الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ الأَنبيَاءِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} .
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} ؛ أي: دنا وقتُ إظهار ما للعبد وما عليه ليُجازَى بهما.
والحسابُ: إخراجُ الكميَّة من مبلغ العِدَّةِ.
والاقترابُ بالنِّسبة إلى ما مضى، لا عند الله تعالى؛ إذ لا نسبة للكائنات بالقرب والبعد إليه تعالى، أو لأنَّ مبدأه الموت، أو هو كنايةٌ عن ظهور بعض أماراته، ويناسبه:
{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} تنكيرُها للتعظيم؛ أي: وهم مستقرُّون في غفلة عظيمة لا يُعرف كُنْهُها، وهذا من قَبيل نسبة فعل الأكثر إلى الكلِّ، فلا ينافي كونَ تعريف (النَّاس) للجنس، كما في قوله:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} الآية [مريم: 66].
واللَّام صلة لـ {اقْتَرَبَ} ، أو تأكيدٌ لإضافة (الحساب) إليهم، كما في قولهم: لا أبا لك، والأصل: اقترب حساب النَّاس، ثمَّ: اقترب للنَّاس الحساب، ثمَّ: اقترب للنَّاس حسابهم، ونحوُه في التَّأكيد تكرير الظَّرف، كقولهم: فيك زيد راغب فيك.
{مُعْرِضُونَ} عن أسباب التَّنبيه؛ كلَّما كُرِّرَ عليهم التَّنبيه
(1)
، وجُدِّدَ لهم التَّذكير، وقُرِعَتْ لهم العصا
(2)
، وأُحْدِثَ لهم ذِكْرٌ من الآيات التي تُتلى وقتاً بعد وقتٍ = ما تنبَّهوا بواحدٍ من تلك الأذكار، وما استيقظوا مرَّة من تلك المِرَار، إلَّا استمعوه مستسخرين لاهين يلعبون، فقوله:
(2) - {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} .
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} تقرير لتماديهم في الإعراض والغفلة بأنَّ الله تعالى يجدِّد لهم الذِّكر ويكرِّر على أسماعهم الوعظ ليتَّعظوا، فما يزيدهم استماعُ ذلك إلَّا لعباً واستخساراً وتلهِّياً راسخاً في قلوبهم، وجدًّا وعزيمةً في اللَّهو؛ يعني أنَّهم وإنْ فطِنوا فهُم في قلَّة جدوى فطنتهم، وتمادي ذُهولهم وغفلتهم عن التَّأمُّل والتَّبصُّر، كأنَّ الذُّهولَ مركوزٌ في قلوبِهم، لا فطنةَ لهم أصلاً.
قوله: {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} خبران، أو الظَّرف حال من المستكِنِّ في {مُعْرِضُونَ} .
{مِنْ رَبِّهِمْ} صفة لـ {ذِكْرٍ} ، أو صلة لـ {يَأْتِيهِمْ} .
{مُحْدَثٍ} لم يُرَدْ به حدوثُ نفسه بمعنى مسبوقيَّته بالعدم وإنْ كان صحيحاً؛ لأنَّ الكلام اللَّفظي حادث عند الجمهور، ولا حدوثُ تنزيله كما زعمته الحنابلة المنكِرون حدوثه؛ لأنَّ كلًّا منهما لا يناسب المقام، ولا يلائم
(1)
"كلما تكرر عليهم التَّنبيه" سقط من (ف)، وفي (م):"كرر" بدل: "تكرر".
(2)
(قرع العصا) أصله من قولهم: إن العصا فرعت لذي الحلم، يضرب لمن إذا نبَّه انتبه، وانظر قصة المثل في "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 38)، و"فتوح الغيب" للطيبي (2/ 29) و (10/ 285).
مساقَ الكلام، بل المراد تجدُّد الذكر وقتاً بعد وقت؛ لِمَا عرفْتَ أنَّه أشدُّ تأثيراً في التَّذكير.
وقرئ بالرَّفع حملاً على المحلِّ
(1)
.
{إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حال عن الواو، وكذلك:
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} ؛ أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتَّلهِّي، فهما حالان مترادفان.
وهي من لَهِيْتُ عن الشيء لُهِيًّا ولُهْياناً: إذا سَلَوْتُ عنه وتركْتُ ذِكْرَه وأضربْتُ عنه، ويعدَّى بـ (عن) و (من) عند الأصمعي
(2)
، وهو في الحديث من باب عَلِمَ؛ أي: مِن لَهِيَ عنِّي يَلْهَى: إذا ذَهَل وغَفَل.
ويجوز أن يكون حالاً من واو {يَلْعَبُونَ} ، فالحالان متداخلان، وقرئت بالرَّفع
(3)
على أنَّه خبر آخر، فالحال واحدة.
وفي قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} مبالغةٌ؛ لأنَّ النَّجوى لا تكون إلَّا خفيَّة؛ أي: بالَغوا في إخفائها
(4)
.
(1)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "الكشاف"(3/ 101)، و"البحر المحيط"(15/ 179).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: لها).
(3)
نسبت لعيسى. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(4)
في هامش (ف): "وينتظم هذا جعلَهم بحيث خفي تناجيهم بها، فمن أخذه مقابلاً له لم يصب، كما لا يخفى. منه".
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من واو {وَأَسَرُّوا} ، وفائدةُ الإبدالِ: الإشعارُ بأنَّهم الموسومون بالظُّلم الفاحش فيما أسرُّوا به، أو منصوب على الذَّمِّ، أو مرفوع بالابتداء، خبره {وأسروا النَّجوى} ، قُدِّمَ عليه.
وفائدةُ التَّقديمِ: الاهتمامُ ببيان إسرارهم النَّجوى بالتَّسجيل عليهم بأنَّه ظلمٌ؛ لأنَّ الأصل: وهم أسرُّوا النَّجوى، فوُضع المظهَرُ موضع المضمَر، وقدِّم الإسرار؛ لِيُفهَم منه أنَّ الإسرارَ هو الظُّلمُ.
ثم بيَّنَ أنَّ النَّجوى ما هو؟ بقوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ليتمكَّنَ في أنفس السَّامعين بالإبهام
(1)
والتَّبيين، ويتحقَّق عندهم أنَّ ذلك هو الظُّلم الفاحش بالدَّليل الواضح؛ لتسميتهم المعجِزَ سحراً مُبيناً، وادِّعائهم أنَّ كونه سحراً مشاهداً بيِّنٌ، واعتقادِهم أنَّ رسولَ اللهِ لا يكون إلَّا مَلَكاً، وأنَّ مَن ادَّعى الرِّسالة من البشر فهو ساحرٌ، وإنكارِهم أن يَحضروا السِّحر الذي لا شكَّ فيه.
وإنَّما أسرُّوا تشاوراً في استنباط ما يهدم أمرَه، ويُظهر للنَّاس فسادَه؛ تثبيطاً عنه، وعادةُ المتشاورِين الكتمانُ.
وما ذكر كلُّه في محلِّ النَّصب بدلاً من {النَّجْوَى} ، أو مفعولاً لـ (قالوا) مضمراً.
(4) - {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
{قُلْ} وقرئ: {قَالَ}
(2)
؛ إخباراً عن الرَّسول وحكاية لقوله:
{رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} هو آكد من قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ} [طه: 7]؛ لأنَّه
(1)
في (س) و (م): "بالإيهام".
(2)
قرأ حفص وحمزة والكسائي بالألف، وباقي السبعة بغير ألف. انظر:"التيسير"(ص: 154).
عامٌّ يشملُ السِّرَّ والجهرَ، كأنَّه قال: يعلمُ السِّرَّ كلَّه وغيره، كما أنَّ قولَه:{يَعْلَمُ السِّرَّ} آكَد من قوله: {يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} [التوبة: 78]؛ لعمومه، فعمَّم ولم يقل في مقابلة:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} : (يعلم السِّرَّ)؛ ليؤكِّدَ بالطَّريق البرهانيِّ.
ثم قرَّر ذلك وبيَّن بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ؛ أي: مطلقاً دون غيره، فكيف يخفى عليه ما يسرُّون.
* * *
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} {بَلِ} الأولى: إضرابٌ عن تجاوزهم في شأن الرَّسول عليه السلام وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاوُلهم في أمر القرآن.
والثَّانية: لإضرابهم عن كونه أباطيل خُيِّلَتْ إليه وخُلِّطَتْ عليه إلى كونه مفتريات اختلقَها من تلقاء نفسه.
والثَّالثة: لإضرابهم منه إلى أنَّه كلامٌ شعريٌّ يُخيِّلُ إلى السَّامع معاني لا حقيقة لها، ويرغِّبه فيها.
ثمَّ إنَّهم تفنَّنوا في مدارج الإضراب، واعتبروا في كلِّ نحوٍ منه نوعاً من الاعتبار اللَّطيف.
قيل: أضربوا عن قولهم: {هو سحر} إلى قوله
(1)
: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} ؛
(1)
كذا في النسخ، ولعل الأحسن:(قولهم).
أي: تخاليط رؤيا، ثمَّ إلى أنَّه كلام افتراء، ثمَّ إلى أنَّه قولُ شاعرٍ، على عادة كلِّ مبطِلٍ في اللَّجلَجةِ والتَّزلزل في التحيُّر واللعثمة
(1)
، وذلك يدلُّ على فساد قولهم وبطلانه.
ولا يذهبْ عليك أنَّ حقَّ النَّظم حينئذ: (قالوا بل)، لا:{بَلْ قَالُوا} .
وأمَّا ما قيل: يجوز أن يكون الكلُّ من اللهِ تعالى تنزيلاً لأقوالهم في دَرْج الفساد؛ لأنَّ كونه شعراً أبعدَ من كونه مفترًى؛ لأَنَّه مشحون بالحقائق، والحكم ليس فيه ما يناسب قول الشُّعراء، وهو من كونه أحلاماً
(2)
؛ لأنَّه مشتملٌ على مغيَّبات طابقَتِ الواقع، والمفترَى لا يكون كذلك، بخلاف الأحلام، وهو [أبعد] من كونه سحراً لأنَّه يجانسه من حيث إنهما من الخوارق
(3)
= فمبناه على أن يكون بين الشِّعر والحكمة بوناً بعيداً، وعلى أن يكون السِّحر كالمعجزة من خوارق العادات، ولا صحَّة لواحدٍ منها:
أمَّا الأوَّل: فظاهرٌ، وكأنَّ هذا القائل غافل عن قوله عليه السلام:"إنَّ مِنَ الشِّعرِ لحكمةٌ"
(4)
.
وأمَّا الثَّاني: فلأنَّ الحقَّ أنَّ السِّحر إمَّا تمويهٌ لا حقيقةَ له، أو ترتيبٌ لأسبابٍ خفيَّة، وعلى كِلَا التَّقديرين ليس فيه شيءٌ مِن خَرْقِ العادة.
(1)
في (ف): "التحيز والقلسمة"، وفي (ك):"التحير والعثلمة"، وفي (م):"التحير والعلثمة"، وفي (س):"التحيز" والثانية غير واضحة. ولعل الصواب هو المثبت.
(2)
قوله: "وهو" الضمير فيه راجع لـ"كونه مفترى"، وقوله:"من كونه" متعلق بـ (أبعد) مقدراً. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 242). فالمعنى: وكونه مفترى أبعد من كونه أحلاماً.
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 46)، وما بين معكوفتين منه.
(4)
رواه البخاري (6145) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} : بمعجزةٍ عظيمةٍ، وصحة التشبيه في قوله:
{كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} من حيث إنَّه في معنى: كما أتى الأوَّلون بالآيات العظيمة كاليدِ والعصا وإحياء الموتى وإبراء الأكمَهِ؛ لأنَّ إرسالَ الرُّسلِ متضمِّنٌ للإتيان بها. هذا إذا كان (ما) مصدرَّيةً، وأمَّا إذا كانت موصولة، والمعنى: كالتي أرسل بها الأوَّلون، فالتَّشبيه على ظاهره
(1)
.
* * *
(6) - {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} .
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} أراد بالقرية: أهلَها، فالإيجاز من جهة المجاز لا من جهة الحذف، ولذلك قال في التَّوصيف:
{أَهْلَكْنَاهَا} دون (أهلكناهم)، يريد
(2)
: إهلاكهم عند إنكارهم ما اقترحوا من الآيات لَمَّا جاءتهم.
{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} عند إتيانها، وفي إيلاء الهمزة فاءَ التَّعقيب إنكارُ إيمانهم بعدما لم يؤمن أولئك؛ لأنَّ هؤلاء أعتى منهم وأشدَّ عناداً وتعنُّتاً، فلو أتوا بما يقترحون لكانوا أعصى منهم وأشدَّ كفراً، وتنبيهٌ على أنَّ عدم الإتيان
(3)
بما اقترحوا إبقاءٌ عليهم؛ إذ لو أتوا به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمَنْ قبلَهم.
* * *
(1)
في هامش (ف): "فيه رد للقاضي، حيث فسَّر الكلام على الثَّاني، وأوَّل التَّشبيه على الأوَّل، فتأمَّل. منه".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "يريدون"، والمثبت من (س).
(3)
في (ك): "الإيمان".
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} جوابٌ لقولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .
فإنْ شككتم فيه:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} إنَّما أمَرَهم بذلك ليخبروهم أنَّ الرُّسلَ كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكةً.
والمراد من {أَهْلَ الذِّكْرِ} : أهلُ الكتاب، وإنما أحالهم إليهم للإلزام؛ فإنَّهم كانوا يشاورونهم في أمرِ الرَّسولِ والرَّدِ عليه، ويثقون بقولهم. وبهذا التَّقرير تبيَّن ما في تحرير القاضي من التَّقصير والخلَل، فتأمَّل.
أو: علماءُ الأخبار، والإحالةُ إليهم لأنَّ إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفَّاراً، وتمام الكلام في هذا المقام قد سبق تفسيره في (سورة النحل).
* * *
(8) - {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} ؛ أي: ما جعلنا كلَّ واحدٍ منهم، كقوله:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5].
{جَسَدًا} الجسدُ: جسم الحيوان، مخصوصٌ به كالبدن، بخلاف الجسم والجِرم، وهو عبارة عن روح وجسد، والرُّوح ما لطف، والجسد ما غلظ، وأصله لجمع الشَّيء واشتداده؛ أي: ما جعلناهم جسداً محضاً ليس فيه
(1)
روحٌ متصرف حتى يتحلَّل فيحتاجَ إلى البدل، فقوله:
(1)
"فيه" من (ك) و (م).
{لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} تقريرٌ وتأكيدٌ لذلك المعنى، وجوابٌ لقولهم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7]، ولما كان التَّغدي به من لوازم التَّحليل المؤدِّي إلى الفَناء كان قوله:{وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} تقريراً وتأكيداً له، ونفيٌ عن الرُّسل لِمَا اعتقدوا اختصاصه بالملَك؛ تحقيقاً لكونهم من جنس البشر.
* * *
(9) - {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} .
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} ؛ أي: في الوعيد، فنصب بانتزاع الخافض.
{فَأَنْجَيْنَاهُمْ} ممَّا حَلَّ بقومِهم {وَمَنْ نَشَاءُ} ، يعني: المؤمنين، ومَن في إنجائه
(1)
حكمة كَمَن سيؤمن هو أو بعض ذرِّيته، ولذلك حُميت العرب عن عذاب الاستئصال.
{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} : المجاوزين الحدَّ بالكفر، ويفهم منه دخول بعض الكافرين تحتَ {وَمَنْ نَشَاءُ} .
* * *
(10) - {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} : صِيْتُكم وشرفُكم
(2)
، كقوله:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، أو: موعظتُكم، أو: ما تطلبون به حُسنَ الذِّكر من مكارم الأخلاق.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "إلجائه"، والمثبت من (س).
(2)
في (م): "وما شرفكم".
والكتابُ: القرآنُ، والخطابُ لقريشٍ أو لعامَّة العرب.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتؤمنوا به، والفاء كالتي في:{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6]، وكذا الاستفهام.
* * *
(11) - {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} .
{وَكَمْ قَصَمْنَا} واردةٌ عن غضبٍ
(1)
شديدٍ؛ لأنَّ القَصْمَ أفظعُ الكسر؛ لأنَّه كسرٌ يَبيْنُ تلاؤمَ الأجزاء، بخلاف الفصم - بالفاء -، ولإيردها في صورة التَّكثير.
{مِنْ قَرْيَةٍ} لَمَّا أُقيْمَتِ القريةُ مقامَ أهلِها، أو تجوُّزَ بها عن (هم)
(2)
، وُصِفَتْ بصفتهم، فقيل:
{كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} : بعد إهلاكها.
{قَوْمًا آخَرِينَ} مكانهم، وللدلالة على تعدِّي الغضب في شأنهم - أي: إهلاك قريتهم أيضاً بإخراجها عن صلاحية الانتفاع بها - قال: {بَعْدَهَا} ، ولم يقل:(بعدهم)؛ إظهاراً للتَّوسُّع السَّابق، واعتباراً لما يقتضيه اللَّاحق، فإنَّ الضَّمير في قوله:
(12) - {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} .
(1)
أي: دالةٌ عليه؛ للتعبير فيها بالقصم وهو كسر يفرِّق الأجزاء ويُذهب التئامها، ولذا أتى فيه بالقاف الشديدة، بخلاف الفصم بالفاء الرخوة فإنه لمَا لا إبانة فيه فأتى بتركيب اللفظ على وفق المعنى. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 244).
(2)
في (ف): "عنهم".
{فَلَمَّا أَحَسُّوا} لأهل القرية {بَأْسَنَا} ؛ أي
(1)
: أدركوا بالحسِّ عياناً ومشاهدةً شدَّة عذابنا، على الاستعارة في الإحساس، ويجوز أن يكون من قَبيل الاستعارة في البأس.
{إِذَا هُمْ مِنْهَا} : من القرية، و {إِذَا} للمفاجأة.
{يَرْكُضُونَ} الرَّكضُ: ضربُ الدَّابة بالرِّجْلِ؛ أي: يهربون مسرعين، على الكناية.
ويحتمِلُ التَّمثيلَ على تشبيههم في الإسراع وشدَّة العَدْوِ بمَنْ
(2)
يرَكِضُ الدَّابةَ، وأن يكون:
(13) - {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} .
{لَا تَرْكُضُوا} قولاً بلسان الحال يشير إلى أنَّهم خُلقاء بأنْ يُقال لهم ذلك وإن لم يُقَلْ، أو يُقالُ
(3)
استهزاءً، والقائل
(4)
مَلَكٌ أو مَن ثمَّةَ مِنَ المؤمنين. أو حديثاً تُحدِّثُ به أنفسُهم تحسُّراً.
{وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من العيش الرافهِ
(5)
والتَّنعُّم.
والإترافُ: إبطار النِّعمة، والاسم: التَّرفه.
أو: ارجعوا إلى وبالِ ما أُترفتم فيه.
{وَمَسَاكِنِكُمْ} في النَّار، أو: التي كانت لكم.
(1)
"أي" من (م).
(2)
"بمن" سقط من (م).
(3)
في (س) و (ف) و (ك): "أو المقال".
(4)
في (س) و (ك) و (م): "أو القائل".
(5)
في (ك): "والترفه".
{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} غداً عن أعمالكم، أو كنايةٌ عن العذاب؛ فإنَّ السُّؤال مُقدِّمتُه، أو تهكُّمٌ وتوبيخٌ؛ أي: ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى يَسألَكم مَن ينفذ فيه أمرُكم ونهيُكم، أو يسألكم النَّاس في أنديتكم المعاونة
(1)
في نوازل الخطوب أو يسألكم الوافدون عليكم ويستمطِرون
(2)
سحابَ ما في أيديكم.
* * *
(14) - {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
ولَمَّا أخذهم العذاب ولم يروا وجهَ النَّجاة: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعترفوا بالاقتراف حين لا ينفع الاعتراف.
* * *
(15) - {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} .
{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} الإشارة إلى {يَاوَيْلَنَا} لأَنَّها دعوى؛ أي: فما زالَتْ تلك الدَّعوى دعواهم.
والدَّعوى: الدَّعوة؛ لأن المُوَلْوِلُ يدعو الويلَ، ويقول: يا ويلُ تعال
(3)
فهذا أَوانُكَ.
والويلُ: الوقوعُ في الهلكة.
(1)
في (ف): "المقاولة"، وفي "الكشاف" (3/ 106):(المعاون)، وهي جمعُ المعونة.
(2)
في (م): "وافدون عليكم ويستخطرون".
(3)
في (م): "يقال".
{تِلْكَ} اسم {فَمَا زَالَتْ} ، و {دَعْوَاهُمْ} خبرُه، أو بالعكس، وتعيُّنُ الأوَّل إنَّما هو في نحو: ضرب موسى عيسى، مما يَختلف أصل المعنى باختلاف الإعراب.
{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ} الضَّمير المنصوب هو الذي كان مبتدأً، و:{حَصِيدًا خَامِدِينَ} كانا خبرين، فنصبَهما (جَعَل) جميعاً على المفعوليَّة، لا على أنها تقتضي ثلاثة مفاعيل، بل على أن الأخيرين
(1)
في حكم الواحد؛ أي: جعلناهم جامعِينَ لمماثلة
(2)
الحصيد والخمود، كقولهم: هذا حلوٌ حامضٌ؛ أي: جامعٌ للطَّعْمَين.
شُبِّهوا في استئصالهم وسقوطهم بالزَّرع المحصود، وفي دمارهم وسكونهم بالنَّار الخامدة.
وإفراد {حَصِيدًا} دلَّ على أنَّ المِثْلَ مرادٌ، فخرج الكلام عن حدِّ الاستعارة إلى حدِّ التَّشبيه.
* * *
(16) - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} : ما في جهة العلوِّ والسُّفلِ.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} من العجائب والبدائع ولطائف الصَّنائع.
{لَاعِبِينَ} كما يصنع أبناء الدُّنيا، إنَّما خلقناهما تسبيباً لِمَا تنتظِم به أمورُ
(1)
في (ف): "الآخرين".
(2)
في (م): "بمماثلة".
العباد في المعاش والمعاد، وتبصرةً لأولي الألباب والأبصار، وتذكرةً لذوي الاعتبار من النُّظَّار، فليَعتبرْ بها طلَّابُ الكمال، ولا يغترُّوا بزخارفها، فإنَّها سريعةُ الزَّوال، ثمَّ بيَّنَ بقولِه:
(17) - {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} .
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} أنَّ السبَّبَ في تركِ اتِّخاذ اللَّهوِ هو الحكمةُ البالغةُ، وإلَّا فالقدرة الباهرة
(1)
لا تنحسر عن ذلك إن أراد فعله، فإنَّه على كلِّ ما يشاء قدير، والحكمةُ وإنْ لم تكن منافيةً لاتخاذ
(2)
اللَّهوِ - وهو ما يُتلهَّى به، ويندرج فيه اللَّعب - لكنَّها منافيةٌ لأنْ يَفعلَ فعلاً يكون به لاهياً.
{مِنْ لَدُنَّا} ؛ أي: مِن عالَم الغيب، لا من عالَم الشَّهادة؛ لأنَّه أشنعُ وأبعدُ من شأن الحكيم.
{إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك، ويدل على جوابه الجوابُ المتقدِّمُ.
وقيل: {إِنْ} نافية، وزيادة {كُنَّا} لاستمرار النَّفي، لا لنفي الاستمرار؛ لأنَّه لا يناسب المقام، والجملة كالنَّتيجة للشَّرطيَّة.
* * *
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} إضراب عن اتِّخاذ اللَّهو، وتنزيهٌ لذاته من
(1)
من هنا وقع سقط في (م) بمقدار صحيفتين وينتهي عند قوله: "من جملتها"، وسننبه على انتهائه في مكانه.
(2)
في النسخ: "لإيجاد"، والمثبت من "حاشية الشهاب"(6/ 246)، و"روح المعاني"(17/ 39).
اللَّعب؛ أي: بل من شأننا أن نغلِّبَ الحقَّ الذي من جملته الجدُّ على الباطل الذي من عداده
(1)
اللَّهو.
{فَيَدْمَغُهُ} : فيَمحقُه ويُفنيه، من دُمِغ الرَّجلُ: إذا شُجَّ شجَّةً تبلغُ أمَّ الدِّماغ، فلا يحيى صاحبُها بعدَها أبداً
(2)
.
استعار القذف - الذي هو الرَّميُ البعيدُ المستلزِمُ لصلابة المرميِّ - لإبطال الباطل بالحقِّ؛ تصويراً لإبطاله به ومحقِه في صورة جِرمٍ صلبٍ - كالصَّخرة مثلاً - قُذِفَ به على جِرْمٍ رخوٍ أجوفَ فدمغه؛ قضاءً لحقِّ البلاغة.
وقرئ: (فيدمَغَه) بالنَّصب
(3)
، ووجهُه - مع بُعْدِه - الحملُ على المعنى، والعطف على {بِالْحَقِّ} .
{فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} : هالكٌ، الزُّهوق: ذهابُ الرُّوح، وذكرُه لترشيح المجاز.
{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} : ممَّا تصفونه ممَّا ينافي حكمته ويستحيل عليه، وهو في موضع الحال، و (ما) مصدرَّية، أو موصولة، أو موصوفة.
* * *
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقاً وملكاً.
(1)
في (ف): "عداد".
(2)
"أبداً" من (ف).
(3)
نسبت لعيسى بن عمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91)، و"البحر"(15/ 193).
{وَمَنْ عِنْدَهُ} منزلةً ومكانةً، لا منزلاً ومكاناً؛ يعني: الملائكة. شُبِّهوا في كرامتهم عندَ الله وقربهم بالمقرَّبين عند الملوك من زمرة خواصِّهم؛ بياناً لشرفهم.
ويوقف على {وَالْأَرْضِ} ؛ لأنَّ (مَن) مبتدأٌ خبرُه: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} : لا يتعظَّمون عنها.
ويجوز أن يكون معطوفاً على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، والمعنى: له مَن في عالَم الشَّهادة ومَن في عالَم الغيب.
{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} : ولا يَعيَون منها، وإنَّما نُفي الاستحسارُ - وهو مبالغةٌ في الحسور - للإيماء إلى أن ما هم فيه من دوام العبادة والدور بلا فترةٍ يوجب غاية الحسور
(1)
، وهم لا يحسرون، وإلَّا لكان نفي أدنى حسورٍ أبلغ
(2)
.
* * *
(20) - {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ينزِّهونه ويعظِّمونه دائماً.
{لَا يَفْتُرُونَ} حال من الواو في {يُسَبِّحُونَ} ، وهو استئنافٌ، أو حالٌ مِن الضمير قبلَه
(3)
.
(1)
من قوله: "للإيماء
…
" إلى هنا ساقط من (ف) و (ك).
(2)
مراد المؤلف والله أعلم: أن صيغة الاستفعال المنبئةِ عن المبالغة في الحُسور ليست لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصلِه في الجملة، بل للتنبيه على أن عباداتِهم بثقلها ودوامها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها ومع ذلك لا يستحسرون. انظر:"تفسير أبي السعود"(6/ 60)، و"روح المعاني"(17/ 45).
(3)
في النسخ: "من ضمير قبله"، والصواب المثبت، والمراد: ضمير الواو في {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} .
(21) - {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} .
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} {أَمِ} هي المنقطعة بمعنى: (بل) والهمزة؛ للإضراب عمَّا قبلها، والإنكارِ لِمَا بعدَها، وهو اتِّخاذُ آلهةٍ أرضيَّة، وفي قوله:
{مِنَ الْأَرْضِ} سواءٌ كانَ صفة للآلهة، أو متعلِّقاً بالفعل على معنى الابتداء، تجهيلٌ لهم واستركاك لقولهم، وقوله:
{هُمْ يُنْشِرُونَ} تهكُّم بهم، ولومٌ لهم؛ فإنَّهم وإن كانوا لا يصرِّحون بذلك لكنَّه يلزمهم بادِّعاء الإلهيَّة لها، فإنَّ الإلهَ هو الذي يقدر على كلِّ ممكن، والإنشار من جملتها
(1)
، وهم يُنكِرون نسبةَ البعث وإنشار الموتى إلى الله تعالى القادرِ على كلِّ شيء، ويثبتون الإلهيَّة لأصنام نحتوها فلزمهم حصر الإنشار فيهم، فلذلك
(2)
أورد {هُمْ} المفيدَ للحصر؛ مبالغةً في التَّجهيل والتَّوبيخ والتَّهكُّم بآلهتهم، وهو توبيخٌ في توبيخ.
* * *
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} : صفة لـ {آلِهَةٌ} ، بمعنى: غيرُ الله؛ لتعذُّر الاستثناء
(3)
، فإنَّ {آلِهَةٌ} جمعٌ منكورٌ غيرُ محصور، لا يشمل الله حتى يُستثنى منه، ولدلالته على أنَّ الفساد إنَّما يلزم من وجود آلهة فيهما دونه، والمرادُ لزومُ الفسادِ من وجودِها مطلقاً سواءٌ
(4)
كانت معه أولا.
(1)
هنا نهاية السقط في (م).
(2)
في (م): "ولذلك".
(3)
في هامش (ف): "لَمَّا تعذَّر الاستثناء تعذَّر الرَّفع على البدل؛ لأنَّه مفرَّع عليه. منه".
(4)
"سواء" من (م).
ثمَّ إنَّ الفسادَ الآتيَ ذكرُه لزومُه - على ما ستقف عليه - على تقدير مطلق التَّعدُّد في الإله، وإنَّما فَرَض الآلهةَ غيرَ الله تعالى على وَفق معتقَدِهم؛ لزيادة تجهيلهم في هذا الأمر الجليل الشَّأن، فكأنَّه ضمَّنَ إثباتَ مطلقِ
(1)
التَّوحيد إبطالَ معتقدهم على أفحشِ وجهٍ وأشنعِه
(2)
.
{لَفَسَدَتَا} : لبطلتا؛ لِمَا يكون بينهما من التَّمانُع؛ إذ لا مجال للتَّوافق في المراد، وإلَّا يلزم أن تتطارد عليه القُدَر.
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} المحيطِ بجميعِ الأجرام، الذي هو محلُّ التَّدابير، ومنشأ التَّقادير.
{عَمَّا يَصِفُونَ} : عمَّا يصفونه به ممَّا لا يليق بشأنه.
* * *
(23) - {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لعلوِّ سلطنته، وكمالِ علمِه وعظمتِه، وتفرُّدِه بالألوهيَّة، ولَمَّا كان الملوك والجبابرة عادتهم أن لا يُسألوا عن أفعالهم وتدابيرهم في ملكهم تهيُّباً وإجلالاً مع جواز الخطأ عليهم، فلَأَنْ لا يُسأل ربُّ الأرباب ومَلك الملوك خالقُ الكلِّ أولى، مع استحالة ذلك عليه.
{وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنَّهم مملوكون مستعبَدون، والضَّمير للآلهة أو للعباد.
* * *
(1)
في (س) و (ف) و (ك): "مطلب".
(2)
في هامش (ف): "لا يخفى ما في تقرير القاضي من الخلل فتأمل. منه".
(24) - أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} ؛ أي: من دون الله {آلِهَةً} : كرَّره استعظاماً لكفرهم، واستفظاعاً لأمرهم، وتبكيتاً وإظهاراً لغاية جهلهم، وضمًّا لإنكار أن يكون لهم دليل من العقل إلى إنكار أن يكون لهم دليل من النَّقل، ولهذا رتَّب على الأوَّل دليلَ العقل، وعلى الثَّاني دليلَ النَّقل
(1)
؛ يعني: أوجدوا آلهة يُنشرون الموتى فاتَّخذوهم آلهة لِمَا وجدوا فيهم من خواصِّ الألوهية، أم وجدوا في الكتب الإلهيَّة المنزَّلة الأمرَ بإشراكهم
(2)
فامتثلوا الأمر؟!
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} من العقل والنَّقل؛ فإنَّه لا يصحُّ القولُ بما لا دليل عليه، كيف وقد تطابقت الحُجَج على بطلانه عقلاً ونقلاً؟
{هَذَا ذِكْرُ} ؛ أي: هذا الوحي الوارد على الأنبياء عليهم السلام كلِّهم
(3)
عِظَةُ {مَنْ مَعِيَ} يعني: أمَّته عليه السلام {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} يعني: أممَ الأنبياء الماضين عليهم السلام، فانظروا هل تجدون فيها إلَّا الأمرَ بالتَّوحيد، والنَّهيَ عن الشِّرك؟
وقرئ: (ذكرٌ مَن معي وذكرٌ مَنْ قبلي) بالتَّنوين
(4)
، على أنَّ (مَن) منصوب المحلَّ مفعولٌ للذِّكْرِ، وهو الأصل، والإضافة عارضة.
(1)
في هامش (ف): "وبالجملة: الإعادة لزيادة الإفادة، فإنَّ الأوَّل للإنكار من حيث العقل، والثاني من حيث النقل. منه".
(2)
في (ف) و (ك): "باشتراكهم".
(3)
في (م): "كله".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 111)، و"البحر المحيط"(15/ 201).
وقرئ: (مِن معي ومِن قبلي)
(1)
على (مِن) الجارَّة، وإدخالُها على (مع) غريب، والوجه أنَّه ظرفٌ نحو: قبلُ وبعدُ وعندَ
(2)
ولَدُنْ وما أشبه ذلك، فدخلت عليه (مِن) كما دخلت على أخواته.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} بل عندهم
(3)
ما هو أصل الشَّرِّ والفساد وأسُّ الغيِّ والضَّلال، وهو الجهل وعدم التَّمييز بين الحقِّ والباطل، فلذلك كانت عادتهم الإعراض عن الحقِّ من التَّوحيد واتِّباعَ الباطل.
وقرئ: (الحقُّ) بالرَّفع
(4)
، على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف، وهي جملةٌ مؤكِّدة وسّطت بينَ السَّبب والمسبَّب؛ أي: كون الجهل المحض سبباً للإعراض هو الحقُّ، وقُدِّمَتْ على المسبَّب لشدَّة الاهتمام والاعتناء بأنَّ سبب الإعراض ليس إلَّا الجهل، ويجوز حمل المنصوب على هذا المعنى، كقولك: هذا عبدُ الله الحقَّ لا الباطلَ، و {لَا يَعْلَمُونَ} فعلٌ منسيُّ المفعول، جارٍ مجرى اللَّازم؛ لسلب
(5)
مطلق العلم عنهم رأساً، وهذا الوجه أفصح وأعرب.
* * *
(1)
أي: بـ (مِن) الجارة مع تنوين (ذكر) كالتي قبلها، نسبت ليحيى بن يعمر. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91)، و"المحتسب"(2/ 61)، و"الكشاف"(3/ 111)، و"البحر المحيط"(15/ 201).
(2)
"قبل" ضبطت في نسخة نفيسة من "الكشاف" بالضم فوق اللام والتنوين تحتها، وكذا "بعد" بالضم والتنوين، و"عند" بالفتح والتنوين، إشارة إلى جواز الوجهين في كل منها.
(3)
"بل عندهم" من (س).
(4)
نسبت لابن محيصن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(5)
في (ف) و (ك): "لسبب"، وهو تحريف.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ؛ لأنَّ {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} هو خبرٌ للمُشارِ إليه بـ {هَذَا} ، فلا يتناول إلَّا ذكر الموجودين بينَ أظهُرهم، وهو الكتب الثَّلاثة، والآية مقرِّرة لِمَا سبقها من آي التَّوحيد.
* * *
(26) - {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} .
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} نزلَتْ في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بناتُ اللهِ
(6)
.
{سُبْحَانَهُ} تنزيهٌ له تعالى عن ذلك.
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أضربَ عنه ثمَّ أثبت أنهم عباد، والعبوديَّة
(7)
تنافي الولادةَ، لكنهم مكرَمون مقرَّبون، فمِن ذلك أخطؤوا وزلَّتْ أقدامُهم.
* * *
(27) - {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} .
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} : لا يقولون شيئاً حتى يقولَه، كما هو دَيْدَنُ العبيد المؤدَّبين، وأصله: لا يَسبق قولُهم قولَه، فنسبَ السَّبق إليه وإليهم، وجعلَ القولَ أداتَه ومحلَّه؛ تنبيهاً على استهجان السَّبق المعرَّض به للقائلين على الله تعالى ما لم يقله.
(6)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 236).
(7)
في (م): "والمعبودية".
وأُنيب اللَّام مناب الإضافة اختصاراً وتحامياً
(1)
عن تكرير الضَّمير.
وقرئ: (لا يَسبُقونه) بالضَّمِّ
(2)
، من سابقتُه فسبقتُه أسْبُقُهُ.
{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ؛ أي: كما لا يسبقونه بالقول لا يسبقونه بالعمل، فلا يعملون إلَّا ما أمرهم به.
* * *
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} كالعلَّة لِمَا قبلَه، والتَّمهيدِ لِمَا بعده؛ أي: إنهم بعين الله تعالى يعلَم ما قدَّموا وما أخَّروا من أعمالهم؛ أي: لا يخفى عليه خافية، فلإحاطتهم بذلك يَضبطون أنفسهم ويتحفَّظون ممَّا
(3)
لم يؤمروا به قولاً وفعلاً.
{وَلَا يَشْفَعُونَ} مهابةً منه {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} : لمن ارتضاه وأهَّله للشَّفاعة.
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ؛ أي: إنَّهم مع ذلك كلِّه قاضون حقَّ الهيبة والعظمة على حذرٍ ورِقْبَةٍ
(4)
.
والخشيةُ: خوفٌ مع تعظيمٍ، ولذلك خُصَّ بها العلماء.
(1)
في (ف): "وتجافياً".
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(3)
في (م): "عما".
(4)
في (م): "ورقية".
والإشفاقُ: خوفُ مع الاعتناء؛ فإنْ عُدِّي بـ (مِن) فمعنى الخوف فيه أظهرُ، وإنْ عُدِّيَ بـ (على) فبالعكس.
* * *
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} : مِنَ الملائكة، أو مِنَ الخلائق:
{إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} بعدَ أنْ وصفَهم بالكرامة والقُرْب والأوصاف الجميلة والأفعال المرضيَّة هدَّدَ مَن أشركَ منهم على سبيل الفَرْض والتَّقدير، وأنذره بالوعيد الشَّديد، مع إحاطة علمه بأنَّه لا يكون؛ تفظيعاً لشأن المشركين، وتهديداً لهم بتهديد مدَّعي الرُّبوبيَّة، ومبالغةً في نفي الولد؛ إذ لو أمكنَ لكان ربًّا من جنسه.
{كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} : مَن ظلمَ بالإشراك وادِّعاء الرُّبوبيَّة.
* * *
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أولم
(1)
يعلموا، تقريرٌ، والواو للعطف على مقدَّر؛ أي: أنكروا قدرتنا على البعث ولم يعلموا، والكفرةُ وإن لم يعلموا لكنَّهم متمكِّنون من العلم به بالاستفسار من الأخبار
(2)
ومطالعة الكتب، فكأنَّهم علموا.
(1)
في (م): "أو".
(2)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:"من الأحبار"، ففي "روح المعاني" (17/ 75): "أو استفسارا من=
وقيل: بالنَّظر؟، فإنَّ الفتقَ به عارضٌ مفتَقِرٌ إلى مؤثِّرٍ موجِبٍ بالذَّات ابتداءً أو بوسط
(1)
.
وفيه أنَّ أصالة الرَّتق وعروضَ الفَتق ممَّا لا يستقلُّ في معرفته
(2)
العقلُ.
{أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا} إنَّما قال: {كَانَتَا} دون: كنَّ؛ لأنَّ المراد جماعة السَّماوات وجماعة الأرَضين.
{رَتْقًا} : ذاتَ رتقٍ، وهو الالتحام، أو: مرتوقتين؛ أي: كانتا شيئاً واحداً، وحقيقةً متَّحدةً.
وقرئ: (رَتَقاً) بفتح التَّاء
(3)
، على تقدير: شيئاً رَتَقاً، فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، كالنّقَضِ
(4)
والرَّفَض.
{فَفَتَقْنَاهُمَا} بالتَّنويع والتَّمييز بالصُّوَر المختلفة.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} : وخلقنا من الماء كلَّ حيوانٍ؛ لأنَّه أعظم موادِّه، أو لفرط احتياجه إليه وامتناع وجوده وبقائه بدونه، أو صيَّرنا كلَّ شيء حيِّ بسببٍ من الماء.
= علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم .. أو بمطالعة الكتب السماوية"، ونحوه في "تفسير البيضاوي" (4/ 50).
(1)
في (ف): "بوسيط"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير البيضاوي"(4/ 50).
(2)
في (ك): "معرفة".
(3)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(4)
في (م): "كالنفض"، وهو تمثيل صحيح أيضاً، وهو بمعنى المرفوض، ومعناه: ما سقط من الورق والثمر.
وقرئ: (حيًّا)
(1)
على أنَّه صفة {كُلَّ} أو مفعول ثانٍ والظَّرفُ لغوٌ.
{أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} مع ظهور الآيات.
* * *
{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} : ثابتات، مِن رَسى: إذا ثبتَ.
{أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} مفعول له؛ أي: كراهةَ أنْ تميدَ بهم، وقيل: لئلَّا تميدَ بهم، فحذف (لا) لأَمْن اللَّبس
(2)
.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} : في الأرض أو الرَّواسي
(3)
.
{فِجَاجًا} : جمع فجٍّ، وهو الطَّريق الواسع، وإنَّما قُدِّمَ على:{سُبُلًا} - وهو صفةٌ له - ليصير حالاً مقدَّرةً، فيدلَّ على أنَّه حين خلقَها خلقَها مستعدَّة لذلك، أو ليُبدل منها {سُبُلًا} فيدلَّ ضمناً على أنَّه خلقَها ووسَّعها للسَّابلة، مع ما يكون فيه من التَوكيد، وأُخَر في قوله:{سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20] للبيان والتَّوضيح بعد الإبهام.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ؛ أي: ليهتدوا بها إلى مقاصدهم.
* * *
(1)
نسبت لحميد ومعاذ القارئ وابن أبي عبلة. انظر: "زاد المسير"(5/ 348)، و"البحر المحيط"(15/ 210).
(2)
في (ف): "فحذف لأمن الإلباس".
(3)
في (ك) و (م): "أو في الرواسي".
(32) - {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} .
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} بقدرتنا من أنْ تقع على الأرض بغير عَمَدٍ
(1)
.
{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} : أحوالِها الدَّالةِ على وجود الصَّانع وكمال قدرته وحكمته، وهو ما يُحَسُّ منها من الكواكب وحركاتها وأوضاعها، وما يُعلَمُ مِنْ عِلْمَي الهيئة والطَّبيعة.
{مُعْرِضُونَ} ؛ أي: هم قوم عادتهم الإعراض
(2)
.
* * *
(33) - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} بيانٌ لبعضِ تلك الآيات، والمراد بـ {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} جنسَ الطَّوالع؛ اكتفاءً بأَبْيَنهما.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ} التَّنوين في {كُلٌّ} عوضٌ من المضاف إليه؛ أي: كلُّهم.
{يَسْبَحُونَ} حالٌ من {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ، كقوله:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، أو استئناف، أو خبر {كُلٌّ} .
والمراد بالفُلْكِ: الجنسُ، كقولهم: كساهم الأميرُ الحُلَّة.
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "قيل: أو استراق السمع بالشُّهب، ويأباه قوله:{سَقْفًا} فإنَّه حينئذ يضيع، ولا يحمله شأن البلاغة و [
…
] الإعجاز. منه". وما بين معكوفتين كلمة لم تجود، ورسمها مثل: "أتيّ".
(2)
في هامش (ف) و (م): "مبنى هذا على أنَّه لا يقال: مُعرِض، إلَّا لمن صدر عنه الإعراض مراراً. منه".
قالوا: إنَّ تحتَ السَّماء فُلكاً هو موجٌ مكفوفٌ فيه الكواكب كلُّها، ولذلك قال:{يَسْبَحُونَ} كما يسبح الإنسان في الماء.
وقيل: شُبِّهَتْ حركتُهما في الإسراع بسباحة السَّابح.
ويردُّه: أنَّ حقَّ التَّشبيه أن يكون المشبَّه به أقوى من المشبَّه في وجه الشَّبه، وعكسه اللَّازم على ما ذُكِرَ مردودٌ في الكلام البليغ، فكيف في المعجِزِ؟!
وإنَّما جُمِعَ جمعَ العقلاء لأَنَّهم وُصِفُوا بوصفِهم.
* * *
(34) - {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} كانوا يقولون: نتربَّص به ريب المنون، فنزلَتْ
(1)
.
والفاء في قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} لتعليق الشرطيَّة بما قبلَها من التَّمهيد، والهمزةُ لإنكارها بعدما تقرَّر ذلك.
* * *
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ؛ أي: كلُّ نفسِ حيوانٍ تذوقُ مرارة مفارقتها جسدها، وهو تقريرٌ لِمَا مهَّده، وبرهانٌ على ما أنكره.
{وَنَبْلُوكُمْ} : ونعاملكم معاملةَ المختبِر {بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} : بما يجبُ فيه الصَّبر من البلاء، وما يجب فيه الشُّكر من النِّعم، وإنَّما قدَّم الشَّرَّ لأنَّه أنسبُ بالابتلاء.
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(6/ 275).
{فِتْنَةً} : ابتلاءً، مصدر من غير لفظه.
{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم على حسَب ما يوجد منكم من الصَّبر والشُّكر، والجزَع والكفر.
وفيه إيماءٌ إلى أنَّ المقصودَ من هذه الحياة الدُّنيا الابتلاءُ، والتَّعريضُ للثَّواب والعقاب؛ تقريراً لما سبق.
* * *
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} ؛ أي: ما يتخذونك إلا مهزوًّا به، ويقولون:
{أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ؛ أي: بسوءٍ، وإنَّما أطلقَه لدلالة الإنكار والتَّعجُّب المفهومَيْن مِن قولهم:{أَهَذَا} .
{وَهُمْ} خاصَّةً {بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ؛ أي: بذكرك للرَّحمن بالخير، وما يجب أن يُذْكَر به كالتَّوحيد والثَّناء عليه بما هو أهله من التَّسبيح والتَّمجيد.
{هُمْ كَافِرُونَ} فهم أحقُّ أنْ يُتَّخذوا هزواً؛ لأَنَّك محقٌّ وهم مبطلون، فتقديم ذكر الرَّحمن على الكفر دلالةٌ على تخصيصهم الكفرَ بذكر الرَّحمن دون آلهتهم، فإنَّهم عاكفون على ثنائهم وتعظيمهم.
والجملة في محلِّ النَّصب على الحال؛ أي: يتخذونك هزواً وحالُهم أنَّهم على شيءٍ هو أصل الهزءِ والسُّخرية.
* * *
(37) - {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} .
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} جعلَ ما طُبِعَ عليه بمنزلةِ ما طُبِعَ هو منه مبالغةً في فرط استعجاله وقلَّة تأنِّيه، وهو تمهيد لنهيهم عن الاستعجال، ومِن عَجَلَتِه استعجالُ الوعد.
{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} : نقماتي في الدُّنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النَّار.
{فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} بالإتيان بها.
والمفهومُ ممَّا تقدَّم أنَّ الإنسان إذا خُلِّيَ وطبعَه يكون على العجلة، وهذا لا ينافي النَّهي عنها بل يستوجبه.
* * *
(38) - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} : وقتُ وعدِ العذاب، أو القيامةِ.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعنون النَّبيَّ عليه السلام وأصحابَه رضي الله عنهم.
* * *
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} ذكر الوجوه لأنَّها أشرف ما
(1)
في ظاهر الإنسان، ومحلُّ حواسِّه، وهو أحرص على الدِّفاع عنه من غيره من أعضائه.
(1)
في (ف) و (م): "بما"، وفي (ك):"مما"، والمثبت من (س)، وهو الصواب.
{وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} جواب {لَوْ} محذوف، و {حِينَ} مفعول {يَعْلَمُ}؛ أي: لو يعلمون الوقت الذي يستسخرون عنه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، وهو وقتٌ صعبٌ تحيط بهم النَّار فيه من قدَّامٍ وخلف، فلا يقدرون على دفعها من
(1)
أنفسهم، ولا يجدون ناصراً ينصرهم = لَمَا كانوا بتلك الصِّفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكنَّ جهلهم به هو الذي هوَّنه عليهم، أو: لَمَا استعجلوا مستهزئين.
أو منصوب بمضمَر، و {يَعْلَمُ} مطلَق بلا مفعول، مُجرًى إجراء اللَّازم؛ أي: لو كان لهم علم لَمَا كانوا مستعجلين، حين
(2)
لا يكفُّون عن وجوههم النَّار ولا عن ظهورهم يعلمون أنَّهم كانوا على الباطل، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم.
وإنَّما وُضعَ الظَّاهر فيه موضِعَ المضمَر
(3)
للدِّلالة على ما أوجب لهم ذلك.
* * *
(40) - {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} : فجأة، مصدر أو حال، أضرب عن كفِّ النَّار عن وجوههم وظهورهم؛ أي: لا يكفُّونها، بل تفجأهم.
{فَتَبْهَتُهُمْ} : فتغلبُهم، يقال للمغلوب في المحاجَّة: مبهوت.
(1)
كذا في النسخ، ولعل الأنسب بالسياق:(عن).
(2)
"حين" منصوب بما سيأتي من قوله: "يعلمون"، وهذا الفعل هو المضمر الذي أشار إليه بقوله:"أو منصوب بمضمر".
(3)
في (ف) و (ك): "الضمير".
وقرئ الفعلان على التَّذكير
(1)
، والضَّمير للوعد أو للحين، وعلى التَّأنيث يجوز أن يرجع إلى العِدَةِ أو الموعدة أو الحين، على تأويل السَّاعة أو النَّار أو البغتة.
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} : فلا يقدرون على دفعها.
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} : يمهلون، وفيه تذكيرٌ لهم بإمهالهم في الدُّنيا.
* * *
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} : تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَحَاقَ} : فحلَّ ونزلَ {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} جزاء {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وعدٌ له عليه السلام بأنَّه يحيق بهم ما يفعلونه به
(2)
، كما حاقَ بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا.
* * *
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أمرَ رسولَه عليه السلام بسؤال المستهزئين عمَّن يحفظهم دائماً، وإنَّما قدَّم اللَّيل لأنَّ الحاجة إلى الحفظ أكثر وأظهر.
{مِنَ الرَّحْمَنِ} : مِن بأسِه إن أراد بكم.
(1)
نسبت للأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(2)
في (ف): "يفعلون به".
قيل: في ذكر اسم {الرَّحْمَنِ} تنبيهٌ على أنْ لا كالئ غيرُ رحمته العامة، وأنَّ اندفاع البأس عن النَّاس لا يكون إلَّا بها.
وعندي أنَّ التَّنبيه فيه على أنَّ رحمته العامةَ لا تمنعه عن الغضب، فلا تغترُّوا بها، ولا يخفى أنَّ هذا هو الأنسب للمقام.
{بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} إضرابٌ عن مقدَّر؛ أي: إنهم غير معرضين عن ربهم، وليسوا بغافلين عنه، حتى لا يجدي السُّؤال عنه، كيف وهم يتَّخذون الآلهة ويعبدونها في كلِّ وقت للشَّفاعة عنده تعالى، بل معرضون عن ذكره، فالتذكير يناسب حالهم
(1)
.
وهذا المعنى مع ظهوره من مَساق الكلام، ووضوح انطباقه لمقتضى المقام، قد خفي على النَّاظرين فيه حتى قالوا
(2)
: لا يُخْطرونه ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسه، حتى إذا كُلِئوا منه عرفوا مَنِ الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه.
ولم يتنبَّهوا أنَّه حينئذ لا يبقى وجه للأمر بالسُّؤال، وأيضاً حينئذٍ تضيع عبارة الذِّكر، بل تخلُّ بالمقصود؛ لإيهامها الشُّعور في الجملة.
* * *
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ} تحفظهم مانعين العذاب {مِنْ دُونِنَا} أضربَ عمَّا تقدَّم، منكراً لكلاءة آلهتهم ومنعهم من العذاب متجاوزاً منه تعالى، أو من عذاب
(1)
في هامش (س) و (ف): "فإن الإعراض عن الشيء يكون كناية عن الغفلة والنسيان بخلاف الإعراض عن ذكره فإنه ينبئ عن حضوره في الذهن وشعوره. منه".
(2)
القائل هو الزمخشري وتابعه البيضاوي.
يكون من عنده، بما في {أَمْ} من معنى (بل) والهمزةِ، وهذا الإضراب ليس للإبطال ولا للتَّرقي بل للانتقال من كلام إلى آخر.
قيل: والإضرابان عن الأمر بالسُّؤال على التَّرتيب، فإنَّه عن المعرِض الغافل عن الشَّيء بعيد، وعن المعتقِد لنقيضه أبعد.
وقد عرفْتَ فساد مبناه، ثمَّ إنَّه لا ينتظِم مع ذلك الاعتبارِ ما في الإضراب الثاني من زيادة الإنكار، وبعد اللُّتيا والَّتي قوله
(1)
: المعتقِد لنقيضه، فريةٌ ما فيها مريةٌ؛ لِمَا نبَّهت عليه آنفاً.
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} : يجارون، يُقال: صَحِبَكَ الله؛ أي: حفظك وأجارَك، استئناف بإبطال ما ذُكِرَ؛ فإنَّ مَن لا يقدر على نصر نفسه ولا يحفظه الله كيف ينصرُ غيرَه ويحفظه؟!
* * *
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ثمَّ أضرب عن المتوهَّم المتبادِر من ظاهر حالهم بعدما أنكره ببيان أنَّ ما هم عليه من الحفظ والكلاءة إنَّما هو منَّا لا من مانعٍ يمنعهم من إهلاكنا، وإنَّما حفظناهم للاستدراج، وهو تمتيعه تعالى إيَّاهم وآباءهم بما قُدِّرَ لهم من الأعمار، حتى حسبوا بسبب طول
(2)
مدَّة الإمهال أنَّهم لا يزالون كذلك، وأنَّه بسبب
(3)
ما هم عليه.
(1)
في (ك): "قول".
(2)
في (ك): "بطول" بدل "بسبب طول".
(3)
في (س) و (ك): "سبب".
ثمَّ عقَّبه بما يدلُّ على أنَّه أملٌ
(1)
كاذب وغرورٌ باطل، وهو قوله تعالى:
{يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} : أرض الكفر {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بتسليط المسلمين عليها، وهو تصوير ما كان الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين، وفي إضافة إتيانهم بأمره إلى نفسه تعظيمٌ لشأنه.
{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} إنكارٌ لغلبتهم على الرَّسول عليه السلام والمؤمنين بعدَ هذه المغلوبيَّة المتجدِّدة دائماً.
وفي التَّعريف تعريضٌ بأنَّ أعداءهم هم
(2)
المعروفون المتعيِّنون بالغلبة دونهم.
* * *
(45) - {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} .
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} : بما أوحيَ إليَّ من الله تعالى، لا مِن قِبَلِ نفسي.
{وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} وقرئ: {وَلَا يَسْمَعُ} من الإسماع - على خطاب الرَّسولِ - ونصبِ {الصُّمُّ}
(3)
، وبالياء على إضماره
(4)
، و:{لَا يَسْمَعُ} مبنياً للمفعول
(5)
، من أُسْمِعَ.
(1)
في (ف): "أصل".
(2)
"هم" من (س) و (ك).
(3)
قرأ بها ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 155).
(4)
أي: (يُسْمِعُ) على إضمار الفاعل الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، هكذا ذكرها الزمخشري في "الكشاف" (3/ 119) ولم ينسبها. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو:(ولا يُسمِعُ الصُّمَّ الدعاءُ) على إسناد الفعل إلى الدعاء اتساعاً، والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: ولا يُسمِعُ النداءُ الصمَّ شيئاً. انظر: "البحر المحيط"(15/ 226).
(5)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
وفي قراءة: {يَسْمَعُ} المبني للفاعل التفاتٌ وتنويهٌ بذكر الرسول وتعظيمٌ له.
وإنَّما سمَّاهم الضُمَّ ووضعه موضع ضميرهم للدِّلالة على فرط تصامِّهم، وعدمِ انتفاعهم بالأسماع
(1)
، وإنْ جعلنا اللَّام للجنس كان أبلغَ؛ لِمَا فيه من معنى البرهان بالتَّعميم، ونوع من الكناية، وهو أبلغ مِن التَّصريح.
{إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} منصوب بـ {يَسْمَعُ} لا بـ {الدُّعَاءَ} لأنَّه مصدر، فلا يعمل إلَّا منوَّناً.
والتَّقييد به لكون الكلام في الإنذار، وللمبالغة في أنَّهم لا يتأثرون به وقت الإنذار، فضلاً عن أن يسمعوه ثم يَذهلوا عنه، ولكونه كالقرينة في الكناية، كأنَّه أمره بقوله:{إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} ، ثمَّ قال: ولا يؤثر فيكم، فأنتم صمٌّ، ولا يسمَعُ هذا الجنسُ الدُّعاءَ.
* * *
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} أصل النَّفْحِ: هبوب رائحة الشَّيء، ويستعمل في كلِّ قلَّة، يُقال: نفحَتْهُ
(2)
الدَّابةُ: إذا رمحتْه رَمحاً يسيراً، ونفحه بعطيَّة: إذا رضخه
(3)
، ففيه مبالغة من جهة مادَّته الدَّالة على معنى النَّزارة، ومن جهة صيغته؛ أي: بناءِ المَرَّة، فإنَّها لأقلِّ ما ينطلق عليه الاسم، ومن جهة تنكيره الدَّال على التَّقليل.
(1)
في (ف): "بأسماعهم".
(2)
في (ف): "نفحت".
(3)
رضخَ له: أعطاه قليلاً. انظر: "مختار الصحاح"(مادة: رضخ).
وأمَّا المس فهو أقوى من الإصابة؛ لِمَا في مفهومه من قيدٍ زائد عليها
(1)
، وهو أنْ تتأثر منه حاسَّة الممسوس
(2)
، فإيثاره هنا على الإصابة للدِّلالة على أن عذاب الله تعالى وإنْ كان في غاية
(3)
يتأثر منه مَن يصيبُه.
{مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ؛ أي: ولئن مسَّهم أدنى شيءٍ من العذاب الذي يُنذَرون به لأذعنوا واعترفوا بظلمهم في تصامِّهم وإعراضهم، داعين على أنفسهم بالويل.
* * *
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} : صفة {الْمَوَازِينَ} ، ولم يُجمَع لأنَّه مصدر وصفت به للمبالغة كلِّها في أنفسها، عدل، وجاز أن يكون على حذف المضاف؛ أي: ذواتِ القسط، وقد سبق ما يتعلَّق بوضع الموازين في سورة الأعراف، وما يدل على أنَّه حقيقةٌ لا تمثيل.
واللام في: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} للوقت؛ أي: في يوم القيامة.
وقيل: معناه: لجزاء يوم القيامة، أو لأهلهم؛ أي: لأجْلهم، على الحذف.
(1)
في هامش (س) و (ف): "والقاضي مع اعترافه بهذا على ما صرح به في سورة البقرة كيف قال هنا: (وفيه مبالغاتٌ: ذكرُ المس .. ). منه".
(2)
في النسخ: "المحسوس"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(17/ 112). ولم يرتض الآلوسي هذا الكلام.
(3)
لعل المراد: "في غاية القلة".
{فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} بنقصٍ من ثوابه الموعود، أو زيادةٍ في عذابه المعهود، ويجوز أن يكون معناه: شيئاً من الظُّلم.
{وَإِنْ كَانَ} أي: ما يُفعَل به مِنَ النَّقص والزِّيادة أو الظُّلم {مِثْقَالَ} مقدارَ {حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} وقرئ: {مِثْقَالَ} بالرَّفع
(1)
على (كان) التَّامة.
وتأنيثُ ضمير المثقال في: {أَتَيْنَا بِهَا} لإضافته إلى الحبَّة، كقولهم: ذهبتْ بعضُ أصابعه.
أي: أحضرناها، وقرئ:(آتينا)
(2)
، بمعنى: جازينا بها، من الإيتاء، فإنَّه بمعنى الإعطاء
(3)
، أو من المؤاتاة، فإنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.
* * *
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا} هذه الثَّلاثة هي التَّوراة؛ فهي فرقانٌ بينَ الحقِّ والباطل، وضياءٌ يُستضاءُ به ويُتوصَّل به إلى سبيل النَّجاة في ظلمات الحيرة والجهالة، وذِكْرٌ؛ أي: شرفٌ، أو وَعْظٌ وتنبيهٌ، أو ذِكْرُ ما يحتاج إليه النَّاس في مصالح دارهم.
(1)
قرأ بها نافع. انظر: "التيسير"(ص: 155).
(2)
نسبت لابن عباس ومجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91).
(3)
في هامش (ف): "لا قريب منه كما توهم. منه".
ودخلت الواو على الصِّفات كما في قوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا} [آل عمران: 39] 39]، وقرئ:(ضياءً) ثم بغير واو
(1)
، على أنَّه حال من {الْفُرْقَانَ} .
ولَمَّا انتفعَ بذلك المتَّقون خصَّهم الله تعالى بقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} ، ومحلُّ:{الَّذِينَ} جرّ على الوصفيَّة، أو نصبٌّ على المدح، أو رفع عليه.
{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} حال من الفاعل أو المفعول.
{وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} : القيامة وأهوالها.
{مُشْفِقُونَ} الإشفاقُ: خوفٌ مع اعتناء.
وفي تصدير الضَّمير وبناء الحكم عليه مبالغةٌ وتعريضٌ.
* * *
(50) - {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} .
{وَهَذَا} القرآن {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} : كثيرٌ خيرُه {أَنْزَلْنَاهُ} على محمَّدٍ عليه السلام.
{أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} استفهامُ توبيخ بعد وضوح إعجازه ووفور بركته.
* * *
(51) - {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} : الاهتداءَ لوجوه
(2)
الصَّلاح، وإضافتُه ليدلَّ على أنَّه رُشْدُ مِثْله
(3)
، وأنَّ له شأناً.
(1)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91)، و"الكشاف"(3/ 121).
(2)
في (ف) و (م): "الاهتداء بوجوه"، وفي (ك):"للاهتداء بوجوه". والمثبت من (س)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 121)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 53).
(3)
بإضافة "رشد" إلى "مثله"؛ أي: لتدل إضافة الرشد إلى إبراهيم على أن ما آتاه الله إياه من =
وقرئ (رَشَدَه)، وهو لغة
(1)
.
{مِنْ قَبْلُ} : مِن قبلِ موسى وهارون عليهما السلام، أو: مِن قبلِ محمَّد عليه السلام.
{وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} علمنا أنَّه أهلٌ لما آتيناه، أو جامعٌ لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق.
* * *
(52) - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} .
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} متعلِّق بـ {آتَيْنَا} ، أوبـ {رُشْدَهُ} ، أو بمحذوفٍ؛ أي: اذكر من أوقات رشده وقتَ قوله:
{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} تجاهلٌ منه وتَغَالبٍ لتحقيرِ شأنها وتوبيخهم على إجلالها؛ فإنَّ التِّمثالَ جمادٌ لا يضرٌّ ولا ينفعُ، أصله: الصُّورة المصنوعة مشبَّهةً
(2)
بمخلوقٍ من مخلوقات الله تعالى، ومنه تمثَّلْتُ الشَّيءَ بالشَّيءِ: إذا شبَّهْتهُ به.
واللام للتَّعليل؛ أي: لتعظيمها، و {عَاكِفُونَ} مجرًى إجراءَ اللَّازم، غيرُ منويَّ
= الرشد هو رشد رسول مثله، وهو رشد خاص كائن مما أوتي مثله من أولي العزم من الرسل. انظر:"حاشية القونوي" و"حاشية ابن التمجيد"(12/ 535)، وما ذكرناه ملخص كلامهما، فمن أراد التمام فليراجعهما.
(1)
نسبت لعيسى الثقفي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92)، و"البحر المحيط"(15/ 235).
(2)
في (ف): "لشبهه"، وفي (ك) و (م):"شبهه".
المفعول؛ أي: فاعلون العكوفَ لأجلها، وهو اللُّزوم لأمرٍ من الأمورِ، أو لتضمُّنِ العكوف معنى العبادة؛ لزيادة التَّوبيخِ، ويعضده ما في جوابهم
(1)
من قولهم: {لَهَا عَابِدِينَ}
* * *
(53) - {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} .
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} جوابٌ عن التَّوبيخ بأنَّه طريقة أسلافنا، ما أحدثناها.
ولَمَّا ضمَّنوا جوابهم دعوى سواءِ
(2)
طريقهم بالإسناد إلى الآباء والأجداد، ردَّ عليهم حيث:
(54) - {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ} تأكيدٌ للمتَّصل في {كُنْتُمْ} ليصحَّ العطفُ عليه.
{وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} مستقرُّون في ضلالٍ ظاهر.
والتَّأكيد بالقسم ووصفُ الضَّلال بالمبين؛ لإفادة وضوح استقرار المقلِّدين في ضلالٍ لا يخفى على مَن له أدنى عقلٍ؛ لعدم تمسُّك الفريقَيْن بدليلٍ، والتَّقليد في الأصول غير جائزٍ أصلاً، وفي الفروع إنَّما يجوز لمن علم في الجملة كونَ المقلَّدِ على الحقِّ.
* * *
(1)
في (ك): "جوابه".
(2)
في (ف) و (ك): "لرد"، والمثبت من (م)، ورسمها في (س) قريب من (م).
(55) - {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} .
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} لاستبعادهم تضليلَه إيَّاهم وآباءَهم، حسبوا أنَّه إنَّما قال ما قال
(1)
على وجه المزاح والملاعبة، فقالوا: أبجدٍّ تقولُ أم أنت لاعبٌ؟
وإنَّما غيَّروا النَّظم بإدخال الهمزة على الجملة الفعلية وقرينتها الجملة الاسميَّة لتوطينهم
(2)
أنفسَهم على أنَّه من اللَّاعبين، ورسوخِ ذلك الاعتقاد عندهم، وأمَّا القِسْمُ الأول فلم يثبت عندهم فأظهروا أنَّه إنْ ثبتَ فشيء اختلجَ في ظنِّه.
* * *
{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} إضراب عن كونه لاعباً بإقامة البرهان على ما ادَّعاه.
والضَّمير في {فَطَرَهُنَّ} لـ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: أنشأهنَّ من غير شيءٍ، أو لـ {التَّمَاثِيلُ} ، وهو أَدخَلُ في تضليلهم وإلزام الحجَّة عليهم، فكأنه قيل: إنَّه تعالى خالقٌ وهنَّ مخلوقُه، فأنَّى يُعبَد المخلوق ويُجحَدُ الخالق! {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} المذكور من التَّوحيد.
(1)
"ما قال" سقط من (ك).
(2)
في (ف): "لتوطنهم".
{مِنَ الشَّاهِدِينَ} ؛ أي: من المحققِّين له؛ لأنَّ الشَّاهد هو الذي تحقَّق لشَّيءَ وحققَّه، كأنَّه قال: وأنا أحقِّق ذلك وأُثْبته بالبرهان، لستُ مثلكم فأقولَ ما لا أقدر على إثباته
(1)
بالحجَّة، وأتمسَّكَ بالتَّقليد كما تمسَّكتم به.
* * *
(57) - {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} .
{وَتَاللَّهِ} قرئ بالباء على الأصل
(2)
، والتَّاء بدل من الواو المبدلة منها.
والتَّاء في القَسَم تفيد معنى التَّعجب من المقسَم عليه، كأنَّه تعجَّب من تسهُّل ذلك الأمر الصَّعب على يده، ولهذا عبَّر عنه بالكيد المشتمِل على نوعٍ من الحيل.
{لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} الكيدُ: الاحتيال في وصول الضَّرر إلى المَكيد.
{بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} : بعد
(3)
ذهابكم عنها.
وعن قتادة: أنَّه قال ذلك سرًّا
(4)
.
وقيل: سمعه رجلٌ واحدٌ
(5)
.
فلمَّا ذهبوا بقي إبراهيم عليه السلام فكسر الأصنام، فالفاء في قوله:
(1)
في (ف): "ثباته".
(2)
نسبت لمعاذ بن جبل. انظر: "الكشاف"(3/ 122)، وزاد في "البحر المحيط" (15/ 239): الإمام أحمد.
(3)
في (م): "يعني".
(4)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 293).
(5)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 293) عن مجاهد.
(58) - {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} .
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} فصيحةٌ، والجُذَاذُ: فُعالٌ بمعنى مَفعولٍ - كالحُطام - من الجذِّ وهو القَطْع، أو جمع جُذَاذة كزُجاجة وزُجاج.
وقرئ بالكسر
(1)
، وهو لغةٌ فيه، أو جمع جَذيذٍ، كخِفافٍ وخَفيفٍ.
وقرئ بالفتح
(2)
، و:(جُذُذاً) جمع جَذيذ، و:(جُذَذاً) جمع جُذَّةٍ
(3)
. {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} : للأصنام، أو للكفَّار. وروي أنه عليه السلام كسرها كلَّها بالفأس إلَّا كبيرَها فعلَّق الفأس في عنقه
(4)
:
{لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} : إلى الكبير {يَرْجِعُونَ} فيسألونه عن كاسرها، فيتبيَّن
(5)
لهم عجزُه.
وقيل: إلى إبراهيم عليه السلام، فيحاجُّهم بقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} فيَحُجُّهم.
أو: إلى الله؛ أي: يرجعون إلى توحيده عند تحقُّقهم عجز آلهتهم، ويرِدُ عليه أنَّه حينئذ يكون قوله:{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} أجنبيًّا في البَيْن.
* * *
(1)
قرأ بها الكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 155).
(2)
نسبت لأبي نهيك وأبي السمال. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92).
(3)
انظر القراءتين في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92)، و"الكشاف"(3/ 123) والكلام منه، و"البحر المحيط"(15/ 242).
(4)
روي نحوه عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري"(16/ 296)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 637).
(5)
في (ف): "فيبين".
(59) - {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
{قَالُوا} حين رأوا ذلك بعدَ ما رجعوا:
{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} : لشديدُ الظُّلم؛ لجراءته على الآلهة الحقيقَةِ بالإعظام.
* * *
(60) - {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} بسوءٍ، صفةٌ لـ {فَتًى} مصحِّحةٌ لتعلُّق السَّمع به، وهو أبلغ في نسبة الذِّكْرِ إليه، وقيل: مفعولٌ ثانٍ لسمع، وليس يَثبت.
{يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} صفةٌ أخرى، و {إِبْرَاهِيمُ} فاعلٌ، يُقال: لأنَّ المراد به الاسمُ لا المسمَّى.
* * *
(61){قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} .
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} في محلِّ النَّصب على الحال؛ أي: بمرأًى منهم ومَنظرٍ، بمعنى: معايَناً مشاهَداً متمكِّناً صورتُه
(1)
في أعينهم تمكُّنَ الرَّاكب على المركوب.
{لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما فعله، أو بما يُسمع منه، أو يحضرون عقوبتنا له.
* * *
(1)
في (ك): "صورة"، وسقطت من (ف).
{قَالُوا} بعدما أحضروه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ} إبراهيمُ عليه السلام:
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أَسند الفعل إلى السَّبب مجازاً؛ إذ الحاملُ على كسرهم هو؛ لأنَّه لَمَّا غاظه زيادةُ تعظيمهم له تسبَّب لمباشرته إيَّاه.
والأحسنُ الأفصح أنَّه من مَعاريض
(1)
الكلام، وذلك أنَّه لم يُرِدْ أن ينسبَ الفعل إلى الصَّنم، بل أراد تقريرَه لنفسه على أسلوبِ تعريضٍ مع الاستهزاء بهم بالغًا به غرضَه
(2)
من إلزامهم
(3)
الحجَّة وتبكيتهم، لا نفيَه
(4)
عنْ نفسه وإثباتَه للصَّنم؛ لأنَّ إثباته للعاجز - والأمر دائرٌ بينهما - استهزاءٌ به وإثباتٌ للقادر، وما روي أنه عليه السلام قال:"كذَب إبراهيمُ ثلاثَ كذبات"
(5)
، تسميةٌ للمَعاريض
(6)
بالكذب لَمَّا شابهت صورتُها صورتَه.
ويجوز أن يكون حكايةً لِمَا يؤدي إليه مذهبهم من جوازه، كأنَّه قال: ليس بمنكَرٍ أن يفعل هذا وأشدَّ منه مَن يُدْعى إلهاً.
(1)
في (ك): "معارض".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "غرضهم"، والمثبت من (س) وهو الصواب.
(3)
في (ك): "إلزام".
(4)
عطف على "تقريره".
(5)
رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
في (ك): "للمعارض".
وقرئ: (فَعَلَّهُ كبيرُهم)
(1)
بمعنى: فلعلَّه كبيرهم
(2)
؛ أي: فلعلَّ الفاعل كبيرهم.
* * *
(64) - {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} .
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} ورجعوا إلى عقولهم {فَقَالُوا} : فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} بعبادةِ مَن لا ينطقُ ولا يمكنه دفعُ الضرر عن نفسه، لا مَن ظلمتُموه بقولكم:{إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
* * *
(65) - {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} .
{ثُمَّ نُكِسُوا} النَكسُ: جعلُ الشَّيء أسفلَه أعلاه، ومنه نُكِس المريضُ: إذا رجعَ أوَل حاله.
وهو عبارةٌ عن إطراقهم رؤوسَهم خجلاً، وللمبالغة في هذا المعنى ضمَّنه معنى السُّقوط؛ أي: نُكِسُوا ساقطين {عَلَى رُءُوسِهِمْ} ، وقولهم:{لَقَدْ عَلِمْتَ} رميٌ عن حيرةٍ، ولهذا
(3)
أتَوا بما هو حجَّةٌ عليهم.
وقيل: انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة، شبَّه عَودهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشَّيءِ أعلاه.
وَيرِدُ عليه أنَّه حينئذٍ يضيع قوله: {عَلَى رُءُوسِهِمْ} .
(1)
نسبت لمحمد بن السميفع. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92).
(2)
"كبيرهم": من (ف).
(3)
في (ف): "ولقد".
وقرئ: (نكِّسوا) بالتَّشديد
(1)
، و:(نَكَسوا) على البناء للفاعل
(2)
؛ أي: نَكَسوا أنفسَهم على رؤوسهم.
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} فكيف تأمرنا بسؤالها؟ وهو على إرادة القول، كان أمرُه عليه السلام بالسُّؤال للتَّوبيخ والتَّبكيت، وحملوه على الحقيقة تجاهلاً، ثم نزَّلوا المخاطب منزلةَ الجاهل بمضمون الخبر، فلذلك أكَّدوه بـ (قد) ولامِ القسم، فكأنَّهم قابلوا توبيخه بنوعٍ من التَّشنيع.
* * *
(66) - {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} .
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ} إنكار لعبادتهم لها بعد اعترافهم بأنَّها جمادات لا تنفع ولا تضرُّ.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ} إنْ عبدتموه {شَيْئًا} في موضع المصدر؛ أي: نفعاً مّا {وَلَا يَضُرُّكُمْ} إن لم تعبدوه.
* * *
(67) - {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
{أُفٍّ} : صوتٌ إذا صُوِّتَ به عُلِمَ أنَّ صاحبه متضجِّرٌ، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وإصرارهم على الباطل بعد وضوح الحقِّ، فتأفًف بهم.
(1)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91)، و"الكشاف"(3/ 125).
(2)
نسبت لرضوان بن عبد المعبود. انظر المصدرين السابقين.
واللام في: {لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لبيان المتأفَّف به؛ أي: لكم ولآلهتكم هذا التَّأفُفُ.
وقيل: معناه: قبحاً ونَتْناً.
ثمَّ وبَّخهم
(1)
على تمادي جهلهم بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؛ أي: أَبَعْدَ وضوحِ الحقِّ وزهوق الباطل لا تدركون قُبْحَ صنيعكم؟!
* * *
(68){قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} .
{قَالُوا} أخذاً
(2)
في المضارَّة عند العجز عن المحاجَّة: {حَرِّقُوهُ} بالنَّار؛ فإنَّها أهون ما يُعاقب به وأفظع.
{وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بالانتقام منه {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فعلاً، وفيه تنزيلٌ لسائر أنواع العذاب منزلةَ العدم في هذا الباب، ولا يخفى لطف هذا التَّعبير البليغ على ذوي الألباب.
* * *
(69) - {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا} شُبِّهَتِ النَّار لمطاوعتها إرادة الله تعالى وأمرَه بمأمورٍ مطيعٍ لا يتوقَّف في الامتثال عند أمرِ الآمر المُطَاع، وبُولغ في ذلك بإقامة:
(1)
في (ف) و (ك): "وطنهم".
(2)
في (ف): "أخذ".
كوني ذاتَ بردٍ، مقامَ: ابرُدي
(1)
، ثمَّ حذف المضافَ وأقيم
(2)
المضافُ إليه مقامه.
{وَسَلَامًا} ؛ أي: ابرُدي برداً غيرَ ضارٍّ، وقيل: نصبُه
(3)
بفعله؛ أي: وسلَّمنا سلاماً عليه.
روي: أنَّهم وضعوه في المنجنيق مغلولاً فرموه في نارٍ عظيمة
(4)
، ولم يحترق منه إلَّا وثاقه، وعلى هذا تكون النَّار على حالها. ولا يناسبه المبالغةُ المذكورة في أمر تبريدها؛ فإنَّها ظاهرة في تحوُّلها
(5)
من الحرارة إلى البرودة.
ولا إشعار في قوله: {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} بعدم التَّحوُّل؛ لأَنَّه متعلِّق بقوله: {وَسَلَامًا} ، لا بقوله:{بَرْدًا} ، فالمفهوم منه اختصاصُ عدم إضرار البرد به عليه السلام
(6)
.
* * *
(70) - {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} .
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} احتيالاً في إضراره.
{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} بتصييرِ سعيهم برهاناً قاطعاً على أنَّه على الحقَ وأنَّهم على الباطل، وموجباً لارتفاع درجته واستحقاقهم أشدَّ العذاب.
* * *
(1)
بضم الراء من باب نصر وكرم. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 263).
(2)
في النسخ: "وإقامة"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(4/ 55).
(3)
في (ف): "نصب".
(4)
في (ف): "عظيم".
(5)
في (ف): "تحويلها".
(6)
في هامش (س) و (ف) و (م): "لا اختصاص برودتها به عليه السلام".
(71) - {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} .
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي: من العراق إلى الشَّام.
وبركاتُه الدِّينيَّة العامَّة: بعثُ أكثر الأنبياء عليهم السلام، وانتشار شرائعهم التي هي مَبادي الخيرات في جميع أهل العالم.
وبركاته الدُّنيويَّة: كثرةُ النِّعم والخصب بكثرة الرَّوْضِ
(1)
والماءِ والشَّجر، والرُّخصِ فيه، فهي الأرض التي بورك فيها مطلقاً.
و {بَارَكْنَا فِيهَا} أبلغ من: باركناها؛ لدلالته على الظَّرفية والاستقرار، فكأنَّ تلك الأرض محيطة لأنواع البركات إحاطةَ الظَّرف للمظروف، وهي مستقرَّة فيها لا تزول عنها.
وروي: أن إبراهيم عليه السلام نزل بفلسطين، ولوطاً
(2)
عليه السلام بالمؤتفكة، وبينهما مسيرة يوم وليلة
(3)
.
* * *
(72) - {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} .
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النَّافلةُ: ولد الولد، وهي في الأصل: الزِّيادة والفضل.
قيل: {نَافِلَةً} زيادةً على ما سألَ؛ لأنَّه عليه السلام سأل إسحاق فأُعْطِيَه، وأُعْطِيَ يعقوب زيادة على ما سأل وفضلاً، حال مختَّصة، ولا بأس به للقرينة.
(1)
الرَّوض والرياض: جمع روضة.
(2)
في (ك) و (م): "ولوط".
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 313) عن ابن إسحاق.
{وَكُلًّا} ؛ أي: من
(1)
الأربعة المذكورين {جَعَلْنَا صَالِحِينَ} لأنَّ الأنبياء هم المصلحون، وشرطُ الإصلاح هو الصَّلاح.
* * *
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يقتدون بهم {يَهْدُونَ} النَّاسَ إلى الحقِّ {بِأَمْرِنَا} لهم بذلك.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} للاهتداء أوَّلاً، ثمَّ القيام بالهداية حتى يشملَهم وأممَهم
(2)
فعلُها، ويتمَّ كمالهم بانضمام العمل إلى العلم.
وأصلُه: أن تُفعل الخير ات، ثم: فِعلاً الخيراتِ، ثم:{فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} بالإضافة، وكذلك قوله:
{وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} وهو عطف الخاصِّ على العامِّ للتَّفصيل.
وحذف تاء الإقامة المعوَّضة من أحد
(3)
الألفين لقيام المضاف إليه مقامه.
{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} مخصِّصين بنا العبادة
(4)
.
* * *
(1)
"من" من (ف).
(2)
في (م): "وأمم".
(3)
في (ف): "إحدى".
(4)
في (ف): "العبودية".
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا} : حكمةً، وهو فعلُ ما ينبغي فعلُه وجوباً أو ندباً.
وقيل: نبوَّة، أو فصلاً بين الخصوم.
{وَعِلْمًا} بما ينبغي علمُه للأنبياء عليه السلام.
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ} هي سدوم.
{الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} من اللِّواطة وسائر المنكرات التي كانوا يأتونها في ناديهم، وصَفها بصفة أهلها، وأسندَها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه، على ما دلَّ عليه التعليل بقوله:
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} ونكتةُ ذلك الإشعارُ بعلامة السَّببية، فإنَّ للتُّربة تأثيراً في تغيير طبيعة أهلها من السَّداد إلى الفسادِ، ولذلك قال:{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ} ؛ أي: أخلصناه من تلكَ التُّربة الخبيثة.
* * *
(75) - {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} ؛ أي: في أهل رحمتنا، أو: في الجنَّة.
{إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين سبقَتْ لهم منَّا الحسنى، وهو كالتَّعليل لِمَا تقدَّمَ.
* * *
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى} ؛ أي: دعا ربَّه على قومِه بالهلاك {مِنْ قَبْلُ} المذكورين {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءَه.
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} هو الطُّوفان، أو أذى قو مه، والكربُ: الغمُّ المفرِط.
* * *
{وَنَصَرْنَاهُ} فانتصر
(1)
{مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} فتعديتُه بـ {مِنَ} بمدلوله إشارةً، لا بما في مفهومه من معنى المنع، ولا بتأويل
(2)
: جعلناه منتصراً
(3)
.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} تعليلٌ لِمَا تقدَّم، وتمهيدٌ لِمَا تأخَّرَ.
{فَأَغْرَقْنَاهُمْ} لذلك {أَجْمَعِينَ} عذاب الاستئصال لشدَّة الغضب، وهي لكمال استحقاقهم له.
* * *
(1)
في (م): "فانتصرنا"، وسقطت من (ف).
(2)
في (ف): "بتأويله".
(3)
في هامش (ف): "فإن الانتصار لازِمُ نصره تعالى لا يتخلف عنه، ففي التَّعدية بذلك الاعتبار تنبيهٌ على أنَّ نصرته تعالى ليس من جنس نصر العباد، فافهم، والله الهادي إلى سبيل الرَّشاد. منه".
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} نصب باذْكُرْ، {إِذْ} بدلٌ منهما {يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} هو محلُّ الزَّرع.
{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال ابن السِّكِّيْتُ: والنَّفْشُ: مصدر نفشْتُ القطنَ وغيره، والنَّفْشُ: أن تَنْفُشَ الإبلُ باللَّيل فترعى
(1)
.
{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} جمع الضَّمير لأنَّه أرادهما والمتحاكمَينِ إليهما، وقرئ:(لِحُكْمِهِما)
(2)
.
{شَاهِدِينَ} : عالِمِين.
* * *
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الضَّمير للحكومة، أو الفتوى.
روي
(3)
أن داود عليه السلام حكم الغنم لصاحب الحرث، فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشر سنة -: غير هذا أرفق بالفريقَيْن، فعزم عليه ليحكمَنَّ، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود كهيئة يوم أُفْسِدَ،
(1)
انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (1/ 38).
(2)
دون نسبة في "معاني القرآن" للفراء (2/ 208)، ولابن عباس وابن مسعود وابن أبي عبلة في "زاد المسير"(5/ 371).
(3)
في (ف): "يروى".
ثم يترادَّان، فقال: القضاءُ ما قضيْتَ، وأمضى الحكم بذلك
(1)
.
وكان ذلك باجتهاد منهما، وهذا كان في شريعتهم، وعدمُ انتقاض حكم الاجتهاد باجتهادٍ آخر في شريعتنا، فلا دلالة فيه على أنَّهما حَكَمَا بالوحي، أو كان حكم سليمان عليه السلام وحدَه بالوحي.
ولَمَّا كان المتبادِر إلى الوهم من تخصيص سليمان عليه السلام بتفهيم الحكومة أنْ لا يكون ما قضاه داود عليه السلام حكماً شرعيًّا دفعَه بقوله:
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فالقول السَّابق دلَّ على أنَّ الأصوبَ كان حكمَ سليمان عليه السلام، وهذا القولُ دلَّ على أنَّهما جميعاً على الصَّواب، ففيه دليل على أنَّ كلُّ مجتهِدٍ مصيبٌ.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} حال بمعنى: مسبِّحاتٍ، أو استئنافٌ على تقدير سؤال سائل قال: كيف سخرهنَّ
(2)
؟ فقال: يسبِّحنَ؛ أي: يقدِّسْنَ اللهَ تعالى. و {مَعَ} متعلِّقة به، أوبـ {وَسَخَّرْنَا} ، وتتمَّة الكلام تأتي في (سورة سبأ) بإذن الله تعالى.
{وَالطَّيْرَ} عطف على {الْجِبَالَ} ، أو مفعول معه، وإنَّما قدَّم الجبال على الطَّير، وجعلَتْ أصلاً في التَّسبيح؛ لأنَّ تسخيرها وتسبيحها أدلُّ على القدرة، وأدخَلُ في الإعجاز، وأخرقُ للعادة؛ لأنَّها جماد. وقرئ بالرَّفع على الابتداء
(3)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 128). رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 322 - 328) عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما.
(2)
في (ك): "تسخرهن".
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 57)، و"البحر المحيط"(15/ 261).
{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} : قادرين على أمثاله، ليس ببِدْعٍ منَّا وإنْ كان عجيباً عندكم، أو: فاعلين للأنبياء أمثالَ ذلك.
* * *
(80) - {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} .
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} اللَّبوسُ: اللِّباسُ، والمراد الدِّرع؛ قال قتادة: كانت صفائح، فأوَّل مَن حلَّقها وسَرَدها داود عليه السلام، فجَمَعَتِ الخفَّةَ
(1)
والتَّحصين
(2)
.
{لَكُمْ} متعلِّق بـ (علَّم)، أو صفةٌ لـ {لَبُوسٍ} .
{لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} بدل منه بدلَ الاشتمال بإعادةِ الجارِّ، والضَّمير لداود عليه السلام، أو لـ {لَبُوسٍ} .
وقرئ بالتَّاء للصَّنعة، أو لـ {لَبُوسٍ} على تأويل الدِّرع، وقرئ بالنُّون لله تعالى
(3)
.
{فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أصله: فهل تشكرون؟ لاقتضاء الاستفهام الفعل، فعدل عن الجملة الفعلية إلى الاسميَّة
(4)
، ولم يقل: فهل أنتم تشكرون
(5)
؛ لئلا يُفْهَم منه رائحة التَّجدد، ويفهم منه طلبُ دوام الشُّكر، وهو أمرٌ أُخرِجَ
(1)
في (ف) و (ك): "للخفة"، وفي (م):"الحصنة"، والمثبت من (س) و"الكشاف"(3/ 129).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 129). وروى نحوه الطبري في "تفسيره"(16/ 329).
(3)
قرأ ابن عامر وحفص: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتَّاء، وأبو بكر بالنُّون، والباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص:155).
(4)
في (ف): "اسمية".
(5)
في (ف) زيادة: "أصله"، ولا معنى لها.
في صورة الاستفهام، وأُفرغ في هذا القالب؛ للمبالغة في طلب دوام الشُّكر مع التَّقريع.
* * *
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} : وسخَّرناها له، وإنَّما جيء باللَّام فيه وبـ {مَعَ} في داود عليه السلام على تعلُّقه بـ (سخرنا)؛ لأنَّ نفع تسخير الرِّيح - وهي جريانها بأمره - مختصٌّ به، بخلاف تسبيح الجبال، بعد اشتراكهما في خرق العادة
(1)
.
{عَاصِفَةً} وصف الرِّيحَ هنا بالعصف، وهو شدة الهبوب، وفي سورة (ص) بالرَّخاوة لكونها في نفسها رخيَّةً طيِّبةً كالنَّسيم
(2)
، وفي فعلها بكرسيه عليه السلام وإذهابهِ في مدَّةٍ يسيرة عاصفةً.
وقيل: كانت عاصفةً تارة، ورُخاءً أخرى، على حسب إرادته.
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ} : بمشيئته، حال ثانية، أو بدلٌ من الأولى، أو حالٌ من ضميرها.
{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ؛ أي: حاملةً لكرسيِّه إليها؛ أي: إلى الشَّام، وكان
(3)
منزله بها، وتحمله الرِّيح من نواحي الأرض إليها.
{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} فنُجْريهِ على ما تقتضيه الحكمة.
* * *
(1)
في هامش (ف): "في تقرير القاضي نوع قصور وخلل، فتأمَّل. منه".
(2)
في (م): "كالنسم".
(3)
في (ف): "وكانت".
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار فيستخرجون نفائسها.
و {مَنْ} منصوب المحلِّ، عطف على {الرِّيحَ} ، أو مرفوع بالابتداء، و {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} خبره قدِّم
(1)
عليه، فساغ الابتداء بها وهي نكرة على أنَّها موصوفة.
{وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} : ويتجاوزون ذلك إلى أعمالٍ أُخَر، على ما فصَّلَ في سورة (ص).
{وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أن يزيغوا عن أمره، أو يميلوا إلى الفساد الذي هو مقتضى جِبِلَّتهم.
* * *
(83) - {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} نصب بإضمار (اذكر)، و {إِذْ} بدل منه.
{أَنِّي مَسَّنِيَ} ؛ أي: بأني، وقرئ بالكسر
(2)
على إضمار القول، أو تضمُّنِ النِّداء معناه.
{الضُّرُّ} بالفتح شائع في كلِّ ضرر، وبالضَّمِّ مختصّ بما في النَّفس من مرضٍ وهُزال.
(1)
في (ف): "مقدم".
(2)
دون نسبة في "الكشاف"(3/ 130)، ولأبي عمران الجوني في "زاد المسير"(5/ 375)، ولعيسى بن عمر في "البحر المحيط"(15/ 268).
{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وصف ربَّه بغاية الرَّحمة بعدما وصفَ نفسَه بما يوجبها، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب؛ رعايةً لحسن السُّؤال ولطفه، وقضاءً لحقِّ الأدب.
وكان روميًّا من ولد عيص بن إسحاق عليه السلام، استنبأه الله تعالى، وكثر أهله وماله، فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده، وذهاب أمواله، والمرضِ في بدنه ثماني عشرةَ سنة، وقالت له امرأته يوماً: لو دعوْتَ اللهَ تعالى، فقال لها: كم كانت مدَّة الرَّخاء؟ قالَتْ: ثمانين سنة، فقال: أنا أستحي
(1)
من الله تعالى أن أدعوَه وما بلغَتْ مدَّةُ بلائي مدَةَ رجائي
(2)
.
* * *
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} عظيمٍ بالشِّفاء من مرضه.
{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} لَمَّا كشفَ اللهُ تعالى عنه أَحْيَى ولدَه بأعيانهم، ورزقَه مثلَهم معهم
(3)
.
{رَحْمَةً} على أيُّوب {مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} : وتذكرةً لغيره من العابدين،
(1)
في (ك): "أستحيي"، وكلاهما صواب.
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 131).
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 366 - 367) عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. وخبر ابن مسعود ضعيف لانقطاعه؛ لأنَّه من رواية الضحاك عنه، وخبر ابن عباس ضعيف جدًّا لضعف رواته.
ليصبروا
(1)
كما صبرَ، فيثابوا كما أُثِيْبَ في الدُّنيا والآخرة، أو: لرحمتنا للعابدين، وأنَّا نذكُرهم بالإحسان ولا ننساهم
(2)
.
وإذا أوقعنا الرَّحمةَ والذِّكْرَ على العابدين، ولم نخصِّص الرَّحمةَ بأيُّوب، دخل هو فيهم دخولاً أوَّليًّا، وأفاد أنَّ الرَّحمة والذِّكر بالإحسان إنَّما كانا بسبب العبادة والصَّبر، فكلُّ عابدٍ مرحومٌ مذكورٌ بالإحسان، وكان مِن باب إقامةَ المظهَر مقامَ المضمَر، فكان آكَدَ وأبلغ لإثبات الرَّحمة له بالبرهان.
* * *
(85) - {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} هو إلياسُ عليه السلام، وقيل: يوشعُ، وقيل: زكريَّا، سُمِّيَ بذلك لأنَّه كان ذا الحظِّ مِنَ الله تعالى، أو تكفَّل أمَّته.
وقيل: كان له ضِعفُ عمل أنبياء زمانه وضِعفُ ثوابهم، والكِفْلُ يجيء بمعنى النَّصيب والكفالة والضِّعف.
{كُلٌّ} أي: كلُّ هؤلاء {مِنَ الصَّابِرِينَ} على مشاقِّ التَّكاليف وشدائد النَّوائب.
* * *
(86) - {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} قد سبق تفسيره، وتفسير:{إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
(1)
في (ف): "فيصبروا".
(2)
قوله: "أو لرحمتنا للعابدين
…
" إشارةٌ إلى أن رحمة وذكرى تنازعا قوله: {لِلْعَابِدِينَ} لا أنه متعلق بذكرى وحده كما في الوجه السابق. انظر: "حاشية الشهاب" (6/ 268).
{وَذَا النُّونِ} : وصاحبَ الحوت يونسَ عليه السلام {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} لقومِه؛ لكثرة ما قاسى في دعوتهم، وشدَّةِ سآمته لطول ما ذكَّرهم فلم يذَّكَّروا، فهاجر عنهم، أو: أغضبهم بمهاجرته لخوفِهم لحوق العذاب بهم، وكان عليه أن ينتظر الإذن، فلم يصبر، وظنَّ أنَّ المهاجرة أولى لكونها للغضب لله ودينه، والبغضِ للكفر وأهله، فابتليَ ببطن الحوت، وهو بناء المغالبة للمبالغة
(1)
؛ لأنَّ المغالب يُنفذ وسعه في الفعل.
أو بمعنى: مُغْضَباً، وقد قرئ به
(2)
.
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} من القَدْر وهو التَّضييق، لا من القدرة، ويعضده أنَّه قرئ مثقَّلاً
(3)
، ويجوز أن يكون {نَقْدِرَ} مخفَّفاً من القدرة، بمعنى: أنْ لن نُعمل قدرتنا فيه.
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} أي: في الظُّلمة الشَّديدة المتكاثفة في بطن الحوت.
(1)
قوله: "وهو من بناء المغالبة"؛ أي: المفاعلة، واختاره (أي: البيضاوي) لمجانسته المبالغة، ولأنّ التفاعل يكون بين اثنين يَجهد كل منهما في غلبة الآخر، فيقتضي بذل المقدور والتناهي، فاستعمل في لازمه للمبالغة دون قصد مفاعلة. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 269).
(2)
نسبت لأبي شرف. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92)، و"الكشاف"(3/ 131).
(3)
نسبت لابن أبي ليلى وأبي شرف والكلبي ويعقوب. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92). وقراءة يعقوب المشهورة عنه: {يُقدَر} بالياء مضمومة وفتح الدال. انظر: "النشر"(2/ 324).
وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر واللَّيل.
{أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} : بأنَّه لا إله إلا أنت، أو بمعنى: أيْ.
{سُبْحَانَكَ} أنْ يعجزك شيء.
{إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لنفسي بالمبادرة إلى المهاجَرة.
* * *
(88) - {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} .
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} بأنْ قذفه الحوت إلى السَّاحل. و {الْغَمِّ} : غمُّ الالتقام.
{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} من غمومٍ دعَوا الله بالإخلاص. وقرئ: (ننجِّي) مثقَّلاً
(1)
.
وفي "الإمام": {نجي} ، فلذلكَ أخفى الجماعة النُّون الثَّانية؛ فإنَّها تخفى مع حروف الفم
(2)
، ومَنْ شدَّد الجيم
(3)
فوجهُ صحَّته مشكلٌ، لا يكاد يتمشَّى.
(1)
نسبت للجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92)، و"الكشاف"(3/ 131).
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 59).
قال الشهاب: قوله: (في الإمام) الإمام اسم للمصحف العثماني، ولا يختص بما كان عنده رضي الله عنه وهو شهيد؛ لتعدده كما بيَّنه القراء، وقوله:(نُجي)؛ أي: رسم فيه بنون واحدة، وقوله: (ولذلك
…
) لا يخفى ما في هذا التعليل، فإنَّ القراءة مبنية على صحة الرواية لا مجرّد متابعة للرسم العثماني كما تُوهمه هذه العبارة، فالظاهر أن يؤوَّل بأن المراد: اختار الجماعة هذا على القراءة بنونين لكونه أوفَق بالرسم العثماني فتأمل، وقوله:(فإنها)؛ أي: النون (تخفى) بالبناء للمعلوم والمجهول، والإخفاء: حالة للحرف بين الإظهار والإدغام، وحروف الفم هي الحروف التي مخرجها من فضاء الفم، وهي ثلاثة: الجيم والشين والضاد، وتسمى: الأحرف الشجرية. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 270).
(3)
قرأ ابن عامر وأبو بكر: (نجِّي) بنون واحدة مشدَّداً، والباقون بنونين مخففاً. انظر:"التيسير"(ص: 155).
(89) - {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} .
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} : وحيداً؛ أي: ارزقني ولداً يرثني.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} استسلام وتفويض بعد السُّؤال؛ لأنَّه اقتراح وجرأة على الله تعالى؛ أي: الأمرُ إليك، فإنْ لم ترزقني فلا بأسَ، وأنتَ خيرُ الوارثين.
* * *
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي: حسَّنَّا خُلُقَها، وكانت سيِّئة الخُلُقِ.
وقيل: جعلناها صالحة للولادة بعد عُقرها.
وفيه: أنَّ حقَّ النَّظم والتَّرتيب أن يذكر {وَأَصْلَحْنَا} قبل {وَوَهَبْنَا} .
{إِنَّهُمْ} ؛ أي: الأنبياءَ المذكورين {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} المسارعةُ: المبادرة، وتعديتُها بـ (إلى)، وإنَّما عدلَ عنها إلى {فِي} للدِّلالة على أنَّهم لا يغترُّون
(1)
بتحصيل بعض الخيرات، بل يُظهرون الجِدَّ والرَّغبة إلى تحصيل بعضٍ آخر منها، وهذه الدلالة تجعل الخيرات ما فيه المسارعة، لا ما إليه.
{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} ؛ أي: طمعاً وخوفاً، كقوله تعالى:{يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر: 9]، وهما مصدران في موضع الحال، أو المفعولِ له؛ أي:
(1)
تحتمل في بعض النسخ أو كلها: "يفترون"، والمثبت أوفق بحرف الجر المتعلق به.
للرَّغبة فينا والرَّهبة منَّا، وهو بإشارته إلى أنَّهم يعلمون أنَّ النَّفع والضُّرَّ مِن الله تعالى تمهيدٌ لِمَا دلَّ عليه قوله:
{وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} من ثباتهم واستمرارهم، على تخضيص الخشوع له تعالى، وقد سبقَ تفسير الخشوع، والمعنى: أنَّهم ما استحقُّوا الإجابة إلى طلباتهم، وما نالوا من الله تعالى ما نالوا، إلَّا بهذه الخِصَال.
* * *
{وَالَّتِي} واذكر التي؛ يعني: مريم، وإنَّما ذكرها بطريق الكناية لأنَّ تنويه الشَّأن بالأسماء حقُّ الرِّجال.
{أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا} الإحصانُ: إحرازُ الشَّيء عن الفساد، والفاء التفريعية في قوله:
{فَنَفَخْنَا} قد دلَّت على أنَّ المراد: حفظُها من الحرام فقط؛ لأنَّ النكّاح مستحبٌّ، بل سُنَّة قديمة، فلا يصلح الاحتراز عنه منشأً للفضيلة.
{فِيهَا} أي: فعلنا النَّفخ في مريم.
{مِنْ رُوحِنَا} : من جهته، والمراد من الرُّوح: جبريلُ عليه السلام، فإنه نفخ في جيب درعها، فوصل النَّفخ إلى جوفها، وإضافتُه إليه تعالى للتَّشريف.
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا} ؛ أي: حالها وهي ولادتها إيَّاه من غير فحلٍ
(1)
، ولذلك وحَّدَ قوله:
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "محل"، والمثبت من (س) و"الكشاف"(3/ 133).
{آيَةً} والتَّقدير: وجعلناها آية وابنها كذلك، ويعضدُه قراءة:(آيتين)
(1)
.
{لِلْعَالَمِينَ} فإنَّ مَن تأمَّل حالَهما تحقَّق كمال قدرة الصَّانع تعالى.
* * *
(92) - {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} الأمَّة: الملَّة، والإشارة إلى ملَّة التَّوحيد والسَّلام؛ أي: إنَّ هذه الملَّةَ ملَّتكم التي يجب أن تكونوا عليها.
{أُمَّةً} : ملَّةً، حالٌ من معنى الإشارة في {هَذِهِ} أي: يُشار إليها أمَّة.
{وَاحِدَةً} غيرَ مختلفةٍ فيما بين الأنبياء عليهم السلام.
قرئ: (أمَّتكم) بالنَّصب على البدل من {هَذِهِ} و (أمَّةٌ) بالرَّفع على الخبر
(2)
.
وقرئ برفعهما
(3)
على أنهما خبران أو قدِّر للثَّاني مبتدأ على: هي أمَّة.
{وَأَنَا رَبُّكُمْ} ربٌّ واحدٌ لا إلهَ غيري {فَاعْبُدُونِ} لا غيري.
* * *
(93) - {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} .
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} كان الخطاب السَّابق عامًّا للنَّاس كافَّة، فالتفتَ إلى الغيبة لينعى على الذين تفرَّقوا في الدِّين وكانوا شيعاً تقبيحَ فعلهم إلى غيرهم؛
(1)
نسبت لابن مسعود وابن أبي عبلة. انظر: "زاد المسير"(3/ 211).
(2)
نسبت للحسن. انظر: "الكشاف"(3/ 134).
(3)
نسبت للحسن وابن أبي إسحاق. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 91)، و"الكشاف"(3/ 134).
تمثيلاً لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فِرَقاً وأضراباً شتَّى؛ أي: جعلوا أمرَ دينهم فيما بينهم قطعاً، كما يتوزَّع الجماعة الشَّيء ويقسمونه قطعة قطعة
(1)
.
{كُلٌّ} ثمَّ توعَّدهم بأنَّ كلَّ واحدة من تلك الفِرَق.
{إِلَيْنَا} خاصَّة لا إلى غيرنا {رَاجِعُونَ} فنجازيهم.
* * *
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسوله.
{فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} استُعير الكفران لمنع الثَّواب والحرمان كما استُعير الشُّكر لإعطائه وقيل: إنَّ اللهَ شكورٌ
(2)
، ونُفِيَ
(3)
نَفْيَ الجنس للمبالغة، فمانَّه أبلغ من أن يُقال: فلا نكفر سعيه.
ثمَّ بُولِغَ وأكِّد في عدم تضييع سعيه بـ (إنَّ) وتقديم الجارِّ والمجرور فقيل:
{وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} ؛ أي: لذلك السَّعي في صحيفة عمله مُثْبتون له، فلا تضييع بوجهٍ مّا.
* * *
(1)
"قطعة" سقط من (ف) و (م).
(2)
يعني: الكفران مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: شكور. انظر: "الكشاف"(3/ 134).
(3)
في (ك) و (م): "نفي"، والمثبت من (س) و (ف)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (6/ 273)، وفي "الكشاف" (3/ 134): (وقد نفي نفي
…
).
(95) - {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} .
{وَحَرَامٌ} وقرئ: {وَحَرَامٌ}
(1)
، وهما لغتان، كحَلالٍ وحِلٍّ.
{عَلَى قَرْيَةٍ} أي: ممتنعٌ على أهل قرية.
{أَهْلَكْنَاهَا} : أردنا إهلاكها باستئصال أهلها.
{أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} : رجوعُهم إلى التَّوبة أو الحياة، و {لَا} صلةٌ، أو: عدمُ رجوعهم للجزاء، و (إنَّ) مع اسمها وخبرها مبتدأ، خبره (حرام).
وقرئ: (إنهم) بالكسر
(2)
، على أنَّ الكلام تمَّ قبله، والمبتدأ محذوفٌ دلَّتْ عليه الآية المتقدمة؛ أي: وحرام على قرية أهلكناها ذلك؛ أي: العملُ الصَّالح والإيمانُ والسَّعيُ المشكور غيرُ المكفور، ثمَّ استُؤنف على سبيل التَّعليل، فقيل: إنَّهم لا يرجعون عن الكفر.
وعلى قراءة الفتح أيضاً لا يَبعد هذا الوجه؛ أي: لأنهم لا يرجعون.
* * *
(96) - {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} .
{حَتَّى} هي التي يُحكى بعدها الكلام، والكلام المحكيُّ الجملة من الشَّرط والجزاء؛ أعني:
{إِذَا} وما في حيِّزها.
{فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} المفتوح حقيقةً هو السَّدُّ المنسوب إليهما، وإنَّما
(1)
قرأ بها أبو بكر وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 155).
(2)
نسبت للحسن. انظر: "معاني القرآن" للنحاس (5/ 490)، و"الكشاف"(3/ 134).
أسند إليهما على التَّجوُّز؛ لعلاقةٍ ظاهرة، ونكتةٍ لا يَخْفَى لطفُ موقعها.
و {حَتَّى} متعلِّقة بـ {وَحَرَامٌ} ، أو بمحذوفٍ دلَّ عليه الكلام؛ أوبـ {لَا يَرْجِعُونَ} أي: يستمر الامتناع، أو الهلاك، أو عدم الرُّجوع، إلى قيام السَّاعة، وفتحُ السَّد من أمارتها كُني به عنه.
{وَهُمْ} يعني: يأجوج ومأجوج {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} : مرتفَعٍ من الأرض، ولفظة {كُلِّ} للمبالغة في الكثرة.
أو المراد النَّاس كلُّهم، ويعضده قراءة ابن عباس رضي الله عنه:{حَدَبٍ} بالجيم والثَّاء
(1)
، وهو القبر.
{يَنْسِلُونَ} : يسرعون.
* * *
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ؛ أي: القيامة.
{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} جواب الشَّرط، و (إذا) للمفاجأة سدَّ مسدَّ الفاء الجزائيَّة؛ كقوله:{إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، فإذا جاء الفاء معها تظاهرت على وصل الجزاء بالشَّرط، فيتأكَّد
(2)
، وتوهُّمُ الجمع بين البدل والمبدَل ساقطٌ؛ لأنَّ (إذا) باقية على حالها، لم تُمحَّض بدلاً حتى يلزم الامتناع.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 92)، و"الكشاف"(3/ 135).
(2)
في (ف): "فتأكد".
ويجوز أن يكون الضَّمير بعدها ضميرَ القصَّة، و {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ، {شَاخِصَةٌ} خبره، وأن يكون ضميراً مبهماً يفسِّره {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
{يَاوَيْلَنَا} مقدَّر بالقول، واقع موقع الحال من الموصول.
{قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} اليوم.
{بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أنفسَنا بعدم الاعتبار بإنذار المنذِرين، إضرابٌ عن الإخبار عن استقرارهم في الغفلة، وإبطالٌ له بالاعتراف بما هو الحقُّ.
* * *
(98) - {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} .
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أراد الأوثان؛ إذ الخطاب لقريش، لا الشَّيطانَ وأعوانَه؛ لِمَا سيأتي أن (ما تعبدون) لا يتناول ذوي العقول، ولا دلالة على ذلك فيما روي: أنَّه عليه السلام لَمَّا تلا الآية على المشركين قال له ابن الزِّبَعْرَى: خَصَمْتُك وربِّ الكعبة! أليس اليهود قد عبدوا عزيراً، والنَّصارى المسيحَ، وبنوا مليح الملائكة، فقال عليه السلام:"بل هم عبدوا الشَّياطين التي أمرتْهم بذلك"، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية [الأنبياء: 101]
(1)
.
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12739)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص: 305)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 69): رواه الطبراني، وفيه عاصم بن بهدلة وقد وثق وضعفه جماعة. وانظر:"الكشاف"(3/ 136)، و"تفسير الثعلبي"(4/ 276). ورواه بنحوه دون ذكر الآية الإمام أحمد في "المسند"(2918).
وليس فيه تخصيصٌ تأخَّر عن الخطاب؛ لأن (ما) لمن لا يعقل، فلا يتناولهم، دلَّ على ذلك ما رُوي أن النبيَّ
(1)
عليه السلام قال له: "ما أجهلك بلغة قومك! أما علمت أنَّ (ما) لما لا يعقل"
(2)
، فعلى هذا يكون قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ} الآيةَ لدفع احتمال المجاز والتَّغليب، لا لتخصيص العامِّ كما سبق إلى بعض الأوهام.
{حَصَبُ جَهَنَّمَ} الحَصَبُ: ما يُرْمَى به، فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ؛ أي: يُحصب بهم في النَّار، وقرئ بسكون الصَّاد
(3)
وصفاً بالمصدر.
{أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} : استئناف أو بدل من {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، واللَّام معوَّضة من (على) للاختصاص والدِّلالةِ على أنَّ ورودهم لأجلها.
* * *
(99) - {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} .
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ؛ لأنَّ الورود للنَّار
(4)
- وإن لم يلزمه العذابُ على ما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]- ليس مِن شأنَّ المعبودِ المختارِ.
{وَكُلٌّ} أي: العابد والمعبود.
{فِيهَا خَالِدُونَ} إنَّما قُرِنوا بآلهتهم لزيادة تعذيبهم؛ فإنَّ ما أصابهم إنَّما أصابهم
(1)
في (ف): "أنه".
(2)
قال ابن حجر في "الكافي الشاف"(ص: 111 - 112): لا أصل له، والوضع عليه ظاهر.
(3)
نسبت لابن السميفع. انظر: "المحتسب"(2/ 66)، و"المحرر الوجيز"(4/ 101).
(4)
في (م): "في النار".
بسببهم، فإذا قُرِنوا بهم ازداد غمُّهم وحسرتهم للِّقاء المؤذي، ولأنَّهم قدَّروا انتفاعهم في الآخرة بهم، وإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدَّروا لم يكن شيءٌ بلا أبغضَ إليهم منهم، ومن هنا اتَّضح وجهُ خلودها في النَّار.
* * *
(100) - {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} .
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} : أنينٌ وتنفُّسٌ شديد، وفيه تجوُّزٌ من جهة نسبة فعل البعض إلى الكلِّ، وتغليبٌ من جهة إطلاقهم على مجموع العقلاء وغيرهم، ولا تأثير للتَّغليب في الأوَّل.
{وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} من الهولِ وشدَّة العذاب، وذلك بعد حين؛ لِمَا وردَ في بعض الآيات من مكالمتهم مع
(1)
خزنةَ النَّار.
* * *
(101) - {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} : الخصلة الحسنى، وهي السَّعادة القصوى، أو البُشرى بالثَّواب، أو التَّوفيق للطَّاعة.
{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بدخول الجنَّة، سبقت الغاية في البداية، فظهرت الولاية في النِّهاية.
وفي عبارة {مُبْعَدُونَ} إشارةٌ إلى أنَّهم يَرِدونها ويقربون منها أوَّلاً، ولمَّا كان ذلك مظنّةَ أن يتأذَّوا عنها عند ورودهم إيَّاها وقُربهم منها دفعَه بقوله:
(1)
"مع" ليست في (ف).
(102) - {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} .
{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} : صوتَها الذي يُحَسُّ وحركةَ لهبها
(1)
، حالٌ من ضمير {مُبْعَدُونَ}؛ يعني: أنهم في حال سلامتهم عنها وعن آثارها المؤذية يَرِدُونها ويُبعدون عنها.
{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} الشَّهوةُ: طلبُ النَّفسِ اللَّذَّةَ؛ أي: دائمون في الاستغراق في مشتهياتهم، وتقديم الظَّرف للاختصاص، ومحافظةِ الفواصل.
* * *
{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} ؛ أي: النَّفخةُ الآخرة
(2)
؛ لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87].
{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ؛ أي: تستقبلهم مهنِّئين.
{هَذَا يَوْمُكُمُ} : يومُ ثوابكم
(3)
، وهو مقدَّرٌ بالقول.
{الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} في الدُّنيا.
* * *
(1)
في (ف): "صوتها وحركتها التي سجى تلهبها".
(2)
في (ك): "الأخيرة".
(3)
في (ك) و (م): "تقربكم".
والعامل في {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} : {وَتَتَلَقَّاهُمُ} ، أو {الْفَزَعُ} ، أو {لَا يَحْزُنُهُمُ} .
والطَّيُّ: ضدُّ النَّشرِ، أو: المحوُ، من قولك: اطوِ عنِّي هذا الحديث.
{كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} : كطيِّ الطُّومار لأجل الكتابة، أو: لِمَا يُكْتَب، أو كُتِبَ فيه، ويؤيِّده القراءة على الجمع
(1)
؛ أي: للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه.
وقيل: السِّجلُّ: مَلَكٌ يطوي كتبَ الأعمال إذا رُفِعَتْ إليه.
وفيه: أنَّ حقَّ التَّشبيه أن يكون بالمعهود المعروف، وطيُّ ذلك
(2)
الملَك لم يُعرَف إلَّا مِن هذا الكلام.
وقيل: كاتبٌ كانَ لرسول الله عليه السلام.
وفيه: أنَّه ليس لطيِّه خصوصيَّةٌ زائدة، وتخصيصُ التَّشبيه به يقتضي ذلك.
وقرئ: (السَّجْلِ) كالدَّلْو، و:(السُّجُلِّ) كالعُتُلِّ، وهما لغتان فيه
(3)
.
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} {أَوَّلَ خَلْقٍ} مفعول {بَدَأْنَا} ، ومحلُّ الكاف النَّصبُ على المصدر، و (ما) كافَّة، أو مصدريَّة؛ أي: مثلَ ما بدأنا أوَّل خلقٍ نعيده.
أو مفعول (نعيد) مضمرٍ يفسِّره ما بعده
(4)
؛ أي: نعيدُ أوَّل خلقٍ كما بدأناه.
(1)
قراءة حفص وحمزة والكسائي، وباقي السبعة بالإفراد. انظر:"التيسير"(ص: 155).
(2)
"ذلك" من (س) و (ك).
(3)
انظر القراءتين في "الكشاف"(3/ 137). والثانية نسبت لأبي هريرة رضي الله عنه وصاحبه أبي زرعة بن عمرو بن جرير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 93)، و"المحتسب"(2/ 67).
(4)
أي: {أَوَّلَ خَلْقٍ} مفعول (نعيد) المضمر الذي يفسره {نُعِيدُهُ} المذكور، وهو ما يسمى النصب =
ويجوزُ أن تكون الكاف منصوبة بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره {نُعِيدُهُ} (ما) موصولة و {أَوَّلَ خَلْقٍ} نصب على الظَّرف
(1)
لـ {بَدَأْنَا} ؛ أو نصب على الحال من ضمير الموصول المحذوف المقدَّر
(2)
في {بَدَأْنَا} ؛ أي: نعيدُ مثلَ الذي بدأنا ونعيده في أوَّل خَلْقِنا إيَّاه، أو حالَ كونه أوَّل خلقٍ، شُبِّهَتِ الإعادة بالإبداء في تعلُّق القدرة بهما على السَّواء، والمرادُ إثبات صحَّة الإعادة بالقياس على الإبداء؛ لشمول الإمكان الذَّاتي المصحِّح للمقدورية لهما؛ أي: كما أنَّ أوَّل إيجاده من عدم نعيده ثانياً عن عدم.
وإنَّما وحَّد {خَلْقٍ} ونكَّر ليفيدَ تفصيلهم واحداً واحداً
(3)
، والمعنى: أوَّل الخلائق، كما تقول: أوَّل رجل جاءني، بمعنى: أوَّل الرِّجال، وإنَّما نُكِّرَتْ ووُحِّدَتْ ليفيد تفصيلهم رجلاً رجلاً، هذا تحرير ما قالوا.
والذي يظهر لي: أنَّ الخلق بمعنى المخلوق، وتقييده بالأوَّل لإخراج
(4)
المخلوق ثانياً - وهو الرُّوح - عن متناوَل الكلام؛ لأنَّه في إعادة البدن، وهو المخلوق أوَّلاً؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، فتدبَّر.
{وَعْدًا عَلَيْنَا} مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ قوله: {نُعِيدُهُ}
(5)
عِدَةٌ للإعادة علينا؛ أي: علينا إنجازه.
= على الاشتغال.
(1)
في (ف): "الظرفية".
(2)
في (ف): "والمقدر".
(3)
في (ف): "تفصيل واحد واحد".
(4)
في (م): "إخراج".
(5)
في (ف): "نعيد".
{كُنَّا فَاعِلِينَ} : عازمين في الأزل على أن نفعل ذلك لا محالة، أو: قادرين على أن نفعل ذلك.
* * *
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} : في كتاب داود عليه السلام {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} ؛ أي: التَّوراة.
{أَنَّ الْأَرْضَ} : أرضَ الجنَّة، أو الأرضَ المقدَّسة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}: عامَّة المؤمنين، أو أمَّة محمَّد عليه السلام.
* * *
(106) - {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} .
{إِنَّ فِي هَذَا} ؛ أي: فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد {لَبَلَاغًا} للغاية، أو: لسبب بلوغ إلى البغية.
{لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} : همُّهم العبادة دونَ العادة.
* * *
(107) - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} لأنَّه
(1)
جاء بما يسعدهم في الدَّارين، ويصلح معاشهم ومعادهم، وازديادُ كفر بعضهم بسببه إنَّما هو من عند أنفسهم وعنادهم لا منه.
(1)
في (ف): "إنه".
وقيل: كونه رحمة للكفَّار: أمْنُهم به من عذاب الاستئصال والمسخ والخسف، وتأخيرُ عقوبتهم.
* * *
(108) - {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} (ما) في {إِنَّمَا} كافَّة، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى: إنَّ الذي يوحى إليَّ.
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لأنَّ المقصود الأصلي من بعثته
(1)
هو التَّوحيد.
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : مخلصون العبادة لله تعالى، على مقتضى الوحيِ المصدَّق بالحجَّة والتَّوحيد ممَّا يصحُّ إثباته بالسَّمع.
* * *
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} وأعرضوا
(2)
عن التَّوحيد.
{فَقُلْ آذَنْتُكُمْ} آذنَ مِن أَذِنَ: إذا عَلِمَ؛ لكنَّه شاع استعماله في الإنذار؛ أي: أعلمتكم
(3)
ما أمرْتُ به، أو حربي
(4)
لكم.
(1)
في (م): "بعثه".
(2)
في (ف): "وتعرضوا".
(3)
في (ف): "أعلمكم".
(4)
تحرفت في النسخ إلى: "جرى"، والمثبت من المصادر. انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 62)، و "تفسير أبي السعود"(6/ 89)، و"روح المعاني"(17/ 224)
{عَلَى سَوَاءٍ} نصب على الحال من المخاطَبين؛ أي: مستوين في الإعلام به، أو: مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتُكم به، أو في المعاداة.
أو صفة مصدر محذوف؛ أي: إيذاناً
(1)
على سواء.
وقيل: أعلمتكم وأنا على سواء؛ أي: عدلٍ واستقامةِ رأيٍ بالبرهان النَّيِّر.
{وَإِنْ أَدْرِي} : و ما أدري {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} : ما توعدونه من غلبة المسلمين، أو من الحشر، لكنَّه كائن لا محالة.
* * *
(110) - {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} .
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} ؛ أي: ما يجهرون به من
(2)
الطَّعن في الإسلام.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} : ما تكتمونه من الإحَنِ والأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه.
* * *
(111) - {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} .
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} : وما أدري لعلَّ تأخير هذا الوعد افتتانٌ لكم وامتحانٌ لننظرَ كيف تعملون.
{وَمَتَاعٌ} : وتمتُّع واستدراجٌ لكم {إِلَى حِينٍ} ليكون ذلك حجَّة عليكم، وليقع الموعَد
(3)
به في وقتٍ قدَّره فيه بمقتضى حكمته.
(1)
في (ف): "إنذاراً".
(2)
في (ف): "في".
(3)
في (ف): "الموعود".
(112) - {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} : اقضِ بيننا وبين أهل مكَّة بالعدل، أمر باستعجال العذاب، فعُذِّبوا ببدر، وكان مقتضى العدل ذلك.
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ} : كثير الرَّحمة على خلقه.
{الْمُسْتَعَانُ} : المطلوبُ منه المعونة.
{عَلَى مَا تَصِفُونَ} : ما تصفونه من الحال بأنَّ الشَّوكة تكون لهم، وأنَّ راية الإسلام تخفق أياماً ثم تسكن، فخيَّب الله تعالى آمالهم، وكذَّب ظنونهم، ونصر رسوله عليه السلام والمؤمنين عليهم.
* * *
سُورَةُ الحَجِّ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أَمرَ بني آدم بالتَّقوى، ثمَّ علَّلَ أمرهم به بفظاعة السَّاعة حيث قال:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} ليتصوَّروها بعقولهم، ويعلموا أنَّه لا يؤمِّنهم منها سوى التَّدرُّعِ بلباس التَّورُّع، والتَّردِّي برداء التَّقوى، ويُبْقوا على أنفسهم، وَيقوها
(1)
من الرَّدى
(2)
بملازمة التَّقوى.
والزَّلزلةُ: شدَّةُ التَّحريك والإزعاج، وأن يُضاعَفَ زليلُ
(3)
الأشياء عن مقارِّها ومراكزها.
وإضافتها إلى {السَّاعَةِ} إضافةُ المصدر إلى الفاعل على التَّجوُّز في الإسناد، كأنَّها هي التي تزلزل الأشياء، أو إلى الظَّرف على إجرائه مجرى
(1)
في (ف): "وينقوها"، وفي (س) و (ك) و (م):"ويتقوها"، والمثبت من "تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (6/ 281). قال الشهاب: أي: يحفظوها، وما في بعض النسخ:(ويتقوها) تحريف.
(2)
في (س) و (ك) و (م): "عن الردى"، والمثبت من (ف)، وليست في "تفسير البيضاوي".
(3)
الزليل: مصدر زَللْت: زَلِقت في طينٍ أو مَنْطِقٍ. انظر: "القاموس المحيط"(مادة: زلل).
المفعول به، أو بتقدير
(1)
(في) كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33].
وهذه الزَّلزلة هي المذكورةُ في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} السورة.
عن الحسن: أنها تكون يوم القيامة
(2)
.
وعن علقمة والشَّعبي: عند طلوع الشَّمس من مغربها
(3)
.
وإضافتها إلى {السَّاعَةِ} لأنَّها من أشراط السَّاعة.
{شَيْءٌ عَظِيمٌ} لَمَّا وصفه
(4)
بالعِظَم وأبهمها تعظيماً بأنَّها شيءٌ لا يُكتَنَهُ كُنْهُ عظمته، أخذ في تصوير هولها بصورةٍ منكرة
(5)
، فليسَ المرادُ من قوله:
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ} ذهولَ المرضعة ووضعَ الجنين، بل شدَّةُ الهول، هذا على القول الأوَّل.
والضمير للزَّلزلة، و {يَوْمَ} منتصبٌ بـ {تَذْهَلُ} ، وقرئ:{تَذْهَلُ} معروفاً
(1)
في (ف): "أو تقدير".
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 141)، وروى الطبري في "تفسيره"(16/ 453) نحوه عن ابن زيد.
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 141)، وروى الطبري في "تفسيره" (16/ 446) عن علقمة في تفسير هذه الآية قال:"قبل الساعة"، وروى عن الشعبي قال:"هذا في الدنيا قبل يوم القيامة".
(4)
قوله: "وصفه" كذا في النسخ، ولعل الأنسب بالسياق:(وصفها).
(5)
في هامش (ف) و (م) و (س): "والقاضي ومن حذا حذوه لم يميزوا في تفسيرهم بين القولين. منه".
ومجهولاً
(1)
؛ أي: تذهلها الزَّلزلةُ، من الذُّهول، وهو الذَّهاب عن الأمر دهشةً وحيرة، لا من الذَّهْل لأنَّه بمعنى السُّلوِّ، قال الشَّاعرُ:
صَحا قلبُه يا عزُّ أوكادَ يَذْهَلُ
(2)
و (ما) مصدرَّية أو موصولة.
والمرضعةُ: هي الَّتي تكون في حال الإرضاع ملقِمةً ثديَها الصَّبيَّ، والمرضعُ التي شأنها أن ترضعَ وإن لم تباشِر الإرضاع.
وأمَّا المعنى على القول الثَّاني - وعليه الجمهور - أنَّ هولها
(3)
بحيث إذا فوجئَتْ به التي ألقمَتْ الرَّضيع ثديَها نزعَتْه مِن فيه وذَهِلَتْ عنه دهشةً، ولقد أحسنَ مَن قال: تَذهَلُ المرضعةُ عن ولدِها لغيرِ
(4)
فِطامِ، وتضعُ الحاملُ ما في بطنِها لغيرِ تمامِ
(5)
.
{وَتَرَى} : وتظن {النَّاسَ سُكَارَى} حقيقة، لا على التَّشبيه {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} في الواقع.
(1)
قراءة المبني للمفعول بلا نسبة في "الكشاف"(3/ 142).
وقراءة (تُذْهِلُ) بضم التاء وكسر الهاء؛ أي: تذهل الزلزلة أو الساعة (كلَّ) بالنصب. نسبت لابن أبي عبلة واليماني. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 106)، و"البحر المحيط"(15/ 306)، وبلا نسبة في "الكشاف"(3/ 142).
(2)
صدر بيت لكثير عزة، وعجزه:
وأضحى يُريدُ الصَّرمَ أو يتبدَّلُ
انظر: "ديوان كثير عزة"(ص: 149).
(3)
في (ك): "ذهولها".
(4)
في (ف): "بغير".
(5)
نسب هذا القول للحسن. انظر: "تفسير الماوردي"(4/ 6)، و"الكشاف"(3/ 142).
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} أذهبَ عقولَهم لشدَّته، وطيَّرَ تمييزَهم بِهَوْلِهِ، فجعلَهم بحيث لا يُفَرَّقُ بينَهم وبينَ مَن يَذهبُ السُّكرُ بعقله وتمييزه.
وإنَّما جمعَ فاعل الرُّؤية أوَّلاً وأفرد ثانياً لأنَّ الأُولى عُلِّقَتْ بالزَّلزلة، والزَّلزلةُ يراها النَّاس كلُّهم، والثَّانيةَ عُلِّقَتْ بكون النَّاس على حال السُّكر، فلا بُدَّ أن يُجعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لأثر السُّكر على صاحبه.
وقرئ: (تُرى) بالضَّم ونصبِ (النَّاسَ)
(1)
من أُريتُكَ قائماً، أو: رأيْتُكَ قائماً
(2)
، ورفعِه على إسناد (تُرَى) إليهم
(3)
، [وأنثه] على تأويل الجماعة
(4)
.
و {سُكَارَى} حال، وقرئ:(سَكْرى) كعطشى
(5)
؛ إجراءً للسُّكْر مجرى العِلَل.
* * *
(1)
نسبت لأبي هريرة وأبي زرعة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 94)، و"الكشاف"(3/ 142). وسقطت "ترى" من (م).
(2)
في (ف): "أو رُيتك قائما"، وسقطت العبارة من (ك)، والمثبت من (س) و (م)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي" مع حاشية الشهاب (6/ 282). والمعنى على الرباعي (أُريتك): تظنُّ أنت الناس سُكارى، أقيم ضميرُ المخاطب مقام الفاعل، ونصب (النَّاسَ) و (سُكَارَى) على أنهما المفعولان الثاني والثالث؛ لأن أُريت مُتعدٍّ إلى ثلاثةٍ، وإن كان من الثلاثي (رأيتُك) فالمعنى: تُظنُّ الناسُ سُكارى، أقيم (الناسُ) بالرفع مقام الفاعل، ونُصبَ (سُكَارَى) على المفعولية؛ لأن رأيتُ متعدِّ إلى اثنين. وجاء في مطبوع "الكشاف" (3/ 142):(رُؤيتُكَ)، وهي نسخة البخاريين كما قال الطيبي، وزاد: وهو مشكلٌ، فإنا ما وجدنا رأيتُ متعدياً إلى ثلاثة.
(3)
أي: (وترَى الناسُ) برفع (الناس). وهي في "المحرر الوجيز"(4/ 106) بلا نسبة، ونسبت في "البحر المحيط"(15/ 306) للزعفراني وعباس.
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 142)، وما بين معكوفتين منه.
(5)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 157).
(3) - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} .
{وَمِنَ النَّاسِ} لا يخفى ما في هذا التَّعبير من التَّحقير بشأنه؛ حيث نزَّله بمنزلة مَن احتاج إلى الإخبار عنه بأنَّه من جنس الإنس.
{مَنْ يُجَادِلُ} : مَن يخاصِمُ خُصومةً شديدةً.
{فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلَتْ في النَّضر بن الحارث، وكان جَدِلاً يقول: الملائكة بنات الله تعالى، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعْثَ بعد الموت
(1)
.
وهي عامَّة في كلِّ مجادلٍ لا يرجعُ إلى علمٍ.
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} في جداله وسِيرته، والمَرِيدُ: المتجرِّدُ للفسادِ.
* * *
(4) - {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
{كُتِبَ عَلَيْهِ} : على الشَّيطان {أَنَّهُ} : الضَّمير للشَّأن {مَنْ تَوَلَّاهُ} ؛ أي: جعله وليًّا وتبعه.
وقرئ: (إنَّه) بالكسر
(2)
، على حكاية المكتوب، أو إضمار القول، أو تضمينِ الكتب معناه.
{فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} خبر لـ {مَنْ} ، أو جواب له.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 459) عن ابن جريج، وذكره الماوردي في "النكت والعيون"(4/ 6) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
نسبها ابن عطية في "المحرر الوجيز"(4/ 107) إلى أبي عمرو، وتعقبه أبو حيان في "البحر المحيط" (15/ 310) بقوله: وليس مشهوراً عن أبي عمرو.
{وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} ولا يحصل من ولايته إلَّا الضَّلالُ عن طريق الحقِّ أو الجَنَّةِ، والهدايةُ إلى عذاب النَّار، بإغوائه وإغرائه إلى ما يؤدِّي إليه وحمله عليه؛ أي: يلزمه ذلك كأنَّه كُتِبَ عليه إضلال
(1)
مَن يتولَّاه؛ لأنَّه مجبول عليه.
وقرئ: {فَأَنَّهُ} بالفتح
(2)
على أنَّه مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: فحقٌّ أنَّه يضلُّه، أو خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: فشأنُه
(3)
أنَّه يضلُّه، ولا وجه للعطف إلَّا أنْ يُجعَلَ الضَّمير للمجادِل و {مَنْ تَوَلَّاهُ} خبر (أنَّ)، وجاز على هذا أن يكون الضَّمير في {عَلَيْهِ} له أيضاً.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} من إمكانه وكونه مقدوراً.
وقرئ: (من البَعَثِ) بالتَّحريك كالجَلَبِ والطَّرَدِ
(4)
.
(1)
في (ف) و (ك): "الضلال".
(2)
وهي قراءة الجمهور، وقرأ:(فإنه) الأعمش، ورويت عن أبي عمرو في غير المشهور عنه. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 94)، و"المحرر الوجيز"(4/ 107)، و"البحر المحيط"(15/ 310).
(3)
في (ف): "شأنه".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 144)، و"المحرر الوجيز"(4/ 107).
وتنوين {رَيْبٍ} للتَّحقير والتَّقليل، ولذلك جيء بكلمة الشَّكِّ؛ أي: اتَّضح دليله، فإنْ بقيَ فيكم أدنى ريبٍ فالنَّظر في بدءِ خلقكم يزيلُه
(1)
.
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} كخلقِ آدم منه، أو من الأغذية المتكوِّنة منه.
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وهي الماء القليل، من النَّطْفِ: وهو الصَّبُّ، والمراد: المنيُّ.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} : قطعةٍ من الدَّم الجامد.
{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وهي اللَّحمة الصَّغيرة قَدْرَ ما يُمْضَغُ.
{مُخَلَّقَةٍ} يُقال: خَلَّق العودَ: إذا سوَّاه وملَّسه، من قولهم: صخرةٌ خَلْقاءُ: إذا كانت ملساءَ.
{وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي: مسوَّاةٍ وغيرِ مسوَّاةٍ؛ كأنَّ اللهَ تعالى خَلَق المُضَغ متفاوتةً
(2)
في التَّسوية والتَّعديل، فتبع ذلك تفاوتُ النَّاس في الصُّورة والقامة والشَّكل والتَّمام والنَّقص.
أو: مصوَّرةٍ وغيرِ مصوَّرةٍ، أو: تامَّةٍ وناقصةٍ
(3)
.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} بهذا التَّدريجِ قدرتَنا وحكمتنا، وأنَّ مَن قدرَ على تغييره وتصويره أوَّلاً قدر على ذلك ثانياً، بل هذا أهون عند العقل وأدخلُ في المقدورَّية، وإطلاق التَّبيين غير متعدٍّ إلى مفعولٍ؛ إيماءً إلى أنَّ أفعاله هذه يُتبيَّن بها من قدرته وحكمته ما لا يَدخل تحت الذِّكْرِ ولا يُوْصَفُ.
(1)
في (س): "مزيله".
(2)
في (ك) و (م): "متفاوتاً".
(3)
في (س): "وساقطة".
{وَنُقِرُّ} : نُثبتُ {فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} ثبوتَه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو وقتُ الوَضْعِ، وعلم منه
(1)
حالُ قرينهِ المقابلِ له بطريق المفهوم.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} منها {طِفْلًا} حالٌ وُحِّدَت لإرادة الجنس، أو لأنَّه مصدر في الأصل، أو على تأويل: كلّ واحدٍ.
وقرئ: (نُقِرَّ) بالنَّصب وكذا (نخرجَكُمْ) عطفاً على (نبيِّنَ)
(2)
.
والمعنى: إنَّا خلقناكم مدرَّجين لغرضَيْن؛ أحدهما: التَّبيين، والثَّاني: الإقرار في الأرحام حتى تُولَدوا وتنشؤوا وتبلغوا حَدَّ التَّكليف.
والغرضُ في الحقيقة هو الأخير؛ أعني: بلوغَ الأشُدِّ والصُّلوحَ للتَّكليف، لكن لَمَّا كان الإقرار وما تلاه من مقدِّماته صحَّ إدخاله في التَّعليل.
وقرئ بالياء رفعاً ونصباً
(3)
.
و: (نَقُرُّ) بالضَّم
(4)
، من قررْتُ الماء: إذا صَبَبْتَه.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} الأَشُدُّ: كمالُ القوَّةِ والعقلِ والتَّمييزِ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يُستَعمل لها واحدٌ، وكأنَّها شدَّةٌ في غير شيءٍ واحدٍ، فبُنِيَتْ لذلك على لفظ الجمع.
(1)
في (ف): "به"، وسقط من (س).
(2)
نسبت لعاصم ويعقوب. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 108)، و"البحر المحيط"(15/ 313). والمشهور عن عاصم ويعقوب كقراءة الجماعة. وهي في "الكشاف"(3/ 144) دون نسبة، وعنه نقل المؤلف هذه القراءات.
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 144)، و"المحرر الوجيز"(4/ 108)، و"البحر المحيط"(15/ 313).
(4)
نسبت ليعقوب. انظر: "الكشاف"(3/ 144)، و"المحرر الوجيز"(4/ 108).
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} عند بلوغ الأشُدِّ، أو قبلَه، أو بعدَه قبل الهرم.
وقرئ: (يَتوفَّى)
(1)
؛ أي: يتوفَّاه الله تعالى.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : الهَرمِ والخَرَف.
{لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} : ليعودَ كهيئته الأُولَى في أوان طفوليَّته، سخيفَ العقل، قليلَ الفهم.
والاستغراق المستفاد في ذكر {شَيْئًا} في سياق النَّفي للمبالغة في نسيانِه ما عَلِمَه، وإنكارِه لِمَا عَرَفَهُ.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} : ميِّتة يابسة، من همدَتِ النَّارُ: إذا صارَتْ رماداً.
{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} : تحرَّكَتْ بالنَّباتِ.
{وَرَبَتْ} : وانتفخَتْ، وقرئ:{وَرَبأَتْ}
(2)
؛ أي: ارتفعَتْ.
{وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} : مِنْ كلِّ صِنْفٍ {بَهِيجٍ} البهيجُ: الحسنُ السَّارُّ للنَّاظرِ إليه.
وهذه دلالة ثانية على البعث، كرَّرها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهَدة.
* * *
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 94).
(2)
في النسخ: "أربأت"، والصَّواب المثبت. وهي قراءة أبي جعفر من العشرة. انظر:"النشر"(2/ 325). وانظر كذلك: "تفسير الطبري"(16/ 466)، و"المحتسب"(2/ 74)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 94)، و"الكشاف"(3/ 145) والكلام منه.
{ذَلِكَ} : إشارة إلى ما ذُكِرَ مِن خلق الإنسان في أطوارٍ مختلفةٍ، وتحويله على أحوالٍ متضادَّةٍ، وإحياءِ الأرض بعد موتها، وهو مبتدأٌ خبرُه:
{بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، أي: حاصلٌ بسببِ أنَّ اللهَ هو الحقُّ الثَّابت الوجودِ في نفسه، الذي تتحقَّق به الأشياء.
{وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} وأنَّه يقدر على إحيائها، وإلَّا لَمَا أَحيَى النُّطفةَ والأرضَ الميتةَ.
{وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنَّ قدرته لذاته، ونسبتُها إلى الكلِّ سواءٌ، فَلَمَّا دلَّتْ المشاهدة على إحياء بعض الأموات لزم اقتدارُه على الكلِّ.
* * *
(7) - {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} لا ينبغي أن يُرتَابَ فيها؛ لأنَّ التَّغيُّرَ من مقدِّمات الانصرام وطلائعه.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، أي: إنَّه تعالى حكيمٌ لا يُخْلِفُ ميعادَه، وقد وَعَدَ السَّاعةَ والبعثَ، فلا بُدَّ أن يفيَ بما وعدَ، ولَمَّا كان المرادُ إحياءَ موتى الإنسان عبَّر عنها بما هو مِن خصائصهم، فمعنى {مَنْ فِي الْقُبُورِ}: مَن ماتَ مِن جنسِ الإنسانِ بطريق الكنايةِ.
* * *
(8) - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} : في صفاتِه، فيصفُه بغير ما هو له، نزلَتْ في أبي جهل
(1)
.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} ضروريٍّ {وَلَا هُدًى} كسبيٍّ، فإنَّه غالباً يكون بتعليم الغير وإرشاده {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}؛ أي: وحي.
أي: يجادلُ بتخمينٍ وتقليدٍ، لا بأحدِ هذه الثلاثة.
* * *
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} ثنيُ العَطْفِ كنايةٌ عن الكِبْر والخيلاء بالتَّبختُرِ، أو عن الإعراض عن الحقِّ استخفافاً. وقرئ بفتح العين؛ أي: مانعَ تَعَطُّفِهِ
(2)
.
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تعليلٌ للمجادَلة.
وقرئ بفتح الياء
(3)
، على أنَّ إعراضَه عن الهدى المتمكِّن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروجٌ من الهدى إلى الضَّلال، وأنَّه من حيث هو مؤدَّاه كالغرض له.
{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} هو ما أصابَه يوم بدرٍ.
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} : عذابَ النَّار المحرقة.
* * *
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 146) عن ابن عباس، وفي "تفسير القرطبي" (14/ 327):(وأكثر المفسرين أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما من فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم). ويعني بالآية الأولى الآية (3) من هذه السورة.
(2)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 94)، و"الكشاف"(3/ 146).
(3)
قرأبها ابن كثير وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 134).
(10) - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} : إشارةٌ إلى الخزيِ والعذابِ، وغيَّر النَّظمَ بالالتفات إلى الخطاب، وأتى بلفظ البعيد؛ للتَّنبيه، وتعظيمِ الموعَدِ به وتهويله، والإيماءِ إلى تفاقم الخَطْبِ، وإلى أَنَّه بسبب ما اقترفه من الكفر والمعاصي.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} عطف على {بِمَا} ، أي: وبأنَّ الله تعالى؛ يعني: أنَّ العدلَ هو الذي
(1)
اقتضى ذلك، لا الظُّلمَ، ولفظ المبالغة لأنَّ قليلَ الظُّلم منه مانعٌ مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منَّا، وللإيماء إلى أنَّ مَن هو في غاية الكمال شأنُه أن يكون وصفُه كذلك.
* * *
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على طرفٍ من الدِّين، لا في وسطِهِ.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} كالَّذي يكون على طرفِ الجيش؛ فإنَّ أحسَّ بالظَّفر قَرَّ؛ وإلَّا فَرَّ.
روي أنَّها نزلَتْ في أعاريب قدموا المدينةَ، وكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونُتِجَتْ فرسُه مُهراً سريًّا، وولدَت امرأتُه غلاماً سويًّا، وكثر ماله وما يشتهيه قال: ما أصبْتُ منذ دخلْتُ في ديني هذا إلَّا خيراً، واطمأنَّ
(2)
، وإنْ كانَ الأمرُ بخلافه قال: ما أصبْتُ إلَّا شرًّا، وانقلَبَ
(3)
.
(1)
"الذي": ليست في (م).
(2)
في (ك) و (م) زيادة: "به".
(3)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 307)، "الكشاف"(3/ 146) وعنه نقل المؤلف. وروى =
وذِكْرُ الفِتنةِ في مقابلةِ الخيرِ للتَّنبيه على أنَّ الشَّرَّ لا يصدر عنه تعالى قصداً، إنَّما المقصود منه الابتلاء.
{خَسِرَ الدُّنْيَا} بذهاب عصمته {وَالْآخِرَةَ} بحبوط عمله بالارتداد.
وقرئ: (خاسِرُ) بالنَّصب على الحال وبالرَّفع
(1)
على الفاعليَّة، أو على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف، وعلى الأوَّل يكون من باب وضع الظَّاهر موضع الضَّمير تنصيصاً عليه بالخسران.
{ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} : الظَّاهر الذي لا يخفَى على أحدٍ.
* * *
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ؛ أي: لا يقدرُ على شيءٍ أصلاً، فإنَّ النَّفع والضُّرَّ في التَّعبير بهما عن جميع الآثار كالسَّماء والأرض في التَّعبير بهما عن جميع الأجسام.
وإعادة كلمة {مَا} للدِّلالة على استقلالِ كلٍّ من الوصفَيْنِ المذكورَيْنِ في إخراج موصوفه إلى معرض الذَّمِّ.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} عن المقصدِ، مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التِّيهِ فطالَتْ وبَعُدَتْ مسافةُ ضلالِه.
* * *
= نحوه الطبري في "تفسيره"(16/ 472 - 474) عن ابن عباس رضي الله عنهما وجمع.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 147). والنصب منسوب لحميد ومجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
(13) - {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} .
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} بكونه معبوداً لإيجابه القتلَ في الدُّنيا والعذابَ في الآخرة.
{أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} الذي يُتوقَّع بعبادته، وهو الشَّفاعةُ والتَّوسُّلُ بها إلى الله تعالى.
وإنَّما قال: {أَقْرَبُ} ولا قُرْبَ للنَّفع؛ تهكُّماً واستهزاءً بهم.
واللَّام معلِّقة لـ {يَدْعُو} من حيث إنَّه بمعنى: يَزعم، والزَّعمُ قولٌ مع اعتقادٌ.
وقيل: إنَّها داخلةٌ على الجملة الواقعة مقولاً؛ إجراءً له مجرى (يقول)؛ أي: يقول الكافر ذلك بدعاءٍ وصُراخٍ حين يرى استضراره به.
ويأباه ما في عبارة {أَقْرَبُ} من معنى التَّفضيل.
ويجوز أن تكون مستأنفة على أنَّ {يَدْعُو} تكريرٌ للأوَّل، و {مِنْ} مبتدأ خبرُه:{لَبِئْسَ الْمَوْلَى} : النَّاصرُ {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : المخالطُ.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من إثابةِ المؤمن الصَّالح، وعقابِ الكافر الطَّالح، لا دافِعَ له ولا مانِع.
* * *
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كلامٌ فيه اختصارٌ، معناه: أنَّ اللهَ تعالى ناصرٌ رسولَه في الدُّنيا والآخرة، فمَن كانَ يظنُّ من حاسديه وأعاديه أنْ لا يفعل ذلك ويغيظه ما يفعل الله:
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} فلْيَستفرغْ وُسْعَهُ في إزالة غيظِه إلى سماءِ بيتِه، كما يفعل مَن بلغَ به الغيظ كلَّ مَبلغٍ، ثمَّ ليختنق. سمَّى الاختناقَ قَطعاً لأنَّ المختنِقَ يقطعُ نَفَسَهُ بحبسِ مجاريه، ومنه قيل للبُهْر: القُطْع
(1)
.
أو فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظلَّة وليصعَدْ عليه، ثمَّ ليقطعِ الوَحيَ أنْ ينزلَ عليه.
{فَلْيَنْظُرْ} : ولْيتصوَّرْ في نفسه {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} هل يُذْهِبُ نصرَ اللهِ الذي يغيظه إنْ فعلَ ذلك!
وسمَّى فعلَه كيداً لأنَّه وضعَه موضعَ الكيدِ، حيثُ اجتهدَ فلم يقدِرْ إلَّا عليه، أو على سبيل الاستهزاء؛ لأنَّه لم يَكِدْ به محسودَه إنَّما كادَ به نفسَهُ.
{يَغِيظُ} غيظَه، أو: الذي يَغيظُه من نصر الله.
* * *
(16) - {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} .
{وَكَذَلِكَ} : مثلَ ذلك الإنزال، والإشارةُ إلى مصدر الفعل المذكور بعدَه، لا إنزالٍ آخر يُقصد تشبيهُ هذا الإنزال به
(2)
، فالكافُ مُقْحَمٌ إقحاماً كاللَّازم، لا يكادون يتركونه في لغة العرب وغيرهم.
(1)
"البهر" بضم الباء: العلة التي تمنع التنفس. انظر: "فتوح الغيب"(10/ 454). والقُطع بضم القاف بمعناه انظر: "القاموس"(مادة: قطع).
(2)
"به" من (م) و (س).
{أَنْزَلْنَاهُ} : أنزلنا القرآنَ كلَّه {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : واضحاتٍ.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي} : ولأنَّ الله يهدي به، أو يثبِّتَ على الهداية.
{مَنْ يُرِيدُ} هدايته، أو ثباته، أنزله لذلك
(1)
مبيِّناً.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني: عبدةَ الأوثانِ.
قيل: الأديان خمسةٌ؛ أربعةٌ للشَّيطان وواحدٌ للرَّحمن. والصَّابئون نوعٌ من النَّصارى، فلا تكون ستَّةً.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاءً واحداً، ولا يجمعهم في موطنٍ واحدٍ، أو: بالحكومة بينهم وإظهارِ المُحِقِّ منهم مِن المُبْطِلِ.
وإنَّما دخلَتْ {إِنَّ} على كلِّ واحدٍ من طَرَفي الجملة لمزيد التَّأكيد.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} عالمٌ به، مراقِبٌ لأحواله، فلينظرْ كلُّ امرئ معتقدَه وقولَه وفعلَه. وهو أبلغُ وعيدٍ.
* * *
(1)
في (م): "أنزله كذلك".
{أَلَمْ تَرَ} : ألم تعلمْ علماً يقومُ مَقامَ العَيانِ.
{أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} استُعِيْرَ السُّجودُ للانقياد والمطاوعة لِمَا يريدُ الله تعالى من الأفعال؛ لأنَّه هيئةٌ من هيئات المكلَّف، لا هيئةَ أدَلَّ منها على الذِّلَّةِ والتَّسخير.
و {مَنْ} يعمُّ أولي العَقلِ وغيرهم للتَّغليب، فيكون قوله:
{وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} إفراداً لها بالذِّكْرِ لِشُهرَتِها واستبعادِ ذلك منها في العادة.
{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} بعدَ التَّعميم، للإيماءِ إلى أنَّ مِن النَّاس مَن لا ينقاد لحكمِه ولا يتسخَّر لأمره.
ولا يلزمُ مِن
(1)
عطفِه على سائر السَّاجدين المحذورُ عند
(2)
الجمهور - لِمَا فيه مِن استعمال اللَّفظ الواحد مجازاً وحقيقةً في حالة واحدة - إذ يجوز أن يُجْعَلَ فاعلَ فعلٍ مُضمَرٍ دلَّ عليه {يَسْجُدُ} ؛ أي: يسجد له كثيرٌ مِنَ النَّاسِ السُّجودَ الحقيقيَّ، ويجوز أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر، مدلولاً عليه بخبرِ قسيمه؛ أي: حَقَّ له الثواب، أو الخبر مذكور
(3)
على ما سيأتي.
(1)
"من" سقط من (ك) و (م) و (س).
(2)
في (ك): "المحذور عن".
(3)
في (ف): "المذكور".
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بكفرِه وإبائِه عن الطَّاعة، ويجوز أن يكون (كثيرٌ) الثَّاني تكريراً للأوَّل مبالغةً في تكثير المحقوقِين بالعذاب، وأن يُعطَفَ به على السَّاجدين بالمعنى العامِّ، موصوفاً بما بعدَه.
وقرئ: (حقٌّ) بالضَّمِّ، و (حقًّا)
(1)
؛ أي: حقَ عليهم العذاب حقًّا.
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} بأنْ حكم عليه بالشَّقاوة.
{فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} يجعله سعيداً، وقرئ بالفتح
(2)
بمعنى الإكرام.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من الإهانة والإكرام.
* * *
{هَذَانِ خَصْمَانِ} ؛ أي: فريقان يختصمان، ولذلك قال:{اخْتَصَمُوا} حملاً على المعنى، ولو عكَس وقال: هؤلاء خصمان اختصما، جاز. والمرادُ بهما: المؤمنون والكافرون.
{فِي رَبِّهِمْ} في دينِه، أو: في ذاته وصفاته.
روي أنَّ أهل الكتاب والمؤمنين تخاصموا، فقال أهلُ الكتاب: نحنُ أحقُّ بالله وأقدم منكم كتاباً، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، وقال المؤمنون: نحن أحقُّ بالله، آمنَّا
(1)
نسبت الأولى لجناح بن حبيش، والثانية ذكرها ابن جبير. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95)، و"الكشاف"(3/ 147) والكلام منه.
(2)
بفتح الراء، ذكرها أبو معاذ كما قال ابن خالويه، ونسبت لابن أبي عبلة كما ذكر غيره. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95)، و"المحرر الوجيز"(4/ 113)، و"البحر"(16/ 330).
بمحمَّدٍ ونبيَّكم، وبما أنزل الله من كتابٍ، وأنتم تعرفون نبيَّنا وكتابَنا ثمَّ كفرتم به حسداً. فنزلَتْ
(1)
.
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا} فصلٌ لخصومتهم، وهو المراد بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17].
{قُطِّعَتْ لَهُمْ} على مقادير جثثِهم {ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} نيرانٌ تُحِيطُ بهم إحاطةَ الثِّياب.
واختير لفظ الماضي لأنَّه كائن لا محالة.
{يُصَبُّ} خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ من الضَّمير في {لَهُمْ} .
{مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} : الماء الحارُّ.
* * *
(20) - {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} .
{يُصْهَرُ بِهِ} : حالٌ من {الْحَمِيمُ} ، أو مِنَ الضَّمير في {رُءُوسِهِمُ} ، والصَّهرُ: الإذابةُ. وقرئ بالتَّشديد
(2)
للتَّكثير.
{بُطُونِهِمْ} من الشُّحوم {وَالْجُلُودُ} فأنَّى اللحوم؟! أي: يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فيُذابُ ما في باطنهم
(3)
وظاهرهم.
* * *
(1)
روى نحوه الطَّبري في "تفسيره"(16/ 491) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
(3)
في (م): "بطونهم".
(21) - {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} .
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} : سِياطٌ منه، جمع مِقْمَعة
(1)
، وحقيقتُها: ما يُقْمَعُ به؛ أي: يُكَفُّ بعنف.
* * *
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} من النَّارِ {مِنْ غَمٍّ} بلُ اشتمالٍ من {مِنْهَا} بإعادة الجارِّ، أو الأُولى لابتداء الغاية، والثَّانيةُ بمعنى: مِن أَجْل؛ يعني: كلَّما أرادوا الخروجَ مِنَ النَّار مِن أجلِ غَمٍّ يلحقهم.
وإرادةُ الخروجُ كنايةٌ عن القرب منه، كقوله تعالى:{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]
(2)
.
{أُعِيدُوا فِيهَا} بالمقامِعِ. والمرادُ إعادتُهم إلى معظم النَّار، لا أنَّهم يخرجون منها ثمَّ يعودون إليها؛ لقوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37]، ولقوله:{فِيهَا} دون: إليها.
{وَذُوقُوا} أي: وقيل لهم: ذوقوا {عَذَابَ الْحَرِيقِ} : النَّارَ البالغةَ في الإحراق.
ثمَّ ذكر جزاء الخصم الآخر بقوله:
* * *
(1)
في هامش (س) و (ف): "بكسر الميم المقرعة يقمع بها المضروب. منه".
(2)
في هامش (ف) و (م) و (س): "ولو كان مساق الكلام على خروجهم لقيل: كلما خرجوا منها أعيدوا؛ إذ حينئذ يضيع ذكر الإرادة، وما روي عن الحسن: أنَّ النَّار تضربهم بلهبها صريحٌ في أنَّ الإرادة ليست على حقيقتها. منه".
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تغييرُ النَّظم في التَّفصيل بترك العطف، واستئنافِ الكلام، وإدخال حرف التَّأكيد، وإسناد الإدخال إلى الله تعالى، تعظيمٌ لشأن المؤمنين وإحمادٌ لحالهم.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا} من حَلِيَتِ المرأةُ: إذا لبست الحليَّ، فهي حاليَةٌ، شُدِّدَ للنَّقل
(1)
، وقرئ مخففاً مبنيًّا للمفعول
(2)
.
{مِنْ أَسَاوِرَ} صفة مفعول محذوف، والأساور: جمع أَسْوِرة، وهي جمع سِوَارٍ.
{مِنْ ذَهَبٍ} بيانٌ له.
{وَلُؤْلُؤًا} عطف على {أَسَاوِرَ} ، أو {ذَهَبٍ} على أنَّها مرصَّعة [به]
(3)
.
وقرئ منصوباً
(4)
على إضمار فعلٍ؛ أي: يلبسون أو يُؤتون، أو عطفاً على محلِّ الجارِّ والمجرور.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} تغيير الأسلوب فيه للدَّلالة على أنَّ الحريرَ لباسُهم المعتاد، مع رعاية الفاصلة.
* * *
(1)
أي: شدد الفعل للنقل من اللزوم إلى التعدية. انظر: "البحر المحيط"(15/ 334).
(2)
أي: (يُحْلَون). انظر: "البحر المحيط"(15/ 334).
(3)
أي: على أن الأساور مرصعة به. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 69)، وما بين معكوفتين منه.
(4)
قرأ نافع وعاصم: {وَلُؤْلُؤًا} بالنَّصب، وباقي السبعة بالخفض. انظر:"التيسير"(6/ 75).
(24) - {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} .
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُبهم الفاعل، ولم يُقل:(وهداهم الله)؛ إيفاءً لحقِّ التَّعظيم، وأُبهمَ القولُ، وجيء بـ {الطَّيِّبِ} ثمَّ بُيِّن تفخيماً لشأنه، وإيماءً إلى أنَّه هذا الملقَّبُ بالطَّيِّب، وهو قولهم:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] أو كلمةُ التَّوحيد.
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} كرَّر {وَهُدُوا} تنبيهاً على أنَّ كلَّ واحدٍ منها أمرٌ مرضيٌّ بالأصالة، تامٌّ معتدٌّ به في الهداية إليه.
واختير اسم {الْحَمِيدِ} من أسماء الله تعالى للإشارة إلى خصوصيَّة القول الطَّيِّب؛ أي: إلى طريق المستحِقِّ لذاته الحمدَ، وهو الله تعالى، أو أرادَ: المحمود عاقبتُه، وهو الإسلام.
وقيل: طريق الجنَّة، وأضيف إلى الله تكريماً للجنَّة بنسبتها إليه، وأن طريقَها طريقُه.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} خبر {إِنَّ} محذوفٌ، دلَّ عليه جواب الشَّرط؛ أي: إنَّ الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ} عطف على {كَفَرُوا} ؛ لقوله تعالى في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 17]؛ أي: يواظبون على الصُّدود، وهو الصَّرف عن الخير خاصَّة، وليس المراد الحالَ أو الاستقبال، بل
استمرارُ وجودِ الصَّدِّ منهم في جميع الأزمان، كقولهم: فلانٌ يُحسن للفقراء
(1)
ويكرم الضِّيفان، ولذلك حَسُن عطفه على الماضي.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على {سَبِيلِ اللَّهِ} .
{الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} مطلقاً من غير فرقٍ بين حاضر وبادٍ، فإنْ أُرِيدَ بالمسجد الحرام مكَّةُ، ففيه دليل على أنَّه لا يجوز بيع أرض مكَّة ولا إجارتُها، ولا يعارضه قوله تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج: 40] لأنَّ الإضافة باعتبار أنَّهم يملكون البناء، ولا شراءَ عمر رضي الله عنه داراً يسجنُ فيها؛ لأنَّه اشترى البناءَ دونَ الأرضِ
(2)
.
وإن أريد به البيت فالمعنى: أنَّه قِبلةٌ لجميع النَّاس، والأوَّل هو الظَّاهر؛ لقوله تعالى:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} : المقيمُ بمكَّة {وَالْبَادِ} أي: السَّاكنُ في البادية؛ أي: ليسَ لأحدٍ أن يمنعَ أحداً عنه.
قيل: كانت بيوتُ مكَّةَ لا يُتَّخذُ لها أبوابٌ حتى ظهرَتِ السَّرقةُ فيهم، فقال عمر رضي الله عنه لرجلٍ منهم - وهو أوَّل مَنِ اتَّخذ باباً -: اتخذْتَ باباً لتحتَجِبَ به؟ فقال: لا، ولكنْ أحرزْتُ المتاعَ عن السَّرقة. فقال له: إنَّه لا يحلُّ لأهل مكَّة أن يأخذوا أجورَ بيوتهم
(3)
.
(1)
في (ف) و (م) و (س): "الفقراء".
(2)
روى نحوه عبد الرزاق في "المصنف"(9213)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(23201)، والفاكهي في "أخبار مكة"(2076).
(3)
لم أجده.
وفي جوازِ بيعِ أرضِ مكَّةَ عن أبي حنيفةَ روايتان، قال في "الجامع الصغير": لا يجوز
(1)
.
وروى ابن زياد عنه أنَّه يجوز
(2)
.
و {لِلنَّاسِ} مفعول ثانٍ لـ {جَعَلْنَاهُ} ، و {سَوَاءً} خبر مقدَّم، و {الْعَاكِفُ} مبتدأٌ، والجملة حالٌ، أو مفعول ثانٍ، و {لِلنَّاسِ} حال.
وقرئ: {سَوَاءً} بالنَّصب
(3)
على أنه مفعول ثانٍ أو حالٌ.
و {الْعَاكِفُ} مرفوع على الفاعلية؛ أي: مستوياً العاكفُ فيه والباد، وقرئ:(العاكفِ) بالجرِّ
(4)
على أنَّه بدل من (النَّاس).
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ} تُرِكَ مفعولُه ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ، وقرئ بالفتح
(5)
من الورود.
{بِإِلْحَادٍ} الإلحادُ: العدولُ عن القَصْد، وأصلُه: إلحادُ الحافرِ.
{بِظُلْمٍ} بغير حقٍّ.
وهما حالان مترادفان، أو الثَّاني بدل من الأوَّل بإعادة الجارِّ، أو صلةٌ له، أي:
(1)
ونص قوله: (ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها)، وقال في شرحه:(قوله: ويكره بيع أرضها، هذا عند أبي حنيفة، وعندهما لا بأس ببيع أرضها أيضّاَ لَأنها مملوكة لهم كالبناء، ولأبي حنيفة أن مكة حرة محرمة بالنص فلا يجوز بيعها). انظر: "الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير"(ص: 481).
(2)
انظر: "عيون المسائل" للسمرقندي (ص: 267).
(3)
قرأ حفص بالنصب والباقون بالرفع. انظر: "التيسير"(ص: 1157).
(4)
نسبت للأعمش في رواية. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 115).
(5)
حكاها الكسائي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
ملحداً بسبب الظُّلم، كالإشراك واقتراف الآثام، وعلى قراءة فتح الياء في (يَرِدْ) تكون الباء في {بِإِلْحَادٍ} للتَّعدية؛ أي: ومن أتى فيه بإلحاد ظالماً.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جواب لـ (مَن).
* * *
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} ؛ أي: واذكرْ حين جعلنا لإبراهيمَ مكانَ البيت مباءةً؛ أي: مرجعاً يَرجع إليه للعبادة، ولَمَّا كان المقصود من التَّبوئة العبادةَ فُسِّرَتْ بالنَّهي عن الشِّرك والأمرِ بتطهير البيت، فـ {أَنْ} في قوله:
{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} مفسِّرةٌ، كأنَّه قيل: تعبَّدْنا إبراهيم قلنا له: لا تشرك بي شيئاً وطهِّر بيتي عن الأوثان والأقذار أنْ تُطرح حوله للطَّائفين والمصلِّين، وإنَّما عَبَّرَ عن الصَّلاة بأركانها للدِّلالة على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مستقلٌّ باقتضاء ذلك، كيف وقد اجتمعَتْ.
وفصلَ بين الأوَّلِ والأخيرَيْنِ بالواو، وجمع بينَ الأخيرَيْن بغير واو؛ لأنَّ القيامَ تعظيمُ اللهِ تعالى، والرُّكوعَ والسُّجودَ تذلُّلٌ له، فاتَّحد هذان وغايرهما
(1)
الأوَّل.
وقيل: هي مصدرَّية موصولة بالنَّهي؛ أي: فعلنا ذلك لئلَّا تُشرك بعبادتي، وتطهِّرَ
(2)
بيتي.
* * *
(1)
في النسخ: "وغيرهما"، والصواب المثبت.
(2)
أي: ولتطهر بيتي، وفي (م):"وطهر".
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} : نادِ فيهم. وقرئ: (آذِنْ) من الإيذان
(1)
.
{بِالْحَجِّ} بدعوته والأمر به. والحجُّ: القصْدُ البليغُ إلى مقصدٍ منيعٍ.
روي أنَّه
(2)
عليه السلام صعد أبا قبيس فقال: يا أيها النَّاس، حجُّوا بيتَ ربِّكم، فأجابَ مَن قُدِّرَ له أن يحجَّ من الأصلاب والأرحام بـ: لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ
(3)
.
وعن الحسن: أنَّه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمِرَ أنْ يفعلَ ذلك في حجَّة الوداع
(4)
. والأوَّل أظهر.
وجواب الأمر: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} : مشاةً، كقائم وقيام.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} معطوف على (رِجَال)، كأنَّه قال: رجالاً وركباناً. والضَّامرُ: البعيرُ المهزولُ.
والإطناب المعنوي، وزيادة لفظ {كُلِّ} ؛ للمبالغة في تعميم الأمر لكلِّ مَن يقدر على المركب ولو ضعيفاً، وقدِّم الرِّجال على الرُّكبان إظهاراً لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث
(5)
.
(1)
نسبت للحسن وابن محيصن. انظر: "الكشاف"(3/ 152)، و"المحرر الوجيز"(4/ 117).
(2)
أي: إبراهيم عليه السلام.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(9099) عن علي، والطبري في "تفسيره"(16/ 515)، عن ابن عباس رضي الله عنهم.
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 18)، و"الكشاف"(3/ 152).
(5)
لعله يقصد ما رواه الأزرقي في "أخبار مكة"(2/ 7)، والبزار في "مسنده"(4745)، وابن خزيمة في=
{يَأْتِينَ} صفة لـ {كُلِّ ضَامِرٍ} ؛ لأنَّه في معنى الجمع، وقرئ:(يأتون)
(1)
صفة للرِّجال والرُّكبان، أو استئناف فيكون الضمير للناس.
{مِنْ كُلِّ فَجٍّ} ؛ أي: طريق واسع.
{عَمِيقٍ} وإنَّما عبَّرَ عن البعد بالعمق ليناسب الغرض المعتبَر في مفهوم الفجِّ
(2)
.
وقرئ: (مَعِيْقٍ)
(3)
، والمعنى واحد.
* * *
{لِيَشْهَدُوا} : ليحضروا، متعلِّق بـ {وَأَذِّنْ} ، أو {يَأْتُوكَ} .
= "صحيحه"(2791)، والحاكم في "المستدرك" (1692) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج ماشياً كتب له بكل خطوة سبع مئة حسنة من حسنات الحرم" قال بعضهم: وما حسنات الحرم؟ قال: "بكل حسنة بمئة ألف حسنة". وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: ليس بصحيح. وقال البوصيري في "إتحاف المهرة"(3/ 151): رواه أبو يعلى، ورجاله على شرط مسلم إلا أنه منقطع، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وصححه، والبيهقي وقال: تفرد به عيسى بن سوادة وهو مجهول، وفال ابن خزيمة: إن صح الخبر؛ فإن في القلب من عيسى بن سوادة. قال الحافظ المنذري: قال البخاري: منكر الحديث. قلت: وكذا قال أبو حاتم، وقال ابن معين: كذاب رأيته. وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 107).
(1)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
(2)
في (م): "الحج".
(3)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "الكشاف"(3/ 152)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 70).
{مَنَافِعَ لَهُمْ} دينيَّةً ودنيويَّة، وتنكيرها لأنَّ المراد نوعٌ منها مختصٌّ بهذه العبارة.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عندَ إعداد الهدايا والضَّحايا وذبحها.
وقيل: كُني بالذِّكر عن النَّحْرِ لأنَّ ذبح المسلمين لا ينفكُّ عنه؛ تنبيهاً على أنَّه المقصود ممَّا يُتقرَّب به إلى الله تعالى.
{فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} هي عشر ذي الحجَّة وأيَّام النَّحر {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} الله {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} علَّقَ الفعل بالمرزوق وبيَّنه بالبهيمة تحسيناً للكلام بنوعٍ من البلاغة لم يوجد في غير هذه العبارة، وتنبيهاً على الكناية بالقرينة، وتعظيمُ المرزوق بالإبهام والتَّوضيح للتَّحريض على التَّقرُّب به، وقد سبق في (المائدة) ما يتعلَّق بتفسير {بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(1)
.
{فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحةٍ؛ إزاحةً لِمَا عليه أهل
(2)
الجاهلية من التَّحرُّج فيه، أو ندباً لِمَا فيه من مواساة الفقراء ومساواتهم، واستعمالِ التَّواضع، وهذا في هَدْي التَّطوُّع والمتعة والقِران؛ لأنَّه دمُ
(3)
نُسكٍ فأشبهَ الأضحية دونَ سائر الهدايا.
{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} : الذي أصابه بأسٌ؛ أي: شدَّة {الْفَقِيرَ} : المحتاج.
لأمر فيه للوجوب، وقد قيل به في الأوَّل.
(1)
تفسير سورة المائدة غير موجود كاملاً والموجود منها في بعض النسخ إلى الآية رقم (12) منها، وقد نبهت النسخ كلها كما تقدم على ذلك.
(2)
"أهل" ليست في (ف).
(3)
في (ف): "لأنَّه عليه السلام"، ولعله وهم من الناسخ، ظن (دم):(ع م) وهي في أكثر النسخ رمز لـ عليه السلام.
(29) - {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا} : ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم، كذا قال نفطويه
(1)
.
وقيل: قضاء التَّفث: قصُّ الشَّارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، وذلك عند الإحلال، ولذلك صدَّره بكلمة التَّراخي.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} : مواجبَ حجِّهم، والعرب تقول لكلِّ مَن خرج عمَّا وجبَ عليه: وفَّى بنذره وإن لم ينذر، أو: ما ينذرونه من أعمال البر في حجِّهم.
{وَلْيَطَّوَّفُوا} طوافَ الزِّيارة الذي هو ركن الحجِّ، ويقع
(2)
به تمامُ التَّحلُّل.
وقيل
(3)
: طواف الوداع.
{بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : القديم؛ لأنَّه أوَّل بيت وُضِعَ للنَّاس، أو: الكريم، ومنه: عِتاق الخيل، لكرائمها، وعتاق الرَّقيق: الخروج مِنْ ذُلِّ
(4)
العبودية إلى كرم الحريَّة، أو: المعتَق من الغرق لأنَّه رُفِعَ من الطُّوفان، أو مِنْ تسلُّط الجبابرة، فكم مِن جبَّار سارَ إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى، وأمَّا الحَجَّاجُ فإنَّه قصدَ إخراج ابن الزُّبير رضي الله عنه الذي تحصن
(5)
به - منه، دون التَّسلُّط عليه.
* * *
(1)
انظر: "تفسير الرازي"(23/ 222)، و"تفسير النسفي"(2/ 437). ونفطويه هو إبراهيم بن محمد بن عرفة توفي سنة (323 هـ). ويعرف بابن عرفة وبنفطويه.
(2)
في (ف) و (ك): "قد يقع".
(3)
في (ك): "وقبل".
(4)
في (ك) و (م): "عن ذل".
(5)
في (م): "تحصر".
{ذَلِكَ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمرُ ذلك، وهو وأمثاله للفصل بين كلامَيْن.
{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} الحرمة: ما لا يَحلُّ هتكُه
(1)
، وجميع ما كلَّفه اللّه تعالى بهذه الصِّفة، فيجوز أن يكون عامًّا في جميع أحكامه، وأن يكون خاصًّا فيما يتعلَّق بالحجِّ.
وقيل: {حُرُمَاتِ اللَّهِ} : البيت الحرام، والمشعَر الحرام، والشَّهر الحرام.
{فَهُوَ} ؛ أي: التَّعظيم {خَيْرٌ لَهُ} والتَّعظيمُ: القيامُ بمراعاتها مع اعتقاد أنَّها واجبة المراعاة.
{عِنْدَ رَبِّهِ} يعني: في الآخرة.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمُه، وهو ما حُرِّمَ منها لعارض كالميتة وما أُهلَّ به لغير الله، فلا تحرِّموا منها
(2)
غيرَ ما حرَّم الله تعالى كالبَحيرة والسَّائبة.
وفي عبارة {يُتْلَى} إشارةٌ إلى أنَّ التَّحريم لا يكون إلَّا من الشَّارع بنصٍّ متلوٍّ.
(1)
في (ف): "اهتكه".
(2)
في (ف): "فيها"، وسقطت من (س). والمثبت من (ك) و (م) وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 70).
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} صدَّره بالفاء السَّببيَّة لأنَّه لَمَّا حثَّ على تعظيم حرمات اللّه تعالى لزم وجوب المحافظة على حدوده وأعظمُها التَّوحيد، فدخل وجوب الاجتناب من عبادة الأوثان فيه دخولاً أوَّليًّا، وتسبَّبَ منه.
و {مِنَ} للبيان؛ أي: الرِّجسَ الذي هو الأوثان، وهو غاية المبالغة في النَّهي عن تعظيمها، حيث سمَّاها {الرِّجْسَ} ، وعرفه بلام الجنس، وأمر بالاجتناب عن عينه، وبيَّنه بـ {الْأَوْثَانِ} ، كأنَّ جنس الرِّجس ما هو الأوثان، كلُّ ذلك تنفيراً عن عبادتها خصوصاً جَعْلُها الرِّجس الذي ينفر الإنسان عنه بطبعه.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} قرنه بالشِّركِ في وجوب الاجتناب عنه، ولم يعطف، بل كرَّر (اجتنبوا) تنبيهاً على أصالة تحريمه، وتعميماً لِمَا ذُكِرَ؛ فإنَّ الشِّركَ يلزمه قول الزُّور؛ إذ المشرك يدَّعي ألوهيَّةَ الوثن، ويدخل فيه تحريم البَحائر وغيره من مفترياتهم
(1)
، فيكون كالعلَّة لتحريم الشِّرك بتحريمِ لازِمه الأعم.
وقيل: المراد بـ {قَوْلَ الزُّورِ} : شهادةُ الزُّور؛ لِمَا روي أنَّه عليه السلام قال: "عَدَلَتْ شهادةُ الزُّور الإشراكَ بالله" ثلاثاً، وتلا هذه الآية
(2)
.
والأظهرُ العمومُ ليتناول الشَّهادةَ وسائرَ الأكاذيب.
(1)
في (ك) و (م): "مقترحاتهم".
(2)
رواه أبو داود (3599)، والترمذي (2300)، وابن ماجه (2372)، من حديث خريم بن فاتك رضي الله عنه. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 349): إسناده مجهول.
والزُّورُ: مِنَ الزَّوَرِ، وهو الانحراف، كما أنَّ الإفْكَ مِن الأَفْكِ وهو الصَّرفُ، فإنَّ الكذبَ منحرِفٌ ومصروفٌ عن الواقع.
* * *
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} : مستقيمي الطَّريقة على أمر الله، وأصلُ الحَنَفِ: الاستقامةُ، وقيل للمائلِ القدمِ: أحنف؛ تفاؤلاً بالاستقامة.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} غيرَه في العبادة. وهما حالان
(1)
من الواو.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} لَمَّا أخذَ في التَّمثيل عدلَ عن الضَّمير إلى الاسم الظَّاهر في التَّفخيم المناسب لمقام التَّهويل.
{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} : سقطَ منها {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} : الخَطْفُ: الاستلابُ بسرعةٍ.
{أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} ؛ أي: تسقطُه
(2)
، والهُويُّ: السُّقوطُ.
{فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} : بعيدٍ، شبَّهَ حالَ المشرك في هلاكه هلاكاً لا خلاص معه
(3)
بحالِ مَن يخرُّ مِنَ السَّماء فاختطفه الطَّير فتفرَّقَ قطعاً في حواصلها
(4)
، أو عصفَتْ به
(1)
في (م): "حال".
(2)
في (ف): "أي تسقط"، وفي (م):"أو تسقطه".
(3)
في (ك): "له"، وسقطت من (ف).
(4)
في هامش (م) و (س): "من قال: إلى الأرض، لم يصب لأن الفاء الدالة على تعقيب الخرور بالخطف يأباه".
الرِّيح فهوَتْ به في بعض المهالك البعيدة، هذا إذا جعلْتَه من باب التَّشبيه المركَّب وتمثيلِ صورةِ حاله بصورةِ حالِ مَن هلك على إحدى الصُّورتَيْن
(1)
.
وإنْ جعلْتَه مِنْ بابِ التَّشبيه المفرَّق
(2)
: شُبِّهَتِ الفطرةُ القابلة للتَّوحيد في علوِّ رتبتها بالسَّماء، والمشرك بالسَّاقط، والأهواءُ المُرْديَةُ الموزِّعةُ أفكارَه
(3)
بالطَّير المختطفة، والشيطان الذي يطوحُ به في تيه الضَّلال بالرِّيح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة
(4)
، والشرك الذي فيه
(5)
بالمكان السَّحيق.
و {أَوْ} للتخيير كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] أو للتَّنويع، فإنَّ مِن المشركين مَن لا خلاص له أصلاً، ومنهم مَن يمكن خلاصُه بالتَّوبة لكن على بُعْدٍ
(6)
.
* * *
(32) - {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} .
{ذَلِكَ} ؛ أي: الأمر ذلك.
(1)
في هامش (س): "لا تشبيه هلاكه بهلاك أحد الهالكين كما توهمه القاضي، إذ حينئذ لا يكون من تشبيه المركب بالمركب بل من تشبيه المقيد بالمقيد، والفرق واضح عند أهل البيان".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "المفرد".
(3)
أي: أفكار المشرك. انظر: "تفسير أبي السعود"(6/ 105)، و"روح المعاني"(17/ 312).
(4)
في (م): "المختلفة"، وفي (س):"المتعلقة".
(5)
"فيه": ليست في (م).
(6)
في هامش (م) و (س): "من قال: شبهت بالتوحيد، فكأنه غافل عن أن المشرك بمعزل عن مقام التوحيد، فأنَّى السقوط! ".
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} معالمَ دينه، أراد بها الهدايا؛ لأنَّها من معالم الحجِّ، والمخصِّص ما قبلها وما بعدها
(1)
.
وتعظيمُها: اعتقادُ كونِ التَّقرُّب بها من معاظم الطَّاعات، واختيارُها حِساناً سماناً غاليةَ الأثمان، وتركُ المكاس في شرائها.
روي أنَّ عمرَ رضي الله عنه أهدى نَجِيْبَةً طلبت منه بثلاث مئة دينار
(2)
.
جزاؤه محذوفٌ تقديرُه: فهم متَّقون حقًّا
(3)
؛ لدلالة التَّعليل القائم مقامه، ولهذا أدخل الفاء الجزائية عليه.
والضمير في: {فَإِنَّهَا} لتعظيمات مَن عظَّموا
(4)
شعائر الله.
{مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي: ناشئةٌ منها.
واللَّام عوض عن
(5)
المضاف إليه؛ أي: مِن تقوَى قلوبهم، وإضافتُها إليها للاحتراز عن تَقْوَى المُرائي.
(1)
في هامش (س): "سيظهر وجه هذا القيد عند بيان وجه إضافة التقوى إلى القلوب".
(2)
رواه أبو داود (1756) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
في هذا الجزاء خلاف أساسه جعلُ قوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} هو الجزاءَ مع تقدير العائد، وفيه بحث طويل تفصيله في "روح المعاني"(17/ 315 - 318)، ثم ختمه الآلوسي رحمه الله بما لعله عنى به المؤلفَ وتقديرَه فقال:(وذهب بعض أهل الكمال إلى أن الجزاء محذوف تقديره: فهم متقون حقا؛ لدلالة التعليل القائم مقامه عليه). ثم أورد عليه تعقُبا، وتعقبه، فقال:(وتُعقِّب بأن الحذف خلاف الأصل، وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الإعلام والإخبار كما عُرف في أمثاله)، وتعقبه بقوله:(وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن، ومثله كثير في الكتاب الجليل).
(4)
في (ك): "عظم"، وفي (ف) و (م):"عظمها"، والمثبت من (س).
(5)
في (ف): "من".
(33) - {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} كثيرةٌ؛ دينيَّةٌ ودنيويَّة، مِن دَرِّها ونسلها وظهرها وصوفها، والتَّصدُّقِ بفوائدها
(1)
.
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إلى وقتِ نحرها.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : ثمَّ موضِعُ حِلِّ نحرها ينتهي إلى البيت أو قريب إليه
(2)
، وهو الحرم، و {ثُمَّ} يَحتمِل التَّراخيَ في الوقت والتَّراخيَ في الرُّتبة، أي: لكم فيها منافع دنيويَّة إلى وقت النَّحر، وبعده منافع دينيَّة أعظمُ منها.
* * *
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} : أهلِ دِيْنٍ {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} : متعبَّداً، أو قرباناً
(3)
يتقرَّبون به إلى الله تعالى.
وقرئ بالكسر
(4)
؛ أي: موضِعَ نُسكٍ.
{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} علَّة للجَعْلِ مبيِّنةً أنَّ المقصودَ مِن المناسكِ ذكرُ اللهِ عزَ اسمُه عليها.
{مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فيه تنبيهٌ على أنَّ القربان لا يكون إلَّا مِنَ النَّعم.
(1)
في (ف) و (م): "بعوائدها".
(2)
في (ف): "منه".
(3)
في (م): "وقربانا".
(4)
أي بكسر السين. وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 157).
{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} الفاء في الموضعين للسَّببية، وتقديم (له) للتَّخصيص؛ أي: لَمَّا كان المقصدُ الأصليُّ
(1)
مِن وَضْعِ المناسك ذكرَ اللّهِ تعالى وتوحيدَه، فاعلموا أنَّ إلهكَم وإلهَ جميعِ الأمم إلهٌ واحدٌ، فله خاصَّة أخلصوا الذِّكْرَ دون غيره، واجعلوه له سالماً؛ أي: خالصاً لا تشوبوه بالإشراك البتَّة.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} : المتواضعين الخاشعين، مِن الخَبْتِ، وهو المطمئن من الأرض.
* * *
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} : خافَتْ {قُلُوبُهُمْ} منه هيبةً لإشراق أشعَّة جلاله عليها.
{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من المحنِ والمصائب.
{وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} في أوقاتها.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في وجوه الخير.
* * *
(1)
في (ف): "الأصل".
{وَالْبُدْنَ} : جمع بَدَنة، كخُشْبٍ وخَشَبة
(1)
، وأصله الضَّم، وقد قرئ به
(2)
.
وإنَّما سُمِّيَتْ به لِعِظَمِ بَدَنها، مأخوذ من بَدُنَ بَدَانَةً، وهي الإبل خاصَّة، وقد دلَّ عليه إلحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرَ بالبَدَنَةِ حين قال:"البُدْنُ عن سبعةٍ، والبقر عن سبعةٍ"
(3)
، ولا دلالة فيه على صيرورة البدنة متناوِلة للجنسين في الشريعة.
وانتصابه بفعلٍ يفسِّرُه: {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} وقرئ بالرَّفع
(4)
على الابتداء، كقوله:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39].
{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ؛ أي: من أعلام الشَّريعة التي شرَعَها الله تعالى، وإضافتُها إلى اسمه تعظيم.
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} منافعُ دينيَّة ودنيويَّة.
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بأن تقولوا عند النَّحْرِ: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، واللّه أكبر، اللَّهمَّ منك وإليك
(5)
.
{صَوَافَّ} حال من الهاء؛ أي: قائماتٍ، من صففْنَ أيديهنَّ وأرجلهنَّ.
(1)
تجمع أيضًا على: خَشَبٌ، وخُشُبٌ. انظر:"تاج العروس"(مادة: خشب).
(2)
أي: (البُدُن)، نسبت للحسن وعيسى. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
(3)
رواه مسلم (1318) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه:"البدنة" بدل "البدن".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 158)، و"البحر المحيط"(15/ 359).
(5)
روى الحاكم في "المستدرك"(7571) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: يقول الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: "قيامًا على ثلاث قوائم معقولة، بسم الله، والله أكبر، اللَّهمَّ منك وإليك" وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقرئ: (صَوَافِنَ)
(1)
مِنْ صُفونِ الفرس، وهو أنْ يقومَ على ثلاثٍ، وطَرَفِ سُنْبُكِ الرَّابعةِ؛ لأنَّها تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث.
و: (صوافنًا) بالتَّنوين عوضًا من حرف الإطلاق عند الوقف
(2)
.
و: (صَوَافيَ)
(3)
؛ أي: خوالصَ لوجه الله.
و: (صَوَافٍ)
(4)
على لغةِ مَن يسكِّن الياء مطلقًا، نحو مثل العرب: أعطِ القوسَ باريها
(5)
.
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} ؛ أي: سقطت على الأرض بعد نحرها قائمةً، وهو كناية عن موتها.
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ؛ أي: إذا مات حلَّ لكم الأكل منها والإطعام.
والقانع: الرَّاضي بما عندَه، وبما يُعطى من غير سؤالٍ، مِن قَنِعْتَ قُنوعًا وقَناعةً، يؤيِّده أنَّه قرئ:(القَنِعَ)
(6)
، وهو الرَّاضي.
(1)
نسبت لابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95)، و"المحتسب"(2/ 81)، و"البحر"(15/ 59).
(2)
نسبت لعمرو بن عبيد. انظر: "الكشاف"(3/ 158).
(3)
نسبت لأبي موسى الأشعري والحسن وزيد بن أسلم وجمع. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95) و"المحتسب"(2/ 81)، و"الكشاف"(3/ 158)، و"البحر"(15/ 59).
(4)
نسبت للحسن أيضًا. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95)، و"الكشاف"(3/ 158) وعنه نقل المؤلف هذه القراءات مع توجيهها، و"البحر"(15/ 59).
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 158). وهذه قطعة من بيت كما في "جمهرة الأمثال"(1/ 76)، وتمامه:
يا باريَ القوسِ بريًا ليسْتَ تُحكمُه
…
لا تظلمِ القوسَ أعطِ القوسَ باريها
(6)
انظر: "المحتسب"(2/ 82)، و"الكشاف"(3/ 158)، و"المحرر الوجيز"(4/ 123).
والمعترُّ: المتعرِّض بالسُّؤال
(1)
.
وقيل: القانع: السَّائل، مِن قَنَعْتُ إليه: إذا خضعْتَ له وسألتَه، قُنوعًا.
والمعترُّ: المتعرِّض بغير سؤال.
وقرئ: (والمُعْتَرِي)
(2)
، يقال: عَرَّهُ وعَرَاهُ، واعْترهُ واعْتَراهُ بمعنى.
{كَذَلِكَ} مثلَ ما وصفناها قيامًا معقولةً أيديها {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} عظمها وفَرْط قوَّتها، حتى تأخذوها فتعقلوها وتحبسوها صافَّةً قوائمها، ثم تطعنون في لَبَّاتها
(3)
.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إنعامَنا عليكم بالتَّقرُّب والإخلاص.
* * *
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} : لن يصيبَ رضاه، ولن يقعَ منه موقعَ القَبولِ {لُحُومُهَا} المتصدَّقُ بها {وَلَا دِمَاؤُهَا} المهراقةُ عندَ النَّحر من حيث إنها لحوم ودماء.
{وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} : ولكن يصيبُه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمر الله، والتَقرُّب إليه، والإخلاص له، والتَّحرُّز عنها.
(1)
"المتعرض بالسؤال"، كذا في النسخ، وفي مطبوع البيضاوي (4/ 72):"المعترض بالسؤال "، وفي "حاشية القونوي"(13/ 69) مثل النسخ، فلعله من اختلاف نسخ البيضاوي، والمؤدى واحد.
(2)
نسبت للحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 95).
(3)
اللَّبَّات: جمع اللَّبَّة، وهي موضع النَّحر. انظر:"المصباح المنير"(مادة: لبب).
قيل: كانَ أهلُ الجاهليَّة إذا نحروا البُدْنَ نضحوا الدِّماءَ حول البيت ولطَّخوه بالدَّم، فلمَّا حجَّ المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلَتْ
(1)
.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} كرَّرَ التَّسخيرَ؛ تذكيرًا للنِّعمة، وتعليلًا بقوله:
{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ؛ أي: لتَعْرفوه
(2)
بإقداره إيَّاكم، وتعلموا أنَّه القادر على ما لا يقدر عليه غيره، فتصفوه بالكبرياء، وتشكروه على إنعامه عليكم بالهداية إلى طريق تسخيرها وكيفيَّة التَّقرُّب بها. فتعديتُه بـ {عَلَى} على تضمين معنى الشكر.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} : المخلصين فيما يأتون به ويذرونه، وإنَّما ترك المُبَشَّر به للإشارة إلى أنَّه ممَّا لا يُعيِّنه العبارة
(3)
.
* * *
(38) - {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .
{إِنَّ اللَّهَ يَدْافَعُ} وقرئ: {يُدَافِعُ}
(4)
؛ أي: يبالغ في الدَّفع مبالغةَ مَن يُغالِبُ فيه.
{عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} حذف المفعول للتَّعميم، ثمَّ علَّلَ بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانةِ اللهِ {كَفُورٍ} لنعمته؛ أي: لا يحب
(1)
روى نحوه الطبري في "تفسيره"(8/ 70) عن ابن جريج.
(2)
في (ك): " لتفردوه"، وفي (ف):"لتفرحوا ". وفي "تفسير البيضاوي"(4/ 72): "لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء".
(3)
في (ف): "مما يعينه العبارة"، وفي (م):"مما لا يفيه العبارة".
(4)
فرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يدفع} ، والباقون:{يُدَافِعُ} . انظر: "التيسير"(ص: 157).
أضدادهم
(1)
، وضمَّنه الإيماءَ إلى أن أعاديَهم الواجبَ دفعُهم هم المشركون، والتَّنصيصَ عليهم بأنَّهم الخوَّانون الكفَّارون، والتَّعريضَ بأنَّ أضدادهم المؤمنين هم الأمناء الشَّاكرون، وأنَّ الله تعالى يحبُّهم، وعلى مقتضى ما ضمَّنه أتى بصيغة المبالغة، وإلَّا فمقتضى الظَّاهر نفي محبَّته عن كلِّ خائنٍ وكافرٍ، بل إثباتُ بغضه لهما.
* * *
(39) - {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
{أُذِنَ} : رُخِّصَ {لِلَّذِينَ} حذف المأذون فيه لدلالة: {يُقَاتَلُونَ} عليه، وقرئ:{يُقَاتَلُونَ} بفتح التَّاء
(2)
؛ أي: للَّذين يقاتلهم المشركون.
{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} : بسبب أنَّهم ظُلِموا، وهم أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان المشركون يؤذونهم، وكانوا يأتونَه مِن بين مضروبٍ ومشجوجٍ يتظلَّمون إليه، فيقولُ لهم:"اصبروا فإنِّي لم أؤمر بالقتال "، حتى هاجر، ثم نزلَتْ هذه الآية
(3)
.
وهي أوَّلُ ما نزلَ في القتال
(4)
، بعدَما نُهي عنه عليه السلام في نيفٍ وسبعين آيةً.
(1)
في (ف): "لأَنه لا يحبُّ كلَّ أحد أضدادهم "، وفي (ك):"لأنَّه يحب أضدادهم"، وفي (س):؛ لأنَّه لا يحب أضدادهم"، والمثبت من (م).
(2)
قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء والباقون بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 157).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 25) وعزاه للمفسرين، وذكره ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب"(2/ 918) عن قتادة ومقاتل.
(4)
قطعة من خبر رواه عبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 480)، والإمام أحمد في "المسند"(1865)، والترمذي (3171)، والنسائي (3085)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولم يرد عنده قول ابن عباس: (هي أول آية
…
).
{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعدٌ لهم واردٌ على سَنَنِ كلام الملوك المقتدرين الجبَّارين، وتأكيدٌ لِمَا سبقَ من الوعد بدفع أذى الكفَّار؛ فإنَّ النَّصر ليسَ مطلقَ العون، بل العونُ بدفع الضَّرر.
* * *
{الَّذِينَ} في محل الجرِّ، بدل من (الذين)، أو نصب بـ (أعني)، أو رفع بإضمار:(هم).
{أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} يعني: مكَّة {بِغَيْرِ حَقٍّ} : بغير
(1)
موجِبٍ استحقُّوا به الإخراج.
{إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} إبدال {أَنْ يَقُولُوا} من {حَقٍّ} ، تأكيدٌ للمدح بما يشبه الذَّمَّ على طريق قول النَّابغة:
ولا عيْبَ فيهِمْ غيرَ أنَّ سيوفَهُم
…
بهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ
(2)
أي: بغير موجِبٍ سوى التَّوحيدِ الموجِبِ للإعزاز والتَّمكين والإكرام.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين على المشركين بالجهاد.
{لَهُدِّمَتْ} الهدمُ كنايةٌ عن الإبطال والتَّعطيل على وجه أبلغ؛ أي: لاستولى المشركون على أهل المِلَلِ وعطَّلوا متعبداتهم.
(1)
في (ف) و (ك): "يعني".
(2)
انظر: ديوانه (ص: 11). وقد تقدم في أكثر من موضع في هذا الكتاب.
{صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} الصَّوامعُ: جمع صومعةٍ، وهي متعبَّد الرَّهابنة.
والبِيَعُ: جمعُ بِيْعَةٍ، وهي متعبَّد النَّصارى ومصلَّاهم.
والصَّلوات وهي كنيسةُ اليهود، سُفَيَتْ صلاة لأنَّها يُصلَّى فيها، وقيل: كلمة معرَّبة أصلها بالعبرانيَّة: صلاة.
{وَمَسَاجِدُ} ومساجد المسلمين، إنَّما خصَّ التَّعبير بالمسجد عن مصلَّاهم
(1)
لأنَّ السَّجدة من أركان صلاتهم خاصَّة، وإنَّما أُخّرَتْ عن غيرها لِمَا في التَّقديم مِن القُرْبِ من التَّهديم.
{يُذْكَرُ فِيهَا} لا في المساجد خاصَّة، بل في جميع ما ذُكِرَ؛ لأنَّه كالتَّعليل لصونها عن التَّهديم بالدَّفع المذكور.
{اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: ذكرًا كثيرًا.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ؛ أي: ينصرُ دينَه ورسلَه. إخبارٌ من الله عن الغيب، ووعدٌ أنجزه بتسليط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على نصرهم {عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره، وفيه تأكيد لوعده.
* * *
(1)
في (س) و (ف) و (ك): "بمصلاهم".
{الَّذِينَ} بدل مِن {مَنْ يَنْصُرُهُ} ، أو صفةٌ أخرى لـ {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ، وقوله:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} إلخ اعتراضٌ بين الصِّفتَيْن
(1)
.
{إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} وبسطنا لهم في الدُّنيا.
{أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ؛ أي: قاموا
(2)
بأمر الدِّين حقَّ القيام.
وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناءٌ قبل بلاءٍ
(3)
؛ أي: أثنى عليهم قبلَ أن يُحْدِثوا من الخير ما أَحْدثوا، وفيه دليل على صحَّة أمر الخلفاء الرَّاشدين؛ إذ لم يَسْتَجمع ذلك غيرُهم
(4)
من المهاجرين.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ؛ أي: مرجعُها إلى حكمِه وتقديرِه، وفيه أيضًا تأكيدٌ لو عدِه.
* * *
(42) - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} .
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} تسلية لرسوله عليه السلام من تكذيبِ قومِه إيَّاه؛ أي: لسْتَ بأوحديٍّ في التَّكذيب.
(1)
"بين الصفتين" ليس في (ف).
(2)
في (ف): "أقاموا".
(3)
رواه خليفة بن خياط في "تاريخه"(ص: 171)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 347).
(4)
في (ك) و (م): "في غيرهم" والمثبت من (س) و (ف)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 73)، وعبارة "الكشاف":(وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين؛ لأنّ الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء).
{فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} : قبلَ قومَكِ {قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا عليه السلام {وَعَادٌ} هودًا عليه السلام {وَثَمُودُ} صالحًا عليه السلام.
ولم
(1)
يقل فيهما: (قوم صالح وقوم هود)؛ لأنَّ الأصل في التَّعبير هو العَلَم، والعدول في غيرهما إلى التَّعبير بالأمر العام لضرورة فَقْدِ العلم.
* * *
(43) - {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} .
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ} إبراهيمَ عليه السلام {وَقَوْمُ لُوطٍ} لوطًا عليه السلام.
* * *
{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} شعيبًا عليه السلام، ولم
(2)
يقل هاهنا: (وقوم شعيب) لأنَّ المكذِّبين له من قومِه أصحابُ مدين خاصَّة.
{وَكُذِّبَ مُوسَى} غُيِّر النَّظم فيه، ولم يُقَلْ:(وقوم موسى)؛ لأنَّ قومَه بنو إسرائيل لم
(3)
يكذِّبوه، وإنَّما كذَّبه القِبْط، وأُفرد له الفعلُ لتعظيمه وبيان أنَّ تكذيبه كان أشنع، وآياتِه كانت أعظمَ وأسبغ، كأنَّه قيل: وكُذِّبَ موسى مع عظم آياته ووضوح معجزاته، فما ظنُّك بغيره؟!
(1)
في (ك) و (م): "لم".
(2)
في (م): "لم".
(3)
في (ك) و (م): "ولم".
وبُني الفعل للمفعول إتمامًا للكلام بالتَّجريد لِمَا سِيْقَ له.
{فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} ؛ أي: فأمهَلْتُهم
(1)
إلزامًا للحُجَّةِ.
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقَبْتُهم على كفرهم.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : إنكاري عليهم بتغيير النِّعمةِ نَقمةً، والحياةِ هلاكًا، والعمارةِ خرابًا، والبقاءِ استئصالًا.
* * *
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} منصوبُ المحلِّ
(2)
بفعل مقدَّرٍ يفسِّرُهُ: {أَهْلَكْنَاهَا} أو مرفوعةٌ بالابتداء، والخبر {أَهْلَكْنَاهَا}. يعني: بإهلاكِ أهلها.
{وَهِيَ ظَالِمَةٌ} ؛ أي: أهلُها، حال.
{فَهِيَ خَاوِيَةٌ} جملة معطوفة على {أَهْلَكْنَاهَا} لا محلَّ لها من الإعراب على الأوَّل، وفي محلِّ الرَّفع على الثَّاني.
{عَلَى عُرُوشِهَا} متعلقة بـ {خَاوِيَةٌ} ، أو خبرٌ بعد خبرٍ.
والخاوي: السَّاقط، من خَوَى المنزل: إذا خلا من أهله.
والعرشُ: كلُّ مرتفعٍ مُظِلٍّ من سقفٍ أو خيمةٍ أو كَرْم.
أي: ساقطةٌ على عروشها بأنْ خَرَّتِ
(3)
السُّقوف على الأرض، ثمَّ سقطَتْ
(1)
في (م): " فأمهلتهم أي: فأمهلهم".
(2)
"المحل" سقط من (ك).
(3)
في النسخ: "خوت" والمثبت من "الكشاف"(3/ 161)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 74).
جدرانها
(1)
فوقَ السُّقوف، أو: خاليةٌ مع بقاء عروشها وسلامتها، وعلى الوجه الثَّاني من الإعراب: فهي خاويةٌ وهي قائمة مع عروشها، أو مائلة مشرفة على السُّقوف السَّاقطة، بأنْ سقطَتِ السُّقوف على الأرض وبقيَتِ الجدران مشرفةً عليها.
{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} عطف على {قَرْيَةٍ} ؛ أي: وكم بئر عامرة في البوادي فيها الماء عُطِّلَتِ وتُرِكَتْ لا يُستقى منها لهلاك أهلها. وقرئ بالتَّخفيف مِنْ أَعْطَله، بمعنى عَطَّله
(2)
.
{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} : مجصَّصٍ، مِن الشِّيْد وهو الجصُّ، أو: مرفوعِ البنيان، مِن شادَ البناء: إذا رفَعه.
أخليناه عن ساكنيه، حُذِفَ لدلالة {مُعَطَّلَةٍ} عليه.
والأنسب لهذا أن معنى {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : خالية مع عروشها، والأظهر أنَّ البئر والقصر على العموم؛ أي: أهلكنا
(3)
البادية والحاضرة جميعًا، فخلَتِ القصور عن أربابها، والآبار عن وارديها.
* * *
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} حثٌّ لهم على السَّفر ليعتبروا بما رأوا من مصارع
(1)
في (م): "جداراتها".
(2)
نسبت للحسن. انظر: "الكشاف"(3/ 162).
(3)
في (ك): "أهلكناها ".
المُهلَكين، وبقاء آثارهم، وهم وإن كانوا قد سافروا ولكنَّهم لم يعتبروا، فكأنَّهم لم يسافروا لعدم الفائدة لهم
(1)
.
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} : ما يجب أن يُعْقلَ من توحيد الله تعالى وقدرته عند الاعتبار والاستبصار.
{أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} : ما يجبُ انْ يُسمَعَ من الوحي والتَّذكير بحالِ مَن شاهدوا آثارَهم، وإنَّما ذكَرَ الأُذنَ دون البصر - مع أنَّه أنسب أنْ يُذْكَر - نظرًا إلى اتِّساق الكلام للاعتبار بالآثار؛ لأنَّ المقصود بيانُ حصول طريقي
(2)
: العلمِ الاستدلالي، والأخذِ من أفواه الرِّجال، والوصولُ إليهما
(3)
بالسَّير للاعتبار، والبصرُ من وسائل الطَّريق الأوَّل، فلذلك لم يُذْكَرْ أصالةً
(4)
.
{فَإِنَّهَا} الضَّمير للقصَّة، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(فإنَّهُ)
(5)
على تأويل الشَّأن، ويجوز أن يكون ضميرًا مُبْهماً يفسِّره {الْأَبْصَارُ} ، وفي {تَعْمَى} راجع إليه، أو الظَّاهرُ أُقِيمَ مقامَه.
{لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ؛ أي: ما عميت أبصارهم عن الإبصار
(6)
، بل قلوبهم عن الاعتبار، والآفَةُ في قلوبهم باتِّباع الهوى والتَّقليد.
(1)
"لهم" ليست في (ف).
(2)
في (ف): "طريق".
(3)
في (ف): "إليها".
(4)
"أصالة" ليست في (ف) و (ك).
(5)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 228)، و"تفسير الطبري"(16/ 595)، و"الكشاف"(3/ 162).
(6)
في (ك): "البصائر".
{الَّتِي فِي الصُّدُورِ} تأكيدٌ لنفي التَّجوُّز، فإنَّه يُقال: القلبُ لُبُّ كلِّ شيءٍ، والتَّنبيه على أنَّ العمى المتعارَف الذي في البصر لا اعتبار له
(1)
، وليس بعمًى في الحقيقة بالنِّسبة إلى عمى القلوب، فإنَّ العمى الحقيقيَّ هو عمى القلب الذي محلُّه الصَّدر، فهو مقرِّر لِمَا ذُكِرَ أنَّ الأمر على خلاف ما عليه الجمهور مِن أنَّ العمى إنَّما هو في البصر حقيقةً وفي القلب استعارةً.
قيل: لما نزل {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] قال ابن أمِّ مكتومٍ: يا رسول الله، أنا في الدُّنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلَتْ
(2)
.
وَيرِدُ عليه أنَّه حينئذ يكون المعنى: لا تعمى الأبصار في الآخرة ولكن تعمى القلوب، ويردُّه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا [طه: 125].
* * *
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لا بالإهمالِ ولا بالإمهال؛ لأنَّه المحال في حقِّ الملك المتعال.
وحقيقة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} : إخبار في معنى الاستفهام على سبيل الإنكار، أي: لِمَ يستعجلون بالعذاب المتوعَّد به كأنَّهم شاكُّون في وقوعه، ومحالٌ أنْ يخلفَ الله وعدَه، فلا بُدَّ من وقوعه وإن طالَ الزَّمانُ.
(1)
في (ك): "به ".
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 27)، و"تفسير القرطبي"(14/ 420).
{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ؛ أي: كيف يستعجلون بعذابٍ من يومٍ واحدٍ من أيَّام عذابه في طول ألفِ سنة من سنيكم؛ لأنَّ أيَّام الشَّدائدِ طِواك.
* * *
(48) - {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} كرَّره للتَّهويل، وتصويرِ حالهم في الإملاء، وبيانِ أنَّ الظَّلَمَةَ لا يُهمَلون غيرَ معذَّبين؛ أُمْهِلوا أو لم يُمْهَلوا، وإنَّما عطف الأوَّل بالفاء لكونها بدلًا من قوله:{فَكَيْفَ كَانَ نَكِير} ، وبقائها على التَّسبُّب، وأمَّا حكم هذه فحكمُ ما تقدَّمها من الجملتَيْن المعطوفَتَيْن بالواو، وهما:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، و {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} على سبيل الاعتراض، وبيانِ أنَّ الاستعجالَ أمرٌ منكَر؛ إذ لا بدَّ من تحقُّق العذاب.
{أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمهلْتكم {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مثلَكم.
أصل {مِنْ قَرْيَةٍ} : من أهلِ قرية، فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامَه في الإعراب، ورجع إليه الضَّمائر والأحكام مبالغةً في التَّعميم والتَّهويل.
{ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب.
{وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} ؛ أي: حكمي مرجعُ الجميع، وتقديم (إلى) للاختصاص، والمبالغةِ في الوعيد
(1)
؛ أي: لا إلى غيري
(2)
.
* * *
(1)
في (ك) و (م) و (س): "والمبالغة للوعيد".
(2)
في (م): "غيره".
(49) - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الخطاب عامٌّ للمؤمنين والكفَّار، والمنذَر به قيام السَّاعة، وإنَّما كان عليه السلام نذيرًا مبينًا لأنَّ بعثته من أشراطها، فاجتمع فيه الإنذار بها قالًا وحالًا، فقوله:{أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ} كقوله عليه السلام: "أنا النَّذير العُرْيان"
(1)
، وقد دلَّ على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار بتفصيل حال الفريقَيْن عند قيامها بقوله:
(50) - {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم عند الحساب؛ لأن الحسنات يُذْهِبْنَ السِّيئات.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنَّة. الكريم من كلِّ نوعٍ: ما يَجْمَج
(2)
فضائلَه.
* * *
(51) - {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} بالرَّدِّ والإفساد، وبالطَّعن فيها حيث سمَّوها سحرًا أو شعرًا أو أساطير الأوَّلين
(3)
، وتثبيطِ النَّاس عنها، يُقال: سعى في أمرِ كذا: إذا أصلحه أو أفسده بسَعْيه.
{مُعَاجِزِينَ} : سابقين في السَّعي جادِّين فيه، مشاقِّين له، أو: سابقين في زعمهم، طامعين أنَّ كيدهم للإسلام يَتمُّ لهم. من عاجَزَه فأعجَزَه: إذا سابَقَه
(1)
رواه البخاري (6482)، ومسلم (2283)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
في النسخ: "اجتمع "، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(4/ 75).
(3)
في (ك) و (س): "وشعرا وأساطير"، وسقطت "الأولين" من (س).
فسبَقَه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتسابِقَيْن في طلب إعجاز الآخر عن اللَّحاق به، وإذا سبقَه قيل: أعجَزَه وعجَّزَه.
وقرئ: (مُعْجِّزِيْنَ)
(1)
على أنه حالٌ مقدَّرة؛ أي: مثبِّطينَ النَّاسَ عن الإيمان.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} : النَّارِ الموقَدةِ، وقيل: اسمُ دَركَةٍ من دَرَكاتِها.
* * *
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} قد سبق تفسيرُهما في سورة الأعراف وسورة مريم
(2)
، وبيانُ الفرق بينهما بعموم الثَّاني وخصوص الأوَّل، ومَن شرَط في
(3)
الرَّسول شريعةً مجدِّدة
(4)
فكأنَّه نسي ما زعمه
(5)
من الدِّلالة في قوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51] على أنَّ الرَّسول لا يلزم أنْ يكون صاحب شريعة.
{إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} : تلا، قال الشَّاعِرُ:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ ليلِهِ
…
تَمَنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رِسْلِ
(6)
(1)
قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 158).
(2)
"في سورة الأعراف وسورة مريم" من (م)، ووقعت هذه العبارة في هامش (س) و (ف) مع زيادة:"منه ".
(3)
في (ف): "من".
(4)
في (ف): "محددة".
(5)
في هامش (س) و (ف) و (م): "إنما قال: زعمه، لفساده على ما بين في سورة مريم. منه.".
(6)
دون نسبة في "السيرة النبوية" لابن هشام (3/ 74)، و"الزاهر" لابن الأنباري (2/ 151)، و"المحكم" لابن سيده (10/ 511). وجعلوهما بيتين صدرهما واحد، وعجز الآخر:=
{أَلْقَى الشَّيْطَانُ} : في تلاوته.
قالوا: إنه عليه السلام قرأ في نادي قومه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، فلمَّا بلغَ قولَه:{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} سكَتَ، فقال الشَّيطان: تلك الغرانيق العُلى، وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرْتَجى، وقرأها متَّصلًا بقراءة النَّبيِّ عليه السلام، فوقعَ عند بعضهم أنَّه عليه السلام هو الذي تكلَّم بها، وهذا معنى إلقاء اللَّعين في قراءة سيِّد المرسلين
(1)
.
وكان يتكلَّم في زمنِ النَّبيّ عليه السلام، ويُسْمَع
(2)
كلامه، فقد روي أنه نادى يوم أحد: ألا إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ، وقال يوم بدر:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}
(3)
.
وهذا لا يُخلُّ بالوثوق على القرآن؛ للاندفاع بقوله:
{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} ؛ أي: يَذْهَبُ به ويُبْطلُه، ويُخْبِرُ أنَّه من الشَّيطان.
= وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادر
وذكر ابن الأنباري أنه في رثاء عثمان، وعزاه الالوسي في "روح المعاني"(17/ 360) لحسان.
(1)
رويت في هذه الحادثة مرسلات عن قتادة والضحاك وأبي العالية وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم، وروي فيها خبر من طريق عطية العوفي عن ابن عباس، لكن إسناده ضعيف جدا. انظر هذه الأخبار في "تفسير الطبري"(16/ 604 - 612).
وللعلماء كلام كثير في توهين ما روي في هذه القصة. انظر: "الشفا"(2/ 111)، وقد رأى ابن حجر في "فتح الباري"(8/ 439) أن كثرة الطرق تدل على أن للقصَّة أصلًا، ثم ذكر مسالك العلماء في تأويلها لعدم جواز الحمل على الظاهر، فراجع كلامه إن شئت.
(2)
في (ك): "وسمع ".
(3)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 674) و (2/ 78).
{ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ؛ أي: يُثْبِتُها ويحفظُها عن تطرُّق النُّقصان، ولحوق الزَيادة من الشَّيطان.
ولَمَّا كان الإحكام بهذا الوجه على رتبةٍ من النَّسخ المذكور صدَّره بكلمة {ثُمَّ} .
ولا احتمال لأنْ يكون هذا الكلام ونظائرُه كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أيضًا من زيادة الشَّيطان؛ لأنَّ ظهور الإعجاز عند انضمامه إلى ما يَبلغ به المجموع مقدار أقصر سورة من القرآن دلَّ على أنَّه من الرَّحمن؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الآية [الإسراء: 88]، فلا دلالة في الآية على جواز السَّهو على الأنبياء عليهم السلام وتطرُّقِ الوسوسة إليهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما أوحى إلى نبيِّه عليه السلام وبقصَّة الشَّيطان.
{حَكِيمٌ} يدعُه حتى يُكْشَفَ ويزيله، ثم ذكر أن ذلك ليفتنَ اللهُ تعالى به قومًا بقوله:
* * *
{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} : محنةً وابتلاءً.
{لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : شكٌّ وتردُّد.
{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الجازمين بمعتقدهم الباطل، مُظهَرًا كان ذلك أو مضمرًا، ومن زعم أن المراد من الأوَّل المنافق فكأَنَّه غافل عن أنَّ المنافق أقسى قلبًا من الكافر المجاهر.
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} من باب وضع الظَّاهر موضع الضَّمير تسجيلًا على الفريقَيْن بالظُّلم؛ لأنَّ القياس أن يقول بعد ذكرهما: وإنهم.
{لَفِي شِقَاقٍ} : خلافٍ {بَعِيدٍ} عن الحق، ويلزمه البعد عن الرَّسول وعن المؤمنين.
* * *
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : الاعتقادَ المطابق للواقع، وهم المؤمنون.
{أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أنَّ القرآن هو الحقُّ النَّازل من عند الله، فلا يلتبسه
(1)
ما يلقي
(2)
الشَّيطانُ من الباطل ولا يدخل فيه.
{فَيُؤْمِنُوا} : فيعتقدوا {بِهِ} ويطيعوا بأحكامه
(3)
.
{فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالخشوع والخضوع والخشية.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيما أشكلَ عليهم بالتَّوفيق للنَّظر الصَّحيح، وللكشف بنور هدايته.
{إِلَى صِرَاطٍ} طريقٍ {مُسْتَقِيمٍ} هو طريق التَّأويل لِمَا يتشابه بالتطبيق على الأصول المحكمة، فلا يلحقهم حيرة
(4)
ولا يعتريهم شبهة.
(1)
في (ف): "يلبسه".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "ما بلغ".
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "بإمكانه".
(4)
في (ف) و (ك): "ضيرة".
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} قد سبقَ في أوَّل سورة البقرة الفرق بين المرية والشَّك والرَّيب.
{مِنْهُ} : من القرآن.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} : القيامة، والمرادُ إتيانُ الموت، فإنَّه من طلائِعها
(1)
، ولذلك قال عليه السلام:"مَن مات فقد قامت قيامته"
(2)
.
{بَغْتَةً} : فجأة.
{أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} : يومِ حربٍ يُقْتَلون فيه كيوم بدرٍ، وإنَّما وُصِفَ يومُ الحرب بالعُقْمِ لأنَّ أولاد النِّساء يُقتَلون فيه، فيَصِرْنَ كالعُقم
(3)
.
وقيل: العقيم الذي لا خير فيه، يقال: ريح عقيم: إذا لم تُنشئ مطراً ولم تُلْقِح شجرًا
(4)
.
* * *
(1)
في هامش (ف): "ضرورة أن مريتهم لا تبقى إلى قيام الساعة بل تزول عند الموت. منه ".
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1117) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 1013): رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" بإسناد ضعيف.
ورواه الطبري في "تفسيره"(23/ 468) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه موقوفًا.
(3)
في النسخ: "كالعقر"، والمثبت من المصادر. انظر:"الكشاف"، و"تفسير البيضاوي"(4/ 76)، و"تفسير أبي السعود"(6/ 115)، و"روح المعاني"(17/ 364).
(4)
في هامش (ف) و (س): "فوصف اليوم بوصفين اتساعًا. منه.".
(56 - 57 {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} ؛ أي: يوم القيامة، والتَّنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلَّتْ عليها الغاية؛ أي: يوم تزول مِرْيَتِهم.
{لِلَّهِ} فلا منازع له فيه.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بالمجازاة، والضَّمير يعمُّ الفريقَيْنِ، دلَّ عليه تفصيل الحكم بقوله:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله تعالى: {عَذَابٌ مُهِينٌ} ، الفاء في خبر الثَّاني دون الأوَّل تنبيهٌ على أنَّ إثابة المؤمنين بالجنَّات تفضُّل مِن الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبَّبٌ عن أعمالهم، ولذلك قال:{لَهُمْ عَذَابٌ} ، ولم يقل:(هم في عذاب) كما قال: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وفي تقديم الجار والمجرور دلالة على أنَّ العذابَ المهين مخصوصٌ بهم لا يشاركهم فيه المؤمنون.
ثمَّ خُصَّ قومٌ من الفريق
(1)
الأوَّل بفضيلة فقال:
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} خرجوا من أوطانهم مجاهدين {ثُمَّ قُتِلُوا} في الجهاد {أَوْ مَاتُوا} حَتْفَ أنوفهم.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "بالفريق "، والمثبت من (س).
{لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} الرِّزْقُ الحسنُ: الذي لا يلحقه ألمُ الانقطاع، ولا يسبقه تعبُ الكَسْبِ، وذلك في البرزخ قبلَ دخول الجنَّة؛ لأنَّ الرِّزقَ الحسنَ في الجنَّة لا اختصاص له بالمجاهدين من المؤمنين، وإنَّما سوَّى بينَ مَن قُتِلَ في الجهاد ومَن ماتَ حَتْفَ أنفه في الموعد؛ لاستوائِهما في القَصْدِ، وما في وسعهما من العمل.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فإنَّه يرزق بغير حساب.
* * *
(59) - {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} .
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} الجنّة، دلَّ هذا على أنَّ ما تقدَّم من التَّرزيق قبل دخولها.
بَدلٌ من قوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ} ، و {يَرْضَوْنَهُ} صفة المُدْخَل، وهذا وصف لها بكلِّ جميل؛ لأنَّ ما وقع
(1)
موقعَ الرِّضى فقد كَمَلَ.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} بأحوال مَنْ قضى نحبَه مجاهدًا، وآمالِ مَن مات
(2)
وهو ينتظر مُعاهِدًا {حَلِيمٌ} إمهال مَن قاتلهم معاندًا.
رُوِيَ أنَّ طوائفَ مِنْ أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيَّ الله، هؤلاء الذين قُتِلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا
(3)
معك؛ فأنزل الله تعالى هاتين الآيتَيْنِ
(4)
.
(1)
في (ف): "يقع".
(2)
في (ك): "يمت".
(3)
في (ك): "قبضنا".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 167).
{ذَلِكَ} للفصل بين الكلامين؛ أي
(1)
: الأمرُ ذلك، فما بعده مستأنف.
{وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ؛ أي: لم يزد في القَصاص، وإنَّما سُمِّيَت الجناية المبتدأة باسم جزائها الذي هو العقاب؛ لِمَا بينَ السَّبب والمسبَّب من الملابسَةِ، فأُطلقَ اسمُ المسبَّب على السبب مجازًا، أو للازدواج، وليُتصوَّر سرعة أداء السَّبب إليه.
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العقوبة {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} ؛ أي: مَن جازى بمثلِ ما فُعِلَ به من الظُّلم ثمَّ ظُلِمَ بعد ذلك فحقٌّ على الله أن ينصرَه.
{إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} : يمحو آثارَ الذُّنوبِ {غَفُورٌ} : يسترُ أنواعَ العيوب.
وإنَّما وعدَ المنتصِر بهما لأنَّه اتَّبع هواه في الانتقام، وأعرضَ عمَّا نَدب الله إليه بقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
وفيه تعريضٌ بالحثِّ على العفو، فإنَّ الله تعالى مع كمالِ قدرتِه وتعالي شأنِه لَمَّا كانَ يعفو فغيرُه بذلك أولى.
وتنبيهٌ على أنَّه قادرٌ على العقوبةِ؛ إذ لا يُوصَفُ بالغفور إلَّا القادر على ضدِّه.
* * *
(1)
في (ف): "أن".
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ؛ أي: ذلك النَّصر بسببِ أنَّ اللّهَ تعالى قادرٌ على التَّصرُّف في العالم على وفقِ مشيئته ومقتضى حكمته، وما ذكر من التَّغييب خاصَّة في المَلَوَيْنِ
(1)
بتغييب أحدِهما في
(2)
الآخر كنايةٌ عن التَّصرُّف في الأفلاك بالتَّحريك على وجهٍ عليه مَدارُ الكائنات
(3)
في عالم الكون والفسادِ
(4)
كيف يشاء، والنصر المذكور من جملة ما تقتضيه الحكمة.
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} لما يقولون، ولا يشغله سَمْعٌ عن سَمْعٍ وإنِ اختلفَتِ
(5)
الأصوات في النَّهار بفنون اللُّغات.
{بَصِيرٌ} بما يفعلون ولا يستتر عنه شيء بشيء في اللَّيالي وإنْ توالَتِ الظُّلُمات.
* * *
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ؛ أي: ذلك الوصفُ بكمال القدرة والعلم بسبب
(1)
(المَلَوَانِ): اللَّيلُ والنَّهار، الواحدُ (مَلًا) مقصورٌ. انظر:"الصحاح"(مادة: ملا).
(2)
في (ف): "على".
(3)
في (م): "الكنايات".
(4)
الكون: الخروج من العدم إلى الوجود، والفساد عكسه. انظر:"حاشية الشهاب"(4/ 154).
(5)
في (م): "اختلف".
أنَّ اللّهَ هو الحقُّ الثَّابت في نفسه، الواجب لذاته
(1)
، وكلُّ ما كان كذلك كان مبدأً لِمَا سِواه، عالِمًا بذاته ممَّا عداه، أو الثَّابتُ الإلهيَّة، ولا يصلح لها إلَّا مَن كان عالمًا قادرًا.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من دون الله إلهًا.
وقرئ بالتَّاء على مخاطبة المشركين
(2)
، وبالبناء للمفعول
(3)
، فتكون الواو لـ {مَا} فإنه مِن معنى الألوهيَّة
(4)
.
{هُوَ الْبَاطِلُ} : المعدوم في حدِّ ذاته، أو الباطل الألوهيَّة.
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} ؛ أي: العالي على كلِّ شيءٍ بالقَهْرِ والسُّلطان بدون توهُّمِ المكان.
{الْكَبِيرُ} عن أن يساوَيه شيء، فضلاً عن أن يكون أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا.
* * *
(1)
في هامش (س) و (ف) و (م): "ولا حاجة إلى التقييد بالوحدة لأن الواجب لذاته لا يكون إلا واحدًا، ومن قال: إن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ الكل، فقد أوهم التشريك في الاقتضاء المذكور بين وصفي الوجوب الذاتي، وليس كذلك، فإن المقتضي هو الوجوب الذاتي وإن الوحدة من جملة مقتضياته. منه ".
(2)
قرأ بها الحرميان وابن عامر وأبو بكر، وباقي السبعة بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 158).
(3)
نسبت لليماني وموسى الأسواري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 96).
(4)
في "الكشاف" و"البيضاوي": (في معنى الآلهة)، بدل:"من معنى الألوهية".
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استفهامُ تقرير، ولهذا رُفع:
{فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} عطفًا على {أَنْزَلَ} ؛ إذ لو نصب جوابًا له
(1)
لدلَّ على نفيِ الاخضرار، كما في قولِكَ: ألم تر أني أنعمْتُ عليكَ فتشكرُ
(2)
، والمقصود إثباته، والرفع لعطفه على {أَنْزَلَ} ، وتسبُّبه منه مثبتٌ البتَّة، كذلك في المثال؛ لأنَّه عطف على (أنعمتُ)، وأما النَّصب فلا وجه له إلَّا التَّسبُّب عن الاستفهام، وَيؤُول المعنى في المثال إلى: ما رأيْتَ فما شكرْتَ؛ أي: لو رأيْتَ لشكرْتَ، وكذلك في الآية.
على أنَّ فيها مانعًا آخر، وهو أنَّ إصباحَ الأرضِ مخضرَّة لا يصحُّ أنْ يتسبَّب عمَّا بعد الاستفهام، وإنما عدل عن الماضي ولم يقل:(أصبحَتْ) لاستحضار الحال الماضية، والتَّنبيه على كمال صنع الصَّانع بالمشاهدة، والدِّلالة على بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان.
وقرئ: (مَخْضَرَة)
(3)
على وزن: مَفْعَلَة؛ أي: ذاتَ خضرةٍ، كمَبْقَلَة ومَسْبَعَة
(4)
.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} واصلٌ فضلُه وعلمُه إلى كلِّ شيءٍ.
{خَبِيرٌ} بمصالح الخلق ومنافعهم.
* * *
(1)
"له "سقط من (ف) و (ك).
(2)
إن نصبته فأنت نافي لشكره شاكٍ تفريطَه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. انظر:"الكشاف"(3/ 168).
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 168).
(4)
في (ف) و (ك): "كمبقلة ومسغبة"، وفي (م):"كمقبلة ومسبغة"، والمثبت من (س). وانظر:"البحر المحيط"(15/ 398).
(64) - {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مُلْكًا ومِلْكًا.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} في ذاته عن كلِّ شيءٍ، وما سواهُ محتاجٌ إليه.
{الْحَمِيدُ} المستوجِبِ للحمدِ بصفاته وأفعاله.
* * *
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} مَنَّ علينا بتسخيره لنا ما بنا حاجةٌ إليه في معاشنا من الحيوان وغيره، فلا أصلبَ من الحجارة والحديد، وقد ذلَّلهما نتَّخذ منهما ما نريد، فقوله:{مَا فِي الْأَرْضِ} عامٌّ، لكنَّ المراد منه ما ينفعنا بقرينة قوله:{لَكُمْ} .
{وَالْفُلْكَ} عطف على {مَا} . وقرئ بالرَّفع
(1)
على الابتداء.
و {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} حال منهما، أو خبر.
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} بيد القدرة {أَنْ تَقَعَ} : من أن تقعَ، أو كراهةَ أن تقع {عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} إلا بمشيئته.
وفيه رَدٌّ لاستمساكها بذاتها، وأما ما قيل: إنها مساوية لسائر الأجسام في الجسميَّة فتكون قابلة للميل الهابط قَبولَ غيرها
(2)
؛ منظور فيه.
(1)
نسبت للأعرج والسلمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 96).
(2)
"قبول غيرها" من (س). وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 78).
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} بفتحه عليهم أبوابَ المنافع، ودفعِه عنهم أسباب المضارِّ.
والرَّؤوفُ أبلغ من الرَّحيم، وإنَّما قُدِّمَ عليه محافظةً على الفاصلة، وكذا تقديم {بِالنَّاسِ} عليهما لها
(1)
.
* * *
(66) - {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} .
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} بعد أن كنتم جمادًا ترابًا ونطفةً وعلقةً ومضغةً.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} إذا جاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في الآخرة.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} : لجحودٌ لِمَا أفاضَ عليه مِنَ النِّعَمِ مع ظهورها.
* * *
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} كرَّره بغير واوٍ للتَّأكيد والتَّعميم، وتعليقِ الزِّيادة به، وجيء بالواو في الأوَّل لأنَّها وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك
(2)
، فعطف عليها، وأمَّا هذه فواقعةٌ مع أجانب من معناها، فلم تجد معطفًا
(3)
.
{هُمْ نَاسِكُوهُ} هم عاملون به.
(1)
أي: للفاصلة.
(2)
في (ف): "المناسك"، وفي (ك) و (م):"التناسك".
(3)
في (ف) و (ك): "مقطعًا".
{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} سائرُ أرباب المِلَلِ.
{فِي الْأَمْرِ} في أمر الدِّين والنسائك
(1)
؛ لأنَّهم جُهَّالٌ أو أهل عناد
(2)
، أو لأنَّ أمر دينك أظهر من أن يَقبل النِّزاع.
وقيل: إنَّه نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التَّعرُّض لمنازعتهم بالمناظرة المؤدِّية إلى نزاعهم، فإنَّها إنَّما تنفع طالب الحقِّ، وهم أهل مراءٍ وعناد؛ أي: لا تلتفِتْ إليهم ولا تمكِّنهم من أن يتنازعوا، أو عن منازعتهم
(3)
، كما تقول: لا يضارِبَنَّكَ فلان؛ أي: لا تضاربه
(4)
البتَّة، ولهذا إنَّما يجوز في الفعل الذي بين اثنين.
وروي أنَّها نزلت في الخزاعيين قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتُم، ولا تأكلون ما قتله الله
(5)
؟! يعني: الميتة.
وقرئ: (فلا يَنْزِعُنَّكَ)
(6)
؛ أي: اثْبُتْ في دينك ثباتًا لا يمكنهم أن يزيلوك
(1)
في (ف): "والمناسك "، وفي (ك) و (م):"والتناسك".
(2)
في (ف) و (ك): "أو أهل فساد"، وفي (م):"وأهل فساد".
(3)
قوله: "عن منازعتهم" معطوف على قوله: "عن التعرض لمنازعتهم "، لكن في عبارة المؤلف نظر؛ لعدم ظهور الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه، وعبارة البيضاوي في "تفسيره" (4/ 78): (وقيل: المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية
…
أو عن منازعتهم
…
). ونحوه في "الكشاف"(3/ 169).
(4)
في (ك): "لا يضار بك فلان أي لا تضار به ".
(5)
انظر: "تفسير الثعلبي "(7/ 33)، و"الكشاف" (3/ 169). وروى الطبري في "تفسيره" (9/ 523) عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: "الله قتلها"، قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
(6)
نسبت لأبي مجلز. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 96)، و"الكشاف"(3/ 169).
عنه، والمرادُ: زيادةُ التَّثبيت بما يُهيِّج حميَّته ويُلهب غضبه لله ولدينه.
وقال الزَّجَّاج: هو من باب المغالبة؛ أي: لا يغلِبُنَّكَ
(1)
في المنازعة، من نازَعْتُهُ فنزعتُه؛ أي: غلبتُه في النِّزاع
(2)
.
{وَادْعُ} النَّاسَ {إِلَى رَبِّكَ} : إلى عبادة ربِّك.
{إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} طريقٍ إلى الحقِّ سويٍّ.
* * *
(68) - {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: وإنْ أبَوا إلَّا المجادلة بعد وضوح أمر دينك واجتهادك في ترك النِّزاعِ، فادفعهم بأنَّ اللهَ أعلمُ بما تعملونه من الجدال الباطل والعناد، فمجازيكم عليها، وهذا وعيدٌ مع رفق.
* * *
(69) - {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
{اللَّهُ يَحْكُمُ} : يفصل {بَيْنَكُمْ} بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين يوم القيامة، كما فَصَلَ في الدُّنيا بالآيات والبيِّنات.
{فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الدِّين.
الخطاب عام، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يَلقى منهم
(3)
.
(1)
في (م): "يغالبنك".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (3/ 437).
(3)
في هامش (ف) و (س): "قد سبق وجهها في هذه السورة. منه".
ومن تمام التَّسلية تقرير علمه بمضمون ما ذكره بقوله:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} من الغيب والشَّهادة.
{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} اللَّوح المحفوظ، كتبه فيه قبل حدوثه. وتنكيره لأنَّه ليس من جنس الكتب المتعارفة.
ولَمَّا كان الإثبات في اللَّوح المحفوظ مَظِنَّة الحاجة في الحفظ إلى الكَتَبة دفعه بقوله:
{إِنَّ ذَلِكَ} ، أي: الإحاطة به وإثباته في اللَّوح المحفوظ.
{عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لعدم الحاجة إلى الآلة، فإنَّ علمه تعالى بذاته، فلا يخفى عليه شيءٌ، فلا يهمَّنَّكَ أمرُهم.
* * *
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} : ما لم يتمسكوا في جواز عبادته ببرهانٍ نازلٍ بالوحي من عند الله
(1)
، ولا بعلمٍ ضروريٍّ أو نظريٍّ، أي: ليس لهم في ذلك مستندٌ لا من جهة النَّقل ولا من جهة العقل، وإنَّما قدَّم الوجه
(1)
في هامش (ف) و (م): "قد مرَّ وجه الفرق بين مطلق الحجة وبين البرهان والسلطان وبيان مزيتهما عليها في سورة الأعراف. منه".
النَّقلي لأنَّه الأصل في أمر العبادة، وفي العبارة عنه بما ذكر إشارةٌ إلى أنَّه مع انقسامه إلى أربعة أقسام مذكورة في علم الأصول مرجعُه إلى الوحي.
وإعادة عبارة {مَا} مع عدم الحاجة إليها في إفادة المعنى المذكور كإعادتها في قوله: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} [الحج: 12].
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} : وما للذين ظلموا هذا الظُّلمَ الشَّنيع {مِنْ نَصِيرٍ} يُعِينهم بدفع العذاب عنهم
(1)
، ووُضع
(2)
الظَّاهر موضعَ الضَّمير للتَّسجيل على المشركين بالظُّلم.
* * *
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} من القرآن {بَيِّنَاتٍ} : واضحاتِ الدِّلالة على العقائد الحقَّة.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: يظهر فيها ظهورًا بيِّنًا حتى يَعرفُه كلُّ مَن يراه.
{الْمُنْكَرَ} : الإنكارَ؛ لفرط نكيرهم للحقِّ وغيظهم لأباطيل أخذوها تقَليدًا. وهذا مُنتَهى الجهالة، وللإشعار بذلك وضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع الضَّمير.
أو: الأمرَ المنكَرَ الفظيع من آثار الغيظ وما يقصدونه من الشَّر.
(1)
في هامش (ف) و (س): "قد مر أن معنى الدفع معتبر في معنى النصر. منه ".
(2)
في (ف): "وضع".
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} السَّطوُ: الوثبُ والبَطشُ.
{بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} هم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} : من غيظكم على التَّالِينَ
(1)
وسطوِكم عليهم، أو: ممَّا أصابكم من الكراهة والضَّجر بسبب ما يُتلَى عليكم.
{النَّارُ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ، كأنَّ قائلاً قال: ما هو؟ فقيل: النَّار، أو مبتدأ خبره:{وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
وقرئ بالنَّصب
(2)
على الاختصاص، وبالجر
(3)
بدل من (شرٍّ)، وعلى هذين الوجهَين يحتمل أن تكون الجملة حالًا بإضمار (قد)، وأن تكون استئنافًا كما إذا وقعت خبرًا.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} النَّارُ.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} بُيِّنَ لكم حالة غريبة، سُمِّيَتْ مثلًا على سبيل
(1)
في (ف) و (ك): "القالين".
(2)
بلا نسبة في "الكشاف"(3/ 170)، ونسبها في "البحر المحيط"(15/ 404) إلى ابن أبي عبلة والأعشى وزيد بن علي.
(3)
بلا نسبة في "الكشاف"(3/ 170)، ونسبها في "البحر المحيط"(15/ 404) إلى ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة.
الاستعارة؛ لأنَّ الأمثال إنَّما سُيِّرَتْ لكونها مستغربةً، فلهذا نودي النَّاس لها
(1)
.
وأكَّد غرابتها بقوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} وأبهم وبيَّن.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} ؛ أي: تدعونه، وقرئ:(يُدْعَوْنَ) مبنيًّا للمفعول
(2)
.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} آلهةً، يعني: الأصنام.
{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} الذُّبابُ: مِنَ الذَّبِّ؛ لأنَّه يُذَبُّ سُمِّي ذبابًا؛ لأنَّه كُلَّما ذُبَّ استقذارًا منه آبَ لاستكباره، وتخصيصُه لمهانته
(3)
وضعفه، وتأكيدُ النَّفيِّ بـ {لَنْ} للدِّلالة على استحالة خلق الذُّباب منهم
(4)
، كأنَّه قال: محالٌ أن يخلقوه
(5)
.
{وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} بجوابه
(6)
المقدَّرِ له المدلولِ عليه بالمذكور في موضع الحال، جيء بها للمبالغة؛ أي: لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} ؛ أي: هذا الخلق الأذلُّ الأقلُّ لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلِصوه منه لم يقدروا عليه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يَطْلونها بالزَّعفران ورؤوسَها بالعسل، فإذا سلبَه الذُّباب عجز الأصنام عن أخذه
(7)
.
(1)
في (م): "بها".
(2)
نسبت لليماني وموسى الأسواري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 96).
(3)
في (ف) و (م) و (ك): "بمهانته"، والمثبت من (س).
(4)
"منهم "من (م) و (س).
(5)
"يخلقوه" زيادة من (م) و (س).
(6)
في (س) و (ف): "لجوابه"، وهو خطأ.
(7)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 312)، و"الكشاف"(3/ 171).
والظَّاهر: أنَّ المرادَ جعلُ امتناعِ خلقِهم ذبابًا وامتناعِ استنقاذِهم منه عند سلبه شيئًا منهم مثلًا لانتفاءِ قدرتهم المستلزِمة لانتفاء الألوهيَّة التي تستلزم الاقتدار على جميع المقدورات، ويُستحقُّ بها العبادة، فإنَّ ما
(1)
لا يقدر على خلقِ أحقر
(2)
شيءٍ - بل على الاستنقاذ منه - كيف يَستحق أن يُعْبَد عبادةَ مَن له كمالُ القدرة على إيجاد كلِّ شيءٍ وتستخيره؟!
وهذا غايةٌ في تجهيلِهم واستركاك عقولهم.
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} الصَّنم الطالبُ للاستنقاذ، والذُّبابُ المطلوب أن يُستَنقَذ منه.
وفي هذا التَّذييل إيهامُ التَّسوية، وتحقيقُ أنَّ الطَّالبَ - يعني: الصَّنم - أضعفُ لأنَّه قدّم عليه أنَّ هذا الخلق الأذلَّ هو السَّالب، وذلك طالبٌ خاب عن طَلِبته
(3)
.
ولَمَّا أجراهم مجرى العقلاء بإثبات الطَّلب لهم، وبيَّنَ ألَهم أضعف من أذلِّ الحيوان، فقد نبَّه به على مكان آلهتهم في ذلك.
* * *
(74){مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : ما عرَفوه حقَّ معرفته، حيث أشركوا به، وسمَّوا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبةً، وأَوغلُ في الاتِّصاف بأضداد صفاته.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} : قادرٌ على خلق الممكِنات كلِّها.
(1)
في (م): "من".
(2)
في (م): "أصغر".
(3)
في (س): "طلبه".
{عَزِيزٌ} : غالبٌ على كلِّ شيءٍ، ولا يغلبه شيء، فكيف يُشْرَكُ به شيء، سيَّما أحقر الأشياء وأعجزها وأذلُّها؟!
ولَمَّا قرَّر الوحدانيَّة ونفى إلهيَّة الأنداد أرادَ أن ينفي عنها ما يدَّعون لها من التَّوسل بها إلى الله تعالى والتَّقربِ إليه بتوسُّطها فقال:
(75) - {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
{اللَّهُ يَصْطَفِي} : يختارُ {مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} يتوسَّطون بينَه وبينَ الأنبياء عليهم السلام بالوحي.
{وَمِنَ النَّاسِ} رُسُلاً يبلِّغون رسالته إلى مَن دونهم، ويدعونهم إليه ويشفعون لهم، فلا وسيلة غير هذَيْن الصِّنْفَيْن، ولا تقرُّب إلى الله تعالى بغيرهما.
ففيه نفيٌ لما ادَّعوه من قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 39]، وقولهم: الملائكةُ بناتُ اللهِ، وردٌّ لمذهبهم واعتقادهم أنَّ الرَّسولَ لا يكون من البشر.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال الرَّسول فيما تقبله العقول {بَصِيرٌ} بأحوال الأمم في الرَّدِّ والقَبولِ.
* * *
(76) - {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} : ما مضى وما غَبَر، لا تخفى منهم خافيةٌ.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} : وإليه مرجعُ الأمور كلِّها؛ لأنَّه مالكُها ومدبِّرُها، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه وتدبيره واختيار رسله.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} درجَ في هذه الأوامر من الأخصِّ إلى الأعمِّ، فأمر بالصَّلاة المشتمِلة على أصناف الطَّاعات من القلبيَّات والقوليَّات والبدَنيَّات، وعبَّرَ عنها بالرُّكوع والسُّجود لأنَّهما
(1)
أعظم أركانها، ثمَّ بمطلق العبادات كالصَّوم والزَّكاة والحجِّ، ثمَّ بسائر الخيرات كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق والإصلاح بين النَّاس وأمثالها.
وقيل: كان النَّاسُ في أوَّلِ الإسلام يركعون بلا سجودٍ، ويسجدون بلا ركوعٍ، فأُمِرُوا بالجمع بينهما في الصَّلاة
(2)
.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ؛ أي: افعلوا هذا كلَّه وأنتم راجون الفلاح غيرَ متيقِّنين به، متَّكلين على أعمالكم.
وعن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه قال: قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، في سورة الحجِّ سجدتان؟ قال:"نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما"
(3)
.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "فُضِّلَتْ سورةُ الحجِّ بسجدتَيْن"
(4)
.
(1)
في (ك) و (م): "لأنها".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 231)، و"الكشاف" (3/ 172). قال الآلوسي في" روح المعاني" (17/ 423): لم نره في أثر يعتمد عليه.
(3)
رواه أبو داود (1402)، والترمذي (578)، وفيهما:"نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما"، قال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي.
(4)
ذكره الترمذي بعد الحديث السابق عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما. وروى نحوه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 205) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبذلك احتجَّ الشَّافعي فرأى السَّجدتَيْن فيها، وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيها إلا سجدة واحدةً؛ لأنَّهم يقولون: قُرِنَ السُّجودُ بالرُّكوع، فدلَّ ذلك على أنها سجدةُ صلاة لا سجدةُ تلاوة
(1)
.
* * *
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} في شأنِه ومن أجلِه، أمرٌ بالغزوِ، أو بمجاهدة النَّفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر؛ لقوله عليه السلام عند رجوعه من غزوة تبوك:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"
(2)
.
{حَقَّ جِهَادِهِ} أصله: جهادًا حقًّا؛ أي: خالصًا لوجه الله، فأضيف الحقُّ إلى الجهاد للمبالغة، كقولك: هو حقُّ عالمٍ، ثم أضيف الجهاد إلى ضمير {اللَّهِ} إمِّا للملابسة لاختصاصه به من حيث إنَّه مفعول لأجله، أو للاتِّساع في الظُّروف.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} : اختاركم لدينه ونصرته، وبناء الفعل على الضَّمير للاختصاص المفيد لوجوب الجهاد؛ أي: هو وحده اجتباكم دون غيره، والذي اجتباه الله بنفسه لا بُدَّ له من الجهاد الأكبر لقضاء حقِّ القرب والولاية، والأصغرِ
(1)
في هامش (ف): "لا لأنَّه كما توهم لعدم الدلالة فيها على ما ظهر من تقدير ما ذكره أبو حنيفة. منه ".
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(13/ 523)، والبيهقي في "الزهد"(373) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال: إسناده ضعيف.
لقوَّة
(1)
يقينه، ووثوقه بحفظه وكلاءته، ولإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ففيه دليل على المقتضي للجهاد في قوله:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} : ضِيقٍ بتكليفِ ما يشتدُّ القيام به عليكم، على أنَّه لا مانع لهم عنه
(2)
، ولا عذر لهم في تركه، وضمَّنه الإشارة إلى الرُّخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شقَّ عليهم لقوله عليه السلام:"إذا أمرتُكُمْ بشيءٍ فأتوا به ما استطعْتُم"
(3)
.
وقيل: ذلك بأنْ جعل لهم من كل ذنبٍ مخرجًا، بأن رخَّص لهم في المضايق، وفتح عليهم بابَ التَّوبةِ، وشرعَ لهم الكفَّارات في حقوقه، والأروشَ والدِّيَات في حقوق العباد، فلا ذنْبَ إلَّا وقد جعل لكم منه مخرجًا.
وَيرِدُ عليه: أنَّ الحرج لا ينتفي بوجود
(4)
المحرج في الجملة، لِمَا عرفْتَ أنَّه عبارة عن الضِّيق، لا عن عدم المخلَصِ.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ} نصبٌ على الاختصاص؛ أي: أعني بالدِّين ملَّة أبيكم، أو على الإغراء؛ أي: الْزَموا ملَّة أبيكم، أو بمضمون ما تقدَّم على المصدر؛ أي: وسَّع دينكم توسعةَ ملَّةِ أبيكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامَه.
{إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان.
وإنَّما جعله أبًا لأنَّ كلَّ نبيٍّ أبو أمَّته من حيث الحقيقة، وهو كان أبا محمَّدٍ عليه السلام، وأبُ الأبِ أبٌ، أو لأنَّ أكثرَ العرب كانوا من ذرَّيته، فغلِّبوا على غيرهم.
(1)
في (ف): "لسدَّ".
(2)
"عنه": ليست في (م).
(3)
رواه مسلم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
في (م): "بوجوه".
{هُوَ} ؛ أي: الله تعالى {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} من قبلِ القرآن في الكتب المتقدِّمة.
{وَفِي هَذَا} ؛ أي: في القرآن.
وقيل: الضَّمير لإبراهيم عليه السلام، وهو وإنْ لم يسمِّهم فيه المسلمين، لكن سُمُّوا به بسبب تسميته إياهم
(1)
مسلمين من قبلُ في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
وقولُه: {وَفِي هَذَا} تقديره: وفي هذا بيانُ تسميته إيَّاكم مسلمين.
ويشهد للأوَّل قراءة أُبيٍّ رضي الله عنه: (اللهُ سمَّاكم)
(2)
؛ أي: هو خصَّكم بالاجتباء وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم.
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ} يومَ القيامة، متعلِّق بـ {سَمَّاكُمُ} ، أو بـ {اجْتَبَاكُمْ} .
{شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} بأنَّه بلَّغكم، أو بعصيانِ مَن عصى وطاعةِ مَن أطاع.
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بأنَّ الرُّسلَ قد بلَّغَتْهم.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ؛ أي: وإذ قد خصَّكم بهذه الكرامة والشَّرف فاعبدوه وتوبوا إليه بأنواع الطَّاعات.
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} وثقوا به في مجامعِ أمورِكم.
{هُوَ مَوْلَاكُمْ} فلا تطلبوا النَّصرَ والولايةَ إلَّا منه.
{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} حيث لا يمنعُكم رزقَكم بعصيانِكم، ويعينكم على جلب المسارِّ ويدفَعُ عنكم المضارَّ.
(1)
في (ك) و (م): "تسمية أبيهم ".
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 96)، و"الكشاف"(3/ 173).
سُورَةُ المُؤْمِنُونَ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (قد) تُثبت المتوقَّع كما أنَّ (لمَّا) تنفيه، وإذا دخلَتْ على الماضي دلَّتْ على ثباته.
والفَلاحُ: الظَّفرُ بالمطلوب، والنَّجاةُ عن المهروب؛ أي: فازوا بما طلبوا ونجوا عمَّا هربوا.
و {أَفْلَحَ} : دخلَ في الفَلاح، كأبشرَ دخلَ في البِشارةِ، ويقال: قد أفلحه: إذا أوصله إلى الفلاح، وعليه قراءة:(قَدْ أفلِحَ) على البناء للمفعول
(1)
.
وقرئ: {قَدْ أَفْلَحَ} بإلقاء حركة الهمزة إلى الدَّال وحذفها
(2)
.
وقرئ: (قد أفلحوا)
(3)
على الإبهام والتفسير، أو على لغة: أكلوني البراغيث.
و: (أفلحُ) بضمة اكتفاء بها عن الواو
(4)
.
(1)
نسبت لطلحة بن مصرف. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97).
(2)
وهي قراءة ورش عن نافع. انظر: "السبعة في القراءات "(ص: 148).
(3)
نسبت أيضًا لطلحة بن مصرف. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97).
(4)
نسبت أيضًا لطلحة بن مصرف. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97).
لَمَّا كان المؤمنون متوقِّعين بمثل هذه البشارة من فضل الله بُشِّروا بما دلَّ على ثبوت ما توقَّعوه.
والمؤمنون في اللُّغة: المصدِّقون، وأمَّا في الشَّريعة فقد اختُلِفَ فيه على أقوال قد سبق تفصيلُها في تفسير (سورة البقرة).
* * *
(2) - {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الخشوعُ في الصَّلاةِ: خشيةُ القلبِ مع التَّواضع، وإلبادُ البصر
(1)
موضعَ السُّجود.
رُوي أنَّه عليه السلام كان يصلِّي رافعًا بصره إلى السَّماء فنزلَتْ، فنظر نحو مسجده
(2)
.
* * *
(3) - {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} لِمَا بهم مِن الجِدِّ ما يشغلهم عن اللَّغو، وهو ما لا يعنيك مِن قولٍ أو فعلٍ، كالهزلِ واللَّعب، وكلُّ ما تُوجِب المروءة إلغاءه.
(1)
في (ف): "وإلقاء البصر"، وفي (ك) و (م):"وإلقاء النظر". والمثبت من (ع) و (ي)، وجاء في هامش (ي):"من ألبد بالمكان؛ أي: أقام به. ص".
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3483) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا خلاف فيه على محمد فقد قيل عنه مرسلًا. وقال الذهبي: الصحيح مرسل.
والمرسل رواه عبد الرزاق في "المصنف"(3261)، وأبو داود في "المراسيل"(45)، والطبري في "تفسيره"(17/ 7)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 283) وقال: هذا هو المحفوظ مرسل.
لَمَّا ذكرَ الخشوعَ أَتْبعَه الإعراضَ عن اللَّغو ليجمعَ بينَ فعلِ ما ينبغي أنْ يُفعَلَ وتركِ ما ينبغي أنْ يُترَكَ، وهما الأصلان اللَّذان عليهما مدار التَّكليف.
وبالغَ في أوصاف المؤمنين بإيرادِ الصِّلات جملًا اسميَّة، وتقديمِ صلة الإعراض، والتَّعبيرِ بالاسم دون الفعل، وإيرادِ الإعراض مكانَ التَّرك؛ لأنَّ أصلَه أن يكون في عُرْضٍ
(1)
غيرِ عُرْضه ليدلَّ على التَّجنُّب والبعد عنه بالكلِّيَّة مباشرةً وتسبيبًا وميلًا وحضورًا، وكذلك قوله:
(4) - {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ؛ أي: للتَّزكية فاعلون؛ لأنَّ الفاعل لا يفعل إلَّا الحدث الذي هو المصدر، ولهذا سُمِّيَ المفعول المطلق، ويمكن أن يُفسَّر بالعَيْن ويُقدَّر مضاف، أي: لأداء الزَّكاة.
وإنَّما لم يقلْ: (مؤدُّون) لأنَّ في زيادة فاعلون دلالةً على المداومة.
* * *
(5) - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الفرجُ يشتمل على سَوءة الرَّجل والمرأة.
{حَافِظُونَ} من قولهم: احفظْ عليَّ عَنان فرسي؛ بمعنى: أمسك، ولا بُدَّ فيه من تضمين معنى النَّفي ليصح الاستثناء؛ أي: يمسكون لا يُطْلقونها على أحدٍ.
* * *
(6) - {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} .
(1)
بضم فسكون. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 320).
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} حال؛ أي: والِينَ على أزواجهم، أو: قوَّامين عليهنَّ، والمعنى: حافظون في كلِّ حالٍ إلَّا في حال ولايتهم على أزواجهم.
أو متعلِّق بمحذوف دلَّ عليه: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، أي: يلامون على كلِّ مباشرة إلَّا على ما أُطلق لهم فإنَّهم غير ملومين عليه.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، أي: إمائهم، ولم يقل:(مَن)، إجراءً للماليك مجرى غير العقلاء
(1)
، إذ الملك أصل في غيرهم والحريَّةُ فيهم
(2)
؛ أو لأنَّ الإناث لنقصان عقلهنَّ من جنسٍ غيرهم.
وإنَّما قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، ولم يقل: ما ملكوا، إظهارًا لمِلك اليمين في مقابلةِ مِلك المتعة الظَّاهر من قرينه؛ إشعارًا بانحصار سبب حلِّ الوطء في المِلْكَين المذكورَيْن لا يتعدَّى إلى مِلك الرَّقبة؛ فإنَّها
(3)
إذا خلَتْ مِن ملك اليمين كما في المكاتَب لا يوجد الحِلُّ المذكور.
{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} الضَّمير لـ {حَافِظُونَ} ، أو لِمَن دلَّ عليه الاستثناء؛ أي: فإنْ أطلقوها لأزواجهم أو إمائهم فإنَّهم غير ملومين على ذلك.
* * *
(7) - {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} جَعل المستثنى حدًّا وجَب الوقوف عنده، وحَذف مفعول الابتغاء للتَّعميم، وجاء باسم الإشارة، أي: فأولئك المبتغون،
(1)
وهذا على القول باختصاص (ما) بغير العقلاء. انظر: "روح المعاني"(18/ 16).
(2)
قوله: "غيرهم" و"فيهم " الضمير فيهما للعقلاء.
(3)
في (ف) و (ك): "لأنها".
ووسَّط الضَّمير، وعرَّف {الْعَادُونَ}؛ أي: مَن أحدثَ ابتغاء وراء ذلك الحدِّ بعدَ هذه الفسحة والاتِّساع فأولئك الكاملون في العدوان المتناهون فيه، كلُّ ذلك مبالغةٌ في التَّحذير عن الزِّنا.
وأفرده بالذِّكر بعد تعميم قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} لأنَّ المباشرة أشهى الملاهي إلى النَّفس وأعظمُها خطرًا.
* * *
(8) - {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ} قيل: لِمَا يؤتَمنون عليه ويعاهَدون عليه من جهة الحقِّ أو الخلق.
وفيه: أنَّه لا حاجة إلى الصَّرف عن الظَّاهر؛ فإنَّ العهد وكذا الأمانة ممَّا يُرَاعى.
{رَاعُونَ} الرَّاعي: القائمُ على الشَّيء بالحفظ والإصلاح، كراعي الغنم والرَّعيَّة.
وقرئ: {لِأَمَانَاتِهِمْ} على الإفراد
(1)
؛ لأنَّها في الأصل مصدر، أو لأمنِ الإلباس.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} : يواظبون عليها ويؤدُّونها في أوقاتها، وجاء بلفظ الفعل معها
(2)
لِمَا فيها مِن التَّجدُّد والتِّكرار، والفعل المضارع في الجملة الاسميَّة يدلُّ على دوام التَّجدُّد.
وقرئ بلفظ الجمع هنا
(3)
ليفيدَ المواظبة على أعدادها وأنواعها، ولم يُقرأ به
(4)
(1)
قراءة ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 158).
(2)
في (ك) و (م): "معا".
(3)
قرا حمزة والكسائي بالإفراد وباقي السبعة بالجمع. انظر: "التيسير"(ص: 158).
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "ولم يفرد به"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 177).
فيما سبق؛ لأنَّ الكلام هناك في الخشوع، وهو مطلوب في جنس الصَّلاة وفي بدء الأوصاف، وختمُها بذكرها تعظيمٌ لشأنها وإعلاءٌ لقدرها.
* * *
(9) - {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} .
{أُولَئِكَ} الجامعون لهذه الصِّفات.
{هُمُ الْوَارِثُونَ} : هم الأحقَّاء بأنْ يُسمَّوا وارثاً دون غيرهم.
* * *
(11) - {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} ؛ أي: يَصلون إليه وإلى ما فيه مِن النَّعيم المقيم بلا تعبِ الكسب، ويبقى في أيديهم، فإن الوراثة أقوى سببٍ للتَّملُّك، حيث لا يُعقب بفسخٍ ولا استرجاع، ولا يُبطل بردٍّ ولا إسقاط.
والفردوسُ: هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثَّمر.
وفي إطلاق الوارثين وتقييدهم، وما ترى من التَّفخيم لِمَا يرثونه وتعظيمِه، واستعارته الوراثة
(1)
، وإيراد اسم الإشارة= إشعارٌ بانهم استحقُّوا ذلك الخطبَ الجليل من تلك الأعمال والصِّفات لا بسببيتها له
(2)
، بل بمقتضى وعده، وهذا القَدْر يكفي في التَّحريض.
{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أنَّثَ الضَّمير على تأويل الجنَّة أو الطَّبقة، فإنَّه أوسط الجنان
(1)
في هامش (م): "لما عرفت أن الاستحقاق بلا كسب معتبر في استعارة الوراثة. منه ".
(2)
في (ف) و (ك): "لا لاستئهاله"، وفي (ع):"لا بسببها له "، وسقطت "له" من (ي).
وأعلاها طبقةً، ومن هنا تبيَّن أنَّ ما قيل: إنَّهم يرثون من الكفَّار منازلهم فيها حيث فوَّتوها على أنفسهم لأَنَّه تعالى خلق لكلِّ إنسان منزلًا في الجنَّةِ ومنزلًا في النَّار= لا يُناسِبُ المقامَ
(1)
.
* * *
(12) - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ} السُّلالةُ: صفوةُ الشَّيء التي
(2)
تُخرج منه كأنَّها تُستلُّ
(3)
منه؛ كالصُّفاوة، فُعالة بمعنى مَفعولٍ، فيه معنى القِلَّة، كالقُلامة والقُمامة
(4)
.
(1)
كذا قال، وفي كلامه نظر، فقد رد به تفسيرًا مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن ماجه (4341) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ". وإسناده صحيح كما قال القرطبي في "تفسيره"(15/ 16)، والحافظ في "الفتح" (11/ 442). ولذلك فقد قال الآلوسي بعد ما أتبع الحديث بما اختاره المؤلف ورجحه من أن الإرث مستعار للاستحقاق لأنَّه أقوى أسباب الملك: واختير الأول لأنَّه تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي. قلت: ولعل المؤلف اغتر بصنيع البيضاوي في "تفسيره"(4/ 83)، حيث قدم ما اختاره المؤلف، وأخر القول بالحديث المرفوع مقدِّما له بـ (قيل) على عادته في تضعيف ما لا يرتضيه من أقوال.
(2)
في (م): "صوت الشيء ححتى"، وفي (ف) و (ك):"صوت الشيء"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"تفسير ابن فورك "(1/ 70)، و"غرائب التفسير" للكرماني (2/ 771)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 83).
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "نسل "، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر المصادر السابقة.
(4)
في (ف) و (ك): "كالعلاقة والعمامة"، وفي (م):"كالعلامة والعمامة والسلامة"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 178). ومما ذكروه في هذا الباب: الفُضَالة والنُّخَالة والمُلامة والنُّحاتة والقُوارة والبُراية والكُناسة. انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 8).
و {مِنْ} هنا للابتداء متعلِّقة بـ {خَلَقْنَا} ، وفي قوله:{مِنْ طِينٍ} للبيان، صفة لـ {سُلَالَةٍ}؛ أي: سلالة من طين
(1)
.
* * *
(13) - {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} .
و {الْإِنْسَانَ} : آدم عليه السلام، {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ}: ثم جعلنا نسلَه، على حذف المضاف؛ لقوله تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7 - 8].
أو الجنسُ
(2)
؛ لأنَّه لَمَّا خُلِقَ أوَّلُ فردٍ منه من سلالة من طين، وسائرُ أفراده خُلِقوا من ذلك الفرد، كان الجنس مخلوقًا من سلالة من طين.
وأمَّا ما قيل: المراد بالطِّين: آدم عليه السلام؛ لأنَّه خُلقَ منه، والسلالةُ نطفتُه؛ فلا وجهَ له لِمَا قيل من إخراجه عليه السلام من الجنس المذكور، حيث جُعِلَ مخلوقًا مِن نطفته.
{نُطْفَةً} بأنْ خلقناه منها.
{فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} : مستقَرٍ حصينٍ؛ يعني: الرَّحِم، سُمِّيَ المستقَرُّ بالقَرار مبالغةً كانه نفسُ القَرار، ووُصِف بالمكانة التي هي صفة المستقِرِّ فيه
(3)
على الإسناد المجازي؛ تتميمًا لأمر المبالغة.
* * *
(1)
"أي سلالة من طين" سقط من (ك)، و"أي سلالة" سقط من (ف).
(2)
عطف على: "آدمُ ".
(3)
أي: "النطفة". انظر: "روح المعاني"(18/ 32).
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} بأنْ أَحَلْنا النطفة البيضاء علقةً حمراءَ بتدريج بعدَ زمانٍ.
{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} فصيَّرناها قطعةَ لحمٍ.
{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} بأنْ صلَّبناها {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} فأثبتنا عليها لحمًا فصار لها كاللِّباس.
وقرئ: (عَظَمًا)
(1)
وضعًا للواحد موضعَ الجمعِ لعدم اللَّبس، واختلافُ العواطف
(2)
لاختلاف الاستحالات والتَّكوُّنات
(3)
في التَّراخي وعدمه، ف (ثمَّ)
(1)
وهي قراءة أبي بكر وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 158).
(2)
قوله: "واختلاف العواطف
…
إلخ"، قال الشهاب: (يعني: عُطف بعضها بثمَّ الدَّالة على التَّراخي وبعضها بالفاء التعقيبية، مع أنّ الوارد في الحديث من أن مدة كل استحالة أربعين يوما يقتضي أن يعطف الجميع بثم إن نظر لتمام المدة أو لأولها، أو بالفاء إن نظر لآخرها .. ). انظر: "حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي" (6/ 322). وانظر شرح الاختلاف المذكور للعواطف في التعليق الآتي.
(3)
في (ت): "لاستحالاة والتكونات"، وفي (ك):"لاستحالات وتكونات" وقوله: "لاختلاف" ساقط منهما. والمثبت من باقي النسخ، وعبارة البيضاوي:(واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات)، قال الشهاب:(يعني: أنّ بعضها مستبعد حصوله مما قبله وهو المعطوف بثم، فجعل الاستبعاد عقلًا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعدِ الحسيّ؛ لأنّ حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا، وكذا جعلُ تلك النطفة البيضاء دمًا أحمر، بخلاف جعل الدم لحمًا مشابها له في اللون والصورة، وكذا تثبيتها وتصليبها حتى تصير عظمًا؛ لأنَّه قد يحصل ذلك بالمكث فيما يشاهد، وكذا مد لحم المضغة عليه ليستره، وهذا ما عناه المصنف). انظر المصدر السابق.
للاستحالة الزَّمانيَّة، والفاء للتَّكوُّن الآتي، إلا {ثُمَّ} في قوله:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ} فإنها مستعارة لِمَا بينَ الخلقَيْن مِن التَّفاوت.
{خَلْقًا آخَرَ} التَّنكير للتَّنويع؛ أي: نوعًا آخر مِن الخلق مباينًا للخلق الأوَّل - بنفخ الرُّوح فيه، وجعلِه حيوانًا - مباينةً ما أبعدها
(1)
؛ إذ كان جمادًا فجعله حيًّا سميعًا بصيرًا، ذا أعضاء ظاهرة وباطنة، في كلِّ واحدٍ منها عجائبُ حكمِه، وغرائبُ صنعِه، ولطائفُ قوةٍ
(2)
لا يفي بها وصفُ واصفٍ، ولا يبلغها شرحُ شارحٍ.
واحتجَّ به أبو حنيفة على أنَّ مَن غصب بيضة فأَفرخت عنده لزمَهُ ضمانُ البيضةِ لا الفَرْخ؛ لأنَّه خلقٌ آخرُ.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} : فتعالى شأنُه في قدرته وحكمته.
{أَحْسَنُ} بدل أو خبرُ مبتدأ
(3)
محذوف، وليس بصفةٍ لأنَّه نكرةٌ وإنْ أُضِيفَ؛ لأنَّ المضاف إليه عوضٌ مِن (مِن)
(4)
.
{الْخَالِقِينَ} : المقدِّرين تقديرًا، فحذف المميِّز لدلالة {الْخَالِقِينَ} عليه.
رُوي أنَّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فنطق بذلك
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "ما بعدها"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"روح المعاني"(18/ 35).
(2)
"قوة" ليست في (ف) و (ك).
(3)
في (ف): "أو خبر لمبتدأ".
(4)
في (ف): "عوضُ مِن". وهذا الذي ذكره المؤلف من منع النعت هو قول أبي البناء، وأجازه غيره على أن الإضافة محضة، فتقيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة. انظر:"روح المعاني"(18/ 37).
قبل إملائه، فقال له
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب هكذا أنزلت"
(2)
، قال عبدُ الله: إنْ كانَ محمَّد نبيًّا يُوحَى إليه فأنا نبيٌّ يُوحَى إليَّ، فلحقَ بمكَّة كافرًا، ثمَّ أسلم يومَ الفتح
(3)
.
وهذه الرواية غيرُ صحيحة؛ لأنَّ السُّورةَ مكيَّةٌ، وارتداده كان بالمدينة على ما اعترف به الرَّاوي.
* * *
(15) - {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} .
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} : لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النَّعت الذي للثُّبوت دون اسم الفاعل، وقد قرئ به
(4)
.
* * *
(16) - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} للمحاسبة والجزاء، ومعنى التَّراخي قد عُلم من الطرف، فإيراد أداته ليس لإفادته، بل لإيفاء حقِّ البلاغة.
(1)
"له" ليست في (ف).
(2)
في (ك): "نزلت".
(3)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(7/ 43)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 55) عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 401):"غريب".
وأصل القصة رواها أبو داود (4358)، والنسائي (4069)، ولفظه:"عن ابن عباس قال: كان عبد الله ابن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(4)
أي: (لمائتون). نسبت لزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97)، و"المحرر الوجيز"(4/ 138)، و"البحر"(15/ 430).
(17) - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} : سماوات؛ لأنَّ بعضَها طُورق فوقَ بعض مطارقةَ النَّعل، وكلُّ شيءٍ فوقه مثلُه فهو طريقُه
(1)
، وأمَّا العرش والكرسي فليسا مِن الطَّرائق؛ لعدم المماثلة بينهما وبينها.
{وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ} : وما كنا عنها وعن حفظها وعن إمساكها أن تقع عليكم.
{غَافِلِينَ} وفي التَّعبير عنها بالخلق فضلُ مبالغة في تعظيم شأنها، وزيادة {كُنَّا} لاستمرار النَّفي، لا لنفي الاستمرار.
* * *
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} : بتقديرٍ تقتضيه الحكمة، أو بمقدارِ ما علمنا من صلاحهم.
{فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} فجعلناه ثابتًا مستقرًّا في الأرض أنهارًا وينابيع.
{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ} : على إزالته بالإفساد أو التَّصعيد أو التَّعميق بحيث يتعذَّر استنباطه.
{لَقَادِرُونَ} كما قدرنا على إنزاله.
وفي تنكير {ذَهَابٍ} إيماءٌ إلى
(2)
كثرة طرقه وأنواعه، ومبالغةٌ في الإيعاد
(3)
،
(1)
في (م): "طريقة".
(2)
في (ك) و (م): "على".
(3)
قوله: "في الإيعاد" كذا في النسخ بالياء، ومثله في "الكشاف"(180/ 3)، و"البحر" (15/ 433). وجاء في "تفسير البيضاوي" مع حواشي كل من شيخ زاده والشهاب الخفاجي والقونوي:(في الإبعاد به) بالباء وعليه شرحوا، ومثله في "تفسير أبي السعود"(6/ 128). وكلا اللفظين يحتملهما=
وتعديتُه بالباء تأكيدٌ له، دالٌّ على ذهاب هو
(1)
معه يمنعه من الظُّهور، ليس في الإذهاب ذلك، وهو في غاية البلاغة، وزعموا أنَّه ليس في قوله:{إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] هذه المبالغة والبلاغة، وليس الأمر كما زعموا على ما تقف عليه في موضعه بإذن اللّه تعالى.
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} بالماء.
{جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا} في الجنَّة.
{فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} من غير الجنسَيْن المذكورين تتفكَّهون بها.
{وَمِنْهَا} : ومن الجنَّات ثمارها وزروعها.
{تَأْكُلُونَ} تغذيًا
(2)
، أو: ترزقون وتحصِّلون معايشكم، من قولهم: فلان يأكلُ مِن حرفَتِه.
ويجوز أنْ يكون المراد: لكم في النَّخيل والأعناب أنواعٌ من الفواكه كالرُّطب والعنب والتَّمر والزَّبيب والبُسر والحصرم والدّبس والعصير وغير ذلك، ومنها طعامٌ تأكلونه.
= السياق، لكن لم أجد من نبه على هذا، ولعلنا لو جمعنا بين اللفظين لم نُبعد؛ لأن في المبالغة بالإبعاد إيعاد لهم شديد، وقد أشار لهذا الآلوسي في درج كلامه معددًا وجوه أبلغية هذه الآية على آية الملك فقال:(تضمين الإيعاد هنا إيعادَهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى؛ لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعولَ، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها).
(1)
في (ف): "وهو".
(2)
في (ف) و (ك): "تغديًا"، وفي (م):"تعديًا"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 84).
(20) - {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} .
{وَشَجَرَةً} عطف على {جَنَّاتٍ} ، وقُرِئَتْ بالرَّفع على الابتداء
(1)
؛ أي: وممَّا أنشئ لكم به شجرةٌ.
{تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} : جبل موسى عليه السلام؛ إمَّا اسمٌ مركَّبٌ من المضاف والمضاف إليه كامرئ القَيس، وإمَّا اسمٌ مضافٌ إلى بقعة اسمُها سيناء، فمَن وكسر سينَ {سَيْنَاءَ}
(2)
منعَه من الصَّرف للتَّعريف والعجمة، أو التَّأنيث على تأويل البقعة، لا للألف؛ لأنَّ ألف (فِعلاء) ليسَتْ للتأنيث؛ فإنَّه (فِيعال) - كديماس - من السَّناء بالمد وهو الرِّفعة، أو بالقصر وهو النُّور، أو ملحق بـ (فِعلال) من السِّين
(3)
؛ كعِلباء وحِرباء، ومَن فتح السِّين منعه لألف التَّأنيث كصحراء.
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} في موضع الحال؛ أي: تنبتُ ملتبِسةً بالدُّهن، ويجوز أن تكون الباء للتَّعدية كما في قولك: ذهبت بزيد، ويؤيِّده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(تُخرجُ الدُّهنَ وصبغَ الآكلين)
(4)
.
وقرئ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} من الإثبات
(5)
، وهو إما من أَنْبتَ بمعنى نبَتَ، وأصلُه: دخلَ في النَّبات، وإمَّا حذف مفعوله؛ أي: تُنبِتُ زيتونَها ملتبِسًا بالدُّهن.
(1)
نسبت لعاصم ونافع في رواية، والمشهور عنهم النصب كالجماعة. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97).
(2)
قرأ الكوفيون وابن عامر بفتح السين وباقي السبعة بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 159).
(3)
"من السين"؛ أي: من هذه المادة. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 325).
(4)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97)، و"الكشاف"(3/ 181) والكلام منه.
(5)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 159).
وقرئ على البناء للمفعول
(1)
، وهو كالأوَّل.
{وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} معطوف على {بِالدُّهْنِ} جارٍ على إعرابه، عُطف أحدُ وصفَي الشَّيء على الآخر؛ أي: تنبتُ بالشَّيء الجامع بين كونه دُهنًا يُدهَن به ويُسرَج منه وكونه إدامًا يُصبَغ
(2)
فيه الخبز؛ أي: يغمس فيه للائتدام.
وقرئ: (وصِباغٍ)
(3)
كدِباغٍ في دِبْغٍ.
وإنَّما خصَّ الأنواع الثَّلاثة بالذِّكر مِن بين الثِّمار لأنَّها أكرم الشَّجر وأفضلها وأجمعها للمنافع؛ فإنَّ النَّخل والعنب يجمعان التَّفكُّه والتَّغذِّيَ، والزَّيتونَ يجمع الاصطباخ والاصطباغ.
* * *
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} تعتبِرون بها، وتستدلُّون بها.
{نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} من الألبان على ما نُصَّ عليه في سورة النَّحل، استئنافٌ لبيان العِبرةِ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} سوى الألبان.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فتنتفعون بأعيانها.
* * *
(1)
نسبت لعامر بن قيس. انظر: "المختصر في شواذ القراءت"(ص: 97).
(2)
في (م): "يصطبغ".
(3)
نسبت لعامر بن عبد الله. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97).
(22) - {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .
{وَعَلَيْهَا} في البَرِّ {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحرِ {تُحْمَلُونَ} في أسفاركم، وقد غلب استعمال الأنعام في الإبل، ولذلك قُرِنَتْ بالفُلْكِ لأنَّها سفائن البَرِّ.
* * *
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} فقصَّتُه وسائر القِصَص مسوقٌ لبيان الكفران مِن النَّاس النِّعمَ المتلاصقة حتى ابتُلوا بزوالها.
{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ} : معبودٍ {غَيْرُهُ} بالرفع على المحلِّ، وبالجر على اللَّفظ
(1)
.
والجملة
(2)
استئنافٌ يجري مجرى التَّعليل للأمر بالعبادة.
{أَفَلَا تَتَّقُونَ} : أفلا تخافون أن يزيل نعمَه عنكم
(3)
ويهلكَكم بعذابه برفضكم عبادته بعبادة غيره، وكفرانكم نعمَه التي لا تحصونها.
والهمزة الدَّاخلة على الفاء لا
(4)
لإنكار التَّعقيب، بل لتعقيب الإنكار.
* * *
(1)
قرأ الكسائي بالجر، وباقي السبعة بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 110).
(2)
"والجملة" سقط من (ك).
(3)
في (ك) و (م): "عنكم نعمه".
(4)
كلمة: "لا"، سقطت من النسخ لكنها كتبت في (ي) فوق همزة "الفاء" استدراكًا.
{فَقَالَ الْمَلَأُ} : الأشرافُ {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} قد سبق في تفسير سورة الأعراف وجهُ توصيف الملأ بهذا الوصف.
{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} كنايةٌ على زعمهم عن نفي الرِّسالة عنه.
{يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} : أنْ يطلبَ الفضلَ ويترفَّعَ عليكم بالرِّئاسة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أن يرسل رسولًا {لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} رسلًا.
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} بكون البشر رسولًا، أو بنوحٍ ونبوَّته، أو بما يأمرهم من تخصيص اللّه تعالى بالعبادة ونفيِ كلِّ مَن دونه مِن الآلهة، أي
(1)
: بمثل هذا الكلام، وذلك لكونهم في فترة متطاولة، أو لعنادهم وانهماكهم في الغيِّ، فتكذَّبوا
(2)
في ذلك لأنْ يدفَعوا الحقَّ بما أمكنهم، ولهذا جنَّنوه حيث قالوا:
(25) - {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} .
{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} مع علمهم أنَّه أرجحُ النَّاس عقلًا. والجِنَّةُ: الجنون.
{فَتَرَبَّصُوا بِهِ} : فانتظروا {حَتَّى حِينٍ} ؛ أي: هو مجنون فلا تعجلوا في عقوبته، بل دعوه إلى مدَّة؛ فإمَّا أن يموت، أو يرجع عن هذا، أو تفعلون به ما شئتم.
* * *
(26) - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} .
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} عليهم بإهلاكهم وبإنجاز ما وعدتهم من العذاب.
{بِمَا كَذَّبُونِ} بسبب تكذيبهم إيَّايَ، أو: بدل تكذيبهم إيَّايَ.
(1)
في (ف): "أو".
(2)
في (ف): "فكذبوا"، وفي (ك) و (م):"فيكذبوا"، والمثبت من (ع) و (ي).
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} ؛ أي: أجبنا دعاءه فأوحينا إليه.
{أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} مبالغةً في الحفظ، كان معه من اللّه تعالى حُفَّاظ
(1)
يحفظونه بعيونهم لئلا يُفْسِدَ عليه مفسدٌ عملَه.
{وَوَحْيِنَا} : وأمرنا وتعليمنا كيف يصنع.
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} : عذابُنا، والمراد من مجيئه: ظهورُ طليعته، وهو
(2)
فوران الماء مِن التَّنور، وإنما قال:
{وَفَارَ التَّنُّورُ} مبالغةً، أخرجَ سبَبَ
(3)
الغرقِ مِن موضعِ الحَرقِ؛ ليكونَ أبلغ في الإنذار والاعتبار.
روي أنَّه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام: إذا رأيْتَ الماء يفور مِن التَّنور فاركب أنت ومَن معك في السَّفينة، فلمَّا نبعَ الماء مِن التَّنور أخبرتْهُ امرأتُه فركِبَ
(4)
.
{فَاسْلُكْ} : فأدخل {فِيهَا} سلك يجيء لازمًا ومتعدِّيًا، وجاء: أَسْلكه، بالنَّقل مِن اللَّازم.
(1)
في (ع) و (ك) و (م) و (ي): "حفّاظا".
(2)
في (ك): "وهي".
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "بسبب"، والمثبت من (ع) و (ي) و"تفسير النسفي"(2/ 465).
(4)
روى الطبري نحوه في "تفسيره"(12/ 404 - 405) عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد.
{مِنْ كُلٍّ} بالتَّنوين؛ أي: مِن كلِّ أمَّةٍ {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} تأكيدٌ، وبالإضافة
(1)
؛ أي: مِن كلِّ أمَّتي الذَّكر والأنثى واحدَيْن مزدوجَين.
{وَأَهْلَكَ} أي: أهلَ بيتك ومَن آمنَ معك.
{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ؛ أي: القولُ من اللّه بهلاكه بكفره، وإنَّما جيء بـ (على) لأنَّ السَّابق ضارٌّ، كما جيء باللَّام حيث كان نافعًا في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101].
{مِنْهُمْ} ؛ أي: مِن أهلِك، وهذا يأبى عن تخصيص تفسيره بمَن آمنَ.
{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهذا نهيٌ عن الدُّعاء لهم بالإنجاء على وجهٍ أبلغ، ومَن خصَّ الخطاب بالدُّعاء فقد أخلَّ بحقِّ البلاغة.
جعل النَّهي عن الدُّعاء معلَّلًا بالظُّلم، فلذلك وضع الموصول مع الصِّلة موضع الضَّمير، ولم يقل: ولا تخاطبني فيهم؛ إيماءً إلى العلَّة.
ولَمَّا لوَّح إلى
(2)
أنَّ الحكمة تقتضي هلاك الظَّالم استأنفَ قوله:
{إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بالتَّأكيد؛ أي: لا محالةَ لظلمهم بالإشراك والمعاصي؛ ثمَّ بالغ في ذلك بأمره بالحمد على هلاكهم والنَّجاةِ منهم عُقَيْبَ النَّهي عن الدُّعاء.
* * *
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} : فإذا تمكَّنتم عليها راكبين.
(1)
أي: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} قراءة السبعة عدا حفص فقرأ بتنوين اللام. انظر: "التيسير"(ص: 124).
(2)
"إلى" ليست في (ف) و (ك).
{فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أمرَهُ بالحمد على نجاته ونجاة مَن معه؛ إشارة إلى أنَّ نجاةَ أتباعه أيضًا نعمةٌ جليلةٌ في حقِّه، وامتنانًا بها أيضًا، ولو قال:(فقولوا) لم يحصل هذا المعنى.
وأيضًا كبرياء الرُّبوبيَّة يقتضي أنْ
(1)
لا يترقَّى إلى الخطاب بحضرتها إلَّا نبيٌّ مثله
(2)
، وأنَّ
(3)
كلامه يغني عن كلامِهم، ولا يستأهل الإجابة إلا مثلُه.
* * *
(29) - {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} .
{وَقُلْ رَبِّ} لَمَّا نهاه عن الدُّعاء لإنجائهم أمرَه بدعاء هو أهمُّ وأنفعُ؛ وهو أنْ يُنزلَ منزلًا مباركًا.
{أَنْزِلْنِي} في الأرض من السَّفينة، لا في السَّفينة؛ لأنَّه عَبَّرَ عنه سابقًا بعبارة تدُّل على الصُّعود، وقد حصل الفراغ عنه وعن إظهار الامتنان بما ترتَّب عليه مِن نعمةِ النَّجاة.
{مُنْزَلًا مُبَارَكًا} : يُبارَك لي فيه، ويتسبَّب لزيادة خير الدَّارَيْن.
وقرئ: {مُنْزَلًا}
(4)
بمعنى إنزالًا، أو موضعَ إنزال.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ثناءٌ مطابقٌ لمسألته، أمرَه بأن يُشفِعَه بها مبالغةً فيها وتوسُّلًا
(1)
في (ف): "لأن".
(2)
في (ف) و (ك): "من مثله" بدل "نبي مثله".
(3)
في (ف): "وإن كان".
(4)
وهي قراءة أبي بكر. انظر: "التيسير"(ص: 159).
به إلى الإجابة، إنَّما أمرَه بالقولَيْن المذكورَيْن لا بالحمد والدُّعاء تعليمًا
(1)
لطريقهما، وإظهارًا لفضيلة الحمد والدُّعاء
(2)
بالعبارَتَيْن المذكورَتَيْن.
* * *
(30) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} فيما فُعِلَ بنوحٍ وقومِه.
{لَآيَاتٍ} يَستدلُّ بها وَيعتَبِر أولو الاستبصار والاعتبار.
{إِنَّ} هي المخفَّفة مِن الثَّقيلة، واللَّام هي الفارقة بينها وبين النَّافية، والمعنى: إنَّ الشَّأن والقصَّة.
{كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لمختَبِرين بهذه الآيات عبادَنا لننظر مَن يعتبر ويذَّكَّر؛ لقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15].
وقيل: لمصيبين قومَ نوحٍ ببلاءٍ عظيمٍ. وليس في الإخبار به كثيرُ فائدةٍ.
* * *
(31) - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} .
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} : عادًا قوم هود عليه السلام؛ لقولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]- فإنَّه قولُ هود عليه السلام لا قولُ صالح عليه السلام ومجيءِ قصة هود على
(3)
إثر قصَّة نوح عليهما السلام في سورة الأعراف وهود والشُّعراء.
(1)
في (م): "تعظيما".
(2)
"تعليمًا لطريقهما وإظهارًا لفضيلة الحمد والدعاء" سقط من (ك).
(3)
"على" ليست في (ف) و (ك).
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ} ؛ أي: بين ظهرانيهم وفي زمرتهم، ولم يأتهم مِن موضِعٍ آخر.
{رَسُولًا} التَّنكير للتَّعظيم {مِنْهُمْ} : مِن قبيلَتِهم.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (أنْ) مفسِّرة لـ (أرسلنا)؛ أي: قلنا لهم على لسان الرَّسول: اعبدوا اللّه.
{أَفَلَا تَتَّقُونَ} عذابَه، وإدخال الهمزة على الفاء لإنكار عدم التَّقوى بعد العلم بأنَّه لا إله لهم غيره.
وفيه تنزيلٌ لهم منزلةَ العالم به؛ لتمكُّنهم مِن العلمِ به، وتنبيهٌ على ظهور الدِّلالة على ذلك.
* * *
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} لَمَّا تضمَّن {فَأَرْسَلْنَا} معنى القَول عطفَ عليه قولهم بالواو
(1)
؛ أي: اجتمع في الحصول ذاك
(2)
الحقُّ وهذا الباطلُ.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: بلقاء ما فيها من الحساب والجزاء، يعني: بالبعث.
{وَأَتْرَفْنَاهُمْ} : ونعَّمناهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكثرة الأموال والأولاد:
(1)
في هامش (ف) و (م) و (ع): "هذا هو الوجه لا ما ذكر القاضي من عدم اتِّصال كلامهم بكلامه؛ لأنَّه إنَّما يصلح وجهًا لعدم التَّصدير بالفاء، لا للتَّصدير بالواو؛ لبقاء احتمال الفصل على الاستئناف. منه".
(2)
في (ف): "ذلك".
{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} في الحال والصَّفة.
{يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقريرٌ للمماثلة، ولذلك تُرِكَ في قصَّة نوح عليه السلام لترك فيد المماثلة.
و (ما) خبريَّة، وحذف العائد إلى الثَّاني لدلالة ما قبلَه، أو لشياع حذف المنصوب؛ أي: تشربونه.
* * *
(34) - {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} .
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ} فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
{إِنَّكُمْ إِذًا} واقعٌ في جزاء الشَّرط، وجوابٌ للذين قاولوهم مِن قومهم.
{لَخَاسِرُونَ} بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنَّهم
(1)
أبَوا اتِّباع أمثالهم وعبدوا أعجزَ منهم.
* * *
(35) - {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} .
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} لَمَّا كان كونه ترابًا معلومًا بطريق العقل وكونُهم عظامًا مشاهَدًا معلومًا بطريق الحسِّ، كان الثَّاني أشدَّ دفعًا في الاستبعاد عندَ العامَّة، فلذلك أخَّره، بل نقول: لولا مشاهدة العظام لكان الوهم يعارض العقل في كونه ترابًا، فهو كالتَّتميم للأوَّل، ولذلك تراه يُذكَرُ مؤخَّرًا في جميع المواضع.
{أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} من العدم إلى الوجود تارةً أخرى.
(1)
"أنهم" ليست في (ف).
وثنَّى {أَنَّكُمْ} للتَّأكيد، وحَسُنَ ذلك لطول الفصل بين الأوَّل والثَّاني، و {مُخْرَجُونَ} خبرٌ عن الأوَّل، و {إِذَا} لمجرَّد الظَّرفيَّة، أو محذوف الجواب لدلالة (أنَّ) مع اسمها وخبرها عليه.
أو
(1)
{أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} مبتدأ خبره الظَّرف، والجملة خبر (أنَّ) الأولى؛ أي: أنكم إخراجكم إذا متم، أو مرفوع بفعل مقدَّر هو جواب الشَّرط، والشرطيَّة خبر؛ أي: أنكم إذا متم وقعَ إخراجكم
(2)
.
* * *
(36) - {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} .
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} من أسماء الأفعال، واقعٌ موقع بَعُدَ، وفاعلها مُضمَر؛ أي: بَعُدَ التَّصديق أو الوقوع، واللَّام في:
{لِمَا تُوعَدُونَ} للبيان، كما في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، كأنَّهم لَمَّا صوَّتوا بكلمة الاستبعاد قيل: فما الذي له هذا الاستبعاد؟ قالوا: لما توعدون.
أو فاعلها {لِمَا تُوعَدُونَ} واللَّام زائدة؛ أي: بَعُدَ ما توعَدُون مِن البعثِ.
وقيل: {هَيْهَاتَ} بمعنى: البُعْدُ، وهو مبتدأٌ خبرُه {لِمَا تُوعَدُونَ} .
وقرئ بالفتح منوَّنًا للتَّنكير
(3)
، وبالضَّمِّ منونًا على أنَّه جمع هيهةٍ، وغيرَ منوَّنٍ
(1)
في (ك) و (م) و (ع): "و".
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 87).
(3)
نسبت لخالد بن إلياس، ولهارون عن أبي عمرو. انظر:"المحرر الوجيز"(4/ 143)، و"زاد المسير"(3/ 261).
تشبيهًا بـ (قبلُ)، وبالكسر على الوَجهَيْن
(1)
، وبالسُّكون على لفظ الوقف
(2)
، وبإبدال التَّاءِ هاءً
(3)
.
* * *
(37) - {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أصله: إنِ الحياةُ إلَّا حياتُنا الدُّنيا، فوضع {هِيَ} موضعَ (الحياة) لدلالة الخبر عليها؛ حذرًا عن التِّكرار، وإشعارًا بأنَّ تعيينها مغنٍ عن التَّصريح، كقوله:
هي النَّفسُ ما حَمَّلتَها تَتحمَّلِ
(4)
والمعنى: لا حياةَ إلَّا هذه الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ (إنْ) النَّافية دخلَتْ على (هي) التي بمعنى الجنس، فوازنت (لا) التي لنفي الجنس.
{نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت منَّا بعضٌ ويُولَد بعضٌ {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعدَ الموتِ.
* * *
(38) - {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .
(1)
قرأ بالكسر بلا تنوين أبو جعفر المدني. انظر: "النشر"(2/ 328).
(2)
أي: (هيهاتْ هيهاتْ). نسبت لخارجة بن مصعب وأبو حيوة والأحمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 97). وانظر كل ما ذكر من قراءات في "الكشاف"(3/ 186).
(3)
وقف الكسائي والبزي بالهاء. انظر: "التيسير"(ص: 60).
(4)
صدر بيت لعلي بن الجهم. انظر: "ديوانه"(ص: 162)، و"روضة العقلاء" (ص: 145)، و"معجم الشعراء" (ص: 44)، وعجزه:
وللدَّهْرِ أيَّامٌ تجورُ وتعدِلُ
{إِنْ هُوَ} : ما هو {إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} فيما يدَّعيه مِن إرساله
(1)
، وفيما يعدنا مِن البعث، والمفتري قد يكون صادقًا في نفسه، ويكون الكذب في نسبته إلى المفترى عليه، فقوله:
{كَذِبًا} لدفع هذا الاحتمال، وهذا غاية الضَّلال.
{وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} : بمصدِّقين، وتقديم {لَهُ} للمحافظة على الفاصلة.
* * *
(39) - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} .
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} عليهم، وانتقم لي منهم {بِمَا كَذَّبُونِ} قد سبق تفسيره.
فأجاب اللّه تبارك وتعالى حيث:
(40) - {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} (عن) يتعلَّق بـ (يصبحُنَّ)، و (ما) زائدة لتوكيد معنى القلَّة، أو بمعنى شيء، أو زمن، و {قَلِيلٍ} صفةٌ له، وجواب القسم المحذوف.
{لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} على ما فعلوا إذا عاينوا ما يحلُّ بهم.
* * *
(41) - {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} : العقوبةُ الهائلةُ، لا صيحةُ جبريل عليه السلام وعلى إخوانه من الملائكة والنَّاس؛ لِمَا عرفْتَ أنَّ القصَّة قصَّة هود عليه السلام وعلى إخوانه
(2)
، لا قصَّةُ صالح عليه السلام.
(1)
في (ف): "الرسالة".
(2)
"وعلى إخوانه" ليست في (ف).
{بِالْحَقِّ} باستحقاقهم ذلك، أو: بالوجه الثَّابت الذي لا دافع
(1)
له، أو: بالعدل من اللّه تبارك وتعالى، أو: بالوعد
(2)
الصِّدق.
{فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} شبَّههم في دمارهم بالغُثاء، وهو حميل السَّيل ممَّا بَلِيَ واسودَّ من الورق والعيدان، وهذا التَّشبيه يناسب حال قوم هود عليه السلام.
{فَبُعْدًا} مصدر بَعُدَ: إذا هلك، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يُستعمل إظهارها.
واللَّام في:
{لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لبيان مَن دُعِيَ عليه بالبُعْدِ، ووُضع الظَّاهر موضع المضمر
(3)
للتَّعليل، ويحتمِل الإخبارَ.
* * *
(42) - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} .
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليه السلام.
* * *
(43) - {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .
{مَا تَسْبِقُ مِنْ} مزيدةٌ للاستغراق {أُمَّةٍ أَجَلَهَا} : الوقتَ الذي عُيِّنَ لهلاكها وكُتِبَ.
(1)
في (ف) و (ك): "دفع".
(2)
في (ف): "بالوعيد".
(3)
في (ك): "الضمير".
{وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} الأجلَ.
* * *
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} فَعْلى، والألف للتَّأنيث؛ لأنَّ الرُّسل جماعة.
وقرئ: {تَتْرَى} بالتَّنوين
(1)
على أنَّه مصدر بمعنى المتواترة وقع حالًا، والتَّاء بدل من الواو كما في تَوْلَج وتَيْقُور
(2)
؛ أي: متواترين واحدًا بعد واحدٍ، مِن الوتر، وهو الفرد.
{كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} أضاف الرُّسل مع الإرسال إلى المرسَل ومع المجيء إلى المرسَل إليهم؛ لأنَّ مبدأ الإرسال
(3)
منه ومنتهى المجيء إليهم، فالرَّسول يلابسُهما
(4)
جميعًا، فتصحُّ إضافتُه إليهما.
{فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ} : فأتبعنا بعضَ الأمم أو القرون {بَعْضًا} في الإهلاك.
{فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ} : أخبارًا يُسْمَر بها، ويُتعجَّب منها.
والأحاديثُ تكون اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث الرَّسول عليه
(1)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 159).
(2)
التَوْلَجُ: كِناسُ الوحِش الذي يَلِجُ فيه. التاء مبدلة من الواو، وهو فوعل لأنك لا تكاد تجد في الكلام تفعل اسمًا. والتَّيْقورُ: الوقارُ، وأصلُه ويقور، قلبت الواو تاء. انظر:"الصحاح"(مادة: ولج، وقر).
(3)
في (ف): "الرسالة".
(4)
في (م): "ملابسهما".
السلام، وتكون جمعًا للأحدوثة، وهي ما يتحدَّث به النَّاسُ تلهِّيًا وتعجُّبًا، وهو المراد هنا.
{فَبُعْدًا لِقَوْمٍ} : سبق تفسيره آنفًا {لَا يُؤْمِنُونَ} به.
* * *
(45) - {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} للإشعار بأنَّ إرساله عليه السلام كان تَبعًا لموسى عليه السلام، تعرَّض لأخوَّته له، ونزَّل ذلك الوصفَ منزلةَ الأصل، حيث جعل اسمه بدلًا عنه.
{بِآيَاتِنَا} بالآيات التِّسع.
{وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وحجَّةٍ واضحةٍ تظهِرُ بُطلانَ المخالِف، ويجوز أنْ يُراد به العصا، وإفرادُها بالذِّكرِ لأنَّها أمُّ المعجزات وأُولاها، وتعلَّقَتْ بها معجزاتٌ شتَّى كما ذكر، كأنَّها
(1)
ليست بعضَها لِمَا استندت به من الفضل، ويجوز أنْ يُرادَ الآياتُ أنفسها؛ لأنَّها آياتٌ وحجَّةٌ بيِّنةٌ.
* * *
(46) - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} .
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} لاستخلاص بني إسرائيل عن أيديهم على ما أفصح عنه في سورة الشعراء، حيث قال:{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16، 17] أي: خلِّهم يذهبوا معنا إلى الشَّام.
(1)
في (ف): "كما إذا ذكر أنها"، وفي (ك):"كما ذكر أنها".
{فَاسْتَكْبَرُوا} عن تصديقِهما في الرِّسالة المذكورة، وعن الائتمار بأمرِهما، لا عن المتابعة؛ لأنهما عليهما السلام لم يَدْعوهم إليها، دلَّ على ذلك قولهما: خلِّهم يذهبوا معنا إلى الشَّام.
{وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} : متكبرين.
* * *
(47) - {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} .
{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ} : أنذعَنُ وننقادُ {لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} البَشرُ اسم الجنس، كما يُطلَق على الجمع كقوله:{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26]، يُطلَق على الواحد كقوله:{بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وبهذا الاعتبار يثنَّى.
و (مثْل) كغير: يُوصَفُ به الاثنان والجمع، والمذكَر والمؤنَّث، كقوله:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ويقال أيضًا: هما مثلاه، وهم أمثالهم.
{وَقَوْمُهُمَا} يعني: بني إسرائيل.
{لَنَا عَابِدُونَ} على الحقيقة، كأنَّه كان يدَّعي الإلهيَّة فادَّعى للنَّاس العبادةَ.
* * *
(48) - {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} .
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق.
* * *
(49) - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} بعدَ إهلاكِهم {مُوسَى الْكِتَابَ} : التَّوراةَ.
لَمَّا كان إيتاؤه موسى عليه السلام في حكم إيتائه قومه قال:
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: يعملون بشرائِعِها ومواعظها؛ فإنَّ الاهتداءَ بالكتبِ الإلهيَّةِ إنَّما يحصل بالعملِ بما فيها، لا بعلْمِها.
* * *
(50) - {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} .
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ} عَبَر عنه بكنيته دون اسمه؛ لما فيها من الإشارة إلى وجه كونه آية، وهو ولادته مِن غير أب، وذلك أنَّ الأصل في النَّسب هو الأب، فلا يُعدَلُ عنه إلَّا عندَ فقدِه.
{وَأُمَّهُ آيَةً} بولادتها إيَّاه من غير مسيسٍ، فهما معًا آيةٌ واحدةٌ.
أو: وجعلنا ابنَ مريم آيةً بأنْ تكلَّم في المهد وظهرَتْ منه معجزاتٌ أُخَر، وأمَّه آيةً بأنْ ولدَتْ مِن غيرِ مَسيسٍ، فحذف الأولى لِدلالةِ الثَّانية عليها.
{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} : هي الأرضُ المرتفعة، قيل: هي بيت المقدس، وقيل غيره.
{ذَاتِ قَرَارٍ} : مستقرٍّ مِن أرضٍ منبسطةٍ، وقيل: ذات ثمارٍ وزروعٍ، فإنَّ ساكنيها يستقرُّون فيها لأجلها.
{وَمَعِينٍ} المَعينُ الماءُ الجاري على وجه الأرض، مفعول مِن عَانَه: إذا أدركه بالعَيْن، نحو رَكَبَهُ: إذا ضربَه بالرُّكْبَةِ؛ أي: يُدْرَكُ بالعَيْن لظهوره، فميمه على هذا زائدة.
أو فعيل مِن مَعَنَ الماء: إذا جرى، وأصله: الإبعاد في الشَّيء، أو مِن الماعون الذي هو المنفعة؛ أي: نفَّاع، فميمُه أصليَّةٌ.
* * *
{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} هذا النِّداءُ والخطاب ليسا على ظاهرهما؛ لأنهم أُرْسِلوا متفرِّقين في أزمنةٍ مختلفةٍ، وإنَّما المعنى الإعلام بأنَّ كلَّ رسولٍ في زمانِه نُودِيَ لذلك ووصِّي به؛ ليعتقد السَّامع أن أمرًا نودي له جميع الرُّسل ووُصُّوا به حقيقٌ أنْ يُؤْخَذ به ويُعْمَل عليه، أو خطابٌ لمحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقامَ الكلِّ في زمانه، وكان يأكل من الغنائم، أو لعيسى عليه السلام لاتِّصال الآيةِ بِذِكْرِه، وكان يأت مِن غَزْل أمِّه، وهو أطيب الطَّيِّبات.
والمراد بـ {الطَّيِّبَاتِ} : ما
(1)
حل، والأمرُ للتَّكليف، أو: ما يُستطَابُ ويُستَلَذُّ، والأمرُ للتَّرفيه
(2)
والإباحة، ومع الاحتمال لا يتمُّ الاحتجاج به على الرَّهبانيَّة
(3)
في رفض الطَّيِّباتِ بالمعنى الثاني.
{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} : موافقًا للشريعة.
{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم على أعمالكم.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "مما".
(2)
في (ك): "للتنزيه".
(3)
في (ك): "الرهابنة".
(52) - {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
{وَإِنَّ هَذِهِ} بالكسر على الاستئناف، وبالفتح
(1)
بمعنى: ولأنَّ، والمعلَّل {فَاتَّقُونِ} ، أو هو معطوف على ما قبله؛ أي بما تعملون عليم وبأنَّ هذه، أو تقديره: واعلموا أن هذه.
وقرئ بالتَّخفيف
(2)
.
{أُمَّتُكُم} : مِلَّتكم وطريقَتكم.
{أُمَّةً وَاحِدَةً} في أصول الشَّرائع والمعتقدات، أو: جماعتكم جماعة واحدة متِّفقة في التِّوحيد والإيمان، ونصبُها على الحال.
{وَأَنَا رَبُّكُمْ} وحدي {فَاتَّقُونِ} في شقِّ العَصا ومخالفة الكلمة.
* * *
(53) - {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
{فَتَقَطَّعُوا} تقطَّع بمعنى قطَّع، والضَّمير لِمَا دلَّ عليه (الأمَّة) مِن أربابها، أو لها.
{أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} : ما أُمِروا به مِن الشَّرائع والأحكام.
{زُبُرًا} : جمع زبور؛ أي: كُتُبًا مختلفة؛ يعني: جعلوا دينهم أديانًا، وقيل: تفرَّقوا في دينهم كلٌّ ينتحل
(3)
كتابًا.
(1)
وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 159).
(2)
بتخفيف النون مع فتح الهمزة قراءة ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 159).
(3)
في (ف) و (ك): "سجل"، وفي (م):"مسجد". والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"تفسير النسفي"(2/ 472)، والكلام منه، ولفظه:"تفرقوا في دينهم فرقًا كل فرقة تنتحل كتابًا".
وعن الحسن: قطَّعوا كتابَ الله قطعًا
(1)
.
ويؤيده قراءة: (زُبَرًا) بفتح الباء
(2)
، جمع زُبْرةٍ مستعارة من زُبَر الحديد، ويجوز أن يكون حالًا من {أَمْرَهُمْ} ، أو من الواو.
{كُلُّ حِزْبٍ} : كلُّ فرقةٍ مِنْ فِرَقِ هؤلاء المختلفين المتقطِّعين دينهم.
{بِمَا لَدَيْهِمْ} مِن الكتاب والدِّين، أو مِن الهوى والرَّأي.
{فَرِحُونَ} : معجبون معتقدون أنَّهم على الحقِّ.
* * *
(54) - {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} .
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} : في جهالتهم، شبَّهها في غلبتها عليهم بالماء الذي يَغْمُرُ القامةَ؛ لأَنَّهم مغمورون فيها، أو شُبِّهوا باللَّاعبين في غمرةِ الماءِ؛ لِمَا هم عليه مِن الباطل.
{حَتَّى حِينٍ} إلى أن يُقتلوا أو يموتوا
(3)
. سُلِّيَ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونُهي عن الاستعجالِ بعذابِهم.
* * *
(55) - {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} .
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} : أنَّ ما نعطيهم ونجعله مددًا لهم {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} بيانٌ
(1)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 472). وروى نحوه الطبري في "تفسيره"(17/ 62 - 63) عن مجاهد.
(2)
نسبها الداني في "جامع البيان" لابن عامر (2/ 303) لكن بخلاف بين أصحاب هشام راوية ابن عامر، ونسبت لأبي عمرو في "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 99).
(3)
في (م): "ويموتوا".
لـ (ما) لا خبرٌ له، فإنَّه غيرُ مُعابٍ عليه، وإنَّما المعاب عليه اعتقادهم أنَّ ذلك خيرٌ لهم، فخبرُه:
* * *
(56) - {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} .
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} والعائد مِن خبر (أنَّ) إلى اسمها محذوفٌ؛ أي: نسارع لهم به، والمعنى: إنَّ هذا الإمداد ليس إلَّا استدراجًا لهم إلى المعاصي، وهم يحسبونه مسارعةً لهم في الخيرات، ومعاجلةً بالثَّواب جزاءً على حُسن صنيعهم، ويجوز أن يُراد: في جزاء الخيرات كما يُفعل بأهل الخير من المسلمين.
{بَلْ} إضراب عمَّا يحسبونه.
{لَا يَشْعُرُونَ} ؛ أي: بل
(1)
هم أشباهُ البهائم، لا فِطنةَ بهم ولا شعور حتى يتأمَّلوا ويتفكَّروا
(2)
في ذلك، فيعلموا أنه استدراجٌ لا مسارعةٌ في الخير.
* * *
(57) - {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} الخشيةُ: خوفٌ يَشوبُه التَّعظيمُ.
{مُشْفِقُونَ} : قاضُون لحقِّ الهيبة والعظمة على حذرٍ ورقْبَةٍ. والإشفاقُ: خوفٌ معَ اعتناءٍ.
* * *
(1)
"بل" سقط من (ف).
(2)
في (ك): "أو يتفكروا".
(58) - {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} المنصوبة والمنزَّلة.
{يُؤْمِنُونَ} : يصدِّقون مدلولَها ونزولَها مِن عند اللّه.
* * *
(59) - {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} .
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} شركًا جليًّا ولا خفيًّا.
* * *
(60) - {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يعطون ما أعطوه من الصَّدقات. وقرئ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}
(1)
؛ أي: يفعلون ما فعلوه مِن الطَّاعات.
{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أنْ لا يُقبلَ منهم، وأنْ لا يقعَ على الوجه اللَّائق فيؤاخَذوا به.
والوَجَلُ: اضطرابُ النَّفسِ لتوقُّعِ ما يُكْرَه
(2)
.
{أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} لأنَّ مرجعهم إليه، وهو يعلم ما يخفى عليهم.
* * *
(61) - {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} : يرغبون فيها أشدَّ الرَّغبةِ فيبادرونها، والأحسنُ طباقًا لِما تقدَّم والأشدُّ وِفاقًا له أنَّ المعنى: أنَّهم يسارعون في نيل الخيرات
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98)، و"المحتسب"(2/ 95).
(2)
في (م): "لتوقع مكروه".
الدُّنيويَّة ويتعجَّلون في الدُّنيا المنافع ووجوه الإكرام؛ لأنَّهم إذا سُورِعَ بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجَّلوها؛ لقوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 148]؛ لأنَّ فيه إثباتَ ما نُفِيَ عن الكفَّار للمؤمنين.
{وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي: لأجلها فاعلون السَّبْقَ، أو: سابقون النَّاس لأجلِها، أو: إيَّاها سابقون؛ أي: ينالونها قبلَ الآخرة، حيث عُجِّلَتْ لهم في الدُّنيا.
حال من فاعل {يُسَارِعُونَ} ، أو عطف على {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ} عطفَ الجملة على الجملة، {لَهَا} صلة {سَابِقُونَ} ، أو علته
(1)
، أو خبر (هم)، و {سَابِقُونَ} خبرٌ بعدَ خبرٍ.
* * *
{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} : قَدْرَ طاقتها، يريد به التَّحريض على ما وصفَ به الصَّالحين وتسهيله على السَّامعين.
{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} أي: ما عملوه غيرُ ضائعٍ، بل مثبَت في كتابٍ؛ أي: اللَّوحِ، أو صحيفةِ الأعمال.
{يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} : يبيِّنُ الصِّدق، لا يوجد فيه ما يخالفُ الواقعَ.
{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بزيادة عِقابٍ، أو نقصان ثواب، وتقديم {وَهُمْ} للمحافظة على الفاصلة، ثم عاد إلى ذِكْر الكافرين فقال:
(1)
والمعنى: يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة، وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة. انظر:"روح المعاني"(18/ 103).
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} : في غفلةٍ غامرةٍ لها {مِنْ هَذَا} : مِن الذين وُصِفَ به السَّابقون.
{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} خبيثة {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} متجاوزةٌ عمَّا وُصِفُوا به، والإشارة بـ {ذَلِكَ} للتَّعظيم.
{هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} : معتادون فعلها.
* * *
(64) - {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} .
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} متنعِّميهم.
{بِالْعَذَابِ} وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ، أو الجوعُ حين دعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتكَ على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم سنينَ كسِني يوسف"
(1)
، فابتلاهم اللهُ تعالى بالقَحْطِ حتى أكلوا الجيَف والكلاب والعِظام المحرَّقة والقِدَّ والأولاد
(2)
.
{إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} الجؤارُ: الصُّراخُ بالاستغاثة؛ أي: فاجَؤوا به، وهو جواب الشَّرط، والجملة مبتدأ بعد {حَتَّى} ، ويجوز أن يكون الجوابُ:
(65) - {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} .
{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} فإنَّه مُقدَّر بالقول؛ أي: يُقال لهم: لا تجأروا.
(1)
رواه البخاري (804)، ومسلم (675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 193). القد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
{إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} تعليلٌ للنَّهي؛ أي: لا تجأروا، فإنَّه لا ينفعكم إذ لا تُمنعون
(1)
منا، أو لا يلحقكم نصرٌ مِن جهتنا.
* * *
(66) - {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} .
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} يعني: القرآن.
{تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: قد استمرَّ تجدُّد تلاوته عليكم وقتًا بعدَ وقتٍ.
{فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} تُعرضون عنها؛ أي: عن سماعها وتصديقها على أشنع وجه مستمرِّين على ذلك، والنُّكوص: أن يرجع القَهْقَرى، وهو أقبح مشيَةٍ لأنَّه لا يرى ما وراءه.
* * *
(67) - {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} .
{مُسْتَكْبِرِينَ} على المسلمين {بِهِ} : بالبيت أو بالحرم
(2)
؛ لأنَّهم يقولون: لا يظهر علينا أحدٌ لأنَّا أهلُ الحرم، والذي سوَّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت
(3)
.
أو: بـ {آيَاتِي} لأَنَّها في معنى: كتابي، ومعنى استكبارهم به: تكذيبُهم به استكبارًا على التَّضمين، أو مستكبرين بسببه؛ أي: إذا تُتلَى عليكم حدثَ بسببِه استكباركُم.
(1)
في (ف) و (ك): "تمتنعون".
(2)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "وأمَّا التَّكذيب فلا يصلح سببًا للاستكبار، بل الأمر بالعكس".
(3)
"بالبيت" سقط من (ك).
أو يتعلق الباء بقوله: {سَامِرًا} ؛ أي: تَسْمُرون
(1)
بذكر القرآن وبالطَّعن فيه، وذلك أنَّهم كانوا يجتمعون حولَ البيت يَسمُرونَ، وكانت
(2)
عاقبةُ سَمَرِهم ذكرَ القرآن وتسميتَه سحرًا وشعرًا. والسَّامرُ نحوُ الحاضر في الإطلاق على الجمع.
أو بقوله: {تَهْجُرُونَ} وهو مِن الهَجْرِ بالفتح: الهذيان، وبالضَّم: الفُحْش.
وقرئ: {تَهْجُرُونَ}
(3)
، [و:(تُهَجِّرون)]
(4)
، مِن أَهْجَرَ في منطقه: إذا أَفْحَشَ، ومن هَجَّر الذي هو مبالغةٌ في هَجَرَ: إذا هَذَى؛ أي: تُعْرِضون عن القرآن وتَهْذون في شأنه، أو تُفحشون
(5)
.
* * *
(68) - {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} .
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} القرآنَ؛ ليعلموا عند تدبُّره أنَّه الحقُّ المبين، فيصدِّقوا به وبمَن جاء به، أو ليخافوا
(6)
عند تأمُّل أقاصيصِه مثلَ ما أنزل
(7)
بمَن قبلِهم مِن المكذِّبين.
(1)
في (م): "تستمرون".
(2)
في (ف) و (م): "وكان".
(3)
وهي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 159).
(4)
من "الكشاف"(3/ 194). ونسبت لابن مسعود وابن عباس وجمع. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98)، و"البحر"(15/ 468).
(5)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م)"تفحشونه"، والمثبت من (ي).
(6)
في (ف) و (ك) و (م): "ليخالفوا"، والمثبت من (ع) و (ي) وهو الصواب. انظر:"روح المعاني"(18/ 114).
(7)
في (ك) و (م): "ما نزل".
والهمزةُ للتَّقرير والتَّوبيخ؛ أي: أبعدَ وضوحِ آياتي المتلوَّة عليهم لم يتدبَّروه؟! و {أَمْ} في قوله: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} منقطعةٌ؛ أي: عدم تدبُّرهم أجاءَهم ما لم يأتِ آباءَهم الأقدمين مِن كتاب أو رسولٍ أو أَمْنٍ مِن عذابِ الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل عليه السلام وأعقابه؟!
فالهمزة هذه للإنكار، ويجوز أن يكون المراد بـ {الْأَوَّلِينَ}: الذين مَضوا ممَّنْ سبقوهم مِن الأقربين الذين قلَّدوهم، فتكون الهمزة للتَّقرير أيضًا.
* * *
(69) - {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} .
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} إضراب عَّما ذُكِرَ، وإنكارٌ لعدم معرفتهم إيَّاه؛ لأنَّهم عرفوه بالأمانة والصِّدق، وحسن الخُلُق، وكمال العلم مع عدم التَّعلُّم، إلى غير ذلك مما هو صفة الأنبياء.
{فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} تفريغٌ على عدم معرفتهم إيَّاه، فيدخل تحت الإضراب والإنكار.
ولا وجه لِمَا قيل: لأحد هذه الوجوه
(1)
؛ لأنَّ الآتي بعده مِن جملة الوجوه، فلا وجه للفصل بينها بما ذُكِر.
* * *
(1)
يشير إلى البيضاوي الذي قال: {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها). قال الشهاب: قوله: (لأحد هذه الوجوه) المذكورة تعليل للإنكار بوجوه مذكورة في قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} إلى هنا فإنها وجوه للإنكار ترتب عليها (لا وجه له)؛ أي: للإنكار (غيرها). انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 340).
(70) - {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} إضرابٌ وإنكارٌ أيضًا لقولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} لأنَّهم كانوا يعلمون أنَّه أرجحُهم عقلًا، وأتقنُهم رأيًا، وأصوبُهم نظرًا.
ويجوز أن تكون الهمزة للاستفهام، و {أَمْ} هي المتصلة، ويكون الكلام على طريق المجادلة بالتي هي أحسن؛ أي: أيّ هذه الأمور كائنٌ، كما يقول المناظر: إنَّ الأمر لا يخلو مِن أحد هذه الأقسام، لكنَّ الأقسامَ
(1)
كلَّها باطلة إلَّا القسمَ الأوَّل، وهو عدم التَّدبُّر، وعبَّرَ عنه بقولِه:
{بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} بمخالفته أهواءَهم، فلذلك لم يتدبَّروا، وإنَّما قيَّد الحكم بالأكثر لأنَّه كان منهم مَن تركَ الإيمان استنكافًا مَن توبيخِ قومِه، أو لقلَّة فطنتِه ولعدمِ فكرَتِه، لا لكراهةِ الحقِّ.
* * *
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} على سبيل الفَرْضِ والتَّقدير كما تُفْرَضُ المحالاتُ {أَهْوَاءَهُم} في الشِّرك بأنْ كان في الوجود آلهةٌ شتَّى {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} كما سبق تقريره في تفسير قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
أو: وَلَوِ اتَّبع الحقُّ الذي قام به السَّماوات والأرضُ أهواءَهم لانقلَبَ باطلًا، ولذهبَ ما قام به العالم فلا يبقى شيءٌ منه
(2)
.
(1)
"لكن الأقسام" من (م) و (ي).
(2)
في (ف): "منه شيء".
أو: وَلَوِ اتَّبع الحقُّ الذي جاء به محمَّدٌ عليه السلام وهو الإسلام - أهواءَهم وانقلب شركًا لجاء اللّه تعالى بالقيامة وأهلك العالَم مِن فرط غضبه ولم يؤخّر.
وأمَّا ما قيل: معناه: ولو كان اللّه إلهًا يَتَّبع
(1)
أهواءهم ويأمر بالشِّرك والمعاصي لَمَا كان إلهًا ولكن شيطانًا؛ ففيه ما لا يخفى من جرأةٍ
(2)
على الله تعالى، وسوءِ أدبٍ فاحشٍ.
{وَمَنْ فِيهِنَّ} خصَّ العقلاء تنبيهًا على أنَّ وجودَ الغيرِ تبعٌ لهم.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} : بالكتاب الذي هو ذكرهم؛ أي: وَعْظُهم، أو: صِيْتُهم وفَخْرُهم، أو بالذِّكْرِ الذي كانوا يتمنَّونه بقولهم:{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 168].
{فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليه، وإنما أعاد الذِّكْرَ باسمه تفخيمًا.
* * *
(72) - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
و {أَمْ} في: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} منقطعةٌ.
{خَرْجًا} وقرئ: (خَرْاجًا)
(3)
.
(1)
في (ك): "لتبع"، وفي (م):"تبع"، وفي (ف):"ليتبع". والمثبت من (ع) و (ي) و"الكشاف"(3/ 196).
(2)
في (ف): "الجرأة".
(3)
قرأ حمزة والكسائي: {خَرْجًا فَخَرَاجُ} ، وقرأ ابن عامر:{خَرْجًا فَخَرَاجُ} ، وباقي السبعة:{خَرْجًا فَخَرَاجُ} . انظر: "التيسير"(ص: 146).
والخَرْجُ: ما تُخرجُه إلى الإمام مِن زكاة أرضك، وإلى كلِّ عاملٍ مِن أجرته وجعله.
وقيل: الخرْجُ: ما تبرَّعْتَ به، والخَراجُ: ما لزمَكَ أداؤُه.
والوجهُ: أنَّ الخَرْجَ أخَصُّ مِن الخَراجِ بقولِكَ: خَراجُ القرية وخَرْجُ الكَرْدة
(1)
، زاد اللَّفظ لزيادة المعنى، ولهذا حسنت القراءة الأولى؛ يعني: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلًا مَن عطاء الخَلْقِ.
{فَخَرَاجُ رَبِّكَ} فالكثيرُ مِن عطاء الخالق {خَيْرٌ} ففيه مندوحةٌ لكَ عن عطائِهم.
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تقرير لخيريَّة خراجه.
* * *
(73) - {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قد سبقَ تفسيرُه في الفاتحة. والتَّنكير ها هنا للتَّعظيم.
ولَمَّا ألزمهم الحجَّةَ وأزاح العلَّة بحصر الأقسام التي تقتضي الإنكار والاتهام
(2)
، وبيَّنَ انتفاءها إلا عدم
(3)
التَّدبُّر وكراهتهم الحقَّ لمخالفته أهواءهم، وأقام الدَّلائل على امتناع موافقته لِمَا هم عليه مِن التَّقليد واتِّباع الهوى؛ لِمَا يلزم
(1)
في (ك) و (م): "الكر"، وفي (ف):"الثمرة"، والمثبت من (ع) و (ي) و"الكشاف" (3/ 197). الكَرْدَةُ: جمعُها: الكُرَدُ، وهو من وضع الكرد، والعرب لا تعرفها، وهي قطعةٌ من الأرض المزروعة، ولا تُعرفُ هذه اللغة في الأصول. انظر:"حاشية الطيبي على الكشاف"(10/ 608).
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "والابهام".
(3)
في (ك): "لا عدام".
ذلك مِن الفساد الكلِّيِّ= ثبتَ أنَّ ما عليه هو الصِّراط المستقيم البيِّن استقامتُه بشهادة العقول السَّليمة والفطرة الصَّافية، وأنَّه يدعوهم إليه، وأنَّهم لكفرهم عن الصِّراط المذكور لعادلون
(1)
.
* * *
(74) - {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} .
وإنَّما عدل في قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} عن الضَّمير إلى الموصول؛ للتَّنصيص على علَّة عدولهم، وليكون كالبرهان على عدولهم؛ لدخولهم في الموصول دخولًا أوَّليًّا.
* * *
(75) - {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} يعني: القَحْطَ.
{لَلَجُّوا} : لتمادَوا {فِي طُغْيَانِهِمْ} : في إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحقِّ وعداوة الرَّسول عليه السلام والمؤمنين {يَعْمَهُونَ} ؛ أي: لعادُوا إلى ما كانوا عليه مِن اللَّجاجِ في الطُّغيان، ولذهبَ عنهم هذا الإبلاس
(2)
والتَّمسكُن بينَ يديه يسترحمونه، عَمِهِيْنَ عن الهدى.
ثمَّ استشهد على ذلك بقوله:
(76) - {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} .
(1)
في (ع) و (ي): "لعادلوا"، ولعل الصواب:(عادلون).
(2)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "الالباس"، والمثبت من (ي) وهو الصواب.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي: القتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ.
{فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فما خضَعوا، وما تذلَّلوا، ولم يوجَدْ منهم تضرُّعٌ.
استكانَ: استفعل مِن الكون؛ لأنَّ المُتَذَلِّلَ انتقل مِن كونٍ إلى كونٍ، كالمستحيل للمتنقِّلِ مِن حالٍ إلى حالٍ، أو افتعل مِن السُّكون أُشبع فتحتُه.
* * *
(77) - {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} : بابَ الجوع الذي هو أشدُّ مِن القتل والأسر.
{إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} الإبلاسُ: اليأسُ
(1)
مِن كلِّ خيرٍ.
وقيل: السُّكوتُ مع التَّحيُّر؛ أي: فأُبلسوا ساعتئذٍ وخضعَتْ رقابُهم، حتى جاء أعتاهم يستعطفُكَ.
رُوي أنَّه لمَّا أسلمَ ثُمامَةُ بنُ أُثالٍ الحنفيُّ ولحقَ اليمامة ومَنع المِيْرَةَ من أهل مكَّة، وأخذهم الله تعالى بالسِّنين حتى أكلوا العِلْهِزَ
(2)
، جاءَ أبو سُفيانَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال له: أَنشدُكَ الله والرَّحمَ! ألستَ تزعمُ أنَّك بُعِثْتَ رحمةَّ لَلعالمين؟ فقال: "بلى"، قال: قتلْتَ الآباءَ بالسَّيفِ والأبناءَ بالجوعِ، فنزلَتْ
(3)
. وهذا صريح في أنَّها مدنيَّة.
(1)
في (ف) و (ك): "أي إبلاس" بدل "الإبلاس اليأس".
(2)
طعام من الدم والوبر كان يتخذ في المجاعة. انظر: "القاموس"(مادة: علهز).
(3)
روى نحوه الطبري في "تفسيره"(17/ 93) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر:"السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 638 - 639). وخبر ثمامة رواه البخاري (4372)، ومسلم (1764) دون ذكر مجيء أبي سفيان ونزول الآية.
(78) - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ {قَلِيلًا} نصب على المصدر، و {مَا} زائدة للتَّوكيد بمعنى حقًّا؛ أي: شكرًا قليلًا تشكرون حقًّا، وإنَّما خَصَّ {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} بالذِّكر في مقام الامتنان لأَنَّها أصول المُدْرَكات المُنتفَع بها في المنافع الدِّينيَّة والدنياوَّية، ولا يمكن الاستكمال إلَّا بها، فإنه موقوف على الاعتبار والاستماع والاستبصار بالنَّظر والاستدلال، فهي أصولُ النِّعَمِ الموجبةُ للشُّكر، ولَمَّا كان العمدة في الشُّكر استعمالَها فيما خُلِقَتْ لأجله، ومقدمتُها الإقرار بواهبها ومُنشِئها قال:
(79) - {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} : خلقَكم فيها بالتَّناسُلِ.
{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} : تُجمَعون يومَ القيامة بعدَ تفرُّقكم.
* * *
(80) - {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قد سبق تفسيرُه؛ أي: هو المختصُّ باعترافكم بإنشاء الجوارح المذكورة وإنشائكم، والمختصُّ بالإحياء والإماتة، {وَلَهُ} خاصَّةً {اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وهو متولِّيه، لا يقدر على تصريفهما
(1)
غيره، والاختصاصُ مستفادٌ مِن تقديمِ الضَّمير والظَّرف.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : أبعْدَ هذه الدَّلائل الواضحة لا تعقلون بالنَّظر والاستدلال
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "تصرفها"، وفي (ع):"تصريفها"، والمثبت من (ي).
واستعمال المُدْرَكات المذكورة أنَّ الكلَّ منَّا، وأنَّ قدرتنا تعمُّ الممكنات كلَّها، وأنَّ البعث مِن جُملتها، فلا تنكرونه.
والالتفات مِن التَّكلُّم إلى الغيبة ممَّا لا تخفى فائدته مِن التَّعظيم كما في {رَبِّهِمْ}
(1)
، وقرعِ العصا بالتكرير والافتنانِ فيه
(2)
.
وقرئ: (يعقلون) بالياء
(3)
على الالتفات أيضًا، أو على أنَّ الخطاب السَّابق لتغليب المؤمنين.
* * *
(81) - {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} .
{بَلْ قَالُوا} ؛ أي: كفار مكَّة {مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} : كما قال الكفَّار قبلَهم.
* * *
(82) - {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .
{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} قد سبقَ وَجْهُ تأخير قوله: {وَعِظَامًا} عن قوله: {تُرَابًا} .
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} تكرار الهمزة للمبالغة في الإنكار والاستبعاد.
والتَّأكيد بـ (إنَّ) واللَّام لتوجيه الإنكار إلى الجزم بالبعث، واعتقادِ تحقُّقه، والإتيانِ به كما عليه الرَّسول والمؤمنون، ويُخبرون عنه.
* * *
(1)
كتب فوقها في (ك): "في قوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} "
(2)
كتب فوقها في (ك): "مثل في التفهيم، يعني تفهيم المعنى لإلقاء مكررًا، وبالتفنن بالعبارة".
(3)
رواية عن أبي عمرو. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(83) - {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} ؛ أي: البعث {مِنْ قَبْلُ} : مِن قبلِ مجيءِ محمَّدٍ عليه السلام.
{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الأساطيرُ: جمعُ أسطورةٍ، وهذا البناء لِما يُتلهَّى به، كالأضحوكة والأعجوبة والألعوبة
(1)
.
وقيل: جمع أسطارٍ، جمع سطر، وهي ما كتبه الأوَّلون ممَّا لا حقيقة له.
* * *
(84) - {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إنَّما قيل: (مَن) تغليبًا للعقلاء، أو لأنَّه يلزم أن يكون له غيره
(2)
من طريق الأَولى.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ؛ أي: إنْ كنتم مِن أهل العلم، أو: مِن العالمين بذلك، زيادة استهانة بهم
(3)
، وتقريرُّ لفَرْط جهالتهم.
* * *
(85) - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنهم مقرُّون بأنَّه الخالق.
{قُلْ} ؛ أي: بعد ما قالوه: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فتعلموا أنَّ مَن فطرَ الأرض ومَن فيها كان قادرًا على إعادة الخلق، وكان حقيقًا بأنْ لا يُشرَك به بعضُ خلقه في الرُّبوبيَّة.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 188).
(2)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(غيرهم). انظر: "روح المعاني"(18/ 131).
(3)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "وإنما قال: زيادة؛ لأنَّ أصلها فاصلة بالسؤال، على ما سنقف عليه".
(86) - {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} في توصيفه بـ {الْعَظِيمِ} تصغير للسَّماوات السَّبع مع هذه العظمة في جنبه، وهذا غاية في التَّعظيم.
* * *
(87) - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنَّ ذلك أيضًا قد تقرَّر عند العرب بإخبار أهل الكتاب.
وقرئ: {لِلَّهِ} بغير لام فيه وفيما بعده
(1)
على ما يقتضيه لفظ السُّؤال، والأوَّل محمولٌ على المعنى؛ لأنَّ قوله:{لِلَّهِ} معناه: لله هذه الأشياء، وهذا جوابٌ صحيحٌ، قال الشَّاعرُ:
إذا قِيلَ مَنْ رَبُّ القيانِ
(2)
بموقِفٍ
…
ورَبُّ الجيادِ الجرْدِ قيل لخالد
(3)
{قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} : أفلا تخافونه فلا تشركوا به
(4)
، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته.
* * *
(1)
قراءة أبي عمرو، ولا خلاف في الحرف الأول. انظر:"التيسير"(ص: 160).
(2)
في (ع): "القيام"، وفي (ف):"العباد"، وفي (ك):"العباب"، وفي (م):"العتاب"، وفي (ي):(القباب)، والمثبت من "حاشية الطيبي على الكشاف"(10/ 620).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 54)، و"تفسير القرطبي"(15/ 80)، و"تفسير النسفي"(2/ 479)، و"روح المعاني"(18/ 130).
وصدره فيها جميعا:
إذا قيل من رب المزالف والقرى
(4)
في (ك): "فلا تشكرونه".
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} : مالكيتُه ومدبِّريَّته.
قيل: الملكوتُ: الملك، والواو والتَّاء للمبالغة، فينبئ عن عظم الملك.
{وَهُوَ يُجِيرُ} : وهو يغيثُ مَن يشاءُ، مِن أجرْتُ فلانًا على فلان: إذا أغثته منه ومنَعْته
(1)
.
{وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} : ولا يغيثُ أحدٌ منه أحدًا، وتعديته بـ (على) لتضمُّنه معنى النُّصرة.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} تُخدَعون فتُصرَفون عن توحيده وطاعته مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلَّة.
وهذه الأسوِلة
(2)
استهانةٌ بهم، وتقريرٌ لفرط جهالتهم في الأمور الدِّينيَّة، حيث جَهِلوا مثلَ هذا الجليِّ الواضح، وإلزامٌ بما لا يمكن مَن له أدنى مُسْكَةٍ مِن العلم إنكارُه، ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا بقوله:{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنَّ العقل الصَّريح قد اضطرهم إلى الإجابة بما أجابَ، فلا يمكن لعاقلٍ
(3)
أن يجيب بجواب آخر.
ثمَّ إنَّه رُوعِيَ في السُّؤالِ قضيَّة التَّرقي، فسئل عمَّن له الأرض وما فيها، ثمَّ سُئِلَ عمَّنْ له السَّماوات والعرش العظيم، والأرض بالنِّسبة إليه كلا شيءٍ، ثمَّ سُئِلَ
(1)
في (ك): "أعنته" بدل "أغثته منه ومنعته"، وفي (ف):"أعنته منعه ومنعته".
(2)
في (ك): "الأسئلة".
(3)
في (ف) و (ك): "عاقل"، وفي (م) و (ع):"عاقلًا"، والمثبت من (ي).
عمَّنْ بيدِه ملكوتُ كلِّ شيءٍ، فأُتي بأعمِّ العامِّ وكلمةِ الإحاطة، وأُوثر الملكوت وهو الملك الواسع، وقيل:{بِيَدِهِ} تصويرًا وتخييلًا.
وكذلك روعي هذه النُّكتة في الفواصل، فعبِّر أولًا بعدم التَّذكُر، فإنَّ أيسر
(1)
النَّظر يكفي في انحلال عقدهم، ثمَّ بعدم الاتقاء
(2)
، وفيه وعيدٌ، ثمَّ بالتَّعجُّب مِن خَدْع عقولهم فتخيِّل
(3)
الباطل حقًّا والحقَ باطلًا، وأنَّى لها التَّذكُّر والخوف.
* * *
(90) - {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} : بالتَّوحيد، واستحالةِ نسبة الولد والشَّريك إليه.
{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} حيث أنكروا ذلك، وادَّعوا أنَّ له ولدًا ومعه شريكًا.
* * *
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} لتقدُّسه عن مماثلة أحدٍ.
{وَمَا كَانَ مَعَهُ} في الوجود {مِنْ إِلَهٍ} يساهمه في الألوهية.
(1)
في (ف) و (م): "أسير"، وفي هامش (م):"لعله يسير". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق موافق لما في "روح المعاني"(18/ 131)، والكلام منقول من "الكشف" كما صرح بذلك الآلوسي.
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "الإيفاء"، والمثبت من (ع) و (ي) والمصدر السابق.
(3)
في (ك): "بنخيل"، وفي (م):"بتخييل"، والمثبت من (ع) و (ف) و (ي) والمصدر السابق.
{إِذًا} جوابٌ لمحاجَّتهم، وجزاءُ الشَّرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ أي: لو كان معه آلهة كما يقولون إذًا
(1)
.
{لَذَهَبَ} : لانفرد {كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} : بخَلْقه الذي خلَقَه، واستبَدَّ به، ولرأيتم امتيازَ مُلكِ كلِّ واحدٍ عن مُلك الآخرين، ووقع بينهم التَّحاربُ والتَّغالبُ.
{وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : ولغلَبَ بعضُهم بعضًا كما هو حالُ ملوكِ الدُّنيا، ممالكُهم متمايزة، وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرًا لتمايز الممالك والتَّغالُب فاعلموا أنَّه إلهٌ واحدٌ بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ.
وأمَّا ما قيل: فلَمْ يكن بيده [وحده] ملكوت كلِّ شيءٍ، ولم يكن واحدٌ منهم إلهًا مطلقًا، واللَّازم باطل بالإجماع والاستقراءِ وقيامِ البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجبٍ واحدٍ
(2)
.
فيَرِدُ عليه: أنَّ الإجماع والاستقراء لا يناسب المقام، وأمَّا البرهان فإنَّما قام على وجوب انتهاء سلسلة الموجودات إلى واجبٍ بالذَّات، ولا يلزم منه أنْ لا يتعدَّد الواجب، ولا يكون في الوجود سلاسل ينتهي بعضها إلى واجبٍ وبعضها إلى واجب آخر.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 94)، وفيه:(أي: لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل منهم بما خلقه)، لم يذكر في التقدير (إذا)، وكذا في "تفسير أبي السعود"(6/ 148)، و"روح المعاني"(18/ 133)، ونقلوا هذا التقدير عن الفراء، وانظر:"معاني القرآن" للفراء (1/ 274)، ولم يذكر في التقدير (إذا) أيضًا.
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 94)، وما بين معكوفتين منه. وهذا القول جاء عنده بعد عبارة:(كما هو حال ملوك الدنيا)، ومثله في "تفسير أبي السعود"(6/ 148).
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} : عمَّا يصفونه مِن نِسبة الولد والشَّريك إليه؛ لِمَا سبق من الدَّليل على فساده.
* * *
(92) - {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبرُ مبتدأ محذوف، وقرئ بالجرِّ
(1)
على الصِّفة، دليل آخر على نفي الشَّريك بناءً على توافقهم في أنَّه المنفرد بذلك، ولذلك رتَّب عليه:
{فَتَعَالَى} اللهُ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالفاء.
* * *
(93) - {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} .
{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} (إنْ) هي الشَّرطيَّة، و (ما) والنُّون مؤكِّدتان لمعنى الشَّرط، وجواب الشَّرط:{فَلَا تَجْعَلْنِي} ؛ أي: إن كان لا بُدَّ مِن أنْ تريَني ما تعدُهم مِن العذاب في الدُّنيا أو في
(2)
الآخرة.
* * *
(94) - {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
{رَبِّ} تكرارٌ ما بين الشَّرط والجزاء، معترِض للتَّنبيه على فضل التَّضرع والجؤار.
(1)
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص بخفض الميم والباقون برفعها. انظر: "التيسير"(ص:160).
(2)
في (ف) و (ك): "وفي".
{فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: فلا تجعلني قرينًا لهم في العذاب.
عن الحسن: أخبره الله تعالى أنَّ له في أمَّته نقمةً، ولم يُخبره أفي
(1)
حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدُّعاء
(2)
.
وهو إمَّا لهضم النَّفس والقيام بحقِّ
(3)
العبودية مع علمه بأنَّه لا يفعله، وإمَّا للإعلام بأنَّ شؤم الظَّلمة قد يَحيق بمَن وراءهم
(4)
؛ لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
* * *
(95) - {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} .
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} كانوا يستعجلون العذاب إنكارًا وعنادًا
(5)
، ويضحكون منه استهزاء، فقيل لهم: إنَّ اللّهَ قادرٌ على إنجاز ما وعدَ عاجلًا، لكِنْ يُؤخِّرُه علمًا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون، أو: لا يعذبهم وأنت فيهم.
وقيل: قد أراه
(6)
يوم بدر أو يوم فتح مكَّة.
* * *
(1)
في (م): "في".
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 201)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 94).
(3)
في (م): "بمعنى".
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "يحيق عن ورائهم"، والمثبت من (ع) و (ي).
(5)
في (ف): "أو عنادًا".
(6)
في (ف): "أراكهم"، وفي (ك) و (م):"أراد" والمثبت من (ع) و (ي).
(96) - {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} .
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} حثَّه على مكرمةٍ هي أفضل المكارم، ما لم تؤدِّ إلى ثَلمٍ في الدِّين أو إزراء
(1)
بالمروءة، وهو أبلغ مِن أنْ يُقالَ: بالحسنة السَّيئة؛ لِمَا فيه مِن صيغة التَّفصيل والإجمال، والتفصيل
(2)
بإبهام الموصول، وتبيين الصِّلة؛ أي: زدْ
(3)
على الصَّفح عن الإساءة بمقابلة السيَّئة بما يمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصَّفح والإحسان وبذل الوسْعِ فيه كانت حسنةً مضاعفةً بإزاء سيئةٍ، ودفعًا لها بالتي هي أحسن.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} : بما يصفونك به من صفات السُّوء، أو بوصفِهم لكَ وسوءِ ذكرِهم، وهو وعيدٌ لهم وتسليةٌ له عليه السلام؛ أي: والله أعلم بقولهم وفعلهم، وهو يجازيهم.
* * *
(97) - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} .
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أمرٌ
(4)
بالتَّعوذ مِن نخساتهم بلفظ المبتهِل إلى ربِّه، المكرِّر لندائه تضرُّعًا وابتهالًا بالتَّعوُّذ مِنْ أنْ يَحضروه أو يحوموا حوله
(5)
.
{مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} شبَّه حثَّ الشَّياطين النَّاسَ على المعاصي بالوساوس
(1)
في (ك) و (م): "ازدراء".
(2)
في (م) و (ي): "التفضيل والإجمال والتفضيل".
(3)
في (ف) و (م): "رد".
(4)
في (ف): "أمر".
(5)
في (ف) و (ك): "يحدثوا" بدل "يحوموا حوله".
بهمزِ الرَّاضةِ للدَّوابِّ على المشي بالمهماز، والجمع إمَّا لتعدُّد الوساوس، أو لتنوُّعها، أو لتنوُّع المضاف إليه وتعددهم
(1)
.
* * *
(98) - {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} .
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: عند تلاوة القرآن، وعن عكرمةَ: عند النَّزْعِ
(2)
. وقيل: عند الصَّلاة.
والتَّخصيص بأحدها لأَنها أحرى الأحوال بأنْ يُخاف عندَه.
* * *
(99) - {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} .
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} يتعلَّق
(3)
بـ {يَصِفُونَ} ، غايةٌ لها؛ أي: لا يزالون يذكرونك بسوءٍ إلى هذا الوقت، وما بينهما اعتراض للإغضاء عنهم، مستعينًا بالله على
(4)
الشَّيطان أن يستزلَّه
(5)
عن الحلم ويغريَه على الانتصار منهم.
أو بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
(6)
.
(1)
في (م): "أو تعددهم".
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 202).
(3)
كتب فوقها في (ك): "الأول لا الثاني".
(4)
في (ك): "من"، وبياض في (ف).
(5)
في (ع): "ينزله"، وفي (ك):"يزله"، وفي (م):"يستنزله".
(6)
يريد أن (حَتَّى) يتعلق بـ (يصِفُونَ) أو مردودٌ على قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . انظر: "فتوح الغيب"(10/ 626)
{قَالَ} تحسُّرًا على تفريطه السَّابق لَمَّا اطلع على الأمر اللَّاحق.
{رَبِّ ارْجِعُونِ} : رُدُّوني إلى الدُّنيا. والخطاب بلفظ الجمع للتَّعظيم، أو لتكرير (ارجعني)، كما قيل: في قِفَا وأَطْرِقا، وهو يناسب الجؤار والتَّضرُّع.
* * *
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} : في الإيمان الذي تركْتُه، أو لعلِّي آتي بما تركْتُه من الإيمان وأعمل فيه صالحًا.
وقيل: فيما تركْتُ فيه مِن المال، أو في الموضع الذي تركْتُ، وهو الدُّنيا.
{كَلَّا} رَدعٌ عن طلب الرَّجعة واستبعادٌ لها.
{إِنَّهَا كَلِمَةٌ} ؛ أي: طائفةٌ مِن الكلام المنتظِم بعضُها مع بعض، وهو قوله:{رَبِّ ارْجِعُونِ} إلخ.
{هُوَ قَائِلُهَا} لا محالةَ، لا يسكُتُ عنها؛ لاستيلاء الحسرة والنَّدامة عليه، أو: هو قائلها وحده، لا يُجابُ ولا يُسمَعُ منه.
{وَمِنْ وَرَائِهِمْ} : أمامِهم، والضَّمير للجماعة {بَرْزَخٌ} البرزَخُ: الحاجزُ.
قال الضَّحَّاكُ: هو الحاجز بين الدُّنيا والآخرة
(1)
.
وقيل: بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا. ويأباه قوله:
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(17/ 111)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2709).
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لأنَّه لا يصلح غايةً لعدمِ الرُّجوع المذكور، والعلمُ بأنَّه لا رجعةَ يومَ البعث إلى الدُّنيا يفيد الإقناطَ الكليَّ عن الرُّجوع إلى الدُّنيا، ولكنَّه لا يصلح أمرًا لغايته
(1)
.
* * *
(101) - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} .
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} للبعث والنُّشور.
والقراءة بفتح الواو، وبه
(2)
وبكسر الصَّاد
(3)
، يؤيِّده أنَّ الصُّوْرَ أيضًا جمع الصُّورة، إذ الأصل في القراءة التَّوافُق.
{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} المنفيُّ نفعُ الأنساب لا نفيُها، فإنَّ لكلِّ امرئٍ يومَئذٍ ما اكتسَبَ لا ما انتسَبَ.
قيل: لزوال التَّعاطف والتَّراحم مِن فَرط الحيرة واستيلاء الدَّهشة، بحيث يفرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه وصاحبته وبنيه، وفيه نظر
(4)
.
{وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} كما يفعلون اليومَ، وهذا ليس عقيب نفخة البعث، بل بعد
(1)
في (ف) و (م): "لغاية"، وفي (ع):"لغائبة".
(2)
في (ع) و (ف) و (ك): "به"، وسقطت من (م)، والمثبت من (ي) و"تفسير البيضاوي"(4/ 95).
(3)
نسبت قراءة (في الصُّوَر) لابن عياض والحسن، ونسبت قراءة:(في الصِّوَر) لأبي رزين. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(4)
في هامش (ف) و (م): "أمَّا أوَّلًا فلأنَّ التَّعاطف والتَّراحم يتحقَّق بين الصِّبيان ووالديهم على ما نطقَتْ به الأخبار، وأمَّا ثانيًا فلأنَّ زوال التَّعاطف لا يستلزم عدمَ نفع الأنساب، وأمَّا ثالثًا فلأنَّ القرار المذكور ليس لفرط الحيرة، بل للحذر عن المطالبة. منه".
زمانٍ؛ لقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس: 52]، فإنَّه صريحٌ في أنَّهم يتساءلون، وقوله تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: ذلك عند القيام بالنَّفخةِ الثَّانيةِ
(1)
.
والفاءُ الجزائيَّةُ لا تدلُّ على التَّعقيبِ.
* * *
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قد سبق تفسيره في سورة الأعراف.
{فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدلٌ مِن {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ، والجملتان في حكم الصِّلة، فلا محلَّ لهما
(2)
من الإعراب، أو خبرٌ بعد خبر لـ {فَأُولَئِكَ} ، فهو في محلِّ الرَّفع كـ {الَّذِينَ خَسِرُوا} ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ.
* * *
(104) - {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} .
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} : تُحرقُها. قال الزَّجَّاجُ: اللَّفْحُ كالنَّفْخِ، إلَّا أنَّ اللَّفْحَ أشدُّ تأثيرًا
(3)
.
{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} مِن شدَّة الإحراق.
(1)
قطعة من خبر رواه البخاري قبل الحديث (4816)
(2)
في (م): "لها".
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 23).
والكُلوحُ: أنْ تتقلَّصَ الشَّفتان، وتتشمَّرا
(1)
عن الأسنان كما ترى الرُّؤوس المشويَّة.
روي
(2)
عن النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: "تَشْوِيْهِ النَّارُ فَتَتقلَّصُ شَفَتُهُ العُلْيا حتى تبلغَ وَسطَ رأسِهِ، وتَسْتَرخِي شَفَتُهُ السُّفلى حتى تبلغَ سُرتَهُ"
(3)
.
* * *
(105) - {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} .
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} على إضمارِ القَولِ، أي: يُقالُ لهم: ألم تكن تُتلَى عليكم آياتي
(4)
في الإنذار.
{فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} تعنيفٌ وتذكيرٌ ممَّا استحقُّوا هذا العذابَ بسببِه.
* * *
(106) - {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} .
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} مَلَكَتنا
(5)
، من قولك: غلبني فلان على كذا: إذا أخذه منك وامتلكه. والشَّقاوةُ: سوءُ العاقبة.
(1)
في (ع): "وينشمرا"، وفي (م):"ويتشمر".
(2)
في (م): "وروي".
(3)
رواه الترمذي (3176)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(4)
في (ف) و (ك): "آياتي عليكم".
(5)
في (ف) و (ك) و (م): "هلكتنا"، والمثبت من (ع) و (ي) و"الكشاف"(3/ 204).
وقرئ: {شِقْوَتُنَا} و: {شَقَاوَتُنَا} بفتح الشِّين وكسرها
(1)
، كالسَّعادة والكِتابة؛ أي: غلبَتْ علينا الأعمالُ الرَّديَّة والأحوال القبيحة التي شقينا بها.
{وَكُنَّا} بها {قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الحقِّ والصَّواب.
وليس هذا باعتذارٍ، بل هو اعترافٌ منهم بسوء الصَّنيعِ، ولا صحَّة لِما قيلَ: غلبَتْ علينا ما كُتِبَ علينا مِن الشَّقاوة؛ لأنَّه إنَّما يُكْتَبُ ما يَفْعلُ العبدُ، وما يُعْلَمُ أنَّه يختارُه، ولا يُكْتَبُ غيرُ الذي عُلِمَ أنَّه يختارُه، والعلمُ تابعٌ للمعلومِ لا العكس، فلا يكون مَغلوبًا ومُضطرًا في الفعل بسببِ التَّقديرِ الأزليِّ.
* * *
(107) - {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} .
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} مِن النَّارِ {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر والتَكذيب {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا.
* * *
(108) - {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
{قَالَ اخْسَئُوا} : انْزَجِروا {فِيهَا} أذلَّاءَ، انزجارَ الكلابِ إذا زُجِرَتْ، يُقال: خَسَأَ الكَلْبُ وأخساتُه لازمًا ومتعدِّيًا.
شُبِّهوا بالكلبِ في الذُّلِّ والهَوانِ فَطُرِدوا بـ {اخْسَئُوا} .
{وَلَا تُكَلِّمُونِ} في رفعِ العذاب، أو: ولا تكلِّمونِ أصلًا.
(1)
(شَقَاوَتُنَا) بفتح الشين وبالألف قراءة حمزة والكسائي، وباقي السبعة:{شِقْوَتُنَا} بكسر الشين مع إسكان القاف. انظر: "التيسير"(ص: 160). أما (شِقَاوتنا) يكسر الشين وبالألف فنسبت لقتادة ورواية عن الحسن. انظر: "البحر"(15/ 489).
قيل: هو آخِرُ كلامٍ يتكلَّمون به، ثمَّ لا كلامَ بعدَ ذلك إلَّا الشَّهيق والزَّفير والعِواء كعواء الكلاب
(1)
، لا يَفهمون ولا يُفهِمون.
* * *
{إِنَّهُ} : إنَّ الشَّأنَ، وقرئ بالفتح
(2)
؛ أي: لأنَّه.
{كَانَ} تعليلٌ لوجوبِ انزجارهم.
{فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} يعني: المؤمنين، قيل: هم الصَّحابة رضي الله عنهم، وقيل: أهل الصُّفَّة خاصَّة.
{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} في تفريعِ طلبِ
(3)
المغفرةِ والرَّحمةِ على الإيمان دلالةٌ على كفايته فيها.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} هُزُوًا، واشَّاغلتم
(4)
ساخرين.
{حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} بكثرةِ تشاغُلِكم بهم {ذِكْرِي} أي: تركتم أن تذكروني فتخافوني في أوليائي.
والسخريُّ بالضم والكسر: مصدر سَخِر كالسُّخُرِ، إلَّا أنَّ في ياء النَّسب زيادةَ قوَّة في الفعل ومبالغة، كما قيل: الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي
(1)
في (ك): "والزفير وعواء الكلاب"، وفي (ف):"والزفير والعواء كالكلاب".
(2)
نسبت لأبي بن كعب رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(3)
في (ك): "في توزيع طلب"، وفي (م):"هذا تفريع لطلب".
(4)
في (ع) و (ف) و (م) و (ي): "وشاغلتم".
والفرَّاء: أنَّ المكسور من الهزؤ، والمضموم من السُّخرة، بمعنى الانقياد والعبودية؛ أي: سخَّروهم واستعبدوهم
(1)
. والأوَّلُ مذهب الخليل وسيبويه
(2)
.
{وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاءً بهم.
* * *
(111) - {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم.
{أَنَّهُمْ} بالفتح، ثاني مفعولي {جَزَيْتُهُمُ} ، وبالكسر
(3)
استئنافٌ، كأنَّه لَمَّا أبهمَ الجزاء للتَّعظيم ولم يبيِّنه اتَّجه أنْ يَسألَ سائلٌ: كيف حالهم؟ قال: إنهم.
{هُمُ الْفَائِزُونَ} مخصوصون بالفوزِ بجميع مراداتهم.
* * *
(112) - {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} .
{قَالَ} ، أي: اللهُ تعالى، أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وقرئ على الأمر
(4)
لمالك
(5)
، أو لبعض رؤساء أهل النَّار.
{كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} : في الدُّنيا أحياءً وأمواتًا في القبور.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 243)، و"الكشاف"(3/ 205).
(2)
أي: مذهبهما أن مكسور السين ومضمومها معناهما واحد وهو الهزؤ. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (3/ 124)، لكن وقع في "العين" للخليل (4/ 196) تفريق بينهما.
(3)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 160).
(4)
أي: {قل} ، وهي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي. انظر:"التيسير"(ص: 160).
(5)
في (ع) و (ك) و (م) و (ي): "للمالك"، وفي "تفسير البيضاوي" (4/ 97):"للملك".
{عَدَدَ سِنِينَ} ، أي: كم عددُ سنين لبثتم؟ فـ {كَمْ} نصب بـ {لَبِثْتُمْ} ، و {عَدَدَ} بـ {كَمْ} .
* * *.
(113) - {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} .
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصَروا مدَّة لبثهم فيها بالنِّسبة إلى خلودهم في النَّار، أو لأنَّها كانَتْ أيَّام سرورهم، وأيَّامُ السُّرور قِصارٌ، أو لأنَّها منقضيةٌ، والمنقضي في حكم المعدوم الذي يستحقُّ أنْ يُعبَّرُ عنه بالقِلَّةِ.
{فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} : الذين يتمكَّنون مِن عدِّ أيامها
(1)
إنْ أردْتَ تحقيقَها، فإنَّا لِمَا نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكُّرها وإحصائها، أو: الملائكةَ الذين يَعدُّون أعمارَ النَّاس ويُحصون أعمالهم.
وقرئ: (المعادِيْنَ) بالتَّخفيف
(2)
؛ أي: الظَّلمةَ، فإنَّهم يقولون كما نقول.
وقرئ: (المعادِيِّين)
(3)
؛ أي: القدماء
(4)
المعمَّرين فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟!
{قَالَ} وقرئ: (قل)
(5)
.
* * *
(1)
في (ك): "عدادها" بدل "عدِّ أيامها".
(2)
نسبت للحسن ورواية عن الكسائي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98)، و"الكشاف" (3/ 206). ووقع في (ع) و (ف) و (ك) و (م):"المعادين"، والمثبت من (ي) ومصدري التخريج.
(4)
في (ع): "قدماء". والمثبت من باقي النسخ و"الكشاف"(3/ 206): "المعمرين".
(5)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 160).
(114) - {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} أي: ما لبثتم إلَّا زمنًا
(1)
قليلًا، أو لبثًا قليلًا.
{لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} صدَّقَهم اللهُ في مقالهم لِسِني لبثِهم في الدُّنيا، ووبَّخهم على غفلتهم التي كانوا عليها.
* * *
(115) - {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .
{أَفَحَسِبْتُمْ} توبيخٌ آخر على تغافلهم، وتجهيلٌ معَ إنكارٍ.
{أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} حال؛ أي: عابثين، أو مفعول له؛ أي: ما خلقناكم للعبث، وإنَّما خلقناكم لنتعبَّدكم ونجازيكم على أعمالكم، وهو كالدَّليل على البعث.
{وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} عطفٌ على {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} ، ويجوز أن يكون معطوفًا على {عَبَثًا}؛ أي: للعبث ولترككم غيرَ مرجوعين.
وقرئ: {تُرْجَعُونَ} بفتح التَّاء
(2)
.
* * *
(116) - {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .
{فَتَعَالَى اللَّهُ} مِن أنْ يخلقَ عبثًا، تعليلٌ لِمَا تقدَّم.
{الْمَلِكُ الْحَقُّ} : الذي يحقُّ له الملك؛ لأنَّ كلَّ شيء منه وإليه، أو: الثَّابتُ
(1)
في (م): "زمانًا".
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 160).
الذي لا يزول، ولا يزولُ
(1)
ملكُه، ومَن عداه مملوكٌ له
(2)
بالذَّات، مالكٌ بالعَرَض زائلُ الملك.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فإنَ ما عدَاه عبيد.
{رَبُّ الْعَرْشِ} الذي يحيط بالأجرام.
{الْكَرِيمِ} بالجرِّ على أنَّه
(3)
صفة العرش، وإنَّما وصفه بالكرم لأنَّ الرَّحمةَ والخير والبركة الإلهيَّة تنزل منه، ويجوز أن يكون توصيفُه بالكرم لنسبته إلى أكرم الأكرمين مجازًا، كما يُقال: بيتٌ كريمٌ: إذا كان ساكِنوه كرامًا.
وقرئ بالرَّفع
(4)
على أنَّه صفة لـ {رَبُّ} .
* * *
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يعبدُه إفرادًا أو إشراكًا
(5)
.
{لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفةٌ أخرى لـ (إله)؛ أي: لا حجَّة له عليه؛ لأنَّ البرهان عقليٌّ أو نقليٌّ، وليس في واحدٍ منهما ما يجوز أنْ يكون معه إلهٌ آخر، وهذا
(1)
"ولا يزول" من (م) و (ي).
(2)
"له" من (ك) و (م).
(3)
"على أنه" سقط من (ك).
(4)
نسبت لأبان بن تغلب وابن محيصن وأبي جعفر المدني وإسماعيل عن ابن كثير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(5)
في (ف) و (ك): "وإشراكا".
وإنْ كان مذكورًا في موضع الصِّفة فليس للتَّمييز؛ لأنَّ الباطلَ بمعزلٍ عن أنْ يكون له دليل ضعيفٌ، فضلًا عن برهانٍ، وإنَّما جيءَ بها للتَّأكيد، ولبناء الحكم بالوعيد عليه؛ تنبيهًا على أنَّ التَّديُّن بما لا دليل عليه ممنوعٌ، فضلًا عمَّا دلَّ الدَّليل على خلافِه.
أو اعتراضٌ
(1)
بين الشَّرط والجزاء لبيان الملازمة، كقولك: مَن أحسنَ إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإحسان منه، فاللهُ مُثيبُهُ
(2)
.
قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} كنايةٌ عمَّا ذُكِرَ؛ أي: فهو مُجازٍ له بما يستحقُّه.
{إِنَّهُ} أي: إنَّ الشَّأنَ. وقرئ بالفتح
(3)
؛ أي: لأنَّه، أو على أنه خبر؛ أي: حسابُه {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، من باب وضع الظَّاهر موضِعَ المُضْمَر؛ إذ أصله: حسابُه أنَّه لا يُفْلِحُ هو؛ لأنَّ (مَن يَدْعُ) في معنى الجمع، فمعنى حسابه أنَّه لا يفلح: حسابهم أنَّهم لا يفلحون، فغيّر تفظيعًا لشأنهم، وتفضيحًا لصورة حالهم، وإيماءً إلى عدم الفلاح لكفرهم.
وصيغة الجمع للتَّنبيه على أنَّه لا يُغني اجتماعهم
(4)
، وإلَّا فالظَّاهر أنْ يُؤتَى بصيغة الإفراد؛ لأنَّ الفلاحَ منتفٍ عن جنسهم.
وزاوَجَ
(5)
بين فاتحة السُّورة وخاتمتها بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} في الفاتحة، و {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} في الخاتمة.
(1)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "واعتراض"، والمثبت من (ي) و"تفسير البيضاوي"(4/ 97).
(2)
في (ك): "مثبته".
(3)
نسبت لقتادة وعيسى والحسن. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 98).
(4)
في (ع): "لا يفضي اجتماعهم"، وفي (ف) و (ك):"لا يغني لاجتماعهم".
(5)
في (ف): "وقد جمع"، وسقط من (ك).
ثمَّ علَّمنا سؤال المغفرة والرَّحمة بقوله:
(118) - {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} .
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} ؛ لأنَّ رحمَته إذا أدركَتْ أحدًا أغنَتْه عن رحمةِ غيره، ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته
(1)
.
* * *
(1)
في (م) زيادة: "والله أعلم".
سُورَةُ النُّورِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُورَةٌ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو مبتدأٌ لأنها مخصَّصةٌ بالتنكير الدالِّ على التعظيم كقولهم: شرٌّ أهرَّ ذا نابٍ
(1)
.
{أَنْزَلْنَاهَا} صفةٌ أو خبرٌ، ومَن نصبَها
(2)
جعلها مفسِّرة لناصبها، فلا يكون لها محلٌّ إلَّا إذا قدِّر: اتلُ، ونحوُه، ولا يجوز تقدير ذلك؛ لأن أداة الإغراء لا تُحذَف.
{وَفَرَضْنَاهَا} ؛ أي: فرضنا ما فيها من الأحكام. وقرئ بالتشديد
(3)
للتكثير أو للمبالغة.
{وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ؛ أي: دلائلَ واضحاتٍ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكي تتَّعظوا.
* * *
(1)
انظر: "المستقصى" للزمخشري (2/ 130)، و"مجمع الأمثال" للميداني (1/ 370). وتقدم مع شرحه عند تفسير قوله تعالى:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175].
(2)
أي: قرأ: (سورةً) بالنصب، نسبت لعمر بن عبد العزيز ومجاهد وجمع. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 100)، و"المحتسب"(2/ 99).
(3)
أي: {وَفَرَّضْنَاهَا} ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر:"التيسير"(ص: 161).
{الزَّانِيَةُ} ؛ أي: المرأةُ التي مَكَّنت في الزنى - فالمُكرَهة خارجةٌ عن حدِّها - قدِّمت هنا لأصالتها في الزنى، أي: حرمة الوطء التي بها يتحقَّق الزنى منشؤها خلوُّ المحلِّ عن الملكية وشبهتها
(1)
، كما قدِّم الزاني في الحكم الآتي ذكرُه لأصالته فيه.
{وَالزَّانِي} رُفعا بالابتداء، والخبر:{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} والفاء لتضمُّنها معنى الشرط؛ لأن اللام بمعنى (الذي).
وقرئ بالنصب
(2)
على إضمار فعلٍ يفسِّره الظاهر.
والجَلْد: ضَرْب الجِلْد، وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الأثر
(3)
إلى اللَّحم.
والخطابُ لجماعة المسلمين، إلَّا أنه لمَّا لم يُمْكِنهم الاجتماع، فينوب الإمامُ منابهم، وعموم الآية يتناول المُحصَن وغيرَ المُحصَن، ثم خُصَّ منه المُحصَن بحديث الرَّجْم.
وشرائطُ إحصانِ الرجم: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والدخول بنكاحٍ صحيحٍ وهما على صفة الإحصان.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "الملكين وشبهتهما"، وفي (ي):"الملكين وشبههما"، والمثبت من (ع).
(2)
أي: (الزانيةَ والزانيَ) بالنصب، نسبت لعمرو بن فائد وعيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وجمع. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 100)، و"المحتسب"(2/ 100).
(3)
في (ك): "الألم".
ورَجْمه عليه الصلاة والسلام يهوديَّين قد زَنَيا
(1)
، كان بحكم التوراة ثم نُسخَ، يؤيِّده قوله عليه الصلاة والسلام:"مَن أشرك باللّه فليس بمُحصَن"
(2)
.
والتغريبُ المرويُّ منسوخٌ بهذه الآية كالحبس والأذى في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] وقوله: {فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] لأن الفاء إنما تَدخل على الجزاء وهو اسمٌ للمكافئ
(3)
.
{تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} الرأفة: رقَّة الرحمة، وأخذُها كناية عن تأثيرها في النفس بحيث يظهر أَثَرُها في العمل، فمرجع النهي إلى المسامحة في إقامة الحدِّ كما ينبغي.
{فِي دِينِ اللَّهِ} : في طاعته، أو: في حكمه، وإنما قال:{بِهِمَا} ليُعلم حُكم الرأفة بأحدهما بطريق الدلالة.
{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن الإيمان يوجب الائتمارَ بأمر اللّه تعالى، وهذا من باب التهييج وإلهابِ الغضب لله ولدينه، وجواب الشرط مُضمَر؛ أي: فأقيموا الحدَّ ولا تساهلوا
(4)
فيه.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} : ولْيَحضُر موضعَ حدِّهما، وتسميتُه عذابًا دليل على أنه عقوبةٌ.
(1)
رواه البخاري (3635)، ومسلم (1699)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه ابن راهويه كما في "نصب الراية" للزيلعي (3/ 327)، والدارقطني في "السنن"(3295)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الدارقطني: لم يرفعه غيرُ ابن راهويه، ويقال: إنه رجع عن ذلك، والصواب أنه موقوف.
(3)
في (ف) و (ك) و (م) و (ي): "للكافي"، والمثبت من (ع).
(4)
في (ف): "تتساهلوا".
{طَائِفَةٌ} : فِرقة يمكن أن تكون حلقة
(1)
، وهي صفةٌ غالبة، كأنها الجماعة الحافَّة
(2)
حول الشيء.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ليعتبروا وينزجروا فإن التفضيح قد يُنكِّل أكثر ممَّا يُنكِّل التعذيب.
* * *
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ؛ أي: لا يَميل إلَّا إلى نكاحِ واحدةٍ منهما.
{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ؛ أي: لا تُمكَّن إلَّا إلى نكاح واحدٍ منهما، ومرجعُه إلى نفي ميلها عن نكاحِ غيرهما، فالقرينتان على سَنَن واحد، وإنَّما عدل في الثانية عن الصريح إلى الكناية؛ كراهةَ إسنادِ النكاح إليها.
ووجهُ ما ذكر: أن المشاكَلة
(3)
علَّةُ الأُلفة والتضامِّ، والمخالفةَ سببٌ للنُّفرة والافتراق، وهو نظيرُ قوله:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية [النور: 26]، فالآية تزهيدٌ في نكاح البغايا، إذ جعل الزنى فيها عديلَ الشرك في القُبْح.
(1)
في (ك): "صفة"، وفي (ف) و (م):"خلفه"، وفي (ع):"حلفه"، والمثبت من (ي)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 210)، و"تفسير النسفي"(2/ 487).
(2)
في (ك): "الحالقة"، وفي (ف):"المخالفة"، وفي (ع):"الحاقة"، والمثبت من باقي النسخ والمصدرين السابقين.
(3)
في (ف) و (م): "المشاكل".
{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لِمَا فيه من التشبُّه
(1)
بالفُسَّاق، وحضورِ مواضع التُّهَمة، والتسبُّبِ بسوءِ
(2)
المقالة، والغِيبة، والطعن في النَّسَب، ومجالسةُ الزواني كم فيها من التعرُّض لاقتراف المفاسد والآثام، فكيف بمزاوجتهنَّ، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.
وقيل: النفي بمعنى النهي، وقد قُرئ به
(3)
، والحرمة على ظاهرها، والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخٌ بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فإنه يتناول المسافِحاتِ، ويؤيِّده أنه عليه الصلاة والسلام سُئلَ عن ذلك فقال:"أوَّله سفاحٌ، وآخره نكاحٌ، والحرامُ لا يُحرِّم الحلالَ"
(4)
.
* * *
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ؛ أي: يقذفون الحرائرَ العفائفَ المسلماتِ المكلَّفاتِ بالزنى؛ لوصف المقذوفات بالإحصان، وإنَّما عدل عن القذف إلى الرمي؛ لأنَّ القذفَ: الرميُ البعيد المستلزِمُ لصلابة المَرْميِّ، والقيدان المذكوران اعتبارُهما لا يناسب المقام.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "بسوء".
(2)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "التشبيه".
(3)
أي: (لا يَنكحْ) بجزم الحاء، نسبت لعمرو بن عبيد. انظر:"مختصر في شواذ القراءات"(ص:100).
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 212). ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(12787)، وسعيد بن منصور في "السنن"(888) و (889) و (890)، والدارقطني في "السنن"(3681) عن ابن عباس موقوفًا.
وذكرُهنَّ عقيب الزواني، واشتراطُ أربعة شهداء بقوله:{ثُمَّ} كلمةِ التراخي، دلَّ على أنه لا يجب عليه الإتيانُ بالشهود على الفور.
{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يشهدون على زنى المقذوفة؛ لأن القذفَ بغير الزنى يكفي فيه الشاهدان، ولإيجاب الحدِّ بقوله:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القذف بغير الزنى لا يوجب الحدَّ، بل يوجب التعزيرَ كقذف غير المحصن بالزنى.
ونُصب {ثَمَانِينَ} نَصْبَ المصادر، كنَصْبِ {مِائَةَ} ، ونصب {جَلْدَةٍ} على التمييز.
ولا فرقَ فيه بين المذكَّر والمؤنَّث، وتخصيصُ المحصنات لخصوص الواقعة، أو لأن قذفهنَّ كان أغلبَ
(1)
، هذا ما قالوا.
وأنا أقول: أُريدَ الأنفسُ المحصنات، كما في قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} فلا تخصيص.
ولا يشترط اجتماعُ الشهود عند الأداء، ولا شهادةُ زوج المقذوفة، ولكن يُشترط طلب المقذوف؛ لأن فيه حقَّه من حيث دفعُ العارِ، ولا خلاف فيه لأبي حنيفة.
وضربُه أخفُّ من ضرب الزنى، قيل: لضعف سببه واحتماله الصدقَ، ولذلك نقص عددُه، وَيرِدُ عليه النقض بضَرْب التعزير، كما إذا كان المقذوف غيرَ محصَن، فإنه أشدُّ من ضرب الزنى مع قيام العلَّة المذكورة فيه.
(1)
في هامش (ف) و (م): "لم يقل: وأشنع؛ لأن فيه إخلالًا لثبوت الحكم في المحصن بدلالة النص". وفيه إشارة لقول البيضاوي: (كان أغلب وأشنع).
{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} نكَّر {شَهَادَةً} في موضع النفي فتعمُّ كلَّ شهادةٍ، وردُّ شهادته ليس لأنَّه مفترٍ
(1)
، وإلَّا لَمَا تخلَّف عنه في قذف غيرِ المحصَن، بل لأنَّه من تمام الحدِّ فيتعلَّق باستيفاء الحدِّ أو بعضه، خلافًا للشافعي فيهما
(2)
.
لا يقال: حاله قبل الحدِّ أسوءُ ممَّا بعده؛ لأنَّه إن أريد أنه كذلك عند الناس فممنوع، وإن أريد أنه كذلك عند الله تعالى فلا يُجدي؛ لأن المعتبرَ في هذا الباب ما عند الناس، حتى قيل: تعتبر شهادة الفاسق الوجيه.
وأصل الكلام: ولا تَقبلوا شهادتهم، وإنَّما غيِّر النظم بزيادة اللام لا لفائدة التنكير؛ لأنَّها تحصل بالتعريف الاستغراقي على وجهٍ أقوى، بل لإظهارِ وجه كون الرَّدّ المذكور من الحدِّ بإشعار أن في قبول الشهادة نفعًا للشاهد؛ لأنَّه يتضمَّن الإكرام، وضدُّه ويتضمَّن الإهانة.
{أَبَدًا} ؛ أي: إلى آخرِ أوقاتِ أهليَّتهم للشهادة لا إلى آخرِ عمره، ولذلك تُقبَل شهادة الكافر المحدود في قذفٍ بعد إسلامه؛ لحدوث أهليةٍ أخرى للشهادة بالإسلام، ولا خلاف للشافعي هنا، وإنَّما خلافه في انصراف الاستثناء الآتي ذكرُه.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} كلامٌ مستأنَف غيرُ داخلٍ في حيِّز جزاء الشرط؛ لأنَّه حكاية حالِ الرامين عند الشرع الحاكم بالظاهر، لا عند اللّهِ العالِم بالسرائر بعد انقضاء الجملة الشرطية
(3)
، وقولُه:
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "لأنَّه ليس مفتر".
(2)
قوله: "فيتعلَّق باستيفاء الحدِّ أو بعضه، خلافًا للشافعي فيهما". وقع في (ع) بعد قوله: "فتعم كل شهادة". وانظر: "تفسير النسفي"(2/ 489).
(3)
في هامش (ع) و (ف) و (م) و (ي): "ردّ لصاحب الكشاف، والعجب أنه بعد ما قال: سبب عقوبته محتمل للصدق إلا أنه عوقب صيانة للأعراض، كيف قال: إن حكاية حال الرامين عند الله. منه".
(5) - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ؛ أي: القذفِ {وَأَصْلَحُوا} أحوالهم بالاستسلام للحدِّ أو الاستحلال عند
(1)
المقذوف، استثناءٌ من الفاسقين، ويدلُّ عليه تعليل الاستثناء بقوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: يغفر ذنوبهم ويرحمهم، والشافعيُّ جعل جزاء الشرط الجملتين أيضًا، وجعل الاستثناء متعلِّقًا بالجملة الثانية، وحقُّ المستثنى عنده أن يكون مجرورًا بدلًا من (هم) في (لهم)، وحقُّه عندنا أن يكون منصوبًا لأنَّه عن مُوجَبٍ تامٍّ.
* * *
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} هذا بيان حكمِ قذف الزوجات بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يَشهدون لهم به {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} بدلٌ من {شُهَدَاءُ} أو صفةٌ لهم على أن (إلَّا) بمعنى (غير).
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ} قرئ بالرفع على أنه خبر، والمبتدأ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وبالنصب
(2)
؛ لأنَّه في حكم المصدر بالإضافة إلى المصدر، وهو:{شَهَادَاتٍ} والعامل فيه المصدر الذي هو {فَشَهَادَةُ} ، وعلى هذا خبرُه محذوفٌ تقديره: فواجبٌ شهادةُ أحدِهم أربعُ شهادات.
(1)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "عن"، والمثبت من (ي).
(2)
قرأ بالرفع حفص وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 161).
{بِاللَّهِ} متعلِّق بـ {شَهَادَاتٍ} لقُربها، وقيل: بـ (شهادةُ) لتقدُّمها.
{إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ؛ أي: فيما رماها به من الزنى، وأصله: على أنه، فحذف الجارُّ وكُسرت (إنَّ)، وعلِّق العامل عنه باللام تأكيدًا.
* * *
(7) - {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
{وَالْخَامِسَةُ} : والشهادة الخامسة {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في الرمي.
* * *
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} : ويدفع عنها الحبسَ والحد
(1)
{أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ} ؛ أي: الرامي {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في الرمي.
* * *
(9) - {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيه، قرئ:{وَالْخَامِسَةَ} بالنصب عطفًا على أربع، وبالرفع على الابتداء، وما بعدها الخبر
(2)
.
وخصَّ الغضبُ في جانبها لأن النساء يَستعملنَ اللعنَ كثيرًا، كما ورد به الحديث
(3)
، فربَّما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعنِ على ألسنتهنَّ
(1)
في (ك): "والحبر"، وفي (ي):"والجر"، وفي باقي النسخ:"والجبر"، والمثبت من هامش (ي)، وعليه علامة التصحيح.
(2)
قرأ حفص بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 161).
(3)
رواه البخاري (304) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ومسلم (79) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وسقوطِ دفعه عن قلوبهنَّ، فذُكر الغضب في جانبهنَّ ليكون رادعًا لهنَّ.
وإذا الْتَعَنَا كما بُيِّن في النصوص لا تقع الفُرقة حتى يفرَّق بينهما.
وعند زُفَرَ والشافعيِّ يقع بتلاعنهما الفُرقة، وتكون الفُرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف وزُفر والشافعي تحريم مؤبَّد.
وأمَّا أنَّ حُكمَ لعانِ الزوج سقوطُ
(1)
حدِّ القذف عنه وثبوتُ حدِّ الزنى عليها، فالنَّصُّ ساكتٌ عنه.
* * *
(10) - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} .
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} تُرك جواب (لولا)، وهو أبلغ لأن النفس تَذهَب في تقدير جوابِه كلَّ مذهب
(2)
، ولقد أحسن مَن قال: رُبَّ سكوتٍ أبلغُ من النُّطق.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} هو أبلغُ ما يكون من الكذب والافتراء، وأصله من الأفك وهو الصَّرْف؛ لأنَّه قولٌ منصرِفٌ
(3)
.....................................
(1)
في (م): "وأما حكم لعان الزوج وسقوط"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب. انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 100).
(2)
في هامش (ع): "ومن قدر الجواب فقد أخل بنكتة الترك. منه".
(3)
في (ي): "وهو القلب لأنَّه قول منقلب". والمثبت من باقي النسخ، وكلاهما صواب، فمعنى الإفك=
عن وجهه، والمراد: ما أُفكَ به على أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقصَّتُه معروفة
(1)
.
{عُصْبَةٌ} : جماعةٌ، قيل: من العشَرة إلى الأربعين، ويردُّه ما في مصحف حفصة رضي الله عنها:(عُصْبةٌ أربعةٌ)
(2)
.
يقال: تعصَّب القومُ، إذا اجتمعوا على هيئةٍ فشدَّ بعضهم بعضًا، ومنه: العُصْبة؛ لأنَّه يَجمعهم التعصُّب، ففي عبارة العُصْبة هنا حُسْنُ موقعٍ، ورجحانُها على عبارة الجماعة من جهة الدلالة على الكَمِّ والكيف، فهم: عبد اللّه بن أُبيٍّ رَأسُ المنافقين ورأس المتعصِّبين، وحسان بنُ ثابت، ومِسْطَح بن أثاثة، وحَمْنَة بنت جَحْش، ومَن ساعدهم
(3)
.
{مِنْكُمْ} : من المعدودين من أهل ملَّتكم، وهم ظنُّوا أنَّ الإفك وقع من الكفار، وفيه إظهارٌ لوجهِ غرابة ذلك الإفك، وخبر {إِنَّ}:{عُصْبَةٌ} ، وقوله:
{لَا تَحْسَبُوهُ} مستأنَف، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعائشة وصفوان ومَن ساءه ذلك
(4)
.....................................
= كما قال الآلوسي: القلب والصرف. انظر: "روح المعاني"(18/ 248).
(1)
انظر تفصيل القصَّة عند البخاري (4750)، ومسلم (2770).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(15/ 166)، و"روح المعاني"(18/ 252).
(3)
في هامش (ف) و (م): "قال القرطبي: لم يسمَّ من أهل الإفك إلَّا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله، وجُهل الغير، قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة، كما قال الله تعالى. انتهى، ولا وجه لذكر زيد بن رفاعة هنا. منه".
(4)
في (م) و (ي): "ومن أساءه ذلك"، وفي (ع):"ومن ساء ذلك"، وسقطت من (ت) و (ك)، والصواب المثبت.
رضي الله عنهم من المؤمنين والمؤمنات، والهاءُ لـ (الإفك).
{شَرًّا لَكُمْ} الشَّرُّ: ما زاد ضرُّه على نفعه، والخير ضدُّه.
{بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لاكتسابكم به الثوابَ العظيم، وظهورِ كرامتكم على اللّه تعالى بإنزال ثماني عشرةَ آيةً في براءتكم، وتعظيمِ شأنكم، وتهويلِ الوعيد لمن تكلَّم فيكم، والثناءِ على مَن ظنَّ بكم خيرًا.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} ؛ أي: لكلِّ امرئٍ من العُصْبة جزاءُ إثمه على مقدار خوضه فيه مختصًّا به، وكان بعضهم ضَحِكَ، وبعضهم تكلَّم فيه، وبعضهم سَكَتَ، وليس في عبارة {امْرِئٍ} إخراج حَمنَةَ بنتِ جَحْش عن هذا الحكم، بل ترك ذكرها إحالةً بمعرفة حالها على الدلالة؛ تنزيلًا لشأنها وتحقيرًا لها.
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} : مُعظَمَه
(1)
، وقرئ بالضَّمِّ
(2)
، وهو لغةٌ فيه، أي: قَرُبَ من آخرِ عمره ولم يَبعد عن المعاصي خصوصًا عن مثل هذه المعصية.
{مِنْهُمْ} : من الخائضين في الإفك، وهو
(3)
ابنُ أُبَيٍّ فإنه بَدَأ به وأذاعه؛ عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.
روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا نزل عُذري قام النبيُّ عليه الصلاة والسلام فذكر ذلك وتلا القرآن، فلمَّا نزل من المنبر أَمَر بالرجلين والمرأة فضُربوا حدَّهم
(4)
.
(1)
في (ع): "تعظمه".
(2)
أي: {كِبْرَهُ} ، وقرأ بها من العشرة يعقوب. انظر:"العشرة"(2/ 331).
(3)
في (ك): (فإنه).
(4)
رواه أبو داود (4474)، ورواه أيضًا الترمذي (3181) وحسنه، وابن ماجه (2567).
وهم: حسان بن ثابت ومِسْطَح بن أثاثة وحَمْنَة بنت جَحْش.
قال علماؤنا: وإنَّما لم يُحدَّ عبدُ اللّه بنُ أُبيٍّ لأن اللّه تعالى قد أعدَّ له في الآخرة عذابًا عظيمًا، فلو حُدَّ في الدنيا لكان ذلك كفارةً له فيتخلَّص من عذابه الأخروي، وإنما حُدَّ هؤلاء المسلمون ليكفَّر عنهم إثمُ ما صدر عنهم من القذف، حتى لا يبقى عليهم تَبِعةٌ ذلك في الآخرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحدود:"إنَّها كفَّارة لمن أُقيمت عليه"
(1)
.
ففي قوله تعالى: {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إشارة إلى عدم وجوب الحدِّ على ابن أُبَيٍّ، ولذلك لم يحدَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام
(2)
.
* * *
ثم وبَّخ الخائضين فيه فقال: {لَوْلَا} : هلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} ؛ أي: الإفكَ {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} : بالذين منهم، فالمؤمنون كنفسٍ واحدةٍ، وهو قوله تعالى:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11].
{خَيْرًا} : عفافًا وصلاحًا، وإنَّما عدل عن الخطاب إلى الغَيبة وعن الضمير إلى الظاهر، ولم يقل: ظننتم بأنفسِكم؛ ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليدلَّ التصريحُ بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يُصدِّق مؤمنٌ
(1)
انظر: "طرح التثريب" للعراقي (8/ 72 - 73). وحديث أن الحدود كفارة رواه البخاري (18)، ومسلم (1709)، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(2)
في هامش (ع) و (ف) و (ي): "هذا من دقائق الإشارات التي لم يتنبّه لها الناظرون في هذا المقام فقالوا ما قالوا. منه".
على أخيه، ولا مؤمنةٌ على أختها، قولَ عائبٍ
(1)
ولا طاعنٍ، و [هذا]
(2)
من الأدب الحَسَن قَلَّ القائمُ به.
وإنما جاز الفَضل بين (لولا) وفعلِه بالظرف؛ لأنَّه منزَّل منزلته من حيث إنَّه لا ينفكُّ عنه، ولذلك يُتَّسع فيه ما لا يُتَّسع في غيره، وذلك للاهتمام بالظرف والإيذانِ بأن لا يخلو في أوَّل وقتِ السماع بالإتيانِ بالمحضَّض
(3)
عليه.
{وَقَالُوا} كما يقول المستيقنُ المُطَّلع على حقيقة الحال، قُرن بالظنِّ التصريحُ بالقول؛ ليفيد أنَّ اللائقَ بالمؤمن أن يَبنيَ قولَه على ظنِّ الخيرِ في أوَّل وقت السماع.
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} : كذبٌ ظاهرٌ.
* * *
{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هلَّا جاؤوا على القذف لو كانوا صادقين بأربعة شهداء.
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} الأربعة {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أي: في حكمه وشريعته، وفي عبارة {عِنْدَ} تعظيمٌ لِمَا في أحكام الشرع من العمل بالظاهر.
(1)
في (ف): "فعل غائبة"، وفي (ك):"فعل عائبة".
(2)
ما بين معكوفتين زيادة يقتضيها السياق. انظر: "الكشاف"(3/ 53)، و"البحر المحيط"(16/ 39 - 40).
(3)
في (ع): "بالمخصص"، وفي (ك):"بالمحضوض".
{هُمُ الْكَاذِبُونَ} من جملة المقول، تقريرٌ لكونه كذبًا، فإنَّ ما لا حجَّة عليه مكذَّب
(1)
في حُكم الشرع، ولذلك رتّب الحدّ عليه.
* * *
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (لولا) هذه لامتناع وجود الشيء لوجود غيره؛ أي: ولولا أنِّي قضيتُ أن أتفضَّل عليكم في الدنيا بضروب النِّعَم التي من جملتها الإمهال للعقوبة، وأن أترحَّم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة بسبب توبتكم واستسلامكم للحدَّ {لَمَسَّكُمْ} عاجلًا {فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}: بسبب ما خضتم فيه، يقال: أفاضَ في الحديثِ وخاضَ واندَفَعَ.
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} يُستَحْقَر دونه اللومُ والحدُّ.
* * *
{إِذْ} ظرف لـ (مسكم) أو لـ {أَفَضْتُمْ} .
{تَلَقَّوْنَهُ} التَّلقِّي كالتلقُّن والتلقُّفِ، إلَّا أن في التلقِّي معنى الاستقبال، وفي التلقُّن الحَذْق في التناول، وفي التلقُّف الاحتيال في التناول، ذكره الراغب
(2)
، ولا اختصاص له بالكلام فلذلك قال:
(1)
في (ك): "كذب".
(2)
انظر: "تفسير الراغب"(1/ 160). وجاء في هامش (ف) و (ي): "التلقي يبش الشن وجزي را ازكسي فراء كرفن تاج المصادر، فمن فسَّر التلقِّي بمطلق الأخذ، فقد أضرَّ بحسن موقع الكلمة في هذا المقام. منه". وهو في هامش (م) دون الألفاظ غير العربية.
{بِأَلْسِنَتِكُمْ} ؛ أي: أنَّ بعضَكم كان يقول لبعض: هل بَلَغك حديثُ عائشة! حتى شاعَ فيما بينهم وانتشر، فلم يبقَ بيتٌ ولا نادٍ إلا طاَرَ فيه.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} إنَّما قيَّد بالأفواه مع أنَّ القولَ لا يكون إلا بالفم؛ لأن المراد بيان أَنَّهم يقولون كلامًا لا يساعده القلبُ بأدنى درجات العلم، فالتنكير في قوله:{مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} للتقليل.
{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} سهلًا لا تَبعةَ له، فهذه ثلاثةُ آثام مترتِّبة علِّق بها مسُّ العذاب العظيم: تلقِّي الإفك بألسنتهم، والتحدُّثُ به من غير علمٍ، واستصغارهم بذلك.
{وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} في الوِزْر.
ثم أخذ في توبيخهم على التكلُّم به، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يتفوَّهوا به فقال:
{وَلَوْلَا} : وهلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} ما ينبغي وما يصحُّ لنا {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} قد تقدَّم فائدةُ تقديم الظرف، ووجه الفَصْل به بين (لولا) و {قُلْتُمْ} .
{سُبْحَانَكَ} للتعجُّب من عِظَم الأمر، ومعنى التعجُّب في كلمة التسبيح: أنَّ الأصل أنَّ يُسبَّح اللّهُ عند رؤية العَجَب من صنائعه
(1)
، ثم كثُر حتى استُعمل في كلِّ مُتعجَّب منه، أو لتنزيه اللّه تعالى من أن تكون حرمةُ نبيِّه عليه السلام فاجرةً، فإن فجورها ينفِّر عنه ويخلُّ بمقصود الزواج، بخلاف كفرها، فيكون تقريرًا لِمَا تقدَّم وتمهيدًا لِمَا تأخَّر.
(1)
في (ك): "صانعه".
{هَذَا} الإشارة إلى القول المخصوص، ويجوز أن يكون إلى نوعِه؛ فإن قذفَ آحادْ الناس مُحرَّم شرعًا، فضلًا عن تعرُّض الصِّدِّيقة بنتِ الصِّدِّيق حرمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{بُهْتَانٌ} زُورٌ يَبهتُ
(1)
مَن يَسمع {عَظِيمٌ} .
وفي بعض الأخبار: أنَّ أمَّ أبي أيوبَ قالت لأبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه: أمَا بَلَغك ما تقول الناسُ في عائشة رضي الله عنها؟! فقال أبو أيوبَ: سبحانك، هذا بهتان عظيم
(2)
. فنزلت الآية على وفق قوله.
* * *
(17) - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} ؛ أي: يُحذِّركم اللّهُ {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} : في أن تعودوا إلى مِثْلِ ما فعلتُم من القولِ به وسماعِه وتلقِّيهِ
(3)
.
{أَبَدًا} ما دمتم أحياءً مكلَّفين.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فيه تهييجٌ لهم ليتَّعظوا، وتذكيرٌ بما يوجب تركَ العَود، وهو الإيمانُ الصادُّ عن كلِّ قبيح.
* * *
(18) - {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الدالَّةَ على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتَّعظوا وتتأدَّبوا.
(1)
في (ك) و (م): "بهت".
(2)
رواه الطبراني في "الكبير"(23/ 76) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
في (م): "وتلقنه".
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يَأمر وَينهى {حَكِيمٌ} فيه.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} : يُؤثِرون {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} : أن تنتشرَ الفاحشة؛ أي: ما قَبُحَ جدًّا، والمعنى: يحبُّون شيوعها ويُشيعونها؛ لأنَّ عذاب الدنيا لا يكون إلَّا بعد إشاعتها، وليس هذا من قَبيل الكناية ولا من قبيل المجاز المرسل؛ لأن كلًّا من معنى المحبَّة والإشاعةِ مقصودٌ، بل من قَبيل الاكتفاء عن ذِكْر الشيء بذكر ما يقتضيه
(1)
؛ تنبيهًا على القوَّة في المقتضي.
ويجوز أن يكون المعنى: أتُشيعون الفاحشةَ محبِّين شيوعها، على التضمين.
{فِي الَّذِينَ آمَنُوا} : في حقِّ المؤمنين
(2)
، وهم المقذوفون منهم، أو فيما بين المؤمنين.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} بالحدِّ {وَالْآخِرَةِ} بالنار.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ} بواطنَ الأمور وسرائرَ الصدور {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فعاقِبوا في الدنيا على ما دلَّ عليه الظاهر، واللّهُ يعاقِبُ على السرائر من حبِّ الإشاعةُ وغيرِه إن لم يتوبوا عنها.
* * *
(20) - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
(1)
في (ف) و (ك): "بذكر نقيضه".
(2)
في (ف): "المبين".
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لعجَّل لكم بالعذاب
(1)
، كرَّر المنَّة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب مبالغةً في تعظيم الجريمة والتوبيخ لهم.
{وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} حيث أظهر براءةَ المقذوف وأثابَ {رَحِيمٌ} بغفرانه جنايةَ القاذف إذا تاب، وهذا لأن الرأفةَ رقَّةُ الرحمة، وهي تناسب حالَ المقذوف.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا} الاتِّباعُ: الاقتداءُ بالدَّاعي الذاهبِ في جهةٍ باقتفاء أَثَره في الذهاب في تلك الجهة، فالمتَّبَع في الحقيقة نفسُ الداعي لا أَثَرُه، وإنَّما أُضيف الاتِّباع هنا إلى الأثَر تنزيلًا له منزلةَ الداعي مبالغةً.
{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أريد بخُطُوات الشيطان تعدِّيه حدودَ اللّه تعالى بالوسوسة وتجاوزُه عنها.
{وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} حذف جزاؤه لظهوره، وأُقيم علَّته مقامَه.
{فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} تعليل للجزاء المحذوف، والجملة الشرطية قائمةٌ مقام تعليل النهي.
{بِالْفَحْشَاءِ} : ما أفرط قُبْحُه {وَالْمُنْكَر} : ما أنكره الشرعُ في الجملة، فهو تعميمٌ بعد التخصيص، وفائدته التنبيه بتقديم الخاصِّ على اختصاصه بزيادة الاعتناء في شأنه من جهة الأمر.
(1)
في (ف) و (ك): "لعجل العذاب".
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتوفيقِ التوبة الماحية للذنوب، وشَرْعِ الحدود المكفِّرة لها {مَا زَكَى} ما طهر من دَنَسها {مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} ما دام حيًّا مكلفًا.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} بحمله
(1)
على التوبة وقَبولها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} بمقالاتهم {عَلِيمٌ} وبِنيَّاتهم.
* * *
{وَلَا يَأْتَلِ} : ولا يَحلِفْ، افتعالٌ من الأَليَّة، يُرشد إليه أنه قرئ:{وَلَا يَأْتَلِ}
(2)
، وأنَّه نزل في أبي بكرٍ رضي الله عنه وقد حَلَف أن لا يُنفِق على مِسْطَح بَعْدُ، وكان ابنَ خالته وكان من فقراء المهاجرين
(3)
.
{أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} في الدِّين، وفيه دليل على فَضْل أبي بكر رضي الله عنه.
{وَالسَّعَةِ} في المالِ.
{أَنْ يُؤْتُوا} كراهة أن يؤتوا، وقرئ بالتاء على الالتفات
(4)
.
{أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} صفاتٌ لموصوفٍ واحد؛ أي: ناسًا جامعين لها؛ لأن الكلام فيمَن كان كذلك، أو لموصوفاتٍ أُقيمت مقامها، فيكون أبلغَ في تعليل المقصود.
(1)
في (ك): "يحمله".
(2)
قرأ بها أبو جعفر من العشرة. انظر: "النشر"(2/ 331). وهذا مضارع تألَّى بمعنى: حَلَف.
(3)
قطعة من حديث الإفك الطويل رواه البخاري (4650)، ومسلم (2770)، عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
قرأ بها أبو حيوة وابن قطب وأبو البرهسم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 101).
{وَلْيَعْفُوا} ما فرَط منهم {وَلْيَصْفَحُوا} الصَّفْح: الإعراض، ولْيتجاوزوا عن الجفاء، ولْيُعرِضوا عن العقوبة.
{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} هذا غايةُ تلطُّفٍ في الخطاب؛ أي: فإذا أحببتم مغفرة اللّه لكم فاغفروا لغيركم.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: فتأدَّبوا بأدب اللّه واعفوا وارحموا.
ولمَّا نزل {أَلَا تُحِبُّونَ} قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى يا ربِّ، ثم عاد بمِسْطَح
(1)
إلى ما كان وكفَّر يمينه
(2)
.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} : العفائفَ {الْغَافِلَاتِ} ممَّا قُذفنَ به، كناية عن براءتهنَّ منه {الْمُؤْمِنَاتِ} بما يجب الإيمان به، استباحةً لعرضهنَّ وطعنًا في الرسول والمؤمنين كابنِ أُبَيٍّ.
أُريدت عائشةُ رضي الله عنها وحدها، وإنَّما جمع لأن مَن قَذَفَ واحدةً من نساء النبيِّ عليه الصلاة والسلام، فكأنَّه قد قذفهنَّ.
وأعاد الكلام دفعًا لِمَا عسى أن يَسبق إلى الأوهام من قضية مِسْطَحٍ أنَّ سائر
(3)
قذفَةِ عائشة مغفورون بالجَلْد والتوبة.
(1)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "لمسطح"، والمثبت من (ي).
(2)
قطعة من حديث الإفك الطويل عن عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
"سائر" من (م).
{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} يتكلَّم المؤمنون في الدنيا بلعنهم والملائكةُ في الآخرة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعِظَم ذنوبهم، ودلَّ ذلك على معنى: يعذَّبون، وهو العامل في:{يَوْمَ} لا العذاب؛ لأنَّه موصوفٌ.
* * *
(24) - {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} وقرئ بالياء
(1)
، للتقدُّم والفَصْل.
{أَلْسِنَتُهُمْ} هذا في حقِّ القَذَفة، وقوله تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآية [يس: 65] في حقِّ المشركين، فلا منافاة.
{وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعترفونَ بها بإنطاق اللّه تعالى، على ما نطَق به قوله تعالى:{قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] بغير اختيارهم على ما دلَّ عليه قولهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] وفي ذلك مزيد تهويلِ العذاب.
* * *
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ} : جزاءَهم {الْحَقَّ} بالنصب، وصفًا لـ {اللَّهَ} على المدح، لقراءة مجاهد بالرفع
(2)
وقراءةِ أَبَيٍّ: (يوفِّيهم اللّهُ الحقُّ دينَهُم)
(3)
، والأصل في القراءات التوافق.
(1)
قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ. انظر: "التيسير"(ص: 161).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 101)، و"المحتسب"(2/ 107).
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 101)، و"المحرر الوجيز"(4/ 174)، و"تفسير القرطبي"(15/ 184).
{يَعْمَلُونَ} عند ذلك {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} الثابتُ بذاته، الظاهرُ ألوهيتُه، لا يُشاركه في ذلك غيُره، لارتفاع الشكوك وحصولِ العلم الضروريِّ.
ولم يغلِّظ اللّهُ تعالى في القرآن في شيءٍ من المعاصي تغليظَه في إفكِ عائشةَ رضي الله عنها، فأَوجز في ذلك وأَشبع، وفصَّل وأَجمل، وأكَّد وكرَّر، وما ذلك إلَّا الإِصْر
(1)
.
* * *
{الْخَبِيثَاتُ} من القول والعمل {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال، وعلى هذا بقيَّته.
وقيل: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا بقيَّته.
{وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وفيه تنزيهُ عائشة رضي الله عنها لِمَا أنها زوجةُ الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي طيِّبةٌ لزوجٍ طيِّبٍ، وامرأةُ المنافق القاذفِ خبيثة لزوجٍ خبيثٍ.
{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ، أي: فيهم، و {أُولَئِكَ} إشارةٌ إلى الطيبين وأَنَّهم مبرَّؤون ممَّا يقول الخبيثون مِن خبيثات الكَلِم، وهو كلامٌ جارٍ مجرى المَثَل لعائشةَ رضي الله عنها وما رُميَت من قولٍ لا يُطابِق حالها في النزاهة والطِّيب.
ويجوز أن يكون {أُولَئِكَ} إشارةً إلى أهل البيت، وأنَّهم مبرَّؤون ممَّا يقول أهلُ الإفك.
(1)
في (ع): "إلا الأمر"، وفي (ي):"إلا لأمر"
{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} في المحشر، مستأنفٌ، أو خبرٌ بعد خبرٍ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنة.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} التي اختصَّ بكم سُكناها، سواءٌ سكنتُم فيها أو لم تسكنوا؛ أي: لا تدخلوا بيوتًا يَسكنها غيرُكم.
وهذا يعمُّ مسكنَ الأمِّ فإنه لا يجوز أن يدخل عليها مغافصة
(1)
، روي أنَّ رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَستأْذِنُ على أمِّي؟ قال: "نعم"، قال: لا خادمَ لها غيري، أستأذِنُ عليها كلَّما دخلت؟ قال:"أتحبُّ أن تراها عريانةً"؟ قال: لا، قال:"فاستَأذِن"
(2)
، وهو تأديبٌ بما يرجع إلى التحرُّز عن الاطِّلاع على عورةِ الغير.
{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}
(3)
؛ أي: تَستَعْلِموا مَن في البيت بأيِّ وجهٍ أَمْكن
(4)
، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]؛ أي: عَلِمتم، وفي "سنن ابن ماجه" عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السلام فما الاستئناس؟ قال:
(1)
أي: على حين غرة. ووقع في (م): "مناقصة"، وفي (ع):"منافضة"، وفي (ي):"مفاضة".
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 963)، وأبو داود في "المراسيل"(488)، عن عطاء بن يسار مرسلًا، قال ابن عبد البرّ في "التمهيد" (16/ 229): هذا الحديث لا أعلم يستند من وجه صحيح بهذا اللفظ، وهو مرسل صحيح مجتمع على صحة معناه.
(3)
في (ف): "تستأذنوا".
(4)
في هامش (ف) و (م): "فإن المانع عن الدخول قبل الاستئناس سكون الغير، وانتفاؤه لا يَستلزم ثبوت سكونهم. منه".
"يتكلَّم الرجلُ بتسبيحةٍ وتكبيرةٍ وتحميدةٍ، وتَنحْنُحٍ، ويُؤذِن أهلَ البيتِ"
(1)
.
{وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} بأن تقولوا: السلامُ عليكم، أَأَدخُل، وعنه عليه الصلاة والسلام:"التسليم أن يقول: السلامُ عليكم، أَأَدخُل"، ثلاث مرات، فإن أُذنَ له دَخَلَ، وإلَّا رجع
(2)
.
وقيل: إنْ تلاقَيَا يُقدِّم التسليم، وإلَّا فالاستئذان.
{ذَلِكُمْ} أي: الاستعلامُ والتسليم {خَيْرٌ لَكُمْ} من تحيَّة الجاهليةِ والدُّمُور - وهو الدخول بغير إذنٍ - وكان الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيتَ غيرِه يقول: حُيِّيتُم صباحًا، و: حُيِّيتُم مساءً، ثم يدخل، فربَّما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحافٍ واحد.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلِّق بمحذوف؛ أي: أُنزل إليكم - أو: قيل لكم هذا - إرادةَ أن تَذكروا وتَعملوا بما هو أصلحُ لكم.
* * *
(1)
رواه ابن ماجه (3707)، وفي إسناده: أبو سَوْرة - وهو ابن أخي أبي أيوب - وهو ضعيف.
(2)
انظر في الأمر بالرجوع بعد الاستئذان ثلاثًا حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري (6245) ومسلم (2153). وروى أبو داود في "سننه"(5177)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10075)، من طريق رِبْعِيِّ بنِ حِراش أنه قال: حدَّثنا رجلٌ مِن بني عامر استأذَن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيتٍ، فقال: آلِجُ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لخادِمه: "اخرُجِ إلى هذا، فَعَلِّمْهُ الاستئذانَ، فقل له: قُل السَّلامُ عليكم، آدْخُلُ؟ "، فَسَمِعُه الرجلُ، فقال: السلامُ عليكم، آدخُلُ؟ فأذِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فدخَلَ. ورجال إسناده ثقات إلا أنَّ فيه انقطاعا. انظر حديث أبي سعيد عند البخاري (6245) ومسلم (2153).
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} يَأذنُ لكم، وإنما قال:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} دون: لم يكن؛ لمكان التفقُّد المأمور به في ضمن الأمر بالاستئناس.
{فَلَا تَدْخُلُوهَا} يعني: إن كان لكم فيها حاجة.
{حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} لا لأن التصرُّف في ملك الغير بغير إذنه محظور؛ لأنَّه لا ينتظِم ما إذا كان الداخل مُعِيرًا
(1)
، بل لأن المانع عن الدُّمور ليس الاطِّلاعَ على العورات فقط، بل وعلى ما تُخفيه الناس عادةً.
والمراد من الإذن: ما يعمُّ الإذن دلالةً كما إذا عَرَض حرقٌ أو غرقٌ أو نحوُ ذلك، وأمَّا الذي فيه مُنكَرٌ فلا يكون خاليًا، فلا يكون في معرض الاستثناء.
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} ولا تُلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} : الرجوع أطهرُ لكم عمَّا لا يخلو عنه الإلحاح من الكراهة.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} يَعلم ما تَأتون وما تَذرون ممَّا خوطبتم به، فيجازيكم عليه.
* * *
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} : في أن تدخلوا {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} كالخانات والرِّباطات والحوانيت {فِيهَا مَتَاعٌ} : استمتاع {لَكُمْ} كالاستِكْنان من الحَرِّ والبرد، وإيواءِ الرحال والسِّلع، والجلوسِ للشِّرى والبيع، وذلك استثناء
(2)
من الحكم السابق؛ لشموله البيوتَ المسكونة وغيرَها.
(1)
في (ي) لعلها: "فقيرا".
(2)
في (م): "الاستثناء".
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيدٌ لمن دخل مَدخلًا لفسادٍ، أو يطَّلعَ على عورات.
* * *
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} لم يذكر ما يُغَضُّ البصرُ عنه ويُحفظ الفرج؛ لأن ذلك معلوم بالعادة، فإن مَن سمعه يَعلم أن المراد منه المحرَّمُ دون المحلَّلِ، فلا حاجة إلى الاستثناء، وليس كلُّ المحرَّم ممَّا يَجب غضُّ البصر عنه، بخلاف حفظ الفرج، فإن كلَّ ما يَحرُم يجب حفظه عنه، فلذلك أدخل
(1)
حرفُ التبعيض في الأول، وأطلق الثاني.
{ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} لما فيه من البُعد عن دَنَس الإثم.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} من إجالة النظر واستعمالِ سائر الآلات وما يقصدون بها، فليكونوا على حَذَرٍ منه في كلِّ حركة وسكون.
* * *
(1)
في (ف): "دخل".
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} إنَّما قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؛ لأن النظرَ بريدُ الزنى ورائدُ الفجور، وبذرُ الهوى طموحُ العين.
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الزِّيْنة: ما تزيَّنت به المرأةُ من حُلِيٍّ أو كُحْلٍ أو خضابٍ، والمنهيُّ
(1)
إظهارُ مواضعِ الزينة، إذ إظهارُ عينِها
(2)
مباحٌ، فالمراد بها مواضعها مجازًا، أو إظهارها وهي في مواضعها لا إظهار أعيانها.
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي: بلا إظهار منهنَّ، كما إذا هبَّت الريحُ وكشفت عنها الستر، والاستثناء عن الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو الاستحقاق بالمؤاخَذة في دار الجزاء بسبب ظهورها، وقد مرَّ وجه هذا النوع من الاستثناء في تفسير قوله:{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23].
وما ظهر بإظهارٍ منهنَّ ضرورةً - كالمعالجة وتحمُّل الشهادة ونحوِ ذلك - في حُكم ما ظهر بلا إظهارٍ منهنَّ، وأمَّا جريان المعادة والجِبِلَّةِ على ظهوره، فلا يَصلح وجهًا للاستثناء المذكور.
{وَلْيَضْرِبْنَ} : ولْيَضعنَ، من قولك: ضَربتُ بيدي على الحائط، إذا وضعتَها عليه.
{بِخُمُرِهِنَّ} : جمع خِمارٍ {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} كانت جيوبهنَّ واسعةً تَبدو منها صدورهنَّ وما حواليها، وكنَّ يَسدُلنَ الخُمُرَ من ورائهنَّ فتبنى مكشوفة، فأُمِرن أن يَسدُلْنها من قُدَّامهنَّ حتى يغطينها.
(1)
في (م): "والنهي عن".
(2)
في (ك): "غيرها". والمراد بـ "عينها": عين الزينة، يعني: حين لا تكون على المرأة.
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كرَّره لبيان مَن يحلُّ له الإبداء ومَن لا يحل له:
{إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} : لأزواجهنَّ.
{أَوْ آبَائِهِنَّ} ويدخل فيه الأجدادُ.
{أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} فقد صاروا محارمَ أيضًا.
{أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} ويدخل فيه النوافل.
{أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} فقد صاروا محارمَ أيضًا.
{أَو إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالةً.
{أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي: الحرائر المؤمنات، فإن مُطلَق هذا اللفظ للحرائر، والإضافة لإخراج الكافرات فإنهنَّ لا يتحرَّجن عن وصفهنَّ للرجال.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعمُّ الإماء والعبيد؛ لما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه
(1)
أتى فاطمةَ رضي الله عنها بعبدٍ وَهَبهُ لها وعليها ثوبٌ إذا قنَّعت به رأسَها لم يَبلغ رجليها، وإذا غطَّت رجليها لم يَبلغ رأسَها، فقال عليه الصلاة والسلام:"إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوك وغلامك"
(2)
.
وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنَّكم سورةُ النور، فإنَّها في الإماء دون الذكور
(3)
.
(1)
"أنه" من (ف) و (ك).
(2)
رواه أبو داود (4106).
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 232)، ورواه بنحوه ابن أبي شيبة في "المصنف" (16910). قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح؛ لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها، خصيًّا كان أو فحلًا.
وَيرِدُ عليه أنه حينئذٍ يَلزم أن يكون في المذكور إطنابٌ مخلٌّ، واللازم مُنتفٍ بلا شبهة.
{أَوِ التَّابِعِينَ} : الذين يَتْبَعون القومَ فيأكلون معهم ويرتفقون بهم.
{غَيْرِ} بالنصب على الاستثناء أو الحال، وبالجرِّ على البدل أو على الوصفية
(1)
.
{أُولِي الْإِرْبَةِ} : الحاجةِ إلى النساء، وهم الذين لا يَشتهون النساء، فلا يحتاجون إليهنَّ من هذه الجهة، وهذا ليس بواقعٍ على الخصيِّ والمجبوب والمخنَّث؛ لأنهم يُشتهَون وَيشتهُون النساء.
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ} هو جنسٌ، فصلح أن يُراد به الجمع بدلالة الوصف.
{لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لعدم تمييزهم؛ من الظهور بمعنى الاطِّلاع، أو: لعدم بلوغهم إلى حدِّ الشهوة؛ من الظهور بمعنى الغلبة.
{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} ؛ أي: الأرضَ عند المشي {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ليَتَقعقَع خَلْخالها فيُعلم أنها ذاتُ خَلْخال، وإنما نهى عنه لأن سماع هذه الزينة أشدُّ تحريكًا للشهوة من إبدائها، فلا دلالة فيه على أن إبداءَ الزينة نفسه مقصودٌ بالنهي فيما تقدَّم.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} إذ لا يكاد يخلو أحدٌ منكم من تفريط سيَّما في الكَفِّ عن الشهوات، وقوله:
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بيانُ أنه أَمَرهم بالتوبة لينتفعوا بذلك، لا أن يكون للحقِّ سبحانه بها تجمُّل.
(1)
قرأ بالنصب ابن عامر وشعبة، وباقي السبعة بالجر. انظر:"التيسير"(ص: 161).
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الأَيامى: جمع أَيِّم، وهو مَن لا زوجَ له، رجلًا كان أو امرأةً، بكرًا كان أو ثيِّبًا، وأصله: أيايم فقُلب.
والخطاب للأولياء والسادة، والأمرُ للندب، لا يقال: في الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى الموالي؛ لأنَّا نقول: الرجلُ لا يَلي الرجلَ الأيِّمَ إلَّا بإذنه، فكذا لا يلي على المرأة إلَّا بإذنها؛ لأن الأيِّم ينتظِمُهما، ولا فارق من جهة النظم.
{وَالصَّالِحِينَ} تخصيصُهم لأنَّ إحصانَ دينِهم والاهتمامَ بشأنهم أهمُّ.
{مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ؛ أي: من غلمانِكم وجواريكم.
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وعدٌ من اللّه تعالى بالإغناء؛ لقوله عليه السلام: "اطلبوا الغنى في هذه الآية"
(1)
، ولقوله عليه السلام:"التمِسوا الرزق بالنكاح"
(2)
.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ} : ذو سعة لا يرزؤه إغناءُ الخَلْق {عَلِيمٌ} يبسط الرزق ويقدره على ما تقتضيه حكمته.
(1)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 105)، وقال المناوي في "الفتح السماوي" (2/ 871): لم أجده. قلت: رواه عبد العزيز بن أبي رواد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، كما في "تفسير ابن أبي زمنين"(3/ 233)، و"النكت والعيون"(4/ 98).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(282)، وعزاه العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 202) للثعلبي في "تفسيره" وضعفه.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} ولْيَجتهدْ في العفَّة وقَمْع الشهوة، كأنَّ المستعفِف طالبٌ من نفسه العَفَاف.
{الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} استطاعةَ تزوُّجٍ من المهر والنفقة {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
انظر كيف رتَّب هذه الأوامر؛ فأَمر أولًا بما يعصم من الفتنة ويُبعد من موافقة
(1)
المعصية وهو غضُّ البصر، ثم بالنكاح الذي يُحصَّن به الدِّين، المغني عن الحرام، ثم بعزف
(2)
النفس الأمَّارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يقدر عليه.
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: والمماليك الذين يطلبون الكتابةَ فـ (الذين) مرفوع بالابتداء، أو منصوبٌ بفعل يفسِّره:
{فَكَاتِبُوهُم} وهو للندب، ودخلت الفاء لتضمُّن معنى الشرط، والكِتاب والمكاتبة كالعِتاب والمعاتبة، وإنَّما سمِّي ذلك العقدُ به؛ لأن السَّيِّد كَتبَ على نفسه عتقه إذا أدَّى المال، ويجوز حالًّا ومؤجَّلًا، منجَّمًا وغيرَ منجَّم؛ لإطلاق الأمر،
(1)
كذا في النسخ، والذي في "الكشاف" (3/ 238):(مواقعة)، وهو الأنسب بالسياق.
(2)
في (ف) و (ك): "بعرف"، وفي (ع):"بصرف"، والمثبت من (م) و (ي). وهو الأقرب إلى ما في المصدر السابق، ولفظه: (ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح
…
).
وعدمُ المال لا يَستلزم العجز عن الأداء في الحال؛ لأنَّه قادرٌ على الاستقراض.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} : قدرةً على الكسب، أو أمانةً، أو ديانةً، والنَّدْبيَّة متعلِّقة بهذا الشرط كما أن النَّدْبية في إنكاح الأيامى متعلِّقة بشرط الصلاح.
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتَبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة؛ لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]، وعند الشافعيِّ معناه: حُطُّوا من بدل الكتابة شيئًا قلَّ أو كثر، ويأباه عبارة الإيتاء؛ لأنها تقع على التمليك لا على الحطِّ.
{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} كنَّى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، والبِغاء: الزنى للنساء خاصَّة، وهو مصدر البغي.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} تعفُّفًا عن الزنى، وإنما قيَّد بهذا الشرط لا لأنَّ الإكراه لا يتحقَّق بدونه؛ لأنَّه على تقدير التسليم يكون سببًا للترك لا للذكر، بل لأنها نزلت في ابن أُبَيٍّ وكانت له جَوارٍ يُكرههنَّ على البغاء، وفيه توبيخٌ بالموالي؛ أي: إذا رغبنَ في التحصُّن، فأنتم أحقُّ بذلك، وإيثار (إن) على (إذا)؛ لأن إرادة التحصُّن من الإماء كالشاذِّ النادر.
{لِتَبْتَغُوا} : لابتغائكم، فإن الفعل هنا منزَّل منزلةَ المصدر، كما في قوله: تَسمعُ بالمُعيدِيِّ خيرٌ من أن تراه، وذلك لأنَّ الابتغاء المذكور يكون سببًا مقدَّمًا، ولا يكون غاية متأخِّرة.
{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من أجورهنَّ وأولادهنَّ.
{وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} حذف جوابه؛ أي: فعليه وبالُ إكراهه لا يتعدَّى إليهنَّ، وأُقيم تعليل هذا مقامه وهو قوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: لهنَّ، وفي مصحف ابنِ مسعود رضي الله عنه كذلك
(1)
.
وإنما قال: {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لشدَّة المعاتبة على المُكرِه؛ فإن المُكرَهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاتبة حتى احتاجت إلى المغفرة، فما حال المُكرِه؟! وللدلالة على أنَّ حدَّ الإكراه الشرعيِّ والمصابرةِ إلى أن يُنتَهى إليه فيرتكبَ ضَيِّقٌ
(2)
، واللّه يغفرُ ذلك بلطفه.
* * *
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} المراد: الآياتُ التي بُنيِّت في هذه السورة وأُوضحت في معاني الأحكام والحدود، وجاز أن يكون الأصل: مبيَّنًا فيها، فاتُّسع في الظرف، وقرئ بالكسر
(3)
؛ أي: بيَّنت من الأحكام والحدود، وجُعل الفعل لها مَجازًا، أو من بَيَّن بمعنى: تبيَّن، ومنه المَثَل: قد بَيَّن الصُّبحُ لذي عينين
(4)
.
{وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: ومَثَلًا من أمثالِ مَن قبلكم؛ أي: وقصَّةً عجيبةً مثلَ قصصهم، وهي قصَّة عائشة فإنَّها كقصَّة
(5)
يوسفَ ومريمَ عليهما السلام.
{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ؛ أي: هم المنتفعون بها وإن كانت الموعظة للكلِّ.
(1)
أي: (من بعد إكراههنَّ لهنَّ غفور رحيم)، والقراءة رواها عبد بن حميد في "تفسيره" كما في "الدر المنثور"(5/ 47).
(2)
في (م): "فسق".
(3)
قرأ بالكسر ابن كثير ونافع وأبو عمرو وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 162).
(4)
انظر: "جمهرة الأمثال"(2/ 126)، و"المستقصى في الأمثال"(2/ 190).
(5)
في (م): "قصة".
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : بيَّن وضوح الدلالات وجلاء البينات، وأنَّ مَن ضلَّ عن الحقِّ فليس لخفاءِ الدليل واشتباهِ السبيل، فقال: اللهُ هادي أهل السماوات والأرض؛ أي: إلى ما بهم الحاجةُ إليه في مصالحِ دينهم ودنياهم، وهي كلمة مُطلَقة في هذا المعنى، يقال: فلانٌ نورُ بلدِه، أي: به يَهتدون إلى أمورهم، وعن رأيه يَصدرون إلى مصالحهم.
{مَثَلُ نُورِهِ} ، أي: صفةُ نورِه العجيبة الشأن في الإضاءة، والمراد به: دلائلُه التي يَهتدي بها عباده.
{كَمِشْكَاةٍ} : كصفةِ مشكاة، وهي الكُوَّة في الجدار غيرِ النافذة.
{فِيهَا مِصْبَاحٌ} : سراجٌ ضخمٌ ثاقبٌ.
{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} في قنديلٍ من زجاجٍ شاميٍّ أَزْهَرَ.
{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} : مُضِيء، بضمِّ الدال وتشديد الياء، منسوبٌ إلى الدُّرّ لفَرْط ضيائه وصفائه.
وقرئ بالكسر والهمز
(1)
، كأنَّه يَدْرأ
(2)
الظلامَ بضوئه.
(1)
أي: {دُرِّيٌّ} ، وقرأ بها أبو عمرو والكسائي. انظر:"التيسير"(ص: 162).
(2)
كتب تحتها في (ي): "يدفع".
وقرئ بالضَّمِّ والهمز
(1)
؛ شبَّهه في زهرتِه بأحدِ
(2)
الكوكبِ الدراري، كالمشتري والزُّهَرة ونحوهما.
{يُوقَدُ} بالياء والبناء للمفعول من أَوْقَد، وقرئ بالفوقانية كذلك
(3)
على إسناده إلى {الزُّجَاجَةُ} بحذف المضاف.
وقرئ: {يُوقَدُ}
(4)
بمعنى: تتوقَّد؛ بحذف التاء لاجتماع الزيادتين.
{مِنْ شَجَرَةٍ} ؛ أي: ابتداءُ ثُقوبه
(5)
من شجرة الزيتون، يعني: رَوَيت ذُبالتُه بزيتها
(6)
.
{مُبَارَكَةٍ} : كثيرة المنافع، أو لأنَّها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين.
{زَيْتُونَةٍ} بدل من {شَجَرَةٍ} ، نعتُها:{لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} ؛ أي: لا نابتةٍ في شَرق المعمورة ولا في غربها، بل في وسطها وهو الشام، فإنَّ زيتونَها أجودُ.
أو: لا في مضحًى تُشرق الشمس عليها دائمًا فتحرِقُها، أو في مقنأة تغيبُ عنها دائمًا فتتركها نيئًا، وفي الحديث:"لا خيرَ في شجرةٍ ولا في نباتٍ في مقنأةٍ، ولا خير فيهما في مضحى"
(7)
.
(1)
أي: {دُرِّيٌّ} ، وقرأ بها حمزة وشعبة.
انظر: "التيسير"(ص: 162).
(2)
في (ف): (أحد).
و في (م): "كأحد".
(3)
قرأ بها حمزة والكسائي وشعبة.
انظر: "التيسير"(ص: 162).
(4)
قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو.
انظر: "التيسير"(ص: 162).
(5)
في (ف): "توقده".
(6)
في (ف): "بدهنها"، و في (م):"بزهرها".
(7)
انظر: "الكشاف"(3/ 241).
قال الحافظ في "الكافي الشاف"(ص: 119): لم أجده.
وقيل: أي: ليس بحيث تقع الشمسُ عليها حينًا دون حينٍ، بل بحيث تقع عليها طول النهار، كالتي تكون على قُلَّة أو صحراءَ واضحة، فإن ثمرتها تكون أنضجَ وزيتها أصفى، ويردُّه ما دلَّ عليه الحديث المذكور
(1)
من أنه لا خيرَ فيها؛ لأن إشراق الشمس عليها دائمًا يحرقها.
{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} وصف الزيت بالصفاء
(2)
والوميض، وأنَّه لتلألؤه يكاد يُضيء من غير نارٍ.
{نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي: هذا النور الذي شبِّه به الحقّ نورٌ مُتضاعف قد تناصَر فيه المشكاةُ والزجاجةُ والمصباحُ والزيتُ حتى لم يبق بقيَّةٌ ممَّا يقوِّي النور، وهذا لأنَّ المصباح إذا
(3)
كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمعَ لنوره، بخلاف المكان الواسعِ فإنَّ الضوء ينتشر فيه، والقنديل أعونُ شيءٍ على زيادة الإنارة، وكذلك الزيتُ وصفاؤه، وضَرْبُ المَثَل يكون بدنيٍّ
(4)
محسوسٍ معهودٍ لعليٍّ غيرِ معايَنٍ ولا مشهودٍ
(5)
.
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} أي: لهذا النور الثاقب {مَنْ يَشَاءُ} فإن الأسباب إنَّما تتمَّشى بمشيئته.
(1)
لو صح، لكنه لا يعرف، ولم نجد له غير "الكشاف" مصدرًا.
(2)
في (م): "بالضياء" وكلمة: "والوميض" بعدها من (ع) و (ي).
(3)
في (م): "إن".
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "بدل"، ولم تجود في (ع) و (ي). وقوله:(بدني) كأنه مِن الدنوِّ بمعنى القُرب، أي: قريب التناول للأذهان لكونه محسوسًا معهودًا؛ لأنَّ المقصود مِن التمثيل تقريب المعاني البعيدة مِن الأذهان بتشبيهها بالمعاني القريبة منها.
(5)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 507)، وفيه:(لا بعلي) بدل: (لعلي).
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} تقريبًا إلى أفهامهم وتسهيلًا لسبيل الإدراك.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيبيِّن كلَّ شيء بما حقُّه أن يُبيَّن به.
* * *
{فِي بُيُوتٍ} متعلِّق بـ (مشكاة)؛ أي: كمشكاةٍ في بعضِ بيوتِ الله تعالى وهي المساجد.
أو: بـ {توقد} أي: توقد في بُيوتٍ، فيكون تقييدًا للمُمَثَّل
(1)
به بما يكون تحبيرًا
(2)
ومبالغةً، فإن قناديل المساجد تكون أعظمَ، ولا ينافي جمعُ البيوت وحدةَ المشكاة؛ إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبارِ وحدةٍ ولا كثرةٍ.
أو: بـ {يُسَبِّحُ} ؛ أي: يُسبِّح له رجالٌ في بيوت، وفيها تكرير فيه توكيد، نحو: زيدٌ في الدار جالسٌ فيها.
(1)
في (ك): "للمثل للممثل". وفي (م): "للمثل للمثل"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب والموافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 108) والكلام منه.
(2)
كلمة "تحبيرا" من (ي)، وتحرفت في باقي النسخ إلى ألفاظ غير واضحة، وفي هامش (ك):"التحبير التزيين". وقد جاءت مع الكلمة اللاحقة في نسخ البيضاوي على وجوه، أحدها المثبت، والثاني:(لخير أو مبالغة). قال الشهاب: قوله: (بما يكون لخير) باللام والخاء المعجمة والراء المهملة في نسخة صحيحة؛ أي: قيده بما يكون معدًّا للخير وهو الطاعة والعبادة؛ لمناسبته للممثل له وهو الهداية ونحوها، وضبطه بعضهم كما في بعض النسخ:(تحبيرًا) بالحاء والراء المهملتين والباء الموحدة، يعني: تزيينًا وتحسينًا، ولا مدخل له في التمثيل، وفي أخرى:(تحيرا) و (كحيز) بمعنى محل ومقر بالمعجمة، وزاد الكاف لأنها معلقة فيه فليس حيزًا حقيقيًا لها كما قيل، وهو تكلف، قوله:(أو مبالغة فيه) وفي نسخة: (ومبالغة) بالواو، ووجه المبالغة كونها أضوءَ وأكبر، وعلى هذه النسخة يكون عطفه على ما قبله كالتفسير له ليكون له مدخل في التمثيل.
أو: بمحذوف؛ أي: سبّحوا في بيوت، والمراد بها المساجد؛ لأن الصفة تلائمها.
{أَذِنَ اللَّهُ} أي: أَمَرَ {أَنْ تُرْفَعَ} بالبناء أو التعظيم {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} عامٌّ لِمَا يتضمَّن ذِكْرَه، حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} قال ابنُ عباس: كلُّ تسبيحٍ في القرآن صلاةٌ
(1)
. أي: يُصلِّي له فيها بالغداة صلاةَ الفجر، وبالآصال سائرَ الصلوات، ولهذا وحّد الغدوّ، وجمع قرينه.
والأصيلُ في الأصل: الوقتُ الذي بعد العصر إلى المغرب، صرَّح به الجوهريُّ
(2)
وصدر الأفاضل، وجمعه: أُصُل وآصَال؛ فمَن قال: والآصال جمع أصيل، وهو العشيُّ، فقد أخطأ مرَّتين.
وقرئ: (والإيصال)
(3)
، وهو الدخول في الأصيل.
* * *
وقرئ: {يُسبَّح} بالفتح
(4)
، على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة، ورفع {رِجَالٌ} بما يدلُّ عليه {يسبَّح} .
(1)
رواه الطبري في "التفسير"(17/ 320)، والضياء المقدسي في "المختارة"(335).
(2)
انظر: "الصحاح"(مادة: أصل).
(3)
قرأ بها أبو مجلز. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 102)، و"المحتسب"(2/ 113).
(4)
قرأ بها ابن عامر وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 162).
وقرئ بالتاء مكسورًا
(1)
؛ لتأنيث الجمع، ومفتوحًا
(2)
؛ على إسناده إلى أوقات الغدوِّ.
وإنَّما خصَّ الرجالُ بالذِّكر؛ إذ ليس على النساء والصبيان الحضورُ في المساجد.
{لَا تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم {تِجَارَةٌ} ؛ أي: بالسفر {وَلَا بَيْعٌ} ؛ أي: في الحَضَر، وحملناهما على هذين ليكون لزيادةِ إفادةٍ لا لمجرَّد إعادةٍ.
{عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ؛ أي: خارجَ الصلاة {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} ؛ أي: وعن إقامة الصلاة، التاء في (إقامة) عوضٌ من العين الساقط للإعلال، إذ الأصل: إقوام، فلمَّا قُلبت الواوُ ألفًا اجتمع ألفان، فحُذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي
(3)
: إقامًا، فأدخلت التاء عوضًا عن المحذوف، فلمَّا أضيفت أُقيمت الإضافةُ مقام التاءِ فأُسقطت.
{وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} يعني: أنَّهم يَسلكون سبلَ الكسبِ ولكن
(4)
إذا حضر حقُّ اللهِ تعالى أو حقُّ عبادِه بدؤوا به.
{يَخَافُونَ} حال من الضمير في {تُلْهِيهِمْ} ، أو صفة أخرى لـ {رِجَالٌ} .
{يَوْمًا} : يوم القيامة؛ أي: الحاملُ لهم على إقامة هذه الأشياء خوفُ القيامة.
{تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} لبلوغها إلى الحناجر {وَالْأَبْصَارُ} بالشُّخوص والزُّرْقة
(5)
.
(1)
أي: (تُسبِّح)، نسبت لأبي حيوة وابن وثاب. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 102).
(2)
نسبت لأبي جعفر في غير المشهور عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 102).
(3)
في (م): "فيبقى".
(4)
في (م): "لكن".
(5)
في (ك) لعلها: (والدرمة)، وفي (ع):"للذرفة".
أو: تتقلَّب القلوبُ إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصارُ إلى العيان بعد إنكاره للطغيان، كقوله:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].
* * *
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} متعلِّق بـ {يُسَبِّحُ} أو: {لَا تُلْهِيهِمْ} أو: بـ {يَخَافُونَ} .
{أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} وأدناه المندوبُ، واحترز بالأحسن عن الحسن وهو المباح؛ إذ لا جزاء له.
{وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ؛ أي: يزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضُّلًا.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ} : يُثيب {مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ثوابًا لا يَدخل في حسابِ الخلق، تقريرٌ للزيادة، وتنبيهٌ على كمال القدرة، ونفاذِ المشيئة، وَسَعة الإحسان.
* * *
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} ؛ أي: الذين كفروا حالهم على ضدِّ ذلك، فإن أعمالهم التي يظنُّونها صالحةً نافعة عند الله، يَجدونها لاغيةً مخيِّبةً في العاقبة كالسراب، وهو ما
(1)
يُرى في الفَلَاة من لمعانِ الشمس عليها وقت الظهيرة يَسرب على وجه الأرض كأنَّه ماءٌ يجري.
(1)
في (ك): "ماء".
{بِقِيعَةٍ} بمعنى القاع، أو جمعُ قاعٍ، وهو المنبسِطُ المستوي من الأرضِ كجيرةٍ في جارٍ.
{يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} الظمأ: شدَّة العطش {مَاءً} التشبيهُ في شدَّة الخيبة عند مسيسِ الحاجة.
{حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} : إذا جاء إلى ما توهَّم أنه ماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} نافعًا، يقال: هذا ليس بشيءٍ، يُراد به نفيُ نفعِه، هذا إذا كان المعنى: إذا جاء السرابَ.
وأمَّا إذا كان المعنى: إذا جاء موضعَه، فمعنى {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}: لم يجد في ذلك الموضع شيئًا كان يَتراءى له؛ لأنَّه لا يرى ذلك إذا حضر
(1)
، وكذلك الكافر إذا قدِم يوم القيامة على أعماله التي هي خيراتٌ عنده، لم يجدها نافعةً، أو لا يراها؛ لأنها صارت هباءً منبثًّا.
{وَوَجَدَ اللَّهَ} أي: وجد عقابَ الله {عِنْدَهُ} ؛ أي: تبطُل حسناته ويبقَى عقابُ سيئاته معدًّا له عند قدومه.
{فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ؛ أي: أعطاه جزاءَ عمله وافيًا كاملًا.
وحَّد بعد تقدم [الجمع] حملًا على كلِّ واحد من الكفار
(2)
.
{وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لأنَّه لا يحتاج إلى عدٍّ
(3)
وعقد، ولا يشغله حسابٌ عن حسابٍ.
(1)
في (ك) و (م): "حضروا".
(2)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 509)، و"البحر"(16/ 100)، وما بين معكوفتين منهما. وعبارة "البحر":(وأَفرَد الضَّميرَ في {وَوَجَدَ} بعد تقدُّم الجمع حملًا .. )، وعبارة النسفى:(وحد بعد الجمع حملًا .. ).
(3)
في (ف) و (ك): "عدد".
قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ} عطف على ما تقدَّم من التمثيل على سبيل العطف على المعنى، ومَن غفل عن هذا زعم أنه من تتمَّة التمثيل، فتعسَّف في توجيهه.
* * *
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} {أَوْ} هنا كـ (أو) في {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19].
وما قيل: {أَوْ} للتنويع؛ فإنَّ أعمالهم إن كانت صالحةً فكالسراب، وإن كانت قبيحةً فكالظلمات = يردُّه قوله:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} لأن الأعمال الصالحة وإن لم تكن نافعة مع الكفر، لا يكون في عاقبتها وخامةٌ.
{لُجِّيٍّ} : عميقٍ كثيرِ الماء، منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظم الماء.
{يَغْشَاهُ} : يغشى البحرَ، أو من فيه؛ أي: يعلوه ويغطِّيه.
{مَوْجٌ} هو ما ارتفع من الماء.
{مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} ؛ أي: من فوق الموجِ موجٌ آخرُ.
{مِنْ فَوْقِهِ} ؛ أي: من فوق الموجِ الأعلى {سَحَابٌ} غطَّى النجوم وحَجَب أنوارها. والجملة صفة أخرى لـ {بَحْرٍ}
(1)
.
{ظُلُمَاتٌ} ؛ أي: هذه ظلماتٌ
(2)
{بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} : ظلمةُ الموج على ظلمةِ البحر، وظلمةُ الموج على الموج، وظلمةُ السحاب على الموج.
(1)
في (م): "صفة آخر للبحر".
(2)
في (م): "الظلمات".
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} أقربَ ما تُرى إليه {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرُب أن يراها، فضلًا عن أن يراها، والضمائر للواقع في البحر وإن لم يَجْرِ ذِكْره
(1)
؛ لدلالة المعنى عليه.
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} أي: مَن لم يَهدهِ اللهُ لم يَهتدِ، عن الزجَّاج
(2)
، في الحديث:"خَلقَ اللهُ الخلقَ في ظلمةٍ، ثم رَشَّ عليه من نورِه؛ فمَن أصابه من ذلك النورِ اهتدى، ومن أَخطأه ضَلَّ"
(3)
.
* * *
{أَلَمْ تَرَ} : أَلم تَعلم علمًا يقوم مقام العيَان في الإيقان
(4)
{أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ} ينزِّه ذاتَه عن كلِّ نقص وآفَةٍ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} و {مَنْ} لإسناد التسبيح، فلا حاجة إلى التغليب هنا وفي {يَفْعَلُونَ} ، أو أُريد به الملائكة والثقلان.
{وَالطَّيْرُ} على الأول تخصيصٌ؛ لِمَا فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر، ولذلك قيَّدها بقوله:
{صَافَّاتٍ} فإنَّ إعطاءَ الأجرام الثقيلة ما به تَقْوَى على الوقوف في الجوِّ صافَّةً
(1)
في (ك): "يجر له ذكر".
(2)
في "معاني القرآن" له (4/ 48).
(3)
رواه الترمذي (2642)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسَّنه.
(4)
في (ك): "الإتقان".
باسطةً أجنحتها لِمَا فيها من القبض والبسط حجَّة قاطعة
(1)
على كمال قدرة الصانع ولُطفِ تدبيره
(2)
.
{كُلٌّ} : كلُّ واحد ممَّا ذكر أو من الطير {قَدْ عَلِمَ} الضميرُ لـ {كُلٌّ} ، وكذا في:{صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} .
ولا يَبعد أن يُلهم اللهُ الطيرَ دعاءَه وتسبيحه كما أَلهمه سائر
(3)
العلوم الدقيقة التي لا يَكاد العقلاءُ يهتدون إليه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الصلاة والتسبيح وغيرِهما.
* * *
(42) - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا شريكَ له فيه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} مرجِعُ الكلِّ، وإنَّما عدل عن الضمير تفخيمًا.
* * *
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} معنى {يُزْجِي} : يَسوق
(4)
قليلًا قليلًا، ويُستعمل في
(1)
في (ك): "ناطقة".
(2)
في (م): "تدابيره".
(3)
في (ف) و (ك): "أنهم سائر"، وفي (م):"ألهمها بسائر".
(4)
في (ف): "ينشئ"، ولم ترد الكلمة في (ك).
سوق الثقيل برفقٍ، كالسحاب والإبل، والسحاب: اسمُ جنسٍ، واحده: سحابة، والمعنى: يَسوق سحابةً إلى سحابةٍ.
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} تذكيره للَّفظ؛ أي: يضمُّ بعضه إلى بعض.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} : متراكِمًا بعضُه فوقَ بعض.
{فَتَرَى الْوَدْقَ} : المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} : من فُتُوحه، جمع خَلَلٍ، كجبال في جبل.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} ماءً من الغمام، وكلُّ ما علاكَ فهو سماء.
{مِنْ جِبَالٍ فِيهَا} : من قِطَعٍ عظامٍ تشبه الجبال مِن عِظَمها.
{مِنْ بَرَدٍ} بيانٌ للجبال، والمفعول محذوف؛ أي: يُنزِّل مبتدئًا من السماء من الجبال فيها من بَرَدٍ بَرَدًا.
ويجوز أن تكون (مِن) الثانيةُ أو الثالثةُ للتبعيض واقعةً موقعَ المفعول.
{فَيُصِيبُ بِهِ} بالبَرَد {مَنْ يَشَاءُ} فيضرُّه في نفسه أو في زرعه، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} فلا يُصيبه.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} : ضوؤُه
(1)
{يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} بأبصار الناظرينَ إليه من فَرْطِ الإضاءة، وذلك أقوى دليلٍ على كمال القدرة من حيث إنه توليد الضِّدِّ من الضِّدَّ.
وقرئ: {يَذْهَبُ} على زيادة الباء
(2)
.
* * *
(1)
أي: ضوء برقه.
(2)
قرأ أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 332).
(44) - {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} .
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالمعاقبة بينهما، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : فيما تقدَّم ذكره {لَعِبْرَةً} : لدلالةً على جود الصانع القادر العليم.
وللتنبيه على وضوح الدلالة قال: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} دون: لأولي البصائر. ثم بيَّن دليلًا آخر فقال:
* * *
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} : حيوانٍ يدبُّ على وجه الأرض، وقرئ:{خالقُ كلِّ دابَّةٍ} بالإضافة
(1)
.
قال الراغب: والدبيبُ
(2)
أصلُه: حكايةُ صوتِ حركة المشي، ثم قيل: دبَّ، إذا مشى، ويقال لكل ما يمشي: دابَّة، ثم خُصَّ الفرس
(3)
.
{مِنْ مَاءٍ} هو جزءُ مادَّته وسببُ حياته، على ما أشير إليه في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
وقيل: من ماء مخصوصٍ وهو النطفة، ولا يلزم حينئذٍ أن يُرتكب إلى ادِّعاء الغَلَبة في المخلوق من النطفة، وتنزيلِ الغالبِ منزلةَ الكُلِّ؛ لجواز أن يُراد بالدابَّة ما
(1)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 134).
(2)
في (ف) و (ك): "في الدبيب"، وسقطت من (ي). والمثبت موافق للمصدر.
(3)
انظر: "تفسير الراغب"(1/ 360).
يُخلَق بالتوالُد بقرينة {مِنْ مَاءٍ} ؛ أي: من نطفة، كما أريد من الشيء في قوله تعالى:{مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ما به الحياةُ بقرينة {حَيٍّ}
(1)
.
{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحيَّة والحوت، يُسمَّى الزحفُ مشيًا؛ استعارة، لقيامه مقام الشيء، وليس هذا من قَبيل ذكر المقيَّد وإرادة المطلق، كما إذا ذكر المِشْفَر وأُريد به الشَّفَة مطلقًا؛ لأن خصوصية الزحف مقصودة
(2)
، والمشاكلة البديعية طريقةٌ أخرى لا يُصار إليها عند صحَّة الاستعارة البيانيَّة
(3)
.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنس والطير.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالنَّعم والوَحْش. قيل: ويندرج فيه ما له أكثرُ من أربعٍ كالعناكب؛ فإن اعتمادها إذا مشت على أربعٍ. ولا يخفى ما فيه من التعسُّف.
وتذكير الضمير لتغليب العقلاء، والتعبيرُ بـ (مَن) عن الأوصاف ليوافق التفصيلُ الجملةَ.
قيل: قدّم ما هو أعرفُ
(4)
...................................................
(1)
في هامش (ف) و (م): "ولا من قبيل قولهم: شقَّ هذا الأمر. منه".
(2)
في (م): "مقصور".
(3)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "المشي هو النقلة بالخطوة لا مطلق النقلة كما هو الظاهر من قول الجوهري: زحف إليه زحفًا مشى، وقد يستعار الزحف للمشي على عكس ما ذكر، وعليه نبَّه الزمخشريُ، قال في "الأساس": زحف العسكر إلى القوم، إذا مشوا إليهم للنقل في شركتهم.
(4)
في (ع) و (ك): "أعرق"، والمثبت من باقي النسخ، وكلاهما في نسخ "البيضاوي" و"الكشاف"، وزيد في "البيضاوي" ثالث وهو:(أغرب). قال الشهاب: (أعرف في القدرة)؛ أي: أعظم ما تعرف به القدرة الإلهية، وفي نسخة:(أغرب) من الغرابة، وفي أخرى:(أعرق) من العراقة، وهي الأصالة =
بالقدرة، وهو الماشي بغير آلةِ مشي، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربعٍ.
وفيه نظرٌ؛ لأن مبناهُ الغفولُ عن أنَّ المشي في الأول مستعارٌ للزحف.
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء.
* * *
(46) - {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} للحقائق بأنواع الدلائل {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بالتوفيق للنظر فيها والتدبُّر لمعانيها {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو دينُ الإسلام الذي يُوصِل إلى جنته، والآياتُ لإلزام حجته.
لمَّا ذَكر إنزال الآيات ذَكر بعدها افتراقَ الناس إلى ثلاث فرق:
فرقة صدَّقت ظاهرًا وكذَّبت باطنًا وهم المنافقون.
وفرقة صدَّقت ظاهرًا وباطنًا وهم المخلصون.
وفرقة كذَّبت ظاهرًا وباطنًا وهم الكافرون، على هذا الترتيب، فبدأ بالمنافقين فقال:
= لمشيه بغير آلة.
أما "الكشاف" ففي مطبوعه: (أعرق) بالقاف، ومثله عند النسفي، وعند الطيبي:(أعرف) بالفاء.
انظر: "الكشاف"(3/ 247)، و"فتوح الغيب"(11/ 120)، و"تفسير النسفي"(2/ 512)، و"حاشية الشهاب"(6/ 393).
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} بألسنتهم {وَأَطَعْنَا} الله والرسولَ {ثُمَّ يَتَوَلَّى} ؛ أي: يُعرِض عنهما، فإن الإعراضَ عن الرسول عليه الصلاة والسلام بعدم إطاعته في أوامره إعراضٌ عنه تعالى {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: بعد قولهم هذا.
وفائدةُ (ثم) الاستبعاد؛ إظهارًا لقُبح صنيعهم.
{وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} الإشارة إلى القائلين بأَسرهم، فيكون إعلامًا من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم يؤمنوا بقلوبهم، لاشتراكهم في فساد الاعتقاد وظهور الإعراض، وإن كان من بعضهم فالرضا به من كلِّهم.
أو إلى الفريق المذكور خاصةً، وإنما أتى بالواو دون الفاء؛ لأن عدم إيمانهم ليس لتولِّيهم، بل الأمر بالعكس، والتعريف للدلالة على أنَّهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرَفْتَهم
(1)
، وهم المخلصون في الإيمان أو الثابتون
(2)
عليه.
ومرجعُ العهد إلى وصف الإيمان الخالص، ولِمَا فيه من التنصيص على نفي ذلك الوصفِ عنهم لم يقل: وما أولئك من المؤمنين؛ لِمَا فيه من احتمالِ أن يرجع العهد إلى الموصوفين به، إذ لا يلزم من عدم كونهم من المعروفين بذلك الوصفِ أن لا يكون موصوفًا به أصلًا.
* * *
(48) - {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} .
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الدعوة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وذِكْرُ الله
(1)
في هامش (ف): "يعني أن التعريف للعهد لا للجنس لأنهم من جنس المؤمنين. منه".
(2)
في (ف) و (ك): "والثابتون".
تمهيدٌ لتعظيم دعوته وإظهارِ مكانته، وليس هذا طريقةَ الإبدال
(1)
.
{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ؛ أي: ليَحكم الرسولُ عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه الحاكم ظاهرًا، وإنما لم يقل: ليَحكم عليهم، إشعارًا بأن إعراضَهم غيرُ مخصوصٍ بصورة الظَّنِّ بالحكم عليهم، بل شاملٌ لصورة الشَّكِّ، فشأنهم الإعراضُ فيما إذا اشتَبه الأمر حالًا وإن كان الحكم لهم مآلًا.
ومَن غَفَلَ عن هذا الاعتبار اللطيفِ قال في تفسير
(2)
قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} : فأجأ فريقٌ منهم الإعراضَ إذا كان الحقُّ عليهم؛ لعلمهم بأنك لا تَحكُم لهم، وهو شرح للتولِّي ومبالغةٌ فيه.
ولم يَدْرِ أن شرحَه على وجه أبلغَ فيما ذكرناه لا فيما ذكره.
* * *
(49) - {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} .
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} ؛ أي: الحكم في اعتقادهم {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} طلبًا لحقِّهم لا رضًى بحُكم رسولهم، قال الزجَّاج: الإذعانُ: الإسراعُ مع الطاعة، فباعتبار ما في الإسراع من معنى الإتيان يجوز أن يكون (إلى) صلةً لـ {مُذْعِنِينَ} ، ويكون تقديمه للاختصاص ومحافظةِ الفواصل.
* * *
(1)
نُسب الإبدال للزمخشري لقوله: (معنى {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد: كرم زيد). فتوهموا من إسقاط المعطوف عليه في التفسير أنّ المعطوف هو المقصود بالنسبة، وهذا شأن البدل، وما نحن فيه طريقة أخرى، فاعترض عليه
…
انظر بحث المسألة في "حاشية الشهاب"(6/ 394).
(2)
في (م): "تفسيره". والمراد من الكلام البيضاوي.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ} الحَيْفُ: الجَور بنَقْصِ الحقِّ {عَلَيْهِمْ} .
إنما قدَّم صلةَ الحيف على قوله: {وَرَسُولُهُ} ؛ إظهارًا بأنه على تقدير وقوعِه يكون من الله - تعالى شأنه عمَّا يقولُ الظالمون - ولا يكون فيه دَخْل للرسول؛ لأنَّه مُظهِر لا مُثبِت.
قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا
(1)
لم يعتقدوا أن الحُكم لهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين بأن رأوا منك تُهَمةً فزالت ثقتُهم ويقينُهم بك، أو خائفينَ الحيفَ في قضائه.
ووجهُ التقسيم: أن امتناعهم إمَّا لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محقَّقًا عندهم أو متوقَّعًا، وكلاهما باطل؛ لأن منصب نبوَّته وفَرْطَ أمانته يَمنعه، فتعيَّن الأول، فلذلك أضرب بقوله:
{بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} عن القسمين الآخرين لتحقيق
(2)
القسم الأول.
وظلمُهم يعمُّ خَلَلَ عقيدتهم، وميلَ نفوسهم إلى الحيف، يريدون أن يَظلموا مَن له الحقُّ عليهم، وذلك شيءٌ لا يستطيعونه في مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمِن ثَمَّ يَأبَون المحاكمة إليه، هذا ما أدَّى إليه النظرُ الجليل.
(1)
في (ف): "إن".
(2)
في (ع) و (م): "لتحقق".
والذي أدَّى إليه النظرُ الدقيقُ: هو أنه إضراب عن نفس التقسيم، يعني: دَعِ التقسيمَ فإنَّهم هم الكاملون في الظُّلم الجامعون لتلك الأوصاف
(1)
على الكمال، فلذلك صدُّوا عن حكومتك، يدلُّ على ذلك اسمُ الإشارة، والتعريفُ بلام الجنس، وتوسيطُ ضميرِ الفصل، والفصلُ لنفي ذلك عن غيرهم، سيَّما المدعوُّ إلى حكمه.
نزلت في بشرٍ المنافقِ وخصمِه اليهوديِّ حين اختصما في الأرض، فجعل اليهوديُّ يجرُّه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمنافقُ إلى كعبِ بنِ الأَشرف، ويقول: إنَّ محمدًا يَحيفُ علينا
(2)
.
* * *
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} على عادته تعالى في اتِّباع ذكر المحقِّ المُبطِل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكارِه لِما لا ينبغي.
قرئ {قول} بالرفع والنصب
(3)
، والنصب أقوى؛ لأنَّ أَولى الاسمين بكونه اسمًا لـ {كَانَ} أَو غلُهما في التعريف.
(1)
في (ف): "الصفات".
(2)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 327)، و"الكشاف" (3/ 248). ورواه الطبري في "التفسير" (7/ 193 - 194) عن مجاهد في سبب نزول قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]، وكذا رواه الواحديُ في أسباب النزول (ص: 161)، عن قتادة والشعبي، وعن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.
(3)
قرأ الجمهور بالنصب، ونسب الرفع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 103)، و"المحتسب"(2/ 115).
{إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الرسولُ، وقرئ على البناء للمفعول
(1)
، وإسناده إلى ضمير مصدرِه على معنى: ليُفعَل الحكمُ.
{بَيْنَهُمْ} بحُكم الله الذي أُنزل عليه.
{أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} قولَه {وَأَطَعْنَا} أمرَه {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : الفائزون.
* * *
(52) - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي {وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما مضى من ذنوبِه {وَيَتَّقْهِ} فيما يستقبل {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} بالنعيم المقيم.
* * *
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ؛ أي: حَلَفَ المنافقون بالله، وهو جهدُ اليمين لأنهم بذلوا فيها مجهودَهم، وجَهَدَ يمينَه مستعار من: جَهَدَ نفسَه، إذا بلغ أقصى وُسْعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غايةَ شدَّتها ووكادتها، وأصل: أَقْسَم جهدَ اليمين، أَقسم يَجْهدُ
(2)
اليمينَ جَهْدًا، فحذف الفعل، وقدَّم المصدر فوضع موضعَه مضافًا إلى المفعول، كقوله:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وحُكم هذا المنصوب حُكم الحالِ، كأنَّه قال: جاهدين أيمانَهم.
(1)
أي: {لِيَحْكُمَ} ، وقرأ بها أبو جعفر من العشرة. انظر:"النشر"(2/ 227).
(2)
في (م): "جهد"، وفي (ع) و (ك) و (ي):"بجهد"، والمثبت من (ف)، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 250).
{لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} بالخروج عن ديارِهم وأموالهم {لَيَخْرُجُنَّ} جوابُ لـ {وَأَقْسَمُوا} على الحكاية.
{قُلْ لَا تُقْسِمُوا} على الكذب.
{طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} للنبيِّ عليه الصلاة والسلام خيرٌ مِن قَسَمِكم الذي لا تَصدُقون فيه ولا تُصدَّقون، أو: الذي يُطلَب منكم طاعةٌ معروفة لا اليمينُ للطاعة النفاقيَّة المُنكَرة، أو: ليكن طاعةٌ، وقرئت بالنصب
(1)
، على أطيعوا طاعةً.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : يَعلم ما في ضمائرِكم، ولا يخفى عليه شيءٌ من سرائركم.
* * *
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أمرٌ بتبليغ ما خاطبَهم اللهُ تعالى به على الحكاية مبالغةً في تبكيتهم.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} : على الرسول {مَا حُمِّلَ} من التبليغ {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من الامتثال.
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ} في أمره ونهيه {تَهْتَدُوا} إلى الحقِّ.
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وقد أدَّى، وإنما بقي ما حُمّلتُم، فإن أدَّيتم فلكم، وإلَّا فعليكم.
(1)
نسبت لليزيدي. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 103).
البلاغ بمعنى التبليغ، كالأداء بمعنى التأدية، و {الْمُبِينُ}: الظاهر؛ لكونه مقرونًا بالآيات والمعجزات، ثم ذكر المُخلصين، فقال:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخطاب للنبيِّ عليه الصلاة والسلام والأمَّة، أو له ولمن معه، و (مِن) للبيان.
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} : ليجعلنَّهم خَلَفًا متصرِّفين في الأرض تصرُّف الملوك في ممالكهم، وهو جواب قَسَمٍ مُضمَر، تقديره: وَعَدهم اللهُ وأقسم ليستخلفنهم
(1)
، أو الوعدُ في تحقُّقه منزَّلٌ منزلةَ القَسَم.
{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: بني إسرائيل في مصر والشام بعد الجبابرة.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت.
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الأعداء {أَمْنًا} منهم، لغَلَبتهم عليهم، كان رسولُ الله عليه السلام وأصحابُه رضي الله عنهم مَكَثوا بمكَّة عَشْرَ سنينَ خائفينَ، ثم هاجروا إلى المدينة، فكانوا يُصبحون في السلاح ويُمسون فيه، حتى أنجز اللهُ تعالى وعدَه، فأَظهرهم اللهُ على العرب كلِّهم وفتح عليهم بلادَ الشرق والغرب
(2)
.
(1)
في (ف) و (ك): "وعدهم وأقسم".
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(17/ 348) عن أبي العالية، وانظر:"تفسير القرطبي"(15/ 321).
{يَعْبُدُونَنِي} حالٌ من {الَّذِينَ} لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن.
{لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} حالٌ من (الواو)؛ أي: يعبدونني غيرَ مشركين، ويجوز أن يكون حالًا بدلًا من الحالِ الأولى.
{وَمَنْ كَفَرَ} : ومَن ارتدَّ أو كفر هذه النعمةَ {بَعْدَ ذَلِكَ} : بعد الوعد، أو بعد حصول الخلافة.
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} : الكاملون في فسقهم، حيث كفروا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا بتلك النعمةِ العظيمة.
* * *
(56) -) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في سائر التكاليف الشرعيَّة بالأوامر والنواهي.
ولا يَبعد عطف ذلك على {أَطِيعُوا اللَّهَ} فإنَّ الفاصلَ وعدٌ على المأمورِ به، فيكون تكريرُ الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وتعليق الرحمة به أو بالمندرجة هي فيه بقوله:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} كما علِّق به الهدى.
* * *
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: فائتينَ اللهَ تعالى، بأنْ لا يَقدر عليهم فيها، فالتاء خطابٌ للنبيّ عليه الصلاة والسلام وهو الفاعل، والمفعولان {الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ} .
وقرئ بالياء
(1)
، والفاعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام؛ لتقدُّم ذِكْره، والمفعولان ما ذكر آنفًا.
{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} عطف عليه من حيث المعنى، كأنه قيل: الذين كفروا ليسوا بمعجزينَ ومأواهم النارُ؛ لأن المقصودَ من النهي عن الحُسْبان تحقيقُ نفي الإعجاز.
{وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : المأوى الذي تصيرون إليه.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} رجوعٌ إلى تتمَّة الأحكام السالفة بعد الفراغِ عن الآيات الدالَّة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره، والوعدِ عليها، والوعيدِ على الإعراض عنها، والمراد به خطابُ الرجال والنساء، غلِّب فيه الرجالُ؛ لما روي: أنَّ غلامَ أسماء بنتِ أبي مَرْثَد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت
(2)
.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} : والصبيانُ الذين لم يَبلغوا، فكنَّى عن البلوغ إلى حدِّ الرجوليَّة ببلوغ الحُلُم؛ أي: الاحتلام؛ لأنَّه أقوى دلائله.
{مِنْكُمْ} : من الأحرار {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} في اليوم والليلة:
(1)
قرأ بها ابن عامر وحمزة. انظر: "التيسير"(ص: 163).
(2)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 329) عن مقاتل.
{مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} لأنَّه وقتُ القيام من المضاجع وطَرْحِ ما يُنام فيه من الثياب ولُبْسِ ثياب اليقظة، ومحلُّه النصبُ بدلًا من {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ، أو الرفعُ خبرًا لمحذوف؛ أي: هي من قبلِ صلاة الفجر.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} بيانٌ للحينِ، وهي نصفُ النهار في القَيْظ؛ فإنها وضعُ الثياب للقيلولة.
{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} لأنَّه وقت التجرُّد من ثياب اليقظة، والالتحافِ بثياب النوم.
{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي: هذه الثلاثُ أوقاتٌ يختلُّ فيها تستُّركم
(1)
، ويجوز أن يكون مبتدأً وما بعده خبره، وقرئ بالنصب
(2)
بدلًا عن {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} .
وأصلُ العورةِ: الخللُ، ومنها الأعور: المختلُّ العين، دخل غلامٌ من الأنصار على عمرَ رضي الله عنه وقتَ الظهيرة وهو نائم وقد انكشفَ عنه ثوبُه، فقال عمرُ رضي الله عنه: وَدِدتُ أنَّ اللهَ تعالى نَهَى عن الدُّخول في هذه الساعات إلَّا بإذنٍ، فانطلق إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام وقد نزلت عليه الآية
(3)
.
ثم عَذَرهم في ترك الاستئذان وراءَ هذه المرَّات بقوله:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} وإنما نفى الحرجَ عن الطرفين؛ لأنَّ الحرمةَ في
(1)
في (م): "ستركم".
(2)
قرأ بها حمزة والكسائي وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 163).
(3)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(7/ 116) عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن منده كما في "الإصابة" لابن حجر (6/ 50)، من طريق السديّ الصغير، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وقت الحرمة مِن الطرفين، ومن هنا تبيَّن أنَّ الأمر
(1)
بالاستئذان في حقِّ المماليك والصبيان تضمَّن الأمرَ بالاحتياط في حقِّ المخاطَبِين.
{بَعْدَهُنَّ} بعدَ هذه الأوقاتِ في تَرْكِ الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آيةَ الاستئذان فيَنسَخَها؛ لأنَّه في الصبيان والمماليك المدخول عليه، وتلك في الأحرار البالغين ومماليك الغير.
وأمَّا ما قيل: هذا ممَّا الناسُ منه في غفلةٍ، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة، فمنشؤه الغفلةُ عمَّا حكاه المهدويُّ عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أنَّ ذلك كان واجبًا، إذ كانوا لا غَلَقَ لهم ولا أبواب
(2)
، ولو عاد الحال لعاد الوجوب
(3)
.
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} : هم طوَّافون، استئنافٌ ببيان العذر المرخِّص في ترك الاستئذان، وهو شدَّة المخالطة وكثرةُ المداخلة، وفيه وفي الفرق بين الأوقاتِ الثلاثة وغيرِها بأنها عوراتٌ دليل على تعليل الأحكام.
{بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بعضكم طائفٌ على بعضٍ، أو: يطوف بعضُكم على بعض، والجملة مؤكِّدة لِمَا قبلها، ويجوز أن يكون بدلًا منه، يعني: لا بدَّ لهم من ذلك للخدمة، فلو جزم بالاستئذان في كلِّ وقت لأفضى إلى الحرج.
{كَذَلِكَ} : مثلَ ذلك التبيين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أراد بالآياتِ عللَ الأحكام،
(1)
في (ف) و (ك): "المراد".
(2)
رواه أبو داود (5192).
(3)
في هامش (ف) و (م): "قال القرطبي: بل حكمها اليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى. منه". وانظر: "المحرر الوجيز"(4/ 194)، و"تفسير القرطبي"(15/ 329).
يعني
(1)
: كما يبيِّنُ لكم علَّة الاستئذان يبيِّنُ العللَ في غيره من الأحكام التعليلية عند الحاجة إليه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} بمصالح عبادِه {حَكِيمٌ} في بيان مرادِه.
* * *
{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} من الأحرار دون المماليك {الْحُلُمَ} : الاحتلامَ، كناية عن بلوغهم حدَّ الرجوليَّة؛ أي: إذا بلغوا وأرادوا الدخولَ عليكم.
{فَلْيَسْتَأْذِنُوا} في جميع الأوقات {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أي: الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم، وهم الكبار من الأحرار، والذين ذُكروا مِن قبلهم في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآية، والمعنى: أن الأطفال مأذونٌ لهم في الدخول بغير إذنٍ إلَّا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفالُ ذلك ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسِّنِّ، وجب أن يُفطَموا عن تلك العادة، ويُحمَلوا على أن يَستأذنوا في جميع الأوقات كالكبار من الأحرار الذين لم يَعتادوا الدخولَ عليكم إلا بالإذن.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كرَّره تأكيدًا ومبالغةً في الأمر بالاستئذان.
* * *
(1)
"يعني" سقط من (م).
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} : العجائزُ اللاتي قعدنَ عن الحيض والحمل لكِبَرهنَّ؛ فقعودُهنَّ
(1)
كناية عن اليَأْس عن التماسِ الناس
(2)
، فالتوصيف بقوله:{اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} : لا يَطمعن فيه، لتقرير هذا المعنى وتأكيده.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} : إِثْمٌ، ودخلت الفاء لما في المبتدأ مِن معنى الشرط بسبب اللام
(3)
.
{أَنْ يَضَعْنَ} : في أن يضعن {ثِيَابَهُنَّ} أي: الظاهرةَ كالمِلْحَفة والجلباب الذي فوق الخمار.
{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي: غيرَ مُظهِراتٍ زينةً، يريد الزينة التي أَمَر بإخفائها في قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية، أي: لا يَقصدن بوضعها التبرُّجَ ولكن التخفُّف، وحقيقة التبرُّج: التكلُّف في إظهار ما يَخفَى، من قولهم: سفينة
(4)
بارِجَة: لا غطاءَ عليها، إلَّا أنَّ الذي خُصَّ بتكشيف المرأة زينتُها ومحاسنُها للرجال.
{وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} ؛ أي: يَطلبنَ العفَّة عن وضع الثياب فيسترن {خَيْرٌ لَهُنَّ} من وضعها؛ لأنَّه أبعدُ من التُّهَمة.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لمقالتهنَّ للرجال {عَلِيمٌ} بمقاصدهنَّ.
(1)
في (ف) و (ي): "قعودهن".
(2)
في (ف) و (ك): "عن اليأس عن الناس"، وفي (ي):"عن التماس الناس"، والمثبت من (م) و (ع).
(3)
يعني: "ال" التي في "القواعد"، أي: الفاء إما لأن (ال) موصولة بمعنى اللاتي، وإما لأنها موصوفة بالموصول. انظر:"روح المعاني"(18/ 474).
(4)
في (ف): "سقيفة".
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قال سعيد بنُ المسيِّب: كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَضَعوا مفاتيحَ بيوتِهم عند الأعمى والأعرج والمريض، وعند أقارِبهم، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، وكانوا يتحرَّجون عن ذلك، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفسُهم بذلك طيِّبَةً، فنزلت الآيةُ رخصةً له
(1)
.
{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} هذا على ظاهره، ولم يُرَدْ به بيانُ الحكم فيه، بل إظهارُ التسويةِ بينه وبين قرنائه، كقوله تعالى:{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [آل عمران: 46].
{أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} لم يذكر بيوتَ الأولاد؛ إحالةً لحالها على الدلالة.
{أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ
(1)
رواه الواحدي في "أسباب النزول"(ص: 330)، وروى نحوه البزار (2241 - كشف) من حديث عائشة رضي الله عنها، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 84).
أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} لأنَّ الإذنَ مِن هؤلاء ثابتٌ دلالةً.
{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} جمع: مِفْتَحٍ، وهو ما يُفتَح به الغلق، وأُريد بملكه: كونه في يده وحفظِه، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: هو وكيلُ الرجل وقيِّمه في ضيعته وماشيته
(1)
، له أن يَأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبنِ ماشيته
(2)
.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} : أو بيوتِ صديقكم، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط، وكان الرجل من السَّلَف يَدخل دارَ صديقه وهو غائب، ويسأل جاريته كيسَهُ، فيأخذ ما شاء، فإذا حَضَرَ مولاها أَعتقها سرورًا بذلك، فأمَّا الآن فقد غَلب الشُّحُّ على الناس فلا يوجد صديق حكمُه هذا، لا أنه يوجد ويتخلَّف عنه الحُكم بغَلَبة الشُحِّ
(3)
، وكأنْ لنُّدرة وجودِه عَدَل فيه عن صيغة الجمع.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} : مجتمعينَ، وَرَدَ فيمن تحرَّجوا من الاجتماعِ على الطعام؛ لاختلافِ الناس في الأكل، وزيادةِ بعضهم على بعض.
{أَوْ أَشْتَاتًا} : متفرِّقين، جمع: شَتٍّ، ورد فيمَن تحرَّجوا عن الأكل وحده.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} من هذه البيوت {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} على أهلِها الذين هم منكم دينًا وقرابةً، وهذا كقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؛ أي: مَن هو مِن جنسكم.
(1)
في (م): "ومشيئته".
(2)
انظر: "النكت والعيون" للماوردي (4/ 124). ورواه بنحوه ابن أبي حاتم (8/ 2648).
(3)
في هامش (ف) و (ك): "ردٌّ لصاحب المدارك في قوله: فأما الآن فقد غلب الشُّحُّ على الناس، فلا يؤكل إلا بإذن".
{تَحِيَّةً} نصبٌ بـ (سلِّموا)؛ لأنَّه في معنى: تسليمًا، نحو: قعدتُ جلوسًا.
{مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : ثابتةً بأمره، مشروعةً من لدنه، ويجوز أن يكون صلةً للتحية، فإنَّها طلبُ الحياة وهي مِن عنده.
{مُبَارَكَةً} لأنها دعوةُ مؤمنٍ لمؤمنٍ بأمر الله تعالى يُرجى بها زيادة الخير والثواب.
{طَيِّبَةً} تَطيبُ بها نفسُ المستمِعِ، وفي حديث أنس رضي الله عنه: قال عليه الصلاة والسلام: "مَتى
(1)
لقيتَ مِن أمَّتي أحدًا فسلَّم عليه يَطُلْ عمرُك، وإذا دخلتَ بيتَك فسلِّم عليهم يَكثرْ خيرُ بيتك، وصَلِّ صلاةَ الضحى فإنها صلاةُ الأبرارِ الأوَّابينَ"
(2)
.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} كرَّره ثالثًا لمزيد التأكيد، وتتميمِ الأحكام المختتَمة به، وفصلَ الأولَينِ بما هو المقتضي لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال:
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: الحقَّ والخيرَ في الأمور.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "من".
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8383)، وإسناده ضعيف، وأصل الحديث في الصحيح كما ذكر ابن حجر في "الكافي الشاف" (ص: 120).
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} ؛ أي: الكاملون في الإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مِن صميم قلوبهم.
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورةِ في الأمور، ووُصِف الأمرُ بالجمع على سبيل المجاز للمبالغة.
{لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي: وَيأذنَ لهم، ولمَّا أراد أن يُريَهم عِظَم الجناية في الذهاب عن مجلسه عليه الصلاة والسلام إذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ، جعل تركَ الذهابِ بلا إذنٍ ثالثَ الإيمان
(1)
بالله تعالى، والإيمانِ برسوله عليه الصلاة والسلام، وجعلهما كالتمهيد لذكره، ثم عقَّبه بما يزيده توكيدًا وتشديدًا حيث أعاده على أسلوبٍ آخر أبلغ فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وضمَّنه شيئًا آخر، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحَّة الإيمانين، وعرَّض بحال المنافقين وتسلُّلهم لواذًا.
{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ} في الانصراف {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ما يَعرِض لهم من الهامِّ
(2)
، وفيه أيضًا مبالغة وتضييق للأمر.
{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فيه رفعُ شأنه عليه الصلاة والسلام بتفويض الأمر إلى رأيه، ففيه دلالةٌ على أن بعض الأحكام مفوَّض إلى رأيه.
وتقييدُ المشيئة بأن تكون تابعةً لعلمهِ بصدقهِ حتى يكون المعنى: فَأْذَن لمن عَلمت أن له عذرًا = تعسُّف ظاهر.
(1)
"الإيمان": مكررة في (ف).
(2)
في (ف): "من الإلهام"، وفي (م):"من المهام".
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} بعد الإذن، فإن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ؛ لأنَّه تقديمٌ لأمرِ الدنيا على أمرِ الدين.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لفَرَطات العباد {رَحِيمٌ} بالتيسير عليهم.
* * *
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} نهيٌ عن التسوية بين الدعاءين، والمقصود النهيُ عن لوازمها كجواز
(1)
الإعراض، والمساهلةِ في الإجابة، والرجوع بغير إذن، وذلك لأنَّ المبادرة إلى إجابته واجبةٌ، والمراجعةَ بغير إذنه محرَّمة.
وحملُ الدعاء على النداء والتسمية، أو على الدعاء عليه
(2)
، لا يناسب السباق واللحاق، والفصل بين أجزاء الكلام بالأجنبيِّ من المساق يُخِلُّ بمقتضى البلاغة وحُسْن الاتِّساق.
{يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ} : يخرجون قليلًا قليلًا من الجماعة، ونظير تسلَّل: تدرَّج وتَدخَّل.
(1)
في (ع): "بجواز".
(2)
أي: لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفعِ الصوت به، والنداء من وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظم مثل: يا نبي الله، و: يا رسول الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، أو: لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه، فإن دعاءه مستجاب. انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 116).
{لِوَاذًا} : ملاوذةً، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمَن يُؤذَن له فينطلق معه كأنه تابِعُه، وانتصابه على الحال؛ أي: ملاوِذِين.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يخالفون أمرَه بترك مقتضاه، و (عن) لتضمُّنه معنى الإعراض، أو: يصدُّون عن أمره دون المؤمنين، والضميرُ لله؛ لأن الأمرَ في الحقيقة له، أو للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه المقصود بالذِّكر.
ومفعول (يحذر): {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} : محنةٌ في الدنيا.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة، و (أو) لمنع الخلوِّ، فلا ينافي الجمع، والآية تدلُّ على أن الأمر للإيجاب.
* * *
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أدخل {قَدْ} عليه؛ ليؤكِّد علمَه بما هو عليه من المخالفة عن الدِّين والنِّفاق، ومرجع توكيد العِلم إلى توكيد الوعيد، والمعنى: إن جميع ما في السماوات والأرض مختصَّةٌ به خَلْقًا ومُلْكًا وعِلْمًا، فكيف يخفى عليه أحوالُ المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سَترها؟!
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} : يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء؛ أي: وَيعلم يوم يُرَدُّون إلى جزائه، وهو يوم القيامة.
والخطاب في الكلامين المذكورين يجوز أن يكون جميعًا للمنافقين على
طريقة الالتفات
(1)
، ويجوز أن يكون الأوَّل عامًا، والثاني خاصًا بهم.
{فَيُنَبِّئُهُمْ} يوم القيامة {بِمَا عَمِلُوا} : بما أَبطنوا من سُوء أعمالهم، ويجازيهم حقَّ جزائهم.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا تَخفى عليه خافيةٌ.
* * *
(1)
في (م): "الاكتفاء". والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب، قال الألوسي: فيتحقق التفاتان: التفات من الغيبة إلى الخطاب في {أَنْتُمْ} ، والتفات من الخطاب إلى الغيبة في {يُرْجَعُونَ}. انظر:"روح المعاني"(18/ 500).
سُورَةُ الفُرقَانِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .
{تَبَارَكَ} : تزايدَ خيرُه وتكاثرَ، أو: تزايدَ عن كلِّ شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وهي كلمةُ تعظيمٍ لم تُستعمل إلَّا لله وحده، والمستعملُ منه الماضي فحَسْب، وترتيبه على إنزال الفرقان لِمَا فيه من كثرة الخير.
{الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} مرَّ تفسيره في سورة آل عمران.
{عَلَى عَبْدِهِ} وقرئ: (على عباده)
(1)
، وهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمَّتُه، أو المرسلون بالكتب السماوية؛ على أن الفرقانَ اسمُ جنسٍ.
{لِيَكُونَ} العبدُ أو الفرقانُ {لِلْعَالَمِينَ} : للثَّقَلين {نَذِيرًا} : مُنذِرًا، أو: إنذارًا؟ كالنَكير بمعنى الإنكار.
وهذه الجملة معلومةٌ للرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يَلزم أن تكون الصلةُ معلومةً لكلِّ أحدٍ
(2)
.
(1)
نسبت لعبد الله بن الزبير. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 103)، و"المحتسب"(2/ 117).
(2)
رد على البيضاوي في قوله: (هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة). قال الشهاب: هذا بناء على أن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة قبل =
{الَّذِي} رفعٌ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ} أو على المدح، أو نصب عليه.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} على الخلوص
(1)
.
{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما زعم اليهودُ والنصارى ومشركو العرب في العُزَيْر والمسيح عليه السلام والملائكةِ.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما زَعَمت الثَّنَويَّة.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لا كما قالت المجوس: إنَّه تعالى لم يَخلُق الظُّلمة، ولا كما قالت المعتزلة: إنَّه تعالى غيرُ خالقٍ لأفعال العباد.
{فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي: قدَّر كلَّ شيءٍ تقديرًا يُوافق الحكمةَ فخلقه، والقلبُ لمحافظة الفاصلة.
* * *
= التكلم بها؛ لأنّ تعريف الموصول بما في الصلة من العهد، وفي شرح التسهيل أنه غير لازم وأنّ تعريف الموصول كتعريف الألف واللام يكون للعهد والجنس وأنَّه قد تكون صلته مبهمة للتعظيم
…
وعلى تقدير تسليمه فهذه الجملة معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو المخاطب بها كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ولا يلزم أن تكون معلومة لكل أحد، وما اختاره المصنف رحمه الله من تنزيلها منزلة المعلوم أبلغ لكونه كناية عما ذكر مناسِبةً للرد على مَن أنكر التوحيد والنبوّة). انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 406).
(1)
في (ف): "الخصوص".
{وَاتَّخَذُوا} الضمير للكافرين؛ لدلالة {نَذِيرًا} عليهم.
{مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} لمَّا تضَّمن الكلامُ إثباتَ التوحيد والنبوَّة، أَخذَ في الرَّدِّ على المخالفين فيها:
{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وصف آلهتهم بما يدلُّ على أنَّها لا تَستحقُّ العبادةَ؛ أي: لا يَقدرون على الخَلْق ومع ذلك هم مخلوقون، وإنَّما قال:{يُخْلَقُونَ} إظهارًا لتجدُّد حدوثها، وفيه وجهٌ آخرُ لعدم استحقاقها العبادة.
{وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} مِلْكُهما كنايةٌ عن القُدرة على التصرُّف فيهما بالدَّفْع والجَلْب، فلا حاجةَ إلى تقديرِ مضاف، وتقديم الضَّرِّ لأنَّ دفعَه أهمُّ من جَلب النفع، وإنَّما قال:{لِأَنْفُسِهِمْ} إظهارًا لغاية عجزهم، فإنَّ مَن لا يقدر على ذلك في حقِّ نفسِه لا يَقدر عليه في حقِّ غيره، بدون العكس.
{وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا} قدَّمه على الحياة على عكس ترتيب الوجود؛ لتقديم الضَّرِّ على النفع.
{وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} أراد به الإحياءَ بعد الموت؛ أي: إنَّهم بمعزلٍ عن الألوهية؛ لعرائهم عن لوازمها واتِّصافهم بما ينافيها، وجعلها كالعقلاء لزعم عابديها.
* * *
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : ما هذا القرآنُ {إِلَّا إِفْكٌ} : كَذِبٌ مصروفٌ عن وجهه {افْتَرَاهُ} : اختَلَقه، يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام.
{وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ؛ أي: اليهودُ، فإنَّهم يُلقون إليه أخبارَ الأمم وأحوالَ الآخرة، وهو يعبِّر عنه بعبارته.
{فَقَدْ جَاءُوا} جاء يُستعمل في معنى فَعَل فيُعدَّى
(1)
تعديتَه، وأمَّا حذف الجارِّ وإيصالُ الفعل فلا بُدَّ فيه من السماع.
{ظُلْمًا} بجَعْل الكلامِ المعجِزِ إفكًا مُختلقًا مُتلقَّفًا من اليهود.
{وَزُورًا} بنسبةِ ما هو بريءٌ منه إليه، والزُّور: القولُ المائلُ عن القصد.
* * *
(5) - {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : ما سطَّره المتقدِّمون، وقد مَرَّ بيانُ الأساطير.
{اكْتَتَبَهَا} ؛ أي: كَتَبها بنفسه، أو: اسْتكْتَبها.
وقرئ على البناء للمفعول
(2)
؛ لأنَّه أُمِّيٌّ، وأصله: اكتَتَبها كاتبٌ له، فحُذف اللام وأفضَى الفعلُ إلى الضمير، فصار: اكتَتَبها إيَّاه كاتبٌ، ثم حُذف الفاعل وبُني الفعل للضمير، فاستَتر فيه.
{فَهِيَ تُمْلَى} أي: تُلقَى عليه من كتابه ليَحفَظَها، فإنَّه أُمِّيٌّ لا يَقدر أن يَكرَّر من الكتاب.
(1)
في (ي): "فيتعدى".
(2)
نسبت لطلحة بن مصرف. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 103)، و"المحتسب"(2/ 117).
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} البُكْرةُ: أوَّلُ النهار، والمراد من الأصيل آخرُه؛ بقرينة المقابَلة.
* * *
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والسِّرُّ: إخفاءُ المعنى في القلب، والمراد: ما في السماوات والأرض مِن خفايا الأحوال
(1)
، يعني أنَّ في القرآن إخبارًا عمَّا لا يَعلمه إلَّا اللهُ تعالى من الجنَّة والنار وما فيهما، ولا تعرُّض لهما في التوراة والإنجيل، ولو كان مأخوذًا من اليهود أو النصارى لم يَزد على ما فيها، وأيضًا فيه إخبارٌ عن الحوادث السماوَّية والأرضيَّة قبل حدوثها، وليس فيها احتمال الأخذ من كتب المتقدِّمين.
{إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ساترًا للذُّنوب ومؤخِّرًا للانتقام {رَحِيمًا} بالإمهالِ وعدمِ الاستعجال وإدرارِ الإنعام؛ ليتوب بعضهم ويرجعَ عن الإصرار، وَيخرج من أصلاب المصِّرين أصحابُ الاعتبار والاختبار، وزيادة {كَانَ} لإفادة الدلالة على العادة.
* * *
{وَقَالُوا مَالِ} وقعت اللامُ في المصحف مفصولةً عن الهاء، وخَطُّ المصحفِ سُنّةٌ لا يغيَّر {هَذَا الرَّسُولِ}: ما لهذا الذي يَزعم أنَّه رسولٌ، وفيه استهانة وتهكُّم.
(1)
في (ك): "الأصول". وفي (ف): "الأصل".
{يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} حالٌ، والعامل فيها {هَذَا} ، والجملة الأولى كنايةٌ عن غاية الأكل، ولا يَخفى ما فيها من تقبيح الحال الذي يقتضيه مساقُ الكلام، والثانية كنايةٌ عن الغرض من المشي في الأسواق، وهو طَلَب أسبابِ المعاش؛ أي: إن صحَّ أنَّه رسول المَلِك المتعال، فما بالُهُ يَفعل هذه الأفعالَ؟! يَعنون أنه كان يجب أن يكون مَلَكًا بريئًا عن لوازم البشريَّة.
ثم تنزَّلوا عن ذلك الاقتراح
(1)
إلى اقتراحِ أن يكون إنسانًا معه مَلَكٌ حتى يتسانَدا في الإنذار، بقولهم:{لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} .
* * *
ثم تنزَّلوا إلى أن يكون مرفودًا بكنزٍ يُلقى إليه من السماء يَستظهِر به ولا يَحتاج إلى تحصيل المعاش فقالوا: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} .
ثم تنزَّلوا فقالوا: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} ؛ أي: إن لم يُلقَ إليه كنزٌ فلا أقلَّ أن يكون له بستانٌ كما للدَّهَاقين والمياسير، فيعيشَ برَيْعه، وحسَّن عطفَ المضارع - وهو {يُلْقَى} و {تَكُونُ} - على {أُنْزِلَ} وهو ماضٍ دخولُ المضارع وهو {فَيَكُونَ} بينهما، وانتصب {فَيَكُونَ} لأنَّه جواب {لَوْلَا} بمعنى: هلَّا، وحكمُه حكم الاستفهام.
وأراد بالظالمين في قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} إيَّاهم بأعيانهم، غيرَ أنَّه وضع موضعَ المضمَر تسجيلًا عليهم بالظلم.
(1)
في (ع): "الاقتران" وكذا في الموضع الآتي.
{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} سُحِرَ فغُلِب على عقله، فيخيَّل إليه الشيطانُ مَلَكًا، وكلامُه وحيًا.
* * *
(9) - {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} .
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ؛ أي: قالوا فيكَ تلك الأقوالَ الغريبةَ واخترعوا لك تلك الأحوالَ النادرة {فَضَلُّوا} عن طريق الحقِّ في جميع ذلك.
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى طعنٍ موجَّهٍ
(1)
، فيتهافتون وَيخبِطون كالمتحيِّر في أمره لا يَدري ما يَصنع، فلا يَجدون سبيلَ هداية ولا يُطيقونه؛ لالتباسه عليهم.
* * *
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} : تكاثَرَ خيرُ الذي إن شَاء
(2)
وَهَبَ لك في الدنيا خيرًا ممَّا قالوا، ولكن أخَّره إلى الآخرة لأنَّه خيرٌ وأبقى، وقوله:
{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بدلٌ من {خَيْرًا} .
{وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} عطفٌ على محلِّ الجزاء، وقرئ بالرفع
(3)
؛ لأن الشرط إذا وقع ماضيًا جاز في جزائه الجزمُ والرفعُ، ويجوز أن يكون استئنافًا بوعدِ ما
(1)
في (ك): "بوجه".
(2)
في (ف) و (م): "يشأ".
(3)
قرأ بها ابن كثير وابن عامر وشعبة، وقرأ الباقون بالجزم. انظر:"التيسير"(ص: 163).
يكون له في الآخرة، وقرئ بالنصب
(1)
على أنه جوابُ الشرط بالواو.
* * *
(11) - {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} .
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} عطف على ما حُكيَ عنهم، يقول
(2)
: بل أتوا بأعجبَ من ذلك كلِّه وهو تكذيبُهم بالساعة، أو متَّصل بما يليه؛ كأنه قال: بل كذَّبوا بالساعة، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يُصدَّقون بتعجيلِ مثلِ ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟!.
{وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} : وهيَّأنا للمكذبين بها نارًا شديدةَ الإسعار، والإسعار: تهييج النار بشدَّة الإيقاد.
* * *
(12) - {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} .
{إِذَا رَأَتْهُمْ} : إذا قابَلَتْهم وصارت منهم بقَدْرِ ما يرى منهم الرائي، كقولهم: دُورُهُم تَتَراءَى؛ أي: تتناظر وتتقابل بحيث تكون إحداهما بمرأًى من الآخرى، على المجاز، والتأنيث لأنَّه بمعنى النار أو جهنَّم.
{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أَقصى ما يُمكن أن يرى منه.
{سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} : صوتَ تغيُّظٍ، شبَّه صوتَ غليانها بصوت المغتاظ
(3)
وزفيرِه، وهو صوتٌ يُسمَع من جوفه، هذا ما يتراءى في بادئ النظر.
(1)
نسبت لعبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان. انظر: "المحتسب"(2/ 117).
(2)
في (ف) و (ك)(م): "بقول".
(3)
في هامش (ي): "المغتاظ؛ أي: الممتلئ غضبًا".
والذي يظهر عند التأمُّل: هو أنه تمثيلٌ
(1)
من قَبيل المجاز التمثيلي الشائع في كلام الله تعالى، شبِّهت النار بمَن له تلك الحال، وذلك في غاية البلاغة، فمفرداتُ الكلام على حالها، وإنما قال:{لَهَا} دون: منها، أو: فيها؛ تنصيصًا على ما يتمُّ به التمثيل، وهو أن يكون التغيُّظ والزفير لها لا لِمَا فيها.
* * *
(13) - {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} .
{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} بيان تقدَّم فصار حالًا {مَكَانًا} : في مكان {ضَيِّقًا} لزيادة العذاب، فإنَّ الكربَ مع الضيق، كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعَة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه يضيق عليهم كما يضيَّق الزُّجُّ في الرُّمْحِ
(2)
.
{مُقَرَّنِينَ} : قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، أو يُقرَن مع كلِّ كافر شيطانُه في سلسلةٍ، وفي أرجلهم الأصفاد.
{دَعَوْا هُنَالِكَ} : ثَمَّ {ثُبُورًا} : هلاكًا؛ أي: يتمنَّون الهلاكَ وينادونه، فيقولون: واثُبُوراهُ؛ أي: تعالَ يا ثبور فهذا حينُك، فيقال لهم:
(14) - {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} .
{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} إذ هم أحقَّاءُ بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قولٌ، أي: لا تقتصروا على حزنٍ واحد، بل احزنوا حزنًا كثيرًا، وكثرته إمَّا لدوام العذاب متجدِّدًا، وإمَّا لأنَّه أنواعٌ، وكلُّ نوعٍ منه يكون ثبورًا لشدَّته وفظاعته.
(1)
"تمثيل" من (ي).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 267)، و"المحرر الوجيز"(4/ 202).
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: وُعدها، فالراجع إلى الموصول محذوفٌ، والمراد من المتقينَ بقرينة المقابلة: مَن يتَّقي أنواع الكفر من الشرك والتكذيب.
والإشارة إلى مكان العذاب وهو النار، وإنما قال:{أَذَلِكَ خَيْرٌ} ولا خيرَ في النار؛ توبيخًا وتهكُّمًا للكفار، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الكنز والجنَّة، وإضافة الجنَّة إلى الخلد للمدح لا
(1)
للدلالة على خلودها؛ لأنها
(2)
حاصلة بقوله: {خَالِدِينَ} .
{كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً} على أعمالهم بالوعد الأزليِّ {وَمَصِيرًا} : مرجعًا.
* * *
(16) - {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} .
{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} : ما يشاؤونه من أنواع الملاذِّ والمشتهَيات، والمشيئة تتبع العلم، فالتفاوت في درجات أهلِ الجنة وأنواعِ تلذُّذهم بحسب عملهم
(3)
، وإنَّما ذكر فيها مع عدم الحاجة إليه؛ للتنبيه بتقديمه على أنَّ حصول كلِّ المشتهيات لا يكون إلا في الجنَّة.
{خَالِدِينَ} حالٌ من أحد ضمائرهم.
(1)
"للمدح لا" سقطت من (ف) و (ك)، و"لا" سقطت من (ع).
(2)
في (ع) و (ف) و (ك): "ولأنها".
(3)
في (ف) و (ك)، و (م) و (ي):"علمهم".
والضمير في {كَانَ} لـ {مَا يَشَاءُونَ} ، و {عَلَى} في قوله:{عَلَى رَبِّكَ} استعيرَ لِمَا في منزلة الوجوب في التأكُّد
(1)
بقرينة الوعد والسؤال، ومَن وَهَمَ أنه على حقيقته؛ لامتناع الخُلْف في وعده تعالى، ثم قال: ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز؛ لأن تعلُّق الإرادة بالموعود مقدَّم
(2)
على الوعد الموجِب للإنجاز
(3)
= فقد وَهِمَ؛ حيث لم يفرِّق بين الوجوبِ على الله والوجوبِ منه، فإن اللازم حينئذٍ هو الأول، والذي صحَّحه ودفع
(4)
المحذور عنه هو الثاني.
{وَعْدًا مَسْئُولًا} ؛ أي: كان ذلك موعودًا حقيقًا بأن يُسأل ويُطلب، أو: مسؤولًا سأله الناسُ في دعائهم.
* * *
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} للجزاء {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعمُّ كلَّ معبود سواه، و (ما) وضعُه عامٌّ، ولذلك يُطلَق لكلِّ شبحٍ
(5)
يُرى
(6)
ولا يُعرَف، أو يُراد به الوصف، أو لتغليب الأصنام لا تحقيرًا؛ لأن المغلَّب عليه من الأنبياء والملائكة لا يَليق ذلك بشأنهم، بل اعتبارًا لغَلَبة عبَّادهم.
(1)
في (ع): "التأكد".
(2)
في (م): "يتقدم".
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 120).
(4)
في (ك): "ووقع".
(5)
في (ع): "شيء".
(6)
في (ف) و (ك) و (م): "رئي".
وإنما قلنا: يعم كلَّ معبودٍ، إذ لا قرينة للتخصيص لا بالأصنام، وذلك ظاهر، ولا بالملائكة والأنبياء؛ لأن كلَّ شيء يَنطِق يومئذٍ، فلا يكون السؤال والجواب قرينةً.
{فَيَقُولُ} للمعبودين: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} الإضافة لتعظيم جريمة الإضلال، لا لتشريفهم؛ لأنهم مشركون
(1)
.
{هَؤُلَاءِ} بدلٌ من {عِبَادِي} ، {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المُرشِد النَّصيح، والاستفهام للتقريع والتبكيت للعَبَدة، فلذلك قدِّم الضمير على الفعل إيلاءَ حرفِ
(2)
الاستفهام للمقصود بالسؤال، وهو الفاعل لا الفعل
(3)
، وإنَّما حذف صلة (ضلَّ) للمبالغة.
* * *
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} تعجُّبًا ممَّا قيل لهم؛ لأنَّهم إمَّا ملائكة، أو أنبياءُ معصومون، أو جماداتٌ لا تَقدِر على شيء، أو قصدوا به تنزيهَه تعالى عن الأنداد.
{مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} ؛ أي: ما كان يصحُّ لنا ولا يَستقيم {أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ
(1)
في (م): "لأنهم هم المشركون".
(2)
في (ك) و (م): "طرف"، وفي باقي النسخ:"ظرف"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(4/ 120)، وفيه:(ليلي حرفَ الاستفهام المقصودُ بالسؤال وهو المتولي للفعل).
(3)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "فإن تقديم الفعل يفسد المعنى، ومن غفل عن هذا علَّله بقوله: لأنَّه محقَّق لا شبهة فيه، ولم يدرِ أن فيه الإشعار بأن في الفاعل الشبهة، ولا يخفى فساده. منه".
أَوْلِيَاءَ} للعصمة أو عدم القدرة، فكيف يصحُّ لنا أن ندعوَ غيرَنا أو أن نتولَّى أحدًا دونك.
وقرئ: {نَتَّخِذَ}
(1)
على البناء للمفعول من (اتَّخَذَ) الذي له مفعولان، كقوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ومفعوله الثاني {مِنْ أَوْلِيَاءَ} و {مِنْ} للتبعيض؛ لأن (مِن) لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، وعلى الأول مزيدةٌ لتأكيد النفي.
ولمَّا تضمَّن قولهم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} أنَّا لم نضلَّهم ولم نَحملْهم على الامتناع من الإيمان، صلح أن يستدرك بـ {وَلَكِنْ} فقالوا:
{وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} بالأموال والأولاد وطُول العمر والسلامة من العذاب.
{حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} حتى غَفلوا عن ذِكْرك، أو التذكُّرِ لآلائك.
والواو الفصيحة في {وَكَانُوا} للعطف على محذوف تقديره: فكفروا {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} : هالكينَ، مصدرٌ وصفَ به، ولذلك يَستوي فيه الجمعُ والواحد، قال ابن الزِّبَعرى في الواحد:
يا رسولَ الإله إنَّ لساني
…
راتقٌ ما فَتَقتُ إذ أنا بُورُ
(2)
* * *
(1)
قرأ بها من العشرة أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 333).
(2)
انظر: "ديوان عبد الله بن الزبعرى"(ص: 36).
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} المعنى: فقد كذَّبكم المعبودون، وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصَّة إذا انضمَّ إليها الالتفاتُ وحُذف القول، وقد سبق تحقيقُ هذا في قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} من سورة المائدة [الآية: 19]
(1)
.
{بِمَا تَقُولُونَ} بقولكم فيه: إنَّهم آلهة، أو: هؤلاء أضلُّونا، والباء بمعنى (في)، أو مع المجرور بدل من الضمير.
وقرئ بالياء
(2)
، ومعناه: فقد كذَّبوكم بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} .
{فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرئ بالتاء
(3)
على خطاب العابدين {صَرْفًا} هو: دفعًا للعذاب عنكم {وَلَا نَصْرًا} فيُعِينكم عليه.
ثم خاطب المكلَّفين على العموم بقوله:
{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} الشرط وإن عمَّ كلَّ مَن كفر أو فسَق، لكنه في اقتضاء الجزاء مقيَّد بعدم المُزاحم وهو التوبة إجماعًا، وبالإحباط بالطاعة والعفو عندنا في الأخير.
{نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} وهو عذاب النار، وفي عبارة {نُذِقْهُ} إشارةٌ إلى أن العذاب جسمانيٌّ.
* * *
(1)
لم نقف على هذا الموضع من التفسير، وانظر ما جاء في المقدمة من تفصيل لهذا الأمر.
(2)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 204).
(3)
قرأ بها حفص من السبعة، وقرأ الباقون بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 163).
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} كُسرَت (إنَّ) لا لأجل اللامِ في الخبر؛ لأنَّ دخولها وخروجها هاهنا سواءٌ، بل لأنَّه موضع ابتداء تقديره: إلَّا هم يأكلون، والجملة بعد (إلَّا) صفةٌ لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلَّا آكلين وماشين، وإنَّما حذف لدلالة {الْمُرْسَلِينَ} عليه
(1)
، ويجوز أن يكون حالاً اكتفي فيها بالضمير، وهو جواب لقولهم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} .
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} أيُّها الناس {لِبَعْضٍ فِتْنَةً} : ابتلاءً، ولا دلالة فيه على القضاء والقَدَر لأن قوله:{أَتَصْبِرُونَ} علَّةٌ للجعل لا للتقدير، والمعنى: وجعلنا بعضَكم لبعضٍ فتنة ليَظهر أيُّكم يَصبر
(2)
.
ومن الفتنة: أن يَحسد المُبتلَى المعافَى، ويَحقِرَ المعافَى المبتلَى، والصبرُ أن يَحبس كلاهما نفسَه؛ هذا عن البَطَر
(3)
، وذاك عن الضجر.
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} بصَبْر مَن صَبَر، وضَجَر مَن ضَجِر، أو: بالصواب فيما يَبتلي
(4)
به وغيرِه.
* * *
(1)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "قال في التيسير: وهو كما يقال: ما قدم علينا أمير إلا إنه مكرِم لي، بالكسر. منه".
(2)
في (ف) و (ك): "أنكم تصبرون"، وفي (م):"أيكم تصبروا"، والمثبت من (ع) و (ي) والبيضاوي.
(3)
في (ع) و (ف) و (ي): "النظر"، وفي (م):"البسطة"، والمثبت من (ك).
(4)
في النسخ: "فيمن ابتلى"، والمثبت من المصادر. انظر:"الكشاف"(3/ 272)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 121)، و "تفسير النسفي"(2/ 531)، و "البحر"(16/ 178)، و "روح المعاني"(18/ 558).
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} الرجاء: ترقُّب الخير الذي يقوَى في النفس وقوعه، وبهذا القيد الأخير يفارق الأمل.
{لِقَاءَنَا} بالخير؛ لكفرهم بالبعث، أو: لا يخافون عقابنا؛ إما لأنَّ الراجيَ قلق فيما يرجوه، كالخائف، أو لأنَّ الرجاء في لغةِ تِهامة الخوفُ.
واللقاءُ: المصيرُ إلى الشيء من غير حائل، ولهذا صحَّ لقاءُ الجزاء؛ لأن العباد يصيرون إليه في الآخرة، وعلى هذا يصحُّ أن يقال: لا بدَّ مِن لقاء الله تعالى.
{لَوْلَا} : هلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} رسلًا دون البشر، أو شهوداً على نبوَّته عليه السلام ودعوى رسالته.
{أَوْ نَرَى رَبَّنَا} جهرةً فيُخبرَنا برسالته ويأمرَنا باتِّباعه.
{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: في شأنها، حتى أرادوا لها ما يتفق للأفراد من الأنبياء - الذين هم أكملُ خلقِ الله تعالى في أكملِ أوقاتها - وما هو أعظمُ من ذلك
(1)
.
{وَعَتَوْا} العتوُّ: الخروج إلى أفحشِ الظلم {عُتُوًّا كَبِيرًا} بالغاً أقصى مراتبه؛ حيث عاينوا المعجزاتِ الباهرةَ فأَعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسِهم الخبيثةِ ما
(1)
قوله: "للأفراد من الأنبياء
…
"، المراد بالأفراد: عظماؤهم، و (أكمل أوقاتها) هو الوحي بالملائكة لا بإلهام ومنام ونحوه، أو المراد به رؤية الملك جهارًا معايَنًا على صورته؛ لأنَّه هو الذي اقترحوه، وضمير (أوقاتها) للأفراد، وأنثه لظاهر الجمع، ولو قال: أوقاتهم، كان أظهر، ويمكن أن يقال: الضمير للنبوة المفهوم منه، و (ما هو أعظم) رؤية الله عيانًا. انظر: "حاشية الشهاب" (6/ 416).
سُدَّت دونه مطامع النفوس القدسيَّة، واللام جوابُ قَسَم محذوف، وفي الاستئناف بالجملة حُسْنٌ وإشعار بالتعجُّب
(1)
من استكبارهم وعتوِّهم، فإن في فحوى هذا الفعل دليل على التعجيب من غير لفظه، أَلا يُرى أنَّ المعنى: ما أشدَّ استكبارهم وما أكبرَ عتوَّهم!
* * *
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} : ملائكةَ الموت أو العذاب، و {يَوْمَ} نصب بما دلَّ عليه:{لَا بُشْرَى} ؛ أي: يومَ يَرَون الملائكةَ يُمنعون البشرى أو يعدمونها
(2)
.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ} مؤكِّد لـ {يَوْمَ يَرَوْنَ} ، أو خبرٌ و {لِلْمُجْرِمِينَ} تبيينٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو ظرفٌ لِمَا تتعلَّق به اللام، أو لـ {بُشْرَى} إن قدِّرت منوَّنةً غيرَ مبنيَّةٍ مع (لا)، فإنَّها لا تعمل، أو بإضمار: اذْكُر، ثم أخبر فقال: لا بشرى بالجنة
(3)
يومئذٍ.
وقيل: لا ينتصب بـ {يَرَوْنَ} ؛ لأنَّ المضاف إليه لا يَعمل في المضاف، ولا بـ {بُشْرَى} ؛ لأنها مصدرٌ، والمصدر لا يَعمل فيما قبله، ولأنَّ المنفىَّ بـ (لا)
(4)
لا يَعمل فيما قبل (لا).
{لِلْمُجْرِمِينَ} ظاهرٌ في موضعِ ضميرهم؛ تسجيلاً على جرمهم، وإشعاراً بما هو المانع للبُشرى والمُوجِبُ لما يقابلها، أو عامٌّ يَتناول حكمُه حكمَهم من طريق
(1)
في (ك): "بالتعجيب".
(2)
تحرفت في النسخ إلى: "يعدمونها". انظر: "الكشاف"(3/ 273)، و "تفسير البيضاوي"(4/ 121).
(3)
ليست في (ف) و (ك).
(4)
في (ك) و (ي): "ولأن المنفي لا"، وفي (ف):"ولأن النفي لا".
البرهان، ولا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذٍ نفيُ البشرى بالعفوِ والشفاعةِ في وقتٍ آخر.
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} عطفٌ على المدلول؛ أي: يقول الكفرةُ حينئذٍ هذه الكلمةَ؛ استعاذةً وطلباً من الله تعالى أن يَمنع لقاءَهم، وهي ممَّا كانوا يقولونه عند لقاءِ عدوٍّ أو هجومِ مكروهٍ، أو يقولها الملائكةُ بمعنى: حراماً محرَّماً عليكم الجنة أو البشرى.
وقرئ: (حُجْراً) بالضَّمِّ
(1)
، وأصله الفتح أو الكسر، فإنَّهما لغتان فيه، غير أنَّه لمَّا اختصَّ بموضعٍ مخصوصٍ غيِّر
(2)
؛ كـ: قَعْدَكَ وعمرَكَ
(3)
، ولذلك لم يتصرَّف فيه
(4)
، ولا يظهر ناصبُه، ووصفه بـ {مَحْجُورًا} للتأكيد، كقولهم: موتٌ مائِتٌ.
* * *
(1)
نسبت للحسن والضحاك. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 104).
(2)
قوله: "لما اختص بموضع .. " يعني: لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول، فلما تغيَّر معناه غيِّر لفظه عما هو أصله - وهو الفتح - إلى الكسر أو الضم لإيهام أنه لفظ آخر كالمرتجل. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 417).
(3)
قوله: "كقعدك وعمرك"(قعدك): بفتح القاف، وحكي كسرها عن المازني [وكذا ضبطت في (ي) بكسر القاف] وأنكره الأزهري، والعين ساكنة يقال: قَعْدَكَ اللهَ، وقَعِيدَكَ اللهَ، بنصب الاسم الشريف لا غير، و (قَعْدَك) منصوب على المصدرية، والمراد: رقيبك وحفيظك الله، ثم نقل إلى القسم فقيل: قَعْدَك الله لا تفعل. وأمّا (عَمْرَك الله) فبفتح العين وضمها، والراءُ مفتوحة لأنَّه منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 417).
(4)
قوله: "ولذلك لم يُتصرف فيه"؛ أي: يلزم النصبَ على المصدرية بفعل لازم الإضمار. انظر: "حاشية الشهاب"(6/ 417 - 418).
(23) - {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} .
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} لا قدومَ ولا ما يُشبه القدومَ، ولكن مُثِّلت حالُ هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم - من صلةِ رحمٍ وإغاثةِ ملهوفٍ، وقِرَى ضيفٍ، ونحوِ ذلك - بحالِ مَن خالَفَ سلطانَه وعَصاهُ، فقدِم إلى أسبابه وما تحت يديه فأفسدها ومزَّقها كلَّ ممزَّقٍ، ولم يترك لها أثراً.
وعلى هذا يكون الكلامُ المذكورُ تمثيلاً على سبيل الاستعارة، لا الاستعارة
(1)
في مفرداته، بخلافِ ما إذا كان المعنى: وعَمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم فأَحبطناهُ، فإنه حينئذٍ تكون الاستعارة في المفردات لا في الكلام.
والهباء: الشيءُ المنبثُّ الذي تراهُ في البيت من ضوء الشمس، والهباء أيضًا دُقاقُ التراب، ويقال له إذا ارتفع، و {مَنْثُورًا} صفته، وليس فيه تشبيهٌ على تقدير التمثيل.
وأمَّا على المعنى الثاني فقد شبَّه به عملَهم المُحبَط في حقارته وعدمِ نفعه ثَمَّ بالمنثور منه في انتشاره؛ بحيث لا يَقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
* * *
(24) - {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} تمييزٌ، والمُستَقَرُّ: المكان الذي يُستَقَرُّ فيه في أكثرِ الأوقات للتجالُس والتحادُث.
{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} قال الأزهريُّ: القيلولةُ والمَقيلُ: الاستراحةُ في نصف النهار
(1)
قوله: "لا الاستعارة" سقط من (ع)، وقوله:"لا" سقط من (م).
وإن لم يكن مع ذلك نومٌ
(1)
، ورُوي أنه يُفرغُ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيلُ أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار
(2)
.
وفي لفظَي
(3)
الخيرِ والأحسنِ تهكُمٌ بهم.
* * *
(25) - {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} .
{وَيَوْمَ} : واذْكُر يومَ {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} أصله: تتشقَّق، فحَذف التاءَ بعضُهم، وأَدغمها في الشين الآخرون
(4)
.
{بِالْغَمَامِ} : بسبب طلوعِ الغمام منها، وهو الغمام المذكور في قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210].
{وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} في ذلك الغمامِ بصحائف أعمالِ العباد.
* * *
(26) - {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} .
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} : الثابتُ له؛ لأنَّ كلَّ مُلْكٍ يومئذٍ يَبطُل ولا يَبقى إلَّا
(1)
انظر: "تهذيب اللغة"(9/ 233).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1313)، والطبري في "التفسير" (19/ 556) عن ابن مسعود: أنه كان يقول: والذي نفسي بيده، لا ينتصفُ النهار يوم القيامة حتى يقيل أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، ثم قال:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
(3)
ليست في (ف) و (ك).
(4)
قرأ بإدغام التاء في الشين ابن كثير ونافع وابن عامر، وباقي السبعة بحذف التاء. انظر:"التيسير"(ص: 163 - 164).
مُلْكَه تعالى، فهو الخبر، و {لِلرَّحْمَنِ} صلته أو تبيينٌ، و {يَوْمَئِذٍ} معمولُ {الْمُلْكُ} لا {الْحَقُّ} ؛ لأنَّه متأخِّر، أو صفةٌ والخبر {يَوْمَئِذٍ} أو {لِلرَّحْمَنِ} .
{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} : شديداً؛ لِمَا يَنالهم من الأهوال والتشديد في السؤال، ثم الخزيِ والنكال، ثم النارِ والأغلال، ويُفهَم منه يُسْرُه على المؤمنين، وفي الحديث:"يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ صلَّوها في الدنيا"
(1)
.
* * *
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} مِن فرط الحسرة، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الغيظ والحسرة؛ لأنَّه من روادفهما، ولإفادة الدلالة على استمرارِ تلك الحال ضمِّن الفعلُ المذكور معنى الاستقرار، فعدَّاه بـ {عَلَى} ، والمراد بالظالم الجنس، وقيل: عُقْبَة بنُ أبي مُعَيْط.
{يَقُولُ} جملة في محلِّ النصب على الحال: {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ} تابعاً له {سَبِيلًا} هَداهُ الله إليه، وتنكيره للإشعار بكمال الاتِّباع.
* * *
(28) - {يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} .
{يَاوَيْلَتَى} وقرئ بالياء
(2)
، وهو الأصل؛ لأنَّ الرجلَ ينادي ويلته، وهي هَلَكتُه، يقول لها: تعالي فهذا أوانُك.
(1)
رواه بنحوه الإمام أحمد في "المسند"(11717) من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وحسَّن إسناده الحافظ في "الفتح"(11/ 448).
(2)
نسبت للحسن وابن قطيب. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 104).
{لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} يعني: مَن أضلَّه، و (فلان) كنايةٌ عن الأعلام، كما أنَّ الهَنَ كنايةٌ عن الأجناس.
* * *
(29) - {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} .
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} : عن ذِكْر اللهِ، أو كتابه، أو موعظةِ الرسول، أو كلمة الشهادة {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} من الله، اعترافٌ بالقصور من جانبه.
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ} يعني: الخليلَ المضِلَّ، أو إبليسَ؛ لأنَّه حَمَله على مخالفته ومخالفةِ الرسول، أو كلَّ مَن تشيطَنَ من الجنِّ والإنس {لِلْإِنْسَانِ} المطيعِ له {خَذُولًا} مبالغةٌ في الخذلان؛ أي: من عادته ترك مَن يواليه وقتَ حاجته إليه.
* * *
(30) - {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} .
{وَقَالَ الرَّسُولُ} ؛ أي: في الدنيا بثًّا إلى الله، ولو كان في الآخرة لَمَا عدل عن سَنَنِ ما تقدَّم:{يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي} قريشاً
(1)
{اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} : متروكًا؛ أي: تركوه ولم يؤمنوا به، من الهجران، وهو مفعولٌ ثانٍ لـ {اتَّخَذُوا} .
وفي هذا تعظيمٌ للشكاية وتخويفٌ لقومه؛ لأن الأنبياء عليهم السلام إذا شَكَوا إليه تعالى قومَهم، حلَّ عليهم العذابُ ولم يُنظَروا.
ثم أقبل عليه مسلِّياً وواعداً بالنصرة عليهم فقال:
(1)
في (ف) و (ك): "أقربائي".
{وَكَذَلِكَ} ؛ أي: كما جعلناه لك {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} فاصبر كما صبروا، ومعنى الكلِّية الكثرةُ؛ كما في:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] فلا يُشكِل بآدم عليه السلام؛ فإنه لم يكن مبتلًى بعداوة قومه، والعدوُّ يجوز أن يكون واحدًا وجمعاً.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} ؛ أي: إلى طريق الصبرِ المؤدِّي إلى النصر، والباء زائدة، و {هَادِيًا} تمييزٌ، ويجوز أن يكون حالاً؛ أي: كفى ربُّك في حال الهداية.
{وَنَصِيرًا} لك عليهم.
* * *
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: أحبارُ اليهود
(1)
: {لَوْلَا} : هلَّا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} ؛ أي: أُنزل عليه كخبَّر بمعنى أَخْبَر، بدلالة قوله:
{جُمْلَةً وَاحِدَةً} ؛ أي: مُجتمِعاً دفعةً واحدةً كالتوراة والزَّبور، وهذا فضولٌ من القول ومماراةٌ بما لا طائلَ تحته، وغفولٌ عن مقتضى أصولِ البلاغة؛ من وجوب رعاية المطابقة لمقتضى المقام
(2)
في كلِّ جملةٍ من الكلام، ولا تتيسَّر تلك الرعاية عند نزولِ مجموعِ القرآن دفعةً واحدةً والشريعةِ من وجوبِ تقديم المُجمَل والعامِّ
(1)
في هامش (ف) و (م): "في سورة النساء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا}. منه".
(2)
في (ع) و (ي): "الكلام"، وفي (م):"الحال".
والمنسوخ، وتأخيرِ البيان والخاص والناسخ، ولا يتيسَّر ذلك أيضًا على التقدير المذكور والتذكير من
(1)
وجوب رعايةِ شرط التكرير، وهو أن يكون في أوقاتٍ متعدِّدة، مع أنَّ للتفرقة فوائدَ:
منها: ما أشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ} {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} جوابٌ لهم؛ أي: أنزلناه إنزالاً كذلك
(2)
، والإشارةُ إلى مدلولِ قولهم؛ لأَّن معناه: لِمَ ينزل عليه القرآنُ مفرَّقاً؟ فأَعْلمَ أن ذلك {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} بتفريقه؛ ليَقْوَى فؤادُك حتى تعيَهُ وتحفظَه؛ لأنَّ المتلقِّن وإن لم يكن أميًّا إنَّما يقوى قلبُه على حفظ العلم شيئًا بعد شيء، ولو أُلقيَ عليه جملةً واحدةً لعَجَزَ عن حفظه.
أو: لنثبِّت به فؤادَك عن الضَّجَر بتواتر الأصول، وتتابُع الرسول؛ لأن قلبَ المحبِّ يَسكُن بتواصل كُتُبِ المحبوب، ولأنه إذا نزل منجَّماً وهو يتحدى
(3)
بكلِّ نجمٍ فيَعجزون عن معارضته، زاد ذلك قوَّة قلبه.
ومنها: أنَّ نزوله بحسب الوقائع يوجب زيادةَ بصيرة وغوصاً في المعنى
(4)
.
ومنها: انضمام القرائنِ الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يُعِين على البلاغة، وأما أنَّ الناسخ والمنسوخ لا يجتمعان، وكذا أسباب النزول لا يجتمعنَ، فليس من الفوائد وإن كان من جملة البواعث لذلك.
(1)
في (ع): "عن".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "أنزلناه كذلك إنزالًا".
(3)
في (ك): "متحد".
(4)
في هامش (ف): "رد لمن قال: لأنَّه يخالف حال موسى عليه السلام، ثم إن ذلك القائل غافل عن نزول التوراة مكتوباً فهو بمعزل عما نحن فيه. منه".
ويحتمل أن يكون {كَذَلِكَ} من تمام كلامِ الكفرة، ولذلك وقف عليه، فيكون حالاً، والإشارة إلى الكتب السالفة، واللام على الوجهين متعلِّق بمحذوف.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} : وقرأناه عليك شيئًا بعد شيء على تُؤَدةٍ وتَمهُّلٍ، وأصله الترتيل في الأسنان وهو تفليجها
(1)
.
* * *
(33) - {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} .
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} سؤالٍ عجيبٍ من سؤالاتهم الباطلة، كأنه مَثَلٌ في البطلان.
{إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الدافعِ له {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وبما هو أحسن بياناً، التفسير: التكشيف عمَّا يدلُّ عليه الكلام.
* * *
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} ؛ أي: يُساقون ويُجرُّون {عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} ، ذمٌّ منصوب أو مرفوعٌ، أو مبتدأٌ خبرُه:
{أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} جعل مكانهم شرًّا ليكون أبلغَ في الدلالة على شرارتهم، وقيل:{مَكَانًا} : مُنصَرَفاً.
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وصفُ السبيل بالإضلال من الإسناد المجازيِّ للمبالغة، والمفضَّل عليه هو الرسولُ عليه الصلاة والسلام على طريقةِ قوله:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية [المائدة: 60]، كأنه قيل: إنَّ
(1)
في (ف) و (م): "تقليحها".
حاملَهم على هذه الأسولة
(1)
تحقيرُ مكانه بتضليل سبيله
(2)
، ولا يعلمونَ حالَهم ليعلموا أنَّهم شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً.
* * *
(35) - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : التوراةَ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} في عبارة {مَعَهُ} إشارةٌ إلى أصالةِ موسى عليه السلام في أمر الدعوة {أَخَاهُ هَارُونَ} بدل أو عطفُ بيان {وَزِيرًا} وهو في اللغة: مَن يُرجَع إليه ويُتحصَّن برأيه، مِن الوَزَر وهو الملجأ، والوزارة لا تنافي النبَّوة؛ فقد كان يُبعَث في الزمن الواحد أنبياءُ، ويُؤمَرون بأن يُوازرَ بعضهم بعضاً.
* * *
(36) - {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} .
{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ؛ أي: فرعونَ وقومِه.
{فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} التدميرُ: الإهلاك
(3)
بأمرٍ عجيبٍ، أراد الاختصارَ فاقتصر على حاشيتي القصَّة؛ لأنَّها المقصودُ منها، وهو إلزامُ الحجَّة ببعثة الرسل، واستحقاقُ التدمير بتكذيبهم، فالفاء فصيحةٌ، وهي فاءٌ سببيَّةٌ، ولا يلزمها التعقيب.
* * *
(1)
في (ك): "الأسئلة".
(2)
في (ف): "سببه".
(3)
في (م): "الهلاك".
{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوب بفعل مقدَّر يفسِّره هذا الظاهر؛ أي: أغرقنا قومَ نوحٍ، والعامل في {لَمَّا} ذلك المحذوف.
{كَذَّبُوا الرُّسُلَ} : أنكروا البعثةَ مطلقًا كالبراهمة.
{أَغْرَقْنَاهُمْ} بالطُّوفان {وَجَعَلْنَاهُمْ} : وجعلنا قصَّتهم {لِلنَّاسِ آيَةً} : عبرةً.
{وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} لقومِ نوحٍ عليه السلام، وأصله
(1)
: وأعتدنا لهم، إلَّا أنه أراد تظليمَهم فأُظهروا، وهو عامٌّ لكلِّ مَن ظَلَمَ ظُلْمَ شركٍ، ويتناولهم بعمومه.
{عَذَابًا أَلِيمًا} في جهنَّم، وأمَّا عذابهم في البرزخ فغيرُ متراخٍ عن إغراقهم.
* * *
(38) - {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} .
{وَعَادًا وَثَمُودَ} عطفٌ على (هم) في {وَجَعَلْنَاهُمْ} ، أو على {لِلظَّالِمِينَ} لأنَّ المعنى: ووعدنا الظالمين.
وإنَّما صُرفَ (ثمود)؛ على تأويل الحيِّ، أو لأنَّه اسمُ الأبِ الأكبرِ، وقرئ:{وَثَمُودَ}
(2)
على تأويل القبيلة.
{وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} هم قومُ شعيبٍ عليه السلام كانوا يعبدون الأصنامَ فكذَّبوا
(1)
"وأصله": ليست في (م).
(2)
قرأ بها حفص وحمزة، وقرأ الباقون بالصَّرف. انظر:"التيسير"(ص: 125).
شعيباً، فبينما هم حول {الرَّسِّ} - وهو البئرُ غيرُ المطويَّة
(1)
- انهارت بهم، فخُسف بهم وبديارهم.
وقيل: الرَّسُّ: قريةٌ نبيِّهم، فهلكوا وهم أصحاب الرَّسِّ والأُخدود.
{وَقُرُونًا} : وأهلَ أعصارٍ، قد مرَّ تفسير القرون في سورة الأنعام.
{بَيْنَ ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر {كَثِيرًا} لا يَعلمها إلا الله.
* * *
(39) - {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} .
{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} بيَّنَّا له القصصَ العجيبةَ من الأمم التي كانت قبلهم؛ أي: حذَّرنا كلَّ أمة أن يَنزل بها ما نزل بمَن قبلها، فلمَّا أصرُّوا أُهلكوا، كما قال:
{وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} ؛ أي: أهلكنا إهلاكاً، وأصلُ التَّتبيرِ: التفتيتُ، ومنه: التِّبْر، لِفُتاتِ الذهبِ والزجاجِ.
و (كلًّا) الأوَّل منصوب بما دلَّ عليه {ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} ، وهو: أَنذرْنا، أو: حذَّرنا، والثاني بـ {تَبَّرْنَا} لأنَّه فارغ له.
* * *
{وَلَقَدْ أَتَوْا} يعني: أهلَ مكَّة {عَلَى الْقَرْيَةِ} سَدُوم، وهي أعظمُ قرى قومِ لوط عليه السلام.
(1)
أي: غير المبنية، يقال: طويت البئر، إذا بنيتَها بالحجارة.
{الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} ؛ أي: أُهلكت بالحجارة، و {مَطَرَ السَّوْءِ} مفعول ثانٍ، والأصل: أُمطرت القريةُ مطراً، أو مصدر محذوف الزوائد؛ أي: إمطارَ السَّوء.
{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} في مِرَارِ مرورهم فيتَّعظون بما يَرَون فيها من آثار عذابِ الله تعالى.
{بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} : بل كانوا كفرةً لا يخافون
(1)
نشوراً، فلذلك لم يَنظروا ولم يتَّعظوا.
* * *
(41) - {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} .
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} : ما يتَّخذونك {إِلَّا هُزُوًا} : موضعَ هُزُوٍ، أو: مَهزوءاً به.
{أَهَذَا} محكيٌّ بعد القول المضمَر، و (هذا) استصغارٌ واستحقار؛ أي: قائلين: {أَهَذَا} .
{الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} والعائدُ إلى {الَّذِي} محذوف؛ أي: بعثه الله، وإخراجُه في معرض التسليم بجعله صلةً وهم في غاية الإنكارِ تهكُّمٌ واستهزاءٌ.
* * *
(1)
في (ف): "لا يرجون".
{إِنْ كَادَ} : إنَّه كاد {لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} : ليَصرفُنا عن عبادتها
(1)
{لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} فيه دلالةٌ على فرط مجاهدةِ الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوتهم وعَرْضِ المعجزاتِ عليهم، حتى شارفوا - بزَعْمهم - أن يَتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرطُ لجاجِهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم.
ولمَّا عَدُّوا عبادتهم الأصنام رشاداً واعتقدوا صرفهم عنها ضلالاً، أوعدهم الله تعالى فقال:
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فيه وعيدٌ ودلالةٌ على أنَّه لا يُهملِهم وإنْ أَمهلهم.
* * *
(43) - {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} .
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ؛ أي: مَن أطاع هواه فيما يأتي وَيذَر، فهو عابدُ هواه وجاعلُه آلهةً، فيقول لرسوله: هذا الذي لا يَرى معبوداً إلَّا هواهُ كيف تستطيع أنْ تَدعوَه إلى الهدى، وإنَّما قدَّم المفعول الثاني للإشعار بأنَّ المعبودَ حقُّه التقديمُ والتعظيم، فهم أَخلُّوا بحقِّه حيث اتخذوا أهواءَهم آلهةً
(2)
.
{أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} ؛ أي: حفيظاً تحفظه عن متابعة هواهُ وعبادةِ ما يهواهُ، أو: أفأنت تكون عليه موكَّلاً فتصرِفَه عن الهوى إلى الهدى، عرَّفه أنَّ إليه التبليغ فقط، فالاستفهام الأول للتعجُّب والتقرير، والثاني للإنكار.
(1)
في (م): "عبادتنا".
(2)
في هامش (ع) و (ف) و (م): "ومن زعم أنه قدِّم لمجرَّد العناية، فكأنَّه عن أن مثل هذا التقديم لا يكون بسلامة الأمر. منه".
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} فيُجدي لهم الآياتُ أو الحِجَجُ فتهتمَّ بشأنهم وتطمعَ في إيمانهم.
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (أم) منقطعة، معناه: بل أَتحسب، كأنَّ هذه المذمَّة أشدُّ من التي تقدَّمتْها حتى حُقَّت بالإضراب عنها إليها، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول؛ لأنَّهم لا يُلقُون إلى استماع الحقِّ أُذُناً، ولا إلى تدبُّره
(1)
عقلاً، ومشبَّهين بالأنعام التي هي مَثَلٌ في الغفلة والضلالة، فقد رَكِبهم الشيطانُ بالاستزلال لتركهم الاستدلال.
ثم هم أَرجحُ ضلالةً منها؛ لأنَّ الأنعامَ تُسبِّح ربَّها وتسجد له، وتطيع مَن يَعلفها، وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسِيءُ إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادونَ لربِّهم ولا يَعرفون إحسانه إليهم مِن إساءةِ الشيطان الذي هو عدوُّهم، ولا يطلبون الثوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقاب الذي هو أشدُّ المضارِّ، ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المَشْرع الهنيُّ والعَذْب الرَّويُّ.
وإنَّما ذكر الأكثر؛ لأنَّ فيهم مَن لم يصدَّه عن الإسلام إلَّا حبُّ الرئاسة، وكفى به داءً عضالاً، ولأنَّ فيهم مَن آمَنَ.
* * *
(1)
في (ك): "نذيره".
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} : أَلم تنظر إلى صُنع ربِّك وقُدْرته {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ؛ أي: بَسَطه فعمَّ الأرضَ؛ وذلك من حينِ طلوع الفجر إلى وقتِ طلوع الشمس في قول الجمهور، ولأنَّه ظلٌّ ممدودٌ لا شمس معه ولا ظُلْمة، وهو أطيب الأحوال، فإنَّ الظُّلْمة الخالصة تُنفِّر الطبع وتسدُّ النظر، وشعاعَ الشمس يُسخِّن الجوَّ ويُبهِر البصرَ، ولذلك وَصَف به الجنة فقال:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30].
{وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} : ثابتاً دائماً لا يَزول ولا تُذهِبه الشمسُ، وفيه دليل على أنه تعالى يَفعل بالقدرة والاختيار لا بالإيجاب والاضطرار.
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} لأنَّه بالشمس يُعرَف الظِّلُّ، ولولا الشمسُ لَمَا عُرفَ الظِّلُّ، فالأشياء تُعرَف بالأضداد.
* * *
(46) - {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} .
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} القَبْض: جَمْعُ المنبسطِ من الشيء، والمراد: إزالتُه بإيقاع الشيء موقعَه.
{إِلَيْنَا} ؛ أي: حيث أردنا.
{قَبْضًا يَسِيرًا} : سهلاً، أو قليلاً قليلاً.
وجاء بـ {ثُمَّ} في الموضعين؛ لتفاضُل الأمور.
* * *
(47) - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} شبَّه ظلامَه الساترَ باللباس.
{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} : راحةً للأبدان بقطع المشاغل، وأصلُ السَّبْتِ: القَطْعُ، والنائمُ مسبوتٌ؛ لأنَّه انقطع عملُه وحركتُه.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} : ذا نشور؛ أي: انبعاثٍ من النوم، كنُشُور الميت، أو يَنشُر فيه الخَلْقَ للمعاش.
وفي هذه الآية - مع دلالتها على قدرة الخالق - إظهارٌ لنعمته على خَلْقه، فإن في الاستجنان
(1)
بستر الليل فوائدَ دينيَّةٍ ودنيويَّة، وفي النوم واليقظة الشَّبِيهين بالموت والحياة عبرةً لمن اعتَبر.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وقرئ على التوحيد
(2)
؛ إرادة للجنس {نُشُرًا} ناشراتٍ للسَّحاب، جمع: نَشُور، وقرئ بالفتح على أنه مصدرٌ وصفت به، وقرئ:{بُشْرًا} تخفيف بُشُر
(3)
، جمع: بَشُور، بمعنى مُبشِّر.
(1)
في (ع) و (ي): "الاحتجاب"، وفي (ف):"الاستحباب". واضطرب رسمها في (م)، والمثبت من (ك).
(2)
قرأ بها ابن كثير، وقرأ الباقون بالجمع. انظر:"التيسير"(ص: 125).
(3)
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {نُشُرًا} بضم النون والشين، وابن عامر:{نُشُرًا} بضم فسكون، وعاصم:{بُشْرًا} بالباء، وقرأ الباقون:{نُشُرًا} بفتح فسكون. انظر: "التيسير"(ص: 125).
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} : قدَّام المطر؛ لأنَّه ريح ثم سحاب ثم مطر، وهذه استعارةٌ مَليحةٌ.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} : بليغاً في طهارته، وذلك لأنَّه لم يَشُبْهُ شيءٌ، بخلاف ما نَبَعَ من الأرض ونحوه، فإنَّه يَشوبُه أجزاءٌ أرضيَّةٌ مِن مَقرِّه أو مِن ممرِّه، أو ممَّا يُطرَح فيه، وقيل: مُطهِّراً لقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، وهو اسمٌ لِمَا يُتطهَّر به، كالوضوء لَمَا يُتوضَّأ به، قال عليه الصلاة والسلام:"الترابُ طهورُ المؤمنِ"
(1)
.
* * *
(49) - {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} .
{لِنُحْيِيَ بِهِ} بالنباتِ {بَلْدَةً} ذكَّر {مَيْتًا} على إرادة البلد والمكان، أو لأنَّه غير جارٍ على الفعل كسائر أبنية المبالغة، فأُجري مجرى الجامد.
{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} وقرئ: (ونَسْقِيَه)
(2)
، وسَقَى وأَسْقَى لغتان، والأناسيُّ: جمع إِنْسِيٍّ على القياس، ككِرْسيّ وكَراسيَّ، أو: إنسانٍ، وأصله: أَناسِين، كسِرْحان وسَراحين، فأُبدلت النونُ ياءً وأُدغمت.
وقدِّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسيِّ لأنَّ حياتها سببٌ لحياتهما، فقدِّم سبب حياتهما على سقيهما.
(1)
رواه أبو داود (333)، والترمذي (104)، ولفظه:"إنَّ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ طَهورٌ، وإن لم تَجِدِ الماءَ إلى عَشرِ سِنينَ .. "، من حديث أبي ذرٍّ الغفاري، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2)
قرأ بها ابن مسعود، والأعمش والمفضل في رواية عن عاصم. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 105). والمشهور عن عاصم كقراءة الجماعة.
وتخصيصُ الأنعامِ مِن بين الحيوانِ الشارب؛ لأنَّ عامَّةَ منافع الأناسيِّ متعلِّقةٌ بها، فكان الإِنعامُ بسقي الأَنعام كالإِنعام بسقيهم.
وتنكيرُ الأنعام والأناسي ووصفُهما بالكثرة؛ لأنَّ أكثر الناس مُنيخون بالقُرب من الأودية والأنهار، فيهم غُنيةٌ عن سقي الماء، وأعقابهم - وهم كثيرٌ - يعيشون بما ينزل من رحمته.
وتنكيرُ البلدة؛ لأنَّه يريد بعضَ بلاد هؤلاء المتبعِّدين
(1)
عن مظانِّ الماء.
ولمَّا كان سقيُ الأناسيِّ من جملة ما أُنزِل له الماءُ وَصَفه بالطَّهور؛ إكرامًا لهم، وبياناً أنَّ من حقِّهم أن يُؤثِروا الطهارةَ في بواطنهم وظواهرهم؛ لأنَّ الطهورَّيةَ شرطٌ للإحياء.
* * *
(50) - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} .
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} : صرَّفنا هذا القولَ بين الناس في القرآن وسائرِ الكُتُب المنزلة على الرسل.
{لِيَذَّكَّرُوا} : ليتفكَّروا ويعتبروا، أو يعرفوا كمالَ القدرة وحقَّ النعمة فيَشكروا.
{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} : فأَبى أكثرُهم إلَّا كفر أن النعمة وقلَّةَ الاكتراث لها، وإنَّما عدل عن الضمير لكيلا يُتوهَّم أنَّ المرادَ أكثرُ ذلك الكثيرِ.
أو: صرَّفنا المطرَ بينهم في البلدان المختلفة والأوقاتِ المتغايرة على الصفات المتفاوتة مِن وابلٍ وطَلٍّ وجَودٍ ورذاذٍ ودِيْمَة، فأَبَوا إلَّا كفوراً، وأن
(1)
في (م): "المبعدين".
يقولوا: مُطِرنا بنَوءِ كذا، ولا يذكروا صنعَ الله تعالى ورحمته، وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما: ما مِن عامٍ أقلُّ مطراً من عامٍ، ولكن الله يُصرِّفه حيث يشاء، وقرأ الآية
(1)
.
* * *
(51) - {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} .
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} : نبيًّا يُنذِر أهلها، يعني: أنَّ المقصودَ من البعثة إبلاغُ الدعوة وإلزامُ الحجة، لا الاهتمامُ في أمر الهداية وقَبولها، وإلَّا لفعلنا ما هو أدعى لذلك من دعوة كلِّ أهلِ قريةٍ بنذيرٍ مستقلٍّ.
* * *
(52) - {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} .
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} ؛ أي: فلا تُوافِق هواهُم في بعض الأمور؛ ابتغاءً لقَبولهم الدعوة ودخولِهم في طريق الهداية.
وأمَّا ما قيل: نبيًّا يُنذِر أهلَها فيخفُّ عليكَ أعباءُ النبوَّة، لكن قَصَرْنا الأمرَ عليكَ تعظيماً لشأنك وتفضيلاً لكَ على سائر الرسل، فقابِلْ ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة، فلا تُطعِ الكافرينَ فيما يريدونك عليه.
فيَرِدُ عليه: أنَّ موجَب ذلك العطفُ بالواو دون الفاء، على ما أَفصحَ عنه مَن قال: فقابل ذلك بالتشدُّد والتصبُّر، ولا تُطع الكافرين، ولم يَدْرِ أنَّ فيه تغييراً لنَظْم القرآن وإثباتاً للقصور فيه.
(1)
رواه الطبري في "التفسير"(17/ 468)، والحاكم في "المستدرك"(3520) وصححه.
{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} لترك طاعتهم الذي دلَّ عليه {فَلَا تُطِعِ} يعني: أنَّهم يجتهدون في إبطال حقِّك، فقابِلْهم بالاجتهاد في مخالفتهم
(1)
وإزاحة باطلهم.
{جِهَادًا كَبِيرًا} لأنَّه جهاد مع كلِّ الكفرة، على ما فُهم ممَّا سبق مِن بعثه إلى
(2)
جميع القرى وجملة الأمم.
ثم عاد إلى تعداد النِّعَم فقال:
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} : خلَّاهما متجاورين متلاصقين، تقول: مرجتُ الدَّابَّة، إذا خلَّيتَها ترعى، وسمَّى الماءَين الكثيرين الواسعين بحرين.
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطش مِن فرط عذوبته.
{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ الملوحة، وقرئ:(مَلِحٌ) على فَعِلٍ
(3)
، ولعلَّ أصله: مالح، فخفّف، كبَرِدٍ في بارد، وقد نقل الأزهريُ عن الكسائيِّ صحَّةَ: مالح، وإن كان المليحُ الفصيحُ: مِلْح
(4)
.
{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} : حاجزاً من قُدرته.
{وَحِجْرًا مَحْجُورًا} : وتنافراً بليغاً، كأنَّ كلًّا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوِّذ
(1)
في (ف) و (م): "مقابلتهم".
(2)
في (ك): "بعثته إلى"، وفي (م):"بعثه على".
(3)
نسبت لطلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي في غير المشهور عنه. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 105)، و "المحتسب"(2/ 125).
(4)
انظر: "تهذيب اللغة"(5/ 64)، والنقل فيه عن أبي الدقيش لا عن الكسائي.
عنه، أو: ستراً ممنوعاً عن الأعين، كقوله:{حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45].
* * *
(54) - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} .
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ} : من النطفة {بَشَرًا} لم يقل: إنساناً، لأَّن حقيقته وهو الروح غيرُ مخلوق منها.
{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} أراد تقسيم البَشَر قِسْمَين:
ذوي نَسَب؛ أي: ذكوراً يُنسَب إليهم، فيقال: فلان بنُ فلانٍ، وفلانةُ بنتُ فلانٍ.
وذوات صهر؛ أي: إناثاً يُصاهَر بهنَّ، وهو كقوله:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39].
{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} حيث خَلَقَ من النطفة الواحدة تَوأَمَيْنِ ذكراً وأنثى.
* * *
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ} إنْ عبدوه {وَلَا يَضُرُّهُمْ} إنْ تركوه.
{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ} : على معصيته {ظَهِيرًا} مُعيناً ومظاهراً، يعني: للشيطان، وفَعِيل بمعنى مفاعل غيرُ عزيزٍ.
* * *
(56) - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} .
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} للمطيعين {وَنَذِيرًا} للعاصين؛ كافراً كان أو مؤمنًا.
* * *
(57) - {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} .
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} : على التبليغ الذي دلَّ عليه {إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} .
{مِنْ أَجْرٍ} : جُعْلٍ {إِلَّا مَنْ شَاءَ} : إلَّا فعلَ مَن شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} : أن يتقرَّب إليه ويَطلُب الزُّلفى عنده بالإيمان والطاعة، فصوَّر ذلك بصورة الأجر من حيث إنَّه مقصودٌ فِعْلُه، واستثناه منه قلعاً لشُبهة الطمع، وإظهاراً لغاية الشفقة، حيث اعتدَّ بإنفاعك نفسَك بالتعرُّض للثواب والتخلُّص عن العقاب أجراً وافياً مرضيًّا به، مقصوراً عليه، وإشعاراً بأنَّ طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته
(1)
.
* * *
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} : اتَّخذْ مَن لا يموت وكيلاً، لا يَكِلْك إلى مَن يموت ذليلاً، يعني: ثِقْ به وأَسْنِد أمرَك إليه في استكفاءِ شرورهم والإغناءِ عن أجورهم، فإنه الحقيقُ بأن يُعتمَد عليه في كلِّ أمرٍ.
(1)
قوله: "اعتدّ" الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير "إنفاعك" لغير معيَّن، والمراد: كل مؤمن مبلَّغ، والإنفاع لم يوجد في اللغة، وإنما فيها النفع، ولذلك غلط البيضاوي في استعماله، و "بالتعرض" متعلق به، فهو كقول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابًا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. وقوله: "أجرًا" منصوب بـ "اعتد" لتضمنه معنى الجعل، وكونه وافيا أي: تامّا مرضياً لحصره فيه لعدم الاعتداد بغيره. وقوله: "به" متعلق بـ "مرضيا" لتضمنه معنى قانعًا، أو الباء زائدة وضمير عليه للأجر أو للرسول صلى الله عليه وسلم، وكون طاعتهم تعود عليه من جعلها أجرا له. انظر:"حاشية الشهاب"(6/ 432).
{وَسَبِّحْ} ونزِّهْه عن أن يَكِلَ إلى غيره مَن توكَّل عليه {بِحَمْدِهِ} : بتوفيقه الذي يُوجب الحمدَ.
{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظَهَر منها وما بَطَن {خَبِيرًا} : مطَّلعاً، يعني: أنَّه عالمٌ بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم.
* * *
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قد سبق الكلام فيه، وذكره هنا لزيادة تقريرٍ لكونه حقيقًا بأنْ يُتوكَّلَ عليه من حيث إنه الخالق للكُلِّ والمتصرِّف فيه، وتحريضٌ على الثبات والتأنِّي في الأمور، فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعةِ نفاذِ أمره في كلِّ مراد خَلَقَ الأشياء على تَؤدَةٍ وتدرُّجٍ.
{الرَّحْمَنُ} خبر لـ {الَّذِي} إنْ جُعل مبتدأً، أو لمحذوفٍ إنْ جعل صفةً لـ {الْحَيِّ} ، أو بدلاً من المستكنِّ في {اسْتَوَى} ، وقرئ بالجَرِّ
(1)
صفةً لـ {الْحَيِّ} .
{فَاسْأَلْ بِهِ} السؤال كما يعدَّى بـ (عن) لتضمُّنه معنى البحث والاستفسار، يُعدَّى بالباء لتضمُّنه معنى الاعتناء، قيل: إنَّه صلة {خَبِيرًا} أي: فاسأل عمَّا ذكر من الخَلْق والاستواء عالماً يُخبرْك بحقيقته، وهو الله تعالى، أو جبريل عليه السلام، أو مَن وجده في الكتب المتقدِّمة ليصدقَكَ فيه.
* * *
(1)
قرأ بها زيد بن علي. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 216)، و "البحر المحيط"(16/ 224).
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} : للمشركين: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ؛ أي: لا نعرف الرحمنَ فنسجدَ له، فهذا سؤال عن المسمَّى به؛ لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، والسؤال عن المجهول بـ (ما)، أو لأنَّهم ظنُّوا أنه أراد به غيرَه، ولذلك قالوا:
{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} ؛ أي: للَّذي تأمرنا بالسجود له، أو لأمرك لنا من غيرِ عرفان، وقرئ:{تَأْمُرُنَا} بالياء
(1)
، على أنه قولُ بعضِهم لبعضٍ.
{وَزَادَهُمْ} ؛ أي: الأمرُ المذكورُ {نُفُورًا} : تباعُداً عن الإيمان.
* * *
(61) - {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} .
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يعني: البروج الاثني عشر، سُمِّيت به لظهورها وارتفاعها، قال الزجَّاج: كلُّ ظاهرٍ مُرتفِعٍ يقال له: بُرْجٌ
(2)
.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} يعني: الشمس لتوقُّدها، قال تعالى:{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16]. وقرئ: {سِرَاجًا}
(3)
وهي الكواكبُ الكبارُ.
وقيل: الشمس والكواكب الكبار، وعلى هذا يَلزم تخصيصُ القمرِ بالذِّكر بعد دخوله في السُّرُج، مع أنَّ حقَّ التخصيص بالذِّكر للشمس؛ لظهور فضيلتها على سائرها.
(1)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 164).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 73).
(3)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 164).
{وَقَمَرًا مُنِيرًا} أي: مضيئاً بالليل، وقرئ:(قُمْراً) كالرَّشَد والرُّشْد، والعَرَب والعُرْب
(1)
.
* * *
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} جعلهما ذَوَي خِلْفةٍ؛ يَخلُف كلٌّ منهما الَاخَر؛ بأن يَقوم مقامه فيما ينبغي أن يُعمَل فيه، أو بأن يَعتقِبان
(2)
؛ لقوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]، وهي للحالة مِن خَلَفَ، كالرِّكْبة والجِلْسة.
{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} : يتذكَّر اَلاءَ الله ويتفكَّرَ في صنعه فيَعلم أنَّه لا بُدَّ له من صانعٍ حكيمٍ.
{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} : أن يَشكُرَ اللّهَ على ما فيه مِن النِّعم.
* * *
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} مبتدأٌ، خبره في آخر السورة {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} .
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} وإضافتهم إلى الرحمن للتخصيص والتفضيل، وقرئ:(وعُبَّادُ الرحمنِ)
(3)
على أنه جمع: عابِد، كتُجَّار وتاجِر.
(1)
نسبت للحسن والأعمش والنخعي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 105)، و "الكشاف"(3/ 290)، و "والمحرر الوجيز"(4/ 217)، و "البحر"(16/ 229).
(2)
في (م): "يعتقبا".
(3)
قرأ بها اليماني. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 105).
{هَوْنًا} حالٌ أو صفةٌ للمشي؛ أي: هَيِّنين، أو مشياً هيِّناً، والهونُ: الرِّفق واللِّين؛ أي: يمشون بسكينةٍ ووقارٍ وتواضعٍ دون مرحٍ واختيال وتكبُّر، ولذا ولقولِه:{وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] كَرِهَ بعضُ العلماء الركوبَ في الأسواق.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} ؛ أي: السفهاءُ بما يَكرهون {قَالُوا سَلَامًا} : سداداً من القول يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم، أو: تسلُّماً منكم؛ نتارككم ولا نجاهلكم، فأقيم السلام مقام التسلُّم
(1)
.
قيل: نَسَختها آيةُ القتال. ولا وجه له؛ لأن الإغضاءَ عن السفهاء مُستَحسنٌ شرعاً ومروءةً.
هذا وصفُ نهارهم، ثم وَصَفَ ليلَهم بقوله:
(64) - {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} .
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا} : جمع ساجد {وَقِيَامًا} : جمع قائم، والبيتوتةُ خلاف الظلول، وهي أن يُدرِككَ الليلُ، نمتَ فيه أو لم تَنَم، وتخصيصُها لأن العبادةَ بالليل أحمزُ وأبعدُ من الرياء، وتأخيرُ القيام لمحافظة الفاصلة.
* * *
(65) - {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} .
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} : لازماً، ومنه الغريم لملازمته، وهو إيذانٌ بأنهم مع حُسْنِ مخالطتهم مع الخَلْق
(1)
في (ف) و (ك): "التسليم".
واجتهادهم في عبادة الحقِّ وَجِلونَ مِن العذاب، مبتهِلونَ إلى الله في صَرْفه عنهم؛ لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقِهم على استمرار أحوالهم.
* * *
(66) - {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} .
{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} {سَاءَتْ} في حُكْم: بِئْسَت، وفيها ضميرٌ مُبهَمٌ يُفسِّره {مُسْتَقَرًّا} والمخصوصُ بالذَّمِّ ضميرٌ محذوفٌ معناه: ساءَت مستقرًّا ومقاماً هي، وهذا الضمير هو الذي ربط الجملةَ باسم (إنَّ) وجعلها خبراً لها.
أو بمعنى: أَحْزَنَت، وفيها ضمير اسم (إنَّ)، و {مُسْتَقَرًّا} حالٌ أو تمييزٌ، والجملة تعليلٌ للعلَّة الأولى، أو تعليلٌ ثانٍ، وكلاهما يحتمِلان الحكاية والابتداء من الله تعالى.
* * *
(67) - {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} .
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} الإسرافُ: مجاوزة الحدِّ في الإنفاق، والإقتارُ: التقصيرُ عمَّا لا بُدَّ منه، وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: الإسرافُ: الإنفاقُ في معصية الله تعالى قلَّ أو كَثُرَ، والإقتار: مَنْعُ حقِّ اللهِ تعالى من المال
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: "مَن مَنَعَ حقًّا فقد قَتَر، ومَن أَعطى في غيرِ حقٍّ فقد أَسرف"
(2)
.
(1)
رواه عنه الطبريُّ في "التفسير"(17/ 497 - 498). وانظر: "المحرر الوجيز"(4/ 220).
(2)
انظر: "تفسير النسفي"(2/ 549).
{وَلَمْ يَقْتُرُوا} بضمِّ التاء، وبضمِّ الياء وكسرِ التاء، وبفتحِ الياء وكسرِ التاء
(1)
، والقترُ والإقتارُ والتَّقتيرُ: التضييقُ الذي هو ضدُّ الإسراف.
{وَكَانَ} ؛ أي: إنفاقهم {بَيْنَ ذَلِكَ} أي: الإسراف والإقتار.
{قَوَامًا} القَوام بالفتح: العَدل، وبالكسر: العماد، وهو ما يُقام به الحاجة، لا يَفضُل عنها ولا يَنقص، وهو خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ مؤكِّدة، ويجوز أن يكون الخبرُ {قَوَامًا} ، و {بَيْنَ ذَلِكَ} لغواً.
* * *
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ؛ أي: لا يُشرِكون.
{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} ؛ أي: حرَّمها، يعني
(2)
: ذمَّ قتلها
(3)
، وهي نفس الإنسان.
{إِلَّا بِالْحَقِّ} متعلِّق بالقتل المحذوف، أو بـ {لَا يَقْتُلُونَ} .
{وَلَا يَزْنُونَ} نفى عنهم أُمَّهات المعاصي بعدما أَثبت لهم أصولَ الطاعات؛ إظهاراً لكمال إيمانهم، وإشعاراً بأنَّ الأجر المذكور موعودٌ للجامع
(1)
قرأ بالثانية نافع وابن عامر، وبالثالثة ابن كثير وأبو عمرو، وبالأولى الباقون. انظر:"التيسير"(ص: 164).
(2)
في (م): "أي".
(3)
في (ف) و (ك): "حرم قتلها". وجاء في هامش (ع) و (ف): "أراد بالقيد المذكور الاحتراز عن نفس الحيوان فإن قتلها غير محرم. منه".
بين ذلك، وتعريضاً للكفرة بأضدادهم، ولذلك عقَّبه الوعيد؛ تهديداً لهم فقال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} قال أبو عبيدة: الأثامُ: العقوبةُ
(1)
، وقرئ:(أيَّاماً)
(2)
أي: شدائدَ، يقال: يومٌ ذو أيَّام؛ أي: صَعْبٌ.
* * *
(69) - {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} .
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بدلٌ مِن {يَلْقَ} لأنهما في معنًى واحد؛ إذ مضاعفةُ العذاب هي لُقيُّ الآثام.
وقرئ: {يُضَاعَفْ}
(3)
على الاستئناف، أو على الحال، وكذلك {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
(4)
: ذليلاً.
* * *
{إِلَّا مَنْ تَابَ} عن الكفر {وَآمَنَ} بمحمَّد عليه الصلاة والسلام {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} بعد توبته.
{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بأن يمحوَ سابق معاصيهم بالتوبة، ويُثبِت مكانها لواحقَ طاعاتهم، أو يوفِّقَهم للمحاسن بعد القبائح.
(1)
انظر: "مجاز القرآن"(2/ 81).
(2)
قرأ بها ابن مسعود. انظر: "الكشاف"(3/ 101)، و "البحر المحيط"(16/ 243)، وفي مطبوع "المختصر في شواذ القراءات" (ص: 105): (الأيامى) ونسبها أيضًا لابن مسعود.
(3)
قرأ بها شعبة عن عاصم. انظر: "التيسير"(ص: 164).
(4)
وهي قراءة شعبة عن عاصم الآنفة الذكر.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} ولذلك يكفِّر السيئات {رَحِيمًا} يُبدِلها بالحسنات.
* * *
(71) - {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} .
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} : ومن خرج عن المعاصي ودخل في الطاعات؛ أي: تاب وحقَّق التوبة بالعمل الصالح {فَإِنَّهُ} بذلك {يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} مرضيًّا عنده، مُكفِّراً للخطايا، مُحصِّلاً للثواب.
* * *
(72) - {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} .
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} : لا يُقيمون الشهادةَ الباطلةَ، أو: لا يَحضرون محاضرَ الكذبِ، فإنَّ مشاهدةَ الباطل شَركةٌ فيه؛ لأنَّ حضورَهم ونظرَهم دليل على
(1)
الرضا به، وسببُ وجودِ الزيادة فيه.
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} يعني: إذا مرُّوا بأهل اللغوِ والمشتغلينَ به، وهو كلُّ
(2)
ما ينبغي أن يُلقى ويُطرح.
{مَرُّوا كِرَامًا} : مُعرِضين عنه، مُكرِمين أنفسَهم عن التلوُّث به بالوقوف
(3)
عليه والخوض فيه.
* * *
(1)
ليست في (ف) و (ك).
(2)
سقط من (ك).
(3)
في (ك) و (م): "بالتوقف". وسقطت "به" من (م).
(73) - {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} .
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} ؛ أي: قُرئَ عليهم القرآنُ، أو وُعِظوا به.
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} هذا ليس بنفي للخرور، بل هو إثباتٌ له ونفىٌ للصَّمم والعَمى، ونحوه قول الشاعر:
بأيدي رجالٍ لم يَشيموا سيوفَهم
…
ولم تكثُر القتلى بها حين سُلَّتِ
(1)
أي: بأيدي رجالٍ شاموا سيوفَهم، فقد كثرت القتلى.
يعني: أنَّهم إذا ذكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وبُكيًّا، سامعينَ باَذانٍ واعيةٍ، مُبصرين بعيونٍ باصرةٍ لِمَا أُمروا به ونُهُوا عنه، لا كالمنافقين وأشباههم، دليله:{وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] فإن القرآن يُفسِّر بعضُه بعضاً.
* * *
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} للبيان، كأنَّه قيل: هَبْ لنا {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ثم بُيِّنت القُرَّةُ وفُسِّرت بقوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} ، ومعناه: أنْ يَجعلهم اللهُ قُرَّةَ أعينٍ، وهو من قولهم: رأيتُ منكَ أسداً؛ أي: أنتَ أسدٌ.
أو للابتداء؛ على معنى: هَبْ لنا مِن جهتِهم ما تَقَرُّ به عيونُنا من طاعةٍ وصلاح،
(1)
البيت في "الكامل" للمبرد (1/ 401)، و "الأضداد" لابن الأنباري (ص: 259).
فإنَّ المؤمن إذا شاركه أهلُه في طاعةِ الله سُرَّ بهم قلبُه وقَرَّت بهم عينُه؛ لِمَا يَرى من مساعدته في الدِّين، وتوقُع لحوقهم به في الجنة.
وتنكير الأعين لإرادة تنكير القُرَّة تعظيماً، فإنَّ المضاف لا سبيلَ إلى تنكيره إلَّا بتنكير المضافِ إليه.
وإنما قيل: {أَعْيُنٍ} على القِلَّة، دون: عيون؛ لأن المرادَ أعينُ المتقين، وهي قليلٌ بالإضافة إلى عيونِ غيرهم.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} : أئمَّةً يَقتدون بنا في أمرِ الدِّين بإفاضة العلمِ والتوفيق للعمل، واكتفى بالواحد لدلالته على الجنس وعدم اللَّبْس، كقوله:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] أو لأنَّه مصدر في الأصل، أو لأنَّ المرادَ: واجْعَل كلَّ واحدٍ منَّا، أو لأنَّهم كنفسٍ واحدةٍ؛ لاتِّحادهم في الطريقة واتفاقِ كلمتهم.
وقيل: جمعُ اَمٍّ، كصائمٍ وصيامٍ، ومعناه: قاصدين لهم مقتدِين بهم، قيل في الآية:
(75) - {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} .
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} ؛ أي: الغُرُفات؛ وهي العلالي في الجنَّة، فوحِّد اقتصاراً على الواحد الدالِّ على الجنس، دليلُه قوله تعالى:{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].
{بِمَا صَبَرُوا} : بصبرهم على المشاقِّ مِن مضض الطاعات، ورفض الشهوات، وتحمُّل المجاهدات.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} دعاءٌ بالتعمير وبالسلامة، يعني: أنَّ الملائكة
يُحيُّونهم ويسلِّمونهم، أو يُحيِّي بعضُهم بعضاً ويُسلِّم عليه، وقرئ:{يُلَقَّوْنَ}
(1)
مِن لقي
(2)
.
* * *
(76) - {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} .
{خَالِدِينَ فِيهَا} لا يموتونَ ولا يخرجونَ عنها.
{حَسُنَتْ} ؛ أي: الغرفة {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} : موضعَ قرار وإقامةٍ، وهي في مقابَلةِ:{سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} مِثْله إعراباً.
* * *
(77) - {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} .
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} (ما) متضمِّنةٌ لمعنى الاستفهام، وهي في محلِّ النصب على المصدر، كأنه قيل: أيَّ عَبْءٍ يَعبأُ بكم؟ معناه: ما يصنع بكم ربِّي؟ مِن: عبأتُ الجيشَ، إذا هيَّأته.
{لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} : لولا دعاؤه إيَّاكم إلى الإسلام، أو: لو لا عبادتُكم له؛ أي: أنه خَلَقكم لعبادته؛ لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: الاعتبار عند ربِّكم لعبادتكم
(3)
، أو: ما يَصنَع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهةً، وهو كقوله تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
(1)
قرأ بها حمزة والكسائي وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 165).
(2)
في (ف) و (ك): "يلقى".
(3)
في (ف) و (ك): "لعبادته".
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بما أخبرتُكم به حيث خالفتُموه
(1)
.
وقيل: فقد قصَّرتم في العبادة، من قولهم: كذب القتالَ، إذا لم يُبالغ فيه.
وقرئ: (فقد كذَّب الكافرون)
(2)
منكم؛ لأن الخطاب لعامَّة الناس بما وجدَ في جنسهم من العبادة والتكذيب.
{فَسَوْفَ يَكُونُ} جزاء التكذيبِ وأَثَره {لِزَامًا} لازماً بكم، وإنَّما أُضمر من غير ذكرٍ للتهويل، أو التنبيه على أنه ممَّا لا يُكتنهُ كنهُه بالوصف.
وقرئ: (لَزاماً)
(3)
بمعنى اللزوم، كالثبات والثبوت.
* * *
(1)
في (م): "خالفتموني".
(2)
قرأ بها ابن الزبير وابن عباس. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 105)، و "المحتسب"(2/ 126).
(3)
قرأ بها المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمال. انظر: "البحر المحيط"(16/ 253 - 254).
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {طسم} .
{طسم} بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النُّون وإدغامها
(1)
* * *
(2) - {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} .
{تِلْكَ} الإشارة إلى آيات السُّورة.
{آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} المظهِر للحقِّ مِن الباطل.
* * *.
(3) - {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} : قاتلُها غمًّا {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} مِن أجل امتناعِ قومِك عن الإيمان
(2)
.
(لعلَّ) هنا للإشفاق؛ أي: أشفقْ على نفسِك بتخفيفِ هذا الغَمِّ والهَمِّ.
(1)
قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بإمالة فتحة الطَّاء، والباقون بإخلاص فتحها، وأظهر حمزة النُّون من هجاء سين عند الميم وأدغمها الباقون. انظر:"التيسير"(ص: 165).
(2)
في هامش (ع): "من قال: لئلا يؤمنوا، فكأنه غفل فائدة إدخال فعل الكون. منه".
ولَمَّا كانَ مظنَّة أنْ يُقال: إنَّ ذلك لتنفيذِ أمرِ اللهِ تعالى وتحصيلِ المرادات الإلهيَّة مِن الأوامر والنَّواهي تُدورِكَ
(1)
دفعُه بقوله:
(4) - {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} .
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} قاهرةً قاسرةً لهم على الإيمان، أُشيرَ إلى ذلك بقولِه:{عَلَيْهِمْ} ؛ يعني: أنَّ إيمان تلك الطَّائفة ليس بمرادٍ لنا، إنَّما المرادُ مِن بعثِكَ تبليغُ أحكامِ التَّكليفِ على ما تقتضيه الحكمة، فليس أمرُنا عن إرادةٍ، ولا نهيُنا عن كراهةٍ.
{فَظَلَّتْ} عطف على {نُنَزِّلْ} ، عطفَ (أكنْ) على (أصَّدَّق)
(2)
؛ لأنَّه لو قيل: أنزلنا، بدله لصحَّ.
{أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} الخضوعُ أمارةُ الانقياد اللَّازم للإذعان، وهو المراد هاهنا
(3)
بطريق الكناية، أصله: فظلُّوا لها خاضعين، فأقحِمَتِ الأعناق لبيان موضعِ الخضوع
(4)
، وتُرِكَ الخبرُ على أصله، وفي الكناية المقصودة مِن عبارة الخضوع إشارةٌ إلى أنَّ قهر تلك الآية قهرُ حجَّةٍ وبرهانٍ، فلا يفوت الاختيار المعتَبر في صحَّة الإيمان.
* * *
(1)
"تدورك" من (م) و (ي) و (ع).
(2)
يعني ما في سورة المنافقون: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} .
(3)
في (ع) و (ي): "هنا".
(4)
في هامش (ع) و (م): "قال المرزوقي: الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن، يقال: خاشع الطرف، خاضع العنق. منه".
(5) - {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} .
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ؛ أي: ما يجدِّد
(1)
لهم اللهُ تعالى بوحيه على نبيِّه موعظةً وتذكيراً إلَّا استمروا على ما اعتادوا عليه مِن الإعراض.
* * *
(6) - {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
{فَقَدْ كَذَّبُوا} حذفُ المفعولِ إشارةٌ إلى أنَّ تكذيبَهم تجاوَزَ عن حدِّ الخصوص إلى حدِّ العموم؛ فإنَّ تكذيبَهم محمَّداً عليه الصلاة والسلام كان تكذيباً لسائر الأنبياء المخبِرين عنه والمبشِّرين به، بل تكذيباً لله تعالى أيضًا، والفاء في قوله
(2)
:
{فَسَيَأْتِيهِمْ} فصيحةٌ، تُفصِحُ عن محذوفٍ معطوفٍ على المذكور، تقديره: واستهزؤوا به.
{أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} إتيانُ الخبرِ: عبارةٌ عن وقوعِ المحذورِ المنتَظرِ، وهذا وعيدٌ لهم، وإيذانٌ بأنَّهم سيعلمون -إذا مسَّهم العذابُ يومَ بدرٍ أو يومَ القيامةِ- الشَّيءَ الذي كانوا يستهزئون به.
* * *
(7) - {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ} الواو للعطف على محذوفٍ، تقديره: ألم يتأمَّلوا في عجائب قدرةِ اللهِ تعالى، ولم ينظروا إلى الأرض؟!
(1)
في (ك) و (م): "جدد".
(2)
"قوله" من (ك) و (م).
{كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} الزَّوجُ: اللَّونُ؛ قاله الفرَّاء
(1)
، و {كُلِّ} للإحاطة، و {كَمْ} للكثرة.
{كَرِيمٍ} : كثيرِ المنفعة، يأكل منه
(2)
النَّاسُ والإنعامُ، كالرَّجلِ الكريمِ الذي نفعُه عامٌّ.
وفيه دلالةٌ على كمال القدر، ولذلك قال:
(8) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : إنباتِ تلك الأنواع {لَآيَةً} عظيمةً على أنَّ مُنبِتَها تامُّ القدرةِ عامُّ النِّعمةِ والرَّحمةِ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} : مصدِّقين.
و {كَانَ} هنا صلة في قول سيبويه
(3)
، وهذا إخبار عن حالهم في الواقع، لا عن حالهم في علم الله تعالى.
* * *
(9) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} : المنيعُ الذي لا يغالَبُ، فليسَ لعجزِه وضعفِه طالَتْ مدَّةُ هؤلاءِ في الشِّرك والعتوِّ.
{الرَّحِيمُ} فلا يعجِّلُ في عقوبتهم؛ إذ لا يَخاف الفوت، ويقبل توبةَ مَن تابَ منهم قبل الموت.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 278).
(2)
في (ي): "منها"، وسقطت من (ف) و (ك).
(3)
انظر: "الكتاب"(1/ 73)، و "تفسير القرطبي"(16/ 11).
ولَمَّا كانَ مساقُ الكلام في بيان القُدرةِ قدَّمَ صفة العزَّة على الرَّحمة، والرَّحمة إذا
(1)
كانت عن قدرةٍ كانَت أعظمَ وقعاً.
* * *
(10) - {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} مقدَّر بـ (اذكر)
(2)
، أو ظرفٌ لِمَا بعدَه
(3)
.
{أَنِ ائْتِ} : (أن) مصدرَّية أو تفسيريَّة.
{الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم، أو لبني إسرائيل.
* * *
(11) - {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} .
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} عطفُ بيانٍ، وليس فيه اقتصارٌ على قومِه، بل اكتفاءٌ بالدِّلالة في جانبه، وإيماءٌ
(4)
للإشارة إلى أن
(5)
ظُلْمَ قومِه لاتِّباعِهم له.
{أَلَا يَتَّقُونَ} استئنافٌ للتَّعجُّب من إفراطهم في الظُّلم واجترائهم عليه، وقرئ بالتَّاء
(6)
على الالتفات للتَّوبيخ والحثِّ.
(1)
في (ف): "الرحمة إن" بدل "الرحمة، والرحمة إذا".
(2)
في (ف): "بأن ذكر".
(3)
أي: لـ {قَالَ رَبِّي} ، وليس بذاك عند الآلوسي. انظر:"روح المعاني"(19/ 145).
(4)
في (ع) و (ف) و (ي): "واعتناء"، وسقط من (ك)، والمثبت من (م).
(5)
"أن": ليست في (م).
(6)
نسبت لعبد الله بن مسلم بن يسار. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 106).
وأصلُ الاتِّقاءِ: صرفُ الأمرِ لحاجزٍ بينه وبين الصَّارف، والمرادُ: اتِّقاءُ العِقابِ بالطَّاعةِ.
* * *
(12 - 13) - {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} .
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ} الخوفُ: انزعاجُ النَّفسِ بتوقُّع الضَّررِ.
{أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي} لتكذيبهم إيِّايَّ، مستأنَفٌ أو عطفٌ على {أَخَافُ} .
{وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} على ما أرى مِن المحال، وأسمعُ من الجدال.
وينصبهما يعقوبُ
(1)
عطفاً على {يُكَذِّبُونِ} ، فالخوف متعلِّقٌ بهذه الثَّلاثة على هذا التَّقدير، وبالتَّكذيب وحدَه بتقدير الرَّفع.
{فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ؛ أي: أرسل إليه جبريلَ واجعله نبيًّا يُعينني على الرسالة، ولم يكنْ هذا الالتماس منه عليه السلام توقُّفاً في الامتثال، بل التِماسُ عونٍ في تبليغ الرِّسالة، وتمهيد العذر
(2)
في التماس المعين على تنفيذ الأمر، وكفى بطلب العون دليلاً على التَّقبُّل لا على التَّعلُّل، ومِن الدَّليلِ على ذلكَ وقوعُ {فَأَرْسِلْ} معترِضاً بين الأوائل والرَّابعة
(3)
؛ فإنَّه لو كان تعلُّلاً لأخِّر
(4)
.
(1)
انظر: "النشر"(2/ 335).
(2)
"وتمهيد العذر" سقطت من (ف) و (ك)، وفي (ع):"وتمهيد القدر".
(3)
في (ف): "الأول والرابع"، وفي (ك) و (م):"الأولى والرابعة".
(4)
في (م): "لأضر"، وفي (ف) و (ك):"لضر".
(14) - {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} : دعوى جُرْمٍ، وهو قتلُ القِبْطيِّ.
{فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} كان عندَه عليه السلام خوفان: خوفُ تلفِ النَّفسِ، وخوفُ فواتِ مصلحة الرِّسالة، وإنَّما قدَّم الثَّاني على الأوَّل تقديماً لمصلحة الرِّسالة على مصلحة نفسه كما هو اللَّائق بشأن أولي العزم مِن الأنبياء عليهم السلام.
* * *
(15) - {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .
{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} إجابةٌ له إلى الطَّلِبتَيْن بوعدِه للدَّفع اللَّازم ردعه
(1)
عن الخوف، وضمِّ أخيه إليه في الإرسال.
والفاء فصيحةٌ دلَّتْ على محذوفٍ تقديرُه ظاهرٌ مِن التَّفصيل في موضعٍ آخر، حيث قال:{وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا} الآية [الفرقان: 35 - 36]، فالخطاب في {فَاذْهَبَا} على تغليب الحاضر؛ لأنَّه عطف على الفعل الذي دلَّ عليه {كَلَّا} ، كأنَّه قيل: ارتدعْ يا موسى عمَّا تظنُّ، فاذهَبْ أنت والذي طَلَبْتَه، وهو هارون.
{إِنَّا مَعَكُمْ} يعني: موسى وهارون عليهما السلام وفرعون.
{مُسْتَمِعُونَ} الاستماعُ من السَّمع بمنزلة النَّظر من الرُّؤية، والكلام من قَبيل التَّمثيل، والمراد: إنَّا لكما ولعدوِّكما كالنَّاصر الظَّهير لكما عليه إذا حضر واستمع
(1)
في (ع) و (ي): "وردعه"، وفي (ف):"دعه". والمثبت من (ك) و (م)، وهو الموافق لكلام البيضاوي، وقال الشهاب في شرحه:"ردعه" مفعول "اللازم"، ويجوز أن يكون فاعله؛ أي: اللازم له ردعه. وقوله: "للدفع"؛ أي: لدفع بلائهم. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 7).
ما يجري بينكما وبينه، فالمفردات
(1)
على حقائقها، كما في قوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
* * *
(16) - {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا} له
(2)
{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ويجوز أنْ يُقال: أفردَ الرَّسولَ لاتِّفاقِ كلمتِهما، أو أفرد هنا
(3)
وثنَّى في قوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47]، وذلك لأنَّه كان في هارون عليه السلام جهتان؛ جهة الرِّسالة مِن الله تعالى، وجهة الوزارة لموسى عليه السلام على ما نطقَ به قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35]، فحين قيل:{فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}
(4)
[طه: 47] نظر إلى جهة رسالته من الله تعالى، وحين قيل:{فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(5)
نظر
(6)
إلى جهة وزارته لموسى عليه السلام، ولكون موسى عليه السلام أصلاً في باب الرسالة كان مخاطبة فرعون إياه ومجادلته معه خاصَّة. وإنَّما زِيدَ قوله:(له)
(7)
لعدم كاف الخطاب المغني عنه.
(1)
في (م): "فالمرادات".
(2)
"له" سقط من (ف) و (ك) و (م)، ووقعت في (ع) و (ي) ضمن الآية، وهو مراد المؤلف ظنًا منه أنها من الآية كما هو واضح من كلامه فيما سيأتي عند نهاية تفسيرها.
(3)
في (ك) و (م): "هاهنا".
(4)
"فقولا"سقط من (ف).
(5)
"فقولا" سقط من (ك) و (م).
(6)
في (م): "نظرا".
(7)
"له" سقط من (ف)، والمثبت من باقي النسخ، وهذا سهو من المؤلف رحمه الله حيث ظنها من الآية.
(17) - {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ أي: بأن أطلق بني إسرائيل عن أسر الاستعباد، وخلِّهم يذهبوا حيث شاؤوا، وهو كإرسال
(1)
الصَّيد وأهل القيد.
* * *
(18) - {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} .
{قَالَ} فرعونُ لموسى بعدَ ما أتياه وقالا له ذلك:
{أَلَمْ نُرَبِّكَ} التَّربيةُ: تنشئةُ الشَّيء حالاً بعدَ حالٍ.
{فِينَا} : في منازلنا {وَلِيدًا} : طفلاً، سُمِّيَ به لقربه مِن الوِلادة.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل: مكثَ فيهم ثلاثينَ سنةً.
* * *
(19) - {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتلَ القِبطيِّ. وبَّخَهُ به معظِّماً إيِّاه
(2)
بعدما عدَّدَ عليه مِن نِعمتِهِ، وإنَّما عرَّضَ رعايةً لدأبِ الملوكِ.
وقرئ: (فِعْلتَكَ) بالكسر
(3)
؛ لأنَّها كانَتْ قِتلةً بالوَكْزِ
(4)
.
(1)
في (ك) و (م): "كأرسل".
(2)
قوله: "وبخه به"؛ أي: بذلك القتل، وتعظيمُ القتل بما في الموصول من الإبهام الذي يستعمل لذلك كما في نحو:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] كأنه أمر لا يمكن الإحاطة به ومعرفة كنهه، وفيه أيضًا تلطف به لعدم التصريح بذنبه. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 9).
(3)
نسبت للشعبي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 105).
(4)
قوله: "قِتلةً" بكسر القاف، و (فِعْلةٌ) للهيئة والفعلِ المخصوص، كما أشار إليه بقوله:"بالوكز"، وهو الضرب بجمع كفه، وعلى الفتح هو للمرّة. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 9).
{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بنعمتي، حيث قتلْتَ خبَّازي.
* * *
(20) - {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} .
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا} ؛ أي: إذ ذاك {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} : الجاهلين، وقد قرئ به
(1)
، والمعنى: مِن الفاعلين فِعلَ أولي الجهلِ، أو: مِن الذَّاهِلين عمَّا يَؤول إليه الوَكْزُ؛ لأنَّه أراد به التَّأديب.
والضَّالُّ عن الشَّيء: هو الذَّاهِبُ عَن معرفتِه.
* * *
(21) - {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ} الفِرارُ: الذَّهابُ على وجهِ التَّحرُّزِ مِن الإدراكِ {لَمَّا خِفْتُكُمْ} أنْ تقتلوني
(2)
.
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} : حكمةً {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} : مِن جُملةِ رُسُلِهِ.
* * *
(22) - {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (تلك) إشارةٌ إلى خصلة شنعاءَ مبهمةٍ لا يُدرى ما هي إلَّا بتفسيرها.
(1)
نسبت لابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 105).
(2)
في (ف) و (م) و (ك): "تتفقدوني".
ومحلُّ {أَنْ عَبَّدْتَ} الرَّفعُ عطفَ بيانٍ لـ (تلك)؛ أي: تعبيدك
(1)
لبني إسرائيل نعمةٌ تمنُّها عليَّ! كرَّ على امتنانِه عليه بالتَّربية فأبطلَه من أصلِه، وأبى أن
(2)
يسمي نعمته إلَّا نقمة، حيثُ
(3)
بيَّنَ أنَّ حقيقةَ إنعامِه عليه تعبيدُ بني إسرائيل؛ لأنَّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السَّبب في حصوله عنده وتربيته، ولو تركهم لربَّاه
(4)
أبواه، فكأنَّ فرعونَ امتنَّ على موسى عليه السلام بتعبيد قومه وإخراجه مِن حجر أبوَيْه إذا حُقِّقَتْ
(5)
.
وتعبيدُهم: تذليلُهم واتِّخاذُهم عبيداً.
ووحَّد الضمير في {تَمُنُّهَا} و {عَبَّدْتَ} وجمع في {مِنْكُمْ} و {خِفْتُكُمْ} ؛ لأنَّ الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكنَّه منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله.
* * *
(23) - {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} لَمَّا سمع جوابَ ما طَعن به فيه
(6)
، ورأى أنَّه لم يَرْعَوِ بذلكَ، شرعَ في الاعتراض على دعواه، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسِل.
(1)
في (ف) و (م): "والمعنى أن تعبيدك"، وفي (ك):"والمعنى أن تعبدك"، بدل:"أي تعبيدك".
(2)
في (ع): "والى" بدل "وأبى أن".
(3)
في (ك) و (م): "حين".
(4)
في (ف) و (م): "ولو تركه لربه".
(5)
قال الطيبي في "فتوح الغيب"(11/ 37): (قوله: (إذا حققت)؛ أي: إذا حققت التربية والمنة التي امتن بها فرعون على موسى عليه السلام كانت تعبيد بني إسرائيل نقمة لا نعمة، فهو من تعكيس الكلام، ويروى:(حقَّقْتَ) بفتح التاء؛ أي: إذا حققت النظر أيها المخاطب).
(6)
"فيه" من (ك) و (م) و (ي)، وسقطت "به" من (ي).
(24) - {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} .
{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} عرَّفَه بأظهر خواصِّه وآثارِه لَمَّا امتنعَ تعريفُ حقيقتِه.
{إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} : إنْ كنتم تعرفون الأشياء بالدَّليل، فكفى
(1)
خلقُ هذهِ الأشياءِ دليلاً، وإن كان يُرْجَى منكم الإيقانُ الذي يؤدِّي إليه النَّظرُ الصَّحيح نفَعَكم هذا الجواب، وإلَّا لم ينفعْ.
والإيقانُ: العلمُ الذي يُستَفادُ بالاستدلال، ولذا لا يُقالُ: اللهُ موقِنٌ.
* * *
(25) - {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} .
{قَالَ} فرعونُ {لِمَنْ حَوْلَهُ} مِن أشرافِ قومِه:
{أَلَا تَسْتَمِعُونَ} مُعجِّباً قومَه مِن جوابه؛ لأنَّهم يزعمون قدَمهما
(2)
وينكرون أنَّ لهما ربًّا، فاحتاجَ موسى عليه السلام إلى أن يستدلَّ بما شاهدوا مِن حدوثِه وفنائِه.
* * *
(26) - {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} .
{قَالَ رَبُّكُمْ} عدولاً إلى ما لا مجال للنِّزاع فيه، وإنَّما قال:
{وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} لأنَّ فرعون كان يدَّعي الرُّبوبيَّة على أهل عصره، دونَ مَن تقدَّمهم.
(1)
في (م): "فيكفي".
(2)
في (ع) و (ي): "قومهما"، ومكانها بياض في "ف"، وسقطت من (ك). والمثبت من (م)، والضمير يعود على {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
(27) - {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .
{قَالَ} فرعونُ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أسألُه عن شيءٍ ويجيبُني عن آخر!
وسمَّاه رسولًا سخريةً، وترفَّعَ
(1)
عن نسبته إلى نفسه ولو سخريةً، ولذلك لم يقل:(إلينا).
* * *
(28) - {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .
{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} انتقلَ إلى هذا لأنَّ طلوعَ الشَّمس مِن أحد الخافِقَين وغروبها في الآخر على تقديرٍ مستقيمٍ في فصول السَّنة، وحسابٍ مستوٍ، مِن أظهرِ ما استدلَّ به
(2)
، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليلُ الرَّحمن عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن كنعان.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ؛ أي: إنْ كانَ لكم عقلٌ علمتُم أنَّه لا يمكنُ معرفتُه إلَّا بهذا الطَّريق.
* * *
(29) - {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .
فلمَّا تحيَّر فرعونُ ولم يتهيَّأ له أنْ يَدفعَ ظهورَ آثار صنعِه {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} عُدولاً إلى التَّهديد عن المحاجَّة بعد الانقطاع، وهكذا دَيْدَنُ المعانِدِ المحجوجِ.
(1)
في (ف): "وترفعاً".
(2)
في (م) زيادة: "وأظهره".
واللَّام في {الْمَسْجُونِينَ} للعهد؛ أي: ممَّنْ عرفْتَ حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يريد سَجنه فيطرحَه في هوَّةٍ ذاهبةٍ في الأرض، بعيدةِ العمقِ، فرداً لا يُبصرُ فيها
(1)
ولا يسمعُ، وكان ذلك أشدَّ من القتل، ولو قيل:(لأسجننك) لم يؤدِّ هذا المعنى، وإن كان أَخْصَرَ.
* * *
(30) - {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} .
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ} الواو للحال، وهمزة الاستفهام إنَّما دخلَتْ على الفعل المقدَّر، والمعنى: أتفعل ذلك ولو جئتك.
{بِشَيْءٍ مُبِينٍ} صِدْقَ دَعوايَ؛ يعني: المعجزة.
* * *
(31) - {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
{قَالَ فَأْتِ بِهِ} : بالذي يبيِّنُ صِدقَكَ {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في أنَّك قادر على إتيانه، وهذا الكلام بمعزَلٍ عن الدِّلالة على أنَّ المعجزة لا يأتي بها إلَّا الصادق
(2)
.
* * *
(32) - {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} .
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : حيَّةٌ عظيمةٌ، يُقال: انثعبَ الماءُ: إذا جرى
(1)
"فيها" ليست في (ف) و (ك).
(2)
في (ي) و (ع): "لا تأتي بهذا الصادق".
باتِّساعٍ، والمثعَبُ: المجرَى الواسِع، ومنه: الثُّعبانُ؛ لأنَّه يجري باتِّساعٍ لعظمه
(1)
.
والجانُّ أيضًا: هو العظيم من الحيَّات، ذكره في "الفائق"
(2)
.
فلا تَدَافُعَ بينَ هذا وبينَ قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل: 10]، على أنَّ المشابهة للجانِّ في الاهتزاز لا ينافي الثُّعبانيَّة، على تقدير المخالفة بينهما في القَدْرِ.
{مُبِينٌ} أبانَ عن نفسه أنَّه ثُعبانٌ حقيقةً، لا شيءٌ يشبه الثُّعبان، كما تكون الأشياء المزوَّرة بالشَّعوذة
(3)
والسِّحر.
* * *
(33) - {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} .
{وَنَزَعَ يَدَهُ} ؛ أي: أخرجَها مِن جيبِه أو كمِّه. والنَّزْعُ: إخراجُ الشَّيءِ ممَّا كان
(4)
متَّصلاً به، أو ملابساً له.
{فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} لها شُعاعٌ يكاد يُغشي الأبصار ويسدُّ الأفق.
وفي قوله: {لِلنَّاظِرِينَ} دلالةٌ على أنَّ بياضها كان شيئًا يجتمع
(5)
النَّظَّارَةُ
(6)
على النَّظر إليه؛ لخروجه
(7)
عن العادة.
(1)
في (ع) و (ف) و (ي): "لعظمته".
(2)
انظر: "الفائق"(1/ 239)(مادة: جنن).
(3)
في (ك): "بالشعبذة".
(4)
"كان" سقط من (ي).
(5)
في (ك): "تجتمع".
(6)
النَّظَّارَةُ: القوم ينظرون إلى الشيء. انظر: "الصحاح"(مادة: نظر).
(7)
في (ك) و (م): "بخروجه".
(34) - {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} .
{قَالَ لِلْمَلَإِ} : للأشراف
(1)
؛ ليلبِّسَ عليهم.
{حَوْلَهُ} منصوب بنصبَيْن؛ نصب في اللَّفظ، والعامل فيه ما يُقدَّر في الظَّرف، ونصب في المحلِّ وهو النَّصب على الحال من الملأ؛ أي: كائنين حولَه، والعامل فيه {قَالَ} .
{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} : فائِقٌ في علم السِّحر.
* * *
(35) - {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} بأنْ يُلقِي العَداوةَ والفُرْقةَ بينكم، ويستميل بعضَكُم ليحارِبَ به بعضَكُم، فيخرجَكُم مِن بلادِكم.
{فَمَاذَا} منصوب لأنَّه مفعول به، من قولك: أمرتُكَ الخيرَ
(2)
.
{تَأْمُرُونَ} : تشيرون في أمرِه، من المؤامَرة، وهي المشاوَرة.
* * *
(36) - {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ؛ أي: أخِّر أمرَهما، وإنَّما أشاروا بذلك لأنَّهم رأوا أنَّ
(1)
في (ك): "الأشراف".
(2)
قطعة من بيت اختلف في نسبته، فنسب لعمرو بن معدي كرب، وللعباس بن مرداس، ولزرعة بن السائب، ولخفاف بن ندبة. انظر:"الكتاب"(1/ 37)، و "خزانة الأدب"(1/ 331)، وتمامه:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ
…
فقد تركتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
النَّاس يُفتَنون إنْ قُتِل أو حُبِس، وأنَّ السَّحرة إذا قاومَتْه زالَ ذلك الافتتان، فكان له حينئذ عُذْرٌ في قتلِه أو حبسِه بحسب ما يراه.
{وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} : رجالاً يحشرون. والحشرُ: السَّوقُ مِن جهاتٍ مختلفة إلى مكانٍ واحدٍ.
ثم إنَّهم عارضوا قوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} بقولهم:
(37) - {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} .
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فجاؤوا بكلمة الإحاطة وصيغةِ المبالغة ليسكِّنوا بعضَ قلقِه.
* * *
(38) - {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} ؛ أي: أَنفذ الحاشرين في المدائن، وأنهم حَشَروا فجمعوا السَّحرة، فالفاء فصيحة.
{لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} : يومِ الزِّينة، وميقاتُه: وقتُ الضُّحى؛ لأنَّه الوقت
(1)
الذي وقَّتَ لهم موسى عليه السلام في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59].
والميقاتُ: ما وُقِّتَ به - أي: حُدِّدَ - مِن زمانٍ أو مكانٍ، ومنه مواقيت الإحرام.
* * *
(1)
في (ي): "وقت".
(39) - {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} .
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} ؛ أي: اجتمِعوا، وهو استبطاءٌ لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم.
* * *
(40) - {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} .
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} في دِينهم {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} : إن غلبوا موسى عليه السلام، وليس غرضُهم اتِّباع السَّحرة، وإنَّما الغرضُ أن لا يتَّبعوا موسى عليه السلام، فساقوا الكلامَ مساقَ الكناية.
والغَلَبة: الاستعلاءُ بالقوَّةِ.
* * *
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} الأجرُ: الجزاءُ على العمل بالخير، وإذا كان بالشَّرِّ يُسمَّى عقابًا.
{إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا} ؛ أي: حينئِذٍ {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} التزمَ لهم الأجرَ، والقُرْبَةَ عنده زيادةً عليه إنْ غَلَبَوا
(1)
.
* * *
(1)
في (ف): "غلبوه"، وفي (ك):"غلبه".
(43) - {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} .
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} لم يُرِدْ به أمرَهم بالسَّحر والتَّمويه، بل الإذنُ في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة؛ توسُّلاً به إلى إظهار الحقِّ، ولذلك زاد قوله:{مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} فإنَّ قوله: {أَلْقُوا} كان كافياً في جوابهم حين قالوا: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115].
* * *
(44) - {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} .
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا} ؛ أي: جاؤوا بسحرٍ عظيمٍ وقالوا، فالواو فصيحةٌ.
{بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} أقسموا بعزَّته، وهي مِن أيمان الجاهليَّة. والعزَّةُ: القدرةُ
(1)
التي يُمتَنع بها مِن إلحاقِ ضيمٍ لعلوِّ منزلَتِها.
* * *
(45) - {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} .
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} الفاءُ فصيحةٌ تنبئ عن مقدَّر ذُكِرَ في سورة الأعراف.
{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} التَّلقُّفُ: تناول الشَّيء بالفم بسرعة.
{مَا يَأْفِكُونَ} : ما يخيلونه
(2)
منقلِباً عن وجهه بتمويههم وتزويرهم، أو: إفكَهم؛ تسميةً للمأفوك به مبالغةً.
(1)
في (ع) و (ي): "القوة".
(2)
في (ف) و (م): "يحيلونه"، و في (ع):"يحبونه".
(46) - {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} .
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لعلمهم بأنَّ مثلَه لا يتأتَّى بسحرٍ.
وعبَّرَ عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة؛ لأنَّه ذُكِرَ مع الإلقاءات، ولسرعةِ ما سجدوا كأنَّهم أُلْقُوا.
* * *
(47) - {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بدلٌ مِن (ألقي) بدلَ الاشتمال، أو استئنافٌ.
* * *
(48) - {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} عطفُ بيانٍ لـ {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّهم أرادوا به فرعون؛ لأنَّه حين حشر جنوده نادى فقال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
* * *
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} ؛ أي: لموسى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بذلك.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فعلَّمكم شيئًا دون شيءٍ، فلذلك غلبَكُم، وواعدَكُم ذلك، وتواطأتم عليه، وقد أفصح عن ذلك في سورة الأعراف، وأراد به التَّلبيس على قومِه كيلا يعتقدوا أنَّهم اَمنوا عن بصيرةٍ وظهورِ حقٍّ.
{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبالَ ما قصدتم، فالفاء فصيحةٌ، ومدخولُها مرتبِطٌ
بمحذوفٍ، وهو على ما ذكر في سورة الأعراف:{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} [الأعراف: 123]، ثمَّ خبَّرَ بما كَنى عنه فقال:
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} مِن كلِّ
(1)
شِقٍّ طرفاً، وهذه الطَّريقةُ في السِّياسة على الحكمة؛ فإنَّه حينئذٍ لا ييأس الجاني عن الحياة والتَّعيُّش، فيكون القتلُ بعدَه سياسةً أخرى، بخلافِ ما إذا قُطِعا مِن شِقٍّ واحدٍ، فإنَّه حينئذٍ يكون القتلُ راحةً وإزاحةً للعذابِ المَحْضِ.
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} ؛ أي: لا أتركُ أحداً منكم لا
(2)
تنالُه عقوبتي.
* * *
(50) - {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} .
{قَالُوا لَا ضَيْرَ} : لا ضررَ، وخبر {لَا} محذوفٌ؛ أي: في ذلك، أو: علينا.
{إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} قد تقدَّم تفسيرُه في سورة الأعراف.
* * *
(51) - {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّا نَطْمَعُ} الطَّمعُ: طلبُ النَّفسِ للخير الذي يُقدَّر فيها أنَّه يكون.
{أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} ؛ أي
(3)
: ما فعلناه مِن السِّحر وغيره. والخطيئةُ: الزَّوالُ عن الاستقامة المؤدِّية إلى الثَّوابِ.
{أَنْ كُنَّا} : لأن كنَّا {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} مِن أتباعِ فرعونَ، أو مِن أهلِ المشهدِ.
(1)
"كل" سقط من (ف) و (م) و (ك).
(2)
في (ف): "إلا".
(3)
"أي" من (م).
والجملةُ في المعنى تعليلٌ ثانٍ لنفي الضَّير، أو تعليلٌ للعلَّة المتقدِّمة.
وقرئ: (إنْ كنَّا)
(1)
على الشَّرط؛ لهضم النَّفس وعدم الثِّقة بالخاتمة، أو على طريقة المُدِلِّ
(2)
بأمرِه، المتحقِّقِ لصحَّته
(3)
.
* * *
(52) - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} .
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} وكانَ هذا بعدَ سنين مِن إيمان السَّحرة.
{أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} : ببني إسرائيل، وإضافتَهم إلى نفسه للتَّشريف؛ لأنَّهم آمنوا به وصدَّقوا نبيَّه. والإسراءُ: السَّير في اللَّيل، وإنَّما زِيْدَ قولُه:
{لَيْلًا} لأنَّ المرادَ: السَّيرُ في معظمه، لا في أوائله أو أواخره.
{إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} : يتَّبعُكم عدوُّكم، وهو علَّةُ الأمر بالسَّير في الوقت المذكور، فإنَّهم لو ساروا في أوَّل اللَّيل لتبعه العدوُّ في الحال، فلا يحصل لهم التَّقدُّم، وكذا لو ساروا في آخره.
* * *
(53) - {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} ؛ أي: ففعلَ موسى عليه السلام ذلك فخرجوا، فأُخْبِرَ بذلك فرعونُ فأرسلَ، فالفاء فصيحة.
{فِي الْمَدَائِنِ} : مدائن مصر.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 106).
(2)
في (ف) و (ك): "المدلول".
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "بصحته".
وتعدية (أرسل) بـ {فِي} دون (إلى) للتَّنبيه على الاستعجال منه وسرعةِ الامتثال مِن الرُّسلِ، وعلى أنَّ ملكَ مصر كان معموراً في عهده، بحيث سار الرُّسلُ كما خرجوا مِن عنده في المدائن.
وفيه كسر استبعاد ما
(1)
ذكر في كثرة
(2)
جنده.
{حَاشِرِينَ} العساكرَ ليتَّبعوهم:
* * *
(54) - {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} .
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} على إرادة القول. والشِّرْذِمَةُ: الجمعُ المحتَقَرُ، ذكرهم بالاسم الدَّال على القلَّة، ثمَّ وصفَهم بها، وأتى بصيغة الجمع باعتبار الأسباط، واختار جمع السَّلامة الذي هو للقلَّة، وإنَّما
(3)
استقلَّهم وكانوا ستَّ مئة ألف وسبعين ألفاً لكثرةِ مَن معه
(4)
.
* * *
(55) - {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} .
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} لفاعلون ما يَغيظنا بخروجهم مِن مِصرَ بلا إذنٍ منَّا، وذهابهم بأموالنا التي استعاروها.
* * *
(1)
"ما" سقط من (ع).
(2)
في (ف): "وفيه كثير استبعاد ما ذكره في أكثر جنده".
(3)
في (ف): "وإن".
(4)
أو لشدة استهانته بهم وأنهم مع كثرتهم لا يغنون شيئًا.
(56) - {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} .
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} وقرئ: {حَاذِرُونَ}
(1)
، فالحذرُ: اليقظُ، والحاذِرُ الذي يجدِّد حذرَه
(2)
.
يعني: نحنُ قومٌ مِن عادتنا التَّيقُّظُ والحذرُ واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارِجٌ سارعنا إلى حسمِ فسادِه.
وهذه معاذيرُ اعتذرَ بها إلى أهلِ المدائن؛ لئلا يُظَنَّ به العجزُ والفتورُ.
* * *
(57 - 58) - {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} .
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ} بإحداثَ الدَّاعي على الخروج.
{مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ} إنَّما خصَّها لأنَّ أموالهم الظَّاهرة قد انطمسَتْ، ومَن غفلَ عن هذا قال: سمَّاها كنوزاً لأنَّهم لم ينفقوا منها في طاعة الله.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} : بهيٍّ بهيجٍ.
* * *
(59) - {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
{كَذَلِكَ} يحتمل النَّصبَ على: أخرجناهم مثلَ ذلك الإخراج، والجرَّ على أنه صفة (مقامٍ)؛ أي: مثلِ ذلك
(3)
المقام الذي كان لهم، والرَّفعَ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: الأمرُ كذلك.
(1)
قرأ الكوفيون وابن ذكوان بالألف، وباقي السبعة بغير ألف. انظر:"التيسير"(ص: 165).
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "فالحذر اليقظة والحذر الذي يحذر حذره".
(3)
"ذلك" ليست في (ف) و (ك).
{وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} عن الحسنِ: لَمَّا عبروا النَّهر رجعوا وأخذوا ديارهم وأموالهم
(1)
.
* * *
(60) - {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} .
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} يقال: أتْبَعَ فلانٌ فلاناً وتبعَهُ: إذا اقتفى أثرَه
(2)
.
وقالَ الزَّجَّاجُ: يُقال: شَرَقَتْ: إذا طَلَعَتْ، وأشرَقَتْ: إذا أضاءَتْ
(3)
.
* * *
(61) - {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} .
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} ؛ أي: تقابَلا بحيثُ يَرى كلٌّ منهمُ الَاخرَ.
{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} : لملحَقون.
* * *
(62) - {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} .
{قَالَ} موسى: {كَلَّا} لن يدركوكم؛ فإنَّ اللهَ تعالى وعدَكُم الخلاصَ عنهم. {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} ؛ أي: وعدَ ربِّي
(4)
.
(1)
انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 232).
(2)
في هامش (م): "من وهم أن الإتباع هنا بمعنى اللحوق فقد وهم، كيف ويأباه قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى} الآية. منه".
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 92).
(4)
في (ف): "أي وعدني ربي". وجاء في هامش (م): "لو كان المراد المعية بالحفظ والنصرة لكان الأنسب أن يقال: إن معنا ربنا. منه".
{سَيَهْدِينِ} طريقَ النَّجاةِ، ويجوز أن يكونَ مِن قَبيلِ التَّمثيل.
* * *
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} : بحرَ القُلْزُم
(1)
.
{فَانْفَلَقَ} ؛ أي: فضربَ فانفلقَ فانشقَّ فصار اثني عشر فِرْقاً على عدد الأسباط.
وفي حذف الفعل وترتيبِ الانفعال على الأمر المذكور في الظَّاهر إشعارٌ بأنَّ ذلك الأمرَ الخارق أثرُ أمرِه تعالى، لا أثرُ ضَرْبِ موسى عليه السلام.
{فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} : كالجبل المنيف الثَّابت في مقرِّه، فدخلوا في شِعابها، كلُّ سبطٍ في شعبٍ
(2)
.
* * *
(64) - {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} .
{وَأَزْلَفْنَا} : وقرَّبنا {ثَمَّ} : حيثُ انفلق البحر {الْآخَرِينَ} فرعونَ وقومَه، حتى دخلوا على أثرِهم مداخلَهم.
* * *
(65) - {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} .
{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظِ البحرِ على تلك الهيئةِ إلى أنْ عَبروا.
وإنَّما قالَ: {وَمَنْ مَعَهُ} ، ولم يقل: قومه؛ لينتظِمَ مؤمنَ آلِ فرعون؛ فإنَّه كانَ بينَ يدَي موسى عليه السلام.
(1)
هو البحر الأحمر. وفي (ف) و (م) و (ك): "قلزم".
(2)
"في شعب" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
ويدلُّ على أنَّ نجاتهم كانت لبركةِ مصاحبتِهم
(1)
موسى عليه السلام ومتابعتِه.
* * *
(66) - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} .
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} بإطباقِ البحرِ عليهم، وكلمة {ثُمَّ} دلَّتْ على تأخُّر الهالكين عن خروج النَّاجين، وذلك بحبس
(2)
جبريل أوَّلَهم ليَلحقَ به آخرُهم، لا يَشَذَّ منهم أحدٌ.
* * *
(67) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} ؛ أي: فيما فُعِلَ بموسى عليه السلام وفرعونَ {لَآيَةً} : لعبرةً عجيبةً لا توصَفُ.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} وما تنبَّه
(3)
عليها أكثرهم؛ إذ لم يؤمن بها أحدٌ ممَّن بقي في مصر من القِبْط وبنو
(4)
إسرائيل، بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها، واتَّخذوا العجل، وقالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}
(5)
[البقرة: 55].
* * *
(1)
في (ع) و (م): "مصاحبة"، وفي (ك): (مصاحبته".
(2)
في (ك): "بحث"، وفي (م):"بحبسان".
(3)
في (ف) و (ع): "تنبيه". ولعلها مع الحفاظ على الرسم: (يتنبه).
(4)
"وبنو" كذا في النسخ، ولعل رفعها جاء على الحكاية.
(5)
"لك": ليست في (م) و (ع).
(68) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} غيرُ عاجزٍ عن الانتقام مِن أعدائه {الرَّحِيمُ} يؤخِّرُ العذاب برحمته ليتوبَ منهم مَن تاب.
* * *
(69) - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} : على مشركي العرب {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} : خبرَه العجيبُ الشَّأن.
* * *
(70) - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} .
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} : أيُّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم يريهم أنَّ ما يعبدونه ليس بمستحَقٍّ للعبادة.
* * *
(71) - {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} .
{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} كان السؤال عن المعبود لا عن العبادة، وإنَّما زادوا {نَعْبُدُ} في الجواب افتخاراً ومباهاة بعبادتها، ولذا عطفوا على {نَعْبُدُ}:
{فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} : فنُقيم على عبادتها طول النَّهار، ويحتمل أن يكون (نظلُّ) بمعنى: ندوم، فلا يدلُّ على اختصاص عبادتهم بالنَّهار.
* * *
(72) - {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} .
{قَالَ} إبراهيمُ عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} : هل يجيبونكم {إِذْ تَدْعُونَ} ؟
فإنَّ سَمِعَ بمعنى أجاب شائعٌ، ومنه: سمعَ اللهُ لمن دعَى، ولو كان (يسمعون) على معناه الحقيقىِّ لقيل: هل يسمعونكم تدعون؟
* * *
(73) - {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} .
{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} إن عبدتموها {أَوْ يَضُرُّونَ} إنْ تركْتُم عبادَتها.
* * *
(74) - {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
{قَالُوا بَلْ} إضراب؛ أي: لا تسمَعُ ولا تنفعُ ولا تضرُّ، ولا نعبدُها لشيءٍ
(1)
مِن ذلك، ولكن {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فقلَّدناهم.
* * *
(75 - 76) - {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} .
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} فإنَّ التَّقدُّم لا يدلُّ على الصِّحة ولا ينقلب بها الباطل حقًّا.
* * *
(77) - {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} العدوُّ والصَّديقُ يجيئان في معنى الوحدة والجماعة، يعني: لو عبدتهم لكانوا أعداءً لي
(2)
إلى يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82].
(1)
في (ك): "بشيء".
(2)
"لي" من (ي) و (ع).
وقال الفرَّاء: هو مِن المقلوب؛ أي: فإنِّي عدوٌّ لهم
(1)
.
وفي قوله: {لي} دون: لكم، زيادةُ نصحٍ؛ ليكونَ أدعى لهم إلى القَبول.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} استثناء منقطع، أو متَّصلٌ على أنَّ الضَّمير لكلِّ معبودٍ عبدوه، فيدخل فيه المعبودُ بحقٍّ، ولا حاجة إلى أنْ يُقالَ: وكان من آبائهم مَن عبدَ اللهَ؛ لأنَّهم أيضًا يعبدون الله إلَّا أنَّهم يشركون الأصنام في العبادة، دلَّ على ذلك قوله:{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98].
* * *
(78) - {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} .
{الَّذِي خَلَقَنِي} بالتَّكوين في القرار المكين.
{فَهُوَ يَهْدِينِ} لِمَناجِح
(2)
الدُّنيا ولمصالح الدِّين.
والاستقبال في {يَهْدِينِ} مع سبقِ العناية بالهداية لأنَّه يحتمل: يهديني للأهمِّ الأفضل والأتمِّ الأكمل.
أو: الذي خلقني لأسبابِ خدمته فهو يهديني إلى آداب
(3)
خلَّته.
والفاء للسَّببية إنْ جُعِلَ الموصولُ مبتدأً، وللعطف إنْ جُعِلَ صفةَ {رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، فيكون اختلافُ النَّظمِ لتقدُّم الخلق واستمرار الهداية.
* * *
(1)
انظر: "تفسير القرطبي"(16/ 37)، و "تفسير النسفي"(2/ 567).
(2)
في (ك): "لمناهج"، ومثله في مطبوع "تفسير النسفي"(2/ 567).
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "لآداب".
(79) - {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} .
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} على الأوَّل مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ لدلالة ما قبلَه، وكذا
(1)
اللَّذان بعدَه.
وتكرير الموصول على الوجهين للدِّلالة على أنَّ كلَّ واحدةٍ من الصِّلاتِ مستقلَّة باقتضاءِ الحكم.
أضاف الإطعام إلى وليِّ الإنعام لأنَّ الرُّكون إلى الأسباب عادةُ الأنعام.
* * *
(80) - {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .
{وَإِذَا مَرِضْتُ} لم يقلْ: أَمرضني؛ لأنَّه قصدَ الذِّكْرَ
(2)
بلسانِ الشُّكر، فلم يُضفْ إليه ما يقتضي الصَّبر
(3)
، ولأنَّ ذلك لم يكون مقصوداً بذاته كسائر ما ذُكِرَ
(4)
مِن أفعاله تعالى الكمالية، وإنَّما هو من
(5)
روادف الطَّعام والشَّراب، ولهذا قال:{وَإِذَا مَرِضْتُ} على الفرض
(6)
، فلم
(7)
يَنسبه إليه تعالى نسبةَ البواقي؛ تنبيهاً على الفصل بينهما.
{فَهُوَ يَشْفِينِ} إنْ شُفِيْتُ لا غيرُه، لا أنَّه يشفين لا محالة.
(1)
في (م): "وكذلك".
(2)
في (ع): "الركن".
(3)
في (ع): "الضر"، وكذا في "تفسير النسفي"(2/ 568).
(4)
في (ي) و (ع): "سيرده"، ولعلها:"سيرد".
(5)
في (ي) و (ع): "في"، وسقطت من (ف) و (ك).
(6)
في (ف) و (ك) و (م): "العرض"، وفي هامش (م):"لعلها الفرض".
(7)
في (ي): "ولا".
(81) - {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} .
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي} لم يقل: إذا متُّ؛ لأَنَّه الخروج مِن حبسِ البلاءِ ودارِ الفَناء إلى رَوضِ البقاء لوعد اللِّقاءِ، فليس هو كالمرضِ.
ولَمَّا كانت الإماتةُ والبعث ممَّا لا يمكن إسنادها
(1)
إلَّا إلى الله تعالى كالخَلْقِ، لم يَحتجْ إلى توكيدٍ، بخلاف الهداية والإطعام والإسقاء والشِّفاء، فإنَّه ممَّا يمكن إسنادها إلى غير الله تعالى.
وإنَّما أتى بأداة التَّراخي في قوله: {ثُمَّ يُحْيِينِ} لأنَّه أرادَ الإحياءَ في الآخرة دون القبر، وبأداة التَّعقيب في الهداية والشِّفاء لأنهما يعقبان الخَلْق والمرض، وبأداة الجمع المطلق في السَّقي لأنَّه قد يَعقب الإطعامَ وقد يتأخَّر وقد يتقدم عليه
(2)
.
* * *
(82) - {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} .
{وَالَّذِي أَطْمَعُ} طمعَ العبيد في الموالي بالإفضالِ، لا على الاستحقاق بالسُّؤالِ.
{أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} استغفارُ الأنبياء عليهم السلام تواضعٌ منهم لربِّهم، وهضمٌ لأنفسهم، وتعليمٌ للأمم في طلب المغفرة.
قدَّم الثَّناء على الله وذَكَره بالأوصاف الحسنة بين يدَي طَلِبته ومسألته، ثمَّ سألَه تعالى فقال:
* * *
(1)
في (ك): "إسنادهما".
(2)
"عليه" سقط من (ف) و (م).
(83) - {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} : كمالاً في العلم والعمل لأنتظِم في عداد الكاملين في صلاح الدِّين
(1)
لا يشوب صلاحَهم كبيرُ ذنبٍ ولا صغيرُه.
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ؛ أي: الأنبياءِ عليهم السلام، ولقد أجابه حيث قال:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].
* * *
(84) - {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} .
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} ؛ أي: ثناءً حسنًا وذِكْراً جميلاً. وفي العبارة باللِّسان عن القول ما لا يخفى مِن البلاغة، وإنَّما أضافه إلى الصِّدق إضافةَ الموصوفِ إلى الصِّفة الدَّالة للاختصاص به والعَراقة فيه؛ احترازاً عن الإطراء في شأنه.
{فِي الْآخِرِينَ} : في الأمم التي تجيء مِن بعدي، فأُعْطِيَ ذلك، فكلُّ أهلِ دينٍ يتولَّونه
(2)
ويثنون عليه بلا إطراء
(3)
.
* * *
(85) - {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} .
{وَاجْعَلْنِي مِنْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ أي: وارثاً من {وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} سألَه أن يفعل معه من الألطاف ما يختار عنده
(4)
الطَّاعات؛ لأن الجنة لا يُتنعَّم فيها إلَّا بالاستحقاق،
(1)
في (ف) و (ك): "الذين".
(2)
في (ف) و (م): "يقولونه".
(3)
في (ك): "بالإطراء".
(4)
في (ع): "عنه"، وفي (ف) و (م):"عند".
وإنْ كان الدُّخول بمَحْضِ لُطْفِ الله تعالى، فلذلك قال:{مِنْ وَرَثَةِ} ؛ فإنَّ الوارث يأخذ الميراث بلا كَسْبٍ منه
(1)
.
* * *
(86) - {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} .
{وَاغْفِرْ لِأَبِي} طلبَ هدايتَه إلى الإيمان اقتضاءً؛ قضاءً لحق أبوَّته
(2)
، ولهذا قال:{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ؛ أي: استمرَّ على الضَّلال في الأزمنة الماضية، قاله تأسُّفاً وتلهُّفاً، لا إخبارًا وإظهارًا، أو كان ذلك الطَّلبُ
(3)
منه عليه السلام قبلَ أنْ
(4)
مات أبوه، ولَمَّا ماتَ أبوه على الكفر فتبيَّن أنَّه عدوُّ الله
(5)
تبرأ منه
(6)
.
* * *
(87) - {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} .
{وَلَا تُخْزِنِي} الإخزاءُ: مِن الخِزْيِ، وهو الهوان، أو مِن الخزاية، وهي الحياء.
{يَوْمَ يُبْعَثُونَ} الضَّمير للنَّاس لأنَّه معلوم؛ أي: لا تخزني على رؤوس المعشر بتعذيب أبي يوم المحشر
(7)
، فهو مِن تتمَّة الاستغفار لأبيه.
(1)
في هامش (م): "فكل من الوراثة وإضافة النعيم إلى الجنة لا يخلو عن دقيقة أنيقة. منه".
(2)
في (م): "أبويه".
(3)
في (م): "للطلب".
(4)
بعدها في (ف) و (ك): "كان".
(5)
في (ع): "أنه عدو أبعد".
(6)
في هامش (م): "من قال: إنما استغفر له بعد موته على الكفر لأن الاستغفار للكفار لم يمنع بعد، فكأنه غافل عن قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ".
(7)
في (م): "لا تخزني بتعذيب إلى يوم المحشر على رؤوس المعشر".
(88) - {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} .
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ} - بدلٌ مِن اليوم الأوَّل - {وَلَا بَنُونَ} أحداً، كما ينفع في الدُّنيا يفديه
(1)
ماله ويذبُّ عنه بنوه
(2)
.
* * *
(89) - {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
{إِلَّا مَنْ} مفعول لـ {يَنْفَعُ} .
{أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مِن الكفرِ والنِّفاق سليم القلب
(3)
، فقلبُ الكافر والمنافق مريض لقوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10].
أي: إنَّ المال إذا صُرِفَ في وجوه البرِّ وبنوه صالحون فإنَّه ينتفع به وبهم سليمُ القلبِ.
قد صوَّب الجليل استثناء الخليل إكراماً له، ثم جعله صفةً له في قوله:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83 - 84}.
* * *
(1)
في (ك): "تعدد"، وفي (ي):"بفدية".
(2)
في هامش (م): "أي لا ينفع تفريق المال ولا جمع الرجال، يعني: لا تُدفع مكارهُ ذلك اليوم لا باللطف ولا بالعنف، ومعتاد العرب المظاهرةُ بالعشيرة والقبيلة، وإيراد البنون من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل، وعلى هذا يظهر وجه إيثاره على الولد، وإتيانه صيغة الجمع، وموجَبه انقطاع الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ}، إذ على تقدير الاتصال لا مجال لتعميم النفع ....... ". وطمست كلمة أو اثنتان في آخر الكلام.
(3)
"سليم القلب" ليست في (ع) و (ي).
(90) - {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ؛ أي: قُرِّبَتْ، عطفُ جملةٍ على جملةٍ؛ أي: تُزلَف مِن موقفِ السُّعداء، فينظرون إليها، ويتبجَّحون بحشرهم إليها.
* * *
(91) - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} .
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} ؛ أي: أُظْهِرَتْ، فيرونَها مكشوفةَّ، ويتحسَّرون على أنَّهم مسوقون إليها.
وفي اختلافِ الفِعلَيْن دلالة على أنَّ أرضَ المحشر قريبةٌ مِن الجحيم.
{لِلْغَاوِينَ} الغاوي: العاملُ بما يوجب الخيبةَ مِنَ الثَّوابِ، وأصلُ الغِوايةِ: الخيبةُ، قالَ الشَّاعرُ:
فمَنْ يلقَ خيراً يَحمَدِ النَّاسُ أمرَهُ
…
ومَنْ يغوِ لا يعدمْ على الغيِّ لائماً
(1)
* * *
(92 - 93) - {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} .
{وَقِيلَ لَهُمْ} على وجهِ التَّوبيخ والتَّقريع: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} : هل ينفعونَكُم بنصرتهم لكم.
{أَوْ يَنْتَصِرُونَ} : أو هل ينفعون أنفسَهم بانتصارهم، وهذا لأنَّهم وآلهتَهم وَقودُ النَّارِ.
* * *
(1)
للمرقش الأصغر. انظر: "المفضليات"(ص: 247).
(94) - {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} .
{فَكُبْكِبُوا} : نُكِّسُوا، أو طُرِحَ بعضُهم على بعضٍ {فِيهَا}: في جهنَّم {هُمْ} ؛ أي: الآلهة {وَالْغَاوُونَ} وعبدتُهم الذين برِّزَتْ لهم الجحيم.
والكَبْكَبَةُ: تكرير الكَبِّ، جعل التَّكريرَ في اللَّفظ دليلاً على التَّكرير في المعنى، كأنَّه إذا أُلْقِيَ في جهنَّمَ ينكبُّ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ حتى يستقرَّ في قَعرها.
* * *
(95) - {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} : شياطينُه، أو مُتَّبعوه مِن عُصاةِ الإنسِ والجنِّ.
{أَجْمَعُونَ} : تأكيدٌ للجنود، إنْ جُعِلَ مبتدأً خبرُه ما بعدَه، وإنْ لم يُجْعلْ مبتدأً بل معطوفاً على {هُمْ} يكون {أَجْمَعُونَ} تأكيداً للضَّمير الذي هو {هُمْ} ولِمَا عطف عليه وهو {الْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} ، وهذان الاحتمالان قائمان في الضَّمير المنفصل، وما يعودُ عليه في قوله:
(96) - {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} .
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يجوزُ أنْ يُنْطِقَ الله تعالى الأصنامَ حتَّى يصحَّ التَّقاوُلَ والتَّخاصُمَ، ويؤيِّدُه الخطاب في:{نُسَوِّيكُمْ} .
* * *
(97 - 98) - {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : بَيِّنٍ {إِذْ نُسَوِّيكُمْ} : نَعْدِلُكم أيُّها الأصنام {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في استحقاق العبادة.
(99) - {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} .
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} ؛ أي: رؤساؤهم الَّذين أضلُّوهم، أو إبليس وجنوده، ومَن
(1)
سَنَّ الشِّرْكَ.
* * *
(100) - {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} .
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} مِن الأباعد
(2)
، كما للمُؤمِنين
(3)
مِن الأنبياءِ والأولياءِ والملائكةِ.
ولَمَّا أتى بصيغة الجمع لمصلحة الفاصلة تُدورِكَ حقُّ المقام بزيادة (مِن) التَّبعيضيَّة.
* * *
(101) - {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} .
{وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} : مِن الأقارب، كما نرى
(4)
للمؤمنين أصدقاء، قال الله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
والحميمُ: مِن الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمُّكَ ما يهمُّه، أو من الحامَّة بمعنى الخاصَّة، وهو الصَّديق الخاص.
* * *
(1)
في (ك): "من".
(2)
في (ع) و (ي): "الإباعة".
(3)
في (م): "كالمؤمنين".
(4)
في (ك) و (ي): "ترى".
(102) - {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} : رجعةً إلى الدُّنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وجوابُ (لو) محذوفٌ، وهو: لفعلنا كَيْتَ وكَيْتَ.
أو (لو)
(1)
في مثل هذا للتَّمنِّي، كأنَّه قيل: فليْتَ لنا كرَّةً؛ لِمَا بينَ معنى (لو) و (ليت) من التَّلاقي.
* * *
(103) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : فيما ذُكِرَ مِن قصَّةِ إبراهيمَ عليه السلام.
{لَآيَةً} : لَحُجَّةً وعبرةً لِمَنْ أرادَ أنْ يستبصِرَ بها ويعتبرَ؛ فإنَّها جاءَتْ على أنظَمِ ترتيبٍ وأحسنِ تقريرٍ، يتفطَّنُ المتأمِّلُ فيها لغزارة علمه؛ لِمَا فيها مِن الإشارة إلى أصول العلوم الدِّينيَّة، والتَّنبيه على دلائلها، وحسن دعوته للقوم، وحُسْن مخالفته معهم، وكمال إشفاقه عليهم، وتصويرِ الأمر في نفسه، وإطلاقِ الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً وإيقاظاً لهم؛ ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقَبولِ.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} : أكثرُ قومه {مُؤْمِنِينَ} به.
* * *
(104) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} : القادرُ على تعجيل الانتقام {الرَّحِيمُ} بالإمهال، لكي يؤمنوا هم أو أحدٌ مِن ذرِّيَّتِهم.
(1)
في (ف) و (ك) و (ي): "ولو". والصواب المثبت. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 143)، و "تفسير النسفي"(2/ 571) والكلام منه.
(105) - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} .
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} القومُ مؤنَّثة
(1)
، ولذلك يصغَّرُ على: قُوَيْمَة.
{الْمُرْسَلِينَ} قد مرَّ الكلام في تكذيبهم المرسَلين.
* * *
(106) - {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} .
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} إنَّما قال: {أَخُوهُمْ} لأنَّه كان منهم:
{أَلَا تَتَّقُونَ} خالقَ الأنام فتتركوا عبادةَ الأصنام.
* * *
(107) - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} كان مشهوراً بالأمانة فيهم، كمحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام في
(2)
قريش.
* * *
(108) - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به مِنَ التَّوحيد والطَّاعة للهِ تعالى.
* * *
(109) - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على ما أنا عليه مِن الدُّعاءِ والنُّصحِ.
(1)
في (م): "مؤنث".
(2)
في (ك): "و".
{مِنْ أَجْرٍ} الأجرُ: عبارةٌ عن المنفعةِ المستحقَّة، فأمَّا الذي لا يكون مستحَقًّا فذلك لا يُسمَّى أجراً، بل هبةً.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} بحكم وعدِه، وفيه دلالةٌ
(1)
على عِظَمِ شأنِ ما أُمِرَ بتبليغِه، وهذا هو الموجِبُ لطاعته فيما يدعوهم إليه، فلذلك أعادَ قولَه:
(110) - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وأمَّا حَسْمُ الطمع المستفادُ ممَّا تقدَّم فقاصرٌ عن إيجابها.
ثمَّ إنَّ قولَه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارةٌ إلى أنَّ التزام الأجر في ذلك لمصلحةِ تربيتِهم، لا لأمرٍ يعود إلى نفسِه مِن نفعٍ أو دفعٍ.
* * *
(111) - {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} .
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ} الواو للحال، و (قد) مُضمَرةٌ بعدَها، دليله قراءة:{وَاتَّبَعَكَ}
(2)
جمعُ تابعٍ؛ كشاهد وأشهاد، أو: تَبَعٍ؛ كبَطَل وأبْطَال.
{الْأَرْذَلُونَ} : جمع الأرذل
(3)
على الصِّحة، والرَّذالةُ: الخسَّةُ والدناءةُ.
وإنَّما استرذلوهم لإيضاع نسبِهم وقلَّة نصيبهم مِن الدُّنيا، وقيل: كانوا مِن أهل الصِّناعاتِ الدَّنيَّةِ، وأشاروا بذلك إلى أنَّ اتِّباعَهم ليس عن نظرٍ وبصيرةٍ، وإنَّما هو لتوقُّعِ مآلٍ ورفعة فلذلك:
(1)
في (م) و (ك): "تنبيه"، وفي (ف):"دليل".
(2)
قرأ بها يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 335).
(3)
في (ي): "أرذل".
(112) - {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أنَّهم عملوه إخلاصاً أو طَمَعاً في طُعْمَةٍ
(1)
، وما عليَّ إلَّا اعتبار الظَّاهر.
* * *
(113) - {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} .
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} : ما حسابُهم على بواطنهم إلا على الله تعالى؛ فإنَّه المُطَّلعُ على السَّرائرِ.
{لَوْ تَشْعُرُونَ} لعلمتم ذلك، ولكنَّكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون.
* * *
(114) - {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} جوابٌ لِما أَوهم قولهم: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} مِن استدعاء طردهم استنكافاً عن الشِّركةِ معهم في المتابعة - خصوصاً إذا كان لهم فضلُ التَّقدُّم وقدمُ السَّبقِ - وتوقيفِ
(2)
إيمانهم عليه، وقوله:
* * *
(115) - {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} كالعلَّة له؛ أي: ما أنا إلَّا رجلٌ مبعوثٌ لإنذار المكلَّفين مِن الكفر والمعاصي، سواءٌ كانوا أعزَّاء أو أذلَّاء، وكم مِن ذليلٍ عندَ النَّاسِ وهو عزيزٌ
(1)
في (ع) و (ي): "طمعاً وطمعة"، والمثبت موافق لما في "تفسير البيضاوي"(4/ 144).
(2)
في (ع): "وتوفيق". والمثبت موافق للمصدر السابق، ولفظه:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم وتوقيفِ إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه.
عندَ اللهِ، وبالعكس، فكيفَ يليقُ بي طردُ الفقراء لاستتباعِ الأغنياءِ، أو: ما عليَّ
(1)
إلَّا إنذاركم إنذاراً بيِّناً بالبرهانِ الواضحِ، ثمَّ أنتم أعلمُ بشأنِكم.
* * *
(116) - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ} عمَّا تقولُ، والانتهاءُ: بلوغُ الحدِّ مِن غير مجاوزةٍ إلى ما وقعَ عنه
(2)
النَّهيُ، وأصلُ النِّهايةِ: بلوغُ الحدِّ.
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} : مِن المضروبين بالحجارة.
* * *
(117) - {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} .
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} إظهارًا لِمَا يدعو عليهم لأجله، وهو تكذيبُ الحقِّ، لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.
* * *
(118) - {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} : فاحكم بيني وبينهم حُكْماً، مِن الفتاحة وهو الحُكومَةُ، والفَتَّاحُ: الحاكم؛ لأنَّه يفتحُ المستغلَقَ.
وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: مِنْ قَصدِهم، أو مِن شُؤمِ عَملِهم.
* * *
(1)
في (ف) و (ك): "أمَّا ما عليَّ".
(2)
في (ف): "عليه".
(119) - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} .
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : المملوء، ومنه شِحنةُ
(1)
البلدِ؛ أي: الذي يملؤه كفايةً.
كانت السَّفينة مملوءةً مِن النَّاس وأنواع الحيوان مِن سباعِ البهائم وجوارح الطَّير، فكانت في قصَّتهم هذه نجاةٌ في نجاةٍ، ومن هنا اتَّضح وجه
(2)
توصيف الفُلك بالوصف المذكور في مقام الامتنان.
* * *
(120) - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا} {ثُمَّ} للتَّفاوُتِ بينَ الحالَيْنِ لا للتَّراخي، ولذلك قال:
{بَعْدُ} ؛ أي: بعدَ إنجائه ومَن معَه {الْبَاقِينَ} مِن قومِه.
* * *
(121) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} عظيمةً، شاعَتْ وتواترَتْ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
* * *
(122) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} : المنتقم
(3)
بإهانة مَنْ جَحَدَ وأصَرَّ {الرَّحِيمُ} : المنعِمُ بإعانَةِ مَن وحَّدَ وأقرَّ.
(1)
في (ف) و (ع): "شحنه".
(2)
"وجه": ليست في (ك) و (م).
(3)
في (ف) و (ك): "الممتنع". والمثبت موافق لما في "تفسير النسفي"(2/ 574).
(123) - {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} .
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} هي قبيلةٌ، وفي الأصل اسم رجلٍ هو أبو القبيلة.
* * *
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} قد تقدَّم تفسيره عن قريب.
* * *
(128) - {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} .
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} : مكانٍ مرتفعٍ، والبناءُ: وضعُ سافٍ على سافٍ
(1)
إلى حيث ينتهي.
الرِّيعُ: الارتفاع من الأرض، ومنه: الرِّيع في الطَّعام، وهو ارتفاعه بالزِّيادة والنَّماء.
{آيَةً} : بناءً يكون لارتفاعه كالعلامَة.
{تَعْبَثُونَ} : تلعبون.
* * *
(1)
(السَّافُ): الصَّفُّ مِن اللَّبِن أَو الطِّين. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"(مادة: سوف). ووقع في (ف): "ساق على ساق".
(129) - {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} .
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} : مآخِذَ الماءِ، أو: قصوراً
(1)
مشيَّدة، أو: حصوناً؛ أي: أتجعلون في كلِّ موضعٍ عالٍ مشرِفٍ علامةً تبنونها ولا تحتاجون إليها لسكناكم، إنَّما تريدون به المباهاة والمراءاة وذا عبثٌ.
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} : وترجون الخلود في الدُّنيا فتُحْكِمون بُنيانها.
* * *
(130) - {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} .
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} البَطْشُ: العَسْفُ قتلاً
(2)
بالسَّيف وضرباً بالسَّوط.
{بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} الجبَّارُ: العالي على غيره بعظيم
(3)
سلطانه، وهو في صفةِ الله تعالى مدحٌ، وفي صفة غيره ذمٌّ.
وقال الحسن: بطش الجبرية: هو المبادرة مِن غير تثبُّت ولا توقُّف
(4)
.
فذمَّهم الله تعالى بذلك، ونهاهم هود عليه السلام.
* * *
(131) - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك هذه الأشياء {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه؛ فإنَّه أنفع لكم.
* * *
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "وقصوراً".
(2)
"قتلا": ليست في (م).
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "العالي إلى غيره لعظيم"، لكن كتب فوق "إلى" في (ك):"على".
(4)
بنحوه في "الكشاف"(3/ 326).
(132 - 133) - {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} .
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} قرَنَ البنينَ بالأنعام لأنَّهم يُعينونهم على حفظِها والقيام عليها.
* * *
(134) - {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
وقرن العيون بالجنَّات في قوله: {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}
(1)
لأنَّ قوامَها ودوامَ منافعها بها.
كرَّرَ الأمرَ بالاتِّقاء مرتَّباً على إمداد الله إيَّاهم بما يعرفونه
(2)
من أنواع النِّعم؛ تعليلاً وتنبيهاً
(3)
: بالوعد عليه بدوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع، ثمَّ فصَّل بعضَ تلك النِّعم كما فصَّل بعضَ مساويهم المدلول عليها إجمالاً بالإنكار في {أَلَا تَتَّقُونَ} مبالغةً في الإيقاظ والحثِّ على التَّقوى
(4)
فقال:
* * *
(135) - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدُّنيا والآخرة، فإنَّه كما قدرَ على الإنعام قدرَ على الانتقام.
* * *
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "العالي إلى غيره لعظيم"، لكن كتب فوق "إلى" في (ك):"على".
(2)
بنحوه في "الكشاف"(3/ 326).
(3)
في (م): "أو تنبيهاً".
(4)
في (م) زيادة: "ثم أوعدهم".
(136) - {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} .
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا} ؛ أي: مستوٍ عندَنا، وإنَّما قيل:{عَلَيْنَا} لأنَّ المراد بالاستواء من جهة التَّأثير.
{أَوَعَظْتَ} الوعظُ: كلامٌ يليِّنُ القلب
(1)
بذكر الوعدِ والوعيدِ.
{أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} فإنَّا لا نَرْعَوي عمَّا نحن عليه. وتغيير شقِّ النَّفي عمَّا تقتضيه المقابلة بارتكاب الإطناب؛ للمبالغة في جانب السكوت عن الوعظ
(2)
؛ لكونه مقصوداً، فإنَّ الإخراج مِن عداد الواعظين أبلغُ مِن نفي المباشرة للوعظ، والمحافظةِ
(3)
على رؤوس الآي.
* * *
(137) - {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} .
{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قرئ: {خُلُقُ} بفتح الخاء، مِن الاختلاق؛ أي: ما هذا الذي جئتنا به إلَّا كذب الأوَّلين.
وقرئ بضم الخاء
(4)
؛ أي: ما هذا الذي نحن عليه مِن تهيئة أسباب المعاش واتِّخاذ الأبنية إلَّا عادة الأوَّلين.
* * *
(1)
في (م): "القلوب".
(2)
أي: للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه.
(3)
عطف على"للمبالغة".
(4)
وهي قراءة ابن كثير والكسائي وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة بضمهما. انظر:"التيسير"(ص: 166).
(138) - {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} .
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في الدُّنيا، ولا بعْثَ ولا عذابَ في الآخرة.
* * *
{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بسبب تكذيبهم إيَّاه بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ.
(1)
تقدَّم تفسيرُه في هذه السُّورة.
* * *
(146) - {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} .
{أَتُتْرَكُونَ} إنكارٌ لأَنْ يتركوا كذلك، وتذكيرٌ بالنِّعمةِ في تخلية
(2)
الله تعالى إيَّاهم وأسباب تنعيمهم.
{فِي مَا هَاهُنَا} : في الذي استقرَّ
(3)
في هذا المكان مِن النَّعيم.
{آمِنِينَ} مِن العذاب والزَّوال والموت، ثمَّ فسَّرَه بقولِه:
(1)
في (ف) و (ك) و (م): " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} إلى قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
(2)
في (ك): "تحلية"، وفي (ع):"تخلفة".
(3)
في (ف): "يستقر".
(147) - {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وهذا أيضًا إجمال ثمَّ تفصيل.
* * *
(148) - {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} .
{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ} أفردَ النَّخل تفضيلاً له على سائر أشجار الجنَّات.
{طَلْعُهَا} وهو ما يخرجُ من النَّخلة كنَصْلِ السَّيفِ.
{هَضِيمٌ} : ليِّنٌ نضيجٌ
(1)
.
كأنَّه قالَ: ونخلٍ قد أَرْطبَ ثمرُه، فإنَّه ما دام رطباً فهو هضيم، فإذا يَبِسَ فهو هَشِيم.
* * *
(149) - {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} .
{وَتَنْحِتُونَ} : وتَنقبون {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} : بَطِرين
(2)
، وهذا هو المناسب لِمَا في سورة الحِجْر مِن قوله:{آمِنِينَ} [يوسف: 99]، لا معنى: حاذقين
(3)
.
* * *
(1)
في (ع) و (ي): "نضج".
(2)
في هامش (م): "وفي سورة الأعراف {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ} على الحذف والإيصال، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فلا وجه لما قيل: إن انتصاب {بُيُوتًا} على الحالية، أو على أن (تنحتون) بمعنى: تتخذون. منه".
(3)
زاد في (ي): "طيب قلب"، وزاد في (ع):"طبيب قلب".
(150 - 151) - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} .
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا} ؛ أي: لا تمتثلوا {أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} إنَّما صرف الكلام عن الظَّاهر، والكلمةَ عن المتبادِر، حيث لم يقل:(ولا تطيعوا المسرفين) تنزيلًا لشأنهم من درجة الإطاعةِ، وتبعيدًا لهم عن حيِّزِ المطاعين، وأمَّا جَعْلُ الأمرِ مُطاعًا على المجاز الحكمي فلا يناسب المقام
(1)
.
* * *
(152) - {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} .
{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} وصفٌ موضِّحٌ لإسرافِهم، ولذلك عطف:{وَلَا يُصْلِحُونَ} على {يُفسِدُونَ} ؛ دلالةً على خلوصِ فسادِهم
(2)
، وتعميمُ إفسادِهم
(3)
المستفادُ من الإسناد إلى كليَّة الأرض يناسبُ هذا.
* * *
(153) - {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} .
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} المسحَّرُ: الذي سُحِرَ كثيرًا حتى غلبَ على عقلِه.
* * *
(154) - {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} كنايةٌ عن استحالةِ كونه رسولًا بناءً على ما زعموا مِن أنَّ
(1)
في هامش (ي): "لأن المقام مقام نفي الإطاعة لهم رأسًا، لا نفي كمال الإطاعة لهم. منه".
(2)
في (ع): "الفسادهم"، وكذا كانت في (ي)، ثم ضرب على (الـ).
(3)
في (ك): "وتعميم فسادهم". وسقطت من (ع) و (ي).
الرَّسولَ
(1)
لا يكون مِن جنس البشرِ، خصوصًا بلا امتيازٍ له عن سائر الأفراد.
وكأن صالحًا عليه السلام ردَّ قولهم هذا بأنْ يقولَ: إنِّي رسولُ اللهِ بواسطة الملك، ولي
(2)
امتياز عن سائر البشر بالمعجزة الخارقة للعادة، فقالوا في مقابلته:{فَأْتِ بِآيَةٍ} خارقةٍ للعادةِ {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك.
* * *
(155) - {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .
{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} وفي سورة الأعراف: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73].
{لَهَا شِرْبٌ} : نصيبٌ من الماء، فلا تزاحموها فيه.
{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} لا تزاحمُكُم فيه.
* * *
(156) - {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} نهيٌ عن المسِّ الذي هو مقدِّمة الإصابة
(3)
بالسوء الجامعِ لأنواع الأذى؛ مبالغةً في الأمر، وإزاحةً للعذر.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عِظَمُ اليومِ لعِظَمِ ما يحلُّ فيه، وهو أبلغ مِن تعظيمِ العذابِ؛ لأنَّ اليوم إذا عَظُمَ بسببِه
(4)
كان موقعُه مِن العِظَمِ أشَدَّ.
(1)
في (ع): "رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي (ي):"رسول الله".
(2)
من قوله: "امتيازٍ له
…
" إلى هنا سقط من (ي).
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "إصابة".
(4)
في (ي) و (ع): "لسبب"، والمثبت موافق لما في "تفسير النسفي"(2/ 577).
(157) - {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} .
{فَعَقَرُوهَا} الفاءُ فصيحةٌ، والجملة المحذوفة مذكورة في سورة الأعراف، وإنَّما أسندَ الفعل إلى الجميع لأنَّه كان بأمرهم وتعاوُنهم على ما أفصح عنه قوله:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر: 29].
{فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} لا على عقرها خوفًا من نزول العذاب بهم؛ لأنَّه مردود بقوله تعالى: {وَقَالُوا} يعني بعدما عقروها: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، بل على ترك ولدِها، وقد تقدَّم ذلك في سورة الأعراف.
* * *
(158) - {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ؛ أي: العذاب الموعود، وهو الرَّجفةُ الحادثةُ مِن الصَّاعقةِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} عظيمةً {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماءٌ بأنَّه لو آمنَ أكثرُهم أو شطرهم لَما أُخِذوا بالعذابِ، وأنَّ قريشًا إنَّما عُصِموا عن مثله ببركة مَن آمنَ منهم.
* * *
(159) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} جامع لجهَتَي الانتقام والإنعام.
* * *
(1)
تقدم
(2)
تفسيره في هذه السورة.
* * *
(165) - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} .
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} ؛ أي: أتأتون [الذكران] مِن أولادِ آدمَ مع كثرتهم وغلبةِ الإناث فيهم كأنهنَّ قد أعوَزْنَكم.
أو: أتأتون مِن بينِ مَن عَداكم {مِنَ الْعَالَمِينَ} الذُّكرانَ، لا يشارككم فيه غيركم.
فالمراد بـ {الْعَالَمِينَ} على الأوَّل: النَّاس، وعلى الثَّاني: كل مَن يُنكَح
(3)
.
وعلى هذا: الجمعُ للتَّغليب، ومبنى هذا الوجه على اختصاص ذلك الفعل بالإنسان، وفيه نظر.
* * *
(166) - {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} .
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ} لأجلِ استمتاعِكم {رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} لبيانِ {مَا} إنْ أُريدَ به جنسُ الإناث، أو للتَّبعيضِ إنْ أُريدَ به العضو المباح منهنَّ، فيكون تعريضًا بأنَّهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائِهم، وإنَّما خَصَّ الأزواجَ بالذِّكْرِ لعمومِه؛ فإنَّ الإماء مخصوصَةٌ بالأحرار.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".
(2)
في (م): "قد تقدم".
(3)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 147)، وما بين معكوفتين منه.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} {بَلْ} إضرابٌ بمعنى الانتقال مِن شيء إلى شيء.
والعادي
(1)
: المتعدِّي في ظُلْمِه، المجاوِزُ فيه الحدَّ، والمرادُ هاهنا: التَّجاوزُ عن حدِّ الشَّهواتِ بالزِّيادة على سائر النَّاس، بل الحيوانات، أو الإفراطُ في المعاصي مطلقًا، وعلى هذا: الإضرابُ للتَّرقي.
* * *
(167) - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} .
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} ؛ أي: لم تمتنعْ من إنكارك علينا، وتقبيحِ
(2)
أمرنا.
{يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} : مِن جُملةِ مَن أخرجْناه مِن بينِنا وطردْناه مِن ديارِنا، ولعلَّهم كانوا يُخْرِجُونَ مَن أخرجُوهُ على أسوءِ حالٍ.
* * *
(168) - {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} .
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} فلا أكرَهُ مفارَقتكم، ولا أرضى مجاوَرَتَكم.
والقِلَى: البغضُ الشَّديدُ، كأنَّه بغضٌ يقلي الفؤادَ.
وإنَّما قال: {مِنَ الْقَالِينَ} للتَّنبيه على أنَّه غير منفردٍ بذلك، بل واحدٌ مِن الجماعة المعروفين به، وأيضاً هو أبلغ مِن (قَالٍ) وإن كان هو أرجحَ من جهة اللَّفظ لِمَا بينه وبين {قَالَ} مِن صنعة التَّجنيس.
* * *
(1)
في (ف) و (م) زيادة: "المتعادي".
(2)
في (ك) و (م): "أو تقبيح".
(169) - {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} .
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} : مِن شؤمِه وعذابِه.
* * *
(170) - {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} .
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} ؛ أي: مَن آمنَ به أَجْمَعِينَ} بإخراجِهم مِن بينهم وقتَ حلولِ العذاب بهم.
* * *
(171) - {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} .
{إِلَّا عَجُوزًا} مقدَّرةً {فِي الْغَابِرِينَ} العجوزُ: المرأةُ التي قد أعجزَها عن أمورٍ كثيرةٍ كبرُ سنِّها.
وهي امرأتُه على ما أفصحَ عنه قوله: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83]؛ أي: الباقين من لِدَاتِها وأهل بيتها.
وقيل: الغابرُ: الباقي في قِلَّةٍ، كالتُّراب الذي يذهب بالكنس ويبقى غباره.
* * *
(172) - {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} .
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} التَّدميرُ: الإهلاك.
* * *
(173) - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أمطرَ اللهُ تعالى على شذَّاذِ
(1)
القومِ حجارةً فأهلكَهم.
(1)
في (ع) و (ف) و (ك) و (م): "شداد"، والمثبت من (ي) وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 331)، =
{فَسَاءَ} فاعله: {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} والمخصوصُ بالذَّمِّ - وهو: مطرُهم - محذوفٌ، والمرادُ بـ {الْمُنْذَرِينَ}: جنسُ الكافرين.
* * *
(174 - 175) - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدَّم تفسيرُه.
* * *
(176 - 180) - {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الخليلُ: الأيكةُ: غيضةٌ تُنبتُ السِّدرَ والأراكَ وناعمَ الشَّجر
(1)
.
{الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} إنَّما لم يقل: أخوهم شعيب؛ لأنَّه لم يكن مِن نسبِهم، بل كان مِن نسبِ أهلِ مَدين. وفي الحديث: أنَّ شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة
(2)
.
= و "تفسير البيضاوي"(4/ 141)، "تفسير النسفي" (2/ 579). قال الشهاب في "الحاشية" (7/ 25):"شذاذ" بمعجمات بوزن جُهال، جمع شاذ، وهو من انفرد عنهم في الطريق أو من كان غريبًا من غير قبائلهم، وهذا إشارة إلى التوفيق بين طرق إهلاكهم، فإنه ورد أنه بصيحة، وفي أخرى برجفة، وفي أخرى بإمطار حجارة، فهو إمّا بوقوع بعضه لبعضهم، أو لأنَّه أرسل لطائفتين أهلك كل منهما بنوع منه، ولا مانع من الجمع بينهما.
(1)
انظر: "العين" للخليل (مادة: أيك)(5/ 423).
(2)
روى نحوه ابن أبي حاتم في "العلل"(1786)، ونقل عن علي بن الحسين بن الجنيد قوله: هذا باطل. وقال ابن كثير في "تفسيره"(3/ 346): "غريب، وفي رفعه نظر".
(1)
قد مرَّ تفسيرُه في هذه السُّورة.
* * *
(181) - {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} .
{أَوْفُوا الْكَيْلَ} : أتمُّوه {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} حقوقَ النَّاسِ بالتَّطفيف.
ولو قيل: ولا تُخسروا، لكان أبلغَ في النَّهي، على ما تقدَّم في تفسير:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]، وإنَّما عدل عنه إلى ما ذَكَرَ تعريضًا لاشتهارِهم بتلكَ الحالِ.
* * *
(182) - {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} .
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} الوزنُ: وضعُ الشَّيء بإزاء المعيار بما يُظهِرُ منزلَتَهُ منه في ثِقَلِ المقدار: إمَّا بالزِّيادة، أو النُّقصان
(2)
، أو التَّساوي.
والقِسْطاسُ: الميزانُ، أو القبان؛ فإنْ كان مِن القِسْطِ وهو العدل وجعلَتِ العين مكرَّرة فوزنه فِعلاس
(3)
، وإلَّا فهو رباعيٌّ.
(1)
في (ف) و (م) و (ك): " {أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} إلى قوله: {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".
(2)
في (ف): "المقدار إلى الزيادة والنقصان".
(3)
قوله: "فعلاس"، كذا قاله الزمخشري، وتابعه النسفي، ونقل فيه الطيبي فيه نظراً بأن الصواب أن وزنه: فعلاع؛ لأن التكرير يقتضي أن يوزن بما قبله، وأما فعلاسٌ فلم يوجد أصلاً. قلت: وهو عند الآلوسي: (فعلاع). انظر: "الكشاف"(3/ 332)، و "تفسير النسفي"(2/ 580)، و "فتوح الغيب"(11/ 412)، و "روح المعاني"(19/ 263).
(183) - {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .
{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ} يقال: بخستَهُ حقَّه: إذا نقصْتَه إيَّاه.
{أَشْيَاءَهُمْ} : دراهمهم ودنانيرهم
(1)
بقطع أطرافها، ولولا
(2)
[أن] المرادُ النَّهيُ عن المعتاد لقيل: ولا تبخسوا الناس شيئًا؛ لأنَّه أبلغُ في النَّهي.
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وهذا أيضًا نهيٌ عن معتادهم، ولذلك عدل عن الأبلغ في النَّهي وهو:(لا تفسدوا في الأرض).
والعُثُوُّ: أشدُّ الفسادِ، وذلك قد يكون لمصلحةٍ كتخريب ديار الكفر
(3)
، فلدَفْعِ هذا الاحتمال قيل:{مُفْسِدِينَ} .
* * *
(184) - {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} .
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} ؛ يعني: مَن تقدَّمهم مِن الخلائق، أُطلقَ الخليقةُ وأُريدَ به
(4)
الخَلْقُ.
قيل: {وَالْجِبِلَّةَ} : الخَلْق المتجمِّد
(5)
الغليظ، مأخوذ مِن الجَبلِ، فحينئذ يناسبُ التَّفسير عن خِلْقَةِ عادٍ وثمودَ.
* * *
(1)
في (ف) و (م) و (ك): "دراهم ودنانير".
(2)
في (ف): "ولو كان"، والمثبت هو الصواب، وما سيأتي بين معكوفتين زيادة يقتضيها السياق.
(3)
في (م): "الكفرة"، في (ي) و (ع):"الكفار".
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "بها".
(5)
في (ف): "المتجد"، وفي (م) و (ك):"المتخذ". وفي "البحر المحيط"(16/ 319): "المتجسد".
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} تركَ أداةَ الجمع في قصَّة ثمود ليفيدَ التَّوكيد والتَّقرير والقطع بأنَّه بشرٌ مثلهم؛ أي: لا ينبغي أنْ نؤمن برسالتك إلَّا بشيءٍ تمتازُ به عنَّا، ولهذا قالوا:{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، وأتى بها هنا للدِّلالة على أنَّه جامعٌ بينَ وصفَيْنِ متنافِيَيْنِ للرِّسالة؛ مبالغةً في تكذيبهم، فكأنَّهم قالوا: نحن وأنت في عدم صلاحيَة الرِّسالة من جهة كوننا بشراً سواءٌ، ولكَ
(1)
المزيَّة علينا في كونك مسحَّراً
(2)
دوننا، ثمَّ أكَّدوا ذلك بقولهم:
{نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} والظَّنُّ بمعنى اليقين، ولذلك أدخل (إنْ) واللَّام.
ولَمَّا كانَ هذا الرَّدُّ أبلغُ مِن الأوَّلِ، ما طلبوا البرهان كما طلبَ ثمودُ حيثُ قالوا:{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، بل قطعوا بما يدلُّ على اليأس مِن إيمانهم بقولهم على سبيلِ الاستهزاءِ:
(187) - {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا} : جمع كِسْفَةٍ، وهي قطعة {مِنَ السَّمَاءِ} عقوبةً {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كما قطعَ قريشٌ بقولهم:{إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32].
* * *
(1)
في (ك): "ذلك".
(2)
في (ي): "مسخرًا".
(188) - {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
{قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} ؛ أي: إنَّ اللّهَ تعالى أعلمُ بأعمالِكم وبما تستحقُّون عليها مِنَ العذابِ؛ فإنْ أرادَ أن يعاقبَكُم بإسقاط كِسَفٍ مِن السَّماءِ فَعَلَ، وإنْ أراد عقاباً آخر فإليه الحكم والمشيئة.
* * *
(189) - {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} على نحو ما اقترحوا.
و {الظُّلَّةِ} : سحابةٌ أظلَّتْهُم بعدَ ما حُبِسَ عنهم الرِّيحُ وعُذِّبوا بالحرِّ سبعةَ إيَّام، فاجتمعوا تحتَها مستجيرين
(1)
بها ممَّا نالهم مِن الحرِّ، فأمطرَ تْعليهم
(2)
فاحترقوا.
ولهذا - أي: ولكونهم معذَّبَين في ذلك الوقت بسببٍ آخر غير الظُّلَّةِ - أضيف العذاب إلى اليوم دون الظُّلَّة، وقطعُ إضافةِ العذابِ عنها لا يخلو عن نوعِ إشعارٍ بأنَّ عذابهم قبلَ نزول النَّار مِن الظُّلَّةِ بلغ إلى حَدٍّ كان ذلك خلاصاً لهم من العذاب.
{إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} قد مرَّ أنَّ وصفَ اليومِ بالعِظَمِ أبلغُ مِن وصفِ العذابِ بِهِ.
* * *
(1)
في (ك) و (م) و (ف): "متحسرين "، وفي (ع):"مسحرين "، والمثبت من "تفسير النسفي "(2/ 581).
(2)
من قوله: "وعُذِّبوا بالحرِّ .. " إلى هنا سقط من (ي).
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} هذا آخر القَصص السَّبع المذكورة على وجه الاختصار تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين به.
* * *
(192) - {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ أي: إنَّ القرآنَ لَمُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تعالى لمصلحةِ العالَمِين.
* * *
(193) - {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} .
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} : أي: جبريل عليه السلام، فإنَّه أمين الله على وحيه.
وقرئ {نَزَلَ} مشدَّداً و {الرُّوحُ} منصوباً
(1)
؛ أي: جعلَ اللهُ الرُّوحَ نازلاً به، والباء على القراءتَيْنِ للتَّعدية.
* * *
(194) - {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .
{عَلَى قَلْبِكَ} أقحمَ القلبَ - والمعنى: عليكَ - لأنَّه محلُّ الوحيِ والتَّثبيت، وليُعْلَمَ أنَّ المنزَلَ محفوظٌ عن المخالطة والمغالطة؛ لوصوله إلى القلب بالذَّات، لا بواسطة الصَّوت وآلة السَّمع، فافهم هذا السَرَّ الدَّقيقَ.
(1)
قرأ بها ابن عامر وحمزة وأبو بكر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 166).
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} اقتصرَ على الإنذار لعمومِه الفريقَيْن، ولأنَّه أزجرُ للسَّامعِ.
* * *
(195) - {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} : بلغةِ العربِ، متعلِّق بـ {نَزَلَ} هو، ويجوز أنْ يتعلَّق بـ {الْمُنْذِرِينَ}؛ أي: لتكونَ ممَّنْ أنْذَروا بلغة العرب، وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمَّد عليهم الصلاة والسلام.
{مُبِينٍ} للنَّاسِ ما يحتاجون إليه مِن أمورِ دينِهم ودنياهم.
* * *
(196) - {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} .
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} يعني: ذِكْرُ مثبَتٌ في سائر الكتب المنزَلَةِ السَّماويَّةِ.
وقيل: إنَّ معانيه فيها، فلا دلالة فيه على أنَّ القرآن قرآن إذا تُرْجِمَ بغير العربية.
والزُّبُرُ: جمع زَبُورٍ، كرُسُل ورَسُولٍ، وقد تقدَّمَ بيانُه.
* * *
(197){أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} على صحَّةِ القرآنِ ونبوَّةِ محمَّدٍ عليه السلام {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} : أنْ يعرفوه بنعته المذكور في كتبِهم. وهو تقريرٌ لكونه دليلاً.
قرئ: {يَكُنْ} بالتَّذكير، و {آيَةً} بالنَّصب، على أنَّها خبره، و {أَنْ يَعْلَمَهُ} هو الاسم، تقديره: أو لم يكن لهم عِلمُ علماءِ بني إسرائيل آيةً.
وقرئ: {تَكُنْ} بالتَّأنيث و {آيَةً} بالرَّفع
(1)
، على أنهَّا اسم (كان) وخبره:{لَهُمْ} ، و {أَنْ يَعْلَمَهُ} بدل.
وقيل في {تَكُنْ} ضمير القصَّة، و {آيَةً} خبر مقدَّم والمبتدأ {أَنْ يَعْلَمَهُ} ، والجملة خبر (كان).
وقيل: (كان) تامَّةٌ، والفاعل {آيَةً} ، و {أَنْ يَعْلَمَهُ} بدل منها
(2)
، أو خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: أولم يحصل لهم آيةٌ.
* * *
(198) - {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} .
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} كما هو زيادة في إعجازه، أو: بلغة العجم.
* * *
(199) - {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} .
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} لفَرْط عنادِهم واستكبارِهم، أو لعدم فهمِهم واستنكافِهم مِن اتِّباع العجم.
و {الْأَعْجَمِينَ} : جمع أعْجَميٍّ
(3)
على التَّخفيف، كما قالوا: الأشعرون؛ أي: الأشعريُّون، بحذف ياء النِّسبة، ولولا هذا التَّقديرُ لم يَجزْ أنْ يُجمَعَ جمعَ السَّلامة؛ لأنَّ مؤنَّثه عجماء
(4)
.
(1)
قراءة ابن عامر، وباقي السبعة بالياء والنصب. انظر:"التيسير"(ص: 166).
(2)
في (ك): "منه ".
(3)
"أعجمي ": ليست في (ك) و (م)، وفي (ف):"عجمي ".
(4)
في (ف): "لأن مؤنث عجمي عجماء".
وزيادة (كان) لإفادة معنى الاستمرار، والمرادُ استمرارُ
(1)
النَّفيِ، لا نفيُ الاستمرار؛ فافهم سرَّ هذا الاعتبار.
* * *
(200) - {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} .
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} ؛ أي: مثلَ ما ذكرنا مِن إدخال
(2)
التَّكذيب به على تقدير قراءة الأعجم أدخلنا التَّكذيب {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} بقراءة أفصحِ العربِ.
* * *
(201) - {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} المرادُ به: معاينةُ العذابِ عندَ الموت، وذلك إيمان يأسٍ
(3)
فلا ينفعهم.
* * *
(202) - {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
{فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يعني: أنَّ العذاب الذي يستعجلونه يجيئهم فجأةً.
والبغتةُ: حصولُ الأمرِ العظيمِ الشَّأن مِن غيرِ توقُّعٍ وتقديمِ أسبابٍ.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بإتيانه.
* * *
(1)
"استمرار": ليست في (م).
(2)
"من إدخال " ليست في (ع) و (ي).
(3)
في (ف) و (ك): " بأس "، وفي (ي) و (ع):" الباس ".
(203) - {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} .
{فَيَقُولُوا} حذف النُّون منه عطفاً عَلى قوله: {يَرَوُا} .
{هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} : يَسألون النَّظِرةَ والإمهال طرفةَ عينٍ فلا يجابون إليها.
* * *
(204) - {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فيقولون: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70]، وحالُهم عند حلول
(1)
العذاب طلب النَّظِرة، فجيء بالهمزة للإنكارِ، والفاءُ دلالةٌ
(2)
على ترتيبه على السَّابق، إلَّا أنهَّا أُخِّرَتْ لأنَّ همزة الاستفهام لها حقُّ الصَّدارة وإنْ استعيرَتْ لمعنًى آخر.
قال يحيى بن معاذ: أشدُّ النَّاسِ غفلةً مَن اغترَّ بحياته، والتذَّ بمراداته
(3)
، وسكن إلى مألوفاته، واللّه يقول:
(205 - 207) - {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} .
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}
(4)
مِن العذابِ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} به في تلك السِّنين في دفع العذاب وتخفيفه.
(1)
في (ك): " نزول ".
(2)
في (ف): "دالة".
(3)
في (ك): " بمراراته".
(4)
انظر: "تفسير السلمي"(2/ 81).
وإنَّما جيء بفعل الرُّؤية والاستفهامِ ليكون في معنى أخبر إفادةً لمعنى التَّعجُّب والإنكار، وأنَّ مِن حقِّ هذه القصَّة أنْ يُخبَرَ بها كلُّ أحدٍ حتى يتعجَّب
(1)
.
وزيادة (كان) في الموضعَيْن لإفادة الاستمرار.
* * *
(208) - {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا} لم تدخل الواو على الجملة بعد إلَّا كما في: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)} [الحجر: 4] لأنَّ الأصل عدم الواو؛ إذ الجملة صفة لـ {قَرْيَةٍ} ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصِّفة بالموصوف.
{مُنْذِرُونَ} أتى بصيغة الجمع لأنَّ {مِنْ قَرْيَةٍ} عامٌّ، فكأنَّه قيل: وما أهلكنا من القرى، والعدول عنه لإفادته الدِّلالة على أنَّ المراد الكلَّ الإفراديَّ، لا الكلَّ
(2)
المجموعيَّ.
* * *
(209) - {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
{ذِكْرَى} : تذكرةً، ومحلُّها النَّصب على العلَّة، أو المصدر؛ لأنها في معنى الإنذار، أو حال من الضَّمير في {مُنْذِرُونَ} ، أو الرَّفعُ على أنَّه صفة منذرين بإضمار ذَوو، وبجعلهم ذكرى لإمعانهم في التَّذكرة
(3)
، أو خبرُ مبتدأ محذوف بمعنى: هذه ذكرى.
(1)
في هامش (ي): "لما كانت الرؤية أقوى سند الإخبار استعمل (أرأيت) بمعنى الإخبار. منه ".
(2)
في (ف): "الكلي الإفرادي لا الكلي".
(3)
في (ف): "التذكر".
والجملة اعتراضية، فلا يجوز أن يكون {ذِكْرَى} متعلِّقةً بـ {أَهْلَكْنَا} مفعولاً لَه؛ لأنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما بعد إلَّا لا يعمل فيما قبلَها، إلَّا أن يكون مستثنًى أو مستثنًى منه، أو تابعاً له غير معتمِد على الأداة.
{وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} ؛ أي: ليس مِن شأننا الظُّلم فنعذِّبَ فيها غير مستحقِّين له.
ولَمَّا قال المشركون: إنَّ الشَّياطين تلقي القراَنَ على محمَّد عليه الصلاة والسلام نزل:
(210) - {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} .
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} ؛ أي: بالقرآن {الشَّيَاطِينُ} وإنَّما أتى بصيغة التَّكلُّف والجمعِ لأنَّه على تقدير وقوع المنفيِّ لا يكون إلَّا بزيادة كُلْفَةٍ ومشقَّةٍ مِن جماعةٍ منهم على ما بُيِّنَ عند تفصيل كيفيَّة استراق السَّمع.
ردٌّ لِما زَعَمَ المشركون أنَّه مِن قَبيل ما يُلقي الشَّياطينُ على الكهنةِ.
* * *
(211) - {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} .
{وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} أن ينزِلوا به {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلك. نفى أوَّلاً الوقوع، ثمَّ اللِّياقة، ثمَّ القدرة، ثمَّ بيَّنَ علَّة عدم القدرة بقوله:
(212) - {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .
{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} لكلامِ الملائكةِ {لَمَعْزُولُونَ} : لمنحَّونَ.
والعَزْلُ: تنحية الشَّيء عن الموضع
(1)
إلى خلافه.
(1)
في (ع): "الموضوع".
وسبب ذلك ما ذُكِرَ في سورة الجنِّ من كونهم مَرْجومينَ بالشُّهبِ.
* * *
(213) - {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} .
{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} إنَّما نهى النَّبيَّ عليه السلام عن الشِّركِ في العبادة مع عدم الحاجة إليه في حقِّه تمهيداً لبيان ترتُّب العذابِ عليه على وجهٍ لا يتخلَّفُ عنه أصلاً، حيث لا يتخلَّف عنه في حقِّ
(1)
خيرِ الخلقِ، فكيف في حقِّ غيره؟
* * *
(214) - {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} خصَّهم لنفي التُّهمة؛ إذ الإنسان يُساهِلُ قرابَته، وليَعلموا أنَّه لا يغني عنهم مِن الله شيئاً؛ فإنَّ النَّجاةَ في اتِّباعه دون قربه.
والعشيرة تنتظِم الفخذَ فما فوقَها.
* * *
(215) - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} : وألِنْ
(2)
جانِبَكَ وتواضَعْ، مستعارٌ مِن خفضِ الطَّائر جناحَه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ.
{لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : مِن عشيرتِكَ وغيرهم، ولإفادة هذا التَّعميم ذكر قولَه:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإلَّا فالإيمان واتِّباعه عليه الصلاة والسلام توأمان.
(1)
في (ف): "عن حق".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "وألق".
(216) - {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} .
{فَإِنْ عَصَوْكَ} مرتبطٌ بقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، وكان أصلُ الكلامِ: أنذرْ أقرباءَكَ فإنِ اتَّبعوك وأطاعوك فاخفضْ لهم جناحَك وإنْ عصَوْكَ
(1)
ولم يتَّبعوكَ فتبرَّأْ مِن أعمالهم، إلَّا أنَّه غيَّرَ التَّعبير في أحدِ الشِّقَّينِ تنزيلاً للمُقَدَّرِ منزلةَ المُحَقَّقِ في الجانب الغالب، وعمَّمَ حكمَه تنبيهاً على أنَّ حكم الإنذار أصلُه غيرُ مخصوصٍ، إنَّما
(2)
الاختصاص بأقربائه عليه السلام في صفة تقديمه، وخصَّ حكم شقِّ العصيان بهم ليظهرَ ذلك الحكم في حقِّ غيرِهم بطريقِ الأَولى.
{فَقُلْ} لهم: {إِنِّي بَرِيءٌ} لَمَّا كانَ الحكمُ في صورة الاتِّباع وجوديًّا، وفي صورة خلافه عدميًّا، أمرَ بنفسِ الحكم في الأولى، وبالإظهار قولاً في الثَّانية، وهذا مِن دقائق الاعتبار، قلَّما يتنبَّه له إلَّا ذوو الاختبارِ
(3)
.
{مِمَّا تَعْمَلُونَ} : ممَّا تعملونه، أو: مِن أعمالِكم.
أمرَ بالبراءة مِن عملِهم لا منهم؛ إشعاراً بانَّهم لا يُترَكون بإظهار العصيانِ، بل يُدعَون إلى الإطاعة مرَّةً بعدَ أخرى باللُّطف، إلى أنْ نزلَ الأمرُ بالعنفِ.
* * *
(217) - {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
{وَتَوَكَّلْ} التَّوكُّلُ: تفويضُ الأمرِ إلى مَن يملكُه. وقرئ: {فَتَوَكَّلْ}
(4)
على الإبدال من جواب الشرط.
(1)
في (م): "عصوا".
(2)
في (م): "وإنما".
(3)
في (ك) و (م): " الاختيار".
(4)
قرأ به نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 167).
{عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} : على الذي يقهَرُ أعداءَك بعزَّتِه، وينصرُكَ عليهم برحمَتِهِ، يَكفِكَ شرَّ مَن يعصيْكَ منهم ومن غيرهم.
* * *
(218) - {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} .
{الَّذِي يَرَاكَ} الرُّؤيةُ: علمٌ خاصٌّ بنوع مِن المحسوسِ غيرُ متوقِّف على النَّظر، بل قد يحصل بطريقٍ آخر، فلذلك زاد موسى عليه السلام قوله:{أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] حين طلب الرُّؤيةَ المعهودة.
{حِينَ تَقُومُ} متهجِّداً.
* * *
(219) - {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} .
{وَتَقَلُّبَكَ} ؛ أي: ويرى تقلُّبَكَ {فِي السَّاجِدِينَ} : في المصلِّين.
أتبعَ كونَه رحيماً على رسولِه ما هو مِن أسبابِ الرَّحمةِ، وهو ذكرُ ما كان يفعلُه في جوفِ اللَّيل مِن قيامِه للتَهجُّدِ، وتردُّدِه في تصفُّح أحوال المتهجِّدين مِن أصحابه رضي الله عنهم ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويعلم أنَّهم كيفَ يعبدون اللّه في خلواتِهم.
وقيل: تصرُّفه فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود إذا أمَّهم، ولا يخفى ما في التعبير عن أركان صلواته عليه الصلاة والسلام حال إمامته بالتقلب في الساجدين مما يخلُّ بشأنها، ثم إن المناسب عطفه على {تَقُومُ} ، والعدول عن سننه لكونه جنساً، وهو على ما قررناه.
(220) - {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لِمَا تقولُه وتعمَلُه
(1)
. هوَّن عليه معاناةَ مشاقِّ ما تحمَّلَه مِن التَهجُّدِ والتَّفقُّد حيث أخبرَ برؤيته له؛ إذْ لا مشقَّةَ على مَن يعلَمُ أنَّه يعملُ بمرأًى مِن مولاه.
* * *
(221) - {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} .
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} إنَّما قال: {تَنَزَّلُ} لأنَّه أكثر ما يكون في الهواء، وأنَّه تمر مَرَّ
(2)
الرِّيحِ.
* * *
(222) - {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} .
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} : على كلِّ مَن بلغَ في الإفكِ والإثمِ الغايةَ.
لَمَّا بَيَّنَ أنَّ القرآنَ لا يصحُّ أنْ يكون ممَّا تنزَّلُ به الشَّياطينُ أكَّدَ ذلك بأنْ بيَّنَ أنَّ محمَّداً عليه الصلاة والسلام لا يصلحُ لأنْ ينزلوا عليه بوجهَيْن
(3)
:
أحدهما: أنَّه إنَّما يكون على شرِّيرٍ كذَّابٍ كثيرِ الإثم وهم الكهَنة والمتنبِّئة، ومحمَّد عليه السلام يشتمُ الأفَّاكين ويذمُّهم، فكيف تنزلُ الشَّياطينُ عليه؟! وإنَّما زادَ كلمة {كُلِّ} اعتباراً لِمَا في {مَنْ} مِن معنى العموم، وإلَّا فلا حاجةَ إليه في أصل الكلام.
(1)
في (ع): "ولعلمه".
(2)
في (ع): "من".
(3)
في (ف): "لوجهين".
(223) - {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} .
وثانيهِما: ما ذكرَه بقوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} ؛ أي: الأفَّاكون يلقونَ السَّمعَ إلى الشَّياطين، فيتلقَّون منهم ظنوناً وأماراتٍ لنُقصان علمِهم، فيضمُّون إليها على حسب تخيُّلاتهم أشياءَ لا تُطابق أكثرَها، كما جاء في الحديث: "الكلمة يَخطَفُها
(1)
الجنِّيُّ، فيقُرُّها
(2)
في أذن وليِّه، فيزيد فيها أكثرَ مِن مئةِ كَذْبَةٍ"
(3)
.
ولا كذلك محمَّدٌ عليه الصلاة والسلام، فإنَّه أخبرَ عن مغيَّباتٍ كثيرةٍ لا تُحصَى، وقد طابق كلُّها.
و {يُلْقُونَ} حالٌ؛ أي: تنزِلُ مُلقينَ السَّمع، أو صفةُ {كُلِّ أَفَّاكٍ} ؛ لأنَّه في معنى الجمع، فيكون في محل الجرِّ، أو استئناف فلا يكون له محلٌّ من الإعراب، كأنَّه قيل: لِمَ تنزلُ على الأفَّاكين؟ فقيل: لأَنَّهم يفعلون كيْتَ وكيْتَ.
{وَأَكْثَرُهُمْ} أي: أكثرُ الأفَّاكين {كَاذِبُونَ} : يفترون على الشَّياطين ما يُوحون إليهم.
واختصاصُ هذا النَّوع مِن الكذبِ بأكثرهم لا ينافي تناولَ جنس الكذبِ كلَّهم.
* * *
(224) - {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} .
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وأتباعُ محمَّد عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك، وهو استئنافٌ أبطلَ كونَه شاعراً.
(1)
في (ي) و (ع) و (م): "يحفظها".
(2)
في (ي) و (ع): "فيقرؤها"، و في (م):"فيقرعها".
(3)
روى نحوه البخاري (5762)، ومسلم (2228)، من حديث عائشة رضي الله عنها. قوله:"يخطفها" من الخطف وهو الأخذ بسرعة "فيَقُرُّها": يصبها. "وليه"؛ أي: الكاهن الذي يواليه.
(225) - {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} تمثيلٌ لذهابهم في كلِّ شِعْب مِن القَولِ، واعتسافِهم، وقلَّةِ مبالاتهم، بالغُلُوِّ في المنطقِ
(1)
، ومجاور الحدِّ في القصدِ، حتى إنهم يفضِّلون
(2)
أجبنَ النَّاسِ على عنترة، وأشحَّهم على حاتم، وبَهَتوا البريءَ، وفسَّقوا التَّقيَّ.
* * *
(226) - {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} .
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} وذلك لغلوِّهم في أفانين الكلام، ولَهجهم بالفصاحة والمعاني اللَّطيفة، وقد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم.
لَمَّا كان إعجازُ القرآن مِن جهة المعنى واللَّفظ، وقد قدحوا في المعنى بأنَّه ممَّا تنزَّلُ
(3)
به الشَّياطين، وفي اللَّفظ بأنَّه مِن جنسِ كلام الشُّعراء = تكلَّمَ في القِسْمَيْنِ، وبيَّنَ منافاةَ القرآنِ لهما، ومضادَّة حالِ الرَّسول عليه السلام بحالِ أربابهما.
* * *
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناءٌ للشُّعراءِ
(4)
مِن المؤمنين الصَّالحين؛
(1)
في (ف) و (ك) و (م): " النطق "، وفي (م):" بالغوا "، بدل:" بالغلو".
(2)
في (ع) و (ك) و (م) و (ي): "يفضلوا".
(3)
في (ف): "تنزله ".
(4)
في (ك) و (م): "استثناء الشعراء"، وفي (ف):"استثنى الشعراء".
كعبد اللّه بن رواحة، وحسَّان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك.
{وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي: كان ذكرُ اللّهِ وتلاوةُ القرآنِ أغلبَ عليهم مِن الشِّعرِ، وإذا قالوا شعرا قالوه في التَّوحيد باللّه تعالى والثَّناء عليه.
{وَانْتَصَرُوا} : وهَجَوا {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} : هُجُوا
(1)
؛ أي: رَدُّوا هجاءَ مَن هجا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} تهديدٌ شديدٌ؛ لِمَا في {وَسَيَعْلَمُ} مِن الوعيدِ البليغِ، وفي {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِن الإطلاق والتَّعميم، وفي:{أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} - أي: بعدَ الموت - من الإبهام والتَّهويل.
وقرئ: (أيَّ منفلَتٍ ينفلتون) بالفاء والتَّاء
(2)
، ومآلُ المعنى واحدٌ، ذكره الثعلبي
(3)
.
ختم السُّورة بما يقطِّع أكبادَ المتكبِّرين
(4)
المنذَرين
(5)
.
* * *
(1)
"هجوا" سقط من (ف) و (ع).
(2)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 108).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي "(7/ 187).
(4)
في (ك) و (م): " المنكرين ".
(5)
في (ي) و (ع): " المتدبرين ".
سُورَةُ النَّمْلِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} .
{طس تِلْكَ} إشارةٌ إلى السُّورة.
{آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} عطفَه على {الْقُرْآنِ} كعطفِ إحدى الصِّفتَيْن على الأخرى، وتنكيرُه للتَّعظيم.
وإبانته: أنَّه يبيِّنُ
(1)
ما أُوْدِعَ فيه مِن الحِكَمِ والأحكام، أو الصحَّة
(2)
بإعجازِه.
وإنَّما عرَّف القرآن ونكَّر الكتاب على عكس ما في (سورة الحجر) لأنَّهما اسمان علَمان للمنزَّلِ على نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، ووصفان له باعتبار معناهما الأصليَّين، فأيُّهما جُعِلَ أصلاً والآخر صفةً صحَّ.
و {وَكِتَابٍ} قرئ بالرَّفع
(3)
على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مقامَه، على معنى: وآياتُ كتابٍ مبين.
* * *
(1)
في (ك): "تبيين" بدل "أنه يبين ".
(2)
في (ع): "لصحة"، وفي (ي):"لصحته ".
(3)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 248).
(2) - {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
{هُدًى} للبشر {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} حالان من الآيات، والعامل فيها معنى الإشارة، أو بدَلان منها، أو من {وَكِتَابٍ} ، أو صفةٌ له، أو خبران آخران، أو خبران
(1)
لمحذوف؛ أي: هي هدى.
* * *
(3) - {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} تقدَّم تفسيره في سورة البقرة.
{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مِن تتمَّة الصِّلة، والواو للحال أو للعطف.
وتغيير النَّظم للدِّلالة على قوَّة يقينهم وثباتهم، وأنَّهم الأوحديُّون فيه، أو استئناف كأنَّه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون
(2)
بالآخرة، ويدلُّ عليه أنَّه عقد جملة اسمية وكرَّر فيها المبتدأ حتى صارَ معناها: وما يوقن بالآخرة حقَّ الإيقان إلَّا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح
(3)
؛ لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمُّل المشاقِّ.
* * *
(4) - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} القبيحةَ بخلق الشَّهوة فيهم، حتى رأوا ذلك حسناً كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] وقد
(1)
"آخران أو خبران" سقطت من (ف) و (ك)، وسقطت "آخران" من (ع).
(2)
في (ف): " المؤمنون ".
(3)
في (م): " الصالحات ".
مرَّ البحث مستوفًى في إسناد التَّزيين إليه تعالى في تفسير سورة البقرة
(1)
.
{فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون ويتردَّدون في ضلالتهم، كما يكون حال الضَّالِّ عن ا لطَّريقِ.
* * *
(5) - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ} لم يؤمنوا {لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} بما كان منهم
(2)
مِن سُوءِ الأعمال.
{وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} : أشدُّ النَّاس خسرانًا لفواتِ التَّوبةِ واستحقاقِ العقوبةِ.
* * *
(6) - {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} .
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي: يُلقَى عليك بشدَّةٍ.
{مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} : مصيبٍ في أقوالِه وأفعالِه {عَلِيمٍ} بكلِّ شيءٍ وأحوالِه، فليس الأوَّل منهما مشتملاً على الآخر حتى يكون حقُّه التَّأخير، والتَّنكيرُ فيهما للتَّعظيم.
وهذه
(3)
الآيةٌ تمهيدٌ لِمَا يريدُ أنْ بعدها مِن القَصص، وما ذلك مِن لطائفِ حكمتِه ودقائقِ علمِه.
* * *
(1)
عند تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212].
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "لهم ".
(3)
في (ك) و (م): "وفي هذه "، وفي (ف):"ومن هذه ".
{إِذْ قَالَ مُوسَى} أي: اذكر قصَّة إذ قال موسى، وقيل: متعلِّق بـ {عَلِيمٍ} .
{لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} الإيناسُ: الإحساسُ بالشَّيءِ مع سُكونِ النَّفسِ إليه.
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ؛ أي: عن حال الطَّريق؛ لأَنَّه قد ضلَّها.
روي أنَّه لم يكن معه غير امرأته، وإنَّما وَرَدَ
(1)
الخطاب بلفظ الجمع لكنايته عنها بالأهل؛ إقامةً لها مقامَ الجماعة في الأُنْسِ بها والسُّكون إليها في الأمكنةِ الموحشةِ.
والسِّين للتَّقريبِ، وتقليلِ مدَّة الوعد؛ كيلا تَستَوحِشَ
(2)
، وفي التَّعبير بالإيناس دون الإبصار نوعُ تمهيدٍ لهذا.
{أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} : القطعة من النَّار، والشِّهابُ: ما يمتدُّ منها، وإضافته إليه لأنَّه يكون قبسًا وغير قبسٍ.
وقرئ منونًا
(3)
على أنَّ القَبَسَ بدلٌ منه، أو وصفٌ له؛ لأنَّه بمعنى المقبوس.
والعِدَتان على سبيل الظَّنِّ، ولذلك عبَّرَ بصيغة التَّرجِّي في موضع آخر، والتَّرديدُ لبيانِ عدم الخلوِّ بناءً على العادة، فلا ينافي الجمع
(4)
، وبيانِ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما أمرٌ مهمٌّ باعثٌ للسَّعي في تحصيله.
(1)
في (ف): " أورد".
(2)
في (ي) و (ع) و (م) زيادة: "أهلها ".
(3)
قرأ الكوفيون: {بِشِهَابٍ} بالتنوين، وباقي السبعة بغير تنوين. انظر:" التيسير"(ص: 167).
(4)
في (ف): "الجميع ".
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاءَ أن تستغيثوا بها مِن البرد، والطَّاء بدل من
(1)
التَّاء الافتعاليَّة لأجل الصَّاد.
* * *
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} ؛ أي: النَّار التي أبصرَها.
{نُودِيَ أَنْ بُورِكَ} {أَنْ} مخفَّفةٌ مِن الثَّقيلةِ، تقديرُه
(2)
: بأنَّه بُورِكَ، والضَّميرُ ضميرُ الشَّأنِ، وجاز ذلك مِن غير عوضٍ لأنَّ قولَه:{بُورِكَ} دعاءٌ، والدُّعاء
(3)
يخالف غيره في أحكامٍ كثيرةٍ.
أو مفسِّرةٌ؛ لأنَّ في النِّداء معنى القول.
{مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: جعل البركة والخير قسمَيْن
(4)
: في مكان النَّار وهم الملائكة، ومَن حولَ مكانِها؛ أي: موسى عليه السلام بحدوثِ أمرٍ دينيٍّ.
وفي تصدير الخطاب بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قُضِيَ له أمرٌ عظيمٌ تنتشرُ
(5)
بركته في أقطار الشَّام.
{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و مِن تمامِ ما نُوديَ به؛ لئلَّا يتوهَّم مِن سماع كلامه
(1)
في (م): "عن ".
(2)
في (ف): "وتقديره".
(3)
"والدعاء" سقط من (ف).
(4)
في (ي) و (ع): "فيمن ".
(5)
في (ك): "تنشر".
تشبيهًا، أو للتَّعجيب
(1)
مِن ذلك الأمرِ، أو تعجُّبٌ مِن موسى عليه السلام لِمَا دهاه
(2)
مِن عظمتِه.
* * *
(9) - {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
{يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} الهاء للشَّأن، و {أَنَا اللَّهُ} جملةٌ مفسِّرة له، أو للمتكلِّم
(3)
و {أَنَا} خبره، و {اللَّهُ} بيانٌ له.
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان للهِ ممهِّدتان لِمَا أراد أنْ يُظهِرَ على يده من المعجزة لمصلحةِ إثباتِ النُّبوَّةِ.
* * *
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على محذوفٍ، تقديرُه يُفهَم مِن التَّفصيل المذكور في سورة طه، لا على {بُورِكَ}؛ لأنَّ الفصل بينهما بتجديد النِّداء في قوله:{يَامُوسَى} يأباه.
{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} حالٌ من المفعول، والاهتزازُ: تحرُّكٌ بحركتَيْنِ متدافِعَتَيْنِ.
{كَأَنَّهَا جَانٌّ} ؛ أي: حيَّةٌ سريعةُ الحركةِ.
{وَلَّى} و موسى عليه السلام {مُدْبِرًا} : أعرضَ عنها، وجعلها تلي ظهرَه خوفًا منها بمقتضى البشريَّة.
(1)
في (ف) و (ع): "للتعجب ".
(2)
في (م): "رآه ".
(3)
أي: للمتكلم المنادي له، فالتقدير: إنّ المنادي المتكلم أنا. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 35).
{وَلَمْ يُعَقِّبْ} : لم يرجع، يقال: قد عقَّبَ فلانٌ: إذا رجعَ، يقاتل بعدَ أن ولَّى.
فنُودِيَ: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ} ؛ أي: مِن غيري
(1)
ثقةً بي
(2)
، وحُذف المفعول لظهوره، أو مطلقًا على تنزيل المتعدِّي منزلةَ اللَّازم.
{إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ؛ أي: لا ينبغي لهم أن يخافوا حالَ تقريبي إيَّاهم بالخطاب، وفيه إشارة إلى أنَّ تلك الحالة كانت مقدِّمة للرَّسالة
(3)
.
* * *
(11) - {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} استثناءٌ منقطعٌ، استدرك به ما يختلج في الصَّدر
(4)
مِن نفي الخوف عن كلِّهم، ومنهم مَن فَرَطتْ منه صغيرة، فإنَّهم وإنْ فعلوها أَتبعوا فعلها ما يُبطلها
(5)
، ويستحقُّون مِن اللهِ مغفرةً ورحمةً.
ولم يقصدْ به تعريضَ موسى عليه السلام بوكزِه القِبطيَّ؛ لأنَّه عليه السلام لم يكن وقتئِذٍ
(6)
مرسلًا.
وقيل: متَّصل، و {ثُمَّ بَدَّلَ} مستأنَفٌ معطوفٌ على محذوفٍ؛ أي: ومَن ظلم ثمَّ
(1)
في (ك): "أي: غيري "، وفي (ف):"أي غير".
(2)
في (ف) و (ك) و (ع): "لي ".
(3)
في (م): "متقدمة للرسالة"، وفي (ك):"متقدمة الرسالة".
(4)
في (ك) و (م): "الصدور".
(5)
في (ك): "فعلهم ما يبطلها"، وفي (ف) و (م):"فعلهم ما يبطلون".
(6)
في (ع): "وحينئذ".
بدَّل حُسنًا؛ أي: أتى بالتَّوبة بعد سُوءٍ متبدِّلًا
(1)
له بالحسن؛ أي: كان ذلك منه سببًا بتبديل السَّيئة بالحسنة.
وفي التَّعبيرِ عنها
(2)
بالحُسْنِ مبالغةٌ في حسنها؛ لبعدِها مِن مَظنَّة شَوبِ الرِّياء والشَرك، فإنَّ العَمَلَ قلَّما يخلو عنه
(3)
، وهذا البَدَلُ لَمَّا لم يحصلْ بالعمَلِ خلَصَ عنه.
* * *
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} إنَّما قالَ: {فِي جَيْبِكَ} لأنَّه كان عليه مَدْرَعَةُ صوفٍ لا كُمَّ له.
{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} فيه جمعٌ
(4)
بينَ أمرَي التَّكليفِ والتَّكوينِ.
{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : قبحٍ، لَمَّا كانَ خروج الشَّيء مِن خِلقتِهِ وجوهرِهِ ممَّا
(5)
يُستقبَحُ ويُستقذَرُ أخبرَ أنَّه لم يكنْ كذلكَ.
وأمَّا احتمالُ البَرَصِ فبِمَعزلٍ عن هذا المقامِ، مثلُ ذلك لا يخطرُ بالبالِ في أمثال
(6)
هذه الآيات العِظام حتى يُحتاجَ إلى دَفعِهِ
(7)
.
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "مبدلًا".
(2)
في (ع): "عنه "، وفي (ف) و (ك):"هنا".
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "العمل لا يخلو منه ".
(4)
في (م) زيادة: " قلما".
(5)
في (ف) و (م): "بما".
(6)
في (ك): "مثل ".
(7)
في (ع): "رفعه ".
{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} ؛ أي: آيةً في تسعِ آياتٍ، وهي: العصا واليد والطُّوفان والجراد والقُمَّلَ والضَّفادع والدَّم والطَّمسة والجدب ونقصان الزَّرع
(1)
.
وأمَّا الفَلْقَ فليس منها؛ لأنَّه عليه السلام لم يُبعَثْ به.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي: مرسلًا.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليلٌ للإرسالِ.
* * *
(13) - {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا} لم يقل: جاءَهم موسى عليه السلام بها؛ لأَنَّها كانت خارجةً عن حيِّزِ طاقته، وفي بعضها لم يكن منه عليه السلام تصرُّفٌ عاديٌّ.
{مُبْصِرَةً} ؛ أي: ظاهرةً بيِّنةً، جُعِلَتْ كأنَّها تُبْصِرُ فتَهدي؛ لأنَّ العُمْيَ لا تقدرُ على الاهتداء، فضلاً عن أن تَهديَ غيرها
(2)
، ومنه قولهم: كلمةٌ عَيناءُ، وكلمة عوراءُ؛ لأنَّ الكلمةَ الحسنةَ تُرشِدُ، والكلمةَ العوراءَ تُغوي، فهو مِن قَبيلِ الاستعارة المَكْنيَّة، وهي أبلغُ مِن المجازِ.
{قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} : واضح سحريَّته، قُوبل بين المبصرة والمبين.
* * *
{وَجَحَدُوا بِهَا} يُقالُ: جَحَدَ حقَّه وبحقِّه بمعنًى، ذكره في "الدِّيوان"
(3)
.
(1)
في (م): "المزراع"، وفي (ي):"المزارع منه".
(2)
في (ك) و (م): "غيره".
(3)
انظر: "تفسير النسفي "(2/ 594)، ويظهر من كلام النسفي أن "الديوان" اسم كتاب، ولم أعرفه.
والجحودُ: هو الإنكارُ للشَّيءِ للجهلِ به، وقد يكونُ بعدَ المعرفة تعنُّتًا.
والو أو في: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} للحال، و (قد) بعدها مضمَرةٌ، والاستيقانُ أبلغُ مِن ا لإيقانِ.
{أَنْفُسُهُمْ} أي: جَحدوها بألسنتهم، وقد استيقنوها بقلوبهم. وفي التَّعبير بـ {أَنْفُسُهُمْ} عن قلوبهم تنزيلٌ
(1)
لآلةِ الإقرار منزلةَ الترجمان.
{ظُلْمًا} لأنفسهم {وَعُلُوًّا} : ترفُّعًا عن الإيمان، وانتصابهما على العلِّيَّة من (جحدوا).
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وهو الإغراق والإحراق في الدَّارَيْنِ.
* * *
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} طائفةً مِن العلمِ، وهو علمُ الحُكْمِ والشَّرائع، أو: علمًا أيَّ علمٍ.
{وَقَالَا} الواو فصيحةٌ، تُفصح عن محذوفٍ تقديرُه: ففعَلا
(2)
شكرًا لله تعالى ما فَعلا ممَّا لا يفي ببيانه
(3)
العبارة، وقالا:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} أرادَ بالكثيرِ
(4)
المفضلِ عليه مَن لم
(1)
في (ف) و (ك): "تنزيلًا".
(2)
في (م): "فعلا".
(3)
في (ف): "بيانه ".
(4)
في (ي) و (ع): "بالتكثير".
يؤْتَ مثلَ علمها، دلَّ على ذلك تقييدُهم بالإيمان، فإنَّ المؤمن لا يخلو عن علمٍ، وفيه إخراجٌ للكفَّار عن حيِّزِ الاعتبار، وتعظيمٌ لنعمة التَّفضيل بتوصيف المفضَّل عليه بوصفٍ جليل، ودليل على فضلِ العلمِ وشرفِ أهلِه، حيثُ شَكرَا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ، ولم يعتبرا دونه ممَّا
(1)
أُوتِيا مِن الملك الذي لم يؤتَ غيرَهما، وتحريضٌ للعالِمِ على أنْ يحمدَ اللهَ تعالى على ما أتاه مِن فضلِهِ، وأنْ يتواضَعَ ويعتقدَ أنَّه وإنْ فُضِّلَ على كثيرٍ فقد فُضِّلَ عليه كثيرٌ، أو تساويا.
* * *
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} النُّبوَّةَ والملكَ، بأنْ قامَ مقامَه في ذلك بعدَ موتِه
(2)
، ولهذا قال:{وَوَرِثَ} فإنَّ حقيقةَ الميراثِ: انتقالُ التَّركةِ مِن مِلْكٍ إلى مِلْكٍ.
والتركةُ: ما بقيَ بعدَ الموتِ، واستُعير هاهنا لِما ذكر.
وأمَّا العلم
(3)
فقد شاركَ أباه فيه، بل ترجَّح
(4)
عليه حالَ حياته على ما أفصحَ عنه قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
(5)
[الأنبياء: 79].
{وَقَالَ} تشهيرًا لنعمة الله تعالى، واعترافًا بمكانها، ودعاة للنَّاس بذكرِ المعجزةِ التي هي عِلْمُ منطقِ الطَّير وغير ذلك مِن عظائمِ ما أوتيه.
(1)
في (ك): "ما".
(2)
"بعد موته" سقط من (ك).
(3)
في (م): "ذكروا من العلم" بدل "ذكر. وأما العلم ".
(4)
في (ف): "يترجح".
(5)
"سليمان": ليست في (ك) و (م) و (ي) و (ع).
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} النُّطقُ والمَنْطِقُ في المتعارَف: الأصواتُ المقطعة التي يُظْهِرُها اللِّسانُ وتَعيها الآذانُ، ولا يُقالُ لغير الإنسان إلَّا على سبيلِ التَّبعِ؛ نحو: النَّاطق والصَّامت، لِمَا له صوتٌ ولما لا صوتَ له.
{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} المرادُ به: كثرةُ ما أوتي، كما يُقال: فلانٌ يعلمُ كلَّ شيءٍ، ويعضدُه كلُّ أحدٍ.
والضَّمير في {عُلِّمْنَا} و {وَأُوتِينَا} له ولأبيه، أو له وحدَه، وهذه النُّونُ نونُ الواحدِ المُطاعِ، فكانَ مَلِكًا مُطاعًا يكلِّم
(1)
أهلَ طاعته
(2)
على صفته وحاله التي كان عليها.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} قولٌ واردٌ على سبيلِ الشُّكرِ، كقوله عليه السلام:"أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ"
(3)
؛ أي: أقولُ هذا القولَ شكرًا ولا أقولُه
(4)
فخرًا.
* * *
(17) - {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} ؛ أي: جُمِعَ مِن جهاتٍ مختلفةٍ.
{جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قدَّم الجنَّ على الإنس لأنَّ مقامَ التَّسخيرِ لا يخلو مِن نوعِ تحقيرٍ
(5)
.
(1)
في (ع) و (ك) و (م): "فكلم "، وفي (ي):"فكلمه "، والمثبت من (ف).
(2)
في (ف) و (ك) زيادة: "على إطاعته ".
(3)
رواه الترمذي (3615) وصححه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وهو في "صحيح البخاري"(4712)، و"صحيح مسلم"(2278)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون قوله:"ولا فخر".
(4)
في (ك): " أقول ".
(5)
كذا قال، وقد تعقبه الشهاب الخفاجي والآلوسي بالقول: (ليس بشيء؛ لأنّ التسخير للأنبياء =
{وَالطَّيْرِ} لو كان فيها جنسٌ آخر لذكره هنا.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : يُمْنَعون عن التَّفرُّقِ والانتشار حتى يجتمعوا في مسيرهم، وذلك أحسنُ في الهيئةِ وأهيبُ في الرُّؤيةِ.
* * *
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا} ضمَّنَ {يُوزَعُونَ} معنى فعلٍ يصلحُ أن تكون (حتى) غايةً له؛ أي: فهُم يسيرون لُفُوفًا
(1)
، لا يفارق بعضهم بعضًا.
{عَلَى وَادِ النَّمْلِ} هو وادٍ بالشَّام كثيرُ النَّمل، وعُدِّي {أَتَوْا} بـ {عَلَى} إمَّا لأنَّ إتيانهم كان مِن فوق، أو لأنَّه أريد معنى قطع الوادي وبلوغِ آخره.
= عليهم الصلاة والسلام شرف؛ لأنَّه في الحقيقة لله الذي سخر كل شيء). قلت: وقد ذكر الآلوسي رحمه الله من الحكمة في ذلك ما هو أنسب بالمقام وأقرب إلى الأفهام فقال: (وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من أول الأمر؛ لِمَا أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير. ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضًا وأدلُّ على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يُفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام). وما أحسن هذا الكلام، وقد دار بخلدي قبل أن أراه عند الآلوسي، فكفاني اللّه به مؤونة التعبير عنه.
(1)
في النسخ: "ملفوفًا"، وفي هامش (م):"لعلها لفوفًا". قلت: وهي الصواب، واللُّفوف: جمع لِفٍّ بكسر اللام، وهو القوم المجتمعون، والصنف من الناس، والحزب. انظر:"القاموس"(مادة: لفف).
{قَالَتْ نَمْلَةٌ} تاؤها للوحدة، وهي في حكم المؤنَّث اللَّفظي، جاز أن يعامل معاملته، كتمرٍ وتمرة، فلا دلالة فيه على كونه أنثى.
{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} لم يقلْ: (ادخلْنَ) لأنَّه جعلها قائلة والنَّمل مَقولًا لهم، كما يكون في أولي العقل، فأجرى خطابَهم مجرى خطابِهم.
{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} هو الحَطْمُ: الكَسْرُ.
{سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} نهى سليمانَ عليه السلام عن الحَطْمِ، والمرادُ نهيُها عن التَّوقُّف بحيث يحطمونها، كقولهم: لا أرينَّك هاهنا، فهذا استئنافٌ، أو بدلٌ مِن الأمرِ، لا جوابٌ له فإنَّ النُّونَ لا تدخله في السَّعة.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أنَّهم يحطمونكم، إذْ لو شعروا لم يفعلوا.
قالَتِ النَّملةُ ذلك على وجهِ العُذْرِ ووَصْفِ سليمانَ وجنودِه بالعدلِ.
* * *
{فَتَبَسَّمَ} و الفاء فصيحة، تُفْصِحُ عن محذوفٍ، تقديرُه: سمِعَ سليمانُ كلامَها فتبسَّمَ.
{ضَاحِكًا} شارعًا في الضَّحكِ، آخذًا فيه.
{مِنْ قَوْلِهَا} متعجِّبًا مِن حذرِها وتحذيرِها واهتدائِها لمصالحها ونصيحتها للنَّمل، أو فرحًا لظهور عدله.
وإنَّما قال: {ضَاحِكًا} لأنَّ التَّبسُّم قد يكون مِن غضبٍ، وقد يكون مِن استهزاءٍ، وتبسُّمُ الضَّحكِ لا يكونَ إلَّا عن سرورٍ.
فإنْ قلْتَ: الظَّاهر مِن هنا أنَّ سليمان عليه السلام كان عالمًا بلسان غير الطَّيرِ مِن الحيوانات، فما وجهُ تخصيصه بالذِّكر في مَقامِ إظهارِ الشُّكرِ على ما آتاه الله تعالى مِن جلائل النِّعم؟
قلْتُ: قد أجابَ الشَّعبيُّ عن هذا حيث قال: كانَ للنَّملةِ جناحان، فصارَتْ مِن الطَّيرِ، فلذلك علمَ سليمانُ مَنطقَها، ولولا ذلك لَمَا علمَه
(1)
.
{وَقَالَ} سائلًا توفيقَ شكر تلك النِّعم الجليلة:
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ} ؛ أي: يسِّرْ لي الشُّكرَ وازِعًا إيَّاه، ووزعُ الشُكر كنايةٌ عن وزعِ مُوجبِه وهو النِّعمة، فهو كلام في غاية الفصاحةِ.
{نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} و أدرجَ فيه ذكر والديه تكثيرًا للنِّعمةِ.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} تمامًا للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ.
{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} : في عدادهم الجنَّة.
* * *
(20) - {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} .
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} حقيقةُ التَّفقُّد: تعرُّفُ فُقدانِ الشَّيء.
{فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} بدأَ أوَّلًا بنفسه، ثمَّ قال:{أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} قرينُه: أحادَ بصري عنه بسببٍ؟ ولَمَّا كانَ المذكور في قوَّته نُزِّلَ منزلَتَهُ، وعُطف عليه على سبيل العطف من جهة المعنى، وكأنَّ الغالب على ظنِّه هذا الاحتمال، على ما دلَّ عليه عبارة {كَانَ} ، فلذلك قال:
(1)
روى نحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2857).
(21) - {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} كَنَتْفِ ريشِه وإلقائِه في الشَّمس أو حيث النَّملُ يأكلُه، أو جعلِه مع ضِدِّه في قفصٍ.
{أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} ليَعتبرَ به أبناءُ جنسِه.
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بحجَّةٍ تبيِّنُ عذرَهُ. والسُّلطانُ في الأصل: إظهارُ ما يتسلَّطُ به.
والحلفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأمرَيْنِ بتقديرِ عدم الثَّالث، لكنْ لَمَّا اقتضى ذلك وقوعَ أحدِ الأمور الثَّلاثةِ ثلَّثَ المحلوف عليه بعطفه عليهما.
* * *
{فَمَكَثَ} ؛ أي: كان غائبًا فمكَثَ، فالفاء فصيحة.
{غَيْرَ بَعِيدٍ} ؛ أي: لبثَ زمانًا غيرَ بعيدٍ عن وقتِ تفقُّدِه، يريد به الدِّلالة على سرعة رجوعه خوفًا منه عليه السلام.
ولَمَّا كان المذكور في وقت
(1)
الإخبار عن مجيئِه عن قريبٍ رتَّب عليه قوله:
{فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا} علمْتُ مِن جميع جهاتِه شيئًا {لَمْ تُحِطْ بِهِ} يعني: حال سبأ
(2)
.
وفي مخاطبته إيَّاه بذلك تنبيهٌ له على أنَّه في أدنى خلق الله تعالى مَن أحاطَ
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "حكم ".
(2)
في (ك): "من أحواله" بدل "سبأ".
علمًا بما لم يحطْ به؛ لتتحاقرَ إليه نفسُه، ويتصاغرَ لديه علمُه، ويكونَ لطفًا في ترك الإعجابِ الذي هو فتنةُ العلماءِ.
{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} قرئ مصروفًا على آَنه اسم للحيِّ أو للأب الأكبر، وغيرَ مصروفٍ على تأويل القبيلة أو البلدة
(1)
.
{بِنَبَإٍ} : بخبرٍ له شأنٌ.
أتى بهذا النَّوعِ مِن الإطناب مِن جهة المعنى تشويقًا له حتى تنكسرَ سَورَةُ غضبِه
(2)
.
{يَقِينٍ} : مُحقَّق.
* * *
(23) - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} .
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً} يعني: بلقيس بنتَ شراحيل
(3)
، وإنَّما قال:{وَجَدْتُ} دون: رأيت، إشعارًا بغرابةِ الحالِ، حيث كانَتْ بتلكَ العظمةِ والشَّوكةِ وقربِ المكان مجهولةً لسليمان عليه السلام وأصحابِه
(4)
.
(1)
قرأ البزي وأبو عمرو بفتح الهمزة من غير تنوين، وقنبل بإسكان الهمزة على نية الوقف، والباقون بخفضها مع التنوين. انظر:"التيسير"(ص: 167).
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "تشريفًا له حيث يتشوق ليكسر سورة غيظه".
(3)
في (ف) و (ك): "بنت أصل ".
(4)
في هامش (م): "قال القرطبي: كيف خفي على سليمان عليه السلام مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة؟ فالجواب: أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما السلام. منه ".
{تَمْلِكُهُمْ} الضَّمير لسبأ أو لأهلها، وإنَّما لم يقلْ: تملكها؛ لأنَّه أرادَ بيان ملكها وسلطنتها، وتعيينُ ذلك بالإضافة إلى أهل الدِّيار، لا بالإضافة إليها، ففيه أيضًا تقويةٌ لمعنى الغرابة المقصودة بعبارة النَّبأ، حيث كانت امرأةً ملكةَ قبيلةٍ عظيمةٍ.
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قد نبَّهْتُ فيما تقدَّمَ أنَّ المرادَ مِن (كلّ شيء) في مثل هذا: المبالغةُ في الكثرة، فمَن قيَّده بقوله: يحتاج إليه الملوك، فقد فوَّتَ تلكَ المبالغةَ.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} : سريرٌ كبيرٌ قَدْرًا أو قِيمةً.
* * *
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ} : يعبدونَ.
{لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أضلَّهم اللّه تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} فالواو فصيحةٌ، والجملةُ معطوفةٌ على مقدَّرٍ.
{أَعْمَالَهُمْ} مِن عبادةِ الشَّمس وغيرِها مِن قبائحِ الأفعالِ.
{فَصَدَّهُمْ} مِن صدَّ السَّبيلُ
(1)
: إذا اعترضَ دونَه مانعٌ من عقبةٍ أو غيرها فأخذتَ في غيره
(2)
؛ ففيه ثلاثُ معانٍ: المنعُ والدَّفع والصَّرف.
(1)
في (ك) و (م): "صد عن السبيل"، وفي (ف):"صدر السبيل". والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الموافق لما في "الأساس" و"اللسان" و"التاج" (مادة: صدد).
(2)
في (ع) و (ف): "فأخذ في غيره"، وفي (م):"فانتذب غيره "، وسقطت من (ك).
{عَنِ السَّبِيلِ} : طريقِ الحقِّ والصَّوابِ، وإنَّما أطلقَ السَّبيلَ لأنَّ السبَّيلَ الذي لا يجوز سُلوكُه ممنوعٌ، فكأنَّه ليس بسبيلٍ.
* * *
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} أي: فصدَّهم لِأَنْ لا يسجدوا، أو: زَّين لهم الشَّيطان أعمالهم لِأَنْ لا يسجدوا
(1)
، فحذف الجار مع (أن)، فأدغمت النُّون في اللَّام، أو: زَّين لهم الشَّيطان أعمالهم أنْ لا يسجدوا، على أنَّه بدل من {أَعْمَالَهُمْ} ، أو: لا يهتدون إلى أنْ لا يسجدوا، بزيادة (لا).
وقرئ {أَلَّا} بالتَّخفيف على أنها للتنبيه و {يَسْجُدُوا} بمعنى: يا اسجدوا
(2)
؛ نداءٌ، والمنادى مضمَر؛ أي: يا هؤلاء اسجدوا لله.
وعلى هذا صحَّ أنْ يكون استئنافًا من سليمان عليه السلام أو من الله، والوقفُ على {يَهْتَدُونَ} ، وكان أمرًا بالسُّجودِ، وعلى الأوَّل ذمًّا على تركه، وعلى الوجهَيْن يقتضي وجوبَ السُّجودِ في الجملةِ، لا عندَ قراءتها.
{الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الخبء: ما يخفَى في غيره، وإخراجُه:
(1)
"أو زين له الشيطان أعمالهم لأن لا يسجدوا" ليست في (م)، وكلمة:"الشيطان" ليست في (ي) و (ع).
(2)
قراءة الكسائي، ويقف على (يا)، ويبتدئ:(اسجدوا) على الأمر. انظر: "التيسير"(ص: 167).
إظهارُه، وهو يعمُّ إشراقَ الكواكبِ، وإنزالَ الأمطارِ، وإنباتَ النَّباتِ، بل الإنشاء، فإنَّه إخراجُ ما في الشَّيءِ بالقوَّة إلى الفعل، والإبداع فإنَّه إخراجُ ما في الإمكان والعَدم إلى الوجوب والوجود، ومعلومٌ أنَّه يختصُّ بذاته.
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
(1)
وصفٌ له تعالى بما يوجبُ اختصاصَه باستحقاقِ السُّجود مِن التَّفرُّد بكمالِ القُدرةْ والعِلمِ، حثًّا
(2)
على السُّجود، وردًا
(3)
على مَن يسجدُ لغيره.
وتقديم {مَا تُخْفُونَ} على {وَمَا تُعْلِنُونَ} مع أنَّ مقتضى أسلوب التَّرقي تأخيرُه عنه؛ للتَّسوية بين جُزْئَي الكلامِ في الاهتمام.
* * *
(26) - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أوَّلُ الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتِها، فبينَ عظمِه وعظمِ عرشِها
(4)
بونٌ بعيدٌ.
وقرئ: {الْعَظِيمِ} بالرَّفع نعتًا لله تعالى
(5)
).
* * *
(1)
كذا في النسخ بالياء في الفعلين، وهي قراءة أكثر السبعة إلا حفصًا والكسائي فقرأا بالتاء فيهما. انظر:"التيسير"(ص: 168).
(2)
في (ف): "حث ".
(3)
في (ك): "وردٌ".
(4)
أي: عرش بلقيس.
(5)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 109).
(27){قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
{قَالَ} عليه السلام للهدهد: {سَنَنْظُرُ} مِن النَّظرِ بمعنى التَّأمُّل {أَصَدَقْتَ} فيما أخبرْتَ.
{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} هذا أبلغ مِن: أكذبْتَ؛ لأنَّه إذا كان معروفًا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبًا لا محالة، وإنَّما استحقَّ هذه المبالغة على تقدير الكذب لأنَّه أخبر بأمرٍ عظيمٍ، وبالغَ فيه.
* * *
(28) - {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} .
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ} إنَّما أمرَه بالإلقاء لأنَّ الطَّائر لا يمكنُه تبليغُ الكتاب مقاولةً، إلَّا أنَّه ضمَّنه معنى الإيصال، ولذلك قال:
{إِلَيْهِمْ} ؛ أي: اطْرَحه على وجهٍ يصلُ إليهم.
ولَمَّا كانَ المقامُ مقامَ التَّأنِّي الذي يقتضي قَدْرًا مِن الزَّمان نبَّهَ عليه بقوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} : تنحَّ عنهم إلى مكانٍ قريبٍ، بحيث تراهم ولا يروْنَك؛ ليكون ما يفعلونه بمنظرٍ منك، على ما دلَّ عليه قولُه:
{فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} مِن الرَّجْعِ لا مِن الرُّجوعِ؛ أي: ماذا يردُّون في مقابلةِ كتابنا.
* * *
(29) - {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .
{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ} ؛ أي: قالَتْ ملكةُ سبأ لأشرافِ قومِها بعدما فعل الهدهدُ ما أُمِرَ به.
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} : حَسَنٌ مضمونُه، أو: مختوم، قال عليه السلام:"كرمُ الكتاب ختمُه"
(1)
.
* * *
(30 - 31) - {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} استئنافٌ، كأنَّه قيل لها: ممَّنْ هو؟ فقالت: إنَّه؛ أي: إنَّ الكتابَ.
{إِنَّهُ} ؛ أي: وإنَّ المكتوبَ أو المضمونَ
(2)
.
وقرئ بالفتح
(3)
على الإبدال من {كِتَابٌ} ، أو التَّعليلِ لكرمه.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا} : لا
(4)
تترفَّعوا {عَلَيَّ} و (أنْ) مفسِّرة أو مصدريَّة، فيكون بصِلَته خبرَ محذوفٍ؛ أي: هو أو المقصودُ أنْ لا تعلوا، أو بدلٌ من {كِتَابٌ} .
{وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} : منقادين.
قولها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} صريحٌ في أنَّ الدَّعوة كانت دعوة السَّلطنة لا دعوةَ النُّبوَّة.
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3872) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "كرامة الكتاب .. ". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 99): فيه محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك.
(2)
في هامش (ي): "صورة مكتوب سليمان عليه السلام: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ؛ بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على مَن اتغ الهدى، أما بعد، فلا تعلو عليَّ وأتوني مسلمين. الكواشي".
(3)
نسبت لعكرمة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 109).
(4)
في (ف): "ألا".
{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي} : أشيروا عليَّ {فِي أَمْرِي} : في الأمر الذي نزل بي.
والفتوى: الجوابُ في الحادثة، اشتُقَّتْ
(1)
على طريق الاستعارة من الفتيِّ في السّنِّ، والمرادُ هاهنا: الإشارةُ عليها بما عندهم مِن الرَّأي.
وقصدُها بالرُّجوع إلى استشارتهم: تطييبُ نفوسِهم ليمالئوها ويقوموا معها
(2)
، ولذلك قالت:
{مَا كُنْتُ} في الزَّمان الماضي {قَاطِعَةً} : قاضية {أَمْرًا} ؛ أي: ممضيةً حكمًا.
{حَتَّى تَشْهَدُونِ} بكسر النون، والفتح لحنٌ؛ لأنَّ النُّون إنَّما تُفتَح في موضع الرَّفع، وهذا موضعُ النَّصب، وأصله: تَشهدونني، فحذفت النُّون الأولى للنَّصب، والياءُ لدلالة الكسرة عليها، وبالياء في الوصل والوقف
(3)
؛ أي: تَحضروني؛ أي: كانت عادتي أنْ لا أبتَّ أمرًا إلَّا بحضرتكم، فكيف في هذه النَّازلة الكبرى؟!
فراجعَها الملأُ بما يُقِرُّ عينَها مِن إعلامِهم إيَّاها بأنهم أولو
(4)
القوة والبأس، ثمَّ سلَّموا الأمرَ إلى نظرها، وهذه محاورةٌ حسنةٌ مِن الجميعِ.
* * *
{قَالُوا} مجيبينَ لها: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أرادوا بالقوَّةِ قوَّةَ الأجساد
(1)
في (ف): "استفتت ".
(2)
في (ك): "ويوافقوها".
(3)
وهي قراءة يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 340)، و"تفسير النسفي "، وعنه نقل المؤلف.
(4)
في (ك): "بأنهم في غاية"، وفي (م):"بأنهم هي "، وفي (ي) و (ع):"ما بهم من".
والآلات، وبالبأس: النَّجدة والبلاء في الحرب؛ أي: قادرون على القتال لا فتورَ فينا ولا قصورَ لوُفور عَددنا وعُددنا، وإنَّما قدَّموا هذا الكلام لكيلا تتوهَّم العجزَ مِن تفويض الأمر إليها بقولهم:
{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} موكول {انْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} من الحرب والصُّلح، نطيعك ونمتثِل أمرَكِ.
* * *
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ} أتى بصيغة الجمع تنصيصًا على تعميم الحكم للأفراد؛ فإنَّ في الجنس احتمالَ الخصوص.
{إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} يعني: عنوةً، بقرينة قوله:{أَفْسَدُوهَا} بالتَّخريبِ {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} : أهانوا أشرافَها لتستقيمَ لهمُ الأمور.
زَّيفَتْ ما أحسَّتْ منهم مِن الميل إلى المحاربة بادِّعائهم أسبابَ الغلبة، وذكرَتْ لهم سوءَ عاقبة الحرب، وأشعرَتْ بأنَّها ترى الصُّلحَ مخافةَ أنْ يتخطَّى سليمان عليه السلام خططَهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم
(1)
.
{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تأكيدٌ لِمَا وصفَتْ مِن حالِهم، وتقريرٌ بأنَّ ذلك عادتُهم الثَّابتةُ المستمرَّة، أو تصديقٌ لها من الله تعالى.
* * *
(1)
في هامش (ف) و (م): "وأما ما قيل: الحرب سجال، فلا يناسب المقام، إنما يقال ذلك لمن غلب مرة. منه".
(35) - {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} ورسولًا {بِهَدِيَّةٍ} بيان لِمَا ترى تقديمه في المصالحة.
{فَنَاظِرَةٌ} : منتظر {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} بالرِّعاية أو بالإهانة، حتى أعملَ بحسب ذلك.
{الْمُرْسَلُونَ} : الرَّسولُ ومَن أُرْسِلَ معَه.
* * *
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} ؛ أي: الرَّسولُ، وقرئ:(فلمَّا جاؤوا)
(1)
؛ أي: المرسلون سليمان
(2)
.
{قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} خطاب للرَّسولِ ومَن معَه، أو الرَّسولِ والمرسِل على تغليب المخاطَب، استفهامٌ إنكاريٌّ، فالفاء في قوله:
{فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} تعليليَّة؛ أي: فالذي أعطاني الله تعالى مِن النُبوَّة والملك وسخَّر لي الجنَّ والإنس والرِّيح والطَّير والوحش {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} فلا حاجةَ لي بهديَّتكم، ولا وَقْعَ لها عندي.
{بَلْ} إضراب عن إنكارِ الإمداد بالمال عليه وتعليلِه
(3)
إلى بيان السبب
(1)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 259)، و"البحر المحيط "(16/ 431).
(2)
"سليمان "من (ك) و (م).
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "وتقليله "، والمثبت من (ع) و (ي)، والبيضاوي، وقال الشهاب: قوله: (وتعليله) بالجر معطوف على (إنكار)، وهو المستفاد من قوله:{فَمَا آتَانِيَ} إلخ.
الذي حملهم عليه، وهو قياسُ حاله على حالهم في قصور الهمَّة بالدُّنيا والزِّيادة فيها.
{أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ} والهديةُ: اسمٌ لِمَا يُهدَى، كما أنَّ العطيَّةَ اسمٌ لِمَا يُعطَى، فتضاف إلى المهدِي والمهدَى له، تقول: هذه هديةُ فلانٍ؛ تريد: الذي أهداها، أو أهدِيَتْ له.
{تَفْرَحُونَ} لأنَّكم لا تعلمون إلَّا ظاهرَ الحياة الدُّنيا، فتفرحونَ بما يُهدَى إليكم لزيادةِ أموالِكم، أو بما تهدونه افتخارًا على أمثالِكم.
* * *
{ارْجِعْ} خطابٌ للرَّسولِ {إِلَيْهِمْ} إلى بلقيسَ وقومِها.
{فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ} ؛ أي: إنْ لم يأتوني مسلمين فلنأتينَّهم {بِجُنُودٍ} بأنواع من الجند
(1)
{لَا قِبَلَ} : لا طاقةَ {لَهُمْ بِهَا} وحقيقةُ القِبَلِ: المقابلةُ والمقاومةُ؛ أي: لا يقدرون أن يقابلوهم
(2)
.
{وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} : مِن ديارهم {أَذِلَّةً} الذُّلُّ: أنْ يذهبَ عنهم ما كانوا فيه مِن العزِّ والملكِ.
{وَهُمْ صَاغِرُونَ} الصَّغارُ: أنْ يقَعوا في أسرٍ واستعبادٍ.
فلمَّا رجع إليها رسولُها بالهدايا، وقصَّ عليها القصَّة، قالَتْ: هو مؤَّيدٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، وما لنا به طاقةٌ، ثم جعلَتْ عرشَها في آخر سبعةِ أبيات، وغلَّقَتِ الأبوابَ، ووكَّلت حرسًا يحفظونه، وبعثت إلى سليمان عليه السلام: إنِّي قادمةٌ
(1)
في (م): "الجنود".
(2)
في (ك): "يقابلونا"، وفي (ف):"يقابلوا".
إليك لأنظرَ ما الذي تدعو إليه، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشرَ ألف قَيلٍ
(1)
، تحت كلِّ قَيلٍ ألوفٌ، فلمَّا بلغَتْ على رأس فرسخٍ مِن سليمان عليه السلام.
* * *
(38) - {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
{قَالَ} سليمانُ: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أراد أن يُريَها بذلك بعضَ ما خصَّه اللهُ تعالى به مِن إجراء العجائب على يده لتطَّلع على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوَّة سليمان عليه السلام حتى تصدِّقَه
(2)
وتؤمنَ به، ثمَّ إنَّه قصد في ضمن هذا فائدةً أخرى على ما تقف عليها.
{قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وإنَّما تعرَّض بوصف الإسلام إعلامًا بأن طلبه عرشها ليس طمعًا فيه؛ فإنَّ النَّبيَّ بمعزَلٍ عن مظنَّةِ الطَّمع في مالِ مَن علِمَ أنَّه يأتيه مسلِمًا، وأمَّا ما قيل: إنَّها لو أسلمَتْ لحظرَ عليه مالُها فلا يؤتى به؛ فإنَّما يصحُّ وجهًا لطلبه عرشها قبل إتيانها مسلِمةً، لا لتقييد
(3)
أمرِه بذلك القيد
(4)
؟
* * *
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} العِفْرِيْتُ: الخبيثُ المنكَرُ المعَفِّرُ
(5)
أقرانَه، ولا اختصاصَ
(1)
في (ف) و (م): "فيل " في الموضعين. والقَيل: أحد ملوك حمير دون الملك الأعظم. كما في "النهاية".
(2)
في (ك): "تصدقها".
(3)
في (ك): "لتعيد". وفي (م): "لتفيد".
(4)
في هامش (ف) و (ي): "يعني قيد الإسلام وأما قيد الإتيان فلا بد منه. منه ".
(5)
في (ك): "المعفر".
له بالجنِّ، ولذلك احتيج
(1)
إلى البيان بقوله: {مِنَ الْجِنِّ} .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّه صخرٌ الجنِّيُّ
(2)
.
{أَنَا آتِيكَ بِهِ} صالح للفعليَّة والاسميَّة {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني: مجلسَه للقضاء، وهو مِن الغداة إلى نصف النَّهار.
{وَإِنِّي عَلَيْهِ} أي: على الإتيان به {لَقَوِيٌّ} : لقادرٌ، وإنَّما عبَّرَ عن القدرة بالقوَّة للحاجة في تحصيل ما ذكر إلى القدرة بالقوَّة.
{أَمِينٌ} آتي به كما هو لا أختزلُ
(3)
منه شيئًا، ولا أبدِّلُه.
* * *
{قَالَ} الفصلُ بينَ القولَيْنِ لأنَّ أحدَ القائلَيْنِ لم يكن مِن جملة المخاطَبِين، والظَّاهرُ أنَّه هو الثَّاني منهما، واحتمال أن يكون المراد مِن القائل الثَّاني سليمان عليه السلام يردُّه كافُ الخطابِ في {آتِيكَ} ؛ فإنَّ حقَّه حينئذٍ أنْ يقولَ
(4)
: (أنا آتي به)، وأيضًا لا يناسبه قوله:{فَلَمَّا رَآهُ} ، إنَّما المناسب حينئذٍ أن يقول: فلمَّا أتى به.
(1)
في (م): "احتاج".
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2884).
(3)
في (ف): "لا أترك".
(4)
"أن يقول": ليست في (م).
والمشهور أنَّه آصفُ بن بَرخيا كاتبُ سليمان عليه السلام، ويناسبه التَّعبير عنه بقوله:
{الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وفي التَّوصيف به إشارة إلى أنَّه ما قدرَ على ما قدرَ
(1)
عليه بقوَّةٍ حيوانيَّةٍ
(2)
، بل بقوَّةٍ صمدانيَّة.
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الطَّرْفُ: تحريكُ الأجفانِ؛ أي: ما بينَ امتدادِ الطَّرْفِ بفتحها وارتداده بطبقها، وليس فيه وضع الطَّرْفِ موضعَ النَّظرِ
(3)
.
{فَلَمَّا رَآهُ} ؛ أي: العرشَ، والفاء فصيحة؛ أي: أَذن له سليمانُ عليه السلام فأتى به فلمَّا رآه.
{مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} : ثابتًا غيرَ مضطربٍ لديه، وقرارُه في موضعه أمرٌ آخر وراءَ حضورِه يحتاج إلى فضلِ زمانٍ بحسَب العادة، وبهذا الاعتبار كان لعبارة {مُسْتَقِرًّا} فضيلةٌ على عبارة (حاضرًا).
{قَالَ} تلقِّيًا للنّعمةِ بالشُكرِ: {هَذَا} ؛ أي: حصولُ مرادي، وهو حضورُ العرشِ في طرفةِ العينِ {مِنْ فَضْلِ رَبِّي} عليَّ وإحسانِه إليَّ مِن غير استحقاقٍ منِّي.
{لِيَبْلُوَنِي} : ليتعبَّدني في صورة الاختبار: {أَأَشْكُرُ} إنعامه {أَمْ أَكْفُرُ} : أَجحد.
{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّه يَحطُّ به عنها عبءَ الواجب، وَيصونها عن وَصْمةِ الكفران، ويستجلب به المزيد، ويُرتبَط به العتيد
(4)
.
(1)
"على ما قدر" ليست في (ف) و (ك).
(2)
في (ع) و (ي): "ليس بقوة جسدانية" بدل: "بقوة حيوانية".
(3)
في هامش (ف) و (م): "هو مقدمة النظر كما أن النظر مقدمة الرؤية. منه ".
(4)
العتيد: الحاضر المهيأ، وجاء في "تفسير النسفي" (2/ 607):(وترتبط به النعمة)، والمثبت موافق لما في "تفسير أبي السعود"(7/ 71)، و"روح المعاني"(19/ 454).
{وَمَنْ كَفَرَ} حذف جزاءَه، وهو: فإنَّما يكفر على نفسه؛ أي: ضررُ كفرِه عليه لا يتعدَّاه؛ لظهوره بقرينة ما ذكر في قرينه، وأقيم تعليله مقامَه.
{فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن الشُّكرِ، لا
(1)
يتضرَّر إنْ لم يُشكَرْ.
{كَرِيمٌ} بالإنعامِ، لا يتوقَّع عوضًا ولا يفعل لغرضٍ حتى ينفعل عند عدم حصولِه، فالوصفُ المذكور مِن تمامِ التَّعليلِ.
* * *
(41) - {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} .
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا} أرادَ بتنكيرِ {عَرْشَهَا} تغيير معاهده
(2)
عندها، ولذلك قال:{لَهَا} ، لا تبديل شكلها وتغيير هيئتها؛ إذ حينئذ يكون منكرًا مطلقًا، لا منكرًا عندها فقط، وأيضًا مدارُ الاختبار على التَّغيير في الجملة، وأمَّا وجه الاختبار فسيأتي تفصيلُه.
{نَنْظُرْ} بالجزم على الجواب، وقرئ بالرَّفع على الاستئناف
(3)
.
{أَتَهْتَدِي} إلى الجوابِ الصَّواب، وقيل: إلى الإيمان بالله ورسوله، وَيرِدُ عليه: أنَّه حينئذ لا حاجة إلى التَّنكير، بل لا وجهَ له؛ لأنَّ بقاءَه على حاله أعونُ على تحصيل هذا المراد، والله الهادي إلى سبيل الرَّشاد.
{أَمْ تَكُونُ} : أم يظهرُ كونُها {مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} ؛ أي: لا يقدرون على الاهتداء.
(1)
في (ف) و (ك): "بأن" بدل "لا".
(2)
في (ك): " معاهدته ".
(3)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 109).
قالوا: إنَّ الشَّياطين خافوا أنْ يتزوَّجَها سليمان عليه السلام، فيولَدَ له منها ولدٌ يجتمع له فِطنةُ الإنسِ والجنِّ؛ لأنها كانت بنتَ جنِّيَّة، فيخرجون مِن ملْكِ سليمان إلى ملْكٍ هو أشدُّ وأفظع، فقالوا: إنَّ في عقلِها شيئًا، وهي شَعْراءُ السَّاقين، ورجلُها كحافر الحمار، فاختَبَر عقلَها بتنكيرِ العرشِ، وتعرَّف ساقيها ورجليها باتِّخاذ الصَّرْح على ما يأتي بيانُه، فالمرادُ مِن كونِها مِن الذين لا يهتدون: كونُها مِن الطَّائفةِ الحمقى، ومن هاهنا تبيَّن وجهُ الإطنابِ، واللّه أعلم بالصَّواب.
* * *
{فَلَمَّا جَاءَتْ} الفاء فصيحةٌ، والمقدَّرُ يظهرُ بأدنى تأمُّلٍ.
{قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} (ها) للتَّنبيه، والكاف للتَّشبيه، و (ذا) اسم الإشارة
(1)
، ولم يقل: أهذا عرشك؟ ولكنْ: أمثلُ هذا عرشُكِ؟ لئلا يكون تلقينًا
(2)
.
{قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأجابَتْ
(3)
أحسنَ جوابٍ؛ فلم
(4)
تقل: (هو، هو)، ولا:(ليس هو)، وذلك مِن رَجاحة عقلِها، حيث لم تقطَع في المحتمِلِ للأمرَيْنِ، أو لَمَّا شبَّهوا عليها بقولهم:{أَهَكَذَا عَرْشُكِ} شبَّهَتْ عليهم بقولها: {كَأَنَّهُ هُوَ} ، مع أنَّها علمَتْ عرشها.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} مِن تمامِ كلامِها؛ أي: وأوتينا العلم بقدرة الله وبصحَّة
(1)
في (ك): "إشارة".
(2)
في (ف): "ليكون تلقيا". وفي (م): "لئلا يكون تلقيا".
(3)
في (م): "فأجابته ".
(4)
في (ك) و (م): "ولم ".
نبوَّتِك بالآيات المتقدِّمة مِن أمرِ الهدهد والرُّسل مِن قبل هذه الحالة الخارقة للعادة.
{وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادِينَ لكَ مطيعينَ لأمرِكَ، وكأنَّها وقفَتْ على ما قصدَه سليمانُ عليه السلام بذلك أوَّلًا وآخِرًا.
* * *
(43) - {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} .
{وَصَدَّهَا} كلامٌ مبتدأٌ مِن اللّهِ تعالى.
{مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: منعَها عن التَّقدُّم إلى الإسلام عبادةُ الشَّمسِ ونشوؤها بين ظهرانَي الكفرَة، ثمَّ بيَّنَ نشأتها بينهم بقوله:
{إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} وقرئ بالفتح
(1)
على الإبدال من فاعل (صدَّ)؛ أي: صدَّها نشوؤها بينَ أظهر الكفَّار، أو على التَّعليل فتكون لامُ التعليل محذوفًا من (أنَّ).
* * *
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} الصَّرح
(2)
: هو الموضعُ البسيطُ المنكشِفُ مِن غيرِ سقفٍ، ومنه قولهم: صرَّحَ بالأمر: إذ أفصحَ
(3)
به ولم يَكْنِ عنه، وكانَ ذلك الصَّرحُ مِن زجاجٍ أبيضَ شفَّافٍ، تحتَه ماءٌ جارٍ، فيه سمكٌ.
(1)
نسبت لسعيد بن جبير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 109).
(2)
"الصرح" من (م) و (ي).
(3)
في (م): "إذا أفضح ".
{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} اللُّجَّةُ: معظمُ الماءِ.
{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لتخوضَه، والواو فصيحة عاطفة على مُقدَّو، تقديره: فشمَّرَتْ ذيلها
(1)
، فالمرتَّبُ على الحسبان المذكور مجموعُ المعطوفَيْن، والواو المذكورة كاشفةٌ عن هذا.
وكان سليمان عليه السلام على سريرِه في صدْرِ الصَّرْحِ، فرأى ساقيها وقدميها حِسانًا، فصرَفَ بصرَه ثمَّ {قَالَ} لها:{إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} مملَّسٌ مستوٍ، ومنه: الأمرد.
{مِنْ قَوَارِيرَ} : من الزُّجاج.
وأراد سليمان عليه السلام تزوُّجَها، فكرِهَ شعرَها، فعملَ له الشَّياطين النُّوْرَةَ، فأزالته، فنكحها
(2)
.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادةِ غيرِكَ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} ، أي: تابعةً إيَّاه {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه التفاتٌ مِن الخطاب إلى الغيبة، إظهارًا لباعث إسلامه له تعالى، وهو ألوهيّته المستتبِعةُ لربوبيَّة العالمين
(3)
.
* * *
(1)
في (ف): "عن ذيلها".
(2)
كذا قيل، وفي بعض الأخبار: أنه لم يتزوجها بل زوجها من ذي تبَّعٍ ملك همدان، وليس في كليهما شيء يثبت، وأحسن ما جاء فيه قول عبد الله بن عتبة، وسئل: هل تزوج سليمان بلقيس؟ فقال: انتهى أمرها إلى قولها: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} . قيل: يعني لا علم لنا وراء ذلك. وانظر تفصيل ذلك في "روح المعاني"(19/ 462).
(3)
"العالمين" سقط من (ك). وفي (م): "لربوبيته للعالمين ".
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} في النَّسبِ {صَالِحًا} بدل
(1)
.
(2)
: بأن اعبدوا الله؛ أي: وحِّدوه
(3)
.
{فَإِذَا} للمفاجأة {هُمْ} مبتدأ {فَرِيقَانِ} خبره {يَخْتَصِمُونَ} صفة، وهي العامل في (إذا)، والمعنى: فإذا قومُ صالحٍ فريقان؛ مؤمنٌ به وكافرٌ به يختصمون، فيقول كلُّ فريقٍ: الحقُّ معي، وقد مرَّ تفصيلُه في سورة الأعراف.
* * *
{قَالَ} حين قال الفريق الكافر: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]
(4)
:
{يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} : بالعذاب الذي توعَدون به {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبلَ التَّوبةِ.
{لَوْلَا} : {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} : تطلبون المغفرة مِن كفركم بالتَّوبة والإيمان قبلَ نزولِ العذابِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بالإجابة.
* * *
(1)
في (م): "بدله".
(2)
"أي": ليست في (م) و (ي) و (ع).
(3)
في (ف): "وحده".
(4)
في (ف) زيادة: "قال".
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ} : تشاءمنا بك؛ لأنهم قُحِطوا عند مبعثِه لتكذيبِهم، فنسبوه إلى مجيئه، والأصل:(تطيَّرنا) وقرئ به
(1)
، فأُدغِمَتِ التَّاء في الطَّاء وزيدَتِ الألف لسكون الطَّاء.
{وَبِمَنْ مَعَكَ} مِن المؤمنين.
{قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أي: سببُكم الذي يجيء منه
(2)
خيرُكم وشرُّكم عندَ اللهِ، وهو قدَره
(3)
وقِسمته، أو: عملُكم مكتوبٌ
(4)
عندَ الله تعالى، فمنه نزل بكم ما نزلَ؛ عقوبةً لكم وفتنةً، وقد مرَّ أصلُ ذلك في تفسير قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
{بَلْ} إضرابٌ مِن بيان السَّببِ إلى بيانِ سببِ السَّببِ.
{أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} : تُخْتبَرونَ
(5)
بتعاقُب السَّراءِ والضَّراءِ.
* * *
(48) - {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} .
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} ؛ أي: مدينةِ ثمود، وهي الحِجْرُ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} الرَّهْطُ اسمُ الجماعةِ، فكأنَّهم كانوا رؤساء يَتبعُ كلَّ واحدٍ منهم رهطٌ، كذا قال القرطبي
(6)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 371).
(2)
في (ف): "فيه".
(3)
في (ف): "قدرته".
(4)
"مكتوب" سقط من (ك).
(5)
في (ك): "مختبرون".
(6)
انظر: "تفسير القرطبي"(16/ 182).
{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} ؛ أي: شأنُهم الإفسادُ الخالصُ مِن شَوبِ الصَّلاح.
* * *
{قَالُوا} ؛ أي: قالَ بعضُهم لبعضٍ {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} خبرٌ في محلِّ الحال بإضمار (قد) لأنَّه ماضٍ؛ أي: قالوا متقاسمين، أو أمرَ بعضُهم بعضًا بالقسمة.
{لَنُبَيِّتَنَّهُ} ؛ أي: لنقتلنَّه مباغتةً ليلًا {وَأَهْلَهُ} : ولدَه وتبعَه.
{ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} : لرَهْطه الذي له ولاية الدَّم: {مَا شَهِدْنَا} : ما حضرنا {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} المُهْلَكُ مِن أهلَكَ يحتمِل المصدرَ والزَّمان والمكان، وكذا المَهلِكُ بكسر اللَّام
(1)
، وقرئ بالفتح أيضًا
(2)
فيكون مصدرًا؛ أي: لم نتعرض لأهله فكيف تعرَّضنا له؟! أو: ما حضرنا موضع هلاكه فكيف تولَّيناه؟!
{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما ذكرنا.
* * *
(50) - {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
{وَمَكَرُوا مَكْرًا} في ذلك {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} ؛ أي: جزيناهم على مكرهم بتعجيل العقوبة.
(1)
فعلى الأول يكون المعنى: ما حضرنا إهلاكهم، أو: مكان إهلاكهم، أو: زمان إهلاكهم، وعلى الثاني: ما حضرنا هلاكهم، أو: مكان هلاكهم، أو: زمان هلاكهم.
(2)
قرأ جمهور السبعة بضم الميم وفتح اللام، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر بفتحهما. انظر:"التيسير"(ص: 144).
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بذلك.
* * *
(51) - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} .
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} {كَانَ} إن كانت ناقصة فخبرُها {كَيْفَ} ، وإن كانَتْ تامَّة فـ {كَيْفَ} حال.
{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} قرئ بكسر الهمزة على الاستئناف أو خبر محذوف، وقرئ بفتحها
(1)
على أنَّه خبر أو بدل من اسم {كَانَ} ، أو خبر له و {كَيْفَ} حال، أو يكون التَّقدير: لأَنَّا، وحُذِفَ حرف الجرِّ.
{وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} بالصَّيحةِ.
* * *
(52) - {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} : ساقطةً منهدمةً، مِن خَوَى النَّجمُ: إذا سقطَ، أو: خاليةً، مِن الخُوِيِّ، وهي حالٌ عَمِلَ فيها ما دلَّ عليه (تلك).
{بِمَا ظَلَمُوا} : بظلمهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : فيما فُعِلَ بثمودَ {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيتَّعظون.
* * *
(53) - {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بصالح {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} عصيانَه.
(1)
قرأ الكوفيون بفتح الهمزة، والباقون بكسرها. انظر:"التيسير" للداني (ص: 168).
(54) - {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} .
{وَلُوطًا} : واذكر لوطًا، أو: وأرسلنا لوطًا، لدلالة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} عليه، والأوَّل أنسبُ لِمَا نزلَ أوَّلًا، والثَّاني لِمَا نزلَ مكرَّرًا
(1)
.
{إِذْ قَالَ} بدلٌ من {وَلُوطًا} على الأوَّل؛ أي: واذكرْ وقتَ قولِ لوطٍ، وظرفٌ على الثَّاني.
{لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الاستفهام للإنكار والتَّوبيخ.
و {الْفَاحِشَةَ} : الفِعلة القبيحة، والمرادُ: اللِّواطةُ، أبهم هنا ثمَّ بيَّنها بقوله:{لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} تقريرًا وتنبيهًا على أنَّ معنى الفاحشة بلغَ الغاية فيها حتى صارَ علَمًا لها، ثمَّ إنَّ في البيان المذكور تنبيهًا على أنَّ المرادَ مِن الفاحشةِ محلُّها بطريق المجاز، وإتيانُه كنايةٌ عن فِعل اللِّواطةِ.
{وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} : والحالُ أنَّ لكم الأبصار، يعني أنَّ قباحة ذلك المحلِّ مِن المحسوساتِ، فوجودُ البصر كافٍ في إدراكها
(2)
.
* * *
(55) - {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} آثرَ الرِّجالَ على الذُّكور ليزدادَ قُبْحُ الإتيان المذكور.
{شَهْوَةً} : للشَّهوة، ناظرٌ
(3)
إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، كأنَّه قيل: القَباحة
(1)
في (ف) و (ك): "والأول أنسب لما ذكر مكررًّا".
(2)
في هامش (ف) و (م): "ويجوز أن يكون المراد: أتأتون وأنتم تبصرون ما في ذلك المحل من القذر، فتدبره. منه ".
(3)
في (ف): "ناظرًا".
هنا في درجةٍ حَقُّ مَن له البصر أن يرغبَ عنه نفرةً، وأنتم ترغبونَ فيه شهوةً
(1)
.
{مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} يعني: أنَّ اللهَ تعالى إنَّما خلقَ الأنثى للذَّكر، ولم يخلق الذَّكرَ للذَّكرِ، ولا الأنثى للأنثى، فهو مضادَّةٌ
(2)
لله تعالى في حكمتِه.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلون فعلَ الجاهلين بأنَّها فاحشةٌ، مع علمِكُم بذلك، أو أريد بالجهلِ: السَّفاهة والمَجَانةُ التي كانوا عليها.
وقد اجتمعَ الخطاب والغيبة هنا وفي قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} ، فغلِّب المخاطَبَ على الغائب لأنَّه أقوى؛ إذ الأصل أن يكون الكلامُ بينَ الحاضرين.
* * *
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} خبرُ {كَانَ} : {جَوَابَ} ، واسمُه {أَنْ قَالُوا} .
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} ؛ أي: لوطًا ومتَّبعيه، تناولَ الأمرُ له عليه السلام دلالةً
(3)
.
{مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} : يتنزَّهون عن القاذورات، فينكرون هذا العمل القذر، وَيغيظُنا إنكارُهم، تعليلٌ للأمر المذكور على وجهٍ يتضمَّن الاستهزاء؛ لأَنَّه على طريقةِ {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
(1)
في (ك): "في حق من له البصر عنه نفرة وأنتم ترغبون شهوة"، وفي (ف):"في حق من للبصر عنه نفرة وأنتم ترغبون شهوة".
(2)
في (ف): "فهو مضاد".
(3)
في هامش (ف) و (م): "كتناول الأمر في {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} لفرعون. منه ".
(57) - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} .
{فَأَنْجَيْنَاهُ} الفاء فصيحة {وَأَهْلَهُ} يعني: مِن العذابِ الواقعِ بقومِه.
{إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} ، أي: قدرنا كونها استئناف للتعليل.
{مِنَ الْغَابِرِينَ} : مِن الباقينَ في العذابِ.
* * *
(58) - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} قد مرَّ تفسيرُه في سورة الأعراف.
* * *
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} أمرَ رسولَه عليه السلام بتحميده، ثمَّ بالسَّلام على المصطفَين مِن عبادِه، توطئةً لِمَا يتلوه مِن الدِّلالة على وحدانيته وقدرته على كلِّ شيءٍ.
وهو تعليمٌ لكلِّ متكلِّمٍ
(1)
في أمرٍ ذي بالٍ بأنْ يتبرَّكَ بهما، ويستظهرَ مكانهما
(2)
.
أو هو خطاب للوطٍ عليه السلام أنْ يحمدَ الله على هلاكِ كفَّارِ قومِه، ويُسلّمَ على مَن اصطفاهُ اللهُ تعالى ونجَّاه مِن هلكتهم
(3)
، وعصمه من ذنوبهم.
{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} لا خيرَ فيما أشركوه أصلًا حتَّى يُوازنَ بينَه وبينَ مَن
(1)
في (م): "متعلم".
(2)
في (ك) و (م): "ويستظهر بمكانهما"، وفي (ف):"ويستظهر بمكانه".
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "هلكهم ".
هو خالقُ كلِّ شيءٍ، وإنَّما هو إلزامٌ لهم وتهكُّم بحالهم؛ ليتنبَّهوا على الخطأ المُفرِط والجهل المورِّط، وليعلموا أنَّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزَّائد.
ثمَّ عدَّدَ سبحانه وتعالى الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، فقال:
{أَمَّنْ} : بل أمْ مَن
(1)
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} تقريرٌ لهم بأنَّ مَن قدرَ على خلقِ العالم خيرٌ مِن جمادٍ لا يقدرُ على شيءٍ.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : مطرًا، وفي قوله:{لَكُمْ} تنبيهٌ على أنَّ الغيْثَ وإنْ لم يخلُ مِن الضَّرر
(2)
إلَّا أنَّ المقصودَ مِن إنزالِه النَّفعُ.
{فَأَنْبَتْنَا} صرفَ الكلام عن الغيبة إلى التَّكلُّم تأكيدًا لمعنى اختصاص الفعل بذاته، وإيذانًا
(3)
بأنَّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطُّعوم والأشكال - مع حسنِها - بماءٍ واحدٍ لا يقدرُ عليه إلَّا هو وحدَه.
{بِهِ} ؛ أي: بالماء.
{حَدَائِقَ} الحديقةُ: البستانُ عليه حائطٌ، مِن الإحداق، وهو الإحاطة.
{ذَاتَ} لم يقلْ: ذواتِ؛ لأنَّ المعنى: جماعةَ حدائقَ، كما تقول: النِّساء ذهبَتْ.
{بَهْجَةٍ} : حُسْنٍ؛ لأنَّ النَّاظرَ يبتهِجُ به، ثمَّ رشحَ معنى الاختصاص بقوله:
(1)
في (ف) و (ك) و (ع): "بل أمن"، وفي (م):"بل من".
(2)
في (ك) و (م): "الضر" وفي (ي) و (ع): "الغيث".
(3)
في (ف) و (ك): "إيذانا"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير النسفي "(2/ 615).
{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} : شجرَ الحدائق، ومعنى الكينونةِ الانتفاءُ، أرادَ أنَّ تأتِّيَ ذلك محالٌ مِن غيرِه.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} : أغيرُه يُقرَنُ ويُجعَلُ شريكًا له.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} : غيرَه، أو: يعدلون عن الحقِّ الذي هو التَّوحيد. و {بَلْ هُمْ} بعد الخطاب أبلغُ في تخطئةِ رأيهِم.
* * *
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ} وما بعده بدل من {أَمَّنْ خَلَقَ} فكانَ حكمُها حكمَه.
{قَرَارًا} : دحاها وسوَّاها للاستقرار عليها.
{وَجَعَلَ خِلَالَهَا} ظرفٌ؛ أي: وسطَها، وهو المفعول الثَّاني
(1)
، والأول {أَنْهَارًا} ، و {بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} مثلُه.
{وَجَعَلَ لَهَا} للأرضِ {رَوَاسِيَ} : جبالًا تمنعُها عن الحركةِ.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذبِ والمالحِ {حَاجِزًا} : مانعًا أنْ يختلِطا.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} التَّوحيدَ فلا يؤمنون.
* * *
(1)
قوله: (وهو المفعول الثاني): لأنَّ الظرف لا يقع مسندًا إليه، والمفعول الأول لجعل يكون مسندًا إليه.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الاضْطرارُ: افتعالٌ مِن الضَّرورة، وهي الحاجة المحوِجةُ
(1)
إلى اللَّجَأ
(2)
، يقال: اضْطرّه إلى كذا، والفاعل والمفعول مُضْطرٌّ
(3)
، والمُضْطَرُّ: الذي أحوجَه مرض أو فقر أو نازلة مِن نوازل الدَّهر إلى اللَّجأ
(4)
إلى الله تعالى، أو المُذنِبُ إذا استغفرَ، أو المظلومُ إذا دعا.
واللَّامُ للجنسِ لا
(5)
للاستغراقِ، فلا يلزم منه إجابةُ كلِّ مُضْطَّرٍ.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ؛ أي: الضُّرَّ أو الجَوْرَ
(6)
.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} ؛ أي: فيها، وذلك توارُثُهم سُكْناها، والتَّصرُّف فيها قرنًا بعدَ قرنٍ، أو أرادَ بالخلافةِ المُلك والتَّسلُّط، وهذا أتمُّ مِن الأوَّلَين وأعمُّ وأجلُّ وقعًا وأهمُّ، ولهذا فُصِل بعدَم التَّذكُّر
(7)
وبُوْلِغَ فيه.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {مَا} مزيدةٌ؛ أي: تذكَّرونَ تذكُّرًا قليلًا، ويجوز أنْ يُرادَ بالقلَّةِ العدمُ.
* * *
(1)
في (ف): "الملجئة".
(2)
اللَّجَأ - بفتحتين - مصدر لجأ بمعنى: لاذ، وألجأه إلى كذا: اضطره إليه. وجاء في (ك): "اللجاء"، والمثبت من باقي النسخ و"تفسير النسفي "(2/ 615).
(3)
في (م): "مضطرر".
(4)
في (ك): "اللجاء"، والمثبت من باقي النسخ والمصدر السابق.
(5)
"للجنس لا" سقط من (م)، و"للجنس" سقط من (ف) و (ك).
(6)
في (ف): "الضراء والجور".
(7)
في النسخ: "التذكير"، والصواب المثبت لأنَّه هو مصدر الفعل الآتي فاصلة، أما التذكير فمصدر: ذكر.
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} : يرشِدُكم بالنُّجومِ {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ليلًا، وبعلاماتٍ في الأرض نهارًا.
والظُّلماتُ: ظلماتُ اللَّيالي، وإضافَتُها للبرِّ والبحر للملابَسةِ، أو مشتبِهاتُ الطُّرُقِ على الاستعارة.
{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} مِن البِشارةِ، وقد مَرَّ في سورة الفرقان.
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} : قدَّامَ المطرِ.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : تعالى القادرُ الخالقُ عَن مشاركةِ العاجزِ المخلوقِ، تذييلٌ كالنَّتيجة للآياتِ السَّابقةِ.
* * *
{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إنَّما قيل لهم: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم ينكرون الإعادة؛ لأنَّه أُزيحت عليهم بالتَّمكُّن
(1)
من المعرفة والإقرار، ولم يبقَ لهم عذرٌ مِن الإنكار.
{وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: بأسبابٍ سماوَّيةٍ وأرضيَّةٍ.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يفعلُ ذلك.
(1)
في "تفسير النسفي"(2/ 616): (بالتمكين).
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} : حجَّتكم على إشراكِكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم أنَّ معَ الله إلهًا آخر.
* * *
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} استثناءٌ من فاعل {يَعْلَمُ} ، و {الْغَيْبَ} وهو ما لم يقمْ عليه دليل ولا اطَّلعَ عليه مخلوقٌ - مفعولُه و {اللَّهُ} بدلُ مِن {مَنْ} .
والمعنى: لا يعلمُ أحدٌ الغيبَ إلَّا الله.
ثمَّ إنَّ اللهَ يتعالى عن أن يكونَ ممَّن في السماوات والأرض، ولكنه جاء
(1)
على لغة بني تميم حيث يُجْرُون الاستثناءَ المنقطِع مُجرى المُتَّصل، ويجيزون النَّصبَ والبدلَ في المنقطِع كما في المتَّصل، يقولون: ما في الدَّار أحدٌ إلا حمارٌ
(2)
.
نزلت الآية في المشركين حين سألوا رسول الله عليه السلام عن وقتِ السَّاعةِ
(3)
.
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ} : تقدَّمَ في الأعراف.
{يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ} أي: انتهى وتكاملَ، مِن أدركَتِ الفاكهةُ: تكاملت نضجًا.
(1)
يعني: أن الاستثناء منقطع فيجب نصبه، لكن جاء رفعه على لغة بني تميم
…
(2)
وضح ذلك الزمخشري في "الكشاف"(3/ 378) فقال: (يريدون: ما فيها إلَّا حمارٌ، كأنّ أحدًا لم يذكر).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 267).
وقرئ: {ادَّارَكَ}
(1)
، أي: استَحْكَمَ، وأصله: تَدَارَك، فأُدْغِمَتِ التَّاء في الدَّال، وزيدَ ألفُ الوصل لِيَمْكُنَ التَّكلُّمُ بها.
{عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، أي: في شأنِ الآخرة، والمعنى: أنَّ أسبابَ استحكام العلم وتكامله بأنَّ القيامةَ كائنةٌ لا رْيبَ فيه قد حصلَتْ لهم، ومُكِّنوا مِن معرفته، وهم شاكُّون جاهلون.
وذلك قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} والإضرابات الثَّلاث
(2)
تنزيل لأحوالِهم، وتكريرٌ لجهلِهم؛ وصَفَهم أوَّلًا بأنهم لا يشعرون وقتَ البعثِ، ثمَّ بانَهم لا يعلمون أنَّ القيامةَ كائنةٌ، ثمَّ بانَهم يخبطون في شكٍّ ومرْيةٍ فلا يزيلونه، والإزالةُ مستطاعةٌ، ثمَّ بما هو أسوءُ حالًا وهو العمى، وقد جعل الآخرةَ مبدأَ عماهم ومنشأَه، فلذا عدَّاه بـ (من) دون (عن)؛ لأنَّ الكفرَ بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التَّدبُّر والتَّفكُّر.
وجازَ أنْ يكونَ وصَفَهم باستحكام العلم وتكامله تهكُّمًا بهم، وذلك حيث شكُّوا وعَمُوا عن إثباته الذي الطَّريقُ إلى علمِه مسلوكٌ، فضلًا أن يعرفوا وقتَ كونِه الذي لا طريقَ إلى معرفَتِه.
ويجوز أن يكون {ادَّارَكَ} بمعنى: انتهى وفنيَ، مِن
(3)
قولِكَ: أدركَتِ الثَّمرةَ؛ لأنَّ تلكَ
(4)
غايتُها التي عندها تُعدم.
(1)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بقطع الهمزة وإسكان الدَّال من غير ألف، والباقون بوصل الألف وتشديد الدَّال وألف بعدها. انظر:"التيسير"(ص: 168).
(2)
في (ف): "الثلاثة".
(3)
في (ك) و (م): "وهو من ".
(4)
في (ك) و (م): "ذلك".
وقد فسَّرها الحسنُ بـ: اضمَحَلَّ علمُهم وتداركَ، مِن تداركَ بنو فلان: إذا تتابَعوا في الهلاكِ
(1)
.
* * *
(67) - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} ؛ أي: مِن القبور أحياءً؟!
وتكريرُ حرفِ الاستفهام إنكارٌ بعدَ إنكارٍ، ودليلٌ على كفْرٍ مُؤكَّدٍ مُبالَغٍ فيه، والعامل في (إذا) ما دَلَّ عليه {لَمُخْرَجُونَ} ، لا نفسُه؛ لأنَّ همزة الاستفهام و (إنَّ) ولامَ الابتداء كلٌّ منها يمنعُه عن العمل فيما قبله.
والضَّمير في (إنَّا) لهم ولآبائهم؛ لأنَّ كونهم ترابًا قد تناولهم وآباءَهم، لكنَّه غلبَتْ الحكاية على الغائب، و {وَآبَاؤُنَا} عطف على الضَّمير؛ لأن المفعول {تُرَابًا} جرى مجرى التَّأكيد.
* * *
(68) - {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} ؛ أي: البعثَ {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: مِن قبل محمَّدٍ عليه السلام.
قدِّم هنا {هَذَا} على {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} ، وفي (المؤمنين) أُخِّرَ عنه؛ ليدلَّ على أنَّ المقصودَ بالذِّكر هنا البعثُ، وثَمَّ المبعوثُ.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 379)، و"تفسير النسفي" (2/ 611). وخبر الحسن رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2914) بلفظ:(اضْمحَلَّ علمُهم في الدُّنيا حين عايَنوا الآخرةَ).
{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : ما هذا إلَّا أحاديثُهم وأكاذيبُهم.
* * *
(69) - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ؛ أي: آخِرُ أمرِ الكافرين، وفي ذكر الإجرام لطف بالمسلمين في ترك الجرائم، كقوله:{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} [الشمس: 14].
* * *
(70) - {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لأجلِ أنَّهم لم يتَّبعوكَ، ولم يُسْلِموا فيَسْلَموا.
{وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} : في حَرَجِ صَدْرٍ {مِمَّا يَمْكُرُونَ} : مِنْ مكرهم وكيدهم لك، فإنَّ اللهَ يعصمُكَ مِن النَّاسِ.
* * *
(71) - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ؛ أي: وعدُ العذابِ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّ العذابَ نازلٌ بالمكذِّب
(1)
؟.
* * *
(72) - {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} .
(1)
في (ك) و (م): "ذلك".
{عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} : تبعكم، (رَدِفَ) يتعدَّى بنفسه وباللَّام
(1)
، ومَن وَهَمَ أنَّ تعديتَه باللَّام بتضمين معنى مثل: دنا
(2)
، فقد وَهِمَ؛ لأنَّ ذلك المعنى حاصل لـ {رَدِفَ} ، ثمَّ إنَّ تعديةَ دنا وقرب بـ (من) لا باللَّام
(3)
.
{بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} استعجلوا العذابَ الموعودَ، وهو عذابُ يومِ بدرٍ.
و (عسى) و (لعلَّ) و (سوفَ) في وعد الملوك ووعيدهم يدلُّ على صِدْقِ الأمر وجِدِّهِ، وعلى ذلك جرى وعدُه تعالى ووعيدُه.
* * *
(73) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} ؛ أي: إفضالِ {عَلَى النَّاسِ} بترك المعاجلَة بالعذابِ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} ؛ أي: أكثرهم لا يعرفون حقَّ النِّعمة فيه ولا يشكرونه، بل يستعجلون لجهلهم وقوعَ العذابِ.
* * *
(74) - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} : ما تُخفيه {صُدُورُهُمْ} قال الرُّماني: الإكنانُ: جعلُ الشَّيء بحيث لا يلحقُه أذًى لمانعٍ يصدُّه عنه.
(1)
في هامش (ف): "ذكر في الأساس ويوافقه ما في الصحاح. منه ".
(2)
أي: بتضمين معنى فعلٍ يتعدى باللام مثل الفعل المذكور. والمقصود بالتوهيم هو البيضاوي، لكن دافع عنه الشهاب بما سنذكره في التعليق الآتي.
(3)
قال الشهاب متعقبًا: وتضمينه معنى دنا لأنَّه يتعدى بمن وإلى واللام كما في "الأساس"[(مادة: دنو)]، فمن اعترض عليه بأنه يتعدى بمن فقد سها، كسهوه في أنّ ردف بمعنى دنا فلا يصح أن يضمن معناه. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 57).
{وَمَا يُعْلِنُونَ} : يُظهِرون، فليس تأخيرُ العذابِ لخفاءِ حالِهم، ولكن له وقتٌ مقدَّرٌ
(1)
* * *
(75) - {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سُمِّيَ الشَّيءُ الذي يغيبُ ويخفى: غائبةً وخافيةً، والتَّاء فيها كالتَّاء في العافية والعاقبة
(2)
، ونظائرهما: الرَّميَّة والذَّبيحة والنَّطيحة في أنَّها
(3)
أسماءٌ غيرُ صفاتٍ، ويجوز أن يكونا صفَتَيْن، وتاؤهما للمبالغة كالرَّاوية
(4)
.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: بيِّنٍ أو مُبيِّنٍ مَا
(5)
فيه لِمَن يطالِعُه. والمرادُ مِن الكتاب: اللَّوحُ.
* * *
(76) - {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
(1)
في هامش (م) و (ي): "إنما أخر {يُعْلِنُونَ} لنكتة نذكرها في تفسير سورة يس. منه ".
(2)
أي: هي للنقل إلى الاسمية، فتاؤها لا تدلُّ على تأنيث ما تُطلق عليه. وانظر التعليق الآتي.
(3)
في (ي) و (ع): "أنهما".
(4)
وتوضيح الكلام: أن {غَائِبَةٍ} يجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى، والتاء فيها للنقل كما تقدم، ويجوز أن تكون صفة غلبت في هذا المعنى، فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت، وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوية للرجل الكثير الرواية، فهي تاء مبالغة. والفرق بين المغلب والمنقول على ما قال الخفاجي: أن الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 57)، و"روح المعاني"(20/ 51).
(5)
في (ك) و (م): "لما".
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ أي: يبيِّنُ لهم، والقَصصُ: كلامٌ يتلو بعضُه بعضًا فيما ينبئ عن المعنى.
{أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كالتَّشبيه والتَّنزيه، وأحوالِ الجنَّة والنَّار، وعُزَيرٍ والمسيح.
والاختلافُ: ذهابُ كلُّ واحدٍ إلى خِلاف ما ذهبَ إليه صاحبُه.
وهذا تحريكٌ للمشركين على اتِّباع القرآنِ؛ فإنَّه لَمَّا كان فيه بيانٌ لأهل الكتاب، وهم يرجعون إليهم في كثير مِن أمورِهم، فكانَ حقَّهم أن يرجعوا إليه؛ لأنَّه مرجِعُ مرجعِهم، وكان منزَّلًا على مَن
(1)
بُعِثَ منهم.
* * *
(77) - {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} لأنَّهم هم المنتفعون به.
* * *
(78) - {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} بينَ مَن آمنَ بالقرآن وبينَ مَن كفرَ.
{بِحُكْمِهِ} ؛ أي: بعدله؛ لأنَّه لا يقضي إلَّا بالعدل، فسمي المحكوم به حُكمًا.
أو: بحكمته، ويدلُّ عليه قراءة:(بِحِكَمِهِ)
(2)
جمع حِكمةٍ.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يُرَدُّ قضاؤُه {الْعَلِيمُ} بمَن يُقضى له، وبمَن يُقضَى عليه.
(1)
"من "من (ك).
(2)
نسبت لجناح بن حبيش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 111).
(79) - {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} .
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : فلا تُبالِ بمعاداتهم {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} علَّلَ
(1)
التَّوكُّلَ بأنَّه على الحقِّ الأبلج، وهو الدِّين الواضح، وفيه بيانُ أنَّ صاحب الحقَ حقيقٌ بالوثوق بحفظِه
(2)
على اللهِ ونصرِه.
* * *
(80) - {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} تعليلٌ آخر للأمرِ بالتَّوكُّل من حيثُ إنَّه يقطع طمَعه مِن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسًا، وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدم انتفاعِهم باستماعِ ما يُتلَى عليهم، كما شُبِّهوا بالصّمِّ في قولِه:
{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ثمَّ أكَّد حالَ الأصمِّ بقولِه:
{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} لأنَّه إذا تباعدَ عن الدَّاعي - بأنْ تولَّى عنه مدبرًا - كانَ أبعدَ عن إدراك صوتِه.
* * *
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 384). وقوله: "لا يدركها
…
" رواه الطبري في "تفسيره" (18/ 124)، ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره" (7/ 225) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعًا، قول ابن كثير عند تفسير هذه الآية: إسناده لا يصح.
(2)
جزء من الحديث السابق.
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} الهداية لا يلزمها الاهتداء، دلَّ على ذلك قوله تعالى:{فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، فلا جرمَ زيدَ قولُه:
{عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} حتى يكون المنفيُّ الهدايةَ المنجيةَ عن الضَّلالة، لا مُطلَقَ الهدايةِ؛ لأنَّها غيرُ ممتنعةٍ في حقِّ العُمي.
{إِنْ تُسْمِعُ} : ما يُجدي إسماعُك {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} : إلَّا الذين يصدِّقون أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى؛ إذ حينئذٍ يُثْبِتُ نبوَّته عليه السلام فتقْبَلُ قولَه، فيجدِي إسماعُه نفعًا.
{فَهُمْ مُسْلِمُونَ} : مخلِصون، من قوله:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]؛ أي: جعله سالمًا لله خالصًا له.
* * *
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} سمى معنى القول ومؤدَّاه - وهو ما وُعدوا مِن قِيامِ السَّاعة وعذابه - بالقول. ووقوعُه: حصولُه، والمراد: مشارفةُ السَّاعةِ وظهورُ أشراطِها.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} هي الجسَّاسة، في الحديث:"طولُها ستُّون ذراعًا، ولها أربعُ قوائم وزغبٌ وريشٌ وجناحان، لا يدركها طالبٌ، ولا يفوتها هاربٌ"
(1)
.
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 222). ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2926)، لكن السائل والراوي عنده هو أبو داود نفيع الأعمى، وهو متروك. كما في "التقريب".
{مِنَ الْأَرْضِ} ؛ أي: مِن أرض مكَّة؛ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن مخرجها، فقال:"من أعظم المساجد حرمةً على الله"
(1)
يعني: المسجدَ الحرامَ.
{تُكَلِّمُهُمْ} وقرئ: (تَكْلِمُهم)
(2)
، وقال أبو الجوزاء: سألْتُ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رضي الله عنه: {تُكَلِّمُهُمْ} أو (تَكْلِمُهم)؟ فقال: كلُّ ذلك تفعلُ؛ تكلِّمُ المؤمنَ ويمْلِمُ الكافرَ
(3)
.
وقيل: تكلِّم بالعربيَّة وتقول: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا} : خروجِها وسائر أحوالِها فإنَّها مِن آياتِ اللهِ تعالى {لَا يُوقِنُونَ} : لا يتيقَّنون، وهو حكايةُ معنى قولها، أو حكايتُها لقول الله تعالى، أو علَّةُ خروجها
(4)
.
وقرئ: {إِنَّ} بالكسر
(5)
.
* * *
(83) - {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
ثمَّ ذكرَ قيامَ السَّاعةِ فقالَ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} ؛ أي: واذكر يومَ نجمعُ مِن كلِّ أمَّه مِن الأمم زمرةً. و {مِنْ} للتَّبعيضِ؛ لأنَّ أمَّةَ كلِّ نبيٍّ وأهلَ كلِّ قرنٍ شامل للمصدِّقين والمكذِّبين.
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 222). ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2926)، لكن السائل والراوي عنده هو أبو داود نفيع الأعمى، وهو متروك. كما في "التقريب".
(2)
أي: أو هذا القول هو علة لخروجها على حذف الجار؛ أي: لأن الناس.
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 222). ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2926)، لكن السائل والراوي عنده هو أبو داود نفيع الأعمى، وهو متروك. كما في "التقريب".
(4)
أي: أو هذا القول هو علة لخروجها على حذف الجار؛ أي: لأن الناس.
(5)
قرأ الكوفيون بفتح الهمزة، وباقي السبعة بكسرها. انظر:"التيسير"(ص: 169).
و (من) في قوله: {مِمَّنْ يُكَذِّبُ} للتَّبيين.
{بِآيَاتِنَا} المُنزَّلة على أنبيائِنا.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : يُحبَس أوَّلُهم على آخرِهم حتى يجتمعوا، ثمَّ يساقونَ
(1)
إلى موضع الحسابِ، وهذه عبارةٌ عَن كثرة العَدَدِ، وكذا الفوجُ عبارة عن الجماعة الكثيرة.
* * *
{حَتَّى إِذَا جَاءُوا} : حضروا موقفَ الحسابِ والسُّؤالِ {قَالَ} لهم تعالى تهديدًا: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} المنزَلةِ على رُسُلي
(2)
.
{وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} الواو للحال، كأنَّه قال: أكذَّبتم بآياتي بادئ الرَّأي مِن غيرِ فكرٍ ولا نظرٍ يؤدِّي إلى إحاطة العلم بكُنْهِها، وأنَّها حقيقةٌ
(3)
بالتَّصديق أو بالتَّكذيب.
أو للعطفِ؛ أي: أجمعتُم
(4)
بينَ التَّكذيب وعدم إلقاءِ الأذهان لتحقيقها.
{أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : أم أيَّ شيءٍ كنتم تعملونه بعد ذلك؟ وهو للتَّبكيت إذْ لم يفعلوا غير التَّكذيب من الجهل، فلا يقدرون أنْ يقولوا: فعلنا غير ذلك.
(1)
في (ف) و (ك): "يساقوا".
(2)
في (ف): "رسولي".
(3)
في (ت) و (ك) و (م): "حقيق".
(4)
في (ك): "جمعتم".
وإنَّما جازَ دخول {أَمْ} على (ما) الاستفهاميَّة لهذه النكتة؛ فإنَّها خرجَتْ عن حقيقة الاستفهام إلى البَتِّ بالحكم، لا بالمعادِل بل بالأوَّل.
* * *
(85) - {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} .
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} : أُحِلَّ بهم العذابُ الموعودُ بسبب ظلمِهم، وهو التَّكذيب.
{فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} فيشغلُهم عن النُّطق والاعتذار، قال الله تعالى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35].
* * *
{أَلَمْ يَرَوْا} ليتحقَّقَ لهم التَّوحيدُ، ويرشدَهم إلى تجويزِ الحشر وبعثةِ الرُّسل.
{أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} بالنَّومِ والقَرارِ.
{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} جعلَ الإبصار للنَّهار - وهو لأهله - للمبالغة فيه بجعلِ الإبصار حالًا مِن أحوال المجعول، بحيث لا ينفكُّ عنها، وهذا من باب ما حُذِفَ مِن أحد المتقابلَيْن ما أثبِتَ في الآخر، فالتَّقدير: جعلنا اللَّيل مظلمًا لتسكنوا فيه والنَّهار مبصرًا لتتصرَّفوا فيه.
ومَن غفل عن هذا قال: والتقابل مراعًى مِن حيث المعنى؛ لأنَّ {مُبْصِرًا} بمعنى
(1)
: ليُبصروا فيه طُرُقَ التَّقلُّب في المكاسب.
(1)
في (ي) و (ع): "لأن معنى مبصرًا".
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} ولدلالتها على الأمور الثَّلاثة؛ لأنَّ المعنى: ألم يعلموا أنَّا جعلنا اللَّيل والنَّهار قِوامًا لمعاشهم في الدُّنيا؛ ليعلموا
(1)
أنَّ ذلك لم يُجعَلْ عبثًا، بل محنة وابتلاءً، ولا بدَّ عندَ ذلك من ثوابٍ وعقابٍ، فإذا لم يكونا في هذه الدَّار فلا بُدَّ مِن دارٍ أخرى للثَّواب والعِقابِ.
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خُصُّوا بتلك الآيات لاختصاصِ الانتفاعِ بها بهم.
* * *
{وَيَوْمَ} : واذكر يومَ {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} : هو قرنٌ، والنَّافخُ إسرافيل عليه السلام، روى أبو هريرة أنَّه يَنفخُ ثلاثَ نفخاتٍ: الأولى نفخة الفزع، ثم بعده بأربعين يومًا نفخة الصَّعق
(2)
.
(1)
في (ك): "لعلموا".
(2)
رواه إسحاق بن راهويه (10)، والطبري في "تفسيره"(8/ 132)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2928) وهو جزء من حديث طويل. قال ابن كثير في "تفسيره" عند تفسير هذه الآية: (هذا حديث مشهور وهو غريب جدًّا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة
…
وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه، فغريب جدا، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك).
قلت: والذي في الصحيحين عن أبي هريرة أنهما نفختان بينهما أربعون، دون تعيين التمييز، رواه البخاري (4814)، ومسلم (2955). ولم يرد في التعيين خبر يحتج به.
فما قِيلَ: إنَّه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نُفِخَ في البوق؛ ليس بذاكَ.
{فَفَزِعَ} الفَزَعُ والجَزَعُ أخوان، لكنَّ الفَزَع ما يعتري من الشَّيء المخيف، والجَزَعَ ما يعتري من الشَّيء المؤلم.
{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مِن الهول، وعبَّرَ عنه بالماضي للإشعارِ بصحَّة وقوعِه وأنَّه كائنٌ لا محالة، ولا حاجة إلى هذا الإشعار في الأوَّل لأنَّه منشأ الفَزَعِ، فالقَطْعُ بوقوعِ هذا يقتضي القَطْعَ بوقوعِ ذلك.
{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أنَّه
(1)
لا يفزَع
(2)
، بأنْ ثبَّتَ اللهُ قلبَه، قالوا: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، وقيل وقيل
(3)
.
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ} : حاضرون الموقف بعد النَّفخة الثَّانية، أو راجعون إلى أمرِه.
{دَاخِرِينَ} : صاغِريْنَ.
* * *
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا} حالٌ مِن المخاطَب.
{جَامِدَةً} : واقفةً ممسكةً
(4)
عن الحركةِ، مِن جمدَ في مكانِه: إذا لم يبرحْ.
(1)
في (ف) و (ي) و (ع) و (م): "لأنَّه".
(2)
في (م): "يقرع".
(3)
" وقيل" زيادة من (ك) و (ي) و (م).
(4)
في (ف) و (ك) و (م) زيادة: "في مكانِه". والمثبت من (ع) و (ي)، و"تفسير النسفي"(2/ 623)،=
{وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ؛ أي: مرًّا مثلَ مرِّ السَّحاب، والمعنى: أنَّكَ إذا رأيْتَ الجبالَ وقتَ النَّفخةِ ظنَنْتَها ثابتةً في مكانٍ واحدٍ [لعظمها]
(1)
، وهي تسيرُ سيرًا سريعًا كالسَّحاب إذا ضربَتْه الرِّيح، وهكذا الأجرامُ المتلاصقةُ المتكاثرةُ العددِ إذا تحرَّكَتْ لا تكاد تبينُ حركتها.
{صُنْعَ اللَّهِ} مصدر عملَ فيه ما دلَّ عليه: {تَمُرُّ} ؛ لأنَّ مرورَها كمرِّ السَّحاب مِن صنعِ اللهِ، فكأنه قيل: صَنَعَ اللهِ ذلك، وذُكرَ اسمُ اللهِ لأنَّه لم يُذْكَر قبلُ.
{الَّذِي أَتْقَنَ} ، أي: أحكمَ صُنْعَهُ، ولقد أصابَ عبارةُ
(2)
الصُّنع والإتقان محزَّهما
(3)
، وذلك أنَّ لقاءَ صورةِ الجبالِ بعدَما تخلخَلَتْ وصارَتْ كالعهن المنفوشِ دلَّ على كمالِ الإتقانِ مِن جهةِ الصُّنعِ، وهو تركيبُ الصُّور فيَ المادَّةِ.
وهذا الإتقان ينتظِمُ {كُلَّ شَيْءٍ} قويًّا كان تركيبُه أو ضعيفًا.
{إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}
(4)
عالمٌ بظواهرِ الأفعالِ وبواطنها، فيكافئهم على حسب ذلك.
* * *
= ولفظ البيضاوي (4/ 169): ثابتة في مكانها.
(1)
من "تفسير النسفي"(2/ 623).
(2)
في (م) و (ي): "عبارتنا ".
(3)
في (ع) و (ي): "محزها".
(4)
هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر من رواية هشام، وقرأ باقي السبعة:{تَفْعَلُونَ} بالتاء. انظر: "التيسير"(ص: 169).
(89) - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} .
ثمَّ لخَّصَ ذلك بقولِه: {مَنْ جَاءَ} يومَ القيامة {بِالْحَسَنَةِ} قالَ أكثرُ المفسِّرين: الحسنةُ هاهنا كلمةُ الإخلاص، والسَّيئةُ ضدُّها وهو الشِّركُ؛ لأنَّه قالَ في حقِّها:{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} .
{فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ؛ أي: خيرٌ حاصلٌ مِن جهتِها.
{وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ} : شديدٍ؛ أي: مِن فزعٍ شديدٍ مفرِطِ الشِّدَّةِ، وهو خوفُ النَّارِ، أو: مِن فزعٍ مّا وإنْ قَلَّ.
وقرئ بالإضافة إلى {يَوْمَئِذٍ}
(1)
لأَنَّه جعل (يوم) مع (إذ) كالاسم الواحد، والمرادُ: يومُ القيامةِ.
{آمِنُونَ} أمِنَ تعدَّى بالجارِّ وبنفسِه، كقوله تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99].
* * *
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ} يُقالُ: كبَّه وأكبَّه: إذا نكسَه.
{وُجُوهُهُمْ} أنفسهم، يُعبَّر عن الجملةِ بالوجه كما يُعبَّر بالرَّأس والرَّقبة عنها
(2)
(1)
بالإضافة وفتح الميم، وهي قراءة نافع في المشهور عنه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين وفتح الميم، وباقي السبعة بالإضافة وكسر الميم. قال ابن مجاهد:(ولا يجوز مع التنوين إلَّا فتح الميم، فإذا لم تنون جاء الفتح والكسر). انظر: "السبعة"، و"التيسير" (ص: 170).
(2)
قوله: "يعبر عن الجملة بالوجه كما يعبر بالرأس والرقبة عنها" في (ف) جاءت بعد قوله: "في النار".
{فِي النَّارِ} ؛ أي: ألقوا على رؤوسهم فيها
(1)
، ويقال لهم تبكيتًا عندَ الكبِّ:
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُّنيا مِن الشِّركِ والمعاصي.
* * *
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} مكَّة خصَّها مِن بينِ البلادِ بإضافة اسمه إليها؛ لأنَّها أحبُّ بلادِه إليه وأعظمُها عندَه، وأشار إليه بقوله:{هَذِهِ} إشارةَ تعظيم لها وتقريبٍ دالًّا على أنَّها موطنُ
(2)
نبيِّه عليه السلام ومَهبِطُ وحيِهِ.
{الَّذِي حَرَّمَهَا} : جعلها حَرَمًا آمنًا {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} خَلقًّا وَملكًا. وصفَ ذاته بالتَّحريم الذي هو خاصُّ وصفِها، وجعلَ دخولَ كلِّ شيءٍ تحتَ ربوبيَّتِه وملكوتِه كالتَّابعِ لِدُخولِها تحتَها، ولا خفاءَ في أنَّ إجراءَ الوصفِ على الله تعالى تعظيمٌ لشأنِ الوصف ولشأنِ ما يتعلَّق به الوصفُ، وزيادةُ اختصاصٍ له بمَن أُجْرِي عليه الوصف، وجعل ذلك كالمسلَّم المفروغ عنه، ولا كذلك لو قيل:(التي حرَّمها) ووُصِفت البلدة تخصيصًا أو مدحًا.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : المنقادِينَ له.
* * *
(1)
"أي: ألقيَ على روْوسهم فيها" سقطت من (ك) و (ف)، ووقع في (ع) و (م) و (ي):"ألقي"، والمثبت من هامش (م)، وفيه:"لعله: ألقوا"، وهو الموافق لما في "تفسير النسفي"(2/ 624).
(2)
في (ك) زيادة: "بيت ".
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} مِن التِّلاوة أو مِن التُّلوِّ؛ لقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [يونس: 109].
أمرَ الرَّسول بأنْ يقولَ: أُمرْتُ
(1)
أنْ أخصَّ اللهَ تعالى وحدَه بالعبادةِ، ولا أتَّخذَ له شريكًا كما فعلَتْ قريشٌ، وأنْ أكونَ مِن الحنفاءِ الثَّابتين على مِلَّةِ الإسلام، وأنْ أتلوَ القرآن لأعرِفَ الحلالَ والحرامَ وسائرَ الأحكام، وما يقتضيه الإسلام.
{فَمَنِ اهْتَدَى} باتِّباعِه إيَّايَ في ذلك.
{فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فمنفعةُ اهتدائِه راجعةٌ إليه لا إليَّ.
{وَمَنْ ضَلَّ} بمخالفتي. وحذفَ جواب هذا لدلالة مقابِلِه عليه؛ أي: فمضرَّة ضلاله راجعةٌ إليه لا إليَّ.
ولَمَّا حذفَ ذلك أُقِيمَ تعليلُه مقامَه، وهو قوله:{فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ؛ أي: وما أنا إلَّا رسولٌ منذرٌ، وما على الرَّسولِ إلَّا البلاغ.
* * *
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثمَّ أُمِرَ أنْ يحمدَ اللهَ تعالى على نعمة النُّبوَّةِ، أو على التَّوفيقِ للعلمِ والعملِ به
(2)
.
(1)
في (ف): "وأمرت".
(2)
"به" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} القاهرةَ في الدُّنيا، أو في الآخرة.
{فَتَعْرِفُونَهَا} : فتعرفونَ أنَّها آياتُ اللهِ تعالى، ولكنْ حينَ لا تنفعُكُم المعرفَةُ.
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا يغرَّنَّكُم تأخيرُ العقوبةِ؛ فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ.
* * *