا} عن الكفر.
* * *
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} حكايةُ قول جبريل حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تأخَّر الوحي أيامًا، فقال المشركون: لعلَّ ربَّك نسيكَ -: يا جبريلُ، ما مَنَعك أن تزورنا أكثر ممَّا تزورنا؟! فنزل
(1)
.
والتنزيل على معنيين: معنى النزول على مهلٍ، ومعنى النزول على الإطلاق، والأول أليقُ هنا، يعني: أن نزولها في الأحايين وقتًا غبَّ وقت ليس إلا بأمر الله.
وقرئ: (وما يتنزل) بالياء
(2)
، والضمير للوحي.
{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وما نحن فيه من الأماكن أو الأحايين، لا ننتقل من مكان إلى مكان، أو لا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ، أي: ناسيًا لك، وإنما كان
(3)
ذلك لحِكَم رآها فيه، وقد مرَّ وجه إيثار صيغة المبالغة في تفسير قوله:{عَصِيًّا} .
(1)
رويت فيه أخبار مرسلة عن مجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم عند الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم. انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 301)، و"تفسير القرطبي"(13/ 481).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 85).
(3)
"كان ": ليست في (ك) و (م).
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بيانٌ لامتناع النسيان عليه، وهو خبرُ محذوفٍ، أو بدلٌ من {رَبُّكَ} .
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} خطابٌ للرسول عليه السلام مرتَّبٌ على ما تقدَّم؛ أي: لما عرفتَ ربَّك بأنه لا ينبغي له أن ينساك، فأثبت لأجل عبادته واصبر على مشاقِّها، ولا تضطرب بإبطاء الوحي وهُزء الكفرة.
وإنَّما عدِّي باللام؛ لتضمُّنه معنى الثبات للعبادة فيما يورَد عليه من الشدائد والمشاقَ، كقولك للمحارب: اصطَبِرْ لقرنك
(1)
، فالعبادة ما اصطَبَرَ لها لا ما اصطَبَرَ عليها.
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : أحدًا يسمَّى الله، والاستفهام على سبيل الإنكار، وذلك كناية عن نفي استحقاق الغير بالعبادة، وهو تقريرٌ للأمر؛ أي: إذا صحَّ أنْ لا أحدَ غيرُه يستحقُّ العبادة، لم يكن بدّ من التسليم لأمره، والاشتغال بعبادته، والاصطبار على مشاقِّها.
* * *
(66) - {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} .
(1)
في النسخ عدا (س): "اصطبر لقوتك "، والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في المصادر. انظر:"الكشاف"(3/ 30)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 15)، و"تفسير أبي السعود"(5/ 274)، و"روح المعاني"(15/ 135).
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} يعني: أُبَيَّ بنَ خَلَف، فإنه فتَّت
(1)
عظمًا وقال: أَنُبعَث بعد أن صرنا كذا؟! فنزل
(2)
.
ولا وجه لإرادة الجنس بأسره، إذ لا يَحسُن إسناد قولٍ أو فعلٍ صَدَرَ عن بعضٍ إلى الكلِّ إلَّا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو برضًى منهم، كما في قول الفرزدق:
فسيفُ بني عبسٍ وقد ضربوا
…
نَبَا بيدَيْ ورقاءَ عن رأسِ خالدِ
(3)
{أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} من الأرض، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار من قِبَل أنَّ ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، وانتصابه بفعل دلَّ عليه {أُخْرَجُ} لا به؛ لأن ما بعدَ لام الابتداء لا يَعمل فيما قبلها، وهذه اللام إذا دخلت على المضارع تعطي معنى الحال، وتؤكِّد مضمون الجملة، فلمَّا جامعت حرفَ الاستقبال خلصت للتوكيد واضمحلَّ معنى الحال، و (ما) في {أَإِذَا مَا} للتوكيد أيضًا، فكأنه قال: أحقًّا أنَّا سنُخرَج من القبور أحياءً حين يتمكَّن فينا الموت والهلاك؟! على وجه الاستنكار والاستبعاد.
* * *
(67) - {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} .
{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} هو عطف على محذوف، تقديره: أَيُنكِر قدرتنا على الإعادة
(1)
في (س): "فت".
(2)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 301) عن الكلبي.
(3)
انظر: "ديوان الفرزدق"(1/ 157)، و"الكشاف"(3/ 31)، والشاهد فيه اشار إليه الزمخشري بقوله: فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله: (نبا بيدي ورقاء) وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي.
ولا يَذكُر، وإنما أظهر الفاعل إشعارًا بالمنشأ لعدم تذكُّره، فإن النسيان كاللازم للإنسان، قيل: أولُ الناس أول الناسي.
أو على (يقول)، وتوسيط الهمزة مع أن الأصل أن يتقدَّمها للإنكار
(1)
؛ أي: أيجمع
(2)
بين هذين الأمرين الغريبين
(3)
، وللإشعار بأن المنكر بالذات هو المعطوف، وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه
(4)
، فإنه لو تذكَّر وتأمَّل {أَنَّا خَلَقْنَاهُ} أراد خلق مادَّته، ولذلك قال:{مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: خلقنا مادَّته قبل خَلْق صورته {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} بل كان عدمًا صِرْفًا = لم يقل ذلك، فإنه أعجب من جمع الموادِّ بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض.
وقرئ: {يَذْكُرُ} من الذِّكْر الذي يراد به التفكُّر
(5)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 32)، و"تفسير البيضاوي" (4/ 15). ولفظ "الكشاف":(الواو عطفت (لا يَذْكُرُ) على (يَقُولُ) ووسِّطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعني: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق). ولفظ البيضاوي: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} عطف على (يَقُولُ)، وتوسيط همزة الإِنكار بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن تتقدمهما للدلالة على أن المنكر بالذات هو المعطوف وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه .. ).
(2)
في النسخ عدا (م): "الجمع"، وفي (م):"أنجمع"، والمثبت هو الأنسب بالسياق.
(3)
في النسخ عدا (ك): "القريبين"، والمثبت من (ك).
(4)
في هامش (س) و (ف) و (م): "إن الهمزة إذا توسَّطت بين المعطوفين؛ تكون لإنكار الجمع بينهما، إلا أنه قد يكون الإنكار للتنافي بينهما، وقد يكون لقوَّة القرابة عند اجتماعهما، وما نحن فيه من قبيل الثاني. منه".
(5)
قراءة نافع وابن عامر وعاصم، وقرأ الباقون:{أَوَلَا يَذْكُرُ} . انظر: "التيسير"(ص: 149).
وقرئ: (يَتَذكَّر) على الأصل
(1)
.
* * *
(68) - {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} .
{فَوَرَبِّكَ} أقسم باسمه
(2)
تعالى مضافًا إلى نبيِّه عليه السلام؛ تحقيقًا للأمر وتفخيمًا لشأن الرسول عليه السلام.
{لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي: المنكِرين للبعث، لا بدَّ من هذا التخصيص؛ لأن لحاق الكلام لا يتحمَّل التعميم
(3)
.
{وَالشَّيَاطِينَ} مفعول معه؛ لِمَا روي على وفق قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] أنهم يُحشَرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغوَوْهم، كلُّ كافرٍ مع شيطانه في سلسلة.
{ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} : جمع الجاثِي، وهو الذي يَبرُك على ركبتَيْه، يعني: أنَّهم يُساقون جثاةً من الموقف إلى شاطئ جهنَّم، فقوله:{جِثِيًّا} حالٌ مما
(4)
ضمِّنه لنحضرنَّ
(5)
من السوق.
* * *
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86).
(2)
في (م): "أقسم بالله".
(3)
في هامش (س) و (ف): "بل سباقه [زاد في (س): وسياقه] لا يتحمله كما لا يخفى عن من تأمله منه.
(4)
في (م): "ممن".
(5)
في (ك): "لنحضرنهم"، وفي (م):"نحضرن".
(69) - {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} .
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} النَّزْع: إخراجُ الشيء ممَّا كان متصلًا به، أو ملابسًا له.
{مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الشِّيعة: الجماعة المتعاونون على أمرٍ من الأمور.
{أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} تمييز، وأصله المصدر: جراءةً، أو: تمرُّدًا، أي: نَبتدئُ بالأكبر جِرمًا فالأكبر.
و {أَيُّهُمْ} مبنيٌّ على الضَّمِّ عند سيبويه
(1)
؛ لأن حقَّه أن يُبنى كسائر الموصولات، لكنه أُعرب حملًا على (كلّ) و (بعض) للُزوم الإضافة، وإذا حذف صدرُ صلته زاد نقصُه، فعاد إلى حقِّه منصوبَ المحلِّ بـ (ننزعنَّ) ولذلك قرئ منصوبًا
(2)
، و {أَشَدُّ} خبر مبتدأٍ محذوف.
ومرفوعٌ عند غيره؛ إمَّا بالابتداء على أنه استفهام وخبره {أَشَدُّ} ، والجملة محكيَّة، وتقدير الكلام: لننزعنَّ من كلِّ شيعةٍ الذين يُقال فيهم: إيُّهم أشدُّ، أو معلَّق عنها {لَنَنْزِعَنَّ} ؛ لتضمُّنه معنى التمييز اللازم للعلم، أو مستأنفة والفعل واقع على {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} على زيادة {مِنْ} أو على معنى: لننزعنَّ بعضَ كلِّ شيعة، وإما بـ {شِيعَةٍ} ؛ لأنها بمعنى يشيع، و (على) للبيان أو متعلِّق بأفعل، وكذا الباء في قوله:
(70) - {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} .
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ} كُنيَ بالعلم عن إيقاع المعلوم، أي: نحن نبدأ بتعذيب
(1)
انظر: "الكتاب"(2/ 398).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 34)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 17)، والكلام منه.
الأحقِّ فالأحقِّ، وضمّن هذه الكناية الدلالة
(1)
على أنه تعالى في ذلك النزع لا يضع شيئًا في
(2)
غير موضعه.
{هُمْ أَوْلَى بِهَا} : أحقُّ بالنار {صِلِيًّا} تمييز؛ أي: دخولًا، والباء تتعلَّق بـ {أَوْلَى}؛ أي: الذين هم أولى بالصُّليِّ، أو صليُّهم أَولى بالنار، ويجوز أن يراد بهم وبـ {أشدّهم عتيًا}
(3)
رؤساء الشِّيَع، فإن عذابهم مضاعَف؛ لضلالهم وإضلالهم.
* * *
(71) - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} .
{وَإِنْ مِنْكُمْ} : وما منكم، تلوينٌ للكلام من الغَيبة إلى الخطاب؛ للانتقال من أحوال الخاصة إلى أحوال العامة {إِلَّا وَارِدُهَا}؛ أي: وإن منكم أحد
(4)
إلَّا داخلَها.
الورود في اللغة: الوصول، إلا أن المراد هنا الدخول بطريق الكناية، كما في قوله:{فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]، وقوله:{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] لقوله عليه الصلاة والسلام: "الورود: الدخول، لا يبقى بَرٌّ ولا فاجرٌ إلَّا دَخَلها، فتكون على المؤمنين بَرْدًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم"
(5)
، وتقول النار للمؤمن:"جُزْ يا مؤمن؛ فإنَّ نورَك أَطفأ لهبي"
(6)
، وهو الظاهر من قوله: {وَنَذَرُ
(1)
في (م): "الدالة".
(2)
"في" من (م).
(3)
في (ك) و (م): "عتيا".
(4)
"أحد": ليست في (م).
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(14520) من حديث جابر رضي الله عنه، وإسناده ضعيف؛ لجهالة أحد رجال الإسناد.
(6)
رواه الطبراني في "الكبير"(22/ 258)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 394)، وابن الجوزي في "العلل"(1532)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 360): فيه سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف.
الظَّالِمِينَ فِيهَا} حيث قال: {وَنَذَرُ} ، ولم يقل: ونُدخِل، ولا ينافيه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} الآية [الأنبياء: 101] لأن معناه: أنَّهم مُبعَدون عن النار لا عن موضعها، وهم كذلك، فإنَّهم يمرُّون والنار خامدةٌ على ما ورد في الخبر
(1)
، ولذلك لا يسمعون حسيسها، وفائدة إدخالهم النار تشديدُ الحسرة على الكفار.
{كَانَ} ورودهم {عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} الحَتْم: القَطْع بالأمر، وذلك حكمٌ من الله قاطع، والمقضيُّ: الذي قضى بأنه يكون، ولمَّا كان المتبادِر إلى الوهم من قوله:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا} الوجوب على الله، زِيْدَ قوله:{مَقْضِيًّا} ؛ دفعًا لذلك الوهم، بما فيه من الدلالة على أن ما ذُكر أَثَرُ قضائه تعالى، فيكون الكلام المذكور مستعارًا لمعنى اللزوم الناشئ عن القضاء المُبرَم، فلا وجوب ولا إيجاب لا من ذاته تعالى ولا من غيره.
* * *
(72) - {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} .
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الكفرَ، فيُساقون إلى الجنة.
{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} : ونَدَعُ الكافرين {فِيهَا جِثِيًّا} جاثِين على الرُّكب للتخاصم، كما قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] وقال: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47] فلا دلالة فيه على أن المرادَ الوردُ والجثوُّ حواليها.
* * *
(1)
روى ابن أبي شيبة في "المصنف"(35429) عن خالد بن معدان أنه قال: إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قالوا: ربنا أَلَم تعدنا أن نرد النار؟! قال: بلى، ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : مرتَّلات الألفاظ مبيَّنات المعاني في نفسها، أو ببيان الرسول، أو واضحات الإعجاز.
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} : لأجْلهم، أو: معهم {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن وأنتم {خَيْرٌ مَقَامًا} بالفتح: موضعُ القيام، والمراد: المكان والمسكن، وبالضَّمِّ وهو موضعُ الإقامة والمنزل
(1)
.
{وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} : مجلسًا يجتمع القوم فيه للمشاورة، ومعنى الآية: أن الله تعالى يقول: إذا أنزلنا آيةً فيها دلائلُ وبراهينُ أَعرضوا عن التدبُّر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال، وحُسْنِ المنزل والحال، غافلين عن وَخامة المآل، فقال تعالى منبِّهًا على ذلك:
(74) - {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} .
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} (كم) مفعول {أَهْلَكْنَا} ، و {مِنْ} تبيين لإبهامها؛ أي: كثيرًا من القرون أهلكنا، وكلُّ أهل عصرٍ قَرْنٌ لمَن بعدهم.
{هُمْ أَحْسَنُ} في موضع الصفة لـ {قَرْنٍ} ، وجمع اعتبارًا لمعناه.
وقيل: في محلِّ النصب صفةً لـ (كم)، أَلا ترى أنَّك لو تركت {هُمْ} كان {أَحْسَنُ} نصبًا على الوصفية.
وَيرِدُ عليه: أنهم نصُّوا على أن (كم) الخبرية والاستفهامية لا تُوصَف ولا يُوصَف بها.
(1)
قرأ بالضم ابن كثير، وباقي السبعة بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 149).
{أَثَاثًا} تمييز للنسبة، وهو متاعُ البيت، وقيل: هو ما جَدَّ من الفرش، والخُرْثيُّ مارثَّ.
{وَرِئْيًا} منظر أو هيئة، فِعْل بمعنى مفعول، من رئت
(1)
، كالطِّحْنِ.
وقرئ: {ورِيًّا} بغير همزٍ مشدَّدًا
(2)
، على قلب الهمزة وإدغامها، أو على أنه مِن الرِّيِّ الذي هو النعمة.
وقرئ: (رِيئًا) على القلب
(3)
.
و (رِيًا) بحذف الهمز
(4)
.
و (زِيًّا) من الزِّيِّ
(5)
، قال المطرِّزي: والزِّيُّ: الهيئةُ، (فِعْلٌ) من زَوَى إذا جَمَع؛ لأنَّه لا يقال: لفلانٍ زىٌّ حَسَنٌ، إلَّا أن يَجمع ما يُستحسن من لبسةٍ حسنة وهيئةٍ مستحسَنة.
لمَّا كان كلامهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} كلامَ المفحَم المغلوب المنقطِع الذي لا يَجد ما يصلح للجواب، فينتقل إلى أمرٍ آخرَ يدَّعي به الفضل والغَلَبة = رَدَّهم ونَقَضَ كلامهم مهدِّدًا
(6)
بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، ثم بيَّن أنَّ سعيَهم في الدنيا استدراجٌ ليس بدليل على الفَضل والرفعة، وإنما الفَضْل هو السعادة في الآخرة بقوله:
(1)
في (س): "أريت".
(2)
هي قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر، وقالون عن نافع. انظر:"التيسير"(ص 149).
(3)
نسبت لرواية عن الأعمش، عن شعبة، عن عاصم، ونسبت أيضًا لحميد. انظر:"المحرر الوجيز"(4/ 29)، و"البحر المحيط"(14/ 479).
(4)
نسبت لطلحة عن ابن عباس. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86)، و"المحتسب"(2/ 43)، و"المحرر الوجيز"(3/ 29).
(5)
انظر المراجع السابقة.
(6)
في (م): "تهددا".
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} وهو تسجيلٌ على القائلين ذلك القولَ بالضلالة، وتتميم وبيان أنَّ ما دعاهم إلى ذلك القول هو غاية في التعمُّق في الضلالة والحيرة والاستقرار فيها.
{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} جواب {مَنْ} لأنَّها شرطيَّة، وهذا الأمر بمعنى الخبر؛ أي: مَن كفر يمدُّ له الرحمنُ، يعني: يُمهله ويُملي له في العُمُر؛ ليزداد طغيانًا وضلالًا، كقوله تعالى:{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا} [آل عمران: 178] وإنما أُخرج على لفظ الأمر، إيذانًا بأن إمهاله ممَّا ينبغي أن يُفعل كالمأمور به؛ استدراجًا وقَطْعًا لمعاذيره.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} هي متصلةٌ بقوله: {خَيْرٌ مَقَامًا} وما بينهما اعتراض؛ أي: لا يزالون يقولون هذا القول إلى أن يشاهدوا الموعود رأيَ عين.
{إِمَّا الْعَذَابَ} في الدنيا وهو تعذيب المسلمين إياهم بالقتل والأَسْر {وَإِمَّا السَّاعَةَ} ، أي: القيامة، والمراد: ما ينالهم من الخزي والنكال فيها، فهما بدلان من {مَا يُوعَدُونَ} .
{فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} من الفريقين {وَأَضْعَفُ جُنْدًا} : أعوانًا وأنصارًا؛ أي: فحينئذٍ يعلمون قَطْعًا أنَّ الأمر على عكس ما قرَّروه، وأنَّهم شرٌّ منزلًا وأضعف جندًا، لا خير مقامًا وأحسنُ نديًّا، وأنَّ المؤمنين على خلاف صفتهم.
وهو جواب الشرط، والجملة محكيَّة بعد (حتى)، وجاز أن تتصل بما يليها، والمعنى: إن الذين في الضلالة ممدودٌ لهم في ضلالتهم لا ينفكُّون عنها إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين، أو يشاهدوا هول الساعة.
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} عطفٌ على {فَلْيَمْدُدْ} لأنَّه في معنى الخبر، كأنه قيل: مَن كان في الضلالة يَزيد الله في ضلاله، وَيزيد المهتدين - أي: المؤمنين - ثباتًا على الاهتداء.
أو على الشرطية المحكيَّة بعد القول، كأنه لمَّا بيَّن أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيِّن أن قصور حظِّ المؤمن فيها ليس لنقصه، بل لأنَّه تعالى أراد به ما هو خيرٌ وعوَّضه منه.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أي: الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد، وكلُّ الصيدِ في جوفِ الفَرا
(1)
.
{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} : عائدةً من النِّعم الفانية التي يفتخرون بها، كيف ومآلها النعيمُ المقيم، ومآلُ هذه الحسرةِ هو العذابُ الدائم؟ كما أشار إليه بقوله:
{وَخَيْرٌ مَرَدًّا} : مرجعًا وعاقبة، وفي التفضيل
(2)
تهكُّمٌ بالكفار؛ لأنهم قالوا للمؤمنين: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} .
* * *
(1)
(لفَرَأ) بالهمز: حمار الوحش، وهو في المثل دون همز لأن الأمثال موضوعة على الوقف، وأصل المثل: أن قومًا خرجوا للصيد، فصاد أحدهم ظبيًا، والآخر أرنبًا، وصاد الثالث حمار وحش، فقال لأصحابه: "كل الصيد
…
"؛ أي: كله دونه. انظر: "جمهرة الأمثال" (2/ 162)، و"المستقصى" (2/ 224)، و"مجمع الأمثال" (2/ 136)، و"القاموس" (مادة: فرأ).
(2)
في (س): "التفصيل".
(77) - {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} .
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} لما كانت رؤية الأشياء طريقًا إلى العلم بها وصحَّة الخبر عنها، استعملوا (أرأيت) في معنى: أَخْبِرْ، والفاء للتعقيب، والمعنى: أَخْبِرْ بقصة هذا الكافر عقيبَ حديث أولئك.
وقوله: {لَأُوتَيَنَّ} جواب قَسَم مُضمَر {مَالًا وَوَلَدًا} وقرئ: {وُلْدًا}
(1)
، وهو جمع وَلَد كأَسَد في أُسْد، أو بمعنى الوَلَد كالعُرْب في العَرَب.
* * *
(78) - {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} .
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} من قولهم: اطَّلع الجبلَ: إذا ارتقى إلى أعلاه، الهمزة للاستفهام، وهمزة الوصل محذوفة؛ أي: نَظَر في اللوح المحفوظ فرأى فيه مُنْيَتَه.
{أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : موثقًا أن يؤتيَه ذلك، روي أن خبَّاب بن الأرتِّ صَاغَ للعاصِ بنِ وائل حَلْيًا، فاقتضاهُ الأجرَ، فقال: إنَّكم تزعمون أنَّكم تُبعَثون وأنَّ في الجنة ذهبًا وفضَّة فأنا أَقضيكَ ثَمَّ، فإني أُوتى
(2)
مالًا وولدًا حينئذٍ
(3)
.
وفيه أن قوله: وولدًا، لا يناسب المقامَ ومساقَ الكلام حينئذ.
* * *
(79) - {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} .
{كَلَّا} ردعٌ وتنبيهٌ على الخطأ؛ أي: هو مُخطئٌ فيما تصوَّره لنفسه فليرتدِعْ عنه.
(1)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "السبعة"(ص: 149 - 150).
(2)
في (ك): "أوفى".
(3)
رواه البخاري (2091)، ومسلم (2795)، والترمذي (3162)، من حديث خباب رضي الله عنه.
{سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} : سنُظهر له أنَّا كتبنا قوله، على طريقة قوله:
إذا ما انتَسَبْنا لمْ تَلِدْني لئيمةٌ
(1)
أي: تبيَّن أني لم تَلِدني لئيمةٌ؛ لأن نفس الكَتْبة لا تتأخَّر عن القول؛ لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وقيل: هذا على طريقة قول المتوعِّد للجاني: سوفَ أنتقمُ منك، يعني: أنه لا يُخلُّ بالانتصار وإن تطاول به الزمان، إلا أن حرف التنفيس جرِّد هنا للوعيد.
{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ} : نزيده
(2)
من العذاب كما يزيد في الافتراء والاجتراء، من المدد، يقال: مدَّه وأمدَّه بمعنًى.
{مَدًّا} أكِّد بالمصدر؛ لفَرْط غضبه تعالى.
* * *
(80) -) {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} .
{وَنَرِثُهُ} بموته {مَا يَقُولُ} يعني: المالَ والولدَ بدل اشتمال من الهاء في (نرثه).
{وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْدًا} لا يَصحبه مالٌ ولا ولدٌ كان له في الدنيا، فضلًا أن يُؤتى له زائدًا.
* * *
(1)
أورده الفراء في "معاني القرآن"(1/ 61)، والطبري في "التفسير"(2/ 57)، ولم ينسباه، وأورده البغدادي في "شرح أبيات المغني"(1/ 125)، ونسبه لزائد بن صعصعة الفقعسي، وعجزه:
ولم تَجِدي من أن تُقِرِّي به بدَّا
(2)
في (م): "زيدت".
(81) - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} .
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} : ليتعزَّزوا بهم بأن يكونوا لهم شفعاء عند الله، ووحَّد {عِزًّا} بمعنى المصدر.
* * *
(82) - {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} .
{كَلَّا} ؛ أي: ليس الأمر كما ظنُّوا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الضمير للآلهة؛ أي: سيجحدون عبادتهم، ويقولون: واللهِ ما عبدونا؛ لقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166].
أو للمشركين؛ أي: يُنكِرون أن يكونوا قد عبدوها، كقوله:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
{وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} : خصمًا؛ لأن الله تعالى يُنطقهم فيقولون: يا ربِّ، عذِّب هؤلاء الذين عبدونا مِن دونك، والضِّدُّ يقع على الواحد والجمع في مقابلةِ {لَهُمْ عِزًّا} ، والمراد ضدُّ العزِّ، وهو الذُّلُّ والهوان، يكونون عليهم ضدًّا لِمَا قصدوه من العزِّ، على معنى: أنها تكون معونةً في عذابهم؛ بأن تُوقَد بها نيرانهم.
أو جُعل الواو للكفرة؛ أي: ويكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها، وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادَّتهم، فإنَّهم بذلك كالشيء الواحد، ونظيره قوله عليه السلام:"وهم يدٌ واحدةٌ على مَن سواهم"
(1)
.
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(959)، والنسائي (4734)، وأبو داود (4530)، من حديث علي بن أبي طالب. ورواه الخطابي في "غريب الحديث"(1/ 553)، وأبو داود (2751)، وابن ماجه (2685) والإمام أحمد في "المسند"(6797)، من حديث عبد الله بن عمرو بن =
وقرئ: (كَلًّا) بالتنوين على قلب الألف نونًا في الوقف، أو على معنى: كَلَّ هذا الرأيُ كَلًّا، و:(كُلًّا) على إضمار فعلٍ يُفسِّره ما بعده؛ أي: سيجحدون كُلًّا، سيكفرون بعبادتهم
(1)
.
* * *
(83) - {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الإرسال: التخلية، وتعديته بـ (على) لتضمين معنى التسليط، أي: خلَّيناهم
(2)
مسلَّطين عليهم بالإغراء
(3)
، وذلك حين قال لإبليس:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64].
{تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} : إغراءٌ بإزعاج، وأصل الأزِّ: الحركة مع صوتٍ متَّصلٍ من أزيزِ القِدْر وغليانها، والمعنى: تزعجهم الشياطين وتسوقهم إلى المعاصي بسرعة، ومساقُ الكلام ظاهرٌ في الإمهال استدراجًا، ولذلك أتى بأداة التفريع في قوله:
(84) - {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} .
{فَلَا تَعْجَلْ} ، أي: تطلب العذاب قبل حينه، ولذلك قال
(4)
: {عَلَيْهِمْ} .
ولمَّا كان قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ} أي: أنفاسهم ليستوفوا آجالهم - في مقام التعليل لِمَا ذكر، كان المناسب أن يكون المراد: إنَّما نمهلهم لا نُهملهم.
= العاص. وهو حديث صحيح. وليس فيه كلمة: (واحدة).
(1)
نسبت القراءتان لأبي نهيك. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86)، و"المحتسب"(2/ 45)، و"الكشاف"(3/ 41).
(2)
في (ك): "طلبنا منهم".
(3)
في (ف) و (م): "بالإعزاء".
(4)
في (ف) و (ك): "قيل".
وما قيل: أي: لا تعجل بهلاكهم؛ فإنه لم يبقَ لهم إلَّا أيام محصورة وأنفاس معدودة = بعيدٌ عن مساق الكلام وسياق المقام
(1)
.
{عَدًّا} فلا يزدادون عليها ولا يَنقصون منها.
* * *
(85) - {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} .
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} الحَشْر: الجمع من جهات متعدِّدة، ونصب {يَوْمَ} بـ {لَا يَمْلِكُونَ} ، أو بمضمر؛ أي: يوم نَحشُر ونَسوق نَفعل
(2)
بالفريقين ما لا يوصف.
{إِلَى الرَّحْمَنِ} لاختيار هذا الاسم في هذه السورة شأنٌ، ولعلَّه لأن مساق الكلام فيها لتعداد نِعَمه الجِسام وشَرْح حال الشاكرين لها والكافرين بها.
{وَفْدًا} الوفدُ: جمع وافد، كرَكْب: جمع راكب
(3)
، حالٌ من {الْمُتَّقِينَ} .
* * *
(86) - {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} .
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} : الكافرين سَوق الأنعام؛ لأنهم كانوا أضلَّ منها.
{إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} عطاشًا؛ لأن مَن يَرِد الماءَ لا يَرِدُه إلا لعطشٍ، وحقيقة الوِرْد: المسير إلى الماء، فسمِّي به الواردون.
ذُكر المتقون بأنهم يُجمَعون إلى ربِّهم الذي غمرهم برحمته كما يَفِدُ الوفود على
(1)
في (س) و (ك): "مساق الكلام وسباق المقام"، وفي (م):"سياق الكلام وسياق المقام".
(2)
في (م): "يفعل".
(3)
في (م): "كركب وراكب".
الملوك تبجيلًا لهم، والكافرون بأنهم مساقون إلى النار كأنهم نَعَمٌ عِطاش يُساقون إلى الماء استخفافًا بهم.
* * *
(87) - {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} .
{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المجرمين والمتقين؛ لانحصارهم فيهما.
{إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : إذنًا فيها، لقوله تعالى:{لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] من قولهم: عَهِدَ الأميرُ إلى فلانٍ بكذا، إذا أمره به، ومحلُّه الرفع على البدل من ضمير {يَمْلِكُونَ} ، أو النصب على تقدير المضاف؛ أي: إلَّا شفاعةَ مَن اتخذ، أو على الاستثناء.
وقيل: الضمير لـ {الْمُجْرِمِينَ} ، أي: لا يملكون أن يشفع لهم إلَّا مَن اتخذ عند الله عهدًا بالإسلام ليستعدَّ به أن يشفع له.
* * *
(88)
- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} .
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} ؛ أي: النصارى واليهود، ومَن زعم أن الملائكة بناتُ الله، ولا وجه لإسناد هذا القول إلى الكُلِّ مع الإنكار من
(1)
بعضهم ووقوعِ المشاجرة فيه فيما بينهم؛ لكونه مقولًا فيما بينهم، على أن في هذا الإسناد نوعَ شَيْنٍ للمسلمين، وهم بُرآء عنه.
* * *
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "عن"، والمثبت من (س).
(89) - {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} .
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} على الالتفات للمبالغة في الذَّمِّ، والتسجيلِ عليهم بالجرأة على الله، والتعرُّضِ لسخطه، والتنبيه على عِظَمِ ما قالوا.
والأدُّ بالفتح والكسر
(1)
: العَجَب، وقيل: العظيم المنكَر، من الإدَّة وهي الشِّدَّة.
* * *
(90) - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} .
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} : تَقْرُب
(2)
{يَتَفَطَّرْنَ} وبالنون
(3)
، الانفطار من فَطَره: إذا شقَّه، والتفطُّر من فطَّره: إذا شقَّقه مرةً بعد أخرى، فهذا أبلغُ منه من عِظَم هذا القول.
{وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} وتسقط {هَدًّا} ؛ أي: مهدودة، أو: تهدُّ هدًّا، أو: مفعول له؛ أي
(4)
: لأنها تهدُّ، والهدُّ: الهدم بشدَّةِ صوتٍ، وهو تقرير لكونه
(5)
إدًّا؛ أي: بلغت هذه الكلمةُ من فظاعتها ومن
(6)
عِظَمها وهدمها لأركان الدِّين وقواعده مبلغًا لو تصوِّر تأثيرها بصورة محسوسة، لم يَحتمل مثلَه هذه الأجرام العظيمة التي هي قِوام العالَم، وتفتَّت من شدَّتها، أو كادت هذه الأجرام تضمحلُّ وتُخرب العالَم؛ لشدَّة
(1)
قرأ الجمهور بالكسر، وقرأ علي والسلمي بالفتح، انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 86)، و"المحتسب"(2/ 45).
(2)
في (ك): "تقرير".
(3)
أي: {ينفطرن} وهي قراءة شعبة وحمزة وابن عامر وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة بالتاء. انظر:"التيسير"(ص 150).
(4)
"أي": ليست في (م).
(5)
في (ك): "لقوله".
(6)
"من": ليست في (م).
غضب الله تعالى على مَن كان تفوَّه بها؛ قهرًا له وهدمًا لأركان العالَم عليه، استعظامًا لها وتهويلًا من فظاعتها.
* * *
(91) - {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} .
{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} إمَّا منصوب بتقدير حذف اللام وإفضاء
(1)
الفعلِ إليه لتعليل الكيدودة أو الهدِّ؛ أي: هدًّا لأنْ دعوا، علَّل الخرور بالهدِّ، والهدَّ بدعاء الولد للرحمن، أو مجرور بدل من الضمير في {مِنْهُ} ، أي: من أنْ دعوا، أو على إضمار لام التعليل، أو مرفوع على أنه فاعل {هَدًّا}؛ أي: هدَّها دعاءُ الولد، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: سببُ ذلك أن دعوا، وهو مِن دَعَا بمعنى سَمَّى المتعدِّي إلى مفعولين، أو مِن دَعا بمعنى نَسبَ الذي مطاوعُه: ادَّعى، بمعنى: انتَسَب.
* * *
(92) - {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} .
{وَمَا يَنْبَغِي} : ما يتأتَّى {لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} قيل: لا يليق به اتِّخاذ الولد، ولا يتطلب له لو طُلب مثلًا؛ لأنَّه مستحيل
(2)
.
(1)
في (س): "أو فضاء"، وفي (ف) و (ك):"أو إفضاء"، والمثبت من (م)، وهو الصواب. انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 20).
(2)
انظر: "تفسير البيضاوى"(4/ 20). قوله: "لا ينطلب له" انفعال من الطلب؛ أي: لا يحصل، "لو طلب"، أي: لو طلب له - على البناء للمجهول -؛ أي: لا يمكن حصول الولد لو طلب له الطالب غيره تعالى، وهم الكفرة حيث طلبوا له الولد؛ أي: حكموا به فلم يمكن حصوله. انظر: "حاشية القونوي"(12/ 301).
وَيرِدُ عليه: أن المحالَ قد يستلزم المحالَ، فيجوز أن ينطلب على تقدير تحقُّق الطلب المحال، فبالتعليل المذكور لا يتمُّ التقريب.
وفائدة تخصيص الرحمن بالذِّكر وتكريره مرَّة بعد أخرى: أنه اسم مختصٌّ بالواجب بالذات باعتبار إفاضته الوجود وأصول النَّعَم على الكُلِّ، كما قيل: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤنا، فكلُّ ما عداه نعمة أو مُنعَم عليه، فلا يُجانس مَن هو مُبدئ النِّعَم، والولد يجب أن يجانس الوالد، فلا يمكن له ولد، فمَن نَسب إليه الولد فقد شبهه بخلقه وأخرجه عن استحقاق اسمِ الرحمن، ولهذا اقتصر على المفعول الثاني على تفسير {دَعَوْا} بمعنى: سَمَّوا، للدلالة على العموم والإحاطة بكلِّ ما جعل ولدًا؛ لاستحالة مناسبة شيء مّا من خلقه له.
* * *
(93) - {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} .
{إِنْ كُلُّ مَنْ} {مَنْ} نكرة موصوفة، صفتُها {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وخبر {كُلُّ} : {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} ووحَّد {آتِي} ، {آتِيهِ} حملًا على لفظ (كلّ) وهو اسم فاعل من أتى، وهو مستقبَلٌ أي
(1)
: يأتيه ويلتجئ إليه.
و {عَبْدًا} حال؛ أي: خاضعًا ذليلًا منقادًا.
والمعنى: ما كلُّ مَن في العالم من الثَّقَلين والمَلَك إلَّا وهو يأتي الله تعالى يوم القيامة مُقرًّا بالعبودية، وهي والبنوَّة متنافيان، حتى لو مَلَكَ الأبُ ابنَه يَعتِق عليه، وهذا تصريحٌ
(2)
لِمَا عُلم ممَّا تقدَّم التزامًا.
(1)
في (ف) و (ك): "مستقبل أتى".
(2)
في (م): "التصريح".
(94) - {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} .
{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} الإحصاء: الحَصْر والضبطُ، أي: أحاط بهم علمُه.
{وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: علم تفاصيلهم وأعدادهم، فكأنه عدَّهم بأشخاصهم فرادى فرادى، والله منزَّهٌ عن الحاجة إلى العدِّ.
* * *
(95) - {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} : منفردًا، سواءٌ العابد والمعبود، ليس مع المعبود
(1)
ممَّن يعبده أحدٌ يخدمه وينفعه، ولا مع العابد أحدٌ يَشفع له ويقرِّبه وينفعه.
* * *
(96) - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} سيُحدِث لهم في قلوب الناس مودَّةً من غير أن يتعرَّضوا للأسباب التي يُكتسب بها مودَّة، بل اصطناعًا من الله تعالى لعباده الخاصَّة، قال
(2)
قتادة: ما أقبل العبدُ إلى الله إلَّا أقبل اللهُ بقلوب العباد إليه.
وللَفظ {الرَّحْمَنُ} هاهنا خصوصيةٌ تظهر بالتأمُّل في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن قلوبَ بني آدم بين إصبعين من أصابعِ الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء"
(3)
.
(1)
في (ف) و (ك): "معبودهم".
(2)
في (م): "فقال".
(3)
رواه مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
والسين إمَّا لأن السورة مكيَّة، وكانوا ممقوتِين
(1)
حينئذٍ بين الكفرة، فوعدهم اللهُ تعالى ذلك إذا دجا الإسلامُ
(2)
، أو لأن الموعود في القيامة حين تُعرَض حسناتهم على رؤوس الأشهاد، فينزع ما في صدورهم من الغلِّ.
* * *
(97) - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} .
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} : سهَّلناه مُنزَّلًا {بِلِسَانِكَ} ؛ أي: بلُغتك، وهو اللسان العربيُّ المبين، والفاء للسببية؛ لأن ما قبلها دلَّت على أن مقت
(3)
الكفرة إيَّاهم لا يضرُّهم، وسيَحدث بدله الحبُّ، فقال له: لا تخف وبلِّغ ما أُنزل إليك مبشِّرًا ونذيرًا.
{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} : الصائرين إلى التقوى.
{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} : اللُّدُّ جمع: أَلَدَّ، وهو الشديد
(4)
الخصومة في الباطل، الآخذُ في كلِّ لَديدٍ
(5)
؛ أي: شِقٍّ وجانب؛ لفَرْط اللّجاج والمِراء.
* * *
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} تخويفٌ لهم وإنذارٌ، وتجسير للرسول عليه الصلاة والسلام على إنذارهم.
(1)
في (م): "ممنوعين".
(2)
أي: قوي وشاع.
(3)
في (م): "منعت".
(4)
في (م): "شديد".
(5)
في (م): "لدية".
{هَلْ تُحِسُّ} مِن حسَّه: إذا شعر به، ومنه الحِسُّ والمحسوس {مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}؛ أي: هل ترى منهم أحدًا.
{أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} الركز: الصوت الخفيُّ، وأصل التركيب: الخفاء، ومنه: ركَز الرُّمحَ، إذا غيَّب طرفه في الأرض، والرِّكاز: المال المدفون.
أي: قد ذهبوا وبادوا، فلا عينَ لهم ولا أَثَر، فكذا هؤلاء إن
(1)
أعرضوا عن تدبُّر ما أُنزل إليك فعاقبتُهم الهلاك، فليَهُن عليك أمرُهم، والله تعالى أعلم بالصواب
(2)
* * *
(1)
في (م): "إذ".
(2)
"والله تعالى أعلم الصواب": ليست في (م).
سُورَةُ طه
بسم الله الرحمن الرحيم
(1){طه} .
{طه} رُوي عن مجاهدٍ والحسنِ والضَّحاكِ وعطاءٍ وغيرهم أنَّ معناه: يا رجلُ
(1)
؟ فإنْ صحَّ فظاهرٌ، وإلَّا فالحقُّ ما هو المذكور في سورة البقرة
(2)
.
وقرئ: (طَهْ)
(3)
، على أنَّه أمرٌ للرَّسول بأنْ يطأ الأرضَ بقدميه، فإنه كان يقوم في تهجُّده على إحدى رجليه
(4)
، وأنَّ أصله:(طَأْ) فقلبت همزته هاء.
وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل {طه} : طاها، والألف مبدلة عن
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(5/ 16 - 7) عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والحسن. ورجحه.
(2)
انظر ما تقدم في تفسير {الم} في مطلع سورة البقرة.
(3)
رويت عن نافع في غير المشهور عنه، ونسبت للحسن. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، و"معاني القراءات" للأزهري (2/ 141)، و"الكشاف"(3/ 49).
(4)
رواه عبد بن حميد كما في "الكاف الشاف"(ص: 108) عن الربيع بن أنس مرسلًا، ورواه البزار في "مسنده"(926) من حديث على رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف. انظر:"مجمع الزوائد"(7/ 56)، وفيه: رواه البزار وفيه يزيد بن بلال، قال البخاري: فيه نظر. وكيسان أبو عمر، وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح.
الهمزة، والهاء كنايةُ عن الأرض، ويَمنع هذا الوجهُ والتَّفسير بيا هذا
(1)
كتبتَهما
(2)
على صورة الحروف، إلَّا أن يقال: إنه اكتُفي بشطرَي الكلمتين، وعبِّرَ عنهما بالاسمين.
* * *
(2) - {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} .
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} إن جعلْتَ {طه} تعديدًا لأسماء الحروف
(3)
، فهو ابتداءُ كلام
(4)
.
وإن جعلتها اسمًا للسُّورة أو القرآن احتمل أن يكون خبرًا عنها وهي في موضع المبتدأ، {الْقُرْآنَ} ظاهرٌ أُوقع
(5)
موقع المضمَر تفخيمًا
(6)
، وأن يكون جوابًا لها وهي قسم، وإنْ جعلتَها نداءً، فهو منادى، وإن جعلتها جملةً فعليَّة أو اسميَّة بإضمار مبتدأ، أو طائفةً من الحروف محكيَّةً، فهو استئنافٌ.
{لِتَشْقَى} : لتَتعب بفرط تأسُّفك على كُفْرِ قومِكَ وتحسُّرك على أن يؤمنوا، وما عليك أنْ لا يؤمنوا إذا لم تفرِّط في أداء الرِّسالة. أو: بكثرة تهجُّدك وطول قيامك،
(1)
في (ف) و (ك): "بيان هذا"، وسقطت من (م)، والمثبت من (س) وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 49)، وفيه: إن (طاها) في لغة عكٍّ في معنى: يا رجل، ولعل عكًّا تصرفوا في (يا هذا) كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في (يا):(طا)، واختصروا (هذا) فاقتصروا على (ها).
(2)
في (م): "كتبهما".
(3)
في (م): "تعديد الأسماء بالحروف".
(4)
في (ف): "لكلام".
(5)
في (س): "ظاهرًا وقع". وفي باقي النسخ محتملة.
(6)
"تفخيمًا" زيادة من (م).
أي: ما بُعِثْتَ لِتُنْهِكَ نفسَكَ وتذيقها المشقَّةَ الفادحة
(1)
، فإنَّ لها حقًّا عليك، وإنَّما بُعِثْتَ بالحنيفيَّة السَّمحة السَّهلة.
والشَّقاءُ شائع في معنى التَّعب، ومنه أشقى من رائض المُهر
(2)
، وسيِّد القوم أشقاهم
(3)
.
وفيه إشعارٌ بأنَّ القرآن إنَّما أنزل إليك لتسعدَ
(4)
، وهو الوسيلة إلى نيل كلِّ فوزٍ وسعادةٍ، فلا تجعلها مُوجِبَ الشَّقاوة.
وقيل: ردٌّ وتكذيب للكفرة؛ فإنَّهم لَمَّا رأوا كثرة عبادته قالوا: إنَّك لَتَشْقَى لترك ديننا، وإن القرآن أُنْزِلَ عليك لتشقى به.
* * *
(3) - {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
{إِلَّا تَذْكِرَةً} نصب على الاستثناء المنقطع؛ أي: لكن ليكون تذكرةً، أو على الحال؛ أي: إلَّا مذكِّرين، أو على المفعول له؛ أي: إلَّا لتَذكر. وإنما جيء باللَّام في {لِتَشْقَى} لأنَّه ليس لفاعل الفعل المعلَّل، فانتفى شرط انتصابه، وانتصب هذه لوجود الشَّرط، لا على البدل من محلِّ {لِتَشْقَى}؛ لاختلاف الجنسين؛ إلَّا أن يُجعل التَّذكير نوعًا من الشَّقاء؛ أي: ما أنزلناه لتُفْرِط في
(1)
في (م) و (ف): "القادحة".
(2)
انظر: "جمهرة الأمثال"(1/ 281)، و"مجمع الأمثال"(1/ 148)، و"المستقصى"(1/ 35)، وفيها:"أتعب" بدل "أشقى".
(3)
انظر: "جمهرة الأمثال"(1/ 521)، و"مجمع الأمثال"(1/ 356).
(4)
في (ك): "أنزل إليك كسور"، وفي (م):"أنزل عليك لتسعد".
الرِّياضة والتَّهجد، أو تتعب بالتَّأسُّف والتَّحسُّر على إيمانهم، إنَّما أنزلناه لتحتمِلَ
(1)
مشاقَّ التَّبليغ، ومتاعبَ التَّذكير، ومقاولةَ العُتاة الجاحدين، ومقاتلةَ أعداء الدِّين، وسائرَ تكاليف النُّبوَّة.
{لِمَنْ يَخْشَى} : لمن يصير إلى الخشية، ويلينُ قلبُه ويرقُّ، ويعلمُ اللهُ أنَّه ينتفع به
(2)
.
(4) - {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} .
{تَنْزِيلًا} بدلٌ من {تَذْكِرَةً} إذا جُعِلَتْ حالًا، لا مفعولًا له لفظًا أو معنًى؛ إذ الشَّيء لا يُعلَّل بنفسه ولا بنوعه، أو نصبٌ
(3)
على المصدر بإضمار (نُزِّل)، أو بـ {أَنْزَلْنَا}
(4)
؛ لأنَّ معنى: ما أنزلناه إلَّا تذكرة: أنزلناه تذكرةً، أو على المدح والاختصاص، أو على أنَّه مفعول به لـ {يَخْشَى}؛ أي: تذكرةً لمن يخشى تنزيلًا من الله.
وقرئ بالرَّفع؛ أي: هو تنزيلٌ
(5)
.
{مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} صلة لـ {تَنْزِيلًا} ، أو صفة له، أي: تنزيلًا كائنًا من الله.
(1)
في (ف) و (ك): "لتحمل".
(2)
"به": ليست في (م).
(3)
في (م): "بنوعه ونصب"، وفي (ف):"أنه نصب"، والمثبت من (ك) و (س).
(4)
في (ف) و (ك) و (س): "بأنزلناه"، والمثبت من (م).
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 51)، و"تفسير القرطبي"(14/ 14)، وعزاها القرطبي لأبي حيوة الشامي.
{الْعُلَى} : جمع العُلْيا، تأنيث الأعلى.
فخَّم شأنَ المُنْزَل: أوَّلًا بإسناد الإنزال إلى الواحد المتعالي، ثمَّ بتنكير {تَنْزِيلًا} للتَّعظيم والإبهام والتَّوضيح، حيث لم يوصَفْ
(1)
، ثمَّ بالالتفات من التكَلُّم إلى الغيبة لاتِّعاظ السَّامع والتَّنبيهِ على عظم شأنه بتفنُّن الكلام، ثمَّ بإجراء الصِّفات العظام العجيبة على منزِّله، وإيراد الموصول ذريعة إلى ذلك، ثم بوصف السَّماوات بالعُلَى للدِّلالة على علوِّ قَدْر خالقها، ثمَّ بإجراء صفات العَظَمة والتَّمجيد، فأكَّد الفخامة بوجوهٍ كثيرةٍ وطرقٍ مختلفةٍ، ورتَّب صفاته ترتيبًا أنيقًا، فبدأ أوَّلًا بإيجاده لأصول العالم، وقَدَّم الأرض لأنها أقربُ إلى الحسِّ، وأظهرُ نفعًا واحتياجًا إليها.
ثمَّ أشار إلى وجهِ إحداث الكائنات وتدبير أمرها، بذكر استوائه على العرش، وإجراء الأحكام وإنزال الأسباب منه، على التَّرتيب الذي اقتضتْهُ حكمتُه، وتعلَّقَتْ به مشيئتُه، فقال:
(5) - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
{الرَّحْمَنُ} رفع على المدح؛ أي: هو الرَّحمن، أو بدل من فاعل {خَلَقَ} .
{عَلَى الْعَرْشِ} خبر مبتدأ محذوف، وعلى الأوَّل يجوز أن يكون خبرًا بعدَ خبر.
{اسْتَوَى} كنايةٌ عن الملك؛ لأنَّ العرشَ سريرُ الملِك، ومكانُ التَّمكُّن من ملكه، فأجريَتْ هذه العبارة مُجرى مَلَك، واستعمل
(2)
في موضعه، واشتَهَر
(1)
في (ف) و (ك) و (س): "يصف".
(2)
في (م): "واستعملته".
كالمترادفَيْن المتساوَييْن في إفادة المعنى المراد، مع تصوير العَظَمِة
(1)
الأبَّهة والسَّلطنة والتَّمكُّن في ملكه، وإنْ لم يقعدْ قطُّ على السَّرير.
* * *
(6) - {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} : ما تحتَ السَّبع الأرضين
(2)
، فإنَّ الثَّرى: الطَّبقةُ التُّرابيَّةُ من الأرض، وهي
(3)
آخر طبقاتها.
وهذه الجملة تجري مَجرى البيان من الأولى؛ لأنَّ مؤدَّى الأولى كونُه ملكًا مُطاعاً قادرًا، وقوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} إلخ تفصيلٌ لذلك وتقريرٌ له.
ولَمَّا
(4)
ذَكَر ما دلَّ على ملكه وكمال قدرته وإرادته عقَّبه بما دل على كمال علمه وإحاطته بخفايا الأمور وجلاياها على السَّواء؛ لتلازم تلك الصِّفات فيه، وابتناء الجميع على العلم، فقال:
* * *
(7) - {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} .
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} : ترفعْ صوتك به سواءٌ كان ذِكرًا أو دعاءً أو غيرهما، وحُذف جواب الشَّرط؛ أي: فاعلم أنَّه تعالى غنيٌّ عن جهرك، وأقيمَ تعليله مقامه وهو:
(1)
في (م): "إفادة المعنى مع تصور العظمة".
(2)
في (ك): "أرضين".
(3)
"هي" سقط من (م).
(4)
في (م) زيادة: "كان".
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ؛ أي: ما أسرَرْتَه إلى غيرك، وما هو أخفى منه؛ أي: ما أَخْطَرْتَه ببالك وأضمرتَه في نفسك.
أو السِّر: ما أضمرته في نفسك، وما هو أخفى منه: ما لم يخطر ببالك من الغيب المستأثَر.
هذا ما قالوا، والذي
(1)
عندي: أنَّ علمَه
(2)
السَرَّ وأخفى كناية عن استغنائه عن الجهر بالقول، فلا
(3)
حذف ولا إقامة، فهو تعليمٌ للعباد أنَّ الجهر لهضم النَّفس بالتَّضرُّع والجؤار، واستبعادِها عن مظانِّ القُرْبِ باستحقارها، لا لإعلام الله بذلك وإسماعه؛ أو نهيُ
(4)
تنزيهٍ عمَّا يُؤذِنُ بالرِّياء.
ثمَّ لَمَّا عدَّد الصِّفات الكمالية، ووصفَه بما لا يمكن أنْ يُوصَفَ به غيره من صفات الألوهيَّة والرُّبوبيَّة، أفصحَ عن التَّوحيد، وصرَّح بأنَّه المنفرد بها المتوحِّد بمقتضياتها فقال:
(8) - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ؛ أي: هو واحد بذاته وإنْ افترقَتْ عبارات صفاته، ردًّا لقولهم: إنك تدعو آلهة، حين سمعوا أسماءه تعالى.
و {الْحُسْنَى} : تأنيث الأحسن، وفضلها على سائر الأسماء في الحُسن لدلالتها على معانٍ هي أشرف المعاني وأفضلها.
* * *
(1)
"الذي" زيادة من (ك).
(2)
في (م): "علم".
(3)
في (م): "ولا".
(4)
في (ف): "أي نهي"، وفي (م):"ونهي".
(9) - {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} .
{وَهَلْ أَتَاكَ} استفهامُ تقرير يحثُّ على الإصغاء لِمَا يُلْقَى إليه.
{حَدِيثُ مُوسَى} قفَّى خطابه بقصَّة موسى عليه السلام؛ ليقتديَ به في تحمُّل أعباء النُّبوَّة، والصَّبرِ على مقاساة الشَّدائد في تبليغ الرِّسالة؛ فإنَّ هذه السُّورة من أوائل
(1)
ما نزل، وهذه التَّقفية مرجِّحة لكون التَّذكرة نصبًا على الاستثناء المتَّصل.
* * *
{إِذْ رَأَى نَارًا} {إِذْ} ظرفٌ للحديث أو لـ: اذكر، أو لمضمرٍ دلَّ عليه {فَقَالَ} ؛ أي
(2)
: حين رأى نارًا كان كيْتَ وكيْتَ.
{لِأَهْلِهِ امْكُثُوا}
(3)
: الْبَثوا مكانكم.
{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} : أبصرْتُ إبصارًا بيِّنًا لا شبهة فيه، ومنه الأُنْس لظهوره، وقيل: هو وجدان ما يؤنَسُ
(4)
.
(1)
في (م): "أول".
(2)
"فقال أي" سقطت من (ف)، و"فقال" سقطت من (ك). وعبارة "الكشاف" (3/ 53):(أو لمضمر؛ أي: حين رَأى نارًا كان كيت وكيت).
(3)
في (ف) و (ك): "فقال لأهله امكثوا".
(4)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فإذا تعلَّق بالمبصر يفيد معنى الإبصار، وإذا تعلق بالمسموع يفيد معنى السمع، وعلى هذا يدور كلام الجوهري: آنسته: أبصرته، وآنست الصَّوت: سمعته. منه".
ولَمَّا كانَ الإيناسُ محقَّقًا أتى بكلمة {إِنِّي}
(1)
، وحقَّقه لهم ليوطِّنوا أنفسهم عليه، بخلاف الإتيان بقبس ووجدانِ الهدى على النَّار؛ فإنَّ كلًّا منهما مترقَّب متوقَّع، فمَبْنَى الأمر فيهما على الرَّجاء والطَّمع، وجاء بـ (لعل) ولم يقطع لئلَّا يَعِدَ ما لا يَستيقِنُ الوفاءَ به.
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} القَبَسُ: النَّارُ المقتبَسَةُ في رأس عودٍ أو فتيلة أو نحوهما
(2)
.
وقيل: جمرة. ويردُّه قوله تعالى في موضع آخر: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7].
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّار} معنى الاستعلاء على النَّار: أنَّ أهلها مشرفون عليها عند الاصطلاء بها قيامًا وقعودًا، أو مستَعْلون
(3)
المكان القريب منها.
{هُدًى} ، أي: هدًى مّا؛ لأنَّه إذا وجد الهاديَ فقد وجد هدًى مّا إلى الطَّريق
(4)
، وإنما جاء بـ {أَوْ} لأنَّه بنَى الرَّجاء على أنَّه إن لم يظفر بحاجتيه جميعًا لم يَعدم واحدة منهما
(5)
.
* * *
(11) - {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى} .
{فَلَمَّا أَتَاهَا} : أتى النَّار، وجد نارًا بيضاء تتَّقد في شجرة خضراء.
(1)
في (م): "أن".
(2)
في (م) و (س): "ونحوهما".
(3)
في (ف) و (س) و (ك): "مستعملون"، والمثبت من (م).
(4)
في (م): "الهدى أي الطريق" بدل "هدًى ما إلى الطَّريق".
(5)
في (ك): "يظفر بحاجته
…
منها".
{نُودِيَ يَامُوسَى} : هو تكليم الله تعالى إيَّاه، و {نُودِيَ} بني للمحذوف، وحذف الفاعل للتَّعظيم.
* * *
(12) - {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} .
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} قرئ باْلفتح
(1)
؛ أي: نودي بأنِّي، ومَن كسر
(2)
أجرى النِّداء مجرى القول؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه.
وتكرير الضَّمير لتوكيدِ الدِّلالة، وتحقيقِ المعرفة، وإماطةِ الشبُّهة.
قيل: لَمَّا نُودِيَ: {يَامُوسَى} ، قال: مَن المتكلِّم؟ فقال اللهُ تعالى جلَّتْ عظمتُه: {أَنَا رَبُّكَ} ، فوسوس إليه الشَّيطان: لعلَّك تسمع كلام الشَّيطان، فقال: أنا عرفْتُ أنَّه كلام الله تعالى بأني
(3)
أسمعه من جميع الجهات، وأسمعه بجميع أعضائي
(4)
.
قوله: (أسمعه من جميع الجهات) يردُّه قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} ؛ فإنَّه صريح في سماعه النِّداء من جهةٍ وحدةٍ، لا مِن جميع الجهات.
(1)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 150).
(2)
في (م): "كسره".
(3)
في (ك): "بأن".
(4)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 24)، وقال الآلوسي في "روح المعاني" (16/ 254):(في صحة الخبر خفاء، ولم أر له سندا يعول عليه).
{فَاخْلَعْ} الخَلْعُ: نزعُ الملبوس، يُقالُ: خلعَ ثوبَه عن بدنه، ونعلَه عن رجله، وقد يُنزع المسمار عن
(1)
موضعه ولا يكون خلعًا؛ لأنَّه غيرُ ملبوسٍ.
{نَعْلَيْكَ} أُمر بخلعهما تعظيمًا لحضرة القُدْسِ؛ فإنَّ في
(2)
الحفوة تواضعًا لله تعالى وتأدُّبًا، ولهذا كان السَّلف يطوفون بالبيت حافين.
والتَّعليل بقوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} دالّ على أنَّ ذلك احترام للبقعة، وتعظيم لقدسها.
وتفريع الأمر بخلع النَّعلين على النداء المذكور وإن كان باعتبار أنَّ ما في الخلع من التَّواضع لله تعالى والتَّأدُّب مقتضى النِّداء؛ لكنَّه
(3)
لا يخلو عن الإشعار بأنَّ في بركة تلك البقعة مدخلًا لورود ذلك النِّداء العظيم الشَّأن فيها.
وقيل: لنجاستهما؛ فإنهما كانا من جلد حمارٍ ميِّت غير مدبوغ.
وقيل: لينال بركة الوادي المقدَّس وتمسَّ قدماه تربته
(4)
.
والوادي: سَفحُ الجبل، ويقال للمَجرى العظيم من مجاري الماء: وادٍ.
{الْمُقَدَّسِ} : المطهَّر.
{طُوًى} : علَم للوادي، فيكون بدلًا أو عطفَ بيان.
وقرئ منوَّنًا لوحظ فيه معنى المكان، وغيرَ منوَّنٍ لوحظ فيه معنى البقعة
(5)
.
(1)
في (ف): "من".
(2)
في (م): "من".
(3)
في (م): "لكونه".
(4)
في (ف): "تربه".
(5)
قرأ الكوفيون وابن عامر بالتَّنوين، وباقي السبعة بغير تنوين. انظر:"التيسير"(ص: 150).
وقيل: هو من الطَّي، نحو: ثِنًى
(1)
، وهو بمعنى مرَّتين؛ أي: قُدِّسَ مرَّتين
(2)
مرَّة بعد مرَّة، أو نودي ندائَيْن.
* * *
(13) - {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} : اصطفيْتُكَ للنُّبوَّة.
وقرئ: {إنَّا اخترناك}
(3)
: (إنَّا): إنَّ واسمها، و (اخترناك): جملة في موضع الخبر.
{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} اللَّام متعلِّقة بـ {فَاسْتَمِعْ} ، أو بـ {اخْتَرْتُكَ} ، و (ما) موصولة؛ أي: للذي يُوحَى إليك، أو مصدريَّة؛ أي: للوحي.
(14) - {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} .
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} بدل من (مَّا يُوحَى).
عظَّم أمرَ التوحيد
(4)
وفخَّم شأنه، بالإبهام في قوله:{لِمَا يُوحَى} ، والتَّوضيح بقوله:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} ، وبالإبدال الدَّالِّ على أنَّ الوحيَ مقصورٌ على تقرير التَّوحيد، الذي هو نهاية العلم المستلزمِ لتخصيص العبادة بالله، الذي هو
(1)
قوله: "نحو ثنى"؛ أي: لفظًا ومعنى، فهو بكسر الطاء والتنوين مصدر كثِنًى. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 194)، و"روح المعاني"(16/ 258).
(2)
"مرتين": ليست في (م).
(3)
قرأ بها حمزة من السبعة. انظر: "التيسير"(ص: 151).
(4)
في (ف) و (ك): "الوحي".
كمال العمل
(1)
. وبالتَّأكيد
(2)
بـ (إنَّ)، وتوسيطِ الضَّمير، وتكرير معناه بالتَّهليل، والإتيان بفاء السَّببية.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} عَطْفُ الأمر بإقامة الصلاة على الأمر بالعبادة، وتخصيصُها بالذِّكْرِ مِن بينِ سائر العبادات، تنبيهٌ على فضلِها وشرفها وإنافتها على الجميع، كعطف جبريل وميكال
(3)
على الملائكة، ولذلك علَّل إفرادها بالذِّكر بقوله:
{لِذِكْرِي} فإنَّها توجب شغل القلب واللِّسان بذكر الله تعالى، فمعنى {لِذِكْرِي}: لتذكرني
(4)
.
وقيل: لأني ذكرْتُها في الكتب، وأمرْتُ بها.
أو: لأذكرك بالمدح والثَّناء، وأجعلَ لك لسانَ صدقٍ.
أو: لذكري خاصَّة، غير مَشُوبٍ بذكرِ غيري، أو رياءٍ، أو عِوَضٍ
(5)
، أو غَرَضٍ آخر. وهو الإخلاص.
أو: لتكون لي ذاكرًا غيرَ ناسٍ.
أو: لأوقات ذكري، وهو مواقيت الصَّلاة.
أو: لذكر صلاتي؛ لِمَا روي أنه عليه السلام قال: "مَن نام عن صلاةٍ أو نسيها
(1)
في (ف): "العلم".
(2)
في (ف): "وبالتوكيد".
(3)
وفي (ك) و (س): "وميكائيل" وسقطت من (م).
(4)
في (ك): "كي تذكرني"، وفي (س):"لتذكري"، وفي (ف):"كتذكرني".
(5)
"أو عوض" سقط من (ف).
فليقضِها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "
(1)
، على حذف المضاف
(2)
، أو على أنَّ ذكرَ الصَّلاة ذكرُ الله تعالى
(3)
، أو لأنَّ الذِّكْرَ والنِّسيانَ مِنَ الله تعالى في الحقيقة.
* * *
(15) - {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} .
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} يعني: إنَّ القيامة كائنة
(4)
لا محالة.
{أَكَادُ أُخْفِيهَا} قُرْبُه تعالى من إخفائها مجازٌ عمَّا اقتضته الحكمة من الإخبار بوقوعها للإنذار وقطعِ الأعذار، مع كتمان وقتها ليكونوا على وَجَلٍ في
(5)
كلِّ وقتٍ، فإنَّه إظهار فيه نوع من الإخفاء.
ويجوز أن يكون من أخفاه: إذا أزال خَفَاه؛ أي: أكاد أُظهرها، وقُرْبُه تعالى من إظهارها مجاز عن إظهار بعض أشراطها، كبعثة خاتم الأنبياء عليهم السلام، وانشقاقِ القمر، ويؤيده قراءة أبي الدَّرداء رضي الله عنه:(أَخفيها) بالفتح
(6)
، مِن خفاه: إذا أظهره.
(1)
روى نحوه البخاري (597)، ومسلم (684)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
في (م): "مضاف".
(3)
في هامش (ف): "فيه رد لصاحب الكشاف حيث غفل عن تمام الحديث فلم يدر ما وجه أخذ التفسير المذكور فتمحل فيه. منه".
(4)
في (ف) و (ك): "آتية".
(5)
في (ف): "من".
(6)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، و"الكشاف"(3/ 56).
قيل: إنَّه من الأضداد، والحقُّ ما روي عن أبي عليٍّ: أنَّه من باب السَّلب
(1)
.
{لِتُجْزَى} متعلقة بـ {آتِيَةٌ} ، وما بينهما اعتراض، أو بـ {أُخْفِيهَا} على المعنى الأخير.
{كُلُّ نَفْسٍ} يعني: من النُّفوس السَّاعية، بقرينةِ قوله:
{بِمَا تَسْعَى} السَّعيُ كنايةٌ عن الكسب.
* * *
(16) - {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} .
{فَلَا يَصُدَّنَّكَ} الصَّدُّ: الصَّرفُ عن الخير خاصَّة.
{عَنْهَا} عن التَّصديق بالسَّاعةِ، أو عن الصَّلاةِ.
{مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} والمرادُ من نهي الكافر عن صدِّ موسى عليه السلام: نهيُه عن الانصداد عنها بصدِّه، وهذا كقولك: لا أَرَينَّك هنا، في النَّهي عن السَّبب للنَّهي عن المسبَّب مبالغةً
(2)
.
وفيه تنبيهٌ على أنَّه عليه السلام لو خُلِّيَ وفطرتَه السَّليمةَ لكان مصدِّقًا بها غيرَ مُعرضٍ عنها.
(1)
انظر: "المحتسب"(2/ 47)، و"تفسير القرطبي"(14/ 37)، وفيه عن أبي علي:(هذا مِن بابِ السَّلْب وليس مِن باب الأضدادِ، ومعنى أخفيها: أُزيل عنها خَفاءَها، وهو سترها كخِفاء الأخفية - وهي الأكسية - والواحد: خِفاء - بكسر الخاء -: ما تلف به القِربةُ، وإذا زال عنها سترُها ظَهرَتْ). وجاء هنا في هامش (س): "رد للكواشي".
(2)
في هامش (ف) و (س): "خلط القاضي بين الوجهين. منه".
وبعثُه
(1)
عليه السلام على الصَّلابة في الدِّين وشدَّة الشَّكيمة فيه، وتهييجُه عليها، فإنَّ صدَّ الكافر إيَّاه مسبَّب عن ضعف عقيدته ولين شكيمته، فنَهى عن المسبَّب للنَّهي عن السَّبب؛ أي: ينبغي لك أن تكون صلبًا في الدِّين، راسخًا في الاعتقاد.
ونبَّه بقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} على أنَّ سلوكَ طريق العقل واتِّباع الحجَّة يوجب التَّصديق بالبعث والساعة، فإنكارها والتكذيبُ بها إنَّما يكون لغلبة الهوى واتِّباعه.
والهوى: ميلُ النَّفس إلى الشَّيء بأريحيَّة
(2)
تلحق فيه، وهواءُ الجوِّ ممدود، وهوى النَّفس مقصور.
{فَتَرْدَى} : جواب النَّهي، و (أنْ) مقدَّرةٌ بعد فاء الجواب، و (تَرْدى) علامةُ النَصب فيه فتحة مقدَّرة في الألف، معناه: فتهلك.
* * *
(17) - {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} .
{وَمَا تِلْكَ} استفهامٌ ضُمِّنَ معنى الاستيقاظ لِمَا يُريهِ فيها من الآيات العجيبة الدَّالة على القدرة الباهرة.
قيل: الحكمة في هذا السُّؤال بسطُه، فقد كانت الهيبة قبضتْهُ، ولو تُرِكَ على ما كان عليه لعله كان لا يبقى بل يتلاشى.
(1)
في (س)(ك) و (م): "أو بعثه".
(2)
بياض في (ف)، وسقط من (ك)، وفي (م):"بأن يحية"، والمثبت من (س).
ولَمَّا باسط الحقَّ بسماع
(1)
كلامه، أخذته أريحيَّة سماع الخطاب، فأجاب عمَّا سُئِلَ، وسلك مسلكَ الإطناب.
{بِيَمِينِكَ} حال من {تِلْكَ} ، والعامل فيها معنى الإشارة، كما في قوله:{وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، وجاز أن يكون {تِلْكَ} اسمًا موصولًا صلتُه {بِيَمِينِكَ} .
قيل: إنما لم يقل: (بيدك) لأنَّه كان في يساره خاتم، فلو أجمل بقي في الجواب الاشتباه
(2)
.
{يَامُوسَى} تكرير لزيادة التَّنبيه والاستئناس.
* * *
{قَالَ هِيَ عَصَايَ} قرئ: (عَصَيَّ)
(3)
، على لغة هذيل.
{أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} : أعتمد عليها إذا أَعييتُ
(4)
أو وقفت على رأس القطيع.
والتَّوكُّؤ على الشَّيء: التَّحامل عليه في المشي والعكوف، ومنه: الاتِّكاء، توكَّأت واتَّكأت بمعنًى واحد.
(1)
في (س): "سماع".
(2)
في (س): "بيمين في الجواب للاشتباه"، وفي (م):"تعنَّى في الجواب للاشتباه". وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني (2/ 714)، وفيه:(لم يقل: بيدك، لاحتمال أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر، فكان يلتبس عليه الجواب). فقول المؤلف: "لأنَّه كان في يمينه خاتم" على الجزم بلا دليل من نقل، فيه نظر، فإن الاحتمال - كما في كلام الكرماني - هو الأنسب هنا.
(3)
نسبت لابن أبي إسحاق. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87).
(4)
في (ف) و (ك): "إذا عييت".
{وَأَهُشُّ بِهَا} : أَخبط الورق، وقرئ:(أُهِشُّ)
(1)
، وكلاهما مِن هشَّ الخبزُ يَهِشُّ: إذا كان ينكسر لهشاشته.
{عَلَى غَنَمِي} ليأكلَه.
وعن عكرمة: (أَهُسُّ) بالسِّين
(2)
من الهسِّ، وهو زجر الغنم؛ أي: أنحي عليها زاجرًا لها.
قدَّم في الجواب مصلحة نفسه، ثمَّ ثنَّى بمصلحة ماشيته.
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} المآربُ: الحاجاتُ، عاملَها وإنْ كانت جمعًا معاملةَ الواحدة المؤنَّثة، فأتبعها صفتها في قوله:
{أُخْرَى} ولم يقل: (أُخَرُ)؛ رعيًا للفواصل، وهو جائز في غيرها، فكان فيها أجوزَ
(3)
وأحسنَ.
قيل: فَهِم موسى عليه السلام مِن سؤالِ ربِّ العزَّة أنَّه سيُحْدِثُ في العصا أمرًا عظيمًا، فذكرَ ماهيتها، وفصَّلَ بعضَ منافعها وخواصِّها، فلمَّا استطال الكلام استشعر سوء
(4)
الأدب فأَجْمَلَ.
وقيل: إنَّما أجمل ليسأله عن تلك المآرب، فيكونَ زيادةً في إكرامه.
(1)
أي: بضم الهمزة وكسر الهاء. نسبت للنخعي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، و"الكشاف"(3/ 57)، و"البحر المحيط"(15/ 35).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، و"الكشاف"(3/ 57).
(3)
في (م): "أوجز".
(4)
في (ك) و (ف): "لسوء".
والغرضُ مِنْ ذِكْرِ ماهيتها ومنافعها: أنَّها ليسَتْ إلَّا عصًى تنفع
(1)
، منافعها كسائر العيدان؛ ليكون جوابه مطابقًا لِمَا فهمه من فحوى كلام ربِّه، حتى إذا وجدها على خلاف حقيقتها وخواصِّها ممَّا ذُكِرَ من الأمور الخارقة للعادة، ظهرَ أنَّها معجزات باهرة، وآيات ظاهرة، خصَّه الله تعالى بها وأكرمه.
* * *
(19) - {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى} .
{قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى} إنَّما أمره بإلقائها لأنَّه أضافها إلى نفسه بقوله: {عَصَايَ} ، فأراد أن يقطعها عنه، ويريَه الخارق بعد إخراجه من سلطانه وتدبيره؛ ليعلم أنَّه بمَحْضِ صنعِ اللهِ، لا دَخْلَ فيه لفعلِ العبدِ.
* * *
(20) - {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} .
{فَأَلْقَاهَا} أي: طرحها
(2)
على الأرض، وقد مَرَّ في سورة الأعراف بيان أصل الإلقاء.
{فَإِذَا هِيَ} ؛ أي: صارت في الحال.
{حَيَّةٌ تَسْعَى} الحيَّةُ: اسم جنس
(3)
يقع على الصَّغير والكبير والذَّكر والأنثى.
والسَّعيُ: المشيُ بسرعةٍ وخفَّةِ حركةٍ.
(1)
في (ك): "منتفع"، وفي (ف):"ينتفع". وفي "الكشاف"(3/ 57): لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان.
(2)
في (س): "اطرحها".
(3)
في (ك) و (م) و (س): "الجنس".
قيل: لَمَّا ألقاها انقلبَتْ حيَّة صفراء بغلظ العصا، ثمَّ تورَّمت وعظمَتْ، فلذلك سمَّاها جانًّا تارةً نظرًا
(1)
إلى المبدأ، وثعبانًا مرَّة باعتبار المنتهى، وحيَّة أخرى بالاسم الذي يعمُّ الحالَيْن.
وكأنَّ هذا القائل غافل عن عبارة {كَأَنَّهَا} في قوله تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ؛ لأنها صريحة في التَّشبيه وعدم كونها جانًّا حقيقة.
* * *
(21) - {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} .
{قَالَ خُذْهَا} : تناوَلْها بيدك {وَلَا تَخَفْ} الخوفُ: انزعاج النَّفس بتوقُّع الضَّرر.
لَمَّا رأى موسى عليه السلام ذلك الأمرَ العجيب
(2)
الهائل مَلَكه من الفزع والنّفار ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف، فهرب منها كما أخبر عنه تعالى بقوله:{وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]، فأمره الله تعالى بالإقدام على أخذها، ونهاه عن أن يخاف منها.
وقيل
(3)
: لَمَّا قال له ربُّه: {وَلَا تَخَفْ} بلغ من الأمن وطمأنينة النَّفس إلى
(4)
أن أدخل يده في فمها وأخذ بلَحْيها
(5)
، كأنَّه ضمَّن صيغةَ التَكليف صيغةَ
(6)
التَّكوين،
(1)
في (ف): "نظر".
(2)
في (ف): "العجب".
(3)
"قيل": ليست في (م).
(4)
"إلى" سقطت من (ك) و (م) و (س).
(5)
في (ك): "بلحييها".
(6)
في (س): "صنع".
وقد حقَّقناه في تفسير
(1)
سورة البقرة أنَّ النَّهي كالأمر يتنوَّع إلى التَكليفي والتَّكويني.
وحكمة انقلابها وقتَ مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقَه ذعر منها في ذلك الوقت.
{سَنُعِيدُهَا} الإعادة: ردُّ الشَّيء ثانيًا إلى ما كان
(2)
أوَّل مرَّة.
{سِيرَتَهَا الْأُولَى} : هَيْأتها وحالَتها المتقدِّمة.
والسِّيرة: فِعْلَةٌ من السَّيْرِ، كالرِّكْبَةِ من الرُّكوب، يقال: سارَ فلانٌ سِيرةً حسنةً، ثمَّ اتُّسِعَ فيها، فنقلَتْ إلى معنى المذهب والطَّريقة، وقيل: سِيَرُ الأوَّلين.
فيجوزُ أنْ ينتصبَ على الظَّرف؛ أي: في طريقتها الأولى حال ما كانت عصا، أو على نزع الخافض، أو على المفعول به إن جعل أعاد منقولًا
(3)
من عاده بمعنى: عاد إليه، فيتعدَّى إلى مفعولَيْن، أو بتضمين فعلها، أي: سنعيدها سائرةً سيرتَها الأولى
(4)
عصًا يُنتفع بها كما كانت أوَّلًا، أو على أنَّه بدل اشتمال من الضَّمير المنصوب في {سَنُعِيدُهَا} ، أي: سنعيد سيرتها الأولى.
* * *
(22) - {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} .
(1)
"تفسير": ليست في (م).
(2)
في (م): "ثانيا إلى مكانه".
(3)
في هامش (ف) و (س): "فيه رد لمن توهم أن هاهنا تقديرًا. منه".
في (م): "مشغولا".
(4)
أي: تسير سيرتها الأولى، فالنصب على أنها مفعول مطلق. انظر:"روح المعاني"(16/ 278).
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} يعني: بعد إدخالها في الجيب، على ما أفصح عنه في موضعٍ آخر
(1)
.
يُقال لكلِّ ناحيتين: جناحان، كجناحَي العسكر لمُجَنِّبتَيه
(2)
، وجناحا الإنسان: جنباه
(3)
، استعيرا
(4)
من جناحَي الطَّائر.
وسُمِّيا جناحَيْن لأنَّه يُجنحهما عند الطَّيران؛ أي: يُميلهما. والجَنْبُ فيه جنوحُ الأضلاع.
قيل: والمراد: إلى
(5)
جنبك تحت العَضُد، دل على ذلك قوله:{تَخْرُجْ} .
ويردُّه قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ} [النمل: 12] لأنَّه صريح في أنَّ المراد الدُّخول في الجيب والخروج منه.
{بَيْضَاءَ} : مشرقةً مشعَّةً.
قيل: كان موسى آدَمَ، فأخرجَ يده بيضاء لها شعاعٌ كشعاع الشَّمس يُغْشِي
(6)
البصر.
{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : متعلِّق بـ {بَيْضَاءَ} ، كأنَّه قال: ابيضَّتْ مِن غيرِ سوء، والسُّوءُ: الرِّداءةُ والقُبح في كلِّ شيءٍ؛ أيْ من غير أن يُستَقبح.
(1)
في هامش (ف) و (س): "حيث قال: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}. منه".
(2)
في (م): "لجنبتيه"، وفي (ف) و (ك) و (س):"لجنبيه"، والمثبت من "الكشاف"(3/ 59).
(3)
في (ف) و (ك): "جانباه".
(4)
في (م) و (ك): "استعير".
(5)
في (م): "أي".
(6)
في (ك) و (س): "يعشي"، وفي (م):"تغشي".
لَمَّا كان خروج الشَّيء عن خِلْقَته وشأن جوهره ممَّا يستقبح ويُستقذر أَخبرَ أنَّه لم يكن كذلك، وأمَّا الكناية به عن البرص فيأباها المقام؛ لأنَّه غير محتمَلٍ في مقام الإعجاز والكرامة، فلا وجهَ للاحتراز عنه.
{آيَةً أُخْرَى} : معجزةً ثانيةً.
وقوله: {بَيْضَاءَ} و {آيَةً} حالان معًا من ضمير {تَخْرُجْ} ، ويجوز أن يكون الثَّاني حالًا من ضمير الأوَّل، فيكونان من الأحوال المتداخلة، أو مفعولًا نصب بمضمَرٍ نحو:(خُذْ) حُذِفَ لِدَلالةِ الكلام عليه
(1)
.
* * *
(23) - {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} .
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} . متعلِّق بالمحذوف المذكور، أو بما دلَّ عليه الآية أو القصَّة؟ أي: دلَلْنا بها - أو: فعلنا ذلك - لنريك.
و {الْكُبْرَى} : صفة لـ {آيَاتِنَا} ، أو مفعول ثانٍ لـ (نريك)، و {مِنْ آيَاتِنَا} حال؛ أي: لنريك الكبرى من آياتنا.
* * *
(24) - {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} .
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} : أمرٌ بالذَّهاب بهاتَيْن الآيتَيْن إلى فرعون ودعوته.
(1)
في هامش (ف) و (س): "وأما دون فلا يسوغ لأنَّه اسم فعل من باب الإغراء، ولا يجوز حذفه؛ لأنَّه حذف منه في الأصل العامل فيه، وناب منابه، فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه. منه". قلت: وفيه رد على الزمخشري القائل: (بإضمار نحو: خذ، ودونك، وما أشبه ذلك، حذف لدلالة الكلام). انظر: "الكشاف"(3/ 59).
{إِنَّهُ طَغَى} جاوزَ حَدَّ العبودية إلى دعوة الربوبيَّة، تعليلٌ لوجوب الذَّهاب إليه، وتحذيرٌ له من بطشه، وتنبيهٌ على صعوبة ما ابتُلِيَ به، ليتلقاه بجميل الصَّبر وحسن الثَّبات، ولهذا التجأ إليه في طلب التَّيسير والتَّأييد وتفسيح الصَّدر والتَّشجيع:
(25 - 26) - {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} .
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} على الإبهام بإيراد {لِي} بعد الفعْلَيْنِ، والتَّوضيح بذكر الصَّدر والأمر، للتَّأكيد والمبالغة في طلب الشَّرح والتَّيسير.
* * *
(27) - {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} .
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} كان في لسانه رُتَّةٌ
(1)
؛ لِمَا رويَ: أنَّ فرعونَ حمله يومًا، فأخذ بلحيته - وكانت مرصَّعة بالجواهر - ونتفها جاذبًا ببعض
(2)
ما فيها من اليواقيت، فغضبَ وأمر بقتله، فقالت آسية رضي الله عنها: إنَّه صبي لا يفرِّق بين الجمر والياقوت، فأُحْضِرا بين يديه، فأخذ الجمرة ووضعها في فيه، فاحترق لسانه، فصار لكنته منها
(3)
(4)
.
(1)
رجل أرَتُ: في لسانه رُتَةٌ، وهي عجلة في الكلام، وعن المبرِّد: هي كالرَّتْجِ تمنع الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل، وهي غريزة تكثر في الأشراف. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"(باب الراء مع التاء الفوقانية)(ص: 182).
(2)
في (ف): "لبعض".
(3)
بنحوه رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 54) عن السدي.
ورواه بمعناه النَّسَائِيّ في "السنن الكبرى"(11263)، وأبو يعلى في "مسنده"(2618) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
في هامش (ف): "وهذا أولى مما ذكره القاضي من كون تبييض يده لذلك. منه".
ولعلَّ لذلك امتاز موسى عليه السلام باللِّحية من بين أهل الجنَّة، على ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه، وهو أنَّه عليه السلام قال:"أهل الجنة مُرْدٌ إلَّا موسى بن عمران، فإنَّ له لحيةً إلى سرَّته"
(1)
.
ولَمَّا كانت تلك العقدة عارضةً لآفَة حادثةٍ كان المناسب لحالها التَّنكيرَ حيث لم تكن من جنس ما هو المعهود، وكأن قطع إضافتها عن (اللِّسان) المنبئةِ عن الاتِّصال الخَلْقي أيضًا كان لذلك.
وقيل: إنَّما نُكِّرَتْ لأنَّه لم يطلب الفصاحة الكاملة، وإنَّما طلب حلَّ بعضها إرادةَ أنْ يُفهَمَ عنه فهمًا جيِّدًا؛ لأنَّ أمرَ التَّبليغ لا يتيَّسر إلَّا بذلك، ولهذا علَّل بقوله:
(28) - {يَفْقَهُوا قَوْلِي} .
{يَفْقَهُوا قَوْلِي} فإنَّ
(2)
التَّبليغ إنَّما يَحسن من البليغ
(3)
.
و {مِنْ لِسَانِي} صفة للعقدة، كأنَّه قيل: عقدةً من عُقد لساني، أو صلةٌ لـ (احلل).
واختلف في زوال العقدة بكمالها؛ فقيل: بقي بعضها؛ لقوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34]، وقيل: زالت؛ لقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [طه: 36].
وفي كلٍّ من الاحتجاجَيْنِ نظر:
أمَّا في الأوَّل: فلأنَّ شهادة قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} عليه لا له؛ لأنَّ فيه دلالة على أن موسى عليه السلام كان فصيحًا، غايته أن فصاحة أخيه كانت
(4)
أكثر،
(1)
رواه العقيلي في "الضعفاء"(721)، وابن عدي في "الكامل"(4/ 48)، وضعفاه.
(2)
في (ف) و (ك): "فإن أمر".
(3)
في (م): "التبليغ".
(4)
"كانت" من (م) و (س).
وبقيَّة اللُّكنة تنافي الفصاحة اللُّغويَّة المرادة هاهنا، بدلالة قوله:{لِسَانًا} .
وأمَّا في الثَّاني: فلِمَا مَرَّ أنَّه لم يطلب حلَّ عقدة لسانه مطلقًا، بل طلب حلَّ عقدةٍ تمنع الإفهام، فلا دلالة فيه
(1)
في حصول مَسْؤولِه على زوال العقدة بكمالها، نعم قوله:{وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] يدلُّ على الأوَّل، فتأمَّل
(2)
.
* * *
(29 - 30) - {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي} .
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} : ظهيرًا أعتمد عليه، مِن الوِزْرِ وهو
(3)
: الثِّقل؛ لأنَّه يتحمَّل عن الملِك أوزاره ومؤنه، أو من الوَزَرِ: الملجأ؛ لأنَّ الملك يعتصِم برأيه ويلجأ إليه أموره.
أو: مُعينًا، من المؤازرة وهي المعاونة.
فـ {وَزِيرًا} مفعولٌ أوَّل لـ (اجعل)، والثَّاني:{مِنْ أَهْلِي}
(4)
، أو {لِي وَزِيرًا} مفعولاه، وقوله:{هَارُونَ} بدل من {وَزِيرًا} ، لا عطفُ بيان؛ لأنَّه لا يخالف متبوعه في التَّعريف والتَّنكير
(5)
.
(1)
"فيه" من (م).
(2)
"فتأمل" من (م) و (س).
(3)
"وهو" من (م).
(4)
واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما، ولو ابتدأت بـ {وَزِيرًا} وأخبرت عنه بـ {مِنْ أَهْلِي} لم يصح؛ إذ لا مسوغ للابتداء به. وأجيب عن هذا الاعتراض بما استبعده الآلوسي، فانظره في "روح المعاني"(16/ 290).
(5)
في هامش (س) و (ف) و (م): "نصَّ عليه في مغني اللبيب، وقال: وأما قول الزمخشري: إن {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} عطف على {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فسهو. منه".
وقوله: {أَخِي} عطف بيان، لا بدل
(1)
؛ لأنَّ إبدال الشَّيء من
(2)
أقلَّ منه فاسد لا يُتصوَّر، نصَّ عليه الشَّيخ في "دلائل الإعجاز"
(3)
.
أو {وَزِيرًا} و {هَارُونَ} مفعولاه، وقدِّم ثانيهما على أولهما عنايةً بأمر الوزارة.
* * *
(31) - {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} .
{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} : قوِّ به ظهري.
والشَّدُّ: جمع يَستَمْسِك
(4)
به المجموع، ومثله: الرَّبط والعَقْد.
والأَزْرُ: الظَّهر، يُقال: آزرني فلان على أمري؛ أي: كان لي ظهرًا، ومنه: المِئْزَرُ؛ لأنَّه يُشَدُّ على الظَّهر، وكذا الإزارُ.
* * *
(32) - {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} .
{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} الإشراك: الجمع بين الشَّيئين أو أكثر في معنًى على أنَّه لهم بجَعْلِ جاعلٍ. وقد أشرك الله تعالى بين موسى وهارون عليهما السلام في النُّبوَّة، وقوَّى به أزره كما دعا.
(1)
في (م) زيادة: "كما ذكره". والذي ذكره هو الزمخشري والبيضاوي، لكن الزمخشري أتبعه بقوله: وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن.
(2)
في (م): "في".
(3)
انظر: "دلائل الإعجاز" للجرجاني (ص: 147).
(4)
في (م): "يتمسك".
وقُرِئا على لفظ الخبر جوابًا للأمر
(1)
، ولمن قرأ بهما على لفظ الأمر للدعاء أن يقف على {هَارُونَ} ، ويجعل {أَخِي} مرفوعًا على الابتداء والجملة خبر.
* * *
(33 - 34) - {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} .
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} فإنَّ التَّعاون يهيِّج الرَّغبات، ويؤدِّي إلى تكاثر الخير وتزايده، قدَّم التَّسبيح وهو تنزيه الله تعالى عمَّا لا يجوز وصفه به، على الذِّكْرِ وهو ثناؤه تعالى بما يليق به؛ لأنَّ التَّخلية قبل التَّحلية.
* * *
(35) - {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} .
{إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} : عالمًا بأحوالنا؛ وأنَّ
(2)
التَّعاون ممَّا يصلحنا، وأنَّ هارون نِعْمَ العونُ لي فيما أمرتني به، والشَّادُّ لعضدي بأنَّه أكبر منِّي سنًّا وأفصح لسانًا.
* * *
(36) - {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} .
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} السُّؤلُ: المطلوبُ، فُعْلٌ بمعنى المفعول، كالخُبْزِ والأكْلِ؛ أي: أُعْطِيْتَ ما سألتَه، وذلك من المِنَّةِ عليه.
ثمَّ ذكَّرَهَ بتقديم مِنَنِهِ
(3)
عليه؛ ليعظُم اجتهاده وتَقْوَى بصيرته، بقوله:
(1)
وهي قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 151).
(2)
في (ف): "بأحوالنا لأنَّ".
(3)
في (ف) و (ك): "ثمَّ ذكر تقديم منِّه"، وفي (س):"ثم ذكره تقديم منِّه".
(37) - {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} .
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} المِنَّة: نعمة تُقْطَعُ لصاحبها عن غيره باختصاصها به، يقال: منَّ عليه: إذا أنعم عليه
(1)
نعمةً يُقْطعه إيَّاها، وأصله: القطع، ومنه قوله تعالى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8].
والمرَّةُ: الكَرَّة الواحدة، من المَرِّ.
و {أُخْرَى} : تأنيثُ آخر، بمعنى غير؛ أي: مِنَّةً غيرَ هذه المِنَّة.
* * *
(38) - {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} .
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} قال الجمهور: هو وحيُ إلهامٍ، وقيل: وحي إعلامٍ؛ إمَّا ببعثِ مَلَكٍ إليها لا على وجه النُّبوَّة، كما بحث إلى مريم، أو بإراءة ذلك في المنام، أو على لسان نبيٍّ في وقتها، كقوله:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111].
{مَا يُوحَى} : ما لا سبيل إلى العلم به إلَّا بالوحي، أو: ما ينبغي أن يُوْحَى لا محالة ولا يُخَلَّ به؛ لعظم شأنه وفرط الاعتناء به.
* * *
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} : بأنِ اقذفيه، أو: أيِ اقذفيه؛ لأنَّ الوحي بمعنى القول.
(1)
"عليه" زيادة من (م).
والقَذْفُ: هو الرمي البعيد المستلزِم لصلابة المَرْميِّ، واستُعير هنا لمعنى الإلقاء.
{فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} اليمُّ: اسمٌ للبحر العَذْب، والمرادُ منه هاهنا
(1)
: النِّيلُ.
{فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} ساحلُ البحرِ: شاطئه، سُمِّيَ بذلك لأنَّ الماءَ يَسْحَلُهُ؛ أي: يَقشره، فهو فاعل بمعنى: ذو كذا، ولَمَّا وجب وقوع ما تعلَّقَتْ به إرادته تعالى، وهو إلقاء البحر إيَّاه بالسَّاحل، ذكر بلفظ الأمر تشبيهًا للبحر بالمأمور المميِّز المطيع الممتثِل لِمَا وردَ عليه من أمرِ
(2)
آمرٍ مُطاعٍ، على طريق
(3)
الاستعارة بالكناية.
وأخرج
(4)
الجواب بقوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} مخرجَ جوابُ الأمر مجزومًا.
وكرّر {وَعَدُوٌّ} للمبالغة، أو لأنَّ الأوَّل باعتبار الواقع، والثَّاني باعتبار المتوقَّع، والأحسن نظمًا أن ترجع الضمائر كلُّها إلى موسى عليه السلام
(5)
، لا لِمَا قيل: إنَّ في رجوع البعض إلى التَّابوت تنافرُ النَّظم الذي ينافي الإعجاز؛ لأنَّه ممنوع، كيف ولو كان فيه ما يخلُّ بحسن النَّظم لَمَا وقع في قوله تعالى:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]؟! ثمَّ إنَّ موجَبَ ذلك عدمُ الحُسْنِ - بل عدمُ الصِّحةِ -
(1)
في (م) و (س): "هنا".
(2)
"أمر" سقط من (ف) و (ك).
(3)
في (م): "طريقة".
(4)
في (ف): "وإخراج".
(5)
في هامش (ف) و (س): "فإن الأول والثاني والرابع من الضمائر المذكورة راجع إلى الإيصاء الواقع، والثالث منهما راجع إلى التبديل أو إلى الإيصاء المبدل باعتبار وضعه. منه".
لا عدمُ الأحسنيَّة
(1)
= بل لأنَّ المُحَدَّث عنه موسى عليه السلام، لا التَّابوت، وإنَّما ذُكِرَ التَّابوتُ على سبيل الوعاء
(2)
والفضلة، فالمُلْقَى والمَأْخُوذ هو موسى عليه السلام في التَّابوت، فلا حاجة إلى نشر الضَّمائر.
والظَّاهر: أنَّ البحر ألقاه بالسَّاحل فالتقطه منه آل فرعون، روي أنَّه فُتِحَ التَّابوت فإذا صبيٌّ أصبحُ النَّاس وجهًا، فأحبَّه عدوُّ الله حبًّا شديدًا، كما قال:
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} {مِنِّي} صفة لـ {مَحَبَّةً} ؛ أي: محبَّةً كائنةً منِّي قد زرعتُها في القلوب، فلذلك
(3)
أحبَّك فرعون. أو متعلق بـ {وَأَلْقَيْتُ} أي: أحببتُكَ ومَن أحبَّه اللّهُ أحبَّته القلوب، وعلى هذا يراد المعنى المذكور أوَّلًا بطريق الكناية، أو بطريق الإشارة.
وتنكير {مَحَبَّةً} للتَّعظيم أو الإبهام والتعيين.
{وَلِتُصْنَعَ} عطف على علَّةٍ مقدَّرة، مثل: ليُتعطَّفَ عليك، ونحوِه، أو علَّةٌ لمحذوف معطوفٍ على الجملة السابقة، أي: ولتُصنع فعلْتُ ذلك.
قال الخليل: يُقال: صنعْتُ الفرسَ، وهو فرسٌ صَنِيْعٌ، وهو الذي أَحسن أهلُه القيام عليه
(4)
، وسيفٌ صَنِيْعٌ: الذي قد أُحْسِنَ صَقْلُهُ.
{عَلَى عَيْنِي} : بمرأًى منِّي؛ أي: لِتُرَبَّى كما أريد، ومجازُه: أنَّ مَن صنعَ للإنسان شيئًا وهو ينظر إليه
(5)
صَنَعَهُ له كما يحبُّه، ولا يتهيَّأ له خلافه.
(1)
في هامش (س) و (ف): "كما توهمه القاضي رحمه الله. منه".
(2)
في (ف) و (ك): "الدعاء".
(3)
في (ف): "فذلك"، وفي (م):"ولذلك".
(4)
انظر: "العين"(باب العين والصاد والنون)(1/ 305).
(5)
"إليه" سقط من (ك)، وفي (ف):"إلى".
وقيل: {عَلَى عَيْنِي} ؛ أي: على حفظي.
* * *
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} ظرفٌ لـ (أَلقيتُ)، أو (تُصنع)، أو بدل من {إِذْ أَوْحَيْنَا} على أنَّ {إِذْ} عبارةٌ عن الوقت المتَّسع.
{فَتَقُولُ} للَّذين يطلبون مرضعةً يَقبلُ ثديها، وكان لا يَقبل ثديَ امرأة على ما ذُكِرَ في سورة القصص، فالفاء فصيحة؛ لترتيب المذكور على المقدَّر.
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} : على مَن يضمُّه إلى نفسه فيربِّيه، وأرادت بذلك: المرضعةَ، وإنَّما ذُكِّرَ للَفظ {مَنْ} .
{فَرَجَعْنَاكَ} : فرددناك {إِلَى أُمِّكَ} وفاءً بقولنا: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7]، ويأتي التفصيل في سورة القصص، وهذه الفاء أيضًا فصيحة.
{كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} برؤيتك، وقد مرَّ تفسير (تقر) في سورة مريم.
{وَلَا تَحْزَنَ} على فراقك
(1)
.
قيل: أو أنت على فراقها. ولا يتحمَّله مساق الكلام في سورة القصص
(2)
، ويأباه قوله:{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص: 13].
(1)
في (م): "فرقتك".
(2)
في هامش (ف) و (س): "لأن الخطاب ثمة معها لا معه. منه".
{وَقَتَلْتَ نَفْسًا} : هي نفس القِبْطيِّ الذي استغاثه عليه السِّبْطيُّ.
{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} الذي نالَكَ بسبب قتْلِه خوفًا من عقاب الله تعالى واقتصاصِ فرعون، بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مَدْيَن.
{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} مصدر على فُعول في المتعدِّي، كالثُّبور والشُّكور والكُفور، أو جمع فَتْنٍ أو فِتْنَةٍ على ترك الاعتداد بتاء التَّأنيث، كحُجُوز
(1)
وبُدُور في جمع حُجْزَة وبَدْرَة
(2)
.
والفتنةُ: المحنةُ، وكلُّ ما يَبتلي اللهُ به عباده من نعمة أو من
(3)
نقمة فهو فتنة؛ لقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وأكثر استعمالها في العُرف فيما يَشُقُّ على الإنسان؛ أي: اختبرناك بضروب من الاختبار.
سأل سعيدُ بن جبيرٍ ابنَ عبَّاس رضي الله عنهما، فقال: خلَّصناكَ مِن محنةٍ بعدَ محنةٍ، وُلدَ في عامٍ كان يُقتَلُ فيه الولدان، فهذه فتنةٌ يا ابن جبير، وألقته أمُّه في البحر، وهمَّ فرعون بقتله، وقتل قِبطيًّا، وأجَّر نفسَه عشرَ سنين، وضلَّ الطَّريق، وتفرَّقَتْ غنمُه في ليلةٍ مظلمة، وكان يقول عند كلِّ واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير
(4)
.
(1)
في (ك) و (ف): "حجور".
(2)
حجزة الإزار: مَعْقِدُه. والبَدْرَة: كيسٌ فيه ألفٌ أو عشرة آلاف درهم. انظر: "تاج العروس"(مادة: حجز)، و (مادة: بدر).
(3)
"من": ليست في (م).
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 64)، ورواه بمعناه مطوَّلًا النَّسَائِيّ في "السنن الكبرى"(11263)، وأبو يعلى في "مسنده"(2618) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى: إنَّا عاملناك معاملة المختبِر حتى خلصت للاصطفاء
(1)
بالرِّسالة، فكلُّ هذا من أكبر نعمه.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} وهي مدينة شعيب عليه السلام.
وعن وهب: أنَّه لبثَ عندَه ثمانيًا وعشرين سنة، عشرٌ منها مهرُ ابنته، وأقام عنده ثماني عشرة سنةً بعدها حتى ولد له أولاد
(2)
.
والفاء لتفصيل بعض
(3)
ما أُجمل من أنواع الفتنة.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} قدَّرتُه وعيَّنته
(4)
، وهو ما سبق في قضائي أن أكلِّمَكَ وأستنبئك في وقتٍ قد وقَّتُّه لذلك، فما جئْتَ إلَّا على ذلك القَدَر، غيرَ متقدِّم ولا متأخِّر
(5)
.
وقيل: هو الوقت الذي يوحَى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام، وهو رأس أربعين سنة، قال الشَّاعر:
نالَ الخلافةَ إذْ كانَتْ لَهُ قَدَرا
…
كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
(6)
{يَامُوسَى}
(7)
عقيب ما هو غاية الحكاية؛ للتَّنبيه على أنه المقصود.
* * *
(1)
في (ف): "خلصته لاصطفاء".
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(14/ 61).
(3)
"بعض" من (م) و (س).
(4)
في (ف): "قدره وعينه".
(5)
في (م) و (س): "مستقدم ولا مستأخر"، وفي (ف):"مقدم ولا متأخر".
(6)
البيت لجرير. انظر: "ديوانه"(1/ 416).
(7)
في (ف) و (ك): "تقرير".
(41) - {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} .
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} : اصطفيتك لمحبَّتي وخَصَصْتُكَ بي، مثَّل حاله فيما خوَّله من الكرامة بمَن قرَّبه الملك واستخلَصه لنفسه لمحاسنَ فيه.
* * *
(42) - {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} .
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} أمرَ أوَّلًا موسى عليه السلام وحده بالذَّهاب، فلمَّا
(1)
سأل أن يُشرك هارونُ عليه السلام في أمره أمَرهما معًا، إجابةً لدعوته على حسَب وَعْده.
وضمَّن كلامه التَّنبيه على أصالته حيث غلَّبه
(2)
على هارون في الخطاب، ولم يقل:(اذهبا).
و (أخوك) معطوف
(3)
على الضَّمير المستكنِّ
(4)
في {اذْهَبْ} ، المؤكَّد بـ {أَنْتَ} .
قيل: أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقاه، وقيل: سمع بمُقْبَله
(5)
فاستقبله.
{بِآيَاتِي} : بمعجزاتي.
{وَلَا تَنِيَا} أي: ولا تفتُرا، ولا
(6)
تقصِّرا. والوَنْيُ: الفتور.
(1)
في (م) زيادة: "ذهب" ولا يحتملها السياق.
(2)
في (ك) و (م): "غلب".
(3)
في (ف): "معطوفاً".
(4)
في (م): "ضمير مستكن".
(5)
بضم الميم وفتح الباء مصدر ميمي بمعنى الإقبال، أو اسم مكان.
(6)
"لا": ليست في (م).
{فِي ذِكْرِي} أي: لا تنسياني حيث ما تقلَّبْتُما
(1)
، أو في تبليغ الرِّسالة؛ فإنَّ الذِّكْرَ يطلق على كلِّ عبادة، والتَّبليغُ من أجَل العبادات، أو: في تبليغ ذِكْري والدَّعوة إليَّ.
* * *
(43) - {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} .
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} تأكيد لقوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} بالتكرير
(2)
؛ إظهارًا للاعتناء بدعوة اللَّعين إليه، وفيه إبهام وتوضيح، ونبَّه على سبب الذَّهاب إليه بالرِّسالة من عنده بقوله:
{إِنَّهُ طَغَى} ، أي: تجاوز الحدَّ في الفساد، ودعواه الرُّبوبيَّة.
* * *
(44) - {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} .
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} نحو قوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18 - 19]؛ لأنَّه دعوةٌ في صورة العَرْض والمشورة والاستفهام، حذَرًا أن يحمله التَّجبُّر على أن يسطوَ عليكما، أو احترامًا له لحقِّ التَّربية.
وقيل: {لَيِّنًا}
(3)
كنِّياه، أو لقِّباه، لا بدَّ من هذه الزِّيادة كيلا يردَّه قوله: {وَقَالَ
(1)
في (ف) و (ك): "انقلبتما".
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "من قال: أمر به أوَّلًا موسى عليه السلام وحده، وهنا إياه وأخاه، فلا تكرير، فكأنه غفل عن قوله: {وَلَا تَنِيَا}، أو أخطأ موضع قوله هذا، فإنَّ حقَّه أن يذكر عند قوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ}. منه".
(3)
في (م) زيادة: "لينا".
مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104]، فإنَّه لو كان مأمورًا بالتَكنية خاصَّةً لَمَا خالفه
(1)
بالتَّلقيب.
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} متعلِّق بـ {اذْهَبَا} ، أو {قَوْلًا}؛ أي: على أرجى
(2)
الوجوه للاتِّعاظ والخشية.
وقوله: (لعل) ليس لخفاء حاله عليه تعالى، لكن أمر لهما بالدُّعاءِ على الرَّجاء، فإنَّه إذا كان الدَّاعي راجيًا فهو أحرص على الدُّعاء، وذلك أبلغ في إلزام الحجَّة.
وقيل
(3)
: يتذكر المتحقِّق
(4)
ويخشى المتوهِّم؛ أي: يتذكَّر إن تحقَّق صدقَكما فيذعن للحقَّ، وإنْ لم يتحقَّق توهَّم أنْ يكون الأمر كما تصفانه.
والأحسنُ أنْ يُقال: يتذكَّر المبدأ أو يخشى المعاد؛ أي: يتذكر حالة نشأته صغيرًا عاجزًا عن تدبير نفسه، وأنَّه حدث بعد أن لم يكن موجودًا، فيرجع عن دعوى القدرة والرُّبوبيَّة، أو يخشى عقابَ اللهِ تعالى في دعواه ذلك.
* * *
(45) - {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} .
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} فرط: سبق وتقدَّم، ومنه الفارِطُ الذي يتقدَّم الوارِدَ، وفرسٌ فُرُطٌ: تسبقُ الخيل.
(1)
في (م): "خالف".
(2)
في (ف) و (ك): "أوجه".
(3)
في (م): "قيل".
(4)
في (ك): "المحقق".
وقرئ: (يُفْرَطَ)، من أفْرَطه: إذا حمله على العَجَلَةِ، و (يُفْرِطَ) من الإفراط
(1)
؛ أي: نخاف أن يعجل علينا بما يحول بيننا وبين إتمام الدَّعوة وإظهار المعجزة، أو أن يحمله حامل من استكباره وجبروته أو خوفه على الملك، أو شيطان جنَي أو إنسيٌّ من قومه القِبط المتمرِّدين، على المعاجلة بما ذكر، أو أن يفرط فيه.
وإنَّما قلنا: (بما يحول)، ولم نقل:(بالعقوبة) كما قيل؛ لأنَّه مردود بقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35]، فإنَّه مذكور قبل قولهما
(2)
هذا، بدلالة قوله:{سَنَشُدُّ} ، وقد دلَّ على أنهما محفوظان من عقوبته.
{أَوْ أَنْ يَطْغَى} أي: يتجاوزَ الحدَّ بالتَّخطِّي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي؛ لعتوِّه وجراءته عليك وقساوة قلبه، وفي إطلاق الطُّغيان مع تقييد قسيمه بقوله:{عَلَيْنَا} بطريق الرَّمز من حُسن الأدب والتَّحاشي عن التَّفوُّه بالعظيمة ما لا يخفى، وإنَّما أخَّره لأنَّ مَن أُمرَ بشيء فحاول دفعَه لأعذار فلا بُدَّ وأن يختم كلامه بما هو الأقوى.
* * *
(46) - {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} المعيَّة هنا
(3)
بالنُّصرة والمعونة.
(1)
انظر القراءتين في: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87)، ونسب الأولى ليحيى وأبو نوفل وابن مسعود، والثانية لابن محيصن.
(2)
في (م): "قوله".
(3)
في (ك) و (م): "هاهنا".
{أَسْمَعُ وَأَرَى} ما يجري بينكما وبينه من قولٍ أو فعلٍ، فأجازيه وأكفيكما شرَّه.
والأفصح أنْ لا يُقدَّر مفعولا قوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} فيكون مبالغةً في الحفظ
(1)
، أي: إنَّني حافظٌ ناصرٌ سميعٌ بصيرٌ، وإذا كان الحافظ قادرًا سميعًا بصيرًا تمَّ الحفظ، وحقَّتِ النُّصرة، وثبَتَ الدَّفْعُ عن المحفوظ.
* * *
{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} خاطَبا
(2)
بقولهما: {رَبِّكَ} ؛ إعلامًا له أنَّه مربوبٌ مملوكٌ إذ كان
(3)
يدَّعي الرُّبوبية والمالكية.
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أطلقهم عن الاستعباد، كما يقال: أرسلْتُ
(4)
الصَّيد، ولا تمنعهم عن اتِّباعنا.
{وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} بتكليف المشاقِّ.
كانت بنو إسرائيل تحت مِلْكة
(5)
فرعون، والقِبْطُ يعذِّبونهم بتكليف الأعمال الصَّعبة، وتعقيبُ دعوى الرِّسالة بإطلاق بني إسرائيل لِمَا فيه من إزالة المانع عن
(1)
"مفعولا قوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} فيكون مبالغة في الحفظ" سقط من (س).
(2)
في (ف) و (ك) و (س): "خاطبا".
(3)
في (ك) و (م) زيادة: "هو".
(4)
في (ف): "أرسل".
(5)
في (ك): "ملك".
دعوتهم واتِّباعهم، وهي أعمُّ
(1)
من دعوة القبط، فلا دلالة فيه على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان، على أنَّ الظَّاهر ممَّا تقدَّم في سورة يونس عليه السلام أنَّه ما آمن بموسى
(2)
عليه السلام في مبدأ أمره إلَّا أولادٌ من قومه.
{قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} جملة مبيِّنة
(3)
لقوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} ؛ لأنَّ الرِّسالة لا تثبت إلَّا بالمجيء بالمعجزة.
وإنَّما وحَّد الآية ومعه آيتان لأنَّ المراد إثبات الدَّعوى بالبيِّنة، لا بيان تعدُّد الحجَّة ووحدتها، فكأنَّه قال: قد جئناك بحجَّة وبرهان على ما ادَّعينا من الرِّسالة، كقوله:{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105].
{وَالسَّلَامُ} أي: سلامُ الملائكة الذين هم خزنة الجنَّة، والأفصح أن يكون السلام بمعنى الجنس؛ أي: جنس السَّلام وما يَستأهل أنْ يُسمَّى سلامًا، أو: السَّلامة من العذاب
(4)
.
{عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} : على المهتدين، والذي يقابله هو
(5)
توبيخ خزنة النَّار، أو: والخزي
(6)
والعذاب على الضَّالين المكذِّبين.
(1)
في (ف) و (ك): "أهم".
(2)
في (م): "لموسى".
(3)
في (ك): "مبنية".
(4)
في (م): "والسلامة من العذاب"، وفي (ك):"أو السلامة"، وفي (ف):"والسلامة"، والمثبت من (س).
(5)
في (س) و (ك) و (م): "وهو".
(6)
في (س) و (ك) و (م): "الخزي".
(48) - {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} .
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} و {أُوحِيَ} مبنيٌّ للمفعول، والمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله مصدرٌ ينسبك من (أنَّ) وما بعدها، تقديره: أوحي إلينا كينونةُ العذاب على مَن كذَّب وتولَّى.
وتغيير النَّظم باستئناف الكلام، والتَّوكيدِ، والتَّصريحِ بالوعيد؛ لأنَّ التَّهديد في مبدأ الدَّعوة أهمُّ وأنجع.
* * *
(49) - {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} .
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} في الكلام حذفٌ وإيجازٌ يُشْعِر بأنَّهما من فَرْط طاعتهما ومُسارَعتِهما إلى الامتثال لا ينفكُّ فعلهما عن الأمر، كاللَّازم البيِّن، فلا حاجة إلى ذكره، وهو: فأتَياه وقالا ما أُمِرا به.
ثمَّ إنَّ الفاء فصيحةٌ تفصِح عن محذوفٍ بعد {قَالَ} ، تقديره: سمعْتُ قولَكما فمَن ربُّكما؟
{يَامُوسَى} إنَّما خاطب الاثنين وخصَّ موسى عليه السلام بالنِّداء لأنَّه الأصل في الرِّسالة والدَّعوة، وهارونُ وزيرُه وتابعُه، أو لِمَا عُرِفَ مِنْ رُتَّةِ موسى عليه السلام وفصاحة هارون عليه السلام، فأرادَ أنْ يفحِمَه، فاستدعى كلامَه دونَ كلامِ هارون لمكرِه ودهائِه، ويُشعر بذلك قوله:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، فأجابَ بأشفى جوابٍ وأبلغِه، وأَخْصَرِه
(1)
لفظًا، وأَجْمَعِه معنًى، حيث
(2)
:
(1)
في (س): "أحصره"، وفي (ف) و (م):"أحضره".
(2)
في (م) زيادة: "قال".
(50) - {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي: أعطى كلَّ شيءٍ من الأنواع والأعضاء صورتَه وشكله الذي يوافق ما وُجِّهَ إليه من المنفعة، كشكل الإنسان والفرَس والعين والأُذن، أو: أعطى خلقه
(1)
كلَّ شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، فقدَّم ثاني المفعولَيْن لأنَّه
(2)
المقصودُ بيانُه.
وقيل: أعطى كلَّ حيوان
(3)
نظيرَه في الخَلْق والصُّورة زوجًا.
وفيه نظر؛ لأن من الحيوان ما يكون بالتولُّد، فلا يكون له زوج نظيره في الخلق والصُّورة
(4)
.
وقرئ: (خَلَقَهُ) على الفعل الماضي
(5)
، صفة للمضاف إليه، أو المضافِ على شذوذٍ، والمفعول الثَّاني محذوف؛ أي: أعطى كلَّ شيء ما يصلحه، لم يُخْلِه من عطائه ممَّا يليق به.
{ثُمَّ هَدَى} : ثم عرَّفه كيف يرتفق بما أُعطيَ، وكيف يتوصَّل به إلى كماله الصُّوري والمعنوي طبعًا واختيارًا.
نعتَه بما معناه
(6)
: الموجِدُ لكلِّ شيءٍ على وفق حكمته
(7)
، المفيضُ على الكلِّ
(1)
في (م) و (س): "خليقته".
(2)
في (ف) و (م): "لأن".
(3)
في (ف) و (ك): "كل شيء"، والمثبت من (س) و (م)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 67).
(4)
من قوله: "زوج نظيرُه في الخلق والصُّورة" سقط من (م).
(5)
نسبت لأبي نهيك ونصير عن الكسائي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 87).
(6)
في (م) زيادة: "أنه".
(7)
في (م): "الحكمة".
كلَّ ما ينبغي له ويليق به من الأسباب والآلات، الهادي له إلى مصالحه واستعمالِ آلاته في تحصيل كمالاته، فهو الخالق القادر الحكيم المنعِم على الإطلاق، الغنيُّ بالذَّات، وجميع ما عداه مخلوق مربوب منعَمٌ عليه مفتقرٌ، فلذلك بُهِتَ الذي كفر وأُفْحِمَ عن
(1)
الاعتراض عليه، فصرف الكلام عنه وشرَع في سؤال آخر على سبيل الرَّوَغانِ عن الاعتراف بما قاله
(2)
موسى عليه السلام وما أجابه به والحيرةِ والمغالطة.
* * *
(51) - {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} .
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} : ما تقدَّم وخلا.
والفاء تدلُّ على أنَّ السُّؤالَ مبنيٌّ على قول موسى عليه السلام: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، و {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ} [طه: 47].
* * *
(52) - {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} لَمَّا
(3)
سأله عن حال
(4)
الأمم الخالية والرِّمم البالية من الفريقَيْن بعد الموت أجابَ موسى عليه السلام بأنَّه غيبٌ لا يعلمه إلَّا اللهُ، دلَّ على الحصر معنى الحفظ المستفاد من عبارة {عِنْدَ} .
(1)
في (ف): "من".
(2)
في (ك): "قال".
(3)
"لما": ليست في (م).
(4)
"حال" سقط من (ف).
{فِي كِتَابٍ} مثبَتٌ في اللَّوح المحفوظ، ولَمَّا كان الإثبات في اللَّوح مظنّةَ الحاجة إلى الحفظ في الكِتْبةِ دفَعه بقوله:
{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ولقد نبَّه على هذا مَن قال: لا ينسى ما عَلِمَ فيذكِّرَه الكتَابُ، ولكن ليعْلَمَ الملائكةُ أنَّ معمولَ
(1)
الخلْقِ موافق
(2)
معلومه.
ومَنْ لم يتنبَّه لهذا قال: ويجوز أن يكون تمثيلًا لاستحكام علمه وتمكُّنِه بما استحفظه العالم وقيَّده بالكتابة، ويؤيِّده:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .
{لَا يَضِلُّ} مِنْ ضَلِلْتَ الشَّيءَ: إذا أخطأتَه في مكانه فلم تهتدِ له.
وقرئ: (يُضِلُّ)
(3)
من أضلَّه: إذا ضيَّعه، والعرب تقول لكلِّ ما ذهب على الإنسان ممَّا
(4)
ليس بحيوان: ضلَّه، بغير ألف، فأمَّا إذا كان منه فتقول: أضلَّه بالألف، والأصل في الأوَّل: ضَلَّ عنه.
{وَلَا يَنْسَى} مِنْ نسيتَه: إذا ذهبتَ عنه بحيث لا يخطرُ ببالك، وهمَّا مُحالان على العالم بالذَّات.
قيل: ويجوز أن يكونَ سؤالُه دخلًا على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلِّها، وتخصيصِه أبعاضها
(5)
............................................................
(1)
في (ك): "معلوم".
(2)
في (م): "يوافق".
(3)
نسبت للحسن وجمع. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (3/ 41)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 87)، و"زاد المسير"(5/ 292).
(4)
في (ف) و (ك): "ما".
(5)
في النسخ: "وتخصيصه كلها"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"، والكلام منه، وقوله:"وتخصيصه" معطوف على: "الأشياء". انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 207).
بالصُّور والخواصِّ المختلفة، بأنَّ
(1)
ذلك يستدعي علمه بتفاصيلها وجزئياتها، والقرون الخالية مع كثرة عددِهم وتمادي مددِهم وتباعُد أطرافِهم، كيف أحاط علمُه بهم وبأجزائهم وأحوالهم؟! فيكون معنى
(2)
الجواب: أنَّ علمَه تعالى محيطٌ بذلك كلِّه، وأنَّه مثبَتٌ عندَه لا يضلُّ ولا ينسى.
وَيرِدُ عليه: أنَّه يأباه تخصيصُ القرون الأولى مِن بينِ الكائنات، فإنَّه لو أخذها بجملتها لكان أظهرَ وأقوى في تمشية
(3)
ما أراده.
* * *
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} مرفوعٌ صفةٌ لـ {رَبِّي} ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو منصوبٌ على المدح، وهو أفصح.
{مَهْدًا} ؛ أي: كالمهد، وهو ما يُمهَد للصَّبي، مصدر سُمِّيَ به؛ أي: مَهَدها لكم، أو: مهدًا تتمهدونها.
وقرئ: {مِهَادًا}
(4)
، وهو اسم ما يُمْهَد، كالفراش لِمَا يُفْرَش، أو جمع مَهْدٍ.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} (سلكَ): من السَّلكِ بمعنى الإدخال؛ أي: جعل
(5)
لكم
(1)
متعلق ب "دخلًا". انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 207).
(2)
في (م) ت "مع".
(3)
في (م): "مشيئة".
(4)
قرأ الكوفيون: {مَهْدًا} ، وباقي السبعة:{مِهَادًا} . انظر: "التيسير"(ص: 151).
(5)
في (ك) و (س): "حصل".
سُبُلاً بينَ الجبال والأودية والبراري تسلكونها لحوائجكم وتقلُّبكم في البلاد لتبلغوا منافعها.
وإنَّما أعيد {لَكُمْ} لأنَّ معناه فيما تقدَّم: لانتفاعكم، وهنا: لأَجْلكم؛ فإن غير الإنسان لا يشاركه في الانتفاع بالطُّرق بخلاف الانتفاع بتمهيد
(1)
الأرض، إلَّا أنَّ المقصود الأصلي
(2)
انتفاع الإنسان، فلذلك خُصَّ بالذِّكر.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : مطرًا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} إنزاله تعالى وإخراجه عبارتان
(3)
عن إرادته
(4)
النُّزول والخروج؛ لاستحالة مزاولة العمل في شأنه، فالفاء للتَّعقيب
(5)
؛ فإنَّ ثانية الإرادتين لا تتراخى عن الأولى، وإنْ تراخى ثاني المرادَيْن عن الأوَّل
(6)
، فتأمَّل.
والعدول عن لفظ الغيبة إلى صيغة التَكلُّم على الحكاية لكلام الله تعالى؛ للتَّنبيه على أنَّه مُطَاعٌ تنقادُ الأشياءُ لأمره وتذعِنُ لمشيئته وحُكْمِه، لا يمتنع عليه شيء، ومبنى التَكلُّم على الحكاية على ظهور اختصاص القدرة على ذلك بالله تعالى.
(1)
في (س) و (ف) و (ك): "بتمهد".
(2)
في (م): "الأصل".
(3)
في (م): "عبارة".
(4)
في (م): "إرادة".
(5)
في هامش (س) و (م): "إنما قلنا: إنها للتعقيب؛ لأن معنى سببية الإنزال للإخراج قد علم من الباء في قوله: {بِهِ}، وقد سبق وجه آخر لهذا التعقيب في سورة النحل. منه".
(6)
في هامش (ف): "أمر بالتأمل في وجه صحة تخلف المراد عن الإرادة مع عدم لزوم العجز، فإنَّه لا يخلو عن نوع خفاء. منه".
{أَزْوَاجًا} : أصنافًا، سُمِّيَتْ بذلك لازدواجها واقتران بعضِها ببعضٍ.
{مِنْ نَبَاتٍ} بيانٌ وصفةٌ لـ {أَزْوَاجًا} ، وكذلك:
{شَتَّى} صفةٌ للأزواج
(1)
، ويجوز أن يكون صفةً للنَّبات؛ لأنَّه في الأصل مصدر، فاستوى فيه الواحد والجمع، يقال: شَتَّ الأمر شتًّا وشَتاتًا، وهو شَتِيْتٌ وشَتٌّ، وهم أشتاتٌ وشَتَّى، فأشتاتٌ جمع شَتٍّ، وشَتَّى جمع شَتِيْتٍ، ذكره المرزوقي
(2)
؛ أي: متفرِّقات في الصُّوَرِ والأعراض بالاختلاف في الطَّعم والشَّكل واللَّون والنَّفع، يصلح بعضها للنَّاس، وبعضها للبهائم، ولذلك قال:
(54) - {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} ومن حكمته ونعمته على العباد أنَّ ما يَفضُل عن
(3)
أرزاقهم ولا يصلح لهم يكون علفًا لأنعامهم.
وصيغة الأمر للإباحة، وهو حال من ضمير {فَأَخْرَجْنَا} على إرادة القول؛ أي: أخرجنا أصناف النَّبات قائلين: كلوا وارعوا، والمعنى: آذِنِين
(4)
في الانتفاع بها، بأنْ
(5)
يأكلوا بعضها ويعلفوا أنعامهم بعضها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : في الذي
(6)
ذُكِرَ.
(1)
في (م): "لأزواج".
(2)
انظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (3/ 1116).
(3)
في (ك) و (م): "من".
(4)
في هامش (ف) و (س): "عبارة القاضي: معديها
…
إلخ، ولا يخفى ما فيها من الركاكة. منه".
(5)
في (ف) و (ك) زيادة: "يكون".
(6)
في (م): "في الذكرى".
{لَآيَاتٍ} : لَدَلالاتٍ
(1)
{لِأُولِي النُّهَى} : لذوي العقول، واحدها: نُهْيَةٌ، وهو العقل؛ لأنَّه ينهى عن المحظور، أو يُنتهى إليه في الأمور.
* * *
(55) - {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .
{مِنْهَا} : من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} فإنَّها أصل خلقة أوَّل آبائكم، أو: من الأغذية المتولِّدة من الأرض خلقناكم.
{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بالموت وتفتيت الأجزاء.
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} بالبعث وجمع الأجزاء على الصُّورة السَّابقة {تَارَةً} : مرَّة {أُخْرَى} .
* * *
(56) - {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} .
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} : بصَّرناه {آيَاتِنَا} ، أو: عرفناه صحتها {كُلَّهَا} تأكيد لشمول الأفراد المعهودة المعلومة
(2)
من بعض الآيات النَّازلة سابقًا، والتَّعريف بالإضافة يجري مجرى التَّعريف بلام العهد.
قيل: هي تسعُ الآيات
(3)
المختصَّةُ بموسى عليه السلام: العصا، واليد،
(1)
في (م) و (س): "دلالات".
(2)
في (م): "والمعلومة".
(3)
في (م): "تسع آيات"، وفي (ف) و (ك):"التسع الآيات"، والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 69).
وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمَّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل
(1)
.
وَيرِدُ عليه: أن الحجر ونتق الجبل من الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام لبني إسرائيل بعد هلاك فرعون، ثم إنَّ فَلْقَ البحر ليس ممَّا كذَّبَ فرعونُ بعدَه.
{فَكَذَّبَ وَأَبَى} : كذَّبها جميعها
(2)
لفَرْط عناده، وأبى الإيمان والطَّاعة لعتوّه، أو: أبى أن يقبل شيئًا منها.
* * *
(57) - {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى} .
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} : مصر {بِسِحْرِكَ يَامُوسَى} تعلَّل من فَرْطِ الدَّهَشِ والحيرة بالسِّحر، وإلَّا فكيفَ يخفى عليه أنَّ ساحرًا لا يقدر على إخراج ذي سلطان مثلِه من أرضه؟
وذَكر علَّة المجيء وهي إخراجهم، وألقاها في مسامع قومه؛ ليصيروا متعصِّبين له إذ الإخراج من الوطن مما يَشُقّ.
* * *
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ} جوابٌ لقسمٍ محذوف.
{بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} : مثلِ سحرِكَ، أورد ذلك على سبيل الشُّبهة الطَّاعنة في النُبوة؛
(1)
في هامش (ف) و (س): "لم يقل: ورد الأرواح؛ لأنها ليست مما يخرج من الأرض. منه".
(2)
في (ف) و (م): "جميعا".
فإنَّ المعجِزَ إنَّما يتميَّز عن السِّحر بكونه ممَّا تتعذَّر معارضته دون السِّحر، فادَّعى القدرة على إتيان مثله ووعد به.
{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} هو مصدرٌ بمعنى الوعد؛ لأنَّ الإخلاف لا يلائم الزَّمان ولا
(1)
المكان، ويؤيِّده قراءة الحسن بنصب (يومَ الزِّينة)
(2)
؛ أي: إنجازُ وعدكم يومَ الزِّينة.
{لَا نُخْلِفُهُ} بالرَّفع على الوصف للموعد، وبالجزم على جواب الأمر
(3)
.
{نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} معطوف على الضَّمير المستكنِّ في {نُخْلِفُهُ} المؤكَّد بـ {نَحْنُ} .
ويجوز أن يكون الموعد اسمَ مكان، ويرجع الضَّمير في {نُخْلِفُهُ} إلى ما تضمَّنه من معنى الوعد، وعلى التَّقديرَين إنَّما يطابق الجوابُ السَّؤالَ معنًى لا لفظًا؛ لأنَّه أخبر عن الموعد بيوم الزِّينة، فلا يطابق المكان والمصدر، لكن يوم الزِّينة لا بُدَّ فيه من مكان معيَّن مشهور بين النَّاس، يجتمعون فيه للتَّعييد
(4)
، وهو زمان مستلزمٌ للمكان المعلوم بذِكْرِه، والمعنى: وعدُكم وعدُ يوم الزِّينة.
{مَكَانًا} منصوبٌ بفعلٍ دلَّ عليه {مَوْعِدًا} لا به، لا لأنَّه مصدرٌ موصوفٌ؛ لأنَّ في الظَّرف الاتِّساع، فيكفي في العمل فيه رائحة الفعل وإن كانت ضعيفةً
(5)
، بل
(1)
"لا": ليست في (م).
(2)
انظر: "المحتسب"(2/ 53).
(3)
قرأ بالجزم أبو جعفر، وباقي السبعة بالرفع. انظر:"النشر"(2/ 320).
(4)
في (ك) و (س): "للتعيد"، وفي (ت):"للتعبد".
(5)
في هامش (ف) و (س): "فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته ذكره ابن جني في الأمالي. منه ".
لأنَّه يلزم حينئذ الفصل بينه وبين معموله بالوصف، وهو غير سائغٍ؛ لأنَّ المنصوب بالمصدر مِنْ تتمَّته، ولا يوصَفُ الشَّيءُ إلَّا بعدَ تمامه، هذا على قراءة الرَّفع، وأمَّا على قراءة الجزم فلا مانع عن النَّصب بـ (موعد).
أو يجوز أن يكون بدلًا من {مَوْعِدًا} على تقدير مضاف إليه؛ أي: مكانَ موعدٍ مكانًا، وعلى هذا التقدير أيضًا تكون المطابقة معنًى.
{سُوًى} : مَنْصفًا يستوي فيه المسافةُ إلينا وإليك، وهو في النَّعت كقولهم: قومٌ عِدًى، في الشُّذوذ، وقرئ بالضَّم
(1)
.
(59) - {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} .
{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} كان لهم في كلِّ عامٍ يومٌ كانوا يتزيَّنون فيه ويتَّخذون فيه سوقًا، وإنَّما وعدهم ذلك اليومَ ليكونَ ظهور الحقِّ وزهوقُ الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيعَ ذلك في الأقطار، فتتوفَّرَ الرَّغبات في دين الحقِّ، ويَكلَّ حدُّ الباطل.
{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} ؛ أي: يُجْمَع، قرئ على بناء الفاعل بالتَّاء على خطاب فرعون، والياء والضَّمير لليوم أو لفرعون
(2)
، والغيبة للعادة التي يخاطب بها الملوك، أو خاطب القومَ في قوله:{مَوْعِدُكُمْ} ، وجعل {يُحْشَرَ} لفرعون، ومحلُّه الرَّفعُ عطفًا على {يَوْمُ} ، أو الجرُّ عطفًا على {الزِّينَةِ} .
(1)
قرأ عاصم وابن عامر وحمزة: {سُوًى} بضم السين، وباقي السبعة بكسرها. انظر:"التيسير"(ص:151).
(2)
أي قرئ: (تَحْشُرَ)، و (يَحْشُرَ)، نسبت القراءتان لأبي عمران النحوي وأبي نهيك والجحدري. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88)، و"الكشاف"(3/ 71).
{ضُحًى} أخَّر إلى ذلك الوقت ليكون أبعدَ عن الرِّيبة وأبينَ لكشف الحقِّ.
* * *
(60) - {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} .
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} : فأعرضَ عن موسى عليه السلام على هذا الوعد.
{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} : ما يُكاد به؛ يعني: السَّحرة وآلاتهم.
{ثُمَّ أَتَى} الموعدَ، أخبر عن إتيانه مصدَّرًا بأداة التَّراخي، وتركَ الإخبار عن إتيان موسى عليه السلام إشعارًا بأنَّه لا حاجة في إتيانه عليه السلام إلى الإخبار؛ لأَنَّه على قوَّةٍ وغَلَبة، إنَّما مظنَّة المساهلة والتَّراخي في جانب فرعون؛ لأنَّه على ضعفِ قلبٍ وفتورِ عزمٍ.
* * *
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ} : كلمةٌ تُقال لِمَنْ يستحقُّ الهَلَكَة.
{لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن تدَّعوا آياته سحرًا.
{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} منصوب بإضمار (أنْ)، وهو جواب للنَّهي، قرئ بكسر الحاء وضمِّ الياء، وبفتحهما
(1)
.
(1)
قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وكسر الحاء، والباقون بفتحهما. انظر:"التيسير"(ص: 151).
والسَّحتُ لغة أهل الحجاز، والإسحاتُ لغة أهل نجد وبني تميم، يقال
(1)
: سَحَتهُ اللهُ وأسحته: إذا استأصله وأهلكه.
وفيه دلالة على عظم الافتراء، وأنَّه يترتَّب عليه عذاب الاستئصال.
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} الخيبةُ: انقطاعُ الرَّجاءِ بالامتناع على الطَّالب ممَّا أمَّل، والافتراءُ اقتطاعُ الخبر الباطل بإدخاله في جملة الحقِّ، وأصله القَطْع، مِن فَرَاه يَفريه فَرْيًا.
* * *
(62) - {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} .
{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} التَّنازعُ: محاولةُ كلِّ واحدٍ مِنَ المختلفَيْن نزعَ المعنى عن صاحبه
(2)
.
{أَمْرَهُمْ} مفعول (تنازعوا) فتَعدَّى بمفعول واحد، ولو حُذفت التَّاء لتَعَدَّى إلى اثنين، تقولُ: نازعْتُ زيدًا الحديث؛ أي: اختلفوا فيما بينهم؛ أي: السَّحرة.
وقيل: فرعون وقومه في أمر موسى عليه السلام حين سمعوا كلامَه، فقال بعضُهم: ليس هذا من كلام السَّحرة.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي: تشاوروا في السِّرِّ خُفْيَةً من فرعون أن يتبيَّن فيهم ضعفًا، وقالوا: إنْ كان ساحرًا فسنغلبه، وإن كان من السَّماء فله أمرٌ.
(1)
في (م): "ويقال".
(2)
في (م): "نزع الشيء عن صاحبه". ولعل الأحسن أن يقال: (نزع صاحبه عما هو عليه)، كما هي عبارة الواحدي والرازي. انظر:"التفسير البسيط" للواحدي (10/ 176)، و"تفسير الرازي"(15/ 488).
و {النَّجْوَى} يكون مصدرً واسمًا.
* * *
ثمَّ لفَّقوا هذا القول؛ أعني: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} يعني: موسى وهارون عليهما السلام، كأنَّهم تشاوروا في تلفيقه حذرًا من أن يَغْلِبا فيتَّبِعَهما النَّاسُ.
و {هَذَانِ} اسم {إنَّ} ، هذا
(1)
لغة بلحارث بن كعب، فإنَّهم جعلوا الألف للتَّثنية، وأعربوا المثنَّى تقديرًا.
وقيل: اسمها ضمير الشَّأن المحذوف، و {هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} خبرها.
وقيل
(2)
: {إنَّ} بمعنى: نعم، وما بعدها مبتدأ وخبر.
ويردُّهما أنَّ اللَّام لا تدخل خبر المبتدأ.
وقيل: أصله: إنَّه
(3)
هذان لهما ساحران، فحذف الضَّمير. ويَرِدُ عليه أنَّ المؤكَّد باللَّام لا يليق به الحذف.
وقرئ: {إِنْ هَذَانِ}
(4)
وهو ظاهر، ولكنَّه مخالف للإمام
(5)
.
(1)
في "تفسير البيضاوي"(4/ 31): "على" بدل "هذا".
(2)
في (ف): "وقيل إن".
(3)
في (م): "إن"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير القرطبي"(14/ 95)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 31)، و"تفسير أبي السعود"(6/ 25).
(4)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 151).
(5)
وفي هذه المخالفة نظر وبحث فهي قراءة متواترة، انظر بيان ذلك في "البحر"(15/ 85)، و"روح المعاني"(16/ 374).
وقرئ: {إِنْ هَذَانِ}
(1)
على أنَّها هي المخفَّفة واللَّام هي الفارقة، أو النَّافية واللَّام بمعنى إلَّا.
{يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} بالاستيلاء عليها.
{بِسِحْرِهِمَا} نسبوه إلى هارون أيضًا؛ لشركته في أمر الدَّعوة.
{وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه؛ لقوله تعالى:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26].
وقيل: أرادوا: أهل طريقتكم المثلى، وهم بنو إسرائيل؛ فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم، فهو إشارة إلى ما قال موسى عليه السلام:{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17].
وقيل: الطَّريقةُ: اسمٌ لوجوه القوم الذين هم قدوة لغيرهم.
* * *
(64) - {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .
{فَأَجْمِعُوا} بقطع الهمزة، من أَجْمَعَ.
{كَيْدَكُمْ}
(2)
فأَزْمِعوه
(3)
واجعلوه مُجْمَعًا عليه، لا يتخلَّف
(4)
عنه واحدٌ منكم، كالمسألة المجمَع عليها.
(1)
وهي قراءة ابن كثير وحفص. انظر: "التيسير"(ص: 151).
(2)
في (م): "فأجمعوا كيدكم بقطع الهمزة من أجمع".
(3)
في (م): "فاعزموه". والمعنى واحد، أزْمَعَ المسير: عزم عليه، ورجل زَميع: ماضي العزيمة. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"(مادة: زمع)(ص: 209).
(4)
في (م): "يختلف".
وقرئ: {فَأَجْمِعُوا} بهمزة الوصل
(1)
، من جمع، ويعضده قوله:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} .
{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} : مصطفِّين؛ لأنَّه أَهْيَبُ في صدور الرَّائين، قيل: كانوا سبعين ألفًا مع كلٍّ
(2)
منهم حبلٌ وعصًا، وأقبلوا عليه إقبالةً واحدةً.
{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أي: ظفرَ وفازَ ببُغيته مَن طلَبَ العُلوَّ في أمره، وسعى سعيَه
(3)
، اعتراض للتَّحريض والتَّرغيب.
* * *
(65) - {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} .
{قَالُوا} بعدما أتوا: {يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} قد سبق في سورة الأعراف تفسيره.
* * *
{قَالَ بَلْ أَلْقُوا} مقابلةُ أدبٍ بأدبٍ مع زيادةٍ، وهي الإسعافُ إلى ما مالوا إليه بالتَّعريض، وتغييرُ النَّظم إلى صيغة الأمر الموجِب غالبًا مع كلمة الإضراب ليستنفِدوا
(4)
وسعهم وطوقهم
(5)
..................................................
(1)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 152).
(2)
في (م) زيادة: "واحد".
(3)
في هامش (ف) و (س): "من قال: نال المطلوب من غلب، أخل بمعنى السين وقصر في حق التحريض. منه".
(4)
في (ف) و (ك): "ليستعدوا".
(5)
"وطوقهم" سقط من (س).
في إبراز مكائد السِّحر ووقائعه
(1)
، فيُظهر الله تعالى قدرته وسلطانه، ويقذف بالحقِّ على الباطل فيدمغه، ويسلِّط المعجزة على السِّحر فيمحقه، فكانت آيةً بيِّنة للنَّاظرين، وعبرة مقنِعة للمعتبِرين.
{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} (إذا) للمفاجأة، وهي لمجرَّد الظَّرفيَّة، ناصبُها فعل المفاجأة، ولا يقع بعدها إلَّا الجملة الاسميَّة، والمفاجأة تمثيل لسرعة التَّخييل، أي: ففاجأ موسى عليه السلام وقتُ تخييل حبالهم وعصيهم السَّعيَ، أو تخييلُهم سعيَ حبالهم وعصيِّهم
(2)
، أو تخييلُ الله تعالى إيَّاه، أو تخييلُ السَّعي إليه، على اختلاف القراءات.
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} وقرئ: {تُخَيَّلُ} بالتَّاء
(3)
، على إسناده إلى ضمير الحبال والعصيِّ، وإبدال {أَنَّهَا تَسْعَى} منه بدل الاشتمال.
وقرئ بها والبناء للفاعل
(4)
، وإيقاعه على {أَنَّهَا تَسْعَى} بمعنى: أنها مخيِّلة سعيَها.
وبالياء على أن الفاعل هو الله تعالى للابتلاء والمحنة
(5)
.
و: (تَخيَّلُ) بفتح التَّاء
(6)
، بمعنى: تتخيل، وطريقُه طريقُ (تُخيَّلُ)
(7)
.
(1)
في (ف): "ودقائقه".
(2)
"السَّعي أو تخييلهم سعي حبالهم وعصيهم": ليست في (م).
(3)
وهي قراءة ابن ذكوان. انظر: "التيسير"(ص: 152).
(4)
نسبت للحسن وعيسى الثقفي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88)، و"المحرر الوجيز"(4/ 51)، و"البحر المحيط"(15/ 91).
(5)
انظر: "تفسير البيضاوى"(4/ 32).
(6)
نسبت لأبي السمال. انظر: "البحر المحيط"(ص: 91)، و"الكشاف"(3/ 73).
(7)
انظر: "الكشاف"(3/ 73).
{مِنْ سِحْرِهِمْ} : مِن أجلِ سحرِهم.
{أَنَّهَا تَسْعَى} إنَّما قال: {تَخَيَّلُ} لأنَّها لم تكن تسعى حقيقة، وإنَّما تحركت
(1)
لِمَا قيل: إنَّهم لطَّخوا الحبال بالزَّيبق وجعلوه في داخل العصيِّ، فلمَّا حميَتِ بالشَّمس طلب الزَّيبق الصُّعود فتحرَّكَتِ العصيُّ والحبال، فظنَّ أنَّها تسعى
(2)
.
* * *
(67) - {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} .
{فَأَوْجَسَ} الإيجاسُ: من الهاجس الذي يخطرُ بالبال.
{فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فعرَض له خوفٌ عظيمٌ من مفاجأة ما فاجأ
(3)
على مقتضى الجِبِلَّة البشريَّة، إلَّا أنَّه أضمره، أي: لم يُظْهِرْ أثره
(4)
، لا من أن يخالج النَّاس شكٌّ فلا يتَّبعوه؛ لأن الخوف منه ليس ممَّا يحتاط في كتمانه، فلا يظهر وجه الإطناب بزيادة الإضمار.
(1)
في (ف) و (ك): "تحرك".
(2)
كذا ذكر الزمخشري والبيضاوي وغيرهما هذا التأويل، ولعل الصواب أنه كان سحرًا حقيقة لا خداعًا بالزئبق؛ لقوله تعالى في موضع آخر:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ، كما أن موسى عليه السلام وهو النبي الفطن لا يتصور خداعه بالزئبق وأمثاله، وقد ذكر لي أحدهم أنه حضر مجلسًا فيه ساحر طلب إليه الحاضرون أن يطعمهم بطيخا، وكان ذلك في الشام في أيام الشتاء وليس في تلك الأيام بطيخة واحدة في البلد كله، فبدأ يتمتم ثم ناول كل واحد منهم قطعة من أجود أنواع البطيخ، أو هكذا خيِّل لهم، ثم أمرهم بأن يبدؤوا بالأكل، فإذا كل واحد منهم ممسك بحذائه وهو يحاول قضمه ظنا منه أنه بطيخ، فلا يستبعد أن يكون ما وقع من السحرة من هذا الباب، والله أعلم بالصواب.
(3)
"ما فاجأ" ليست في (ف) و (ك)، ولم ترد عند البيضاوي أيضًا، ولفظه:(من مفاجأته).
(4)
في (ف): "يظهره".
(68) - {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} .
{قُلْنَا لَا تَخَفْ} ممَّا توهَّمْتَ، صيغة النَّهي للتَّشجيع وتقوية القلب، لا للنَّهي عن الخوف المذكور؛ لأنَّه ليس أمرًا اختياريًّا.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} تعليلٌ لِمَا قُصِدَ بصيغة النَّهي، وتقريرٌ لغلبته، مؤكَّدًا بالاستئناف، وحرفِ التَّحقيق، وتكريرِ الضَّمير، ولفظِ العلوِّ الدَّال على الغلبة الظَّاهرة، وصيغةِ التَّفضيل، ولامِ التَّعريف.
و {الْأَعْلَى} لمجرَّد الزِّيادة؛ لأنَّه لم يكن للسَّحرة علوٌّ حتى يكون هو أعلى منهم
(1)
، لا بمعنى العالي، كقول الشاعر:
تمنَّى أناسٌ أنْ أموتَ وإنْ
(2)
أَمُتْ
…
فتلكَ طريقٌ لسْتُ فيها بأوحد
(3)
أي: بوحيد.
* * *
{وَأَلْقِ} عطف على محذوفٍ دلَّ عليه سياقُ الكلام، تقريره: أثبت
(4)
في مقام الإقدام وألقِ، فالواو فصيحةٌ.
{مَا} أبهم هنا، وعيَّن في سورة الأعراف حيث قال:{وَأَلْقِ عَصَاكَ} ، ومَن
(1)
من قوله: "لأنَّه لم يكن .. " إلى هنا وقع في (م) بعد قوله: "أي بوحيد".
(2)
من قوله: "هو أعلى منهم،
…
" إلى هنا سقط من (س).
(3)
نسب لطرفة في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (2/ 301)، و"تفسير الطبري"(24/ 478)، ونسبه ابن عطية في "المحرر الوجيز"(4/ 335) للشافعي، و (5/ 492) لطرفة.
(4)
في (س) و (ك) و (م): "ثبت".
غفل عنه زعم
(1)
أن الإبهام للتَّحقير أو للتَّعظيم، وإنما قال:
{فِي يَمِينِكَ} ولم يقل: في يدك؛ لما في لفظ اليمين من معنى اليُمن والبركة.
{تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} ؛ أي: تأخذْ ما زوَّروه بفيها ابتلاعًا، وأصله: تتلقَّف، فحذفت إحدى التَّاءين، وتاء المضارعة تحتمل التَّأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبِّب.
وقرئ بالرَّفع
(2)
على الحال أو الاستئناف، وبالجزم والتَّخفيف
(3)
على أنَّه مِن لقفتُه بمعنى تلقَّفته، وبتشديد التاء
(4)
.
{إِنَّمَا صَنَعُوا} ؛ أي: الذي زوَّروا وافتعلوا.
{كَيْدُ سَاحِرٍ} بالرَّفع على أنَّ (ما) موصولة، والنَّصب على أنَّها كافَّة، وهو مفعول {صَنَعُوا} .
وقرئ: {سَاحِرٍ}
(5)
بمعنى: ذي سحر
(6)
، أو بإطلاق السِّحر على السَّاحر مبالغةً، أو بإضافة الكيد إلى السِّحر للبيان، كقولهم: علم
(7)
فقه.
(1)
في (م): "ظن".
(2)
وهي قراءة ابن ذكوان. انظر: "التيسير"(ص: 152).
(3)
أي: {تَلْقَفْ} بإسكان اللام مخففًا، وهي قراءة حفص، وباقي السبعة - عدا ابن عامر في رواية ابن ذكوان السابقة، - بفتح اللام وتشديد القاف والجزم. انظر:"التيسير"(ص: 112).
(4)
وهي رواية البزي عن ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 152)، و"تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (6/ 216). وقوله:"التاء" تحرف في النسخ إلى: "القاف".
(5)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 152).
(6)
في هامش (ف) و (م) و (س): "لم يقل: ذوي سحر؛ لأن بيان التَعدد في السَّاحر لغوٌ في المقام، فلا حاجة لاعتباره في تصحيح الكلام. منه".
(7)
في (ف) و (م): "على".
وإنَّما
(1)
وحَّد السَّاحر لأنَّ المراد به الجنس، والتَّنكيرُ للتَّحقير، لا لتنكير المضاف؛ لأنَّ المقصود من تنكيره حاصل بالإضافة.
{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي: لا فلاح لهذا الجنس، وقال في موضع آخر:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]؛ أي: لا يغني جمعُهم، ولا تجدي كثرتهم، وله أيضًا وجه.
{حَيْثُ أَتَى} بسحره
(2)
.
* * *
(70) - {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} اقتَصر هنا
(3)
على حاشيتي القصَّة؛ اكتفاءً بما هو المقصود، وقد أتى بنوع تفصيل في (سورة الأعراف)، فالفاء فصيحة.
{سُجَّدًا} للهِ توبةً عمَّا صنعوا وتعظيمًا لِمَا رأوا.
قال الأخفش: مِن سرعة ما سجدوا كأنَّهم أُلقوا
(4)
.
فما أعجبَ أمرُهم، قد ألقوا حبالهم وعصيَّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشُّكر والسُّجود، فما أعظم الفرقَ بينَ الإلقائَيْن!
روي أنَّهم رأوا الجنَّة ومنازلهم فيها في السُّجود فرفعوا رؤوسهم {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} قدِّم موسى عليه السلام في الأعراف لأصالته في الرِّسالة والدَّعوة، وأخِّر هاهنا لا لكبر سنِّ هارون عليه السلام؛ لأنَّه لا
(5)
يعارض وجهَ تقديم موسى
(1)
في (م): "وإنما".
(2)
في (م): "بسحر".
(3)
في (م): "هاهنا".
(4)
انظر: "تفسير السمرقندي"(2/ 405)، و"تفسير الثعلبي"(4/ 270).
(5)
"لا" سقط من (ف) و (ك).
عليه السلام المناسبِ للمقام رعايتُه
(1)
، ولا لأنَّ فرعون ربَّى موسى عليه السلام في صغره، فلو قُدّمَ لتُوُهِّم أنَّ المراد فرعون، وذكر هارون على سبيل
(2)
الاستتباع لأنَّ المقام لا يتحمَّله، كيف وقد سجدوا تعظيمًا لِمَا رأوا من موسى؟ وأيضًا تقديمه في موضع آخر صريح في أنَّه ليس في التَّرتيب نكتة معنويَّة = بل لمحافظة الفاصلة، والواو لا توجب التَّرتيب.
* * *
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} أي: بالله لأجله ودعوته، وقرئ على الاستفهام للإنكار
(3)
.
{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} في الإيمان له.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لعظيمكم في فنِّكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وأنتم تواطأتم على ما فعلْتُم.
{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} قد سبق تفسيره في سورة الأعراف.
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} شبِّه تمكُّن المصلوب في الجذع بتمكُّن المظروف في الظَّرف، فاستعير {فِي} لتصوير
(4)
الاستقرار، وخصَّ النَّخل لطول جذوعها، والمراد تشهيرُ العقوبةِ.
(1)
في هامش (ف) و (س): "من قال: ولأن الواو لا توجب الترتيب، لم يصب في تصديره بأداة التعليل كما لا يخفى، فإن تقديم ما حقه التأخير لا يكون لسلامة الأمر. منه".
(2)
"سبيل" ليست في (م) و (س).
(3)
قرأ حفص وقنبل على الخبر، وباقي السبعة على الاستفهام. انظر:"التيسير"(ص: 152).
(4)
في (ف): "في لتقرير"، وفي (م):"في تصوير".
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} أنا على إيمانكم بربِّ موسى، أو هو
(1)
على ترك الإيمان به؟
وقيل: يريد نفسه وموسى عليه السلام، لقوله:{آمَنْتُمْ بِهِ} ، نفاجة منه
(2)
وفخر باقتداره وقهره، وتوضيع واستضعاف لموسى عليه السلام واستهزاء به؛ لأنَّه لم يكن من التَّعذيب في شيءٍ قطُّ.
قيل: اللَّام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغير الله
(3)
، والحقُّ أنَّها للتَّعليل ليس بصلة للإيمان، ولا دلالة في قوله تعالى:{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} على ذلك؛ إذ معناه: ويصدر عنه الإيمان لأجل المؤمنين وموافقتهم ودعوتهم، وإلَّا لقيل: يؤمن بالله وللمؤمنين.
{وَأَبْقَى} : أدومُ عذابًا وعقابًا.
* * *
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} : لن نختارك {عَلَى مَا جَاءَنَا} موسى عليه السلام به {مِنَ الْبَيِّنَاتِ} : المعجزات الواضحات.
{وَالَّذِي فَطَرَنَا} عطف على {مَا جَاءَنَا} ، أو قسم.
(1)
"هو": ليست في (م).
(2)
في (ف) و (ك): "تفاخر منه"، وفي (م):"تعاجيز - أو: نفاجيز - لمنه". والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 76)، ولفظه:( .. وفيه نفاجة باقتداره وقهره، وما ألفه وضَرِي به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى .. ). والنفاجة: الفخر والتكبر.
(3)
في (ف): "الحق".
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} : ما أنت قاضيهِ؛ أي: صانعُه أو حاكمه.
{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} نصب على الظَّرف، وقرئ:(تُقْضَى) على البناء للمفعول ورفع (الحياةُ)
(1)
، كقولهم: صِيْمَ يومُ الجمعة، بالإسناد إلى الظَّرف، كالتَّعليل لِمَا قبلَه، والتَّمهيد لِمَا بعدَه من الاستئناف، أي: تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدُّنيا السَّريعة الزَّوال، ونحن نطلب بالإيمان الغفرانَ والثَّواب السَّرمديَّ، فهو علينا هين.
* * *
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} من الكفر والمعاصي.
{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} : مِن تعلُّمه، روي أن رؤوس السَّحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقون من السِّبط، وكان فرعون أكرههم على تعلُّم السِّحر.
وقيل: من العمل به في معارضة المعجزة، لِمَا روي أنَّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعلَ، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر؛ لأنَّ السَّاحر إذا نام بطل سحرُه، فأبى إلَّا
(2)
أن يعارضوه
(3)
.
ويردُّه قوله تعالى: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41]، فإنَّه ظاهر في
(1)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88).
(2)
"إلا" سقط من (ف) و (م)، وفي (ك):"فأبوا أن".
(3)
في هامش (س) و (ف): "كأن هذا القائل غافل عما قدمه من بيان كيفية سحرهم فإنه قد ظهر منه أنه لا يبطل بنوم الساحر. منه".
الرِّضا، وقوله تعالى:{وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44]، فإنَّ الظَّاهر منه
(1)
عدمُ علمهم بشأن موسى عليه السلام.
{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} جزاءً، أو {خَيْرٌ} ثوابًا {وَأَبْقَى} عذابًا.
* * *
(74) - {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} .
{إِنَّهُ} : إنَّ
(2)
الأمر {مُجْرِمًا} بالموت على الكفر والعصيان.
{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريحَ بالموت {وَلَا يَحْيَى} حياةً ينتفع بها، وهو كالمثل فيما هو من شدَّة الحال التي يتمنَّى فيها الموت.
* * *
(75) - {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} .
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} بأن مات على إيمانه {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} في الدُّنيا بعد الإيمان.
{فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} : جمع العُلْيا؛ أي: المنازلُ الرَّفيعة.
وأمَّا إيثار الجمع هنا والإفراد في مقابِله فللإشارة إلى ما ذُكِرَ في موضعه مِن أنَّ كلًّا من الكفرة يُعذَّبُ منفردًا عن الآخر زيادةَ في عذابهم بألم الوحشة، وأنَّ المؤمنين يتنعَّمون على سررٍ متقابلين، زيادةً في لذَّاتهم بسرورِ
(3)
الأُنْسِ.
* * *
(1)
في (ف): "منهم".
(2)
في (ف): "أي".
(3)
في (م): "بسرر".
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من {الدَّرَجَاتُ} .
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} حال، والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار.
{وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} تطهَّر من الكفر وأدناس الذُّنوب.
والآياتُ الثلاث الأخيرة تحتمِل أن تكون من كلام السَّحرة، وأن تكون ابتداءَ كلامٍ من الله تعالى.
* * *
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} لَمَّا أرادَ الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمرَ موسى عليه السلام أن يخرج بهم من مصر ليلًا ويأخذَ
(1)
بهم طريق البحر، فمعنى:
{فَاضْرِبْ لَهُمْ} : فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له سهمًا في ماله
(2)
، أو: فاتَّخِذ، مِن ضَرَبَ اللَّبِنَ: إذا عمله.
والإضافة في {بِعِبَادِي} للتَّشريف.
{طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} : يابسًا، مصدر وصف به، يُقال: يبس يَبَسًا ويُبْسًا، كالعَدَم والعُدْم، ولذلك وُصِفَ به المؤنَّث، فقيل: شاةٌ يَبَسٌ وناقةٌ يَبَسٌ: إذا جفَّ لبنُها.
(1)
في (ك): "لبلاد يخرج"، وفي (س):"ليلًا يأخذ".
(2)
في (م): "ضرب له في ماله سهما".
وقرئ: (يابسًا)
(1)
. و: (يَبْسًا) بالسكون
(2)
، وهو إمَّا تخفيفُ يَبَسٍ، أو وصفٌ على فَعْلٍ، كصَعْب وجَلْد، أو جمع يابس - كصاحب وصَحْب - وصف به الواحد مبالغةً، أو لتعدُّده معنًى، فإنَّه جَعَلَ لكلِّ سِبْطٍ منهم طريقًا.
{لَا تَخَافُ دَرَكًا} حال من الضَّمير في {فَاضْرِبْ} أي: آمنًا مِن أنْ يدرككم العدو، أو صفة ثانية للطَّريق، والعائد محذوف؛ أي: لا تخاف فيه. والدَّرَكُ والدَّرْكُ اسمان من الإدراك.
وقرئ: {لَا تَخَفْ}
(3)
على جواب الأمر.
{وَلَا تَخْشَى} استئناف؛ أي: فأنت لا تخشى، بمعنى: ومن شأنك أنَّك لا تخشى، أو عطف عليه والألف فيه للإطلاق
(4)
، كقوله:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، أو حال بالواو، والمعنى: لا تخشى الغرق.
* * *
(78) - {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} .
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} {فَأَتْبَعَهُمْ} بمعنى: فاتَّبعهم، يرشدك إليه القراءةُ به
(5)
؛ أي: فأدركهم مع جنوده؛ أي: كاد أن يلحقهم
(6)
.
(1)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88).
(2)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88).
(3)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 153).
(4)
قوله: "استئناف"؛ أي: على قراءة حمزة، وأما على قراءة غيره فهو معطوف، وقوله:"أو عطف عليه"؛ أي: على {لَا تَخَفْ} بقراءة حمزة أيضا، وقوله:"والألف فيه للإطلاق" يعني: أنه مجزوم بحذف آخره، وهذه ألف زائدة لوقوعه فاصلة. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 218).
(5)
هي رواية عن أبي عمرو، والرواية المشهورة عنه مثل رواية الجماعة. انظر:"السبعة"(ص: 422).
(6)
في هامش (س) و (ف): "قد مر التفصيل في تفسير سورة يونس. منه".
قال ابن السِّكِّيت: يقال: أتبعْتُ القوم: إذا كانوا قد سبقوك فلحقتَهم
(1)
، فهو من المتعدِّي إلى مفعولٍ واحدٍ، لا إلى مفعولَيْن كما توهَّم مَن قال: فأتبعهم فرعونُ نفسَه ومعه جنوده
(2)
.
وأمَّا ما قيل: الباء مزيدة، والمعنى: فأتبعهم فرعون جنودَه. فمبناه الغفول عن قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} ، ثمَّ إنَّ فيه إيهام عدم اتِّباع فرعون بنفسه.
{فَغَشِيَهُمْ} الضَّمير له ولجنوده معًا.
{مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} الإبهام للتَّعظيم والمبالغةِ في التَّهويل مع الإيجاز؛ أي: ما
(3)
لا يمكن وصفه ولا يَعلم كُنْهَهُ إلَّا الله تعالى.
وقرئ: (فَغَشَّاهم) من التَّغشية، وهي التَّغطية، والفاعل:(ما غَشَّاهم)
(4)
(5)
.
* * *
(79) - {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} .
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} : عدلَ بهم عن سبيل الرَّشاد.
(1)
انظر: "إصلاح المنطق"(ص: 185).
(2)
في هامش (س) و (ف) و (م): "وقد اعترف هذا القائل في سورة يونس عليه السلام أن معنى أتبعهم: أدركهم. منه". وفيه أيضا: "وأيضًا معنى الأصل لاتَّبع لا يناسب المقام، قال ابن السكيت: واتَّبعتهم إذا مروا بك فمضيت معهم، وتبعتهم تبعا. منه".
(3)
"ما": ليست في (م).
(4)
في هامش (س) و (ف) و (م): "وقد اعترف هذا القائل في سورة يونس عليه السلام أن معنى أتبعهم: أدركهم. منه". وفيه أيضا: "وأيضًا معنى الأصل لاتَّبع لا يناسب المقام، قال ابن السكيت: واتَّبعتهم إذا مروا بك فمضيت معهم، وتبعتهم تبعا. منه".
(5)
في (ف) و (م) و (س): "غشيهم".
{وَمَا هَدَى} ؛ أي: ما هداهم إلى الحقِّ، وكان ردًّا لقوله:{وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وليس هذا من باب التَّهكم.
* * *
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} خطابٌ لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون وقومه، على إضمار:(قلنا)، أو للذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنانًا عليهم بما فُعِلَ بآبائهم.
{قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون {وَوَاعَدْنَاكُمْ} بإيتاء الكتاب {جَانِبَ الطُّورِ} وذلك أنَّه تعالى وعد موسى عليه السلام أن يأتي هذا المكان ويختار سبعينَ رجلًا يحضرون معه لنزول التَّوراة، وإنما نَسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيِّهم ونقبائهم، وإليهم رجعَتْ منافعُها التي قام بها شرعُهم ودينُهم.
{الْأَيْمَنَ} نصب لأنَّه صفة {جَانِبَ} ، وقرئ بالجرِّ
(1)
، لا على الجوار؛ لأنَّه شاذٌّ، بل على أنَّه نعت للطُّور؛ لِمَا فيه من اليُمن.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} فيه، وقلنا لكم:
{كُلُوا} إذن لمطلَقِ التَّصرُّف، وتخصيص الأكل بالذِّكْرِ لشدَّة الحاجة إليه.
{مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالات أو لذائذ.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 79)، و"المحرر الوجيز"(4/ 56).
{مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} ؛ أي: في أكله بالتَّعدي إلى ما لا يحلُّ أكلُه، والإخلالِ بشكره، أو بالتَّلهي والإسراف والبَطَر والمنع عن
(1)
المستحِقِّ.
{فَيَحِلَّ} بالكسر بمعنى الوجوب، مِنْ حَلَّ الدَّين: إذا وجب أداؤه، وبالضَّم
(2)
بمعنى النُّزول.
{عَلَيْكُمْ غَضَبِي} : عذابي وعقوبتي ولذلك وصف بالنزول صريحًا أو كناية.
{وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} : سقطَ سقوطًا لا نهوضَ بعدَه؛ أي: هلك، وأصله: أن يسقط من جبل أو نحوه فيَهْلِكَ
(3)
.
وقيل: وقع في الهاوية.
* * *
(82) - {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} .
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} عن الكفر {وَآمَنَ} بما يجب التَّصديق به.
{وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} {ثُمَّ} مستعار للتَّراخي الرُّتْبي؛ لأنَّ المراد بالاهتداء: الاستقامة والثَّبات على الهدى المذكور من التَّوبة والإيمان والعمل الصالح.
* * *
(83) - {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} .
{وَمَا أَعْجَلَكَ} العَجَلةُ: طلبُ الشَّيء وتحرِّيه قبلَ أوانه، وهي من مقتضى
(1)
في (م): "من".
(2)
أي: (فيَحُلَّ) بضم الحاء، قرأ بها الكسائي، وباقي السبعة بالكسر. انظر:"التيسير"(ص: 152).
(3)
في هامش (س) و (ف) و (م): "فيه إشارة إلى أن وجوب الغضب كناية عن نزول أثره. منه".
الشَّهوات، فلذلكَ صارَتْ مذمومةُ في عامَّة القرآن، حتى قيل: إنَّ
(1)
العجلة من الشيطان
(2)
.
{عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} ؛ أي: أيُّ شيءٍ عجَّلك
(3)
عنهم.
وذلك أنَّ موسى عليه السلام قد مضى مع النُّقباء إلى الطُّور على الموعد المضروب، فلمَّا دنا منه تقدَّمهم شوقًا إلى مكالمة ربِّه وتنجيز موعده، بناءً على اجتهاده، وظنِّه أنَّه أقرب إلى رضاء الله تعالى، فالقوم الذين
(4)
عجَّل عنهم هم النُّقباء، والمفتونون هم الذين خلَّفهم مع هارون عليه السلام.
وهو سؤالٌ عن سبب العَجَلة عن قومه على سبيل الإنكار؛ لأنها رذيلة في نفسها مقتضيةٌ لإهمال القوم، وإيهامِ التَّعظُّم عليهم، فلذلك أجاب عن الأمرَيْن، وقدَّم جواب الأمر الثَّاني الذي هو إغفال القوم بما فيه بسطُ العذر وتمهيدُ العلَّة؛ لأنَّه أهمُّ.
هذا ما قالوا، وعندي: أن تعدية (أعجل) بـ (عن) لتضمين معنى الانقطاع والانفصال، كأنَّه قيل: ما الحامل على انفصالك عن
(5)
قومك مستعجلًا؟
فكان أصل السُّؤال في المعنى عن الانفصال عن قومه، وإن كان في اللَّفظ عن العجلة، فقدَّم جوابه اعتبارًا للمعنى، كما هو الأصل.
* * *
(84) - {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} .
(1)
"إن" سقط من (س).
(2)
في (م): "حتى قيل العجلة من عمل الشيطان".
(3)
في (ف): "أعجلك".
(4)
في (ف) و (ك): "الذي".
(5)
في (م): "من".
{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} ، أي: على خلفي، ما تقدَّمتُهم إلَّا بخطًى يسيرة لا يُعتدُّ بها عادةً. وقرئ بالكسر وبالضَّم
(1)
، والأُثْر بالضَّم بمعنى الأثر غريب، وبمعنى فِرِند السيف مرويٌّ، وجاز أن يكون مجازًا عنه
(2)
.
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} فإنَّ المسارعة إلى امتثال الأمر تستوجب الرِّضا، يعني: إنَّ العجلة وإن كانت مذمومةً، فالذي دعاني إليها - وهو طلب الرِّضا منك - محمودٌ.
* * *
(85) - {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} .
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا} : ابتلينا {قَوْمَكَ} ؛ يعني: بعبادة العجل.
{مِنْ بَعْدِكَ} : من بعد خروجك من بينهم، ففي زيادته
(3)
تعيينُ أنَّ المراد من هذا القومِ غيرُ المراد مِنَ الأوَّل، فالفاء
(4)
لترتيب مدخوله على مدلول ما تقدَّم من بيان زيادة حرصه عليه السلام على المناجاة، وكمالِ شوقه للمكالمة مع ربِّه، وما يلزمها من الغفلة عن حال قومه، فكأنَّه قال: لا تتوغَّل فيما كنْتَ فيه، ولا تغفل عمَّا وراءك، فإنَّا قد فتنَّاهم.
{وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} بدعائه إيَّاهم
(5)
إلى عبادة العجل بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى الميقات، وقد مرَّ التَّفصيل في سورة الأعراف.
وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم: السَّامرة، وقيل غيرُ ذلك.
(1)
انظر القراءتين في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 88).
(2)
في (م): "منه".
(3)
في (ف) و (م): "زيادة".
(4)
في (ف): "والفاء".
(5)
في (ف) و (ك): "بدعائهم".
وقرئ: (أضلُّهم)
(1)
؛ أي: أشدُّهم ضلالًا؛ لأنَّه كان ضالًّا مضلًّا.
{فَرَجَعَ مُوسَى} بعدما استوفى الأربعين، وأخذ التَّوراة {إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} عليهم {أَسِفًا}: حزينًا بما فعلوا.
{قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} : وعدهم الله تعالى أن يعطيَهم التَّوراة التي فيها هدًى ونور، ولا وعدَ أحسنُ من ذلك.
{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} ؛ أي: تأخَّر الموعود فطال عليكم الزَّمان؛ يعني: زمانَ مفارقته لهم.
{أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} : يجبَ عليكم {غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ؛ أي: أردتُم أن تفعلوا فعلًا يستوجب الغضب.
{فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} وَعَدوه أن يقيموا على أمرِه وما تركهم عليه من الثَّبات على الإيمان، فأخلفوا موعدَه باتِّخاذ العجل.
* * *
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} : بأنْ مَلَكْنا أمرَنا؛ أي: لو مَلَكْنا
(2)
أمرنا وخُلِّينا وراءنا لَمَا أَخْلَفناه، ولكن غُلِبنا من جهة السَّامري وكيده.
وقرئ: {مَلكنا} بالفتح وبالضَّم
(3)
، والكلُّ في الأصل لغاتٌ مِنْ مَلَكْت الشَّيء.
(1)
حكاه أبو معاذ. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89).
(2)
زاد في (ف) و (ك): "على". والمثبت من (س) و (م)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 82).
(3)
قرأ نافع وعاصم بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمِّها، والباقون بكسرها. انظر:"التيسير"(ص: 153).
{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أثقالًا من حُليِّ القبط، أو
(1)
أراد بالأوزار أنَّها آثام وتَبِعات؛ لأنَّهم قد استعاروها ليلةَ الخروج من مصر لعلَّة
(2)
أنَّ لنا عيدًا غدًا، فقال السَّامريُّ: إنَّما حُبِسَ عليه السلام لشؤم حرمتها؛ لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب، على أنَّ الغنائم لم تكن تحلُّ حينئذ، فأحرقوها، فخبَّأ السَّامريُّ في صفرة النَّار قالَبَ عجلٍ، فانصاغت عجلًا.
{فَقَذَفْنَاهَا} في نار السَّامريِّ الذي أوقدها في الحفرة وأمرهم أن يطرحوا فيها الحليَّ.
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ؛ أي: ما معه من الحليِّ في النَّار، أو ما معه من التُّراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام، ويعضد هذا العدول عن القذف المعتَبرِ في مفهومه
(3)
صلابةُ المرميِّ والبعدُ، والكاف تتعلَّق بـ {أَلْقَى}؛ أي: مثلَ ما قذفناها ألقى السَّامريُّ، فهو صفة مصدرٍ محذوفٍ، تقديره: ألقى إلقاءً مثلَ إلقائنا.
* * *
(88) - {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} .
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ} السَّامريُّ من الحفرة {عِجْلًا} خلقَه اللهُ تعالى من الحليِّ التي سَبكَتْها النَّار ابتلاءً.
لا يُقال: لِمَ خلقَ اللهُ تعالى العجلَ من الحليِّ حتَّى صارَ فتنةً لبني إسرائيل
(1)
في (ك): "و".
(2)
في (ف): "بعلة".
(3)
في (ف): "مفهوم".
وضلالًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى تعبَّدنا بالبحث عن علل أحكامه، لا عن علل أفعاله، وحتَّمَ
(1)
ذلك بقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23].
{جَسَدًا} بدل من {عِجْلًا} للتَّنبيه
(2)
على أنَّه لم يكن ذا روح، ولذلك وصفه بقوله:
{لَهُ خُوَارٌ} : صوت العجل، فإنَّه لو كان ذا روح لكان الخوار من شأنه، فلا يُجدي توصيفه به، كما لا يجدي توصيفُ الإنسان بالضَّاحك.
{فَقَالُوا} ؛ أي: السَّامريُّ ومَن تابعه وافتُتن به أوَّلَ مرَّة.
{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} ، أي: فنسيَه موسى هنا، وذهب يطلبه عند الطُّور، أو فنسي السَّامريُّ، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان الظَّاهر.
* * *
(89) - {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .
{أَفَلَا يَرَوْنَ} : أفلا يعلمون {أَلَّا يَرْجِعُ} ، أي: أنه لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلًا} فـ {أَن} مخفَّفة من الثَّقيلة، وقرئ بالنَّصب
(3)
على أنَّها النَّاصبة للفعل، وفعل الرُّؤية حينئذ من رؤية البصر على المبالغة في ظهور ما ذكر بتنزيله منزلةَ البصر.
{وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} ؛ أي: لا يقدر على إضرارهم ولا على إنفاعهم.
* * *
(1)
في (ك) و (م) و (ف): "وضم"، والمثبت من (س)، وانظر:"حاشية الطيبي على الكشاف"(10/ 227).
(2)
"للتنبيه" من (م) و (س).
(3)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89).
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} : مِن قبلِ رجوعِ موسى عليه السلام. وقيل: مِن قبلِ قولِ السَّامريِّ؛ كأنَّهم أوَّلَ ما وقعَتْ عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتُتنوا به، فبادرهم هارون بالتَّحذير قبلَ أنْ ينطقَ السَّامريُّ، فقال:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} بالعجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} لا غير {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} في الثَّبات على الدِّين الحقَ.
* * *
(91) - {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} .
ويأباه: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ} : على العجل وعبادته {عَاكِفِينَ} : مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} ، فإنَّ الظَّاهر من هذا الجواب أن يكون المراد: من قبل رجوعه عليه السلام.
* * *
(92) - {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} .
{قَالَ يَاهَارُونُ} ؛ أي: قال له موسى عليه السلام لَمَّا رجَعَ.
{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} بعبادة العجل.
* * *
(93) - {أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} .
{أَلَّا تَتَّبِعَنِ} : أن تتبعني
(1)
في الغضب لله، وشدَّة الزَّجر عن الكفر والمعاصي،
(1)
في (م): "أي: تتبعن"، وفي (ك):"أي: تتبعني". والمثبت موافق لما في "الكشاف"(3/ 83)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 37)، والمراد أن (لا) مزيدة كما صرح الزمخشري، وسيأتي.
والمقاتلة
(1)
مع مَن كفرَ بمَن آمنَ، أو أن
(2)
تلحقَ بي مع مَن أطاعَك.
و (لا) مزيدة، كما في قوله:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12].
ويجوز أن يكون المعنى
(3)
: ما صرفك إلى أن لا تتبعن؟ أي: دعاك إليه.
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بالصَّلابة في الدِّين والمحاماة عليه
(4)
.
ثم أخذ بشعر
(5)
رأسه بيمينه ولحيته بشماله؛ غضباً وإنكاراً عليه؛ لأنَّ الغَيرة في الله تعالى ملكَتْه.
* * *
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ} كان أخاه لأبيه وأمِّه عند الجمهور، ولكنه ذكرَ الأمَّ استعظاماً وترقيقاً.
{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} ؛ أي: بشَعرهما.
ثمَّ ذَكَرَ عُذْرَه، ولَمَّا كان النَّهي المذكور متضمِّناً لدعوى عدم العصيان والاستحقاق بموجبه، أوردَ العذر في صورة التَّعليل فقال:
(1)
في (فس) و (ف) و (م): "والمقابلة". والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في المصدرين السابقين.
(2)
في (ك) و (م): "وأن". وفي "الكشاف": (وما لك لم تلحقني؟).
(3)
"المعنى" زيادة من (س).
(4)
في (م) زيادة: "عامة".
(5)
في (م): "شعر".
{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} لو قاتلْتُ أو فارقْتُ
(1)
بعضَهم ببعض.
{وَلَمْ تَرْقُبْ} : ولم تحفظ {قَوْلِي} : {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]؛ لأنَّ الإصلاح كان في حفظ الدَّهماء والمداراة بهم إلى أن ترجع إليهم فتَدارَكَ
(2)
الأمرَ برأيك.
* * *
(95) - {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} .
ثم أقبل على السَّامريِّ و {قَالَ} له منكراً عليه: {فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ}
(3)
: سؤالَ القصَّة، فلذلك أجابَ ببيانها، ولو كان السُّؤال عن مطلوبه
(4)
لَمَا انتظم الجواب.
والفاء لترتيب مدخوله على مدلول ما تقدَّم من ظهور أنَّ غرض هارون عليه السلام ممَّا فعله كان إصلاحاً، فكأنَّه قال: عُلِمَ خَطْبُ هذا، فمَا خَطْبُكَ؟
* * *
(1)
في (ك): "فرقت"، والمثبت من باقي النسخ و"البيضاوي".
(2)
في (م): "فتدرك"، وفي (س) و (ف):"فتدورك"، والمثبت من (ك) والبيضاوي، وهو مضارع منصوب حذفت إحدى تاءيه، وأصله:(فتتدارك). انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 222).
(3)
"يا سامري": في (م) جاءت قبل قوله: "قال بصرت بما لم".
(4)
أي: مطلوب السامري، أي: ما طلبُك له؟ كما قدره الزمخشري، وكذا البيضاوي وزاد: وما الذي حَمَلك عليه؟ وكلام المؤلف رد عليهما. انظر: "الكشاف"(3/ 84)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 37)، والمراد أن (لا) مزيدة كما صرح الزمخشري، وسيأتي.
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} قرئ بالتَّاء على الخطاب
(1)
؛ أي: علمتُ ما لم يعلموه، وهو أنَّ الرَّسول الذي جاءك روحاني محضٌ، لا يَمَسُّ أثرُه شيئاً إلَّا أحياه.
أو: رأيْتُ ما لم يروه، وهو أنَّ جبريل عليه السلام جاءَكَ على فرسِ الحياة.
قيل: إنَّما عرفَه لأنَّ أمَّه ألقته حين ولدته خوفاً من فرعون، وكان جبريل عليه السلام يَغْذوه حتى يستقلَّ، وكان يرى منه ذلك.
{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} : من تربة موطئه، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه:(من أثرِ فرسِ الرَّسولِ)
(2)
، ولعله سمَّاه الرَّسولَ
(3)
لأنَّه لم يعرف أنَّه جبريل، أو أرادَ أنْ ينبِّه على الوقت، وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطُّور.
والقَبضةُ: المرَّة من القبض، وأُطْلِقَ على المقبوض، وقرئ:(قُبضةً) بالضَّم
(4)
، وهي اسم المقبوض. وقرئ:(قبصة) بالصاد المهملة
(5)
.
والأول: الأخذ بجميع الكف، والثاني: الأخذ بأطراف الأصابع.
{فَنَبَذْتُهَا} في الحليِّ المذابة، أو في جوف العجل، فظهر فيه أثر الحياة.
والنَّبْذُ: طرحُ الشَّيء عن اليد خاصَّة.
(1)
أي: {تَبْصُروا} . قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 153).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89).
(3)
"ولعله سماه الرسول" زيادة من (م) و (س).
(4)
نسبت للحسن. انظر: "الكشاف"(3/ 84).
(5)
(قُبصة) بالضم، نسبت للحسن وقتادة ونصر بن عاصم، و (قَبصة) نسبت للحسن أيضاً وجماعة. ومن قرأها بالصاد قرأ ما قبلها كذلك؛ أي:(فقبصت). انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89)، و"الكشاف"(3/ 84).
{وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ} : زيَّنَتْ {لِي نَفْسِي} أن أفعله ففعلتُه اتِّباعاً لهوايَ، وهو اعتراف منه بالخطأ.
* * *
{قَالَ} له موسى: {فَاذْهَبْ} من بيننا طريداً {فَإِنَّ لَكَ} عقوبةً على فعلك {فِي الْحَيَاةِ} ما عشت {أَنْ تَقُولَ} لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك: {لَا مِسَاسَ} ؛ أي: لا يمسُّني أحدٌ ولا أمسُّه.
وذلك أنَّه مُنِعَ من مخالطة النَّاس منعاً كليًّا، وحُرِّمَ عليهم ملاقاته ومكالمته وكلُّ ما يعاوِن به النَّاسُ بعضَهم بعضاً، وإذا ماسَّ أحداً حُمَّ الماسُّ والممسوسُ، فتحامَى النَّاسَ وتحامَوه، وكان يصيح: لا مِساس، وعاد في النَّاس أوحشَ من الوحش النَّافر.
وقرئ: (لا مَسَاسِ) كفَجار
(1)
، وهو علمٌ للْمَسَّةِ.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} في الآخرة {لَنْ تُخْلَفَهُ} : لن يخلِف الله موعده، ينجزه لك في الآخرة بعدَما عاقبك بذلك في الدُّنيا.
وقرئ: {ولن تُخْلِفَه} بكسر اللَّام
(2)
، من أخلفْتُ الموعدَ: إذا وجدْتَه خُلْفاً.
وقرئ بالنُّون
(3)
على حكاية قول الله تعالى.
{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ} أصله: ظَلِلْتَ، فحذفت اللَّام الأولى تخفيفاً.
(1)
انظر: "المحتسب"(2/ 56)، و"الكشاف"(3/ 84)، و"المحرر الوجيز"(4/ 61).
(2)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لَنْ تُخْلَفَهُ} بكسر اللام، والباقون بفتحها. انظر:"التيسير"(ص: 153).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "المحتسب"(2/ 57)، و"المحرر الوجيز"(4/ 62).
{عَلَيْهِ} ، أي: على عبادته {عَاكِفًا} : مقيماً.
{لَنُحَرِّقَنَّهُ} بالنَّار، دل عليه قراءة:{لَنُحَرِّقَنَّهُ} من الإحراق
(1)
، وقرئ بالتَّخفيف
(2)
؛ أي: لنَبْرُدنَّه بالمِبرد، وهو طريق حريقه بالنَّار، فإنَّها لا تعمل في الذَّهب بالتَّفريق إلَّا بهذا الطَّريق.
{ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} : لنُذرِّيَنَّه رماداً، من نسفَ الطَّعام: إذا ذرَّاه
(3)
لتطير منه قشوره.
{فِي الْيَمِّ نَسْفًا} فلا يُصادَفُ منه شيءٌ. والمقصودُ: إظهار غباوة
(4)
المفتونين به.
* * *
(98) - {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ} المستحِقُّ لعبادتكم.
{اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا أحدَ يماثله أو يدانيه في خواصِّ الألوهيِّة.
{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وسعَ علمُه كلَّ ما من شأنه أن يُعلَم.
وقرئ بالتَّشديد
(5)
، فصار {عِلْمًا} أحدَ مفعوليه، وذلك أن {وَسِعَ} يتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ، وهو {كُلَّ شَيْءٍ} ، و {عِلْمًا} نصب على التَّمييز، فهو في المعنى فاعل، فلمَّا ثُقِّلَ نقل إلى التَّعدية إليه، فصار ما كان فاعلاً مفعولاً.
(1)
وهي قراءة أبي جعفر. انظر: "النشر"(2/ 322).
(2)
أي: (لنَحْرُقَنَّه) بفتح النون وضم الراء. وهي رواية عن أبي جعفر. انظر: "تفسير الطبري"(16/ 155)، و"النشر"(2/ 322).
(3)
في (م): "أذراه".
(4)
في (م): "عبادة".
(5)
أي: (وسَّع) بفتح السين مشددة، نسبت لمجاهد. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89).
(99) - {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} .
{كَذَلِكَ} مثلَ ذلك الاقتصاصِ العجيب؛ أي: اقتصاصِ قصَّة موسى وفرعونَ والسَّامريِّ، والكافُ في محل النَّصب على المصدر.
{نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} : من الأمم السَّالفة وأحوالهم.
والنَّبأُ: الخبر العجيب الشَّأن، تكثيراً للمعجزات، وتذكيراً للمستبصِرين.
{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} : كتاباً مشتملاً على هذه القصص والأخبار، حقيقاً بالتَّفكُّر والاعتبار، والتَّنكير فيه للتَّعظيم، وتقديم {مِنْ لَدُنَّا} للتَّخصيص؛ أي: ذكراً لا يمكن أنْ يُؤتَى إلَّا من عندنا، وهو مقوٍّ
(1)
للتَّعظيم.
وقيل: ذكراً جميلاً وصِيتاً جليلاً من بين النَّاس، ولا يساعدُه قولُه:
* * *
(100) - {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} .
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن هذا الذِّكْرِ، الذي هو القرآن الجامع لوجوه السَّعادة.
{فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} : عقوبة ثقيلة، شبَّه العقوبة الثَّقيلة على المعاقَب بالحمل الفادح
(2)
للحامل؛ لصعوبة احتمالها، وكونها تَنقُض ظهره، أو سمِّيَ جزاءُ الوزر - وهو الإثم - وزراً.
* * *
(101) - {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} .
(1)
في (س): "معد".
(2)
في (ف) و (م) و (س): "القادح".
{خَالِدِينَ} حال من الضَّمير في {يَحْمِلُ} ، وإنَّما جُمِعَ حَملاً على المعنى، ووُحِّد في {فَإِنَّهُ} حَملاً على لفظ {مَنْ} .
{فِيهِ} في الوزر، أو في حمله.
{وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} {سَاءَ} في حكم (بئس)، وفيه ضمير مُبْهَم يفسِّره {حِمْلًا} ، وهو تمييز، واللَّام في {لَهُمْ} للبيان، كما في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ لدلالة الوزر السَّابق عليه، تقديره: وساء حملاً وزرُهم.
* * *
(102) - {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} .
{يَوْمَ يُنْفَخُ} قرئ بالنُّون
(1)
على إسناد النفخ إلى الآمر تعظيماً له، أو للنَّافخ، وقرئ بالياء المفتوحة
(2)
على أنَّ فيه ضميرَ الله تعالى، أو ضميرَ إسرافيل عليه السلام وإنْ لم يجرِ ذكرُه؛ لأنَّه المشهور بذلك.
{فِي الصُّورِ} وقرئ: (في الصُّوَر)
(3)
، وقد سبقَ بيانُ ذلك
(4)
.
{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} ؛ أي: عُمياً، كما قال:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 97]، وهذا لأن حدقة مَن يذهب نورُ بصره تزرَقُّ.
وقيل: ازرقَّتْ عيونهم من شدَّة العطش.
(1)
أي: {نَنْفخ} وهي قراءة أبي عمرو، وباقي السبعة بالياء المضمومة. انظر:"التيسير"(ص: 153).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 87)، و"المحرر الوجيز"(4/ 63)، و"البحر المحيط"(15/ 137).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "المحتسب"(2/ 59)، و"المحرر الوجيز"(4/ 63)، و"البحر المحيط"(15/ 137).
(4)
لم أجده فيما تقدم.
وقيل: أي: تُشوَّه خلقتهم
(1)
فتسودُّ وجوهُهم وتزرقُّ عيونُهم.
* * *
(103) - {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} .
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} : يخفضون أصواتهم لِمَا يملأ صدورهم من الرُّعب والهول، والخفْتُ: خفضُ الصَّوت وإخفاؤه.
{إِنْ لَبِثْتُمْ} ؛ أي: في الدُّنيا {إِلَّا عَشْرًا} لا حاجةَ إلى التَّأويل في {عَشْرًا} ؛ لما نُقِلَ عن أئمَّة النَّحو أنَّه إذا كان المعدود مذكَّراً وحذفْتَه فلك فيه وجهان.
يستقصرون مدَّة لبثهم فيها: إمَّا لتقضِّيها؛ لأنَّ المتقضِّيَ
(2)
وإنْ طالَ قَصُرَ بالانتهاء، وإمَّا لاستطالتهم مدَّة الآخرة، فإنَّ الأبد السَّرمد تُستقصَر مدَّة الدُّنيا ويُستحقر لبث أهلها فيها بالنسبة إليه، ولهذا استَرجَحَ [الله] قول مَن هو أشدُّ تقالًّا
(3)
واستحقاراً منهم
(4)
.
وقيل: في القبر؛ لقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55].
* * *
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} وهو مُدَّة لبثهم.
{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} : أفضلهم {طَرِيقَةً} : سيرة، أو: أسدهم رأياً.
{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} وجهُ رجحانه: أنَّه أبلغ في الطَّريقة المذكورة آنفاً.
(1)
في (ف): "خلقهم".
(2)
في (ف) و (م): "المقتضى"، وفي (س):"المنقضي".
(3)
في (م): "تقاولاً"، وكذا تصحفت في مطبوع "الكشاف"(3/ 87).
(4)
في (س): "منهم".
(105) - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} .
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} ؛ أي: عن مآل أمرِها، وقد سأل عنه رجلٌ من ثقيف بعد النُّزول
(1)
.
{فَقُلْ} ذكر هنا الفاء في الجواب، ولم يذكر في سائر السُّؤالات:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، {عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، و {عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، و {عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} [الأعراف: 187]، و {عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} [الإسراء: 85]، و {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو} [الكهف: 83]؛ لأنَّ الجواب فيها عن السُّؤالات الواقعة قبل النُّزول، وهنا عن سؤالٍ علمَ اللهُ تعالى وقوعَه وأخبر عنه ولم يقع بعدُ، ولذلك أجاب بالفاء الفصيحة، فكان المعنى: إذا سألوك فقل.
{يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} قال الخليل: يقلعها
(2)
.
* * *
(106) - {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} .
{فَيَذَرُهَا} : فيتركها، والضَّمير للأرض للعِلْم بها، كقوله:{مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} [فاطر: 45]، ولو كان المعنى كما قالوا: يجعلها كالرَّمل ثم يرسل الرِّياح عليها فتفرِّقها وتذريها كما تذري الحبَّ؛ لكانَ حقُّ {فَيَذَرُهَا} أن يصدَّر بالواو الفصيحة.
(1)
كذا ذكر، والمروي في هذا أن السؤال مان سببا للنزول لا بعد النزول. انظر:"التفسير الوسيط" للواحدي (34/ 221)، و"تفسير البغوي"(5/ 294).
(2)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 383)، وكذا فسرها الفراء في "معاني القرآن"(2/ 191)، وغلام ثعلب في "ياقوتة الصراط" (ص: 350) وغيرهم.
{قَاعًا صَفْصَفًا} القَاعُ: الأرضُ المستوية
(1)
، والصَّفصفُ: الأرضُ الملساء.
* * *
(107) - {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} .
فقوله: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} مؤكِّد للأوَّل، وقوله:{وَلَا أَمْتًا} مؤكِّد للثَّاني؛ فإنَّ الأَمْتَ: النُّتوءُ اليسير.
ولا اختصاص للعِوج - بالكَسْر - بالمعاني؛ قال ابن السِّكِّيت
(2)
: وكل ما ينتصب كالحائط والعود قيل: عَوَج بالفتح، والعِوَج بالكسر: ما كان في أرضٍ أو دِيْنٍ أو مَعاش
(3)
.
* * *
{يَوْمَئِذٍ} ظرف لـ {يَتَّبِعُونَ} مضاف إلى وقت النَّسْفِ؛ أي: يوم إذ نُسِفَتْ، أو بدل ثانٍ من يوم القيامة.
{يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} : داعي الله تعالى إلى المحشر.
وقيل: هو إسرافيل عليه السلام يدعو النَّاس قائماً على صخرةِ بيت المقدس، فيُقْبِلُون مِن كُلِّ أَوْبٍ إلى صوته.
{لَا عِوَجَ لَهُ} في مَدعوِّه؛ أي: لا يَعوجُّ له مدعوٌّ ولا يَعدل عنه، بل يستوون إليه من غير انحرافٍ عن سَمْتِ صوته.
(1)
في النسخ: "المستوي" والصواب المثبت. وجاء في هامش (س): "من زعم أن القاع هنا بمعنى الخالي لم يصب، منه".
(2)
في هامش (ف): "في اصطلاح المنطق وبه أخذ الجوهري. منه".
(3)
انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 125).
{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} هيبةً وإجلالاً، والخشوع كالخضوع من صفات النَّفس، إلَّا أنَّ مُظْهِرَ الأوَّل منهما الصَّوت، ومُظْهِرَ الثَّاني العُنُق، فيُسنَد كلٌّ منهما إلى مُظْهِره
(1)
.
{فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} : صوتا خفيًّا، وقيل: هو مِن هَمْسِ الإبل، وهو صوت أخفافها إذا مشت؛ أي: لا تسمع إلَّا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر.
* * *
(109) - {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} .
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} {مَنْ} مرفوع المحلِّ بدل من {الشَّفَاعَةُ} ، على تقدير حذف المضاف؛ أي: لا تنفع الشَّفاعة إلَّا شفاعةُ مَن أذِنَ له الرَّحمن. و {تَنْفَعُ} على هذا من جملة الأفعال التي جُعِلَ مفاعيلها نسياً منسيًّا، وأجريت مجرى الفعل اللَّازم للمبالغة في التَّعميم، كقولهم: فلان يعطي ويمنع.
أو منصوب المحلِّ على المفعوليَّة، والاستثناء مفرَّغ ومعنى {أَذِنَ لَهُ} على هذا: أذِنَ لأجله؛ أي: أذن للشَّافع
(2)
، و {أَذِنَ} يحتمل أن يكون من الإِذْنِ، ومن الأَذَنِ بفتح الهمزة
(3)
.
{وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} ؛ أي: ورضي لمكانه عند الله في الشَّفاعة، أو رضي لأجله قولَ الشَّافع في شأنه، أو قوله لأجله وفي شأنه
(4)
.
(1)
في هامش (س): "يأتي وجه ذلك الإسناد في تفسير قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ".
(2)
في (ك): "للشافعين".
(3)
وفتح الدال بمعنى الاستماع، والمراد به القبول كما في: سمع الله لمن حمده، واللام تعليلية؛ أي: إلا من استمع الرحمن لأجله كلام الشافعين. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 227).
(4)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 39). وجاء في هامش (ف) و (س): "هذا ما ذكره الكواشي بقوله: =
(110) - {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما تقدَّمهم من الأحوال {وَمَا خَلْفَهُمْ} : وما يستقبلونه، أو على العكس.
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} الضَّمير لأَحَدِ الموصولَيْن، أو لمجموعهما.
* * *
(111) - {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} .
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} : ذلَّتْ وخضعَتْ. وخصَّ الوجوه لأنَّ آثار الذُّلِّ إنَّما تظهر أوَّلاً فيها.
وظاهرها يقتضي العموم، ويجوز أن يكون التَّعريف باللَّام بدلاً عن التَّعريف بالإضافة، على أنَّ المُرَادَ: وجوه المجرمين، ويؤيِّدُه:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} يحتمل الحال، والاستئناف لبيان ما لأجله عَنَتْ وجوهُهم، والاعتراضَ ولا يأباه كونه في مقابَلة قوله:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ؛ لأنَّ التَّقابل المعنوي كافٍ، فإن الاعتراضَ كالاستئناف لا يتقاعد عن الحال.
* * *
(112) - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} .
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} : بعضَ الطَّاعات {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذِ الإيمانُ شرطُ قَبولها.
{فَلَا يَخَافُ} ، وقرئ:{فَلَا يَخَافُ} على النَّهي
(1)
.
= {وَرَضِيَ لَهُ} ؛ أي: للمشفوع فيه {قَوْلًا} بأن قال: لا إله إلا الله. منه".
(1)
قرأ به ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 153).
{ظُلْمًا} : مَنع ثوابٍ يُستَحَقُّ بالوعد، والظلم أن يؤخَذ من صاحبه فوقَ حدِّه.
{وَلَا هَضْمًا} : ولا كسراً منه بنقصانٍ.
أو: جزاءَ ظلم. وهَضْمٍ؛ لأنَّه لم يظلم غيرَه ولم يَهضم حقَّه.
* * *
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا} عطف على {كَذَلِكَ نَقُصُّ} ؛ أي: مثلَ ذلك الإنزال من أنباء الأوَّلين، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمِّنة للوعيد إنزالاً عظيماً أنزلنا القرآن كلَّه.
{عَرَبِيًّا} : بلسان العرب.
{وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} : كرَّرنا القولَ فيه من أنواع الوعيد صارفينَ له من نوعٍ إلى آخر.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكي يتَّقوا المعاصي، فتصيرَ التَّقوى لهم مَلَكَةً.
{أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} عِظَةً واعتباراً، أسندَ التَّقوى إليهم، وإحداثَ التَّذكُّر والاتِّعاظ إلى القرآن مع كلمة التَّرجي بعد ذكر تصريف الوعيد في القرآن؛ لأنَّ التِّكرار يفيد مَلَكة التَّقوى لهم غالباً، فيكونون في صورة المرجوِّ المترجِّح فيه عادة التَّقوى، وإلَّا فلا أقلَّ من إحداث العِظة فيهم حينَ سماعه فيتثبَّطون عنها
(1)
.
* * *
(1)
أي: عن المعاصي. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 229).
{فَتَعَالَى اللَّهُ} : ارتفعَ عن فنون الظُّنون وأوهام الأفهام، وتنزَّه عن مضاهاة الأنام ومشابهة الأجسام، فلا يُماثلُ كلامُه كلامَهم، كما لا تماثلُ ذاتُه ذواتِهم؛ استعظامٌ له تعالى ولمَا نزَّل وصرَّف على عباده من الوعيد
(1)
.
{الْمَلِكُ} : النَّافذ أمرُه ونهيُه، الحقيقُ بأن يُترجَّى وعدُه ويُخشى وعيدُه.
{الْحَقُّ} : العدلُ في حكمِه وملكوته، أو المستحِقُّ للملك بذاته، أو الثَّابت
(2)
في ذاته وصفاته.
ولَمَّا ذَكَرَ القرآنَ وإنزالَه قال استطراداً:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} نهيٌ عن الاستعجال في تلقِّي الوحي؛ أي: تأنَّ فيه ريثما يُسمعُكَ جبريلُ عليه السلام ويُفْهِمُكَ، ثم ابدأ بالتَّحفُّظ؛ لقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
وقيل: لا تبلِّغ ما كان مجمَلاً حتى يأتيك بيانُه.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} : واسأل الله تعالى زيادةَ العلم بدلَ الاستعجال، فإنَّ ما أُوْحِيَ إليك تنالُه لا محالةَ.
* * *
(115) - {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} .
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} يقال: عزمَ عليه وعهدَ إليه: إذا أمرَه وأوحى إليه، عطفَ
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 90).
(2)
في (ف) و (ك): "والمستحق
…
والثابت".
قصَّة آدم عليه السلام على قوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} ؛ للدِّلالة على أنَّ أساس أمر بني آدم على العصيان، وعِرْقُهم راسخٌ في
(1)
النِّسيانِ، فلهم مزيدُ حاجة إلى تكرار الوعيد وصرفه، واللَّام جوابُ قسمٍ محذوفٍ.
{مِنْ قَبْلُ} : من قبلِ هذا الزَّمان.
{فَنَسِيَ} العهدَ، ولم يفِ به، حتى غفل عنه واغترَّ بقول الشَّيطان، أو: تركَ ما وصَّى به إليه من الاحتراز عن الشَّجرة.
وقرئ: (فَنُسِّيَ) مشدداً مبنياً للمفعول
(2)
؛ أي: نسَّاه الشَّيطان.
{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} : تصميمَ
(3)
رأيٍ وثباتاً على ما عُهِدَ إليه؛ إذ لو كان ذا عزيمةٍ وجِدٍّ لم يقبل وسوسةَ الشَّيطان ولم يغترَّ بقوله، والوجود إن كان بمعنى العلم فمفعولاه {لَهُ عَزْمًا} ، وإن كان بمعنى المصادفة (فعزماً) مفعوله، و {لَهُ} متعلِّق به، أو حال.
* * *
(116) - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} .
{وَإِذْ قُلْنَا} ؛ أي: اذكر وقتَ قولنا {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وإباءَ إبليس، وتحذيرَنا إيَّاه من كيده، حتى يتبيَّنَ لك أنَّه نسيَ ولم يكن ذا عزيمةٍ وثباتٍ، ومن هنا تبيَّنَ أنَّ ما قيل: إنَّ المعنى: ولم نجد له عزماً على الذَّنب لأنَّه أخطأ ولم يتعمَّد؛ لا يناسب مساقَ الكلام.
(1)
"في" سقط من (ف).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 89).
(3)
في (ف) و (م): "تعميم".
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} قد سبقَ القولُ فيه.
{أَبَى} جملة مستأنفة على تقدير سؤالِ سائلٍ، كأنَّه قيل: لِمَ لَمْ يسجدْ؟ فقيل: أبى؛ أي: أظهر الإباءَ وتثبَّط، ويرشدك إلى هذا ما في سورة (ص) من قوله:{اسْتَكْبَرُوا} [ص: 74] بدل {أَبَى} .
* * *
{فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} أعادَ الجارَّ للدِّلالة على أنَّ عداوته لها أيضاً أصالةً، لا تبعاً لزوجها.
{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} نهيٌ عن كونهما بحيث يؤثِّر فيهما وسوسة الشَّيطان ويتسبَّب لإخراجهما، فهو مبالغة في النَّهي عن قَبولها، مع الإشعار بعلَّة النَّهي.
{فَتَشْقَى} أفرده بإسناد الشَّقاء إليه بعد إشراكهما
(1)
في الخروج اكتفاءً لاستلزام شقائه شقاءَها؛ لأنَّه القيِّم عليها، والمحافظ لها، مع الإيجاز والمراعاة مع الفاصلة.
ويجوز أن يكون المراد بالشَّقاء: التَّعبُ في طلب المعاش، وذلك وظيفةُ الرَّجل وحدَه، ويعضده قوله:
(118 - 119) - {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} .
{إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وَإنَّكَ لا تظمأ فيها ولا تضحى} فإنَّه بيانٌ وتذكيرٌ لِمَا له في الجنَّة من أسباب الكفاية وأقطاب الكَفَاف التي هي الشِّبَع والرَّي والكِسْوة والكِنُّ، مستغنياً عن اكتسابها والسَّعي في تحصيل
(1)
في (س) و (ف) و (ك): "اشتراكهما".
أعواضِ ما عسى ينقطع ويزول بِذِكْرِ
(1)
نقائِضِها، ليطرُقَ سمعَه بأصناف الشِّقوَة المحذَّرِ منها
(2)
.
وإنَّما عدلَ عن الأصل المألوف في الذِّكرِ - أي: المنزَّل - تنبيهاً على أنَّ الأوَّلَيْن أصلان، وأنَّ الأخيرَيْن متمِّمان على التَّرتيب
(3)
، فالامتنان على هذا الوجه أظهر، ولهذا فرَّقَ بين القرينَيْن
(4)
، فقيل أوَّلاً:{إِنَّ لَكَ} ، وثانياً:{إِنَّكَ} .
وقرئ {وَأَنَّكَ} بالفتح
(5)
، عطفاً على {أَلَّا تَجُوعَ} وإنْ لم يجز دخول (إنَّ) على (أنَّ)؛ لأنَّ الواو ليس حكمها حكم (إنَّ)؛ لأنها نائبة عن كلِّ عامل، لا عن
(6)
خصوص (إنَّ) لتعلَّل بامتناع توارد حرفين يعملان عملاً واحداً، وكذلك لم توضع للتَّحقيق خاصَّة لتعلَّل بامتناع اجتماع حرفَيْن لمعنًى
(7)
واحدٍ، على أنَّها وإنْ كانت نائبة إلَّا أنَّها ليست في قوَّة المنوب عنه، فلذلك عُومِل معها ما لا يعامَل معه، كقولك: ليس زيدٌ قائماً ولا قاعداً، ولا يجوز أن تقول: ليس لا قاعداً.
* * *
(1)
"بذكر" متعلق بـ "بيان وتذكير" على التنازع. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 231).
(2)
في (ف) و (م): "المحذر عنها"، وفي (ك):"المحذور عنها"، والمثبت من (س).
(3)
في هامش (س): "يعني: أن الريَّ متمم للشبع، والكنّ متمم للكسوة".
(4)
في (ف): "القرينتين".
(5)
قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها. انظر: "التيسير"(ص: 153).
(6)
في (م): "لأن".
(7)
في (ف): "لمعين".
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} ؛ أي: فوسوسَ مُنْهياً إليه وسوسته
(1)
.
{قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أضافها إلى {الْخُلْدِ} وهو الخلود، موهماً أنَّ كلَّ مَن أكلَ منها خُلِّدَ، فهو سببُ الخلود بزعمه.
{وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} : لا يَخلَقُ ولا يضعفُ.
* * *
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قد سبقَ القولُ فيه.
{وَعَصَى} العصيانُ: وقوعُ الفعل أو التَّركِ على خلاف الأمر أو النَّهي، وقد يكون عمداً فيكون ذنباً، وقد يكون خطأً فيكون زلَّةً.
{آدَمُ رَبَّهُ} بعدم الانتهاء بالنَّهي.
{فَغَوَى} عن الرُّشْد، حيث اغترَّ بقولِ العدوِّ، أو عن المطلوب وهو الخلد والملكُ الباقي، وفي النَّعي عليه بالغيِّ مع صِغَرِ زلَّته تعظيمٌ لها، وتشديدٌ عليه في العِتاب وتغليظٌ؛ لعلوِّ مرتبته وعدم مناسبة الزَّلَّة لمقامه، وزجرٌ بليغٌ، وموعظةٌ كافَّة لأولاده.
* * *
(122) - {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} .
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} : اصطفاه بالتَّوفيق للتَّوبة والقَبولِ بعدَها والتَّقريب، من جُبِيَ
(1)
في (ف) و (م): "وسوسة".
إليَّ كذا فاجتبيْتُه، ونحوه: جُلِيَتْ عليَّ العروسُ فاجتليتُها
(1)
، فأصلُ الكلمةِ الجمعُ.
{فَتَابَ عَلَيْهِ} : فقبِلَ توبتَه لَمَّا تابَ {وَهَدَى} إلى الثَّباتِ على التَّوبةِ.
* * *
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} الخطاب لآدم وحوَّاء، لا له ولإبليس لأنَّه قد خرج منها قبلَ هذا؛ لقوله تعالى:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34].
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قد سبقَ القولُ فيه.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} : من الكتاب والرَّسول.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} في الآخرة.
* * *
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} عن الهدى الذَّاكر لي.
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} : ضيقاً، مصدر وُصِفَ به، ولذلك يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث.
وقرئ: (ضَنْكَى) كسَكْرَى
(2)
.
(1)
في (ف) و (ك): "جبيت عليَّ العروس فاجتبيتها". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 94)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 41)، و"تفسير أبي السعود"(6/ 47).
(2)
بألف التأنيث وبلا تنوين وبالإمالة. نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 90)، و"البحر المحيط"(15/ 159).
وذلك أنَّ المُعْرِضَ عن ذِكْرِهِ حريصٌ على الدُّنيا متهالكٌ عليها، لا يزال همُّه مصروفاً إلى الازدياد منها يجمع ويمنع، وعلى
(1)
ما في أيدي النَّاس فيطمع، ويغلب عليه الشُّحُّ فيضيق عيشه، بخلاف الذَّاكر المتوجِّه إليه، التَّابع للهدى، المتوكِّل عليه في أمره، فإنَّه يعلم أنَّ رزقَه على الله، فيسمح بما في يده وينفق، فيعيش عيشاً رافعاً
(2)
، كما قال الله تعالى:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، على أنه تعالى قد يضيِّق بشؤم الكفر ويوسِّع ببركة الإيمان، كما قال:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61]، وقال:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
{وَنَحْشُرُهُ} وقرئ بالجزم
(3)
عطفاً على محلِّ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} ؛ فإنَّه جوابٌ للشَّرط.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} عن ابن عباس رضي الله عنهما: أعمى البصر
(4)
، وهو كقوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 97]، وهو الوجه المناسب للسُّؤال.
* * *
(125) - {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} .
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} في الدُّنيا.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "ويطمع على" والمثبت من (س).
(2)
في (ك): "رافغاً".
(3)
نسبت لأبان بن تغلب. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 90).
(4)
انظر: "زاد المسير"(22/ 332)، و"تفسير النسفي"(2/ 388). والطبري روى تفسير العمى بعمى البصر عن مجاهد في "تفسيره"(16/ 201).
(126) - {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .
{قَالَ كَذَلِكَ} ؛ أي: ذلك فعلْتَ أنت، والكاف مقحم إقحاماً كاللَّازم لا يكادون يتركونه في لغة العرب وغيرهم
(1)
، ثمَّ فسَّره فقال:
{أَتَتْكَ آيَاتُنَا} واضحةً نيِّرةً {فَنَسِيتَهَا} : فعميْتَ عنها وتركتَها غيرَ منظورة.
{وَكَذَلِكَ} : مثلَ تركِكَ إيَّاها {الْيَوْمَ تُنْسَى} : تُتْرَك في العمى والعذاب.
* * *
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشَّهوات والإعراض عن الآيات.
{وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} بل كذَّبها وخالفها.
{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} ؛ أي: وللحَشر على العمى الذي لا يزول أبداً أشدُّ من ضيق العيش المنقضي، أو: ولَتَرْكنا إيَّاه في العمى أبداً أشدُّ وأبقى من تركه لآياتنا.
* * *
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ} مسنَدٌ إلى اللهِ، أو الرَّسول، أو ما دلَّ عليه:{كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} ؛ أي: إهلاكُنا إيَّاهم، أو الجملةِ بمضمونها
(2)
.
(1)
في هامش (ف) و (س): "مر تحقيقه في سورة البقرة وتفصيله في شرح سعد الدين للكشاف. منه". قلت: لم يتقدم في البقرة سوى إشارة لإقحام الكاف دون توسع في التحقيق، وذلك عند تفسير قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .
(2)
قوله: "أو الجملة بمضمونها" بالجرّ معطوف على "اللهِ"؛ أي: الفاعلُ هو هذا اللفظ باعتبار دلالته =
والفعلُ على الأوَّلينِ معلَّق يجري مجرى (أعلم)، ويدلُّ عليه القراءة بالنُّون
(1)
.
{يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} كنايةٌ عن مشاهدتهم آثارَ هلاكهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} : لذوي العُقول النَّاهية عن التَّغافل والتَّعامي.
* * *
(129) - {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} .
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} الكلمة السَّابقة بتأخير عذاب
(2)
هذه الأمَّة إلى الآخرة.
{لَكَانَ لِزَامًا} : لكان مثلُ ما نزل بعاد وثمود من عذابنا
(3)
لازماً لهؤلاء الكفرة.
واللِّزامُ إمَّا مصدر وُصِفَ به، وإمَّا فِعال بمعنى مِفْعَل اسم آلة اللَّازم
(4)
، سمِّي به اللَّازم لفرطِ لزومه.
{وَأَجَلٌ مُسَمًّى} عطف على {كَلِمَةٌ} ، أو على المستكِنِّ في (كان)، وهو ضمير ذلك المُشَار به إلى الإهلاك؛ أي: ولولا قضاءٌ سابقٌ ووعدٌ بتأخير عذاب هذه الأمَّة إلى يوم القيامة، أو يوم بدر، وأجلٌ مسمىًّ لأعمارهم لكان
…
إلخ، والفصل للدِّلالة على استقلال كلٍّ منهما بنفي لزوم العذاب.
= على معناه لا بقطع النظر عنه. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 233). وجاء في هامش (ف) و (م) و (س): "أي: أفلم يهد لهم هذا القول، والمراد هدايتهم بمضمونها. منه".
(1)
أي: (نهدِ). انظر: "زاد المسير"(5/ 333)، و"البحر المحيط"(15/ 163).
(2)
"عذاب" من (م) و (س).
(3)
في (م): "عذاب الدنيا".
(4)
في (ك) و (م): "اللزوم"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 42).
أو: ولولا هذه العِدَةُ لكان الأخذ العاجل وأجلٌ مسمًّى لازمَيْن لهم، كما كانا لازِمَيْن لعادٍ وثمودَ، ولم ينفرد الأجل المسمَّى عن الأخذ العاجل.
* * *
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} الفاء للسَّببية، جزاءٌ لشرط مقدَّر؛ أي: إذا لم تعذِّبهم ولم تهلكهم لِمَا ذُكِرَ فاصبر.
{وَسَبِّحْ} تقييد التَّسبيح بالأوقات المخصوصة قرينةٌ لكونه مجازاً بمعنى الصَّلاة، وإلَّا فلا وجهَ للتَّخصيص بها، وقوله:
{بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ؛ أي: وصلِّ وأنتَ حامدٌ
(1)
لربِّك على هدايتِه وتوفيقِه.
{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ؛ أي: الفجر.
{وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ؛ أي: الظُّهر والعصر؛ لأنَّهما في النِّصف الأخير من النَّهار.
{وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} : ومن ساعاته، جمع إِنِّى بالكسر والقصر، وأناءٍ بالفتح والمد.
{فَسَبِّحْ} ؛ أي: المغربَ والعشاءَ وصلاةَ التَّهجد، وإنَّما قدَّمَ الزَّمان فيه لاختصاصه بمزيد الفضل
(2)
؛ لأنَّ الميل فيه إلى الاستراحة أقوى، فكانت العبادة فيه على النَّفسِ أشدُّ وأشقُّ، فكانَ الثَّواب أكثر، ولأنَّ القلب فيه أجمع، والفراغَ إلى الله
(1)
في (م) و (س): "وصل أنت حامداً"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق للمصدر السابق.
(2)
قوله: "وإنما قدّم الزمان فيه .. " يعني تقديمَ قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} على قوله: {فَسَبِّحْ} الذي تعلق به. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 234).
تعالى والخلوة
(1)
به أيسر وأكثر، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6].
{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} : تكريرٌ لصلاتَي الصُّبح والمغرب لمزيَّتهما؛ لكونهما مختلف الملائكة ومجتمعهم.
معناه: تعمَّد آناءَ اللَّيل وأطراف النَّهار مختصًّا لها بصلاتك، وفي جمع الأطراف مجاوبة الآناء مع الأمن من الإلباس.
{لَعَلَّكَ تَرْضَى} ؛ أي: سبِّح في هذه الأوقات طمعاً ورجاءً أن تنالَ عندَ اللهِ ما تَرْضَى به نفسُك. وقرئ بالبناء للمفعول
(2)
؛ أي: يُرْضِيْكَ ربُّك.
* * *
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ؛ أي: نظرَ عينَيْكَ {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} مدُّ النَّظر: تطويلُه مستمرًّا بحيث لا يكاد يُرَدُّ؛ استحساناً للمنظور وتمنِّياً أنْ يكونَ للنَّاظر.
{أَزْوَاجًا} : أصنافاً {مِنْهُمْ} مِنَ الكَفَرَةِ، ويجوز أن يكون حالاً من الضَّمير في {بِهِ} ، والمفعول {مِنْهُمْ}؛ أي: إلى الذي متَّعنا به - وهو أصنافٌ - بعضَهم وناساً منهم
(3)
.
(1)
في (م): "والخلو".
(2)
وهي قراءة الكسائي وشعبة. انظر: "التيسير"(153).
(3)
أي: أنّ (من) تبعيضية وهي مفعول {مَتَّعْنَا} ، فقوله:"وهو أصناف" تفسير للحال، و"بعضَهم" بالنصب هو المفعول، و"ناساً منهم" تفسير له. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 235).
{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزَّهرةُ: الزِّينةُ والبهجة.
وقرئ بفتح الهاء
(1)
، وهي لغة فيها، كالجَهَرة في الجَهْرة، أو جمع زاهر، كالجَهَرَة في جمع جاهر.
نصبٌ على الذَّمِّ، أو على الاختصاص؛ أي: أعني أو أخصُّ، أو على المفعول الثَّاني لِمَا دلَّ عليه {مَتَّعْنَا} ، أو على تضمينه معنى أعطينا.
وأمَّا نصبه على البدل من محلِّ الجار والمجرور؛ أي: {بِهِ} ، أو من {أَزْوَاجًا} ، على تقدير مضاف؛ أي: ذوي زهرة، فضعيفٌ؛ لأنَّه لا يُقال: مررت بزيد أخاك؛ ولأنَّ الإبدال من الضَّمير العائد إلى الموصول ونحوه ممَّا اختُلِفَ في جوازه.
وعلى قراءة الفتح نعتٌ على أنه جمع زاهر، وجاز أن يكون حالاً، والإضافة لفظيَّة؛ لأنَّ الأصل: زاهرين الحياة الدُّنيا، وصفٌ لهم بأنهم زاهروا الدُّنيا لتنعُّمهم وبَهاءِ زِيِّهم، بخلاف ما عليه المؤمنون الزُّهَّاد.
{لِنَفْتِنَهُمْ} : لنبلوَهم ونختبرَهم {فِيهِ} أو: لنعذِّبهم في الآخرة بسببه.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} : ما ادَّخر لك في الآخرة، أو ما
(2)
رزقَكَ من الهدى.
{خَيْرٌ} ممَّا متَّعناهم به في الدُّنيا {وَأَبْقَى} لأنَّه لا ينقطع أبداً.
* * *
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} أمرَه بأن يأمر أهلَ بيته أو التابعين له من أمَّته بالصَّلاة بعدَما أمره بها وبالصَّبر؛ ليتوافقوا في الاستعانة على خصاصتهم بها، لقوله تعالى:
(1)
قرأ بها يعقوب من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 322).
(2)
"ما" سقط من (ف).
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ولا تهتمُّوا بأمر الرِّزق والمعاش، ولا تلتفتوا لفتَ أربابِ الثَّروة والرِّياش.
{وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} : وداوم عليها.
{لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} ؛ أي: لا نكلِّفكَ أنْ ترزقَ نفسَكَ.
{نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ففرِّغ بالَك لأمرِ الآخرة؛ لأنَّ مَن كان في عمل الله كان الله في عمله.
والحكم في الموضعَيْن عامٌّ في صورة الخطاب الخاصِّ
(1)
.
{وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلتَّقْوَى} مخصوصةٌ لها، ويلزم هذا أن تكونَ حُسْنُ العاقبة لأهلها خاصَّة، فلا حاجة إلى التَّقدير
(2)
.
* * *
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} : هلَّا يأتينا محمَّد بآيةٍ دالَّةٍ على صحَّة نبوَّته بناءً على عادتهم في اقتراح الآيات وإنكار ما جاء به منها، وعدم الاعتداد بها تعنُّتاً وعناداً.
وتنكير (آيةٍ) يأبى عن حملها على آيةٍ معهودةٍ اقترحوها، فألزمهم بالقرآن الذي هو آخر المعجزات وأعظمها، حيث قال:
(1)
في هامش (ف) و (س): "فلا حاجة في الأول إلى أن يقال: ولا أهلك، وفي الثاني: وإياهم، بل لا وجه له كما لا يخفى. منه".
(2)
في هامش (ف) و (س): "فيه ردٌّ لمن قال في تفسيره: التقوى لذوي التقوى، ولمن زعم أنَّ المعنى: إنَّ أحسن العاقبة لأهل التَّقوى، بحذف المضاف. صاحب المدارك".
{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وذلك أنَّه برهانُ ما في جميع الكتب المنزَلة من حيث إنَّه مُعْجِزٌ بلفظه دونها، فهو بالنِّسبة إليها حجَّةٌ على صحَّتها؛ لاشتماله على ما فيها، وتصديقه إيَّاها مع إعجازه.
ولَمَّا كان برهاناً على ما فيها كان برهاناً على صحَّة نبوَّته؛ للدِّلالة على أنَّها مختصة بنوعٍ من العلم أعلى قدراً وأشرف من جميع العلوم، وهو خلاصة ما في الكتب الإلهيَّة من العقائد والأحكام، مع كونه أميًّا لم يتعلَّم شيئاً، وبنوع من تركيب الكلام لم يكن أحدٌ يعارضه في الفصاحة والبلاغة عندَ التَّحدي به.
* * *
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} : من قبلِ محمَّدٍ عليه السلام، أو: من قبلِ
(1)
البيِّنة، وتذكير الضَّمير لأنَّها في معنى البرهان والدَّليل، أو: مِن قَبل إتيانها، أو إتيانه بها.
{لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا} : هلَّا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} بالقتل والسَّبي والجزية في الدُّنيا {وَنَخْزَى} : بالعذاب ودخول النَّار في الآخرة.
* * *
{قُلْ كُلٌّ} : كلُّ
(2)
واحدٍ منَّا ومنكم.
(1)
في (ف): "أو قبل".
(2)
"كل": ليست في (م).
{مُتَرَبِّصٌ} : منتظِرٌ لِمَا يَؤول إليه أمرُنا وأمرُكم في العاقبة.
{فَتَرَبَّصُوا} : فانتظروا، وقرئ:(فتمتَّعوا)
(1)
.
{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} : المستقيم، وقرئ:(السَّواء)
(2)
؛ أي الوسط، و (السُّوَّى)
(3)
، و (السَّوْءِ)
(4)
؛ أي: الشَّر، و (السُّوَيِّ)
(5)
، وهو تصغيره.
{وَمَنِ اهْتَدَى} إلى النَّعيم المقيم.
و {مَنِ} في الموضِعَيْن للاستفهام، ومحلُّ الأولى الرَّفعُ بالابتداء، والثَّانية عطفٌ عليها عطفَ الجملة على الجملة، ويجوزُ أن تكون الثَّانية موصولة بخلاف الأولى - لعدم العائد - فتكون معطوفةً على محلِّ الجملة الاستفهاميَّة المعلَّق عنها الفعل، على أنَّ العلم بمعنى المعرفة، أو على {أَصْحَابُ} ، أو على {الصِّرَاطِ} ، على أنَّ المرادَ به النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام.
* * *
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 100)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 44).
(2)
بفتح السين والمد. انظر: "الكشاف"(8/ 594)، و"الدر المصون"(8/ 126).
(3)
بالضم والقصر وتشديد الواو. انظر: "الكشاف"(8/ 594)، و"روح المعاني"(16/ 513).
(4)
بفتح وسكون وهمز آخره. انظر المصدرين السابقين.
(5)
بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء. انظر المصدرين السابقين.