الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ القَصَصِ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
(1 - 2) - {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} .
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَبانَ لازمٌ ومُتعدٍّ، أي: مُبينٌ خيرَه وبركتَه، أو: مُبينٌ لِمَا أُبهم
(1)
بيانُه.
والبيانُ: إظهارُ المعنى للنفس بما يميِّزه عن غيرِه، مشتقٌّ مِن: أَجبنتُ كذا، إذا فصلتَه منه.
* * *
(3) - {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
{نَتْلُو} : نقرأ {عَلَيْكَ} ، أي: يَقرأ جبريلُ عليه السلام بأمرنا، ومفعول {نَتْلُو}:
{مِنْ نَبَإِ} ؛ النَّبأُ: الخبرُ عمَّا هو عظيمُ الشأن.
{مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ، أي: نتلو عليكَ بعضَ خبرِهما {بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنَّهم هم المنتفِعونَ به
(2)
.
(1)
في (ي): "بما يُهِمُّ "، وفي (ع):"انمايهم".
(2)
في هامش (ف) و (م): "قد مرَّ في السورة السابقة أنه لا حاجة إلى التأويل في مثل هذا بحمل المؤمن على من يؤمن في علمه تعالى، كما زعم صاحب الكشاف ومن تبعه. منه".
{إِنَّ فِرْعَوْنَ} استئنافٌ مبيِّن لذلك البعض.
{عَلَا} : تعاظَمَ {فِي الْأَرْضِ} يعني: مصرَ، وإنَّما عبَّر عنه بما هو اسمٌ لجهة السُّفْل؛ إشعارًا بأنَّه أَظهرَ ضدَّ ما يليقُ بشأنه.
(1)
: فِرَقًا، بأنْ أغرى بينهم العداوةَ؛ كيلا يتَّفقوا، فهو كالتمهيد لِمَا استأنف بإخباره في قوله:
{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً} هم بَنُو إسرائيل {مِنْهُمْ} من الشِّيَع المذكورة؛ فإنَّهم لو كانوا متَّفقين لَمَا تيسَّر له ذلك.
{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} بدلٌ مِن الاستئناف السابق، وقد تقدَّم تفسيره في سورة الأعراف.
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} : مِن زمرة المعروفينَ بالفساد، فلذلك اجْتَرَأَ على قَتْل خَلْقٍ كثيرٍ لتخيُّلٍ فاسد.
* * *
{وَنُرِيدُ} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ معطوفة على {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} من حيث
(1)
في هامش (ف) و (م): "جمع شيعة، وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب، من شاعه: إذا تبعه، من تفسير سورة الحجر. منه ".
إنَّهما واقعان تفسيرًا للنبأ، أو حالٌ مِن {يَسْتَضْعِفُ} ، ويجوز أن يتحقَّق تعلُّق الإرادة بتكوين في زمانٍ مترقَّب، وهذا لتكون نعمةُ المنَّة أوقعَ، وسلطانُ التقدير على التدبير أظهرَ.
{أَنْ نَمُنَّ} : نتفضَّل عليهم بإنقاذهم من بأسه.
{عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وإنَّما قال: {فِي الْأَرْضِ} مع عدم الحاجةِ إليه هاهنا ليتمشَّى جعلُ التعريف في {الْوَارِثِينَ} عِوَضًا عن الإضافة إليها
(1)
.
{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} : مقدَّمين في أمرِ الدنيا والدِّين.
{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ؛ أي: يرثون الأرضَ المعهودةَ، لمَّا كانت الوراثةُ أقوى سببٍ في الاستحقاق والتملك حيث لا يُعقَب بفسخٍ ولا استرجاعٍ، ولا يُبطَل بِرَدٍّ وإسقاطٍ، استُعيرت لاستحقاقهم بمنِّ الله تعالى.
* * *
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ} أصل التمكين أن تجعل للشيء مكانًا يَقعد عليه ويَرقد فيه، ثم استُعير للتسليط وإطلاقِ الأمر.
{فِي الْأَرْضِ} أظهر في مقامِ الإضمار؛ تفخيمًا لشأن تلك الأرض.
{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} كان هامانُ وزيرَ فرعون ومدبِّرَ ملكه، فلذلك شَرَّكهُ في إضافةِ الجنود إليهما.
(1)
"إليها" من (م) و (ي).
{وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} : من بني إسرائيل، ويتعلَّق بـ {وَنُرِيَ} دون:{يَحْذَرُونَ} ؛ لأن الصلة لا تتقدَّم على الموصول.
{مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} من ظهورِ موسى عليه السلام، وأمَّا ذهابُ ملكهم وهلاكُهم فليسا ممَّا أُرُوْا هم
(1)
.
الحَذَرُ: التوقِّي من الضرورة، وزيادة {كَانَ} لبيان استمرارهم مدَّة مديدة على ذلك الحذر.
* * *
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} قد تقدَّم تفسيره في سورة طه.
{أَنْ أَرْضِعِيهِ} ؛ أي: أَلقِمي ثديَكِ فَمَهُ، و {أَنْ} تفسيريَّة أو مصدريَّة.
{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} مِن القَتْل، بأنْ يَسمع الجيرانُ صوتَه فيَنمُّوا عليه.
{فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} قد مرَّ تفصيله في سورة طه.
{وَلَا تَخَافِي} مِن الغَرَق والضياع {وَلَا تَحْزَنِي} بفراقِه، والإخطارِ به، الخوفُ: هَمٌّ يلحقُ لمتوقَّع، والحزنُ: هَمٌّ يلحقُ لواقعٍ.
{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} بوجهٍ لطيف لتربِّيه {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} في هذه الآية أمرانِ ونهيانِ وخبرا بشارة.
* * *
(1)
في النسخ: "رأوهم" والصواب المثبت. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 64). والمراد أن ذلك مما رآه بنو إسرائيل، ولم يروه هم؛ أي: قوم فرعون.
{فَالْتَقَطَهُ} الفاء فصيحةٌ تُفصِح عن محذوف تقديره: فأَرضَعَتْه إلى أنْ خافت عليه فأَلقته في اليَمِّ فالتقطه {آلُ فِرْعَوْنَ} ؛ أي: أَخَذوه، وقد وجدوهُ من غير طلبٍ، وهو معنى الالتقاط، ومنه: اللَّقيط واللُّقَطة.
{لِيَكُونَ لَهُمْ} ، أي: ليصيرَ الأمر إلى ذلك، لا أنَّهم أَخَذوه له، كقولهم: للموتِ ما تَلِدُ الوالدةُ، وعن هذا سَمَّوا هذه اللامَ لامَ العاقبة والصيرورة، وهي في الحقيقة لامُ التعليل، وذلك أن كونه لهم {عَدُوًّا وَحَزَنًا} لمَّا كان نتيجةَ التقاطهم له وثمرتَه، شبَّهه بالداعي الذي يفعل الفاعل لأجله، وبعد اعتبار هذا التشبيه على طريق الاستعارة المَكْنيَّة لم يبق حاجةٌ إلى التجوُّز في اللام كما سبق إلى بعض الأوهام
(1)
.
{عَدُوًّا وَحَزَنًا} وقرئ
(2)
: {وَحَزَنًا}
(3)
، وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} كان هامانُ مدبِّرَ ملكِ فرعونَ وسائسَ جنده، فلذلك أضافهم إليهما.
{كَانُوا خَاطِئِينَ} : مُذنِبين، فعاقبهم اللهُ تعالى بأنْ ربَّى عدوَّهم ومَن هو سبب هلاكهم على أيديهم.
أو: كانوا خاطئين في كلِّ شيءٍ، فليس خَطؤهم في تربية عدوِّهم ببِدْعٍ منهم.
(1)
من قوله: "وهي في الحقيقة ..... " إلى هنا، سقط من (ع) و (ي).
(2)
"وقرئ" من (ف).
(3)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 171).
وقرئ: {خَاطِئِينَ}
(1)
بتخفيف: خاطئين، أو: خاطين الصوابَ إلى الخطأ
(2)
.
* * *
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} أي: لفرعونَ حين أُخرِج من التابوت: {قُرَّتُ عَيْنٍ}
(3)
قد مرَّ تفسيره في سورة الفرقان.
{لِي وَلَكَ} أي: هو قرَّة عينٍ لنا؛ لأنَّه لمَّا رَأَياهُ حين أُخرج من التابوت أحبَّاه، وفي الحديث أنَّه قال: هو لكِ لا لي، ولو قال: لي كما هو لكِ، لهداهُ الله تعالى كما هداها
(4)
.
{لَا تَقْتُلُوهُ} الخطاب بلفظ الجمع للتعظيم {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فإنَّ فيه مخايلَ اليُمْنِ ودلائلَ النفع، وذلك لمَّا رَأَت بُرْءَ البرصاءِ
(5)
بريقه.
{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} : أو نتبنَّاه فإنَّه أهلٌ له.
(1)
قراءة أبي جعفر. انظر: "النشر"(1/ 397).
(2)
فهو من خطا يخطو.
(3)
بعدها في (ف) و (م): "لي ولك ".
(4)
ورد بنحوه ضمن خبر طويل جدًّا رواه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(11263)، وأبو يعلى في "مسنده"(2618).
(5)
في (ف) و (ك) و (م): "البرصاء برئت "، بدل:"برء البرصاء". وكلاهما صواب، والبرصاء هي بنت لفرعون لما أخرج موسى عليه السلام من التابوت عمدت إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت من ساعتها. كذا جاء في خبر طويل رواه الثعلبي في "تفسيره"(7/ 234 - 236)، وابن عساكر في "تاريخه"(61/ 20 - 22)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حالٌ، وذو حالها {آلُ فِرْعَوْنَ} وتقدير الكلام: فالتقطه آلُ فرعون ليكون لهم عدوًّا وحَزَنًا، وقالت امرأة فرعون كذا وكذا، وهم لا يشعرون أنَّهم على خَطَرٍ عظيمٍ في التقاطِه ورجاءِ النفع في تبنِّيه، وقوله:{إِنَّ فِرْعَوْنَ} الآية، جملة اعتراضية واقعةٌ بين المعطوفين مؤكِّدة لمعنى خَطَائهم.
وقيل: هو تمامُ كلامِ امرأةِ فرعونَ؛ أي: نتَّخذه ولدًا والناسُ لا يشعرون أنه مُلتَقَط، بل يظنُّون أنَّه وَلَدُنا.
* * *
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى} معطوفٌ على محذوفٍ دلَّ عليه سياقُ الكلام.
{فَارِغًا} : صُفْرًا مِن العقل لِمَا دَهَمها من الخوف والحَيْرةِ حين سمعت وقوعَه في يَدِ آلِ فرعون.
وقيل: مِن الهَمِّ؛ لفرط وثوقها بوعد الله تعالى، ولسماعها أنَّ فرعونَ عَطَف عليه وتبنَّاه.
ويأباه قوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ويردُّه على الثاني قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} .
{إِنْ} مخفَّفةٌ من الثقيلة؛ أي: {كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : لتُظهِر به، والضمير لموسى، والمراد: أمره، والباء صلة.
{لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} الربط على القلب: تقويته بإلهامِ الصبر والثبات.
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : من المصدِّقين بوعدنا، وجواب {لَوْلَا} محذوف؛ أي: لأَبدَتْه.
(11) - {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ؛ أي: اتَّبِعي أثَره؛ أي: أثَرَ الملتقطِينَ له وتتبَّعي خبرَه.
{فَبَصُرَتْ بِهِ} ؛ أي: رَأَتهُ، والفاء فصيحة {عَنْ جُنُبٍ}: عن بُعُدٍ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ؛ أي: آلُ فرعونَ لا يَعلمون أنَّها أختُه.
* * *
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} تحريمَ منعٍ لا تحريمَ شرعٍ؛ أي: مَنَعنا أن يرضعَ ثديًا، والمراضع: جمع مُرْضِع، وهي المرأةُ التي تُرضِع، أو جمع مَرْضَع، وهو موضعُ الرَّضاع بمعنى الثدي، وقيل: أو الرَّضاع، ولا يلائمه الجمع.
{مِنْ قَبْلُ} أنْ رأته أخته.
{فَقَالَتْ} أختُه وقد دخلت دارَ فرعون بين المراضع ورَأَته لا يَقبلُ ثديًا:
{هَلْ أَدُلُّكُمْ} : أُرشدكم {عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ} احترز بذلك
(1)
عن الرِّقِّ ودناءَة الأصل؛ فإنَّهما مَّما يُحتَرز عنه في أمرِ الرضاع.
{يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} بالإرضاع وغيره {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح: إخلاصُ العمل من شائبِ الفساد، وهو نقيض الغِشِّ.
روي: أنَّ هامان لمَّا سمعها
(2)
قال: إنَّها لتعرفُه وأهلَه، خذوها حتى تُخبرَ بحاله.
(1)
في (ك): "أخبرته بذلك احترازًا".
(2)
في النسخ: "سمعه"، والصواب المثبت.
فقالت: إنَّما أردتُ: وهم للمَلِك ناصحونَ، فأمرها فرعونُ بأن تأتيَ بمَن يكفله، فأَتَت بأمِّها وموسى على يدِ فرعونَ يبكي وهو يعلِّله، فلمَّا وجد ريحَ أمِّه استأنسَ والتَقَمَ ثديَها، فقال لها: مَن أنتِ منه، فقد أَبَى كلَّ ثديٍ إلَّا ثديك. قالت: إنِّي امرأةٌ طيِّبةُ الرِّيح طيِّبةُ اللَّبنِ، ما أُوتَى بصبيٍّ إلَّا قبِلني. فدفعه إليها وأَجرى عليها، فرجعت به إلى بيتها مِن يومها وهو قوله:
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بالمُقام معه {وَلَا تَحْزَنَ} بفراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} عِلْمَ مشاهدةٍ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ موعدَه حقٌّ فيرتابون فيه، فيشبه التعريضَ بما فرَط منها حين سمعت بخبرِ موسى.
* * *
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} : مبلغَه الذي لا يزيد عليه نشؤه، وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأقاليم.
{وَاسْتَوَى} : واعتدلَ وتمَّ استحكامُه.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا} : حكمةً {وَعِلْمًا} : فقهًا في الدين قبل أن يُبعَث نبيًّا.
{وَكَذَلِكَ} : ومثلَ ذلك الذي فعلنا بموسى وأمِّه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم.
* * *
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} : مدينةَ فرعون - وهي منف
(1)
- بعد أن غاب عنها
(2)
مدة.
{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} وهو وقتُ القائلةِ، وقيل: ما بين العِشاءَين، ويأباه قوله:{اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ} .
وإنما قال: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} لأنَّ الغفلةَ هي المقصودةُ، فصار هذا كما تقول: جئتُ على غفلةٍ، وإن شئتَ قلتَ: جئتُ على حينِ غفلةٍ، بخلاف ما إذا أضفتَ إلى ما ليس بمقصود، كما إذا قلت: جئتُ حينَ غروب الشمس.
قيل: لمَّا أُوتيَ موسى عليه السلام حكمًا وعلمًا، عابَ ما عليه قومُ فرعون، وفَشَا ذلك منه، فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلَّا خائفًا مستخفيًا.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أحدهما سِبْطيٌّ والآخر قِبْطيٌّ، والإشارة إلى الحكاية، وفي عبارة العدوِّ نوع إشارة إلى ما نقلناه آنفًا.
{فَاسْتَغَاثَهُ} : فسأله أنْ يُغيثه بالإعانة، ولذلك عُدِّيَ بـ (على).
{الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} ، أي: دَفَع صدرَه بجُمْع كفِّه
(1)
بفتح الميم وسكون العين، كذا قال ياقوت، وقال الشهاب الخفاجي في "الحاشية" (7/ 67): بضم الميم، وفتحُها وإن ذكره بعضهم لا يوثق به، والنون ساكنة، وهي ممنوعة من الصرف والمعروف فيها منوف. اهـ. وقال ياقوت: بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، وبينها وبين عين شمس ستة فراسخ. انظر:"معجم البلدان"(5/ 213).
(2)
في النسخ: "عنه"، والصواب المثبت.
{فَقَضَى عَلَيْهِ} : فقتَلَه، أصله: أنهى حياتَه، من قوله:{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66].
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إشارةٌ إلى القتل الحاصل بغيرِ قصدٍ، وإنَّما جعل قتل الكافر مِن عمل الشيطانِ وسمَّاه ظُلْمًا لنفسه واستغفر منه؛ لأنَّه لم يُؤذَن له في القتل، وعن [ابن] جريج: ليس لنبيٍّ أنْ يَقتُلَ ما لم يُؤمَر
(1)
. ولا يَقدح ذلك في عصمته عليه السلام، لكونه خطأ.
{إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} : ظاهر الإضلال، ويلزمه ظهور العداوة بدون العكس.
* * *
(16) - {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقَتْله {فَاغْفِر} ذنبي {فَغَفَرَ لَهُ} باستغفاره {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} لذنوبِ المستغفرين {الرَّحِيمُ} بهم.
* * *
(17) - {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} .
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} قَسَمٌ جوابه محذوف تقديره: أُقسِم بإنعامِك عليَّ من المغفرة وغيره لأتوبنَّ {فَلَنْ أَكُونَ} إنْ عصمتني {ظَهِيرًا} : معينًا {لِلْمُجْرِمِينَ} : الكافرين.
أو استعطاف، كأنه قال: ربِّ اعصِمني بحقِّ ما أنعمتَ عليَّ من المغفرة، فلن أَكون إن عصمتني ظهيرًا للمجرمين.
(1)
انظر: "الكشاف"(1/ 168)، وما بين معكوفتين منه.
وأراد بمظاهرة المجرمين: صحبتُه فرعونَ وانتظامُه في جملته وتكثيرُ سواده، حيثما كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد.
وقيل: أراد: أن لا أُعِينَ بعد هذا سِبطيًّا، وكان يومئذ السِّبط كفَّارًا، ومعنى {مِنْ شِيعَتِهِ}: مِن فرقته المتعصِّبة له نَسَبًا لا دِينًا، قال ابنُ عباس: فلم يَستثن - أي: لم يقل: إن شاء الله - فابتلي ثانيًا
(1)
.
* * *
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} مِن قتل القبطيِّ {يَتَرَقَّبُ} ؛ أي: ينتظر ما يَحدث بعده.
{فَإِذَا الَّذِي} (إذا) للمفاجأة، وما بعده مبتدأ {اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يصيحه مِن بعيد مستغيثًا من قبطيٍّ آخَرَ.
{قَالَ لَهُ مُوسَى} ؛ أي: لذلك السِّبطيِّ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} بيِّن الغواية؛ لأَنَّك تُشارُّ مَن لا تطيقه.
وقيل: لأنك تسبَّبت لقَتْل رجلٍ وتقاتلُ آخَرَ.
* * *
ولا يناسبه: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} لأنَّ تذكُّر موسى عليه السلام تسبُّبه
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 298).
لذلك المحظورِ باعث الإحجام لا باعث الإقدام، وإنَّما زيد (أنْ) للتأكيد والتقوية لمعنى الإرادة، والمقام يقتضيها، وذلك أنَّ إرادةَ البطشِ ليست على حقيقتها؛ لأنَّها لا تصلُح
(1)
لأنْ تكون سببًا للخوف، بل كناية عن بَسْط اليدِ نحو المقصود بالبطش، والتي يَتبعها الفعلُ ويرادفها إنَّما هي الإرادة البالغة إلى حدِّ العزم لا مطلق الإرادة.
{بِالَّذِي} ، أي: بذلك القبطيِّ الذي {هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} : لموسى والسِّبطيِّ.
{قَالَ} السِّبطيُّ لموسى عليه السلام وقد توهَّم أنه أراد أخذَه لا أخذَ القبطيِّ، حيث أَغلظ له في القول:
{يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ} ، أي: ما تريد.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا} الجبَّار فعَّال، مِن جَبَرهُ على الأمرِ بمعنى: أَجبره، وهو الذي يُجبِر الناسَ على ما يريده.
{فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: أرض مصر.
{وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} بينَ الناس فتدفعَ التخاصُمَ بالذي هي أحسن، وكان قَتْل القبطيِّ بالأمسِ قد شاعَ ولكن خَفِيَ قاتلُه، فلمَّا أفشى على موسى عليه السلام عَلِم القبطيُّ أنَّ قاتلَه موسى، فأَخبر مَلَأَ فرعونَ، فهمُّوا بقتله، فخرج مؤمنٌ مِن آلِ فرعونَ وهو ابن عمِّه ليخبره كما قال:
(1)
في (ف): "لا يصح".
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} : يُسرع، صفة لـ {رَجُلٌ} ، أو حالٌ منه إذا جعل من {أَقْصَى الْمَدِينَةِ} صفةً له لا صلةً لي (جاء)؛ لأنَّ تخصيصه بها يُلحِقه بالمعارف.
{يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} : يتشاورونَ بسببِك، وإِنَّما سِّمي التشاورُ ائتماراً؛ لأنَّ كلًّا من المتشاوِرَيْن يأمرُ الآخَرَ وَيأتمرُ.
{فَاخْرُجْ} من المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} اللام للبيان، وليس بصلة لـ {النَّاصِحِينَ} ؛ لأنَّ معمولَ الصلة لا يتقدَّم على الموصول.
* * *
(21) - {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
{فَخَرَجَ مِنْهَا} : من المدينة {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} التعرُّضَ له في الطرق
(1)
، أو أنْ يَلحقه مَن يَطلبه.
{قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : خلِّصني منهم، واحفظني مِن لحوقهم.
* * * *
(22) - {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ} التوجُّه: الإقبالُ على الشيء {تِلْقَاءَ} : قبَالةَ {مَدْيَنَ} قرية شعيب عليه السلام، سُمِّيت باسم مدين بنِ إبراهيم عليه السلام، ولم تكن في سلطان فرعونَ، وكان بينها وبين مصرَ ثمانيةُ أيام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: خرج ولم يكن له علمٌ بالطريق إلَّا حسن ظنِّه بربِّه
(2)
.
(1)
قوله: "في الطرق" سقط من (ي).
(2)
رواه الطبريُّ في "التفسير"(18/ 203).
{قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ؛ أي: وَسَطَه ومُعظَمَ نهجه، فجاءَه ملكٌ فانطلق معه إلى مدين.
* * *
{وَلَمَّا وَرَدَ} وصل {مَاءَ مَدْيَنَ} : ماءَهم الذي يستقون منه، وكان بئرًا.
{وَجَدَ عَلَيْهِ} فوق شَفيرها {أُمَّةً} : جماعةً كثيرة {مِنَ النَّاسِ} إنَّما قال: {مِنَ النَّاسِ} مع أنَّ السقي لا يكون إلَّا منهم؛ تنزيلًا لشأنهم، كأنَّه قيل: كانوا لئامًا لا يستحقُّون إلَّا التعبير باسم الجنس، بل هم في ذلك في درجةٍ احتاجوا إلى بيانِ كونهم من جنسِ الإنس.
{يَسْقُونَ} مواشيَهم.
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} : في مكانٍ أسفلَ مِن مكانهم.
{امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} : تُطرَدان غنمهما
(1)
عن الماء؛ لعَجْزهما عن المزاحمة مع تلك الأمَّة، تركَ المفعول في {يَسْقُونَ} و {تَذُودَانِ} ؛ لأنَّ الغرضَ هو الفعلُ لا المفعولُ، إذ هو يكفي في البَعث على سؤال موسى عليه السلام، وما زاد على المقصود يُعدُّ لُكْنةً وفضولًا، وأمَّا البعث على المرحمة، فليس هذا موضعه، فإنَّ له قولهما:{لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} .
(1)
تحرفت في النسخ إلى: "عنهما"، والصواب المثبت. انظر:"المحرر الوجيز"(4/ 283)، و"تفسير القرطبي"(16/ 257)، و"تفسير النسفي"(2/ 636) والكلام منه.
{قَالَ} موسى عليه السلام: {مَا خَطْبُكُمَا} ؛ أي: ما شأنكما تذودانِ؟ سَأَلهما عن سبب الذَّود، فأَجابا بما مرجعه إلى العَجْز عن المزاحمة، أو الاجتناب عن المخالطة.
ولمَّا اتَّجه أنْ يُقال: خِدمةُ السقي كانت للرجال، فما بالُكم تباشرونها؟ تداركتا الاعتذار عنه بما تقديره: ليس لنا راعٍ وأبونا شيخٌ كبيرٌ، فحذف صدر الكلام الاستئنافي؛ لدلالة الواو الفصيحة في أوَّل الباقي عليه.
{قَالَتَا لَا نَسْقِي} غَنَمَنا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} : يَصرف الرِّعاءُ مواشيَهم عن الماء.
وقرئ: {يَصْدُرَ}
(1)
؛ أي: يَنصَرف.
و {الرِّعَاءُ} : جمع راعٍ، وقرئ:{الرِّعَاءُ} بضمِّ الراء
(2)
، وهو اسمُ جمعٍ كالرُّخال
(3)
.
{وَأَبُونَا} عطف على محذوف بيَّنَّاه آنفًا {شَيْخٌ كَبِيرٌ} في السّنِّ لا يَقدِرُ على السَّقْي والرَّعْي.
* * *
(1)
قرأ بها ابن عامر وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 171).
(2)
انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 112)، ونسبها لبعضهم.
(3)
في (ف) و (ك) و (م): "كالرضاء"، والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 401)، و"تفسير البيضاوي" (4/ 175). والرخال بضم الراء المهملة والخاء المعجمة وفي آخره لام: جمع رَخِلة ورِخلة بكسر الراء، وهي الأنثى من أولاد الضأن. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 69).
{فَسَقَى لَهُمَا} : فسقى غنمهما لأجلهما رغبةً في المعروف وإغاثةً للملهوف، روي أنه كانت هناك بئرٌ أخرى عليها صخرة، فأَقَلَّها وحدَهُ واستقى منها.
{ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} : إلى ظلِّ الشجرة.
{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} يحتاج إلى الطعام.
قيل: كان لم يَذُق طعامًا سبعةَ أيام، وقد لَصقَ ظهرُه ببطنه، قد كان يكفيه: ربِّ إنِّي فقيرٌ، إلَّا أنه قدَّم بيانَ سبب حاجته؛ تمهيدًا للاعتذار عمَّا ارتكبه من مخالفة المعتادِ بالخروج إلى السفرِ البعيد بلا زاد، ومراده مِن النازلة المذكورة ما ابتلاهُ اللّهُ مِن قَتْله القبطيَّ، فإنه كان سببًا لهربه مِن مصرَ بلا تدارُكٍ لعُدَدِ السفر، وإنَّما بيَّنه بقوله:{مِنْ خَيْرٍ} ؛ دَفْعًا لِمَا يتراءى؛ مِن ظاهره التشكِّي، وإنَّما جزم بكونه خيرًا لعِلمه بأنَّ الخيرَ ما اختاره الله تعالى.
* * *
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} الفاءُ فصيحةٌ، روي أنَّهما لمَّا رجعا إلى أبيهما قبل الناس، قال لهما: ما أَعجَلَكما؟! قالتا: وجدنا رجلًا صالحًا رَحِمَنا فسقى لنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادْعِيهِ لي.
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} ؛ أي: مستحيَةً.
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} : ليُكافِئك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} : جزاءَ سَقْيكَ
لنا، روي أنَّها لما قالت:{لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} كَرِهَ ذلك، وإنَّما أجابها لئلَّا يخيِّب قصدها؛ لأنَّ للقاصد حرمةً.
ولمَّا وضع شعيبٌ عليه السلام الطعامَ بين يديه امتنع، فقال شعيب عليه السلام: ألستَ جائعًا؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عِوَضًا ممَّا سقيتُ لهما، وإنَّا أهل بيتٍ لا نبيعُ ديننا بالدنيا، ولا نأخذُ على المعروف ثمنًا، فقال شعيب: هذه عادَتنا مع كلِّ مَن ينزل بنا، فأَكَلَ.
{فَلَمَّا جَاءَهُ} الفاءُ فصيحةٌ، أي: أجابها موسى عليه السلام، فلمَّا جاءَ أباهما {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} القصصُ مصدرٌ كالعَلَل
(1)
سُمِّي به المقصوص.
{قَالَ} له: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إذ لا سلطانَ لفرعونَ بأرضنا.
* * *
(26) - {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} يعني: التي استدعته: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} لرَعْي الغنم {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} : تعليل جامع يَجري مجرى الدليل على أَنَّه حقيقٌ بالاستئجار، وللمبالغة فيه جُعل {خَيْرَ} اسمًا لـ {إِنَّ} ، وذُكر الفعلُ بلفظ الماضي؛ للدلالة على أنَّه مجرَّب معروفٌ.
روي أنَّ شعيبًا عليه السلام قال لها: وما عِلْمك بقوَّته وأمانته؟ فذكَرَت إقلالَ الحَجَرِ، وأنَّه صوَّب رأسَه حتى بلغته، وأمرها بالمشي خَلْفه
(2)
.
(1)
مصدر علَّ، وهو يأتي بمعنى: الشرب ثانيًا، أو الشرب بعد الشرب تباعًا. انظر:"القاموس"(مادة: علل).
(2)
رواه مطولًا الطبري في "تفسيره"(18/ 225) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه: (
…
وأما =
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} : أُزوِّجك {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} لا دلالَة فيه على أنه كانت له غيرهما، إذ يكفي في الحاجة إلى الإشارة عدمُ علم المخاطَب بأنه كانت له غيرهما.
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} : تكون أجيرًا لي، من أَجَرْتُه: إذا كنت له أجيرًا.
{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ظرف، والحِجَّة: السَّنَة؛ لأنَّ في كلِّ سَنَةٍ حِجَّةً، فسَمَّوا بها لتضمُّنها إيَّاها تعظيمًا لها، والمعنى: على أن تجعل أجري إيَّاك على تزويجِ ابنتي رعيَ ماشيتي ثماني سنين، والتزويج على رعي الغنم جائزٌ في شريعتنا أيضًا.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} ؛ أي: عَمَلَ عشرِ حججٍ
(1)
{فَمِنْ عِنْدِكَ} ؛ أي: فذلك تفضُّلٌ منكَ ليس بواجبٍ عليك، أو: فإتمامه مِن عندك، ولا أحتِّمه عليك، ولكن
(2)
إنْ فعلتَهُ فهو منك تفضُّل وتبرُّع.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزام أتمِّ الأجلَيْن، أو المناقشة في مراعاة الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمال، وحقيقةُ: شقَّ عليه الأمرُ: أنَّه إذا تعاظمك فكأنَّه
(3)
شقَّ عليكَ ظنَّك باثنين، تقول تارةً: أطيقه، وطَورًا: لا أطيقه.
= أمانته، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوَّب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلَّغته رسالتك
…
).
(1)
في (ف): "سنين".
(2)
في (ك) و (م): "ولكنه".
(3)
في (م): "فإنه".
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في حُسْن المعاملة والوفاء بالعهد، ويجوز أن يُراد الصلاح على العموم، ويدخل تحت حُسْن المعاملة، والمراد باشتراط مشيئةِ اللّه تعالى فيما وعد مِن الصلاح: الاتِّكالُ على توفيقه تعالى فيه ومعونته.
* * *
{قَالَ} موسى عليه السلام: {ذَلِكَ} مبتدأ، وهو إشارةٌ إلى ما عاهده عليه شعيبٌ عليه السلام، والخبر:{بَيْنِي وَبَيْنَكَ} ، يعني: ذلك الذي قلتَه وعاهَدْتني فيه وشارَطْتني عليه قائمٌ بيننا جميعًا لا يَخرُج كلانا عنه، لا أنا عمَّا شرطتُ، ولا أنتَ عمَّا شرطتَ على نفسك، ثم قال:
{أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ، (أيَّ): نصب بـ {قَضَيْتُ} ، و (ما) زائدة مؤكِّدة لإبهام (أيَّ) وهي شرطيَّة، وجوابها:
{فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ؛ أي: لا تعتدي عليَّ في طلب الزيادة، قال المُبرِّد: قد علم أنه لا عدوانَ عليه في أَتمِّهما، ولكن جَمَعهما ليجعل الأقلَّ كالأتمِّ في الوفاء، كما أنَّ طلب الزيادة على الأتمِّ عدوان، فكذا طلب الزيادة على الأقلِّ (1).
{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ} من المشارطة {وَكِيلٌ} هو مَن وَكَل إليه الأمرَ، وعُدِّيَ بـ {عَلَى} لأنَّه استعمل في موضع الشاهد والرقيب.
* * *
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} قال عليه السلام: قضى أوفاهما، وتزوَّج صغراهما
(1)
.
{وَسَارَ بِأَهْلِهِ} : بامرأته نحو مصرَ {آنَسَ} مرَّ تفسيره.
{مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} : من الجهة التي تلي الطور {نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} : الْبَثُوا مكانَكم {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} مرَّ تفسيره.
{أَوْ جَذْوَةٍ} بفتح الجيم وكسرها وضمها: قطعةٌ غليظةٌ من الحطب كانت رأسُه نارًا أو لم تكن، ولذلك بيَّنه بقوله:
{مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} مرَّ تفسيره.
* * *
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} أتاهُ النداءُ من الشاطئ الأيمنِ لموسى عليه السلام {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} بتكليم اللّهِ تعالى فيها، متَّصل بالشاطئ، أو صلة لـ {نُودِيَ} .
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 407). قال الحافظ في "الكافي الشاف"(ص: 126): أخرجه الطبراني [في "الأوسط"(5430)، والبزار [في "مسنده"(3964)، من طريق عوبد بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد اللّه بن الصامت عن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيَّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أوفاهما وأبرهما"، قال: وسئل: أيَّ المرأتين تزوج؟ قال: "الصغرى منهما"، وعويد ضعيف. ثم ذكر عن ابن مردويه نحوه من حديث أبى هريرة رفعه وقال: وفي إسناده سليمان الشاذكوني وهو ضعيف.
{مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من الشاطئ بدل الاشتمال؛ لأنها كانت نابتةً على الشاطئ.
{أَنْ يَامُوسَى} (أنْ) مفسِّرة أو مخفَّفة من الثقيلة.
{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} هذا يوافق ما في سورة طه والنمل في المقصود، وإن خالفه في اللفظ، لمَّا دَنَا من النار شملته أنوارُ القُدس وأحاطت به جلابيبُ الأُنس، فخاطب بألطفِ خطابٍ، واستدعى منه أحسنَ جواب، فصار بذلك مكلَّمًا شريفًا أُعطيَ ما سأل، وأَمِنَ ممَّا خاف منه
(1)
.
* * *
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} : ونُودي أنْ ألقِ عصاك، فأَلقاها فقلبها اللّهُ تعالى ثعبانًا.
{فَلَمَّا رَآهَا} الفاء فصيحة {تَهْتَزُّ} الاهتزازُ: شدَّة الاضطراب في الحركة {كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} مرَّ تفسيره.
{يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} عن المخاوف.
* * *
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} قال في سورة النمل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [الآية: 12] عطفًا على قوله: {أَلْقِ} ، وترك العطف هنا، كيلا يذهب الوهم إلى عطفه على {أَقَبِلْ} .
(1)
"منه" من (ي).
{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} مرَّ تفسيره.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أريدَ بضمِّ الجناح إليه تجلُّدُه وضبطه نفسَه عند خروج يده بيضاءَ حتى لا يتحرَّز ولا يضطرب من الخوف، استعارةً من هيئة الطائر؛ فإنه إذا خاف نَشَرَ جناحيه وأَرخاهما، وإلَّا فجناحاه مضمومان إليه مشمَّران، فهذا القول هنا بمنزلة قوله:{وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، فيما تقدَّم.
{مِنَ الرَّهْبِ} : مِن أجل الرَّهب، جُعل الرَّهْبُ الذي كان يصيبه سببًا وعلَّة فيما أُمر به من ضمِّ جناحه إليه، والرهب: الخوف مع تحرُّز واضطراب.
{فَذَانِكَ} مخفَّفًا مثنَّى (ذاك)، ومشدَّدًا مثنَّى (ذلك)
(1)
، وإحدى النونين عوض من اللام المحذوفة، والمراد: اليد والعصا.
{بُرْهَانَانِ} : حجَّتان نيِّرتان، وبُرْهان فُعْلانٌ؛ لقولهم: أَبْرَهَ الرجلُ، إذا جاء بالبُرهان، أو: مِن قولهم: بَرِهَ الرجلُ: إذا ابيضَّ، وقيل: فُعْلالٌ، من قولهم: بَرهَنَ.
{مِنْ رَبِّكَ} مرسلًا بهما {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} فكانوا أحقَّاء بأنْ يرسَل إليهم.
* * *
(33) - {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} بها.
* * *
(1)
بالتشديد قراءة أبي عمرو وابن كثير، وباقي السبعة بالتخفيف. انظر:"التيسير"(ص: 171).
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} الرِّدْءُ: العَونُ الذي يَدفع الشَّرَّ عن صاحبه {يُصَدِّقُنِي} ؛ أي: رِدْءًا مصدِّقًا
(1)
، وقرئ بالجزم
(2)
جوابًا لـ (أرسِلْه).
ومعنى تصديقِه موسى عليه السلام: إعانتُه إيَّاه بزيادةِ البيان في مظانَ الجدال إن احتاج ليُثبِت دعواه.
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} تعليلٌ يقوم مقام الجواب المحذوف على قراءة {يُصَدِّقُنِي} بالرفع.
* * *
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} : سنقوِّيك بأخيك، إذ اليد تشتدُّ بشدَّة العَضُد؛ لأنَّه قِوامُ اليد، والجملةُ تَقْوَى بشدَّة اليد على مزاولة الأمور.
{وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} : غلبةً وتسلُّطًا أو حجَّة {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاءٍ أو حِجاجٍ.
{بِآيَاتِنَا} متعلِّق بـ {يَصِلُونَ} ؛ أي: لا يصلونَ إليكما بسبب آياتنا، وتمَّ الكلام، أو بـ {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}؛ أي: تسليطًا بآياتنا، أو بمحذوف؛ أي: اذهبا
(1)
في (م) زيادة: "بها".
(2)
قرأ بالرفع عاصم وحمزة، وباقي السبعة بالجزم. انظر:"التيسير"(ص: 171).
بآياتنا، أو قَسَمٌ جوابه محذوف، وهو: لا يصلون، حُذف لدلالة ما قبله عليه.
أو هو بيانٌ لـ {الْغَالِبُونَ} في قوله: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} لا صلةٌ له، بل للَّذي بيَّنه وهو الغالبون المقدَّر، أو صلةٌ له على أنَّ اللام فيه للتعريف لا بمعنى (الذي)؛ لامتناع تقدُّم الصلة على الموصول، ومعمولُ
(1)
الصلة في حكمها.
* * *
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} : واضحات {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} تَختلقُه لم يُفعَل مِن قَبْلُ مثلُه، أو: سحرٌ تعمله ثم تفتريه على اللّه، أو: سحرٌ موصوفٌ بالافتراء كسائر أنواع السحر.
{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} يعنون السحرَ، أو ادِّعاء النبوَّة.
{فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} حالٌ منصوبة عن (هذا)؛ أي: كائنًا
(2)
في زمانهم، يعني: ما حُدِّثنا بكونه فيهم.
* * *
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} : فيَعلم أنَّه محقٌّ وأنتم مبطِلون،
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "وموضعه معمول". ولم أجد وجها لإقحام كلمة "موضعه".
(2)
في (ف): "كائنان".
وقرئ بغير واو
(1)
؛ لأنَّه قال جوابًا لمقالهم، ووجهُ العطف: أنَّ المرادَ حكايةُ القولين؛ ليوازن الناظر بينهما، فيختبرَ صحيحَهما من الفاسد.
{وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} : العاقبةُ المحمودةُ، فإنَّ المراد بالدار الدنيا، وعاقبتُها الأصليَّة هي الجنة؛ لأنها خُلقت مجازًا إلى الآخرة، والمقصود منها بالذات هو الثواب، والعقاب وإنَّما قصد بالعرض.
{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحُسنِ العاقبة في العُقبى، والإتيان بصيغة الجمع للإيذان بأنَّ جمعَهم لا يُغني.
* * *
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} نفى علمَه بإلهٍ غيرِه دون وجوده، إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم به.
ولمَّا كان الظاهرُ مِن نفي العلم في مقامٍ يقتضي نفيَ الوجود على تقدير ثبوته عند اشتباه الحال، فرَّع عليه الأمرَ ببنائه الصرحَ ليَصعد عليه ويطَّلعَ على حقيقة الحال بقوله:
{فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} قيل: أوَّل مَن اتَّخذ الآجُرَّ فرعونُ، ولذلك أمر باتِّخاذه على وجهٍ يتضمَّن تعليم الصنعة مع ما فيه مِن تعظُّم، ولذلك نادى هامان باسمه بـ {يا} في وسط الكلام بما يُؤمَر به السُّوقة.
(1)
قرأ بها ابن كثير. انظر: "التيسير"(ص: 171).
{فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} الصَّرْح: البناءُ العالي الظاهر، ومنه: التصريح، لشدَّة ظهور المعنى.
{لَعَلِّي أَطَّلِعُ} الطُّلُوع والاطّلاع: الصعود، وتعديتُه بـ (إلى)، وأمَّا تعديته بـ (على) فباعتبار تضمُّنه معنى الإشراف.
{إِلَى إِلَهِ مُوسَى} حَسِبَ أنَّه في مكانٍ كما كان هو فيه.
{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في دعواهُ أنَّ له إلهًا، وأنَّه أرسله إلينا رسولًا، والظَّنُّ هنا ليس بمعناهُ المتعارَف المصطَلح، وهو الاعتقاد الراجح، بل بمعناه اللغويِّ؛ وهو ما لا يكون جازمًا، سواءٌ كان راجحًا أو مرجوحًا أو مساويًا.
* * * *
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} ؛ أي: تعاظموا {فِي الْأَرْضِ} : أرضِ مصرَ {بِغَيْرِ الْحَقِّ} : بالباطل؛ لأنَّه كان بغيرِ استحقاقٍ، فإنّ الاستكبار بالحقِّ للّه تعالى.
{وَظَنُّوَاْ} عبَّر عن اعتقادهم وإن كان جازمًا بالظَّنِّ تحقيرًا له.
{أَنَّهُمْ إِلَيْنَا} : إلى حسابنا وجزائنا {لَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة، وليس هذا بعذرٍ لهم، بل ذمٌّ لهم بالجهل وتركِ التأمُّل في الآيات حتى يعلموا.
* * *
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} أَخْذَ عقوبة {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} من الكلام الفخم
(1)
الذي دلَّ به على عِظَمِ شأنِه، شبَّههم استقلالًا بعددهم وإن كانوا الجَمَّ الغفير بحصَيَات أخَذهنَّ آخِذٌ
(2)
بكفِّه فطرحهنَّ في البحر.
{فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وحذِّر قومَك عن مثلها.
* * *
(41) - {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} .
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} : قدوةً للضلال بالحَمْل على الإضلال.
{يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} : إلى مُوجِبها من الكفر والمعاصي.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} : بدَفْع العذاب عنهم.
* * *
(42) - {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} .
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} : طَردًا عن الرحمة، أو لعنَ اللاعنين، تلعنُهم الملائكةُ والمؤمنون.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} : المطرودين، أو ممَّن قُبِّحَ بسوادِ الوجوه وزُرْقة العيون، و (يوم) ظرفٌ لـ {الْمَقْبُوحِينَ} .
* * *
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "المفحم".
(2)
في (ك): "أحد".
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : التوراةَ {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} قومَ نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام.
{بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} : حالٌ من الكتاب، والبصيرة: نورُ القلب الذي يُبصِر به الرشدَ، كما أنَّ البصرَ نورُ العين الذي يُبصر به، يريد: آتيناهُ التوراةَ أنوارًا للقلوب؛ لأنَّها كانت عمياءَ لا تستبصرُ ولا تَعرف حقًّا مِن باطلٍ.
{وَهُدًى} وإرشادًا إلى الشرائع التي هي على سبيل الحقِّ {وَرَحْمَةً} لأنَّهم لو عملوا بها نالوا رحمةَ اللّه تعالى {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} : ليكونوا على حالٍ يُرجى منهم التذكُّر.
* * * *
{وَمَا كُنْتَ} يا محمَّدُ {بِجَانِبِ} الجبل {الْغَرْبِيِّ} وهو الذي وقع فيه ميقاتُ موسى عليه السلام، فإنَّه كان في شقِّ الغرب مِن مقامه، أو: الجانب الغربي منه على أنه مِن قَبيل إضافةِ الشيءِ إلى صفتِه، كقوله:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109].
{إِذْ قَضَيْنَا} : أَوحينا {إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} الذي أَردنا تعريفَه.
{وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} . للوحي إليه، أو: على الوحي عليه، وهم نقباؤه السبعونَ المختارونَ للميقاتِ، والمراد: الدلالة على أنَّ إخباره عن ذلك مِن قَبيل الإخبار عن المغيَّبات التي لا تُعرَف إلَّا بالوحي، ولذلك استدرك عنه بقوله:
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ؛ أي: ولكنَّا أَوحينا إليكَ لأنَّا أَنشأنا قرونًا مختلفة بعد موسى، فتطاول الأَمَدُ، فحُرِّفت الأخبار، وتغيَّرت الشرائع، واندرست العلوم، فحُذف المستدرَك وأُقيم سببُه مقامه متضمِّنًا لدَفْع ما عسى أنْ يَخطُر بالبالِ مِن احتمالِ أنْ يكون إخبارُه عليه السلام عن ذلك بطريق الأَخْذ من أفواهِ الرجال.
{وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} : مُقيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} : عليه السلام والمؤمنين معه.
{تَتْلُو} : تَقرأُ {عَلَيْهِمْ} تعلُّمًا منهم {آيَاتِنَا} التي فيها قصَّة شعيبٍ عليه السلام وقومِه، و {تَتْلُو} في موضع نصبٍ، خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ مِن الضمير في {ثَاوِيًا} .
{وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إيَّاك، ومُخبرِين لك بها.
* * *
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} موسى أنْ خُذ الكتابَ بقوَّة.
{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ} ؛ أي: ولكنْ عرَّفناك ذلك رحمةً منَّا إظهارًا لنبوَّتك، وقرئت بالرفع
(1)
، على: هذه رحمةٌ.
(1)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 113).
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} : لوقوعِهم في فترةٍ بيَنك وبين خالد ابنِ سِنان القيسيِّ عليه السلام
(1)
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} : يتَّعظون.
* * *
{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} : عقوبةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي، ولمَّا كان اكثرُ الأعمال تزاوَلُ بالأيدي، نُسبت الأعمالُ إليها وإن كان من أعمال القلوب؛ تغليبًا للأكثر على الأقلِّ.
{فَيَقُولُوا} عند العذاب: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} .
(لولا) الأولى امتناعيَّة، وجوابها محذوف، والثانية تحضيضيَّة، والفاء الأولى
(1)
كذا جزم المؤلف به، وفيه نظر، فقد ورد ذكره نبوته في حديث ضعيف رواه البزار (2361 - كشف)، والطبراني في "الكبير"(12250) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مع ضعفه مخالف لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عيسى:"ليس بيني وبينه نبي"، رواه البخاري (3442)، ومسلم (2365). وقال الآلوسي في "روح المعاني" (21/ 128): وأما العرب غير المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم، بل لم يرسل إليهم نبي مطلقًا، وموسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لها:"مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه" ونحوُه من الأخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال، وفي شروح "الشفاء" و"الإصابة" للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك). قلت: والحديث الذي ذكره من مجيء ابنته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قدمنا في أول التعليق تخريجه وتضعيفه.
للعطف، والثانية جوابُ (لولا)، لكونها في حكم الأمر، إذ الأمرُ باعثٌ على الفعل، والباعث والمخصِّص من وادٍ واحدٍ، والفاء تدخل في جواب الأمرِ، والمعنى: لولا قولُهم إذا أَصابَتْهم عقوبتُهم
(1)
بسبب كفرِهم ومعاصيهم: ربَّنا هلَّا أَرسلت إلينا رسولًا يبلِّغنا آياتِكَ فنتَّبعَها ونكونَ مِن المصدقين، ما أرسلناك، أي: إنَّما أرسلناك قطعًا لعذرهم وإلزامًا للحُجَّة عليهم.
فإن قلتَ: كيف استقامَ هذا المعنى، وقد جعلت العقوبةُ هي السببَ في الإرسالِ لا القولُ لدخول
(2)
(لولا) الامتناعيَّة عليها دونه؟
قلت: القول هو المقصود بأنْ يكونَ سببًا للإرسال، والعقوبة لمَّا كانت سببًا للقول وكان وجودُه بوجودها، جُعلت العقوبةُ كأنَّها سببُ الإرسال، فأُدخلت عليها (لولا)، وجِيءَ بالقول معطوفًا عليها بالفاء المعطيةِ معنى السببية المنبِّهةِ على أنَّ القولَ هو المقصودُ بأنْ يكون سببًا بانتفاء ما يُجاب به، وأنَّه لا يَصدُر عنهم حتى تُلجئهم العقوبة.
{فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} أراد بالآياتِ: المعجزاتِ، وباتِّباعها: العملَ بموجَبِ دلالتها، فقوله:
{وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: مِن المصدِّقين برسلك كالتفصيل له.
* * *
(1)
في (م): "عقوبة".
(2)
في (ك): "بدخول".
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} ؛ أي: القرآنُ، أو الرسولُ المصدَّق بالكتاب المُعجِز {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ}: هلَّا أُعطيَ {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من الكتاب المنزل جملةً واحدةً، أو من الآيات كاليد والعصا.
{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} يعني: أبناءَ جنسِهم ومَن مذهبُهم مذهبَهم، وعنادُهم عنادَهم، وهم الكَفَرةُ في زمن موسى عليه السلام {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}: مِن قَبل هذا القول.
{قَالُوا سِحْرَانِ} يعني: موسى ومحمَّدًا عليهما السلام {تَظَاهَرَا} تعاونا بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين، وقرئ:{سِحْرَانِ}
(1)
؛ أي: التوراةُ والقرآن، وإسناد تظاهرهما إليهما دلالةٌ على سبب الإعجاز.
{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ؛ أي: بكلٍّ منهما، أو: بكلّ الأنبياء عليهم السلام.
* * *
{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ؛ أي: فإذا كذَّبتم يا معشرَ العرب بهذين الكتابَيْن، فَأْتوا بكتابٍ مِن عند اللّه {هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} ممَّا أُنزل على موسى وعليَّ
(2)
، وإضمارهما لدلالة المعنى.
{أَتَّبِعْهُ} جواب {فَأْتُوا} .
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّهما سحران مختلَقان لا هدايةَ فيهما، وهذا من الشروط التي يُراد بها الإلزامُ والتبكيتُ، وفي مجيء حرف الشَّكِّ نوعُ تهكُّم بهم.
(1)
قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي، وباقي السبعة:{ساحران} . انظر: "التيسير"(ص: 172).
(2)
في (ف): "على موسى ومحمد عليهما السلام".
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} ؛ أي: الإتيانَ بالكتاب الأهدى، فحذف المفعول للعلم به، وهذا الحذف شائعٌ عند ذِكْر الداعي، وتعديتُه إليه باللام، وإلى الدعاء بنفسه، وأمَّا قولُ الشاعر:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاك مُجِيْبُ
(1)
فمعناه: فَلَم يَستجب دعاءَهُ، على حذف المضاف، فلا تعديةَ فيه إلى الداعي.
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إذ لو اتَّبعوا حُجَّةً لأَتَوا بها.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} : استفهامٌ بمعنى النفي.
{بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} في موضع الحالِ؛ للتأكيد أو للتقييد؛ لأنَّ هوى النفس قد يوافق الحقَّ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسَهم.
* * *
(51) - {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} التوصيل: تكثيرُ الو صل وتكرُّره، يعني أنَّ القرآن أتاهم متتابعًا في الإنزال ليتَّصل التذكُّر، أو في النظم لتتقرَّر الدَّعوةُ بالحجَّة والمواعظُ بالمواعيد والنصائحُ بالعِبَر.
(1)
البيت لكعب بن سعد الغنوي، وهو في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (1/ 67 و 112 و 245 و 326) و (2/ 107)، و"الحماسة البصرية"(1/ 234)، و"خزانة الأدب"(10/ 436)، وصدره:
وداع دعا يا مَن يُجيبُ إلى النَّدى
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيفلحوا.
* * *
(52) - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} .
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} : مِن قَبْل القرآن، وخبر {الَّذِينَ}:{هُمْ بِهِ} : بالقرآن {يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهلِ الكتاب.
* * *
{وَإِذَا يُتْلَى} القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ} ؛ أي: بأنَّه كلام اللّه تعالى {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} : استئنافٌ لبيانِ ما أَوجبنا إيمانهم به.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} مِن قَبْل نزولِ القرآن {مُسْلِمِينَ} : كائنين على دينِ الإسلام، مؤمنينَ بمحمَّد عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {إِنَّهُ} تعليلٌ للإيمان به؛ لأنَّ كونه حقًّا مِن اللّه، حقيقٌ بأنْ يُؤمَن به، وقوله:{إِنَّ} بيانٌ لقوله: آمنَّا؛ لأنَّه يَحتمل أن يكون إيمانًا قريبَ العهد وبعيدَهُ، فأَخبروا أنَّ إيمانَهم به متقادِمٌ.
* * *
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} مرَّةً على إيمانهم بكتابهم، ومرَّةً على إيمانهم بالقرآن.
{بِمَا صَبَرُوا} : بصبرِهم على الإيمان بالقرآن قَبْلَ نزولِهِ وبعد نزولِه، أو بصبرِهم على أذى المشركين وأهلِ الكتاب.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} يدفعون بالطاعة المعصيةَ، لقوله عليه الصلاة والسلام:"أَتْبِع الحسنةَ السَّيِّئة تَمْحُها"
(1)
.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سبيل الخير.
* * *
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} تكرُّمًا {وَقَالُوا} للَّاغين: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} متاركةً لهم وتوديعًا، ودعاءً لهم بالسلامة عمّا هم فيه.
{لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} : لا نطلب صُحبتهم ولا نريدها.
* * *
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} : لا تَقدِرُ على أنْ تنوِّر قلبَ مَن أحببتَ بنور الهداية، فإنَّك شفيعُ الجناية لا شريكُ الهداية.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} لقد أصاب كلّ مِن عبارتي الحبِّ والمشيئةِ محزَّها.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في "المسند"(21988)، من حديث معاذ رضي الله عنه.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} : بالمستعدِّين لذلك، قال الزجَّاج: أَجمعَ المفسِّرون على أنَّها نزلت في أبي طالب وإن كانت الصيغةُ عامَّةً
(1)
.
* * *
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} ؛ أي: وقالوا: يا محمَّد، إنْ نتَّبعِ الهدى فنكونَ معك، أو نتَّبعِ الهدى الذي معك، وهو القرآن.
{نُتَخَطَّفْ} التخطُّف: الاستلابُ بسرعة.
{مِنْ أَرْضِنَا} ؛ أي: نُخرَج منها في الحال.
وهو تعلُّلٌ فاسدٌ منهم تعلَّقوا به عند عجزهم عن معارضته، فردَّ اللهُ عليهم بقوله:
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} ؛ أي: أَلم نَدفع عنهم شَرَّ العرب ولم نُمكِّن لهم {حَرَمًا آمِنًا} ؛ أي: أَلم نَجعل مكانَهم في حرمٍ ذا أمنٍ لا يُسبَونَ فيه ولا يُغار عليهم، ولا يُتعرَّض لهم بمكروهٍ.
ثمَّ هذا الحرمُ في موضعٍ لا ضرعَ فيه ولا زرعَ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ؛ أي: يُجمَع ويُجلَب إليه مِن كلِّ شيء أَرفعُه وأَنفعه، كما يقال: ثمرة الكلام، ومعنى الكليَّةِ: الكثرةُ، كقوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23].
(1)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 149)، وحديث نزولها في أبي طالب رواه مسلم (25/ 42)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
{رِزْقًا} مصدر؛ لأنَّ معنى {يُجْبَى إِلَيْهِ} : يُرزَق، أو مفعولٌ له، أو حالٌ من الثمرات إن كان بمعنى: مرزوقًا، لتخصيصها بالإضافة، كما ينتصب عن النكرة المتخصِّصة بالصفة.
{مِنْ لَدُنَّا} ؛ أي: تفضُّلًا منَّا، فإذا كان حالُهم وهم عبدةُ الأصنام هكذا، فكيف يعرِّضهم للتخوُّف والتخطُّف إذا ضمُّوا إلى حرمةِ البيت حرمةَ التوحيد؟
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : جَهَلة لا يتفطَّنون له ولا يتفكَّرون ليعلموا، وقيل: متعلِّق بقوله: {مِنْ لَدُنَّا} ؛ أي: قليل منهم يُقرُّون بأنَّ ذلكٌ رزقٌ مِن عند اللّه، إذ لو علموا أنَّه مِن عند اللّه لعلموا أنَّ الخوفَ والأمنَ أيضًا مِن عند اللّه.
ثم بيَّن أنَّ الأمر بالعكس بأنَّهم أحقَّاءُ بأن يخافوا مِن بأس ما هم عليه بقوله:
* * *
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} : وكم مِن أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِهم في الأمن وخَفْضِ العيش حتى أَشِروا، فدمَّر اللّهُ عليهم، وخرَّب ديارهم.
و (كم) نصبٌ بـ {أَهْلَكْنَا} ، و {مَعِيشَتَهَا} بحذف الجارِّ وإيصالِ الفعل، أو بجعلها ظرفًا بنفسه، كقولك
(1)
: زيد ظنِّي مقيمٌ، أو بتقدير ظرفِ الزمان المضاف، أصله: بَطِرَت أيَّامَ معيشتِها، أو: مفعولٌ على تضمين {بَطِرَتْ} معنى: كَفَرت.
والبَطَر: سوءُ احتمال الغنى، وهو أنْ لا يحفظ حقُّ اللّه فيه.
(1)
كتب تحتها في (ك): "أي: في ظني".
{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} : منازلهم باقيةَ الآثار تُشاهدونها في الأسفار.
{لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} حالٌ، والعامل فيه الإشارة.
{إِلَّا قَلِيلًا} مِن السُّكنى؛ أي: لم يَسكنها إلَّا المسافر ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة.
{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} لتلك المساكن مِن ساكنيها؛ أي: لا يملك التصرُّف فيها غيرُنا.
* * *
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} ؛ أي: ليس في عادته أنْ يُهلك القرى {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} : في أصلها وقصَبتها
(1)
التي هي أعمالُها؛ لأن أهلها تكون أفطنَ
(2)
وأنبلَ {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} لإلزام الحجَّة وقَطْع المعذرة.
أو: ما كان في حكم اللّه وسابِقِ قضائه أنْ يُهلِك قرى الأرض حتى يَبعث في أمِّ القرى - يعني: مكَّة - رسولًا، وهو محمَّد عليه الصلاة والسلام.
والظاهر المناسب لعبارة {وما كان ربك} هو الأول.
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} بتكذيب الرسل والعتوِّ في الكفر.
* * *
(1)
في (ك): "قصبها". وفي (م): "وقضاياها".
(2)
في (ف): "أفضل".
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في محلِّ النصب على الحال، وذو الحال الضميرُ العائد من الصلة إلى الموصول؛ أي: وما أُوتيتموه كائنًا من شيء {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} ؛ أي: وأيَّ شيء أَصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلَّا تمتُّعٌ وزينةٌ أيامًا قلائلَ وهي مدَّة الحياة الفانية.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} وهو ثوابه {خَيْرٌ} هو في نفسه مِن ذلك؛ لأنَّه لذَّة خالصةٌ وبهجة كاملة {وَأَبْقَى} لأنَّه دائمٌ لا ينقطع.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنَّ الباقيَ خيرٌ مِن الفاني فتستبدلونه به، وقرئ بالياء التحتانية
(1)
، وهو أبلغ في الوعظ
(2)
.
* * *
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} : وعدًا بالجنة؛ فإنَّ حُسْنَ الوعد بحُسْن الموعود.
{فَهُوَ لَاقِيهِ} : مُدرِكه لا محالةَ؛ لعدم الخُلْف في وعده.
{كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الذي هو مشوبٌ بالآلام، مكدَّر بالمتاعب، مستعقِبٌ للتحسُّر على الانقطاع.
{ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} للحساب أو العذاب.
(1)
قرأ بها أبو عمرو. انظر: "التيسير"(172).
(2)
لإشعاره بأنهم لعدم عقلهم لا يصلحون للخطاب. انظر: "حاشية الشهاب". (7/ 81).
والفاء الأولى لترتيب الإنكار المستفاد مِن الاستفهام، المعنى: أنَّه لمَّا ذكر التفاوت بين متاعِ الحياة الدنيا وما عنده، عقَّبه بقوله:{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} ؛ أي: أَبعدَ هذا التفاوتِ الجَليِّ يسوَّى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟
والفاء الثانية للتسبيب؛ لأنَّ لقاءَ الموعود مسبَّب مِن الوعد.
و {ثُمَّ} لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع.
وقرئ: {ثُمَّ هْو} بسكون الهاء
(1)
؛ تشبيهًا للمنفصل بالمتَّصل.
* * *
(62) - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} نداءَ توبيخٍ، وهو
(2)
عطفٌ على يوم القيامة، أو منصوب بـ: اذكُر.
{فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ؛ أي: تزعمونهم شركائي، فحُذف المفعولان لدلالة الكلام، ويجوز حذفهما في باب: ظننت، وإنْ لم يَجز الاقتصارُ على أحدهما.
* * *
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ؛ أي: وجب مقتضاه وثبت، وهو قوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وغيرُه مِن آياتِ الوعيد:
(1)
قرأ بها الكسائي وقالون. انظر: "التيسير"(ص: 72).
(2)
في (م): "وهذا".
{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ} مبتدأ، {الَّذِينَ} صفةٌ له، و {أَغْوَيْنَا} صلة لـ {الَّذِينَ} ، والعائد محذوف تقديره: أغويناهم.
و {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبرٌ المبتدأ، وتقيَّد بقوله:{كَمَا غَوَيْنَا}
(1)
فاستفيد مِن الخبر ما لم يُستفد مِن الصلة، والكاف في {كَمَا غَوَيْنَا} صفة مصدر محذوف تقديره: أغويناهم فغَوَوا غيًّا مثل ما غَوَينا، يَعنُون: أنَّا لم نَغْوَ إلا باختيارِنا، فهؤلاء كذلك غَوَوا باختيارهم؛ لأنَّ إغواءَنا لهم لم يكن إلَّا وسوسًة وتسويلًا، فلا فرقَ إذًا بين غيِّنا وغيِّهم، فإنَّ تسويلنا وإنْ كان داعيًا إلى الكفر، فقد كان في مقابَلته دعاء اللّهِ لهم إلى الإيمان؛ بما وضع فيهم مِن أدلَّة العقل، وما بعثَ إليهم مِن الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، فهو كقوله:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إلى قوله {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].
ويجوز أن يكون {هَؤُلَاءِ} مبتدأً، و {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} خبر المبتدأ، و {أَغْوَيْنَاهُمْ} استئنافُ إخبار مقيَّدًا بقوله:{غَوَيْنَا} .
{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم ممَّا اختاروا مِن الكفر {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} بل يعبدون أهواءَهم ويُطيعون شهواتهم، وإخلاء الجملتين مِن العاطف لكونهما مقدَّرتين بمعنى الجملة الأولى.
* * *
{وَقِيْلَ} للمشركين: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ؛ أي: آلهتكم لتخلِّصكم مِن العذاب.
(1)
في النسخ: "كما أغوينا"، والصواب المثبت. وكلمة:"وتقيد" سقطت من (ف) و (ك) و (م)، ووقعت في (ع) و (ي):"ويقيد"، والمثبت هو الأنسب بسياق الكلام.
{فَدَعَوْهُمْ} لا لفرط الحيرة، بل لضرورة الامتثال.
{فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لا لعجزهم عن الإجابة، إذ يومئذٍ يَنطقُ كلُّ شيء؛ بل لعجزِهم عن الاستجابة
(1)
.
{وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الضمير للتابع والمتبوع {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} جوابُ {لَوْ} محذوف؛ أي: لَمَا رأوا العذاب.
* * *
(65) - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} .
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} عطف على الأول، فإنه تعالى يسأل أولًا عن إشراكهم به، ثم عن تكذيبهم الأنبياءَ عليهم السلام.
{فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} الذين أُرسلوا إليكم.
* * *
(66) - {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} .
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} ؛ أي: خَفِيَ عليهم الأخبار والأعذار خفاءً لا يُرجى زواله، فلم يستطيعوا أنْ يُجيبوا بما فيه نجاةٌ لهم، وأتى بلفظ الماضي لتحقُّق وقوعه.
{فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} : لا يَسأل بعضُهم بعضًا عن العذرِ
(2)
والجوابِ؛ رجاءَ أنْ
(1)
في هامش (ف): "من هنا ظهر وجه حسن الاستعارة المذكورة، ومن خفي عليه هذا زعم أنه من قبيل عكس الكل للمبالغة".
(2)
في (ف): "العذاب".
يكون عنده ما ليسَ عند نفسِه؛ لأنَّهم يتساوون في العَجْز عن ذلك بالسبب المذكور - على ما أفصح عنه الفاءُ التفريعيَّة - لا لفَرْط
(1)
الدَّهْشة كما تُوهِّم.
* * *
(67) - {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} .
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ} من الشرك، و (أمَّا) هذه للإشعار بزيادة اعتناء بشأن ما دخلت عليه فيما سيقَ له الكلامُ، كقوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] وتصديره بالفاء؛ لتفريعه على ما أُقيم مقام قَسيمه.
{وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} : وجمعَ بين الإيمان والعمل الصالح.
{فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} يومئذٍ، و (عسى) مِن الكرام تحقيقٌ، لا ترجٍّ مِن التائب بمعنى: فلْيتوقَّع أنْ يفلح.
* * *
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} : المشيئة تُجامِع الإيجابَ بالذات دون الاختيار، ففيه تنصيص للرَّدِّ على الفلاسفة، كما أنَّ في إثبات المشيئة تنصيصًا للرَّدِّ على مَن زعم أنَّه تعالى يقتضي العالَم اقتضاءَ النار للإحراق
(2)
.
(1)
في النسخ عدا (ك): "بفرط"، والمثبت من (ك). انظر:"تفسير البيضاوي"(4/ 183)، و"تفسير أبي السعود"(7/ 82).
(2)
انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 83)، وفيه:"مقتضٍ للعالم" بدل: "يقتضي العالم".
{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ترك العاطف لأنَّه تقريرٌ لِمَا قبله، فإنَّ معنى {وَيَخْتَارُ}؛ أي: يدخل تحت تكوينه كلُّ ما تعلَّق به اختياره، ويلزمه أن لا يكون لاختيارِ الغيرِ تأثيرٌ، وإلَّا لجاز أنْ لا يدخُل بعضُ ما اختاره اللّهُ تعالى تحت تكوينه.
والخيَرة: مِن التخيُّر، يُستعمل بمعنى المصدر، كالطِّيَرة بمعنى التَّطيُّر؛ أي: ليس لأحدٍ مِن خلقه أنْ يختارَ عليه.
{سُبْحَانَ اللَّهِ} : تنزيهًا له أن يُزاحِم اختيارُ أحدٍ اختيارَه.
{وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ أي
(1)
: اللّه تعالى برئٌ من إشراكهم.
* * *
(69) - {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} .
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} يقال: أكننتُ الشيءَ في صدري
(2)
؛ أي: أَخفيتُه، أسند الإخفاء إلى الصدور مبالغةً.
{وَمَا يُعْلِنُونَ} ؛ أي: يعلم ما أَضمروه؛ كعداوةِ رسولِ اللّه عليه الصلاة والسلام وحسدِه، وما أَظهروه كمطاعنهم فيه.
* * *
{وَهُوَ اللَّهُ} : الذات المستحقُّ للعبادة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا معبودَ يستحقُّها إلَّا هو، ترك العاطف لأنَّه تقريرٌ لِمَا قبله.
(1)
في (م): "إن".
(2)
قوله: "في صدري" ليس في (ف) و (م).
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} الاختصاص المستفاد مِن تقديم الظرف باعتبار المجموع، فإنَّ الحمدَ في الدنيا وإن شاركه - تعالى - فيه غيرُه، فإنَّ المستحِقَّ للحمد لا يَلزم أن يكون مُوليًا للنِّعم، لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلَّا له.
{وَلَهُ الْحُكْمُ} بالقضاء النافذ في كلِّ شيء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعث والنشور.
* * *
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} ؛ أي: أخبروني {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ} إنَّما قال: {عَلَيْكُمُ} لأنَّ النفعَ إنَّما هو في تقلُّب
(1)
المَلَوَيْن، فأيٌّ منهما استمرَّ يَنقلب نفعُه ضرًّا.
{اللَّيْلَ سَرْمَدًا} ؛ أي: دائمًا، مِن السَّرد وهو المتابعة، ومنه قولهم في الأشهر الحُرُم: ثلاثة سردٌ وواحدٌ فردٌ، والميم مزيدة، ووزنه: فَعْلٌ.
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بالكسوف، أو بإسكان الشمسِ تحت الأرض.
{مَنْ إِلَهٌ} كان حقُّه: هل إلهٌ؟ فذكر {مَنْ} على زعمهم أنَّ غيرَه آلهةٌ.
{غَيْرُ اللَّهِ} صفةُ {إِلَهٌ} .
{يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} إنَّما قال: {بِضِيَاءٍ} و ولم يقل: بنهار، كما قال في قرينِه الآتي:{بِلَيْلٍ} لأنَّ النهارَ لا يَلزمه الضياءُ، على ما نبَّهت عليه آنفًا، والنَّفعُ إنَّما هو بوجود الضياء فيه، فإنه لو خَلَا عنه لانقلبَ نفعُه ضررًا، حتى قالوا: إنَّ الكسوفَ ساعةً يكون سببًا لبعض الآفاتِ مِن الزلازل وغيرها، بخلاف الليل؛ فإنَّه لا يَخلو عن النفع المذكور، مُظلمًا كان أو مستنيرًا.
(1)
في (ف): "لتقلب".
ولمَّا كان مبنى ما ذكر ممَّا لا يقف عليه عوامُّ الأنامِ إلَّا بالسماع عن الخواصِّ، قال هنا:{أَفَلَا تَسْمَعُونَ} ومَن ذَكَر أنَّ ذِكْرَ السماع هنا لكثرة منفعة الضياء، فقد أَبْعَدَ.
* * *
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا} أخَّر أمر النهار عن أمر الليل لأنَّه أصلٌ والنهارَ عارضٌ.
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بإسكان الشمس فوق الأفق، أو بتحريك كُرَةِ الأرض على وَفْقِ حركتها، وإنَّما كان الفساد في إدامة النهار في دار التكليف ولم يكن في دار النعيم؛ لأنَّ دار التكليف لا بُدَّ فيها مِن التَّعَب والنَّصَب الذي يُحتاج معه إلى الجَمَام والراحة، وليس كذلك دار النعيم.
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} : استراحةً عن متاعب الأشغال، وإنَّما تعرَّض لوصف الليل دون الضياء؛ لأنَّه نعمة في ذاته مقصودةٌ بنفسه، ولا كذلك الليل.
ولمَّا كان ما ذُكر ممَّا يقف
(1)
عليه كلُّ مَن له بَصَرٌ، ولا يتوقَّف على أمرٍ آخَرَ، قال هنا:{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
* * *
(1)
في (ك): "يتوقف".
و (مِن) في قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} للسبب.
{جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ؛ أي: خَلَقهما لأجْلكم {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ؛ أي: في الليل، وللتنبيهِ على انفرادِ كلٍّ مِن المنفعتين في علِّيَّة كلِّ
(1)
واحد منهما على التوزيع، أُعيد اللامُ في قوله:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} وإنَّما حذف اكتفاءً بما ذكر في قرينِه، فيكون مِن باب اللَّفِّ والنَّشْرِ على الترتيب.
وفي التعبير بالابتغاء عن كسب العبدِ إشارةٌ إلى أنَّه لا مزيدَ له على معنى الطلب، ففيه نفيٌ للتأثير مِن جهته، كما أنَّ في قوله:{مِنْ فَضْلِهِ} نفيًا للإيجاب منه تعالى والوجوبِ عليه.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : ولكي تعرفوا نعمةَ اللّهِ في ذلك فتَشكروه عليها، تعليلٌ اَخرُ للجعل المذكور، ولذلك صدَّره بأداة العطف.
* * *
(74) - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} كرَّر التوبيخ باتخاذ الشركاء ليُؤذِن بأنَّه لا شيءَ لغضب اللّه تعالى أَجلبُ مِن الإشراك به، كما لا شيءَ أَدخلُ في مرضاته من توحيده.
* * *
(1)
"كل" من (ك) و (م)، وليست في باقي النسخ.
{وَنَزَعْنَا} : أَخرجنا وأَحضرنا، يقال: فلانٌ نَزَعَ إلى وطنه؛ أي: يَحِنُّ إليه حنينًا يُطالبه بالخروج إليه.
{مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} مِن الأمم الضالَّة؛ بدليل سياق الكلام ولَحاقه.
{شَهِيدًا} : شاهدًا عليهم بما أَجابوا به رسلَهم، كما قال:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]، وقال:{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69]، وهذا صريحٌ في أنَّهم غيرُ الأنبياء.
{فَقُلْنَا} لتلك الأمم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حُجَّتكم على صحَّة ما كنتم تدينونَ به.
{فَعَلِمُوا} حينئذٍ {أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} في الإلهيَّة لا يُشاركه فيها أحدٌ {وَضَلَّ عَنْهُمْ} : وغاب عنهُمْ غيبةَ الشيءِ الضائع {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} مِن أُلوهيَّة غيرِ اللّه تعالى والشفاعةِ لهم.
* * *
{إِنَّ قَارُونَ} : لا ينصرف للعَلَمية والعُجْمة، ولو كان (فاعولًا) مِن قرنتُ الشيءَ لانْصَرفَ.
{كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} : كان ابنَ عمِّ موسى عليه السلام.
{فَبَغَى} : تفريع على مقدَّرٍ يدلُّ إجمالًا على غناهُ المفرِطِ، على ما يُفصِح عنه التفصيلُ الآتي ذِكْرُه، فالفاءُ فصيحةٌ، والبَغْي: طَلَب العلوِّ بغير حقٍّ، ومنه قيل لوُلاةِ الجَورِ: بغاةٌ.
{عَلَيْهِمْ} : روي أنَّه قال لموسى عليه السلام: لكَ الرسالةُ ولهارونَ الحبورةُ
(1)
، وأنا في غير شيء، إلى متى أصبر؟!
{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} : مِن الأموال المدَّخرة {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} {مَا} بمعنى (الذي) في موضع نصبٍ بـ {آتَيْنَا} و {إِنَّ} واسمُها وخبرُها صلةُ {الَّذِي} ، ولهذا كُسرت {إِنَّ} .
والمفاتح: جمع مِفْتَح - بالكسر - وهو ما يُفتَح به بيتُ المال أو الصندوقُ.
{لَتَنُوءُ} يقال: ناءَ يَنوءُ نَوءًا؛ أي: حملَ على ثقلٍ ونهضَ به على مشقَّة حتى مالَ تحتَهُ، وهو لازمٌ، وصار هنا متعدِّيًا بالباء الذي في قوله:
{بِالْعُصْبَةِ} : وهي الجماعة الكثيرة {أُولِي الْقُوَّةِ} : الشِّدَّة.
وقرئ: لينوء بالياء
(2)
، على إعطاءِ المضاف حكمَ المضاف إليه.
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} منصوب بـ (بغى)، وما بينهما اعتراضٌ في مَعرض التعليل لبَغْيه، لا بـ (تنوء)، إذ لا وجهَ لتخصيصه بذلك الوقت:
{لَا تَفْرَحْ} أُريد بالفرح هنا: المرح الذي يُخرِج إلى الأَشَرِ وهو البَطَر، ولذلك قال:
(1)
تحرفت في (ف) إلى: "الحروب ". والحبورة بضم الحاء المهملة والباء الموحدة: مصدر حبر الرجل: إذًا صار حبرًا؛ أي: إماما مقتدى. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 85).
(2)
نسبت لبديل بن ميسرة. انظر: "المحتسب"(2/ 153).
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} لأنَّه إذا أَطلق صفة الفَرَح فهو الخارج بالمرح إلى البَطَر، فأمَّا قوله:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] فحَسُن بهذا التقييد
(1)
.
* * *
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} مِن الغنى {الدَّارَ الْآخِرَةَ} بصَرْفه فيما يوجبُها لك.
{وَلَا تَنْسَ} : ولا تترك تَرْك المنسيِّ {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ؛ أي: خُذْ مع هذا مِن دنياك ما لا بُدَّ لك منه في معاشِك فإنك غيرُ مَلوم على ذلك، فهو كقوله تعالى:{وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].
{وَأَحْسِنْ} إلى عباد اللّه تعالى {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} فيما وسَّع عليك وبَسَط لك.
{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} : بالبغي والظلم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بل يُبغِضهم، والاكتفاء بنفي حبِّه تعالى منهم للتنبيه على أنَّ هذا القَدْر يكفي في انزجارِ العاقل عن الفساد.
* * *
(1)
في (ك): "القيد".
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} ؛ أي: المالَ {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ؛ أي: على استحقاقٍ لِمَا ديَّ مِن العلم الذي فَضَلتُ به الناس؛ وهو علم التوراة، أو علم الكيمياء، أو العلمُ بوجوهِ المكاسب؛ مِن التجارة والزراعة.
و {عِنْدِي} صفةُ لـ {عِلْمٍ} ، وزيادتُه لإفادته معنى الاختصاص له.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للمالِ، أو: أكثر جماعةً وعددًا، تعجُّب
(1)
وتوبيخ على اغتراره بقوَّته وكثرةِ ماله مع علمه بذلك
(2)
؛ لأنَّه قَرَأه في التوراة، أو سمعه مِن حفَّاظ التواريخ، والواو للعطف على مقدَّر؛ أي: أَلم يَقرأ في التوراة، أو: أَلم يَسمع مِن الحفَّاظ، ولم يعلم .... إلخ، أو: ردٌّ لادِّعائه العلم وتعظُّمه [به]
(3)
بنفي العلمِ المهمِّ عنه؛ أي: أَعنده مثلُ ذلك العلمِ الذي ادَّعى ولم يعلم هذا حتى يقيَ نفسَه مصارعَ الهالكين؟!
{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} سؤالَ استعلامٍ، فإنَّه تعالى مطَّلع عليها، أو معاتبةٍ؛ فإنَّهم يُعذَّبون بها بغتةً، كأنَّه لمَّا هَدَّدَ بذِكْر إهلاكِ مَن قبله ممَّن كانوا أقوى منه وأَعتى، أكَّد ذلك بأنْ بيَّن أنَّه لم يكن مما
(4)
يخصُّهم، بل اللّهُ مطَّلعٌ على ذنوب المجرمين كلِّهم يُعاقبهم عليها لا محالة.
* * *
(1)
كذا في النسخ، والأولى أن يقال:(تعجيب). انظر: "تفسير البيضاوي" مع حاشية القونوي (14/ 574). والمعنى: تعجيب للسامعين، فإن التعجب لا ينسب لله سبحانه وتعالى.
(2)
أي: بالإهلاك. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 87).
(3)
من "تفسير البيضاوي"(4/ 185)، ووقع في النسخ:"وتعظيمه"، والمثبت من المصدر المذكور.
(4)
في النسخ: "ما"، والصواب المثبت. انظر:"حاشية القونوي على البيضاوي"(14/ 575).
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} معطوفٌ على محذوفٍ دلَّ عليه مساقُ الكلام مِن عدم تنصُّحه لِمَا قيل له، وإظهارِ أسباب البَطَر، فالفاء فصيحة.
{فِي زِينَتِهِ} حالٌ مِن فاعل: (خرج)؛ أي: متزِّينًا.
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على سبيل الرغبة في اليسار: {يَا} للتنبيه {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} . غِبْطةً، والغابط: هو الذي يتمنَّى مثلَ نِعَمِ صاحبِه مِن غيرِ أنْ يزولَ عنه {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الحظُّ: الجدُّ وهو البَخْت والدولة.
* * *
{وَقَالَ} لهم {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بأحوال الآخرة:
{وَيْلَكُمْ} أصلُ: ويلك، دعاءٌ بالهلاك، ثم استُعمل في الزجر والرَّدع والبعث على ترك ما لا يُرتضى.
{ثَوَابُ اللَّهِ} في الآخرة {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} ممَّا أوتي قارونُ، بل مِن الدُّنيا وما فيها، وفي حذف المفضَّل عليه تعظيمٌ للمفضَّل، كما في قوله: اللّهُ أكبرُ.
{وَلَا يُلَقَّاهَا} أي: لا يلقَّى هذه الكلمةَ، وهي:{ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} {إِلَّا الصَّابِرُونَ} على الطاعات وعن المعاصي.
* * *
{فَخَسَفْنَا بِهِ} أي: بقارون؛ أي: ساخت به الأرضُ وأذهبت في جهة السُّفْل {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} .
روي أنَّه كان يؤذي موسى عليه السلام كلَّ وقتٍ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاةُ فصالَحَه عن
(1)
كلِّ ألفٍ على واحد، فحَسَبه فاستكثره فشحَّت به نفسُه، فعمد إلى أنْ يفضحَ موسى عليه السلام بين بني إسرائيل ليرفضوه، فبَرْطَلَ بغيَّةً لترميَهُ بنفسها، فلمَّا كان يوم العيد قال موسى عليه السلام في خطبته: مَن سرقَ قطَعناه، ومَن زنَى غير محصَن جلدناه، ومَن زنى محصَنًا رجمناه. فقال قارون: ولو كنتَ. قال: ولو كنتُ. قال: إنَّ بني إسرائيل يزعمون أنَّك فَجَرتَ بفلانةَ، فأُحضرت، فناشدها موسى عليه السلام باللّه أنْ تَصدُقَ، فقالت: جعل لي قارونُ جُعْلًا على أنْ أَرميَكَ بنفسي، فخَرَّ موسى عليه السلام ساجدًا يبكي، قال: يا ربِّ، إنْ كنتُ رسولَكَ فاغْضَب لي، فأوحى إليه أنْ مُرِ الأرضَ بما شئت، فقال: يا أرضُ خُذِيه، فأخذته الأرضُ إلى ركبته، ثم قال: خُذِيه، فأخذته إلى وَسطه، ثم قال: خُذِيه، فأَخذته إلى عنقه، وكان قارونُ يتضرَّع إليه في هذه الأحوال وموسى لا يلتفتُ إليه؛ لشدَّة غضبه، ثم قال: خُذِيه، فانطَبَقت عليه، فقال الله تعالى لموسى عليه السلام: استغاثَ بك مرارًا فَلَم ترحمه، فَوَعزَّتي لو استَرحمني مرَّةً
(2)
لرحمته، ثم قال بعض بني إسرائيل: إنَّما أَهلكه ليرث مالَهُ! فدعا اللّهَ تعالى حتى خسفَ بداره وأمواله
(3)
.
(1)
في (ك): "على".
(2)
سقط من (ك).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31843)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 3018)، والحاكم=
{فَمَا كَانَ} ، فالفاءُ فصيحةٌ؛ للعطف والتفريع على محذوفٍ دلَّ على مفهومه الإجماليِّ مساقُ الكلام.
{لَهُ مِنْ فِئَةٍ} : أعوانٍ، مرَّ تفسيره على وجه التفصيل في سورة البقرة.
{يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} إنَّما ذكر امتناعَ نصرِه برفع عذابِ اللّه مع أنَّه معلومٌ؛ لأنَّ المرادَ بيانُ أنَّه لم يكن الأمر على ما قدَّره مِن امتناعه بحاشيته وجندِه، فإنَّ ذلك الذي غرَّه حتى تمرَّد في طغيانه، ثم أخبر أنَّه كما لم يكن له مَن يَنصُره، لم يكن هو أيضًا ممَّن ينتصر بنفسه؛ لضعفه عن ذلك.
* * *
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ} : منزلته، لم يقل: مثلَ مكانه؛ اكتفاءً بما ذكره قبل هذا {بِالْأَمْسِ} استُعير لزمانٍ قريب {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} ؛ أي: صاروا يقول بعضُهم لبعضٍ: أَلَم تعلموا أنَّ اللّهَ.
{وَيْكَأَنَّ} كلمةُ تقريرٍ معناها: أَمَا ترى، أَمَا تعلم، قاله الفراء
(1)
.
وروي أنَّ أعرابيَّةً قالت لزوجها: أينَ ابنُكَ؟ قال: ويكأنه وراء البيت؛ أي: أَمَا ترَيْنَهُ؟
وقال قطرب: هما كلمتان؛ (ويك) بمعنى: ويلك، محذوف اللام، قال عنترة:
=في "المستدرك"(3536)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 312).
ولقد شَفَى نفسِي وأَبْرَأ سُقْمها
…
قولُ الفوارسِ وَيْكَ عنتر أَقْدِمِ
(1)
وهذا الحذف للتخفيف لكثرة الاستعمال.
وأمَّا ما قيل: إنَّ (وي) للتعجُّب، و (كأنَّ) للتشبيه، ففيه: أنَّ التشبيه لا يناسب المقام.
{اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} بمقتضى مشيئته؛ لا لكرامة تقتضي البَسْط، ولا لهوانٍ يوجب القبض.
{لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بصَرْف ما كنَّا تمنَّيناه بالأمسِ {لَخَسَفَ بِنَا} لتولِيده فينا ما ولَّده فيه
(2)
.
{وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لنعمةِ اللّه، أو: المكذِّبون برسله وبما وَعَدوا لهم مِن ثواب الآخرة.
* * *
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} : تعظيمٌ لها وتفخيمٌ لشأنها، كانه قال: تلك التي سمعتَ خبرها وبلغك وصفُها، والدار صفة، والخبر:
{نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} : غلبةً وقهرًا {وَلَا فَسَادًا} ظُلْمًا على الناس، لم يعلِّق الموعود بترك العلوِّ والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميلِ القلوب
(1)
البيت في "شرح المعلقات السبع" للزوزني (ص: 152)، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي (ص:249).
(2)
قوله: "لتوليده"، الضمير لقوله:"ما كنا تمنيناه". انظر: "حاشية القونوي"(14/ 575).
إليهما، كما قال:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]، فعلّق الوعيد بالركون.
{وَالْعَاقِبَةُ} المحمودةُ {لِلْمُتَّقِينَ} ما لا يرضاه اللّه تعالى.
* * *
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} مرَّ في النمل.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} . معناه: فلا يُجزون، فوضع {الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} موضع الضمير؛ لأنَّ في إسناد عمل السيئة إليهم مكرَّرًا فضلَ تهجينٍ بحالهم، وزيادةَ تبغيضٍ للسيئة إلى
(1)
قلوب السامعين.
{إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : إلَّا مثلَ ما كانوا يعملون، وحذف المثْل وأُقيم مقامه {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مبالغةً في المماثلة.
* * *
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} : أوجب عليك تلاوتَه وتبليغَه والعملَ بما فيه.
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يعني: مكَّة، أريد ردُّه عليه السلام إليها يومَ الفتح، وإنَّما نكّر لأنَّها كانت في ذلك اليومِ مَعَادًا له شأنٌ، ومرجعًا له اعتدادٌ؛ لغلبة الرسول عليه
(1)
في (ك): "في".
الصلاة والسلام وقهرِه لأهله، ولظهور عِزِّ الإسلام وأهلِه، وذُلِّ الكفر وحزبِه.
والسورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَة لا بمكَّة ولا بالمدينة، حين اشتاقَ عليه الصلاة والسلام إلى مولدِه ومولدِ آبائه.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} وما يستحقُّه مِن الثواب والنصر، و {مَن} منتصبٌ بفعلٍ يفسِّره {أَعْلَمُ} {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: وما استحقَّه مِن العذاب والإذلال، يعني به نفسَه والمشركين
(1)
، فهو تقرير للوعد السابق.
* * *
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو} مرَّ تفسير الرجاء في سورة الفرقان.
{أَنْ يُلْقَى} : يوحَى {إِلَيْكَ الْكِتَابُ} ؛ أي: سيردُّك إلى معادِك كما ألقى إليكَ الكتابَ وما كنت ترجوه {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} هذا محمولٌ على المعنى؛ أي: وما ألقى عليك الكتاب إلَّا رحمةً؛ لأجل أنْ تُرحَم، أو {إِلَّا} بمعنى (لكن) للاستدراك؛ أي: ولكنْ لرحمةٍ مِن ربك أَلقى إليك.
{فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} : عونًا {لِلْكَافِرِينَ} .
* * *
(1)
"نفسَه": من جاء بالهدى، و"المشركين": من هو في ضلال مبين. ففي الكلام لف ونشر. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 89).
{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} : عن قراءتها والعملِ بها {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} ؛ أي: بعد وقتِ إنزاله.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} : إلى عبادته وتوحيده {تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بمساعدتهم.
* * *
{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} هذا وما قبله تهييجٌ وقطعُ أطماع المشركين عن مساعدته لهم، على أنَّ العصمة لا تمنع النهيَ.
والوقف على {آخَرَ} مهو لازمٌ؛ لأَته لو وُصل لصار {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفةً لـ {إِلَهًا آخَرَ} ، وفيه مِن الفساد ما فيه.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} : إِلَّا ذاته، والوجه يُعبَّر به عن الذات، وإنَّما قال:{هَالِكٌ} لأنَّ المراد كونُه كذلك في حدِّ نفسه، وذلك ليس بمجرَّد، فإنَّ كلَّ ممكنٍ في حدِّ نفسه ليس بموجودٍ.
{لَهُ الْحُكْمُ} : القضاءُ النافذُ في الخَلْق.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاء بالحقِّ.
* * *
سُوْرَةُ العَنْكَبُوتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {الم} .
{الم} مَرَّ فيه ذِكْرُ الأقاويلِ
(1)
، وسبَقَ التَّفصيل، وهنا دليلُ الاستقلال بنفسِه أو بما يُضمر معه، وهو وقوع الاستفهام بعده.
* * *
(2) - {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} .
{أَحَسِبَ النَّاسُ} : قوَّةُ أحدِ النَّقيضَيْن على الآخر، كالظَّنِّ، ولا يصحُّ تعليقُهما بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل، فإذا أردْتَ الإخبار عن مضمونٍ ثابتٍ عندَك على وجهِ الظَّنِّ لا اليقين أدخلت على شرطَي الجملة فعلَ الحسبان حتى يتمَّ
(2)
غرضُك.
والكلامُ الدَّال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا: {أَنْ يُتْرَكُوا} فإنَّه سدَّ مَسَدَّ المفعولَيْن، كما في قوله:{أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4]، ونظائره؛ لأنَّ المعنى: أَحَسِبَ النَّاسُ أنفسَهم متروكين.
(1)
في (ف): "أقاويل".
(2)
في (ف): "حتى يقع".
والتَّركُ: رفضُ الشَّيء قصدًا واختيارًا، أو قهرًا واضطرارًا، ومن الأخير قولُهم: تركَةُ
(1)
فلانٍ: لِمَا يخلِّفُه بعدَ موته.
وثاني مفعولَي {أَنْ يُتْرَكُوا} متروكٌ بدلالة الحال؛ أي: كما هم، أو: على ما هم عليه.
و
(2)
{أَنْ يَقُولُوا} بمعنى: لقولهم، متعلِّقٌ بـ {يُتْرَكُوا} على أنَّه غيرُ مستقِرٍّ.
{آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} : غيرَ مختبَرِين بما يتبيَّن به حقيقةُ إيمانهم.
نزلَ في جماعةٍ آمنوا وآذاهم المشركون
(3)
.
والمراد مِن الفتنةِ: الامتحانُ بشدائدِ التَّكليفِ؛ مِن مفارقةِ الأوطانِ، ومجاهدةِ الأعداءِ، وسائرِ الطَّاعاتِ الشَّاقةِ، وهجرِ الشَّهواتِ، وبالفقرِ والقَحطِ، وأنواعِ المصائب في الأنفسِ
(4)
والأموالِ، ومصابرةِ الكفَّار على أذاهم وكيدهم.
وقيل: معناه: أَحَسِبوا تركَهم
(5)
غيرَ مفتونين لقولهم: {آمَنَّا} ، فالتَّرْكُ أحدُ مفعولَيْن و (غير مفتونين) مِن تمامِه، و (لقولهم) هو الثَّاني كقولك: حسبْتُ ضربَه للتَّأديبِ.
وفيه الفصلُ بينَ {يُتْرَكُوا}
(6)
ومعموله.
(1)
في (ع): "تركه"، وفي (ف) و (ك) و (م):"ترك"، والمثبت من (ي).
(2)
"و" سقط من (م).
(3)
ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز"(4/ 305) عن مجاهد.
(4)
في (ف) و (ك): "النفس".
(5)
في (ك) و (م): "نتركهم"، و في (ف):"أنتركهم".
(6)
في النسخ: "تركوا"، والصواب المثبت.
وما يحسِّنه مِن الاهتمام بشأن الخبر؛ لكونه مَصَبَّ الإنكار، مُعارَضٌ بما يقبِّحه مِن إيهام أن يتركوا غير مختبرين لعلَّةٍ أخرى.
* * *
{وَلَقَدْ فَتَنَّا} : اختبرْنا، وهو موصولٌ بـ {أَحَسِبَ} أو بـ {لَا يُفْتَنُونَ} .
{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِن الأمم بأنواعِ الفِتَنِ، والمعنى: إنَّ ذلك سُنَّةٌ قديمةٌ، جاريةٌ في الأزمانِ السَّالفةِ، فلا ينبغي أنْ يُتوقَّعَ خلافُها.
ويجوز أن يكون كقولِكَ: ألَا يُمْتَحنُ فلانٌ وقد
(1)
امتُحِنَ مَن هو خيرٌ منه؛ يعني: أنَّ بعضَ الأنبياء كزكريَّا ويحيى وجرجيس عليهم السلام قد
(2)
امتُحنوا وصَبروا.
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} بالامتحانِ {الَّذِينَ صَدَقُوا} في الإيمان {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فيه.
وعلْمُ الله تعالى بالكائناتِ منزَّهٌ عن النِّسبةِ إلى الزَّمانِ وعمَّا يترتَّبُ عليها مِن التَّبدُّل والتَّغيُّر، فهو هنا كناية عن تحقُّقِ المعلوم قطعًا وظهورِه على وجهٍ أبلغ، فالمعنى: ولَيتميَّزَنَّ
(3)
الصَّادقُ منهم مِن الكاذبِ.
قال ابن عطاء: يتبيَّنُ صدقُ العبد مِن كذبه في أوقاتِ الرَّخاءِ والبلاءِ، فمَن شكرَ في أيَّامِ الرَّخاءِ وصبرَ في أيَّام البلاء فهو مِن الصَّادقين، ومَن بطرَ في أيَّام الرَّخاء وجزعَ في أيَّام البلاء فهو من الكاذبين
(4)
.
(1)
في (م): "قد".
(2)
في (ك): "وقد".
(3)
في (ك): "وليتميز"، وفي (ف) و (م):"وليتميز من".
(4)
انظر: "تفسير السلمي"(2/ 113).
ويعضدُه قراءةُ: (فليُعْلِمَنَّ اللّهُ) مِن الإعلام
(1)
؛ أي: ليعرِفَهُم النَّاسُ مَن هم، فحذف المفعولَ الأوَّل.
ويجوز أن يكون مِن قولهم: فارس مُعْلَم؛ أي: أَعْلَمَ نفسَه في الحرب بثوبٍ أو غيره، فيكون من العلامة، فالمعنى: فليَسِمنَّهم
(2)
بسِمَةٍ يُعْرَفون بها يومَ القيامةِ كبياضِ الوجهِ وسوادِه.
* * *
(4) - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .
{أَمْ حَسِبَ} {أَمْ} هنا منقطعةٌ؛ لفَقدِ شرط الاتِّصال، وهو أنْ لا يكون بعدَها جملة، ومعناه:(بل) للإضراب بمعنى الانتقال مِن قصَّة إلى قصَّة، لا بمعنى الإبطال والإضراب فيها؛ لأنَّ هذا الحسبانَ
(3)
أبطلُ من الأوَّل؛ لأنَّ ذلك يُقدِّرُ أنَّه لا يُمتَحنُ لإيمانه، وهذا يظنُّ أَنَّه لا يجازى بمساوئه، ولهذا عقَّبَه بالذَّمِّ.
{الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} مِن المعاصي، وأمَّا الكُفْرَ فليس مِن جنسِ العملِ؛ لأنَّه لا يُقالُ إلَّا فيما كان عن فكرٍ وروَّيةٍ، نصَّ عليه الرَّاغبُ
(4)
، فحالُ الكفرِ يُعلَم ممَّا ذُكِرَ دلالةً.
{أَنْ يَسْبِقُونَا} : أن
(5)
يفوتونا فلا نَقدِر على أنْ نجازيَهم على مساؤبهم؛ يعني:
(1)
نسبت لعلي رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 114).
(2)
في (ك): "فلنسمنهم".
(3)
في (ك) و (م): "الحساب".
(4)
لم أقف عليه.
(5)
في (ي): "أي يفوتونا".
أنَّ الجزاءَ يلحقُهم لا محالَة، واشتمال صلة {أَنْ} على مسنَدٍ ومسندٍ إليه سدَّ مَسدَّ المفعولَيْن.
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {مَا} في موضِع رفعٍ على معنى: ساءَ الحكمُ حكمُهم، أو نصبٍ على معنى: ساءَ حكمًا يحكمون، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ؛ أي: بئسَ حُكمًا يحكمونه حكمُهم هذا.
* * *
(5) - {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} : يترقَّبُ ثوابَه، أو: يخافُ عقابَه، فالرَّجاء يحتمِلُهما.
{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} المضروبَ للثَّوابِ والعقاب {لَآتٍ} لا محالةَ، تعليلٌ لجوابِ الشَّرطِ المحذوفِ، تقديرُه: فليبادِرِ العملَ الصَّالح الذي يصدِّقُ رجاءَه ويحقِّقُه.
وإتيانُ الوقتِ المضروبِ لهما كنايةٌ عن إتيانهما، والتَّعبيرُ عنهما بلقاءِ اللّهِ تعميمٌ
(1)
للتفخيم والتَّهويل، وإضافتُه إلى اللَّه في الموضعَيْن للتَّعظيم.
ويجوز أن يكون على تمثيل حالِه بحالِ عبدٍ قدِمَ على سيِّدِه بعدَ زمانٍ مديدٍ وقد اطَّلعَ السَّيِّد على أحوالِه، فإمَّا أن بلقاه ببِشْرٍ بما رضيَ مِن أفعالِه، أو بسخطِه لِمَا سخطَ منها
(2)
.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لِما يقولُ عبادُه {الْعَلِيمُ} بما يفعلونه، فلا يفوتُه شيءٌ.
* * *
(1)
"تعميم" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(2)
في (ك): "أو بسخط أي سخط منها"، وفي (ف):"أو سخطه أي سخط منها".
(6) - {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
{وَمَنْ جَاهَدَ} نفسَه بالصَّبر على مخالفتِها في طاعة اللَّه تعالى.
{فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ منفعةَ ذلك ترجِعُ إليها.
{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فلا نفعَ له في طاعتِهم ومجاهدتِهم، وإنَّما كلَّفَهم رحمةً عليهم ومراعاةً لمصالحهم.
* * *
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} التَّكفيرُ: إذهابُ السَّيئةِ بالحسنةِ كإذهابِ الكُفْرِ بالإيمان، والمعصيةِ بالتَّوبة.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} إنَّما قالَ: {أَحْسَنَ} لأنَّ المباح حسن، ولا جزاءَ له.
* * *
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} : بإيتائهما
(1)
فعلًا ذا حُسْنٍ، أو ما هو في ذاته حَسَنٌ لفَرْطِ حُسْنِهِ، ووصَّى حُكمُه
(2)
حُكمُ أَمَر في معناه وتصرُّفه، ومعنى وصَّيْتُ زيدًا بعمروٍ: أمرتُهُ بتعهُّدِه ومراعاته.
(1)
في النسخ: "بإتيانهما"، والصواب المثبت. انظر:"الكشاف"(3/ 442)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 189)، و"تفسير النسفي"(/ 665).
(2)
في (ع): "حكم".
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ} ؛ أي: وقلنا: وإنْ جاهدَاكَ {لِتُشْرِكَ بِي
(1)
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يعني: بإلهيَّته، عبَّر عن نفيها بنفي العلم إشعارًا بأنَّ ما لا يُعْلَمُ صحَّتُه لا يجوز اتِّباعُه وإنْ لم يُعلَمْ بطلانُه، فضلًا عمَّا عُلِمَ بُطلانُه.
{فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك، فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية
(2)
الخالق.
{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} : مرجعُ المطيعِ والعاصي منكم.
{فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالجزاءِ عليه.
وفي ذكر المرجع والوعيد تحذيرٌ مِن متابَعَتْهما على العصيان، وحَثٌّ على الثَّباتِ والاستقامة في الطَّاعة، روي أنَّ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه لَمَّا أسلم نذرَتْ أمُّه أنْ لا تأكلَ ولا تشربَ ولا تنتقل من الضِّحِّ
(3)
حتَّى يرتدَّ، ولبثَتْ ثلاثةَ أَيَّام كذلك، فشكى سعدٌ رضي الله عنه إلى النَّبيِّ عليه السلام، فنزلَتْ هذه الآية، والتي في سورة لقمان، والتي في الأحقاف
(4)
.
* * *
(9) - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} : في الأنبياء والأولياء بأنْ نحشرَهم معهم.
(1)
في (ك) و (م) زيادة: "شيئًا".
(2)
في (ف) و (ي): "معصيته".
(3)
الضِّحُّ: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض. انظر: "النهاية"(مادة: ضحح).
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 271)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 341)، و"الكشاف"(3/ 442 - 443) دون سند عندهم. وروى نحوه مسلم (1748) كتاب فضائل الصحابة، عقب الحديث (2412)، والترمذي (3189). والتي في لقمان الآيتان (14 - 15)، والتي في الأحقاف الآية (15).
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في الإخبار عنهم بأنَّهم مِن النَّاس تحقيرٌ لشأنهم.
{فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} ؛ أي: في طاعته، و {فِي} للسَّببية كما في {لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32].
{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} ؛ أي: أذاهم له للصَّرْفِ عن طاعة اللَّه تعالى.
{كَعَذَابِ اللَّهِ} في الخوفِ منه
(1)
فيطيعهم.
{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} ؛ أي
(2)
: فتحٌ وغنيمةٌ.
{لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ؛ أي؛ مشايعين لكم في دينِكم، فأعطُونا نصيبنا
(3)
مِن المغنَمِ.
{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ} صيغة أَفعلَ هنا لمطلق الزِّيادة وإثباتِ العلم على الوجه الأبلغ، و (أو)
(4)
للعطف على محذوفٍ تقديرُه: أليس اللَّه بأشدَّ عذابًا
(5)
من النَّاس.
{بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} من الإخلاص والنِّفاق، فكيف يَتوهَّم هذا المنافقُ أنْ يَخفَى حالُه على المسلمين ولا يخبرُهم اللّهُ به وهو عالمٌ، فهذا تهديدٌ دنيويٌّ له، كما أنَّ قولَه:
(1)
في (ك) و (م): "منهم".
(2)
"أي" من (م).
(3)
في (ك): "نصيبًا".
(4)
كذا في النسخ، ولعل الصواب:(والواو)، والصواب المثبت.
(5)
في (م): "علما".
(11) - {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} تهديدٌ أخرويٌّ، كَنى بالعلمِ عن أثرِه، وهو الجزاء على المعلوم، وعبَّر عن الإخلاص بالإيمان، إخراجًا للإقرار باللِّسان الخالي عن التَّصديق بالجَنان عن حدِّ الإيمان.
وفي اختلافِ الصِّيغتَيْنِ إشعارٌ بثبات المنافقِ على النِّفاق ومزيَّته على الكفر بزيادة التَّقرُّر في محلِّه.
* * *
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أمرُوهم باتِّباعِ سبيلِهم، وهي طريقتُهم التي كانوا عليها في دينِهم، وأَمروا أنفسَهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمرَ على الأمرِ، وأرادوا: ليَجتمعْ هذان الأمران في الحصول، والمعنى: تعليق الثَّاني على الأوَّل على وجهِ المبالغةِ، والوعدِ بتخفيف الأوزار عنهم - إنْ كانت
(1)
- تشجيعًا لهم على الاتِّباع، ولهذا رَدَّ عليهم وكذَّبهم بقوله:
{وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ذلك، {مِنْ} الأُولى للتَّبيين، والثَّانية مزيدة لتأكيد الاستغراق.
* * *
(1)
قوله: "إن كانت"؛ أي: إن وجدت، فهي تامة، وضمير الفاعل يعود على "الأوزار". انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 94).
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} : أوزارَ أنفسِهم بضلالِهم {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} : وأوزارَ الضَّالِّين
(1)
بإضلالهم، وهو كما قال:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : يكذبون على اللّهِ، سؤالَ توبيخٍ.
واللَّام في الفعلَيْن للقَسَم، وحذف فاعلُهما - الواوُ - ونونُ
(2)
الرَّفع.
* * *
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} بعدَ المبعَثِ إلى حدوثِ الطُّوفان، واختيار هذه العبارة لِمَا في ذكرِ الأَلْف مِن تخييل طول المدَّة إلى السَّامع؛ فإنَّ المقصودَ تسليةُ رسولِ اللهِ عليه السلام، وتثبيتُه على ما يكابدُ مِن الكفرة.
وجِيءَ بالمميِّز أوَّلًا بالسَّنة ثمَّ بالعامِّ لأنَّ تكرارَ لفظٍ واحدٍ في كلامٍ واحدٍ حقيقٌ بالاجتناب في البلاغة.
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} هو ما أطافَ وأحاطَ بكثرةٍ وغلبةٍ، مِن سيلٍ أو ظلامِ ليلٍ
(3)
أو نحوهما، والواقعُ طُوفان الماءِ.
(1)
في (ي): "وأوزارًا للضالين".
(2)
في (ف) و (ك): "والواو والنون".
(3)
"ليل" سقط من (ك).
{وَهُمْ ظَالِمُونَ} أنفسَهم بالكفْرِ.
* * *
(15) - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} .
{فَأَنْجَيْنَاهُ} ؛ أي: نوحًا {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ؛ أي: والذين حملَهم نوحٌ عليه السلام في السَّفينةِ.
{وَجَعَلْنَاهَا} ؛ أي: السَّفينةَ؛ لأنَّها
(1)
بقيَتْ أعوامًا حتَّى مرَّ عليها النَّاسُ ورأَوْها، فحصل لهم العلمُ بها، أو: الحادثةَ.
{آيَةً} : علامةً أو عبرةً {لِلْعَالَمِينَ} يعتبرون بها.
* * *
{وَإِبْرَاهِيمَ} عطفٌ على {نُوحًا} وقرئ بالرَّفع
(2)
على تقدير: ومن المرسلين إبراهيمُ.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ظرفٌ لـ {أَرْسَلْنَا} ، ففيه دلالةٌ على أنَّه لم يتهاونْ في أمرِ الرِّسالةِ حيث بلَّغ الدَّعوةَ كما أُمِرَ.
{وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ممَّا أنتم عليه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ؛ أي: إنْ كنتم مِن أهل العلمِ.
(1)
في (ك) و (م): "لا لأنها"، وفي هامش (م):"لعل لفظ (لا) زائد".
(2)
نسبت لأبي جعفر في غير المشهور عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 115).
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} الوثَنُ: ما يُعمَل من حجر أو طين.
{وَتَخْلُقُونَ} ؛ أي: تَكذِبون، أو: تصنعون
(1)
، وقرئ:(تُخَلِّقونَ)
(2)
مِن خَلَّقَ بمعنى التَّكثير في خَلَق.
{إِفْكًا} وقرئ: (أَفِكًا)
(3)
، وهو مصدر نحو كَذِب ولَعِب، والإفْكُ مخفَّفٌ عنه كالكِذْبِ واللِّعْبِ من أصلهما، واختلاقهم الإفْكَ بتسميتِهم الأوثانَ آلهةً وشركاءَ للّهِ.
{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} استدلَّ أوَّلًا على شَرارَةِ ما هم عليه مِن حيثُ إنَّه زورٌ وباطل، ثمَّ استدلَّ عليه مِن حيثُ إنَّه لا يجدي بطائلٍ.
و {رِزقًا} يَحتمِل النَّصب على المصدر؛ أي: لا يستطيعون أنْ يرزقُوكم، وأنْ يُرادَ المرزوق، وتنكيرُ للتَّعميم.
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ} لا عندَ الأسبابِ {الرِّزْقَ} كلَّه، إنَّما لم يقلْ: مِن اللّهِ؛ لعدمِ الدِّلالةِ
(4)
فيه على الأمرِ بترك الاعتماد على الأسباب العاديَّة.
ثمَّ بيَّنَ طريقَ الطَّلبِ فقال: {وَاعْبُدُوهُ} ؛ أي: في كلِّ حالٍ {وَاشْكُرُوا لَهُ} لِمَا مَضَى
(5)
مِن الإفضالِ، مستعدِّين للقائِه بها، فإنَّه:
(1)
في (ي): "وتصنعون".
(2)
نسبت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسلمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 115).
(3)
نسبت لابن الزبير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 115).
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "دلالة".
(5)
في (ف): "لما ما من"، وفي (م):"بما مضى".
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بما عملْتُم مِن الشُّكر والكُفْران، والعبادة والطُّغيان، وهو وعدٌ ووعيدٌ.
* * *
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} كقومِ نوح وهود وصالح {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ أي: وإنْ تكذِّبوني فلا تضرُّونني
(1)
بتكذيبِكم، فإنَّ الرُّسلَ قبلي قدْ كذَّبهم أمَمُهم، وما ضرُّوهم وإنَّما ضرُّوا أنفسَهم؛ حيثُ حلَّ بهم العذابُ بسببِ تكذيبِهم، وأمَّا الرَّسول فقد تمَّ أمرُه حينَ بلَّغَ البلاغَ المبين الذي زال معه الشَّكُّ، وهو اقترانُه بآياتِ اللّهِ ومعجزاتِه.
أو: وإنْ كنْتَ مُكَذَّبًا فيما بينكم فلي في سائرِ الأنبياء أُسوةٌ حيث كُذِّبوا، وعلى الرَّسول أنْ يبلِّغَ
(2)
، وما عليه أنْ يُصدَّقَ ولا يُكذَّبَ، فالآية وما
(3)
بعدَها مِن جُملَة قصَّة إبراهيمَ عليه السلام.
* * *
{أَوَلَمْ يَرَوْا} وقرئ بالتَّاء
(4)
على تقدير القولِ.
{كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} ؛ أي: قد رأوا ذلك وعلموه. وقوله:
(1)
في (ك): "تضروني".
(2)
في (ف): "وما على الرسول إلا أن يبلغ".
(3)
في (ك): "جامعة" بدل "وما".
(4)
وهي قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 173).
{ثُمَّ يُعِيدُهُ} ليس بمعطوف على {يُبْدِئُ} ، وليسَتِ الرُّؤيةُ واقعةً عليه، وإنَّما هو إخبارٌ على حِيالِه
(1)
بالإعادة بعدَ الموت، كما وقع النَّظرُ في قوله:{كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] على البدء دون الإنشاء، بل هو معطوفٌ على جملة قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} .
{إِنَّ ذَلِكَ} ؛ أي: لإعادةَ {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : سهلٌ.
* * *
{قُل} حكاية كلام اللَّه تعالى لإبراهيم عليه السلام: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} على كثرتِهم واختلافِ أحوالِهم؛ لتعرفوا عجائبَ فِطرةِ اللّهِ تعالى في المشاهدَةِ، وبدأَ وأبدأَ بمعنى.
{ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} بعدَ النَّشأة الأولى التي هي الإبداء، فإنَّه والإعادةَ نشأتان من حيثُ إنَّ كلًّا اختراعٌ وإخراجٌ مِن العدمِ.
ولَمَّا كانَ المقصودُ مِن السِّياق الاستدلالُ مِن الابتداء على الإعادة، والدَّليلُ النَّفسي أقربُ وأوضحُ من الآفاقي، ذكرَ الرُّؤيةَ في الأوَّلِ والنَّظرَ في الثَّاني، وكانَ القياسُ أنْ يُقالَ: كيفَ بدأ اللَّه الخلقَ، ثم ينشئ النَّشأة الآخرة، وإنِّما قيل:{كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} لأنَّ الكلامَ معَهم وقعَ
(2)
في الإعادة،
(1)
في (ك): "مثاله". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 448)، و "تفسير النسفي"(2/ 670).
(2)
"وقع" مكررة في (ك).
فلمَّا قرَّرهم في الإبداء بأنَّه مِن اللّهِ تعالى، احتجَّ عليهم بأنَّ الإعادة إنشاءٌ مثلُ الإبداءِ، فإذا لم يُعجزْهُ الإبداءُ وجبَ أنْ لا يعجزَه الإعادةُ، فكأنَّه قال: ثمَّ ذلك الذي أنشأَ النَّشأةَ الأولى هو الذي ينشئُ النَّشأة الآخرة، فللتَّنبيه على هذا المعنى أبرزَ اسمَه وأوقعَه مبتدأً.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن جملة الأشياء ما يُعاد، فهو قادرٌ على الإعادةِ.
* * *
(21) - {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} تعذيبَه {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} رحمتَه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} : تردُّون.
* * *
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ربَّكم؛ أي: لا تفوتونه إنْ هربتم مِن حُكمِه وقضائِه.
{فِي الْأَرْضِ} الفسيحةِ {وَلَا فِي السَّمَاءِ} التي هي أفسحُ منها وأبسطُ لو كنْتُم فيها.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يتولَّى أمورَكم فيحرُسَكم عن بلائي {وَلَا نَصِيرٍ} يمنعُ عذابي ويدفَعُه عنكم.
* * *
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : بدلائلِه على وحدانيَّته، أو بكتبِه {وَلِقَائِهِ} بالبعث.
{أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} في الدُّنيا لإنكار البعث والجزاء.
{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرةِ بكفرِهم.
* * *
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} : قومِ إبراهيمَ عليه السلام، وقرئ بالرَّفع
(1)
على أنَّه الاسم، والخبر:
{إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ؛ أي: قال بعضُهم لبعضٍ، أو: قال واحدٌ منهم وكانَ الباقون راضين، ثم اتَّفقوا على تحريقِه.
{فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} الفاء فصيحة؛ أي: قذفوه فيها، فأنجاه اللّهُ مِن النَّار بجعلِها عليه بردًا وسلامًا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : في إنجائه منها {لَآيَاتٍ} هي عدمُ تأثيرها فيه مع شدَّةِ توقُّدِها، وكونُها باردةً عليه، وحارَّةً على ما هي
(2)
عليه.
رُوي: أنَّها لم تحرِقْ إلَّا الحبل الذي أوثقوهُ به
(3)
.
(1)
نسبت للحسن وسالم الأفطس. انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 10)، و"المحرر الوجيز"(4/ 312)، و"البحر المحيط"(17/ 120).
(2)
"هي" سقط من (ك) و (ي) و (ع) و (م).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 313).
ورُوي: أنَّه لم يُنتفع ذلك اليوم بالنَّار لذهابِ حرِّها
(1)
.
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنَّهم المنتفِعون بها.
* * *
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ أي: لِتَتوادُّوا بينكم وتتواصلوا؛ لاجتماعكم على عبادتها، واتِّفاقكم عليها كما يتَّفقَ النَّاسُ على مذهبٍ فيكون ذلك سببَ تحابِّهم.
وثاني مفعولي {اتَّخَذْتُمْ} محذوف، ويجوز أن يكون {مَوَدَّةَ} المفعولَ الثَّانيَ بتقدير مضافٌ أو بتأويلها بالمودودة؛ أي: اتخذتم أوثانًا سببَ
(2)
المودَّة بينكم.
وقرئَتْ منوَّنةً ناصبةً {بينكم} ، والوجهُ ما سبَقَ، وقرئَتْ مرفوعةً مضافةً على أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ
(3)
؛ أي: هي مودَّةُ، أو: سببُ مودَّةِ بينِكم، والجملةُ صفةُ {أَوْثَانًا} أو خبر (إنَّ) على أنَّ (ما) موصولة أو مصدريَّة، والعائد محذوف، وهو المفعول الأوَّل.
(1)
انظر: "الكشاف"(2/ 450).
(2)
في النسخ: "بسبب". والمثبت من "الكشاف"(3/ 450)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 192)، و"تفسير النسفي"(2/ 672).
(3)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {مودَّةُ} بالرَّفع من غير تنوين {بَيْنِكُمْ} بالخفض، وحفص وحمزة:{مَوَدَّةَ} بالنَّصب من غير تنوين {بَيْنِكُمْ} بالخفض، والباقون:{مَوَدَّةَ} بالنَّصب والتَّنوين و {بَيْنِكُمْ} بالفتح. انظر: "التيسير"(ص: 173).
وقرئت مرفوعةً منوَّنةً ومضافةً بفتح (بينكم)، كما قرئ:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]
(1)
.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يتبرَّأُ القادة من الأتباع.
{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يلعَنُ الأتباعُ القادةَ.
{وَمَأْوَاكُمُ} : مصيرُكم جميعًا {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يخلِّصونكم منها.
(26) - {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ؛ أي: صدَّقَه فيما قاله واتَّبع له، لا أنَّه أحدثَ الإيمانَ في ذلك الوقت؛ لأنَّ الكفرَ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام.
{وَقَالَ} إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ} من كُوْثَى؛ وهي
(2)
من سواد الكوفة.
{إِلَى رَبِّي} إلى حيثُ أمر ربِّي
(3)
.
{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} ؛ أي: المنيعُ الذي مَن لجأ إليه منعَه مِن
(4)
أعدائِه.
{الْحَكِيمُ} الذي لا يأمرُ إلَّا بما فيه خيرٌ.
(1)
انظر القراءتين في "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 115)، و"الكشاف"(3/ 450)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 192)، وعنه نقل المؤلف كل ما سبق.
(2)
"وهي" من (ي) و (ع).
(3)
في (م): "أمرني ربي"، وفي (ف) و (ك):"أمرني".
(4)
في (ف): "أمن من"، وسقطت من (ك).
رُويَ أَنَّه هاجرَ مع لوطٍ ابنِ أخيه وسارةَ بنتِ عمِّه إلى حَرَّان، ثمَّ منها إلى الشَّام، ونزلَ فلسطينَ، ونزل لوطٌ سَدُومَ.
* * *
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولدًا ونافلةً، قيل: حين أيس من الولادة مِن عجوز عاقر، ولذلك لم يُذكر إسماعيل عليه السلام، ويردُّه قوله:{وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} فإنَّه شجرة الأنبياء عليهم السلام.
{وَالْكِتَابَ} يريدُ به الجنس، فيتناول الكُتُبَ الأربعةَ.
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ} على هجرتِه إلينا {فِي الدُّنْيَا} : الثَّناءَ الحَسَنَ، والصَّلاةَ عليه إلى آخرِ الدَّهر، ومحبَّةَ أهلِ المِلَلِ له، وأمَّا ما
(1)
تقدَّمَ ذكرُه فالعطف عليه يأبى عن دخوله في الأجر.
{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الذين لهم الدَّرجاتُ العُلَى.
* * *
{وَلُوطًا} عطفٌ على {إِبْرَاهِيمَ} ، أو على ما عُطِفَ عليه.
(1)
في (ف) و (ك) و (م) زيادة: "قيل".
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} : الفِعلَةَ البالغةَ في القُبْحِ.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} جملةٌ مستأنَفةٌ مقرِّرةٌ لفحاشة تلك الفِعلَةِ، كأنَّ قائلًا قالَ: لِمَ كانت فاحشةً؟ فقيل: لأنَّ
(1)
أحدًا قبلَهم لم يُقْدِمْ عليها.
* * *
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} طريقَ المارَّةِ بفعلكم الفاحشةَ بمَن يمُرُّ بكم، فتركَ النَّاسُ الممَرَّ بكم.
{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} : مجلسِكُم الذي تجتمعون فيه، ولا يُسمَّى ناديًا إلَّا ما دام فيه أهلُه.
{الْمُنْكَرَ} كالمضارَطةِ، والمجامعةِ، والسِّبابِ، والفُحْشِ في المِزاحِ، والخذفِ بالحصا، ومَضغِ العِلكِ، والفرقعةِ والسِّواك بين النَّاس
(2)
.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قد سبقَ في سورة الأعراف.
* * *
(30) - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} .
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} بإنزالِ العذابِ {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} بابتداعِ الفاحشةِ،
(1)
في (ك): "إن".
(2)
ذكره الزمخشري عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "الكشاف"(3/ 450).
وسنِّها فيمَن بعدَهم، وصفَهم بذلك مبالغةً في استنزالِ العذابِ، وإشعارًا بانهم أحقَّاءُ بأنْ يُعجَّلَ لهم العذاب.
* * *
{جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} : بالبِشارةِ بالولدِ لقوله: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].
{قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} : قريةِ سَدُومَ، و {هَذِهِ} تُشْعِرُ بأنَّها قريبةٌ مِن موضِعِ إبراهيم عليه السلام، والإضافةُ لفظيَّة؛ لأنَّ المعنى على الاستقبال.
{إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} تعليلٌ لإهلاكِهم؛ أي: الظُّلمُ قد استمرَّ فيهم في الأيَّام السَّالفة، وهم عليه مصرُّون، وإنَّما قال:{إِنَّ أَهْلَهَا} ولم يقلْ: (إنهم) تضمينًا للتَّعليل الإشعارَ بمنشأ خُبْثِ طبيعتِهم، وهو خبث طينتهم.
ففيه إشارةٌ خفيَّة إلى أنَّ المرادَ مِن أهل القرية: مَن نشأَ فيها، فلا يتناولُ لوطًا، ومَن لم يتنبَّه لهذا زعم أنَّ في قولهم الآتي تخصيصًا للأهل بمَن عداه.
* * *
{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} معارضةٌ للموجِب بالمانع، وهو كونُ النَّبي بينَ أظهُرِهم.
وأمَّا الاعتراضُ عليهم بأنَّ فيها مَن لم يظلِم
(1)
، فلا يناسبُ حالَ المعترض؛ لأنَّ مَبناه الغفولُ عن الإشارة التي قدَّمنا بيانها.
{قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ} منك {بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} وليس هنا خطابٌ بمعنى حكمٍ شرعيٍّ، فلا وجهَ لِما قيل: فيه تأخيرُ البيانِ عن الخطابِ.
{إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : الباقين في العذاب، قال في سورة الحجر:{إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا} [الحجر: 58 - 60].
والتَّوفيقُ بينَ القولَيْن بأنْ يُقالَ: إنَّ الحكايةَ قد تكون على وجهِ التَّفصيلِ والنَّقلُ بالعبارة أو بمرادفها، وقد يكون على وجهِ الإجمالِ والنَّقلُ بحاصل المعنى، والمذكور ثَمَّةَ مِن قَبيلِ الثَّاني، والمذكور هاهنا مِن قَبيل الأوَّل.
ثمَّ أخبر عن مصير الملائكة إلى لوطٍ عليه السلام بعدَ مفارَقَتِهم إبراهيمَ عليه السلام بقوله:
{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} : ساءَه مجيئُهم، و {أَنْ} صلةٌ أَكَّدَتْ وجودَ الفعلينَ مرتَّبًا أحدُهما على الآخَر، كأنَّهما وُجِدا في جزءٍ واحدٍ مِن الزَّمانِ، كأنَّه قيل: كما أحسَّ بمجيئهم فاجأته المساءة مِن غير رَيْثٍ خيفةً عليهم مِن قومِه أنْ يتناولُوهم بالفُجور.
(1)
رد على البيضاوي القائل: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} اعتراضٌ عليهم بأن فيها مَن لم يظلم. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 193).
{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} : وضاقَ بشأنِهم وبتدبيرِ أمرِهم ذَرْعُهُ؛ أي: طاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذَّرع والذِّراع عبارةً عن فقدِ الطَّاقة، كما قالوا: رَحْبُ الذِّراعِ، إذا كان مطيقًا له.
والأصل فيه: أن الرَّجلَ إذا طالَتْ ذراعُه نالَ ما لا ينالُه القصير الذِّراع، وصارَ ذلك مَثلًا في العَجْزِ والقُدْرةِ، وهو منصوبٌ على التَّمييزِ.
{وَقَالُوا} عطفٌ على محذوفٍ متفرِّعٍ على ما تقدَّمَ، تقديرُه: فكشفوا الحالَ وقالوا ذلك لِمَا رأوا فيه أثرَ الضجرة، فالواوُ فصيحة.
{لَا تَخَفْ} الخوفُ: انزجاعُ النَّفسِ بتوقُّعِ الضَّررِ.
{وَلَا تَحْزَنْ} لا على تمكُّنِهم منَّا لاندفاع الخوف والحزن مِن تلك الجهة بإعلامهم أنَّهم رسلُ اللَّه، بل على نفسِه وأهلِه لمَّا عَلِمَ أنَّ نزولهم لحادثة عظيمة، فقولُهم
(1)
:
{إِنَّا مُنَجُّوكَ} تعليلٌ لنفي الخوف والحزن.
{وَأَهْلَكَ} نصبٌ بإضمارِ فعلٍ؛ لأنَّ موضع الكاف جَرٌّ على المختار، أو بالعطف على محلِّها باعتبار الأصل.
{إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ} ؛ أي: في أمرِ اللّهِ {مِنَ الْغَابِرِينَ} : مِن الباقين في الهلاك.
* * *
{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} : عذابًا منها، سُمِّيَ
(1)
في (ك): "بقولهم".
بذلك لأنَّه يُقْلِقُ المعذَّب، مِن قولهم: ارتجزَ: إذا ارتجسَ؛ أي: اضطرَبَ، فاستُعْمِلَ لِمَا تضطربُ منه النَّفسُ.
{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : بسببِ استمرارِهم على تجديدِ الفسقِ في كلِّ حينٍ.
* * *
(35) - {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا} : مِن القريةِ {آيَةً بَيِّنَةً} : هي آثارُ منازلهم الخَرِبةِ.
وقيل: الحجارةُ الممطورة.
وقيل: الماءُ الأسودُ على وجهِ الأرضِ.
{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : يَستعملون عقولَهم في الاستبصار والاعتبار، وهو متعلِّق بـ {تَرَكْنَا} أو {بَيِّنَةً} .
* * *
{وَإِلَى مَدْيَنَ} : وأرسلنا إلى مدينَ {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} الأمرُ بالرَّجاءِ أمرٌ بسببِه اقتضاءً، ولا تجوُّز فيه.
ويجوز أن يكون الرَّجاء بمعنى الخوف، و {الْيَوْمَ} مجازٌ عمَّا فيه مِن الثَّوابِ أو العقاب.
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قد سبقَ تفسيرُه.
* * *
(37) - {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : هي زعزعةُ الأرضِ تحتَ القدمِ، وفي سورة الحجر:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73]؛ أي: صيحةُ جبريل عليه السلام، وهي سببُ الرَّجفةِ.
{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} : في ديارهم، على ما ذُكِرَ في سورة هود عليه السلام، فاكتفى هنا بالواحد لِأَمْنِ اللَّبْسِ.
{جَاثِمِينَ} الجاثِمُ: البارك
(1)
على ركبتيه مستقبِلًا بوجهِهِ الأرضَ؛ أي: ميِّتين على هذا الحال.
* * *
{وَعَادًا وَثَمُودَ} منصوبان بفعلٍ دلَّ عليه ما قبله مثلَ: أهلكنا. وقرئ: {وَثَمُودَ} غير منصرِّف على تأويل القبيلةِ
(2)
.
{وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ} ذلك، يعني: ما وصفَه مِن إهلاكِهم.
{مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} مِن جهةِ مساكِنهم إذا نظرتم إليها عند مرورِكم بها، وكانَ أهلُ مكَّة يمرُّون عليها في بعض أسفارِهم فيبصرونها.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} مِن الكفْرِ والمعاصي.
(1)
في (ك): "النازل".
(2)
قرأ حفص وحمزة بفتح الدَّال من غير تنوين ووقفًا بغير ألف، والباقون بالتنوين ووقفوا بالألف. انظر:"التيسير"(ص: 125).
{فَصَدَّهُمْ} الصَّدُّ: الصَّرْفُ عن الخير، ولا يقال: صدَّه عن الشَّرِّ، ولكن يقال: صرَفَه عن الشَّرِّ ومنعَه منه
(1)
.
{عَنِ السَّبِيلِ} : الصِّراط المستقيم الذي هداهُم إليه الرُّسُلُ.
{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} : متمكِّنين مِن النَّظر والاستبصارِ لكنَّهم لم يفعلوا، أو: متبيِّنين أنَّ العذابَ لاحقٌ بهم بإخبارِ الرُّسلِ لهم، ولكنَّهم لَجُّوا حتَّى هلَكوا.
* * *
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} معطوفٌ على {وَعَادًا} ، وتقديم {وَقَارُونَ} لشرف نسبه.
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} : فائتين، بل أدركَهم أمرُ اللّهِ، مِن سبقَ طالبَه: إذا فاتَه.
* * *
{فَكُلًّا} مِن المذكورِين {أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} : عاقبنا بسببٍ مِن جهتِه.
(1)
في (م): "عنه".
{فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} الحاصبُ: ريحٌ تأتي بالحصباء، وهي
(1)
الحصا الصِّغار كقومِ لوطٍ.
{مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كمدين وثمود.
{وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} كقارون.
{وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} كفرعون وقومه، وأمَّا قومُ نوح عليه السلام فليسوا
(2)
مِن المذكورين.
الغرقُ لا يكون إلَّا في الماء بخلاف الخسف، ولذلك زاد فيه قوله:{بِهِ الْأَرْضَ} .
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} : ليعاملهم معاملةَ الظالم فيعاقبَهم بغير جُرْمٍ، وزيادة {كَانَ} لبيان أنَّه ليس مِن عادته ذلك.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالتَّعريض للعذاب.
* * *
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: مَثَلُ مَن أشرَكَ باللّه الأوثانَ.
{كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} التَّاءُ فيه كتاء (طاغوت)، تقع على الواحد والجمع، والمذكَّر والمؤنَّث.
(1)
في (ك): "وهو".
(2)
في (ك): "ليسوا"، وفي (ي) و (ع):"ليس".
{اتَّخَذَتْ بَيْتًا} ؛ أي: كمَثَل العنكبوت فيما تتَّخذُه لنفسِها مِن بيتٍ؛ فإنَّ ذلك البيت لا يدفعُ عنها الحرَّ والبرد، ولا يقي ما تقي البيوتُ، فكذلك الأوثان لا تنفعُهم في الدُّنيا والآخرة.
ولا وجهَ لِمَا قيل في تفضيل
(1)
بيتها: بل ذلك أوهن، فإن لهذا حقيقةً وانتفاعًا مَّا
(2)
؛ لأنَّ قضية التَّشبيه عكس هذا.
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} مِن هنا ظهر أنَّ الغرضَ تشبيهُ ما اتَّخذوه مُتَّكَلًا ومعتمَدًا في دينهم بما هو مَثَلٌ عند النَّاسِ في الوهن والضَّعف، لا تشبيهُ ذواتِهم بالعنكبوت.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : يرجعون إلى علمٍ لعَلِموا أنَّ هذا مَثَلُهم، أو أنَّ دينَهم أوهنُ مِن ذلك، ويجوز أنْ يُخرجَ الكلامُ بعد تشبيهِ دينهم ببيت العنكبوت مخرَجَ الاستعارة؛ فيُرادَ ببيتِ العنكبوتِ دينَ المشركين وعبادةَ الأوثان، فيكون استعارةً مصرِّحة تمثيليَّةً.
* * *
(42) - {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} على إضمار القول؛ أي: قل للكفرة: إنَّ اللَّه يعلم.
(1)
في هامش (ع) و (ف) و (ي): "موجب التفضيل أن يكون سائر البيوت دونه في الوهن فلا يجدي ما قيل في تفسيره: لا بيت أوهن منه. منه".
(2)
انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 195).
وقرئ: {يَدْعُونَ} بالياء
(1)
، حملًا على ما قبله.
و {مَا} استفهاميَّةٌ منصوبة بـ {يَدْعُونَ} ، و {يَعْلَمُ} معلَّقةٌ عنها، و {مِن} للتَّبيين.
أو نافيةٌ و {مِن} مزيدة، و {شَيْءٍ} مفعولُ {يَدْعُونَ} .
أو مصدريةٌ و {شَيْءٍ} مصدر
(2)
.
أو موصولةٌ مفعولٌ لـ {يَعْلَمُ} ، ومفعولُ {يَدْعُونَ} عائدُه المحذوف.
والكلام على الأوَّلَيْنِ تجهيلٌ لهم وتوكيدٌ للمَثلِ، وعلى الآخرَيْنِ وعيدٌ لهم.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تعليلٌ على المعنيَيْنِ، فإنَّ مِن فَرْط الغباوة إشراكُ ما لا يُعدُّ شيئًا بمن
(3)
هذا شأنه، وأنَّ الجمادَ بالإضافة إلى القادر القاهر على كلِّ شيءٍ، البالغِ في العلم وإتقان الفعل الغايةَ، كالمعدوم، وأنَّ مَن هذا صفتُه قَادِرٌ
(4)
على مجازاتهم.
* * *
(43) - {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} يعني: المثلُ المذكور وأشباهُه.
{نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تقريبًا لِمَا بَعُدَ مِن أفهامِهم.
(1)
قراءة عاصم وأبي عمرو، وباقي السبعة بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 174).
(2)
"شيء مصدر" سقط من (ك)، و"مصدر" سقط من (ف).
(3)
في (ف) و (م) و (ي) و (ع): "لمن".
(4)
في النسخ: "قدر"، والمثبت من "تفسير البيضاوي"(4/ 195).
{وَمَا يَعْقِلُهَا} : وما يعقلُ حسنَها وفائدتَها {إِلَّا الْعَالِمُونَ} : الواقفون على أنَّ الأمثال والتَّشبيهات إنَّما هي الطُّرق إلى المعاني
(1)
المستورة حتَّى تبرزَها وتصوِّرَها للأفهام.
* * *
(44) - {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} .
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} مُحقًّا؛ يعني: لم يخلقهما باطلًا، بل لحكمةٍ، وهي أنْ تكونا
(2)
مساكنَ عبادِه، وعبرةً للمعتبِرين منهم، ودلائلَ على
(3)
عظم قدرته، كما أشار إليه بقوله:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} خصَّهم بالذِّكرِ لأنَّهم المنتفِعون بها.
* * *
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} تقرُّبًا إلى الله بقراءته، وتحفُّظًا لألفاظه، واستكشافًا لمعانيه؛ فإنَّ القارئ المتأمِّل قد ينكشِفُ له بالتَّكرارِ ما لم ينكشفْ له أوَّل ما قرعَ سَمْعَه.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} ؛ أي: دُمْ على إقامَتِها.
(1)
في (ك): "للمعاني".
(2)
في (ف) و (ك) و (ي): "تكون".
(3)
"على" سقط من (م).
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قد مرَّ تفسيرُهما، والنَّهيُ مجازٌ عن المنعِ.
رُويَ: أنَّ فتًى مِن الأنصار كان يصلِّي معَ رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ولا يَدَعُ شيئًا من الفواحش إلَّا ركبَه، فوُصِفَ له عليه السلام فقال:"إنَّ صلاتَه ستنهاهُ"، فلم يلبَثْ أنْ تابَ
(1)
.
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ أي: والصلاةُ أكبرُ مِن غيرِها مِن الطَّاعات، وإنَّما عبَّرَ عنها به لتستقلَّ بالتَّعليل، كأنَّه قالَ: والصَّلاةُ أكبرُ لأَنَّها ذِكرُ اللّهِ.
أو: لذكرُ اللّهِ
(2)
إيَّاكم برحمته أكبرُ مِن ذكركِم إيَّاه بطاعتِه.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} منه ومن سائر الطَّاعاتِ، فيجازيكم بها أحسنَ المجازاة.
* * *
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} أصلُ الجدالِ: شِدَّة الفَتْلِ
(3)
.
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 281)، و"الكشاف"(3/ 456)، و"المحرر الوجيز"(4/ 320)، وعزاه الثعلبي وابن عطية لرواية أنس رضي الله عنه، لكن قال الحافظ في "الكاف الشاف" (ص: 128): (لم أجده). قلت: روى الإمام أحمد في "المسند"(9778)، وابن حبان في "صحيحه"(2560)، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه، إنَّ فلانًا يصفي باللَّيل، فإذا أصبحَ سرقَ، قال:"سينهاهُ ما تقولُ". ورجاله رجال الصحيح كما في "مجمع الزوائد"(2/ 258).
(2)
"ولذكر الله" زيادة من (ي).
(3)
قال الخازن في "تفسيره"(1/ 595): "لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه".
{إِلَّا بِالَّتِي} : إلَّا بالخصلة التي {هِيَ أَحْسَنُ} كمعارضة الخشونةِ باللِّين، والغضب بالكَظْم، والمشامَتة بالنُّصح.
{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالإفراطِ في الاعتداءِ والعِناد، فلم ينفعْ فيهم الرِّفقُ.
وقيل: معناه: ولا تجادلوا الدَّاخلين في الذِّمَّة إلَّا بالتي هي أحسنُ، إلَّا الذين ظلموا فنبذوا الذِّمَّة ومنعوا الجزية، ومجادلتُهم بالسَّيف.
{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} مِن جِنس المجادلة بالأحسن، وعن النَّبيِّ عليه السلام:"لا تصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذِّبوهم، وقولوا: آمنَّا باللّهِ وكتبِه ورسلِه، فإن كان باطلًا لم تصدَّقوهم، وإنْ كان حقًّا لم تكذِّبوهم"
(1)
.
{وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : مطيعون له خاصَّة، وفية تعريضٌ باتِّخاذهم أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا مِن دونِ اللّهِ.
* * *
{وَكَذَلِكَ} : ومثْلَ ذلك الإنزالِ {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} مصدِّقًا لكتبهم بأنْ نزلَ على ما وُصِفَ فيها.
{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه، تفريعٌ على نزول القرآن على ما وُصِفَ في كتابهم، وإنَّما قالَ:{يُؤْمِنُونَ بِهِ} دون: آمنوا به؛ لأنَّ منهم مَن لم يؤمن بعدُ.
(1)
روى نحوه أبو داود (3644) من حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه، وأصل الحديث عند البخاري (4485) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
{وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الإشارةُ إلى أهل مكَّة، أو إلى عامَّة العربِ، لا إلى مَن في عهد الرَّسولِ عليه السلام مِن أهل الكتاب؛ لأنَّهم داخلون فيما تقدَّم، ولا مجال لتخصيصه بمَن تقدَّم عهدَه عليه السلام لأنَّ التَّفريع يأباه
(1)
.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} مع ظهورِها وقيامِ الحجَّة عليها، ولذلك قال:{وَمَا يَجْحَدُ} ؛ فإنَّ الجَحْدَ ليسَ مطلقَ الإنكارِ، بل الإنكارُ بعدَ المعرفةِ.
{إِلَّا الْكَافِرُونَ} : إلا السَّاترون للحقِّ بعدَ وضوحِه عندهم عنادًا
(2)
.
* * *
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} ؛ أي: مِن قبلِ نزولِ القرآن عليك، فيُفهَم منه أنَّه عليه السلام كان قادرًا على التِّلاوة والخطِّ بعدَه.
{مِنْ كِتَابٍ} عربيًّا كان أو عبريًّا أو سريانيًّا أو فارسيًّا.
{وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فإنَّ ظهورَ هذا الكتاب الجامعِ لأنواع العلوم الشَّريفة على مَن لا يقدرُ على القراءة والخطِّ
(3)
خارقٌ للعادة.
وذِكرُ اليمين زيادةُ تصويرٍ للمنفيِّ، ونفيٌ للتَّجوُّز في الإسناد، وما فيه من الإطناب المعنوي لإفادة أنَّ الكتابة من أشرف الصِّناعات، فحقُّها أن تكون باليمين
(1)
في هامش (ي): "رد للكشاف"، وهو كما قال.
(2)
في هامش (ف) و (ي) و (ع): "ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوًا عن الفائدة. منه".
(3)
في هامش (ي): "من بدل الخط بالتعلم فكأنه استلال [أو: استدراك، أو: استدلال]، ولا يخفى ما فيه. منه".
دون اليسار المخصوصةِ بخسائس الأمور، على ما أشار إليه النَّبيُّ عليه السلام بقوله:"اليمين للوضوء واليسار للاستنجاء"
(1)
.
{إِذًا} تقديره: ولو كنْتَ تتلو الكتابَ وتخطُّه إذًا {لَارْتَابَ} : لشكَّ {الْمُبْطِلُونَ} مِن أهل الكتاب، وقالوا: الذي نجده في كُتبنا أميٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ، وليس به.
وإنَّما سمَّاهم مبطلين لأنَّهم وجدوه في كتبهم كذلك فغيَّروه
(2)
.
قيل: أي: لو كنْتَ ممَّنْ يخطُّ
(3)
ويُقرأُ لقالوا: لعلَّه تعلَّمَ أو التقطه مِن كتبِ الأقدمين.
وفيه: أنَّ ذلك الارتياب لا يندفع بكونه عليه السلام أُمِّيًّا؛ فإنَّ التَّعلُّم مِن الغير لا يتوقَّفُ على القراءة والكتابة.
* * *
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ويوجد أحاديث كثيرة لاستحباب استخدام اليمين في الوضوء وما يستحسن، والنهي عن استخدامها في الاستنجاء، منها ما رواه البخاري (153) ومسلم (267) عن أبي قتادة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه".
وروى أبو داود (33) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت يد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى".
(2)
في هامش (ع) و (ي): "لمَّا عرفت أن الارتياب مخصوص بهم بين أهل الكتاب فقد ظهر عندك وجه التعبير بالمبطلين دون الكافرين، ومن لم يتنبه لذلك زعم أن المراد منهم الكافرين. منه".
(3)
في (ف) و (ي): "تخطه".
{بَلْ هُوَ} : بل القرآنُ {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هما مِن خصائص القرآن: كونه آياتٍ بيِّناتٍ للإعجاز، وكونه محفوظًا في الصُّدور، بخلافِ سائر الكتُبِ السَّماويَّة؛ فإنَّها لم تكن معجزات في حدود أنفسها
(1)
، وما كانت
(2)
تقرأ إلَّا مِن المصاحفِ.
وفي قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تشريف للحفَّاظِ، وتنبيهٌ على أنَّ حفظه حقيقةً إنَّما يكون بالوقوف على معانيه.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} : إلَّا المتوغِّلون في الظُّلم بالمكابرة بعدَ وضوح دلائل الإعجاز.
* * *
{وَقَالُوا} عطفٌ على اللَّازم ممَّا تقدَّم؛ أي: لم يَعتدُّوا
(3)
بتلك الآيات وقالوا:
(1)
في هامش (ي) و (ع): "ولا ينافي هذا كون بعضها معجزة من جهة أخرى، كالتوراة فإنها نزلت من السماء مكتوبة. منه".
(2)
"كانت" سقطت من (ع).
(3)
في (ع): "لا تعبدوا"، وفي (ف):"لا تعدوا"، وفي (ك):"لا تعتدوا"، وفي (م):"لا يقتدوا"، وفي (ي):"لا يعتدوا"، والصواب المثبت.
{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} مثلَ ناقةِ صالح، وعصا موسى، ومائدةِ عيسى، عليهم السلام.
{قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} ينزِلها كما يشاءُ، وأمَّا ما قيل: لسْتُ أهلَها فآتيَكم بما تقترحونه، فلا يناسبُ المقامَ؛ لأنَّ الاقتراح كان من الله تعالى لا منه عليه السلام {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ليسَ مِن شأني إلَّا تبليغُ ما أُمِرْتُ به مِن الإنذار والإبانةِ ممَّا أُعْطِيْتُ مِن الآيات، والاقتصارُ على ذِكْرِ الإنذارِ لزيادةِ التَّهديد لهم والوعيدِ في حقِّهم، وإلَّا فشأنه عليه السلام غير مقصور على ما ذُكِرَ، بل التَّبشيرُ أيضًا من شأنه.
* * *
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} آيةٌ مغنية عمَّا اقترحوه.
{أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} : الكاملَ في جنسِه.
{يُتْلَى عَلَيْهِمْ} : تدومُ تلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، فلا يزال معهم آيةً ثابتةً لا تزولُ كما تزول كلُّ آيةٍ بعدَ كونِها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} : إنَّ في مثل هذه الآية الموجودة في كلِّ مكانٍ وزمانٍ إلى آخرِ الدَّهر.
{لَرَحْمَةً} : لنعمةً عظيمةً {وَذِكْرَى} : وتذكرةً {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لمن همُّه الإيمانُ دونَ التَّعنُّت.
* * *
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بصِدْقي
(1)
، وقد صدَّقني بالمعجزات، أو: بتبليغي ما أُرْسِلْتُ به إليكم ونصحي ومقابلتِكم إيَّايَّ بالتَّكذيبِ والتَّعنُّتِ.
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو مُطَّلِع على أمري وأمرِكم، وعالمٌ بحقِّي وباطلِكم.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} وهو الذي يُعبَدُ مِن دونِ اللّهِ {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} منكم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} في صفقتهم حيث اشتروا الكفرَ بالإيمانِ.
* * *
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} بقولهم: أمطرْ علينا حجارةً مِن السَّماء.
{وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى} على مقتضى الحكمة لكلِّ عذابٍ أو قومٍ {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلًا.
{وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} العذابُ في الأجل المسمَّى {بَغْتَةً} : فجأةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بوقتِ مجيئه، فليس وقعة بدر منه
(2)
.
(1)
في (م): "يصدقني".
(2)
في (ك): "فليس وقت بدر منه"، وفي (ف):"فليس وقت بدلٌ منه"، وفي (م):"فليس وقت يدرأ منه". والمثبت من (ع) و (ي)، وهو الصواب، حيث ذكره ردًا على البيضاوي (4/ 197) في قوله:{وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فجأة في الدنيا كوقعة بدر.
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أعاده لربط قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ} أُرِيدَ بـ {جَهَنَّمَ} ما يوجبُها، أو نزَّل الإحاطة المقدَّرة منزلةَ المحقَّقة للقَطْع بوقوعِها، وهذا بحسب النَّظر الجليل.
وأمَّا الذي يقتضيه النَّظر الدَّقيق: فهو أنَّه تعالى مُنزَّه عن النِّسَبِ الزَّمانيَّة، فالكائناتُ كلُّها واقعةٌ في أوقاتِها
(1)
المعيَّنة بالنَّظر إليه تعالى، فلا تجوُّزَ في أحدِ جُزْأي الكلام.
{بِالْكَافِرِينَ} اللَّام للعهد على وضع الظَّاهر موضعَ المضمَرِ؛ للدِّلالة على موجِب الإحاطة، أو للجنس فيكون استدلالًا بحكم الجنس على حكمِهم.
ولا وقف على {بِالْكَافِرِينَ} لأنَّ: {يَوْمَ} ظرفُ إحاطةِ النَّار بهم.
{يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
وذكر
(2)
{أَرْجُلِهِمْ} للدِّلالة على أنَّ تلك التَّغشية في حال انتصابهم.
{وَيَقُولُ} اللّهُ، أو بعضُ الملائكةِ بأمرِه؛ لقراءة:{ونقول} بالنُّونِ
(3)
: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي: جزاءَه.
* * *
(1)
في (ف) و (ك): "إفادتها".
(2)
في (ك): "ذكر".
(3)
قرأ الكوفيون ونافع بالياء، وباقي السبعة بالنون. انظر:"التيسير"(ص: 174).
(56) - {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} .
{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ؛ أي: إذا لم تتسهَّل العبادةُ في بلدةٍ، ولم يتيسَّرْ لكم إظهارُ دينِكُم، فهاجروا إلى حيثُ يتمشَّى لكم ذلك، والفاء في قوله:
{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} جوابُ شرطٍ محذوفٌ؛ إذ المعنى: إنَّ أرضي واسعةٌ، إنْ لم تخلِصوا العبادةَ في أرضٍ فأخلِصوها في غيرها، ثمَّ حذفَ الشَّرطَ وعوَّضَ مِن حذفه تقديمَ المفعولِ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص، ثمَّ شجَّع المهاجِرَ بقوله:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ¶29¶57 <
(57)
- {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ؛ أي: واجدةٌ مرارَته، كما يجدُ الذَّائق طعمَ المذوقِ؛ لأنَّها إذا تيقَّنَتْ
(1)
بالموت سهلَ عليها مفارقةُ وطنِها.
{ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بعدَ الموتِ للثَّوابِ والعقاب، ومَن هذا عاقبتُه ينبغي أنْ يجتهدَ في الاستعداد له.
* * *
>
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} : لننزلنَّهم {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} : علاليَ.
وقرئ: {لَنُثْوينَّهم} مِن الثَّواء
(2)
، وهو النُّزولُ للإقامة، وثَوَى غيرُ متعدٍّ، فإذا
(1)
في (م): "تيقن".
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 174).
تعدَّى بزيادة الهمزة لم يتجاوز مفعولًا واحدًا، والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤُه مجرى لننزلنَّهم ولنبوِّئنَّهم، أو حذف الجار وإيصال الفعل، أو تشبيهُ الظَّرفِ المؤقَّتِ بالمبهم.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} وقرئ: (فنعم)
(1)
، والمخصوص بالمدح محذوف دلَّ عليه ما قبلَه.
ويُوقف على {الْعَامِلِينَ} على أنَّ {الَّذِينَ صَبَرُوا} خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هم الذين صبروا على أذيَّة المشركين، والهجرةِ للدِّين، إلى غير ذلك مِن المحنِ والمشاقِّ.
والوصل أجود؛ ليكون {الَّذِينَ} نعتًا لـ {الْعَامِلِينَ} .
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : ولا يتوكَّلون في جميع ذلك إلَّا على اللّهِ.
* * *
{وَكَأَيِّنْ} : وكم {مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} : لا تطيقُ حملَه لضعفِها، ولا تدَّخره، وإنَّما تصبح ولا معيشةَ عندَها.
{اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ثمَّ إنَّها مع ضعفِها وتوكُّلِها، وإيَّاكم مع قوَّتِكم واجتهادِكم في الكسْبِ، سواءٌ في أنَّه
(2)
لا يرزُقها وإيَّاكم إلَّا اللَّه، فإنَّه لو لم يقدِّركم ولم يقدِّرْ لكم أسبابَ الكسب لكنْتُم أعجزَ مِن أضعفِ الدَّوابِّ، فلا تخافوا على معاشِكم بالهجرةِ.
(1)
نسبت ليحيى بن وثاب. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 115).
(2)
في (ك): "أنها".
رُويَ أَنَّهم لَمَّا أُمِروا بالهجرة قال بعضُهم: كيف نَقْدمُ بلدةً ليس لنا فيها معيشة، فنزلَتْ
(1)
.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لقولِكم: نخشى الفقرَ والضَّيعةَ {الْعَلِيمُ} بما في ضمائرِكم.
* * *
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} المسؤول أهل مكَّة.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ؛ أي: هم مُقرُّون بذلك، ولا يخفى ضعفُ التَّمسُّكِ بوجوب انتهاء الممكنات إلى واحدٍ واجبِ الوجود في هذا المطلبِ.
{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : فكيفَ يُصرَفون عن
(2)
توحيده مع إقرارِهم بهذا كلِّه.
* * *
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} : يوسِّعُه {لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِر} يُقالُ: قَدَرَ الرِّزقَ وقتَرَهُ: إذا ضيَّقه.
{لَهُ} ؛ أي: لِمَن يشاءُ، فوضعَ الضَّميرَ مَوْضِعَ (من يشاء) لأنَّه مُبْهَمٌ غيرُ معيَّن، فكان الضَّميرُ مُبْهمًا مثلَه.
وليس المراد مِن الموسَّع له والمضيَّق عليه واحدًا باعتبار الوَقْتَين؛ إذ حينئذٍ حقُّ قوله: {وَيَقْدِرُ} أنْ يُصدَّرَ بأداة التَّعاقبِ.
(1)
انظر: "النكت والعيون"(4/ 293)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 198).
(2)
في (م): "على".
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلمُ ما يُصلِحُ العبادَ وما يفسدُهم.
* * *
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} معترِفين بذلك، فكيف يشركون به ما لا يقدِرُ على شيءٍ أصلًا.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هذه النِّعمةِ العُظمى، فإنَّ الماءَ مادَّةُ حياةِ كلِّ شيءٍ.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فلا يعلمون ما يقولون، وما فيه مِن الدِّلالة على بطلانِ الشِّركِ وصحَّة التَّوحيد.
وكلمة {بَلْ} إضرابٌ عن جهلِهم الخاصِّ في الإتيان بما هو حجَّة عليهم، يعني: أنهم مسلوبو
(1)
العقولِ، فلا يَبعدُ عنهم مثلُه.
وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} معترِض، ويأتي في سورة لقمان تفسيرُ هذه الآيةِ بوجهٍ آخر.
* * *
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إشارةُ تحقيرٍ، كيف وهي لا تزنُ
(2)
عند اللَّه جناحَ بعوضة.
(1)
في (ف): "مسلوبون".
(2)
في (ف) و (ك): "تسوى"، وفي (م):"وهي لا تزن عند الله ولا تسوى عند الله".
{إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} ؛ أي: ما هي لسرعةِ زوالِها وعدمِ النَّفعِ في مآلها إلَّا كما يَلْهَى وَيلعبُ به الصِّبيان، ويجتمعون إليه، ويبتهجون به ساعةً، ثمَّ يتفرَّقون.
واللَّهْوُ: ما يتلذَّذُ به الإنسانُ فيلهيه ساعةً ثمَّ ينقضي.
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} ؛ أي: هي دارُ الحياةِ الحقيقيَّة، لعدمِ طَرَيان الموت عليها، أو كأنَّها في ذاتها حياةٌ؛ إذ ليس فيها إلَّا حياة مستمرَّة دائمة.
و {الْحَيَوَانُ} : مصدرُ حَيِيَ، وقياسُه: حَيَيَان، فقُلِبَتِ الياء الثَّانية واوًا، ولم يقل: لهي الحياة؛ لِمَا في بناء فَعَلان من معنى الحركة والاضطراب، والحياةُ حركة والموتُ سكون، فمجيئه على بناءٍ دالٍّ على معنى الحركة مبالغةٌ في معنى الحياةِ.
ويوقف على {الْحَيَوَانُ} لأنَّ التَّقدير: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} حقيقةَ الدَّارَيْن لَمَا اختاروا اللَّهو الفانيَ على الحيوان الباقي، ولو وُصِلَ لصار وصفُ الحيوان معلَّقًا بشرطِ علمِهم ذلك، وليس كذلك.
* * *
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} مُتَّصلٌ بما دلَّ عليه ما قبلَه مِن شرح حالِهم بطريق الإشارة، وليس هنا محذوفٌ؛ أي: هم على ما وُصِفوا به مِن الشِّرك والعناد، فإذا ركبوا في البحر {دَعَوُا اللَّهَ} في تلك الحالة.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} حقيقةً، حيث لا يَدْعون معه غيرَه؛ لعلمِهم بأنَّه لا يكشف الشَّدائدَ إلَّا هو، وهذا - أي: التَّوافق بين العلم والعمل - حقيقةُ الإخلاصِ، لا
صورتُه
(1)
، وأيضًا مساقُ الكلام في تقبيح حالِهم وكمالِ القبح في انقلابهم عن الإخلاص إلى الشِّرك بغتةً.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} : فاجَؤوا المعاوَدَةَ إلى الشِّرك.
* * *
(66) - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} اللَّام فيه لام (كي)، وكذا في:
{وَلِيَتَمَتَّعُوا} على قراءة الكسر؛ أي: يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعَود إليه كافرين بنعمة النَّجاة، متمتِّعين باجتماعهم على عبادة الأصنام، وتوادِّهم
(2)
عليها والتَّلذُّذِ لا غير، على خلاف عادة المخلصين من المؤمنين، فإنَّهم يشكرون نعمة اللَّه تعالى إذ أنجاهم، ويجعلون نعمة النَّجاة ذريعةً إلى زيادة الطَّاعة، لا إلى التَّمتُّع والتَّلذُّذ
(3)
.
وعلى هذا لا وقفَ على {يُشْرِكُونَ} ، ومَن جعلَه لام الأمر متشبِّثًا بقراءة السُّكون
(4)
على وجه التَّهديد كقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] يقفُ عليه.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوءَ تدبيرِهم عندَ تدميرِهم.
* * *
(1)
في (ف): "صورة".
(2)
في (ك): "وتواددهم".
(3)
في (م): "التلذذ والتمتع".
(4)
قراءة ابن كثير وقالون وحمزة والكسائي، وباقي السبعة بكسر اللَّام. انظر:"التيسير"(ص: 174).
{أَوَلَمْ يَرَوْا} ؛ أي: أهل مكَّة {أَنَّا جَعَلْنَا} بلدَهم {حَرَمًا} : ممنوعًا مصونًا عن النَّهب والتَعدي {آمِنًا} : يأمنُ داخلوه سواءٌ كان مِن أهلِه أو مِن غيرِهم مِن القتلِ والسَّبي.
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} يُختلسون قَتْلًا وسَبْيًا؛ إذ كانَتِ العربُ حولَه في تغاورٍ وتناهبٍ.
{أَفَبِالْبَاطِلِ} : أبعدَ هذه النِّعمةِ المكشوفةِ وغيرِها ممَّا لا يَقدرُ عليه إلا اللَّه، بالصَّنم أو الشَّيطانِ {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} حيثُ أشركوا به غيرَه، وتقديم الصِّلتَيْن لمحافظةِ الفاصلةِ والاختصاصِ على طريق المبالغةِ.
* * *
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأنْ جعلَ له شريكٌ، قائلينَ:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وهذا القولُ منهم باعتبار أنَّ التَّقرُّبَ لا يكون إلَّا بالطَّاعة في معنى القول بأنَّ تلك العبادةَ طاعةٌ أمروا بها، وهذا افتراءٌ منهم على اللَّه تعالى.
ثُمَّ إنَّ الافتراءَ نفسَه وإن كان لا يخلو عن كذبٍ لكنَّ المفتَرى قد يكون صادقًا، والمفتَرى هاهنا - وهو كون عبادة الأصنام طاعةً - لَمَّا كان كذبًا زادَ قولَه:{كَذِبًا} زيادةً
(1)
في تقبيحِ شأنِهم.
(1)
"زيادة" سقط من (ك).
{أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} ؛ يعني: الرَّسول أو الكتاب.
وفي: {لَمَّا جَاءَهُ} تسفيهٌ لهم حيثُ لم يتوقَّفوا ولم يتأمَّلوا قطُّ حين جاءهم، بل سارعوا إلى التَّكذيبِ أوَّلَ ما سمعوه.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} تقريرٌ لثوائهم فيها؛ أي: ألا
(1)
يَثْوون فيها، وقد افتروا مثل هذا الافتراء على اللَّه، وكذَّبوا بالحقِّ هذا التَّكذيب؛ أو: ألم يصحَّ عندهم أنَّ في جهنَّم مثوًى للكافرين، حتَّى اجترؤوا مثلَ هذه الجرأة.
* * *
(69) - {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} أطلقَ المجاهدة ليتناولَ كلَّ ما تجب مجاهدته من الأعادي الظَّاهرة والباطنة بأنواعها.
{فِينَا} : في حقِّنا ومن أجلِنا ولوجهنا خالصًا.
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} : لنزيدنَّهم هدايةً إلى سُبُلِ الخير وتوفيقًا لسلوكها، كقوله:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالنُّصرةِ والمعونةِ في الدُّنيا، وبالثَّوابِ والمغفرة في العُقبى.
* * *
(1)
في النسخ عدا (ف): "لا"، والمثبت من (ف)، وهو الصواب.
سُورَةُ الرُّومِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1 - 2) - {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} .
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} : غُلِبَتِ في القراءة المشهورة على البناء للمفعول، و {سَيَغْلِبُونَ} على البناء للفاعل، وقرئ على العكس
(1)
، وإضافةُ غَلَبتهم
(2)
في الأولى إلى المفعول، وفي الثانية إلى الفاعل.
* * *
{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} : أرضِ العربِ؛ لأنَّها الأرض المعهودة عندهم؛ أي: في أدنى أرضِ العرب منهم، أو: أرضِهم؛ أي: أدنى أرضِهم مِن العرب، واللامُ بدلٌ مِن الإضافة.
(1)
نسبت لعليّ وابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم ومعاوية بن قرة وغيرهم. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 319)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 116)، و"الكشاف"(3/ 467)، و"البحر"(17/ 154).
(2)
في (م): "غلبهم".
وقيل: أدنى أرضهم إلى عدوِّهم
(1)
؛ أمَّا الدلالة على الإضافة فظاهرةٌ مِن ذِكْرهم، وأمَّا النهاية فلحديث المغلوبيَّة.
وعن مجاهد: هي أرضُ الجزيرة، وهي أدنى أرضِ الروم إلى فارس
(2)
.
وقيل: أَذْرعاتَ وبُصْرى، وهي أدنى أرضِ الشام مِن العرب.
{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} وقرئ بسكون اللَّام
(3)
، فالغَلَب والغَلْب مصدران، كالحَلَب والحَلْب.
{سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} البِضْعُ: ما بين الثلاثةِ إلى العَشَرة، وفي "المجمل": ما بين الواحد إلى التسعة
(4)
.
روي أنَّه لمَّا بلغ مكةَ خبرُ غلبةِ فارسَ الرومَ، فرحَ المشركون وشَمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم ونصارى أهلُ الكتاب، ونحن وفارسُ أُمِّيُّون، فقد ظهر إخوانُنا على إخوانكم، ولنَظهرنَّ عليكم، فنزلت
(5)
.
وظهرت الرومُ على فارسَ يومَ الحديبية، وذلك عند رأسِ سبعِ سنين.
وقيل: كان النصر يومَ بدر للفريقين.
والمعنى على القراءة الثانية؛ أنَّ الرومَ غلبوا على ريفِ الشام، وسيَغلبهم المؤمنون في بِضْعِ سنين، وقد غَلَبهم المسلمون في السنة التاسعة وفتحوا بعضَ بلادهم.
(1)
أي: الفرس.
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 466).
(3)
نسبت لعليٍّ رضي الله عنه. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 116).
(4)
انظر: "المجمل" لابن فارس (1/ 127).
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 466)، ورواه الطبري في "تفسيره"(18/ 450) عن عكرمة.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ؛ أي: مِن قَبْلِ كونهم غالبين؛ وهو وقتُ كونهم مغلوبين، ومِن بعد كونهم مغلوبين؛ وهو وقتُ كونهم غالبين؛ أي: ليس الأمر في الحالين إلَّا للّه.
وقرئ: (من قبلٍ ومن بعدٍ) على الجرِّ مِن غير تقدير مضافٌ
(1)
، كأنَّه قيل: قَبْلًا وبَعْدًا؛ أي: أوَّلًا وآخرًا.
{وَيَوْمَئِذٍ} : ظرفٌ معمول لـ {يَفْرَحُ} ، والتنوين فيه للعوض مِن الجملة المحذوفة؛ أي: ويوم إذ يَغلبُ الرومُ فارسَ.
{يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} وتغليبِه مَن له كتابٌ على مَن لا كتابَ له؛ لِمَا فيه مِن انقلابِ التفاؤل وغيظِ مَن شمتَ بهم مِن كفار مكة، أو لِمَا ظهر مِن صدقِ المؤمنين فيما أَخبروا به المشركين.
وقيل: وافق ذلك يومَ بدر، وفي هذا اليوم نُصِرَ المؤمنون
(2)
.
{يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} فينصرُ هؤلاء تارةً وهؤلاء أخرى.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ينتقمُ تارةً مِن عباده بالنصر عليهم، ويتفضَّل عليهم أخرى بنصره إيَّاهم
(3)
.
* * *
(1)
نسبت لأبي السمال، والجحدري، وعون عن العقيلي. انظر:"الكشاف"(3/ 467)، و"البحر المحيط"(17/ 156).
(2)
في هامش (ع) و (ف) و (ي): "وأما النصر بمعنى تولية بعض أعدائهم بعضًا حتَّى تعاونوا فلا اختصاص له بيوم غلبة الروم فارس بل يوجد في يوم غلبة فارس الروم أيضًا. منه".
(3)
في النسخ: "بنصرهم إياهم"، والصواب المثبت. ولو قيل كما في البيضاوي:"بنصرهم أخرى" لكان صوابًا أيضًا.
(6) - {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
{وَعْدَ اللَّهِ} : مصدرٌ مؤكِّد لنفسه؛ لأنَّ ما تقدَّمه في معنى وَعَدَ، كقولك: عليَّ ألفُ درهمٍ عرفًا؛ لأنَّ معناه: أَعترفُ لكَ بها اعترافًا.
{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} اعتراض.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وعْدَه، أو: صحَّةَ وعدِه؛ لبلوغهم في الجهل غايَته حتى يستحقُّوا أنْ يقال فيهم: لا يعلمون مطلقًا.
(7) - {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
{يَعْلَمُونَ} بدلٌ مِن {لَا يَعْلَمُونَ} ، وفي هذا الإبدال - مع أنَّه مِن لطائف علمِ البديع - إشعارٌ بأنَّ سَلْب العلمِ - الذي هو الجهل - لا ينافي وجودَ العلم بظاهر أمورِ الدنيا، بل هو هو لا فرقَ بينهما.
{ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : فيه إشارةٌ إلى أنَّ للحياة الدنيا ظاهرًا؛ وهو ما يَعرفه الجهَّال مِن التمتُّع بزخارفها، والتنعُّم بملاذِّها، وجمعِ أسبابها وضبطها، وباطنًا وهو ما يعرفه العقلاء مِن الاعتبار بهم، وبسرعة انقضائها، وكون محلِّها متجرَ
(1)
الأولياء ومجازَ الآخرة، يجب التَّزوُّد منها بالتقوى والطاعة.
وتنكيرُ {ظَاهِرًا} يفيد أنَّهم لا يعلمون إلَّا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها؛ وهو التمتُّع منها بالأكل والشرب كالبهائم، لا جملتَها؛ فإنَّ مِن ظواهرَها معرفةَ خواصِّها، والاستدلالَ بها على صانعها، وكيفيَّة الانتفاع بها لصلاحِ الدارين، ففيه ذمٌّ لهم بالجهلِ بليغٌ.
(1)
في (ع): "متحرك"، وفي (ك):"معجز".
{وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} التي هي غايتُها والمقصودةُ منها {هُمْ غَافِلُونَ} لا تخطر ببالِهم، و {هُمْ} الثانية تكريرٌ للأولى، أو مبتدأ و {غَافِلُونَ} خبره، والجملة خبرُ الأولى، وعلى كِلَا الوجهين في توسطيه وتكريرِ {هُمْ} إشعارٌ بأنَّهم معدنُ الغفلة عن الآخرة ومنبعُها، متمادونَ فيها بالسكون إليها، كأنَّه لا غافلَ غيرُهم.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} : كلمةُ استبطاءٍ، ومعناها: هلَّا يتفكَّرون
(1)
لِمَ أخَّروا التفكُّر، والواو للعطف على محذوفٍ تقديره: أَلَم يلتفتوا ولم يتفكَّروا، وقوله:
{فِي أَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يكون ظرفاً، وأن يكون صلةً للتفكُّر.
ومعنى تقييد
(2)
التفكُّر به على الأول مع أنَّه لا يكون [إلا]
(3)
في النفس: زيادةُ تصويرٍ لحال المتفكِّرين وتقريرٌ، كقولك: كتبتهُ بيميني، كأنَّه قيل: أَوَلم يُحْدِثوا التفكُّر في أنفسهم العاطلةِ الفارغة عن التفكُّر والتأمُّل.
وعلى الثاني معناه: أَوَلم يتفكَّروا في أنفسِهم التي هي أقربُ الأشياء وما فيها مِن عجائبِ الصنع وبدائعِ الحكَم التي أَودعها اللهُ تعالى فيها، وفي انتقالاتها في السِّنِّ إلى الشيخوخة والضَّعْف وضرورة فنائها.
(1)
في النسخ: "يتفكروا"، والصواب المثبت.
(2)
في (ف) و (ك): "تعيين".
(3)
من "البحر المحيط"(17/ 160)، و"حاشية الشهاب"(7/ 113)، و"روح المعاني"(20/ 414).
{مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} متعلِّق بعِلْمٍ أو قولٍ محذوفٍ دلَّ الكلامُ عليه؛ أي: فيَعلموا أو يقولوا هذا القول.
{إِلَّا بِالْحَقِّ} حالٌ؛ أي: إلَّا مُلْتبسةً بالحق؛ أي: بالحكمة البالغة والعدل والصواب.
{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} ؛ أي: وبتقديرِ أجلٍ مسمًّى يَنتهي إليه، وهو قيامُ الساعة ووقتُ الحسابِ والثوابِ والعقابِ.
أو: إلَّا وهي ملتبسةٌ بالحقِّ وتقديرِ أجلٍ مسمًّى، يعني: ما خَلَقهما باطلًا، ولا لتبقى خالدةً.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} ؛ أي: لقاءِ جزائه عند الأَجَلِ المسمَّى والبعث.
{لَكَافِرُونَ} : منكِرون
(1)
.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : تقريرٌ لسيرهم في البلاد، ونَظَرِهم إلى آثار المدمَّرين - مِن عادٍ وثمودَ وغيرِهم مِن الأُمم العاتية - المترتِّبِ على ذلك السير، ثم وصف حالهم فقال:
(1)
في هامش (ي): "لم يقل: جاحدون؛ لأن الجحد مشروط بالعلم. منه".
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} : وقلَّبوا وجهَها لزرعِ البُزُور واستنباطِ المياه واستخراجِ المعادن وغيرها.
{وَعَمَرُوهَا} بالاهتمام في أمرِ البناءِ والغرسِ {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} : مِن عمارة أهلِ مكَّة إيَّاها، وفيه تهكُّمٌ بهم؛ لأنَّهم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرعٍ لا عمارةَ لهم ولا حرثَ، وهم مغترُّون بالدنيا مفتخرونَ بها، مع أنَّهم أضعفُ حالًا فيها، إذ مدارُ أمرِها على التبسُّط في البلاد، والتسلُّط على العباد، والتصرُّف في الأقطار بإظهارِ أنواعِ الآثار.
{وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزاتِ أو الآياتِ الواضحاتِ.
{فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} : فما صحَّ لهم أنْ يَظلمهم اللهُ؛ لأنَّ حاله تعالى يُنافي الظلم، كناية عن عدمِ كون تدميرِهم واستئصالِهم ظلمًا.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : حيث أصرُّوا على ما أَوجب تدميرَهم مِن الكفر والتكذيب والمعاصي.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} ؛ أي: عُوقبوا في الدنيا بالتدمير، ثم كانت عاقبتهم التي هي أَسوأ العقوبات، وهي جهنَّم التي أعدَّت للكافرين، فوضع الظاهر موضعَ المضمر للدلالة على أنَّ الموجبَ للعقوبة السوأى إساءتُهم المفرطة.
{السُّوأَى} تأنيثُ: الأَسْوَأ وهو الأقبحُ، كما أنَّ الحُسْنى تأنيث الأحسنِ، أو مصدرٌ كالبُشْرى نعت بها للمبالغة.
{أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} علةٌ؛ أي: لِأَنْ كذَّبوا، أو بدلٌ مِن {السُّوأَى} أو عطفُ بيانٍ له، أو خبر {كَانَ} و {السُّوأَى} مصدرُ {أَسَاءُوا} ، أو مفعولُه؛ أي:[ثم كان عاقبةَ الذين] اقترفوا الخطيئةَ [أن طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ حتى كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها.
ويجوز أن تكون {السُّوأَى} صلةَ الفعل و {أَنْ كَذَّبُوا} تابعَها، والخبرُ محذوف للإبهام]
(1)
والتهويل، وأن تكون {أَنْ} مفسِّرةً
(2)
بمعنى: أي؛ لأنَّ الإساءة إذا كانت مفسَّرة بالتكذيب والاستهزاء، كانت في معنى القول، نحو: نادى، وكتب وما أشبههما.
ويجوز أن يكون معنى {أَسَاءُوا السُّوأَى} : اقترفوا الخطيئةَ التي هي أسوأُ الخطايا، {أَنْ كَذَّبُوا} عطف بيانٍ لها، وخبر {كَانَ} محذوف كما يُحذف جوابُ (لو) و (لمَّا) لإرادة الإبهام؛ أي: ما لا يدخل تحت الوصف.
وقرئ: {عَاقِبَةَ} بالنصب
(3)
، على أنَّ الاسم {السُّوأَى} و {أَنْ كَذَّبُوا} على الوجوه المذكورة.
{وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} عدل عن صيغةِ الماضي، وزاد عبارة (كان)؛ للدلالة على الاستمرار التجدُّديِّ في أمرِ الاستهزاء المتضمِّن للتكذيب، والمحافظةِ على رؤوس الفاصلة
(4)
.
(1)
ما بين معكوفتين من "تفسير البيضاوي"(4/ 203).
(2)
اضطربت النسخ وغمض معناها في هذا الموضع، فجاء في (ف) و (ك):"والتهويل في أن كذبوا تفسير أو أن هي المفسرة"، وفي (م):"والتهويل في أن يكون كذبوا في أن كذبوا تفسيرا وأن هي المفسرة"، وفي (ي):"والتهويل في أن يكون كذبوا تفسيرا وأن هي المفسرة"، وفي (ع):"والتهويل في أن يكون كذبوا وأن هي المفسرة"، والمثبت من المصدر السابق.
(3)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. انظر:"التيسير"(ص: 174).
(4)
في (ف): "الآي".
(11) - {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} : يُنشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} : يبعثهمُ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاء، والالتفاتُ للاستحضار والتنبيهِ على أنه المقصود، وقرئ بالياء على الأصل
(1)
.
(12) - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} .
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} : يسكتون متحيَّرين آيسينَ، يقال: ناظَرْتُه فَأَبْلَسَ، إذا سكتَ ويئس مِن أنْ يَحْتَجَّ، ومنه: ناقةٌ مِبْلاسٌ، إذا لم يكن لها رُغاء.
وقرئ: بفتح اللام
(2)
؛ مِن: أَبْلسَهُ، إذا أَسكتَهُ.
(13) - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} .
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} : مِن الذين أشركوهم بالله وعَبَدوهم مِن دونه {شُفَعَاءُ} يُجيرونهم مِن عذاب الله.
{وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} : يكفرونَ بآلهتهم حين يئسوا منهم. وإنَّما جِيءَ بـ (لم يكن) و (كانوا) على لفظ الماضي لتحقُّق وقوعِه.
وقيل: كانوا في الدنيا بسببهم كافرين، وزيادة (كان) للمحافظة على الفاصلة
(3)
.
(1)
قرأ أبو عمرو وشعبة عن عاصم: {يُرجَعون} بضم الياء، وقرأ روح:{يَرجِعون} بفتحها، وباقي السبعة بالتاء المضمومة. انظر:"التيسير"(ص: 175)، و"النشر"(2/ 208 و 344).
(2)
نسبت لعليٍّ رضي الله عنه والسلمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 116).
(3)
كذا قال، ووهمه الشهاب في "الحاشية" (7/ 115) متعقبًا بقوله: (وذكرها للدلالة على لاستمرار لا المحافظةِ على رؤوس الفواصل كما تُوهِّم
…
فلو قيل: وهم بشركائهم كافرون، كان هو المناسبَ للفاصلة الواوية).
(14) - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} .
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} في الأحوالِ والمحالِّ على ما فسَّره بعدها، والضمير لـ {الْخَلْقَ} أو ضمير {يُرْجَعُونَ} ، وإعادة (يوم تقوم الساعة)؛ للتهويل.
(15) - {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} .
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} : الفاء للتفصيل، والروضةُ: البستانُ، وكلُّ مكانٍ ذا نباتٍ وماءٍ يُسمَّى روضةً، وتنكيرها للتفخيم بالإبهام؛ أي: في روضةٍ لا يُعرَف قَدْرُها في علوِّ شأنها.
{يُحْبَرُونَ} : يُسَرُّون، مِن: حَبَرهُ، إذا سَرَّهُ سرورًا تهلَّل له وجهُه.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} : مقيمونَ لا يغيبونَ عنه، وفي بناء الإحضار دلالةٌ على الكُرْهِ، وأنَّهم مُجبَرون في العذاب، وأمَّا {يُحْبَرُونَ} فللدلالة على أنَّه سرورٌ فوق ما بالطبعِ والعادةِ، فلا بُدَّ مِن سارٍّ يَسرُّهم بأنواع المسارِّ التي لم يكن للإنسان مثلُها في الدنيا.
(17) - {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} .
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} : لمَّا ذكر الوعدَ والوعيدَ، أَتبعه
بما يتعيَّن طريقًا للخلاص عن الدَّرَكات إلى الوصول إلى الدَّرَجات، كأنَّه قيل: إذا صحَّ ووَضحَ عاقبةُ المُعرِضين عن عبادته وطاعته، والمقبلين إليها، فسبِّح اللهَ تسبيحًا دائمًا
(1)
.
وقرئ: (حينًا تُمسون وحينًا تُصبحون)
(2)
؛ أي: تُمسون فيه، وتُصبحون فيه.
(18) - {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} .
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للشواهد الناطقة فيهما باستحقاقِه الحمدَ ممَّن له تمييزٌ مِن أهلهما، ووجوبِه عليهم.
{وَعَشِيًّا} : إنَّما عدل هنا عن سَنَنِ نظائرها؛ لأنَّه لم يُصرَف مِن العشيِّ فِعْلٌ، لا يقال: أعشى، كما يقال: أَمسى وأَصبح وأَظهر.
{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} : أمرٌ في صورة الإخبار؛ لكونه أكِّد بتنزيه اللهِ
(3)
تعالى والثناءِ عليه في هذه الأوقات التي تَظهر فيها آياتُ قدرته، ويتجدَّد فيها نِعَمه، وإنَّما خصَّص التسبيح بطرفَي النهار لأنَّ آثارَ القدرة فيهما أظهرُ، والحمدَ بالعشيِّ والإظهارِ لأنَّ تجدُّد النِّعم فيها أظهرُ وأكثرُ وأبينُ، والعشيُّ: آخرُ النهار، مِن: عَشى العينِ، إذا نقصَ نورُها، والظهيرة وَسَطه.
ويجوز أن يكون {وَعَشِيًّا} معطوفًا على {حِينَ تُمْسُونَ} ، وقوله:{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} اعتراضٌ.
(1)
في (ف): "ذاتيًا".
(2)
نسبت لعكرمة. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 116).
(3)
في (ف): "تنزيهًا لله".
وقيل: المراد بالتسبيح والتحميد في الأوقاتِ المعيَّنةِ الصلاةُ.
وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ الآيةَ جامعةٌ للصلواتِ الخمسِ: {تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء، و {تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر، و {وَعَشِيًّا} صلاة العصر، و {تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر
(1)
.
ولا يلزم منه أن تكونَ مدنيَّة؛ لأنَّ الخمسَ فُرِضت بمكَّة، يدلُّ عليه حديثُ المعراج
(2)
دلالةً بيِّنةً.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : الطائرَ مِن البيضةِ، والحيوانَ مِن النُّطفةِ {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} بالعكس.
{وَيُحْيِ الْأَرْضَ} : بإخراج النبات منها {بَعْدَ مَوْتِهَا} : يُبْسها.
{وَكَذَلِكَ} : ومثلَ ذلك الإخراج {تُخْرَجُونَ} مِن القبور للبعث، فإنَّه تعقيبُ الموتِ بالحياة، وإخراجُ الحيِّ مِن الميت، والمراد أنَّ الإبداءَ والإعادةَ متساويان بالنسبة إلى قُدرة القادر، وفي الإخراج والإحياء المذكورين دليل قاطعٌ على البعث.
(20) - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} لأنَّ أصلهم منه {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ثم فاجأتُم وقتَ كونكم بَشَرًا منتشرين في الأرض.
(1)
رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف"(1772)، والطبري في "التفسير"(18/ 474).
(2)
رواه البخاري (349)، ومسلم (162)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} لأنَّ حوَّاءَ خُلِقت مِن ضِلَعِ آدمَ عليه السلام، وسائرَ النساءِ خُلِقنَ مِن نُطَفِ الرجالِ، أو لأنَّهنَّ مِن جنسهم لا مِن جنسٍ آخر.
{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} : لتميلوا إليها، يقال: سَكَنَ إليهِ، إذا مالَ إليه، ومنه: السَّكَن، وهو الأُلْفُ المسكونُ إليه، وذلك لأنَّ الأُلْفَ إنَّما يكون بين المتجانسَيْن؛ لأنَّ الجنسيَّةَ علَّةُ الضَّمِّ، والاختلافَ سببُ التنافر.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ} : بين الرجال والنساء {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} : التوادَّ والتراحُمَ بعصمة الزواج بعد أنْ لم يكن بينهما سابقةُ معرفةٍ ولا قرابةٍ تُوجِب ذلك؛ لينتظِم أمرُ النسبِ والتربية والإرث، أو بين أفراد الجنس؛ لابتناءِ أمرِ المعاش على التعاون المحوِج إلى التوادِّ والتراحم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعلَمونَ ما في ذلك مِن الحِكَم والمصالح.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} : لغاتِكم؛ مِن العربيَّة والعجميَّة وغيرِ ذلك مِن لغاتِ كلِّ صنفٍ وأهلِ كلِّ إقليم ولهجاتهم.
{وَأَلْوَانِكُمْ} : أشكالِكم وهيئاتكم؛ مِن تخاطيطِ الأعضاء والصُّور، فإنَّه لا يكاد يتَّفق اثنان في الشكل والهيئة، وعليه يبتني التعارُف المحتاج إليه في ضبط النظام.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} حيث ولدوا مِن أبٍ واحدٍ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلَّا اللهُ متفاوتون {لِلْعَالِمِينَ} لكلِّ مَن له عقلٌ مِن أهل العالَم.
وقرئ: بالكسر
(1)
، ويرجِّحها قولُه تعالى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أنَّ المنامَ في الليل والنهار وابتغاءَ الفضل فيهما، وهو معنًى صحيحٌ، فإنَّ المنامَ في النهارِ الصيفيَّة الطويلةِ هو القيلولةُ المستحبَّةُ في السُّنَّة لاستراحة القوى النفسانيَّة وانتعاشِ القوى الطبيعيَّة، وكذلك ابتغاءُ الفضلِ في الليالي الشتويَّة مِن المباحات لقِصَرِ النهار، وقصورها عن حاجات الناس.
ويجوز أن يكون {مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} مِن بابِ اللَّفِّ، وترتيبُه: منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار؛ أي: منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، حصرًا بين المتعاطفَين بالزمانين، إشعارًا بأنَّ كلَّ واحدٍ مِن الزمانين وإن اختصَّ بأحدهما، فهو صالحٌ للآخر عند الحاجة، ويؤيد هذا الاختصاصَ تكريرُ هذا المعنى في القرآن.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} : يدركون المحسوس، لمَّا كان المشارُ إليه مِن جنسِ ما يُدرَك بالمشاهدة وبالسماع مِن الغير كما في حقِّ الأعمى،
(1)
قرأ بها حفصٌ وحده، في حين قرأ الباقون بالفتح. انظر:"التيسير"(ص: 175).
والثاني أضعف الطريقين، عبَّر به عن إدراكه إعمالًا للدِّلالة، وهذا من جنس لطائف الاعتبار الذي قلمَّا يَتنبَّه له إلَّا مَن له الاختبار.
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} : {وَمِنْ آيَاتِهِ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: مِن آياته ما يُذكَر، أو: ما يُتلى عليكم، ثم قيل:{يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} إمَّا بيانٌ لذلك، أو:{يُرِيكُمُ} مبتدأ على حذف (أنْ) ورفعِ الفعلِ، كقوله:
أَلَا أيُّهذا الزَّاجِري أَحْضُرُ الوَغَى
(1)
أو: تنزيلِ الفعلِ منزلةَ المصدر المرفوع؛ أي: ومِن آياته إراءتكم البرق، كقوله: تَسمعُ بالمُعيديِّ خيرٌ مِن أنْ تراهُ، أو: صفة لمحذوف تقديره: آيةٌ يريكُم بها البرقَ، كقوله:
فَمَا الدَّهرُ إلَّا تارتان فمنهما
…
أَموتُ وأُخرى أَبتغي العيشَ أَكدَحُ
(2)
أي: تارةً أموت فيها.
{خَوْفًا} مِن الصاعقة {وَطَمَعًا} في الغيث.
(1)
صدر بيت لطرفة، وهو في "ديوانه" (ص: 32)، وعجزه:
وأنْ أشهدَ اللَّذاتِ هل أنتَ مُخلِدي
وقوله: "الزاجري" كتب فوقها في (ي): "مضافة إلى ياء المتكلم". قلت: لأن (أل) فيه موصولية، فساغت الإضافة المذكورة.
(2)
البيت لتميم بن أُبي بن مُقبِل، وهو في "ديوانه" (ص: 24).
وقيل: خوفًا للمسافر وطمعًا للحاضر.
ونصبُهما على المفعولِ له، وإنَّما جاز مع أنَّهما ليسا بفعلِ فاعلِ الفعلِ المعلَّل؛ لأنَّ الإراءَة متضمِّنة للرؤية، أو على حذف المضاف، وإقامةِ المضاف إليه مقامه؛ أي: إراءةَ خوفٍ وطمعٍ، أو: تأويلِ الخوف والطمع بالإخافة والإطماع، كقولك: فعلتُه رغمًا للشياطين، أو: على الحال؛ أي: خائفين وطامعين.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ} بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} يُبسها، وقد سبق وجهُ الفاءِ التعقيبية بين الإنزال والإحياء في تفسير سورة النحل.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : يستعملون عقولَهم في استنباط أسبابها وكيفيَّة تكوُّنها؛ ليظهر لهم كمالُ قدر الصانع وحكمته.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ؛ أي: بقوله: كونا قائمتَيْن، والمراد به تعلُّقُ إرادته بقيامِهما في حيِّزهما المعيَّنين مِن غير مقيمٍ محسوسٍ، شُبِّهتا في قيامِهما على وَفْقِ. إرادته بمأمورٍ مطيعٍ امتثلَ أمرَ آمرٍ مطاعٍ بلا توانٍ وتقصيرٍ؛ للمبالغة في كمالِ قدرته ونفاذِ أمره، وعدمِ تخلُّف المراد عن إرادته، وكذا في قوله:
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} شبَّه الموتى بالمأمورِ المطيعِ؛ لتصوير ترتُّب خروجهم على دعائه مِن غير توقُّفٍ، عطفٌ على {أَنْ تَقُومَ} على تأويلِ مفردٍ، كأنَّه قال: ومن آياته قيامُهما، ثم خروجُكم مِن الأرض بسرعة إذا دعاكُم دعوةً، فيقول: أيُّها الموتى اخْرُجوا.
و {ثُمَّ} مستعارٌ لبُعد هذه الحالة مِن قيام السماوات والأرض بأمره، وهي خروج الموتى كلُّهم من الأرض دفعةً عند قوله: قوموا.
و (إذا) الأولى شرطيَّة، والثانيةُ للمفاجأة، وهي تقومُ مقامَ الفاء في جواب الشرط، {مِنَ الْأَرْضِ} متعلِّق بـ {دَعَاكُمْ} لابـ {تَخْرُجُونَ} لأنَّ ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.
(26) - {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} .
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قد سبق ما يتعلَّق بـ {مَنْ} في مثل هذا المقام.
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} : منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يَمتنعون عليه.
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد هلاكهم.
{وَهُوَ} ؛ أي: الإعادةُ، وتذكيرُه لمطابقةِ {أَهْوَنُ} ، أو على تأويل: أنْ يعيده.
{عَلَيْهِ} ؛ أي: أَسهلُ عليه مِن الإنشاء بالنسبة إلى عقولكم، والقياسِ على أصولكم
(1)
، وإلَّا فجميع الممكناتِ بالنسبة إلى قدرته سواءٌ، والإعادةُ في نفسها عظيمةٌ، ولكنَّها هوِّنت بالقياس إلى الإنشاء، وإنَّما قدِّمت الصلة في قوله:{هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9]؛ لقصد الاختصاص، ولا وجهَ له ها هنا، فلذلك أخِّرت.
(1)
في (ك) و (م): "أموركم".
وقيل: الضمير في {عَلَيْهِ} للخَلْق؛ أي: الإعادةُ أهونُ على الخَلْق؛ لأنَّه وجودٌ وقع
(1)
على التمام، وأمَّا الإنشاءُ فهو وجودٌ متدرِّجٌ مِن النقصان إلى الكمال، فعليه فيه شدَّةٌ ومشقَّةٌ.
{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: الوصفُ العجيبُ الشأنِ الذي ليس لغيرِه ما يُساويه أو يُدانيه، كالقدرة الكاملة، والحكمة البالغة، يَصفهُ به ما في السماوات والأرض دلالةً ونطقًا.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} : القويُّ القادرُ المُطلَق على إبداءِ كلِّ ممكنٍ وإعادته، ولا يُعجِزه شيءٌ ولا يمتنع عليه.
{الْحَكِيمُ} الذي يجري شؤونه وأفعاله على مقتضى الحكمة.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا} في التوحيد {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ؛ أي: مُنتَزَعًا مِن أقرب شيءٍ إليكم وهي أنفسُكم.
{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِن مماليكِكم {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} في أموالكم التي رزقناكموها؛ أي: هل ترضونَ لأنفسِكم أنْ يُشارككم عبيدُكم فيما رزقناكم مِن الأموال، وهم بشرٌ مثلكُم وأنتم عبيدٌ مثلُهم.
(1)
في (ك): "لأنَّه وجودي" وفي (ع) و (ف) و (م): "لأنَّه وجود دفعي"، والمثبت من (ي)، وهو الصواب.
{فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} فتكونونَ أنتم وهم سواءٌ في التصرُّف فيها مِن غير فرقٍ.
و (مِن) الأولى للابتداء، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدةٌ لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي؛ لأنَّه
(1)
الإنكاري.
{تَخَافُونَهُمْ} : [أن] يستبدُّوا
(2)
بالتصرُّف فيها {كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} كما يخاف بعضُ الأحرار بعضًا إذا شاركه في ميراثٍ في مالٍ مُشتَركٍ أنْ يَحوزَهُ دونه، أو يَستقلَّ بتدبيره والتصرُّف فيه.
أو: تخافون أنْ تستبدُّوا بتصرُّفٍ دونَهم؛ مخافةَ بعضِ الأحرار بعضًا.
فإذا لم تَرضوا بذلك لأنفسِكم، وأنتم وعبيدُكم سواءٌ في البشريَّة، فكيف تَرضونَ لرَبِّ الأربابِ ومالكِ العبيدِ والأحرارِ أن يكون بعضُ عبيده له شركاءَ؟!.
{كَذَلِكَ} ؛ أي: مثلَ هذا التفصيل {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} ؛ أي: نبيِّنها، فإنَّ التمثيلَ ممَّا يكشف المعاني ويوضِّحها تصويرًا وتشكيكًا.
{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : يستعملون عقولَهم في تدبُّر الأمثال.
(1)
"لأنَّه" ليست في (ف).
(2)
في (ك): "تستبدون"، وفي باقي النسخ:"تستبدوا"، وما بين معكوفتين من "تفسير البيضاوي"(4/ 206)، وقال القونوي في "الحاشية" (15/ 134): أي: تخافون أن يستقلوا بالتصرف فيه بدون رأيكم.
{بَلِ} : إضرابٌ عن تبصُّر المشركين وهدايتهم، وإثبات أنَّ هداهُم لا يُجدي عليهم شيئًا {اتَّبَعَ}: التفاتٌ مِن الخطاب إلى الغِيبة للإعراض والمتاركة.
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالشرك؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
{أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ} حالٌ، إنَّما قيَّدهم به لأنَّ العالِمَ إذا ركبَ الهوى فربَّما يَردعه عِلْمه، وأمَّا الجاهل فهو كالبهيمة
(1)
لا يردُّه شيء.
{فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} : فمَن يَقدِرُ أنْ يهديَ مَن أضلَّ اللهُ وخَذَلهُ، والفاء في {فَمَنْ} للسببية، والاستفهام للإنكار؛ أي: إذا اتَّبعَ الظالمون أهواءَهم جاهلينَ لا وازعَ لهم، فلا يقدر أحدٌ أنْ يهديَهم.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} : ينقذونهم مِن ضلالتهم، ويمنعونهم تَبِعاتِهم.
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} و {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} موضوعانِ موضعَ الضميرِ، والأول للتسجيل عليهم بالظلم والتعليلِ لاتِّباع الهوى، والثاني للتعليل لامتناعِ قَبولِ الهدى.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} : تمثيلٌ للإقبال عليه والاستقامةِ إليه بحالِ مَن قَصدَ شيئًا غيرَ ملتفِتٍ عن سمتِهِ يمينًا وشمالًا؛ أي: قَوِّم وجهَك أو عَدِّله إليه غيرَ منحرفٍ عنه أصلًا، وكنايةٌ عن كمالِ الاهتمام؛ فإنَّ مَن اهتمَّ بالشيء غايةَ الاهتمام، عَقَدَ طرفَه
(1)
في (ف) و (م): "كالبهمة".
علي وسدَّد نَظَره إليه وقوَّم وجهَه مُقبِلًا عليه بكُلِّيَّته، والفاء للسببية؛ أي: إذا لم تَنجَع
(1)
هدايتُك فيه، فأَقِم وجهَك للدِّين واترُكْهم.
{حَنِيفًا} حالٌ مِن ضمير (أقم) أو مِن (الدِّين).
{فِطْرَتَ اللَّهِ} نصبٌ على الإغراء؛ أي: الزموا فطرةَ اللهِ، أو: عليكم فطرةَ اللهِ، والإضمارُ على خطاب الجماعة؛ لقوله:{مُنِيبِينَ} فإنَّه حالٌ مِن ضمير العامل المقدَّر، وقولِه:{وَاتَّقُوهُ} {وَأَقِيمُوا} {وَلَا تَكُونُوا} فإنَّه عطفٌ على المقدَّر.
وإضافةُ الفطرة إلى اللهِ وتوصيفُها بقوله: {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} للاختصاص والتعظيم، وأنَّه لا ينبغي أنْ تبدَّل وتغيَّر، ولا يَقدرُ أحدٌ أنْ يغيِّرها؛ حسمًا لأطماع المشركين، وحتمًا بأنَّ توحيدَه ذاتيٌّ لا يُمكن تغييرُه، وبيَّنه للتأكيد والتقرير بقوله:
{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ففيه دلالةٌ على أنَّ المرادَ مِن الفطرةِ الخِلْقةُ؛ وهي: الحالةُ التي جُبِلوا عليها مِن قَبولهم للتوحيد ودينِ الإسلام، وتمكُّنهم مِن إدراكه، بحيث لو خُلُّوا وما جُبِلوا عليه لَمَا اختاروا عليه
(2)
دينًا آخَرَ، وشهدت عقولُهم الفطريَّة به، ومَن غوى منهم فبإغواء شياطينِ الإنس والجنِّ، وقد أَفصحَ عن هذا قولُه عليه الصلاة والسلام:"كلُّ عبادي خَلقتُ حنفاءَ، فاجتالتهم الشياطينُ عن دينِهم وأَمروهم أنْ يُشركوا بي غيري"
(3)
، وقولُه عليه الصلاة والسلام:"كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة حتى يكون أبواهُ هما اللَّذان يُهوِّدانه أو يُنصَّرانه"
(4)
.
(1)
في (ف): "تبخع"، وفي (م):"بنجع".
(2)
"عليه" ليست في (ف).
(3)
قطعة من حديث رواه باختلاف يسير مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ويجوز أن يُراد بالفطرة دينُ ملَّةِ الإسلام، فيكون معنى:{لَا تَبْدِيلَ} : لا ينبغي أْن يُبدَّل، وإنَّما وحِّد الخطابُ أولًا ثم جُمعَ؛ لأنَّ خطابَ الرسول خطابٌ لأمَّته، فأُفرد تعظيمًا للاهتمام، ثم جُمعَ لأنَّ الخطابَ للبيان، وأنَّ الدِّين له بالأصالة ولهم بالتبعيَّة.
{ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامة الوجهِ له {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستوي الذي لا عِوَجَ فيه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} استقامتَه؛ لعدم تدبُّرهم.
(31) - {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ؛ أي: راجعينَ إلى الله بآمالكم، مُقبِلين عليه بأعمالكم، مِن أناب: إذا رجع مرَّة بعد أخرى، والمرادُ مِن التكرار المبالغةُ في الرجوع إلى الرضا والانقطاع عن الهوى، أو تضمين التنبيه على قَبول التوبة كرَّةً بعد أُولى.
وقيل: الإنابةُ: الانقطاعُ إلى الله بالطاعة، وأصله على هذا القطعُ، ومنه: النائب؛ لأنَّه قاطعٌ.
{وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} خصَّهما بالذِّكْر لأنَّهما عمادُ الدين.
{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : ممَّن يُشرِك به غيرَه في العبادة، وفيه نهيٌ عن الرِّياء في الصلاة؛ فإنَّه شركٌ خفيٌّ.
(32) - {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
{مِنَ الَّذِينَ} بدلٌ من {الْمُشْرِكِينَ} {فَارَّقُوا دِينَهُمْ} تركوا دينَ الإسلامِ،
وإنَّما عَّبر عن دينِه بالمفارقة لِمَا عرفتَ أنَّهم جُبِلوا على قَبوله، فنزِّل قَبولُه منزلةَ فعلِه مبالغةً في قوَّة قبولِهم إيَّاه.
وقرئ: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ}
(1)
؛ أي: جعلوه أديانًا مختلفة؛ لاختلاف أهوائهم.
{وَكَانُوا شِيَعًا} : يُشايع كلُّ فرقة إمامَها الذي أضلَّها، والشِّيَعُ: الفِرَقُ التي يَجتمع كلُّ فريقٍ منها على مذهبٍ خلافَ مذهبِ الفريق الآخَرِ.
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} : مسرورونَ يَحسبونَ أنَّه الحقُّ، والجملة في محلِّ النصب صفةُ {شِيَعًا} ، أو:{كُلُّ حِزْبٍ} مبتدأ، خبرُه {مِنَ الَّذِينَ فَارَّقُوا} منقطعًا عمَّا قبله، و {فَرِحُونَ} صفة {كُلُّ} .
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} : شدَّةٌ {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعينَ إليه مِن دعاء غيره.
{ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ} : مِن ذلك الضُّرِّ {رَحْمَةً} : خلاصًا.
{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فاجَأَ فريقٌ منهم بالإشراك بربِّهم الذي عافاهم.
وفي عبارة {ثُمَّ} ولفظ {أَذَاقَهُمْ} إشارةٌ إلى أنَّهم مع امتدادِ شدَّتهم وتأثُّرهم منها في الغاية يشركون كما يظهر طليعة الخلاص منها.
(1)
قرأ حمزة والكسائي: {فَارَّقُوا} ، وقرأ الباقون:{فَرَّقُوا} . انظر: "التيسير"(ص: 108).
(34) - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} اللامُ مجازٌ عن العاقبة، وقيل: هي بمعنى التهديد.
{فَتَمَتَّعُوا} على الأول أمرٌ للتهديد، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، والفاءُ للسببيَّة على تقدير شرط محذوف؛ أي: إذا أَصررتم على الشرك وتمادَيتم في الكفر فتمتعوا، وعلى الثاني عطفٌ على {لِيَكْفُرُوا} ، والالتفات مِن الغيبة إلى الخطاب؛ للمبالغة في التهديد.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبالَ تمتُّعكم.
(35) - {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} .
{أَمْ أَنْزَلْنَا} : {أَمْ} بمعنى (بل) والهمزةِ للإضراب عن الكلام السابق، والهمزة للاستفهام عن الحُجَّة استفهامَ إنكارٍ وتوبيخٍ.
{عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} التنكير للتعظيم، وفائدتُه الدلالة على أنَّ ما يَنزل في مثلِ هذا الأمرِ حقُّه أن يكون برهانًا عظيمَ الشأن واضحَ الدلالة، ولهذا عبَّر عن دلالته الواضحة بالنطق في قوله تعالى:
{فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} وأتى بالتفريعِ دون التوصيفِ.
{بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} : بالأمرِ الذي بسببه يُشركون به تعالى في ألوهيَّته.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} : نعمةً مِن صحةٍ وَسَعةٍ {فَرِحُوا بِهَا} : بَطِروا بسببها.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : شدَّة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ؛ أي: بشؤم معاصيهم.
{إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} : قَنطُوا مِن الرحمة بالكلِّيَّة، وإنَّما جِيء بصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية؛ استحضارًا لها، واستفظاعًا للقنوط، وتنبيهًا على أنَّ ذلك دَيْدَنُهم ماضيًا ومستقبلًا.
و {إِذَا} المفاجأة جوابُ الشرط، نائبٌ عن الفاء، لتآخيها في التعقيب.
ثم أَنكر عليهم بَطَرهم وقُنوطَهم؛ بأنَّهم قد علموا أنَّ الله هو الباسطُ القابضُ، فما لهم لا يشكرونه على نعمته، ولا يرجعون إليه تائبين
(1)
عن معصيته كالمؤمنين، حتى يعيدَ عليهم رحمتَه ويبسطَ عليهم نعمتَه.
وهذا ما أراد بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} عبارةً وإشارةً.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلُّون به على كمالِ القُدرة والحكمة.
لمَّا وبَّخهم على البَطَر والقُنوط، وعلَّق السيئةَ بارتكاب المعاصي والذنوب، حثَّهم على ما يجب عليهم، وأَوعد على ارتكاب ما حرَّم، وحرَّضهم على ما يجب أن يُفعَل في حال السَّعَة، ولذلك جاء بالفاء السببية، وقال:
(1)
في (ع) و (ك) و (م) و (ي): "تائبون"، والمثبت من (ف).
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إذا فسِّر حقُّ الأخيرين بالنُّصيب المسمَّى لهما مِن الزكاة، وجب أنْ يفسَّر حقُّ الأول بالنفقة الواجبة؛ لئلا يلزم استعمال لفظ
(1)
الأمر للوجوب والندب معًا في استعمالٍ واحد.
ولهذا احتجَّ أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقةِ للمحارم إذا كانوا محتاجينَ عاجزينَ عن الكَسْب، وخصَّ الشافعيُّ في وجوبها بالوالدين والأولاد، وقاسَ سائرَ القرابات على ابنِ العمِّ؛ إذ لا وِلادَ بينهم.
{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ؛ أي: يقصدون بمعروفهم إيَّاه خالصًا.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حيث حصَّلوا بما بُسط
(2)
لهم مِن زخارف الدنيا النَّعيمَ المقيمَ في العقبى.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} : زيادةٍ محرَّمةٍ في المعاملة، وقرئ بالقصر
(3)
؛ أي: ما جئتم به مِن إعطاءِ ربًا {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} : ليزيدَ ويزكوَ في أموالهم {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فلا يزكو، أو: لا يبارك فيه.
وقرئ: {لِيَرْبُوَ}
(4)
؛ أي: لتَزيدوا، أو: لتصيروا ذا ربًا.
(1)
سقط من (ف).
(2)
في (ف) و (م): "يبسط".
(3)
أي: {أتيتم} ، وقرأ بها ابن كثير. انظر:"التيسير"(ص: 81).
(4)
قرأ بها نافع. انظر: "التيسير"(ص: 81).
وقيل: هو مِن الربا الحلال؛ [أي]
(1)
: وما تُعْطونه مِن الهدية
(2)
لتأخذوا أكثرَ منها، {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} ؛ لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجهَ الله تعالى.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : تبتغونَ به وجهَه خالصًا {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} المُضعِف: ذو الضِّعْف، كالمُقوِي والمُوسِر بمعنى: ذي القوة وذي اليسار.
وقرئ بفتح العين
(3)
.
والراجع منه محذوفٌ إنْ كانت (ما) موصولةً، تقديره: المُضعِفُون به، أو: فمُؤْتُوه أولئك هم المُضعِفون وذوو الأضعاف مِن الثواب، أو الذين ضعَّفوا أموالهم ببركة الزكاة، وفيه التفاتٌ حَسَنٌ للتعظيم؛ كأنَّه قال لملائكته
(4)
وخواصِّ خلقِه تعريفًا لحالهم: {فَأُولَئِكَ} الذين يريدونَ وجهَ اللهِ بصدقاتهم {هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، فهو أمدحُ لهم مِن أنْ يقول: وأنتم
(5)
المضعفون.
وتغيير العبارة والنَّظم عن سَنَن المقابلة للمبالغة في المدح، أو للتعميم؛ أي: فمَن فَعَلَ ذلك فأولئك هم المضعفون، فيكون إثباتًا برهانيًا.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
في (ف): "من هدية"، وفي (م):"أي: من الهدية".
(3)
نسبت لمحمد بن كعب. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 116).
(4)
في (م): "للملائكة".
(5)
في هامش (ي): "وأنتم، كذا في نسخة المؤلف بالواو، وإن كان الفاء أظهرَ به".
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} : {اللَّهُ} مبتدأ {الَّذِي خَلَقَكُمْ} خبره، أو صفةٌ والخبر {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} والرابط للجملة بالمبتدأ:{ذَلِكُمْ} ؛ لأنَّ معناه: من أفعاله.
و {مِنْ} الأولى والثانية يفيدان شيوعَ الحكم في جنسِ الشركاء والأفعال، والثالثة لاستغراق النفي، وكلٌّ منها مستقلَّة بتأكيد
(1)
مقرِّرٍ لتعجيز الشركاء وتجهيل عَبَدتها، فإنَّ معنى الاستفهام: الإنكارُ المستلزمُ للنفي على سبيل التأكيد، أثبت اللهُ تعالى [له]
(2)
هذه الأفعال التي هي مِن لوازم الألوهيَّة وخواصِّها، ونفاها عن شركائهم مِن الأصنام وغيرِها، لِمَا دلَّ عليه البرهان والعيانُ ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج
(3)
مِن ذلك أنَّه منزَّه أن يكون له شركاء.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: لمَّا لم يُجيبوا عمَّا سأل عنه عجزًا
(4)
قال: {سُبْحَانَهُ} إلخ.
(1)
في (ف) و (م): "تأكيد".
(2)
من "تفسير البيضاوي"(4/ 208).
(3)
في (ع): "استقبح" وهو تحريف شنيع، وفي (ف) و (م):"استفتح"، والمثبت من (ك) وهامش (ي). وقد وقع في متن (ي):"استفتح"، لكنه صحح في الهامش إلى المثبت، وكتب بجانبه:"في نسخة المؤلف: استفتح، وإن كان استنتج موافقًا لما في القاضي". وهو كما قال.
(4)
سقط من (ف) و (م).
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} مِثْل: المُوتان
(1)
في الناسِ والدوابِّ، والجَدْب والقَحْط، وكثرة الحَرْق والغَرَق، وقلَّة الزرع
(2)
، وخَيْبة الصيادينَ والغاصَةِ
(3)
، وخُسران التجَّار، واحتباس الأمطار، ومَحْقِ البركات، وشمول الآفات.
{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} : بشؤم معاصيهم وذنوبهم.
وقيل: ظهر الفسادُ في البرِّ بقَتْل ابنِ آدمَ أخاه، وفي البحر بأنَّ جُلَنْدَى كان يأخذُ كلَّ سفينةٍ غصبًا.
وعن الحسن: أنَّ المرادَ بالبحر: المدنُ والقرى التي على شاطئه.
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} أراد: وبالَهُ في الدنيا، فإنَّ جزاءَه الموعودَ في الآخرة، ولمَّا كان ما في الدنيا موجِبَ شآمةَ ما عملوا، ومقتضَى شأنِ ذلك العملُ، نُزِّل منزلتَه، واللام للعلَّة استعيرت هنا لترتُّب المسبَّب على السبب.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لإرادة الرجوع عمَّا هم عليه.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أَمَرهم بالسير في الأرض
(1)
يعني: كثرة الموت. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 125).
(2)
في (م) زيادة: "والنيل".
(3)
"والغاصة" سقط من (م)، وهو جمع أو اسم جمع لغائص، وهو مَن ينزل لقعر البحر لإخراج اللؤلؤ ونحوه؛. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 125).
والنظرِ في آثار مَن أَهلك اللهُ تعالى مِن الأُمم قبلهم بسبب كفرهم ومعاصيهم؛ ليشاهدوا مصداقَ ذلك ويتحقَّقوا صدقه.
{كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} استئنافٌ للدلالة على أنَّ منهم مَن أَهلكهم بسبب سائر المعاصي، ولم يكن الشركُ وحده سببَ تدميرِ الكُلِّ.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} : البليغِ الاستقامة، الذي لا يتأتَّى فيه عِوَجٌ، يعني: قد بلغ الإنذارُ مبلغَه، فلا تهتمَّنَّ لإعراض هؤلاء، واقصِدْ أنتَ الطريقَ الذي يُوصِلك إلى الدِّين المستقيم، وهو ما تقدَّم ذِكْره:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} : يومٌ لا يَقدِرُ أنْ يردَّه أحدٌ، أو: يأتي يومٌ لا رادَّ له مِن جهة الله؛ أي: لا يردُّه الله؛ لتعلُّق إرادته القديمة بمجيئه.
{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} : يتصدَّعون؛ أي: يتفرَّقون تفرُّق الأشخاص، على ما ورد في قوله تعالى:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]، لا تفرُّق الفريقَيْن كما ظَّنه مَن قال:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] فإنَّ المبالغةَ في التفرُّق المستفاد مِن {يُصَدَّعُونَ} إنَّما يناسب الأول، ثم استأنف لبيانِ شأنهم في تلك الحال، فكأنَّه يقول:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37].
(44) - {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} .
{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} : وبالُ كفرِه، مبالغةً في إحاطة جميع المضارِّ به؛ لأنَّ مضرَّة الكفرِ ووبالَهُ غاية في المضارِّ لا وراءَ لها، وهي إحاطةُ النار به.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ؛ أي: يُسوُّونَ مقرًّا في الجنة لا أَنعمَ ولا أَجلبَ للراحة منه، وهو تمثيلٌ لحالهم بحالِ مَن يُمهِّد فراشَه ويوطِّئه لنفسه في غايةِ النعومة، بحيث لا يصيبه في مَرْقده ما ينغِّصه عليه مِن أدنى خشونةٍ.
وتقديمُ الظرفِ في الموضعين للاختصاص، وصيغةُ الإفراد في الكافر للدلالة على انفرادِه في زمانِ عذابه تشديدًا له، فإنَّ الوحشةَ نقمةٌ أخرى، وصيغةُ الجمعِ في المؤمن للدلالة على أنَّ لهم نعمةَ الأُنْس زيادةً على ثوابهم الجزيل.
وفي مقابلةِ {مَنْ كَفَر} بـ {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} تنبيهٌ على أنَّ العملَ الصالح مِن روادف الإيمان، لا يوجد مع الكفر، ولمَّا كان العملُ الصالحُ كنايةً عن الإيمان، لم يبقَ قسمٌ آخَرُ مجهولَ الحال.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} : ممَّا يَتفضَّل به عليهم؛ لأنَّ الثوابَ مِن الفَضْل، والعقابَ مِن العدل.
وقوله: {لِيَجْزِيَ} تعليلٌ لـ {يَصَّدَّعُونَ} ، والاقتصارُ على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصودُ بالذات، والاكتفاءُ مِن جزاء الكافرين بفحوى قوله:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وتوصيفُ المؤمنين بالعمل الصالح، ليس للتخصيص، بل للتنبيه على أنَّ الإيمانَ الخالصَ شأنُه استتباعُ العملِ الصالحِ.
أو لـ {يَمْهَدُونَ} ، والموصول مع صلته مِن باب وضعِ الظاهرِ موضعَ المُضمَر، والتصريح بالتكرير للمدح والإشعارِ بأنَّه هو الموجب للكرامة والاستحقاق والترغيب في الإيمان والصلاح.
وكذا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} بعد قوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} فإنَّه تقريرٌ بعد تقريرٍ على الطَّرْدِ والعكسِ؛ أي: يُقرِّر الأولُ الثانيَ وبالعكس، وذلك أنَّ قولَه:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يدلُّ بمنطوقه على اختصاصِهم بالجزاء التكريميِّ، وبمفهومه على أنَّهم أهلُ الولاية والزُّلْفى
(1)
، وقوله:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} لتعليلِ الاختصاص يدلُّ بمنطوقه على أنَّ عدمَ المحبَّة اقتضى حرمانهم، وبمفهومه على أنَّ مقتضى الجزاء لأضدادهم موفورٌ فهو بحبِّ المؤمنين.
{وَمِنْ آيَاتِهِ} ؛ أي: ومن آياتٍ قدرته وحكمته {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} هي الجَنوب والشَّمال والصَّبا، وهي رياح الرحمة، وأمَّا الدَّبُور فريحُ العذاب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:"اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا"
(2)
، وذلك أنَّ العربَ تقول: لا يُلقَّح السحابُ إلَّا مِن رياحٍ مختلفةٍ، يريد: اجْعَلها لقاحًا للسحاب ولا
(1)
في (ف) و (م): "والزلف".
(2)
رواه الشافعي في "مسنده"(ص: 81)، وأبو يعلى في "مسنده"(2456)، والطبراني في "الكبير"(11533)، وأبو الشيخ في "العظمة"(4/ 1351)، والبيهقي في "الدعوات"(369)، من طريقين عن ابن عباس كلاهما ضعيف. انظر:"الكافي الشاف"(ص: 129).
تجعلها عقابًا، وتحقيقُ
(1)
ذلك: مجيءُ الجمعِ في آيات الرحمة، والواحدِ في قصصِ العذاب.
وقرئ: {الرِّيَاحَ} على إرادة الجنس
(2)
.
ثم عدَّد الفوائدَ في إرسالها فقال: {مُبَشِّرَاتٍ} ؛ أي: إرسالها للبشارة في الغيث.
{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ولإفاضة الرحمة؛ وهي نزول المطر، وحصول الخصب الذي يتبعه، والرَّوحُ الذي هو مع هبوب الريح، وزكاءُ الأرض، وغيرُ ذلك، عطفٌ على علَّة أو علل شتَّى محذوفة دلَّ عليها {مُبَشِّرَاتٍ} ، أو عليها باعتبار المعنى؛ لأنَّه في معنى التعليل، كأنَّه قيل: ليبشِّركم وليذيقكم، أو متعلق بمحذوفٍ دلَّ عليه {أَنْ يُرْسِلَ} تقديره: وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها.
{وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} عند هبوبها {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بتجارة البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : ولتشكروا نعمة الله فيها.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} لمَّا وسَّط بين دلائل التوحيدِ تسليةَ الرسولِ عليه الصلاة والسلام ووعدَه، اقتصر الكلام بإدراج ذِكْر الفريقين في طيِّ ذكر الانتصارِ والنصر؛ تقريبًا للمقصود وقصرً لطريقه، والمعنى: فجاؤوهم بالبينات، فمنهم مَن آمَنَ ومنهم مَن كَفَر.
(1)
في (ف) و (م): "ومحقق".
(2)
قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي، وباثي السبعة بالجمع. انظر:"التيسير"(ص: 78).
{فَانْتَقَمْنَا} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} ؛ أي: كفروا، بالتدمير.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} إشعارٌ بأنَّ الانتقامَ مِن المجرمين كان لأجلهم، وتعظيمٌ لهم، وإظهارٌ لكرامتهم عند الله تعالى؛ بأنْ جعلهم مستحِقِّين على الله بنصرهم، مستوجِبين لأنْ يُظهِرهم على عدوِّهم، ولذلك قدَّم الخبر على الاسم؛ اعتناءً بهم وبحقيَّة نصرهم عليه، وقد يُوقف على {حَقًّا} على أنَّ اسم (كان) ضميرُ الانتقام، ويُبتدأ {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} اكتفاءً مِن معنى الحق بـ:{عَلَيْنَا}
(1)
.
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ} ؛ أي: يَجعله متصلًا تارةً في الجو {كَيْفَ يَشَاءُ} سائرًا وواقفًا، مطبَقًا أو غير مطبَق، مِن جانبٍ دونَ جانبٍ، إلى غير ذلك {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}: قِطَعًا تارةً أخرى.
وقرئ بالسكون
(2)
على أنَّه مخفَّف، أو جمع كِسْفَةٍ، أو مصدرٌ وصف به.
والمرادُ بالسماء جهةُ العُلُو وسَمْتُها.
{فَتَرَى الْوَدْقَ} : المطر {يَخْرُجُ} في التارتين {مِنْ خِلَالِهِ} : وسطه.
{فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} : بالوَدْق {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد: إصابةَ بلادهم وأراضيهم.
{إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بمجيء الخصب.
(1)
في النسخ عدا (ي): "تغليبا" بدل "بعلينًا"، والمثبت من (ي).
(2)
قرأ بها ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 175).
(49) - {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} .
{وَإِنْ كَانُوا} (إن) هي المخفَّفة مِن الثقيلة، واللام في {لَمُبْلِسِينَ}
(1)
هي الفارق بينها وبين النافية.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} المطرُ {عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ} تكرَّر للتأكيد كقوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17]، وللدلالة على بُعْدِ عهدِهم بالمطر، واستِحكامِ يَأْسِهم، وتمادي إِبْلاسِهم؛ ليفيد مبالغةً في استبشارهم، فإنَّ الفرح بنزول المطر على قَدْر اغتمامِهم بانقطاعه، ويقوِّيه معنى التأكيد، واللامُ في:{لَمُبْلِسِينَ} ؛ أي: آيسينَ متحيِّرينَ مِن الغَمِّ منقبضينَ، وكذلك معنى السببية في:
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} مِن النبات والأشجار وأنواع الثمار وغير ذلك؛ أي: إذا كان كلُّ الاستبشارِ في نزولِه، وجُلُّ الغم في احتباسه، فانظر إلى آثار
(2)
رحمته كيف هو واعْتَبِرْهُ، والضمير في {فَانْظُرْ} لكلِّ مخاطب.
{كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} ؛ أي: إنَّ ذلك القادرَ الذي يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها، هو الذي يُحيي الناسَ بعد موتِهم، فهذا استدلالٌ بإحياء الموات على إحياء الأموات.
وفي {إِنَّ} واللام تأكيدٌ وتقويةٌ للدليل في مقابلة إنكارِهم، ثم قرَّره وقوَّاه بقوله:
(1)
في (ف): "واللام من المبلسين".
(2)
في (ف): "فالنظر أثر".
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ لأنَّ نسبةَ قدرتِه إلى جميعِ الممكنات على السواء.
(51) - {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} .
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ} ؛ أي: فَرَأَوا أَثَرَ رحمةِ اللهِ؛ لأنَّ الرحمةَ الغيثُ، وأثره النبات.
{مُصْفَرًّا} يابسًا جافًّا؛ لأنَّه إذا يبسَ اصفرَّ، وقيل: الضميرُ للسحاب؛ لأنَّه إذا كان مصفرًّا لم يُمطِر، واللام موطِّئة للقَسَم دخلت على حرف الشرط، وقوله:
{لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} جوابه سَدَّ مَسَدَّ جزاءِ الشرط، ولذلك فسِّر بالمستقبل؛ أي: ليَظلُّنَّ مِن بعدِ اصفراره يَكفرون نِعَمَه.
وهذه الآياتُ ناعيةٌ على الكفَّار قلَّةَ تثبُّتهم وسرعةَ تزلزلهم؛ لعدم تدبُّرهم وسُوءِ رأيهم، فإنَّ النظرَ السويَّ يقتضي أن يتوكَّلوا على الله في الأحوال كلِّها ولا يَضْطَربوا؛ فيشكروا نِعَمَه عند السَّعَة والرَّخاء، ويصبروا عند الضِّيق والبلاء، ولا يكفروا نِعَمَه في
(1)
الشِّدَّة، وَيرضوا بما جرى مِن القضاء؛ فيفوزوا في الدارين بالنعماء.
والفاء في:
(52) - {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} للسببية؛ أي: إذا كفروا ولم يَنتبهوا بهذه الآياتِ الواضحاتِ ولم يسمعوا
(2)
، فهم موتى أو صُمٌّ عُميٌ، فإنَّك لا تُسمِع الموتى، ولا تُسمِع الصُّمَّ، ولا تَهدي العُمْيَ، وتقييد الحكم بقوله:
(1)
في (ف): "عند".
(2)
في (ف) و (م): "يسمعوه".
{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} للمبالغة في غفلتهم، وتماديهم في جهلهم، وعدم نجعِ الدعوة فيهم؛ فإنَّ الأصمَّ وإنْ لم يَسمع، فإذا كان مقبلًا فربما تفطَّن بالإشارات
(1)
والحركات، وأمَّا إذا كان مُدبِرًا فلا إمكانَ لسماعِه وفهمِه.
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ} إنَّما عدل هنا عن صيغة الفعل إلى صيغة الفاعل؛ لأنَّه لم يُرِدْ نفيَ الهداية أصلًا، فإنَّ الهدايةَ في الجملة ممكنةٌ للأعمى، بل أراد نفيَ الهداية التامَّة، ولذلك ضمَّنها معنى الإذهاب فقال:
{عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} يقال: هداهُ عن الضلالة؛ أي: أَبعدهُ عنها بالهدى، ومَن قرأ:{وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ}
(2)
فقد اكتفى بما في قوله: {عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} مِن الدلالة على المراد، واللهُ الهادي إلى سبيل الرشاد.
{إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} فإنَّ إيمانَهم يدعوهم إلى سماعِ اللفظ وتدبُّر المعنى فهم منقادونَ لِمَا تَأمرهم به {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} : منقادونَ لأوامرِ الله.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} : ابتدأَكُم منه، وجعلَ أساسَ أمرِكم وما عليه بنيتُكم الضعفَ، كقوله:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، وذلك حال الطفوليَّة والصِّبا.
(1)
في (ف) و (م): "بالإشارة".
(2)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 169).
وقرئ: {ضَعْفٍ} بالفتح والضَّمِّ، وهما لغتان كالفَقْر والفُقْر، والثاني أقوى قراءةً؛ لِمَا روي أن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قرأتُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مِنْ ضَعْفٍ} ، فأَقرأَني
(1)
: {مِنْ ضَعْفٍ}
(2)
بالضَّمِّ
(3)
.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} : وهو حالُ الشبيبة؛ مِن أوانِ البلوغِ إلى زمانِ الكهولة.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} : ثم ردَّكم إلى الضعف والشيخوخة، وزيادة قوله:{وَشَيْبَةً} ؛ للتنبيه على أنَّ المرادَ التبدُّلُ بحسب السِّنِّ، ففيه دفعٌ
(4)
لذهاب الوهم إلى أنْ يراد بالجَعل الأولِ الخلقُ مِن النُّطفة، ومِن الثاني نفخُ الروح في البَدَن، والتنكيرُ مع التكرير لأنَّ المتأخِّر غير المتقدِّم
(5)
.
{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} مِن ضعفٍ وقوَّةٍ وشَيبةٍ.
{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} فإنَّ هذه الانتقالاتِ في الأحوال المختلفة دالَّةٌ على أنَّه تعالى يَخلق على مقتضى المشيئة والعلم والقدرة؛ لأنَّ التغيير
(6)
مِن صورةٍ إلى صورةٍ، والترديدَ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، مع إمكان خلافِ ذلك، دليل على الإرادة المبنيَّة على العلم والحكمة المفْضية إلى القدرة.
(1)
في (ف): "فأقرأنيه".
(2)
بعدها في (ف): "إلى من ضعف"، وبعدها في (ك):"لا من ضعف".
(3)
رواه أبو داود (3978)، والترمذي (2936) وحسنه.
(4)
في (ف) و (م): "رفع".
(5)
في (ف) و (م): "عين المتقدم"، وفي (ك):"ليس عين المتقدم".
(6)
في (ك): "التغير".
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} (الساعة) للقيامة مِن الأسماء الغالبة، كالنَّجم للثُّريا، والكوكب للزُّهَرة، سُمِّيت بها لأنَّها تقوم في آخِرِ ساعةٍ مِن الدنيا، وقيل: لأنَّها تقع بغتةً، كما تقول لمن تستعجله: في ساعة.
{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} يَحلف الكافرون: {مَا لَبِثُوا} في الدنيا، أو في القبور، أو في ما بينَ فناءِ الدنيا وانقطاع عذابهم، وفي الحديث:"ما بينَ فناءِ الدنيا والبعثِ أربعونَ"
(1)
، وهو يحتملُ الساعاتِ والأيامَ والأعوامَ.
{غَيْرَ سَاعَةٍ} الظاهر مِن القَسَم أنَّ ما ذكروه على زعمهم لنسيانهم، لا أنَّهم استقلُّوا مدَّة لبثهم إضافةً إلى مدَّة عذابهم؛ لأنَّ ذلك القولَ منهم قبلَ الدخول في زمانِ عذابِ الآخرة والوقوفِ على مدَّتها، فلا وجه للإضافة إليها.
{كَذَلِكَ} مثلَ ذلك الصرفِ عند الصِّدق والتحقيق {كَانُوا يُؤْفَكُونَ} يُصرَفون في الدنيا عن الصدق إلى الكذب، ويقولون: ما هي إلَّا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
(1)
قال الحافظ في "الكاف الشاف"(ص: 129): (لم أجده هكذا). ثم أشار إلى ما رواه البخاريُّ (4935) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون"، قيل: أربعون يومًا يا أبا هريرة؟ قال: أَبَيْتُ. قيل: أربعون شهرًا؟ قال: أَبيتُ. قيل: أربعون سنة؟ قال: أَبيتُ .... الحديث.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} : مِن المَلَك والِإنس والجنِّ:
{لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فيما كتبه وأَوجبه لكم على أنَّ {فِي} للتعليل، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"إنَّ امرأةً دخلت النارَ في هرَّةٍ حَبَسَتْها"
(1)
.
{إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ردُّوا ما قالوه وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم
(2)
على إنكار البعث بقوله:
{فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ؛ أي: فقد تبيَّن بطلانُ قولِكم، والفاءُ فصيحةٌ دخلت جوابَ شرطٍ محذوفٍ تقديره: إنْ كنتم مُنكِرين البعثَ فهذا يومه.
{وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أنَّه حقٌّ؛ لتفريطكم في النَّظَر.
(57) - {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} .
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} وقرئ بالياء
(3)
؛ لأنَّ المعذرةَ بمعنى العذرِ، ولأنَّ تأنيثَها غيرُ حقيقيٍّ، وقد فصل بينهما.
{وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاستعتابُ: الاسترضاءُ، يقال: اسْتَعْتبَني فلانٌ فأَعتبتُه؛ أي: أَزلتُ عَتبَه وأَرضيتُه، والمعنى: لا يُطلَب منهم أن يَستعتبوا ربَّهم بالتوبة والطاعة كما طُلب منهم في الدنيا، ولا يقال لهم: استرضُوا ربَّكم.
(1)
رواه البخاريُّ (2365)، ومسلم (2242)، من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما، ولفظه عند البخاري "عُذِّبت امرأةٌ في هرَّةٍ حبستها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النارَ" .... الحديث.
(2)
في (ف): "بتفزيعهم".
(3)
في (ف) و (ك): "بالتاء"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب بدلالة اللحاق. وقراءة:"لا ينفع" بالياء؛ قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالتاء. انظر:"التيسير"(ص: 176).
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : ولقد بيَّنَّا كلَّ أمرٍ مِن أمور الدِّين والتوحيد، أو أحوال الآخرة، في هذا القرآن بالتمثيل، أو: وصفنا لهم كلَّ صفةٍ هي في التَّبيين والغرابةِ كالمَثَل لصفةِ المبعوثين وأحوالِهم ومقاولاتهم، وعدمِ فائدة معذرتهم وتوبتِهم واستعتابِهم.
{وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} ولكِنْ لقسوةِ قلوبهم واحتجابها
(1)
بمزخرفاتهم، لَئِنْ جِئتهم بآيةٍ عظيمةٍ لَنَسَبوكَ ومَن معك مِن المؤمنين إلى التزوير
(2)
والإبطالِ.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} موضوعٌ موضعَ الضمير للتصريح بكفرهم ذمًّا، وبيانِ أنَّ كفرهم هو الموجبُ للعناد والإنكار، ونسبةِ المحقِّ إلى التزوير
(3)
والإبطال.
(59) - {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
{كَذَلِكَ} : مثلَ ذلك الطبعِ العظيم {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ؛ مِن باب إجراءِ المتعدِّي مجرى اللازم؛ أي: الذين لا عِلْمَ لهم ولا يَطلبونه ويصرُّون على معتقداتهم الباطلة حتى طبعَ على قلوبهم ورَانَ
(4)
بسبب
(1)
في (ك): "واحتجاجها".
(2)
في (ف): "الترديد".
(3)
في (ف): "الترديد".
(4)
في (ي): "وزان"، وليست في (ف) و (ك).
الجهل المركَّب المانعِ مِن إدراك الحقِّ له ومعرفة المُحقِّ. والفاء في:
(60) - {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
{فَاصْبِرْ} للسببية على تقديرِ شرطٍ؛ أي: وإذا علمتَ أنَّهم جُهَّالٌ مطبوعٌ على قلوبهم، فاصبر على أذاهُم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنُصرتك وإظهارِ دينك على الدِّين كلَّه {حَقٌّ} لابُدَّ مِن إنجازه.
{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ولا يَحملَنَّك على الخفَّةِ والقَلَقِ قولُ هؤلاء الجَهَلة، فإنَّهم قومٌ شاكُّون ضالُّون لا يُستبدَعُ
(1)
ذلك منهم.
وقرئ: (ولا يَستَحِقَّنَّك)
(2)
مِن الاستحقاق؛ أي: لا يُزيغوك
(3)
فيكونوا أحقَّ بكَ مِن المؤمنين.
(1)
في (ك) و (م): "لا تستبعد".
(2)
نسبت لابن أبي إسحاق، وليعقوب في غير المشهور عنه. انظر:"المحتسب"(2/ 166).
(3)
في (ع): "لا يزيفوك"، وفي (ف) و (ك):"لا يزلقونك"، وفي (م):"لا يزيفونك"، والمثبت من (ي) والبيضاوي.
سُورَةُ لُقْمَانَ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1 - 2) - {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .
{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} سبقَ بيانُه في سورة يونس عليه السلام.
(3) - {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} .
{هُدًى وَرَحْمَةً} حالان من الآيات، والعامل ما في {تِلْكَ} مِن معنى الإشارة، وقرئ بالرَّفع على أَّنَّه خبرٌ بعدَ خبرٍ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ.
{لِلْمُحْسِنِينَ} : الجامعينَ بين العلم والعمل، وقوله:
(4) - {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} بيانُه، كما قال:
الألمعي الَّذي يَظُنُّ بِكَ الظْ
…
ظَنَّ كأنْ قَدْ رأى وقَدْ سَمِعا
(1)
أو: الذين يعملون الحسنات كلَّها، وتخصيصُ القائمين بهذه الثَّلاث
(2)
بالذِّكر لإنافتها وفضل
(3)
الاعتداد بها.
(1)
البيت لأوس بن حجر. انظر: "ديوان أوس بن حجر"(ص: 53)، وانظر:"الغريب المصنف" للهروي (1/ 377)، و"معجم ديوان الأدب"(1/ 273)، و"الكشاف"(3/ 489).
(2)
في (ك): "الثلاثة".
(3)
في (ف) و (ك): "لأن فيها فضل".
وتكرُّرُ الضَّميرِ للتَّوكيدِ، ولِمَا فصَل
(1)
بينَه وبينَ خبرِه.
(5) - {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سبق تفسيره في سورة البقرة.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} نزلَتْ في النَّضرِ بنِ الحارثِ، وكان يشتري أخبارَ الأكاسرة من فارس، ويقول: إنَّ محمَّدًا يقصُّ طرفًا مِن قصَّة عادٍ وثمود، وأنا
(2)
أحدِّثكم طرفًا من أحاديث رستم وأسفنديار، فيميلون إلى حديثه ويتركون استماع القرآن
(3)
.
وقيل: كان يشتري القَيْنات ويحملهنَّ على معاشرة مَن أرادَ الإسلام ومَنْعِه عنه بشَغْله باللَّهو
(4)
.
(1)
في (ك): "حصل".
(2)
في (ف) و (م): "فأنا".
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(17/ 182)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5914)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
رواه جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت في النَّضر بن الحارث اشترى قينة، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنِّيه، هذا خيرٌ ممَّا يدعوك إليه محمَّدٌ مِن الصَّلاة والصيام وأن تقاتلَ بينَ يديه، فنزلَتْ. انظر:"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 504).
واللَّهوُ: كلُّ باطلٍ ألهى عن الخير وعمَّا يعني
(1)
. ولهوُ الحديثِ نحو السَّمر بالأساطير التي لا أصلَ لها، والغناء.
والاشتراءُ مِن الشراء، كما روي عن النَّضر، أو من قوله:{اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} [آل عمران: 177]؛ أي: استبدلوه منه، واختاروه عليه.
والإضافة بمعنى (مِن)، وهي تبيينيَّة سواءٌ أراد بـ {الْحَدِيثِ} المنكَر أو الأعمَّ منه، نعم على الثَّاني يجيء التَّبعيض باعتبار أنَّ بينهما عمومًا وخصوصًا من وجهٍ، ولكن لا يكون من مقتضى الإضافة.
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: عن دينه، أو عن قراءة القرآن، وقرئ:{لِيُضِلَّ} بفتح الياء
(2)
؛ أي: ليَثبُتَ على الضَّلال عن الدِّين ويزيد فيه.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} بحالِ ما يشتريه أو بالتِّجارة، حيث استبدلَ الباطل بالحقِّ والضَّلالَ بالهدى، حال من ضمير {يَشْتَرِي}؛ أي: جاهلًا.
والضَّمير في: {وَيَتَّخِذَهَا} للسَّبيل؛ لأنَّها مؤنَّثة {هُزُوًا} : سخريةً.
وقرئ {وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصب
(3)
عطفًا على {لِيُضِلَّ} .
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} لإهانتهم الحقَّ باستئثارهم
(4)
الباطل عليه.
(1)
في (م): "يفي"، وفي (ف):"بقي".
(2)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 134).
(3)
قراءة حفص وحمزة والكسائي، وباقي السبعة بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 176). ووقع في النسخ بدل: {وَيَتَّخِذَهَا} : "يتخذ"، والمثبت هو المطابق للفظ القراءة.
(4)
في (ف) و (ك): "باستئثار".
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} : متكبِّرًا لا يعبأ بها
(1)
.
{كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} مُشْبِهًا حالُه في عدم التفاته إليها حالَ مَن لم يسمعها.
{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} : ثقلًا لا يقدر أنْ يسمعَ.
{كَأَنَّ} مخفَّفة من الثَّقيلة، اسمُها ضمير الشَّأن محذوفًا، أصلها: كأنَّه لم يسمعها، جملة وقعَتْ حالًا من ضمير {وَلَّى} ، أو ضمير {مُسْتَكْبِرًا} ، {كَأَنَّ} بدل من الأوَّل، أو حال من ضمير (لم يسمع)، فهما حالان متداخلتان، ويجوز أن يكونا جملتَيْن مستأنفتين.
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تهكُّم بهم، والمعنى: أعلِمْهُ.
(8) - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} النَّعيمُ: جنَّةٌ مِنْ الجِنانِ الثَّمانية، كالمأوى والعدن، وقد سبق التَّفصيل
(2)
في سورة البقرة.
والتَّعبيرُ عن جنَّةٍ واحدةٍ بالجنَّاتِ للمبالغة.
(9) - {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
(1)
في (ف): "متكبرًا لأثقالها".
(2)
في (ف) و (م): "التفضيل".
{خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الضَّمير في {لَهُمْ} ، أو من {جَنَّاتُ} ، - والعامل ما تعلَّق به اللَّام من معنى الاستقرار.
{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} مصدران مؤكِّدان؛ الأوَّل لنفسِه لأنَّ قولَه: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} في معنى: وعدهم الله جنَّات النَّعيم، والثَّاني لغيره لأنَّ معناه: الصِّدق والثَّبات، وليس كلُّ وعدٍ كذلك.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} : القويُّ الذي لا يغلبُه أحدٌ فيمنعَه عن إنجاز وعدِه وإنفاذ وعيده.
{الْحَكِيمُ} : الذي يفعل ما يفعل بمقتضى الحكمة.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قد سبق في تفسير
(1)
سورة الرعد.
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} : جبالًا شوامخ {أَنْ تَمِيدَ} : لئلَّا تضطرب {بِكُمْ} .
قيلَ: تشابُه أجزائِها يقتضي تبدُّلَ أحيازِها
(2)
وأوضاعِها، وفيه نظرٌ؛ إذ لم يقمْ دليل على تشابُهِ أجزائِها، بل الظَّاهِرُ خلافُه.
{وَبَثَّ} : ونشر {فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} .
{وَأَنْزَلْنَا} فيه التفاتٌ في محزِّ
(3)
البلاغة؛ لأنَّ إنشاء هذه الأمور العظام - خاصَّةً
(1)
في (ف) و (م): "تفسيره في".
(2)
في (ف): "أرضها".
(3)
في (ف): "مجيء"، وفي (م):"نحر".
ما به حياتُهم مِن إنزال الماء وإنبات أصناف النبات - موضعٌ
(1)
للتَّنبيه، والإيقاظ للعبادة، والشُّكر على النِّعمة، والإعراض عن الشِّرك.
{مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} : صنفٍ كثيرِ المنفعةِ، استَدلَّ بما ذكر مِن الأشياء الدَّالة على كمال قدرته وحكمته على ألوهيَّته وتوحيده واستحقاقه للعبوديَّة، ثمَّ بكَّتهم
(2)
بقوله:
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ؛ أي: ماذا خلقَتْهُ آلهتُكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟! فـ {مَاذَا} نصب بـ {خَلْقُ} ، أو {مَا} مرتفعٌ بالابتداء، وخبره {ذَا} بصلته، و {أَرُونِي} معلَّق عنه.
ثمَّ أضرب
(3)
عن تبكيتهم والتَّهكُّمِ بهم إلى التَّسجيل عليهم بالظُّلم والتَّورُّط في ضلالٍ ليس بعدَه ضلالٌ فقال:
(11)
- {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ووضعَ الظَّاهرَ موضع الضَّمير للدِّلالة على أنَّهم ظالمون بإشراكهم.
(1)
في (ك): "موضوع".
(2)
في (ف): "ثم نكبهم".
(3)
في (ك): "أعرضَ".
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الجمهور على أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا.
والحِكمَةُ: هي الكمالُ العلميُّ مع العمليِّ؛ أي: العلمُ بحقائِقِ الأشياء على ما هي عليه، والملَكَةُ التَّامَّةُ على الأفعال الفاضلة.
{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} {أَنِ} هي المفسِّرة؛ لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وإنَّما فسَّرَ اللهُ الحكمةَ بالشُّكر تنبيهًا على أنَّ الحكمةَ المعتدَّ بها هي المقتضيةُ للعمل الصَّالحِ والشُّكرِ لله تعالى والعبادة.
{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ نفعَه عائدٌ إليها، وهو دوامُ النِّعمةِ واستحقاقُ مزيدِها.
{وَمَنْ كَفَرَ} حُذِفَ جزاؤُه، وهو: فإنَّما يكفُر على نفسه؛ أي
(1)
: ضررُ كفرِه لا يتعدَّى عنها، لانفهامه بقرينةِ قرينه
(2)
، وأقيم مقامَه تعليلُه، وهو قوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن الشُّكر؛ لا ينتفعُ بوجودِه، ولا يتضرَّرُ بعدمِه.
{حَمِيدٌ} بذاتِه، حقيقٌ
(3)
بأنْ يُحْمَدَ وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ، أو محمودٌ نطقَ بحمدِه جميعُ مخلوقاتِه بلسانِ الحالِ، وهو أنطقُ
(4)
مِن لسانِ المقال.
(1)
في (ك): "لأن".
(2)
"قرينه" سقط من "ف".
(3)
"حقيق" سقط من "ف".
(4)
في (ك): "أفصح".
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ} تصغيرُ إشفاقٍ.
{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} قيل: كان كافرًا، فلم يزلْ به حتى أسلمَ. ومَن وقفَ على {لَا تُشْرِكْ} جعل {بِاللَّهِ} قسمًا.
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لأنَّه تسويةٌ بينَ مَن لا نعمةَ إلَّا منه، ومَن لا نعمةَ منه أصلًا.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله: {تَعْمَلُونَ} آيتان معترضتان في أثناء وصيَّة لقمان لابنه؛ تأكيدًا لِمَا فيها مِن النَّهي عن الشِّرك، وذِكرُ الوالدَيْن استطرادٌ، كأنَّه قال: ووصَّيْنا
(1)
بمثل ما وصَّى به، حتَّى إنَّ الوالدَيْن اللَّذَيْنِ وصَّيْنا بتعظيمِهما وبرِّهما وطاعتِهما وجعلناهما تِلْوَ الباري في وجوبِ الشُّكرِ والطَّاعة لهما إنْ أَمَرا بالشِّركِ لم تجزْ طاعتُهما وتقليدُهما فيه، مع وجوبِ مصاحبَتِهما في الدُّنيا بالمعروف، فما ظنُّكَ بغيرِهما؟!
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} لَمَّا وصَّى بالوالدَيْن أكَّدَ الوصية في حقِّ الأمِّ خصوصًا بذكر مصاحبتها الحملَ والفِصالَ، وما تكابدُه مِن المشاقِّ والمتاعب فيهما
(2)
،
(1)
في (ف) و (م): "ووصيناه".
(2)
في (ف) و (م)، و (ي) و (ع):"فيها".
فاعترض بينَ المفسِّر والمفسَّر تذكيرًا بحقِّها
(1)
العظيم مفرَدًا، ولذلك قال النَّبيُّ عليه السلام لمن قال: مَن أَبَرُّ؟ -: "أمَّكَ، ثمَّ أمَّكَ، ثمَّ أمَّكَ"، ثمَّ قال بعد الثَّالثة:"ثمَّ أباكَ"
(2)
.
{وَهْنًا} حالٌ، وهو في الأصلِ نصبٌ على المصدر مِن فعلٍ وقع حالًا؛ أي: تَهِنُ وهنًا، أو: ذاتَ وهنٍ
(3)
.
{عَلَى وَهْنٍ} ؛ أي: تضعف ضعفًا فوقَ ضعفٍ؛ أي: ضعفًا متزايدًا؛ لأنَّ الحمل كُلَّما ازدادَتْ مُدَّتُه ازدادَ ثقلًا فازداد ضعفًا فوقَ ضعفٍ.
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} : وفطامُه في انقضاء
(4)
عامَيْن، وكانت ترضعُه في تلك المدَّة، وتوقيتُ الفصال بالعامَين بيانُ أنَّ هذه المدَّة أقصى غاية الرَّضاع.
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} تفسيرٌ لـ {وَوَصَّيْنَا} ، والجملتان معترضتان بين المفسِّر والمفسَّر، أو بدل من {بِوَالِدَيْهِ} بدل الاشتمال.
{إِلَيَّ الْمَصِيرُ} هو ترغيبٌ وترهيبٌ.
(1)
في (ك) و (م): "لحقهما" وفي (ع) و (ف): "لحقها".
(2)
رواه أبو داود (5139)، والترمذي (1897) وحسَّنه، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. وأخرج نحوه البخاري (5971)، ومسلم (2548)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ففي إعرابه ثلاثة وجوه؛ الأول: جعله نفسه حالا من {أُمُّهُ} مبالغة، والثاني: جعله حالًا، بتقدير مَضاف؛ أي: ذاتَ وهن، والثالث جعله مفعولا مطلقا لفعل مقدر؛ أي: تهن وهنا، وتكون هذه الجملة حال من {أُمُّهُ} أيضًا.
(4)
في (ف): "الفصال"، وفي (ك):"انفصال".
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ؛ أي: باستحقاقه للإشراك.
وقيل: أرادَ بنفيِ العلمِ نفيَ المعلوم؛ أي: أنْ تشركَ بي ما ليس بشيءٍ، كقوله:{مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42].
{فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك.
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} صفةُ مصدرٍ محذوف؛ أي: صحابًا معروفًا، أو: مصاحَبًا معروفًا، بخلقٍ حسنٍ وبِرٍّ واحتمالٍ وصلةٍ وحِلْمٍ وغير ذلك ممَّا يرتضيه الشَّرْعُ ويقتضيه الكرم والمروءة.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ؛ أي: سبيلَ المؤمنين في دينِك، ولا تتَّبع سبيلهما فيه.
{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ؛ أي: مرجعُكَ ومرجعُهما.
{فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : فأجازيْكَ على إيمانِك، وأجازيهما على كفرِهما.
رُوي أنَّها نزلَتْ في سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وأمِّه، وفي القصَّة أنَّها مكثت لإسلامه
(1)
ثلاثًا لا تَطعَم ولا تشرب حتى شجروا فاها بالعود
(2)
.
(1)
"لإسلامه" ليست في (ف) و (م).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 494)، وفيه:(بعود)، والمثبت من (م)، وسقطت من باقي النسخ. ووقع في (ك):"حتى يرتد فأبى" بدل: "حتى شجروا
…
". والخبر رواه مسلم (1748) كتاب فضائل الصحابة، عقب الحديث (2412) من حديث سعد رضي الله عنه، وفيه:(فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصًا ثم أو جروها).
ولذلك قيل: مَن أناب إليه تعالى أبو بكر رضي الله عنه؛ فإنَّه أسلمَ بدعوته.
* * *
{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} ؛ أي: إنَّ الخصلةَ مِن الإساءةِ والإحسانِ إن تكُ
(1)
مثَلًا
(2)
في الصِّغر كحبَّة الخَرْدلِ، والمثقالُ
(3)
مقدار يساوي غيره في الوزن.
وقرئ: {مِثْقَالَ} بالرَّفع
(4)
على أنَّ الضَّمير للقصَّة، و (كان) تامَّةٌ، وتأنيث المثقال لإضافته إلى الحبَّة، أو لأنَّ المراد به الحسنة أو السَّيئة.
{فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} : في أخفى موضعٍ
(5)
وأَحرزِه كجوف صخرةٍ، أو أعلى مكان كمحدَّبِ سماءٍ مِن السَّماوات، أو أسفلِه كمقَعَّرِ
(6)
الأرضِ.
وقرئ: {فَتَكُنْ} بكسر الكاف
(7)
، مِن وكَنَ الطَّائر يَكِنُ: إذا استقرَّ في وُكْنَتِهِ؛ أي: بيتِه.
(1)
في (ف): "إن تلك "، وفي (ك):"وإن تك".
(2)
في (ي) و (ع): "مثقال".
(3)
في (ك): "أو المثقال".
(4)
وهي قراءة نافع. انظر: "التيسير"(ص: 155).
(5)
في (م) و (ع): "أخفى مواضع"، وفي (ك):"أخفى مكان".
(6)
في النسخ عدا (ي): "كقعر"، والمثبت من (ي)، ومثله في "تفسير البيضاوي"(4/ 215).
(7)
وشد النون المفتوحة، وقرئ كذلك لكن بسكون النون، وقرئ:(فتكَنَّ) بضم ففتح والنون مشددة، ونسبت كل لقوم، وجميعها من وكن الطائر. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117)، و"المحتسب"(2/ 168)، و"المحرر الوجيز"(4/ 350)، و"روح المعاني"(21/ 61).
{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} : يُحضرُها يومَ القيامةِ، فيحاِسبُ بها عاملَها.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} : يَنفذ علمُه في البواطن فيصِلُ إلى كلِّ خفيٍّ {خَبِيرٌ} بكُنْهِهِ.
وعن قتادة: {لَطِيفٌ} باستخراجها، {خَبِيرٌ} بمستقرِّها
(1)
.
* * *
{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} تكميلًا لنفسِكَ.
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} تكميلًا لغيرِكَ.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} مِن الشَّدائد، لا سيَّما في ذلك.
{إِنَّ ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الصَّبر، أو إلى ما كُلِّفَ به.
{مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : ممَّا
(2)
عزَمَهُ الله تعالى مِن الأمور؛ أي: قطعه قطعَ إيجابٍ وإلزامٍ، مصدرٌ أُطلِقَ للمفعول، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل مِن قوله:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21]؛ أي: جَدَّ، والمعنى: مِن عازماتِ الأمورِ.
* * *
(3)
: ولا تَلْوِ صَفحةَ وجهكَ
(4)
كما يفعلهْ المتكبِّرون، مِن الصَّعَرِ، وهو داء يصيب البعير فيلوي عنقه منه.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(18/ 557).
(2)
في (ف): "أي ما"، وفي (م):"ما".
(3)
في (م): "تصاعر"، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي. انظر:"التيسير"(ص: 176).
(4)
في (ك): "خدك"، وسقطت من (ف).
{لِلنَّاسِ} لم يقل: عن الناس؛ لأنَّ المنهيَّ ما يكون تصغيرًا
(1)
للنَّاس وتحقيرًا لهم، لا الميل عنهم مطلقًا، فإنَّه إذا كان لأمرٍ آخرَ لا يكون منهيًّا.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ} مصدرٌ في موضع الحال، بمعنى: مَرِحًا، أو مصدرٌ محذوفُ الفعلِ؛ أي: تمرحُ مرَحًا، أو مفعولٌ له؛ أي: للمرح؛ يعني: لأجل البَطَرِ والبَطالة
(2)
، لا لغرضٍ صحيحٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} علةٌ للنَّهيِّ.
وتأخيرُ الفَخور وهو في مقابلةِ المقدَّم مِن المنهيَّين، وكذا الإتيانُ بصيغة المبالَغة؛ لتَوافُقِ رؤوس الآي، وإنَّما لم يقل: وفخور، حتَّى تكون المحبَّة مسلوبةً عن كلٍّ منهما أصالةً، للتَّنبيه على أنَّ الدَّخْل
(3)
في الجملة في عدم محبوبيته تعالى كافٍ في الانتهاء عنه، ومن هنا ظهرَ الوجه للعدول عن إثبات البغض إلى سلبِ المحبَّة، ثمَّ إنَّ سلْبَ
(4)
النَّفي داخل على أداة السُّور
(5)
لفظًا وهي داخلة عليه معنًى؛ أي: لا يحبُّ واحدًا منهم.
والاختيالُ: مشيةُ المتكبِّر
(6)
.
والفخرُ: ذِكْرُ المناقب للتَّطاولِ بها على السَّامع.
* * *
(1)
في (ك): "تصعيرًا"، وسقطت من (ف).
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "والبطارة".
(3)
في "ع": "الداخل".
(4)
"سلب" سقط من (ي) و (ع).
(5)
في (ك): "السوء".
(6)
في (ف): "التكبر".
(19) - {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} : واعدل فيه؛ أي: توسَّطه بينَ الإسراع والدَّبيب؛ يعني: لا تَثِبْ وثوبَ الشُّطَّارِ، ولا تَدبَّ دبيبَ المتماوتين، قال النَّبيُّ عليه السلام:"سرعةُ المشي تُذهِبُ بَهاءَ المؤمن"
(1)
.
وأما قول عائشة رضي الله عنها في عمر رضي الله عنه: كان إذا مشى أسرع
(2)
، فإنَّما أرادَتِ السُّرعة المرتفعة عن دبيبِ المتماوت.
وقرئ بقطع الهمزة
(3)
، مِن أَقْصَدَ الرَّامي
(4)
: إذا سدَّد
(5)
سهمه نحو الرَّميَّة.
{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} : وانقصْ منه وأَقصرْ، ويجوز أن يكون الغضُّ في الصَّوتِ مستعارًا من غضِّ البصر فإنَّه خفضٌ.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 290) من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدًا، وروي من طرق أخرى عن أبي هريرة ومن حديث ابن عمر وأبي سعيد وأسانيدها ضعيفة جدًا، وقد فصلنا طرقه ورواياته في تحقيقنا لـ"روح المعاني" (21/ 65). وانظر:"الكافي الشاف"(ص:130).
(2)
كذا ذكره الزمخشري في "الكشاف"(3/ 498)، وابن الأثير في "النهاية"(3/ 370)، عن عائشة رضي الله عنها. ورواه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 290) عن الشفاء بنت عبد الله.
وروي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد في "الطبقات "(1/ 379) عن يزيد بن مرثد مرسلًا.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الترمذي (3637) من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: (كأنما ينحدر من صبب). قال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117).
(4)
في (ف) و (م): "الرمي".
(5)
في (ف): "صوب"، وفي (م):"سد".
{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} : أوحشَها {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} الحمار ونهاقُه مَثَلٌ في الذَّمِّ البليغ، ولذلك يُكنَى
(1)
عنه فيُقال: طويل الأذنين.
وفي الآية ذمٌّ بليغٌ للرَّافعين أصواتِهم، حيثُ شُبِّهوا بالحمير، وأصواتُهم بالنُّهاقِ، ثمَّ طرح التَّشبيه، وأخرج الكلام مخرج الاستعارة، كلُّ ذلك لتهجينِ رفع الصَّوت، والتَّنفيرِ عنه، والحثِّ على الغضِّ، والتَّرغيبِ فيه.
وتوحيدُ الصَّوت لأنَّ المراد جنسُه الذي هو مَثَلٌ في النُّكر، لا أفرادُه.
* * *
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} : لأجْلكم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} : ما في جهة العلويَّات مِن الكواكب وأوضاعها، والسِّحاب وأمطارها، بأنْ جعلها أسبابًا لمنافعِكم.
{وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: في الجهة السُّفليَّة
(2)
، بأنْ سلَّطكم عليها، ومكَّنكم من الانتفاع بها بواسطةٍ أو بغير واسطة
(3)
.
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} : محسوسةً {وَبَاطِنَةً} : معقولةً ومخفيَّةً عنكم، ما لم تدركوه بعقولِكم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} : في توحيدِه وصفاتِه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفادٍ مِن
(1)
في (ف) و (ك) و (م): "يكتنى".
(2)
في (ف): "جهة السفل".
(3)
في (ف) و (ي): "بوسط أو بغير وسط".
دليلٍ {وَلَا هُدًى} راجعٍ إلى نبيٍّ {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} بل بتقليدٍ صِرْفٍ، كما صرَّحَ به في قوله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وفيه منعٌ صريحٌ عن التَّقليدِ في الأصولِ.
{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} جواب (لو) محذوف لدلالة {نَتَّبِعُ} عليه؛ أي: لاتَّبعوه
(1)
، والواو للحال، والهمزة للإنكار والتَّعجُّب، والضَّمير لآبائهم ولهم؛ أي: أيتبعونهم
(2)
في حالِ دعاءِ الشَّيطانِ آباءَهم.
{إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} ؛ أي: إلى ما يؤدِّي إليه مِن الشِّركِ والتَّقليدِ.
* * *
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} مِن أسلَمَ
(3)
إليه المتاع: إذا دفعَهُ إليه، ويؤيِّده القراءة بالتَّشديد
(4)
.
(1)
في (ع) و (ف) و (ي): "لاتبعوهم".
(2)
في النسخ عدا (ك): "أيتبعوهم"، والمثبت من (ك).
(3)
في النسخ عدا (ي): "سلم"، والمثبت من (ي)، وفي هامشها:"في نسخة المؤلف: من سلَّم، ولا وجه له".
(4)
نسبت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117).
وحيث عُدِّي باللَّام فلتضمين
(1)
معنى الاختصاص؛ أي: مَن يجعلْ ذاته ونفسَه سالمًا خالصًا لله تعالى.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله.
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} : فقد تعلَّق بأوثقِ ما يُتعلَّق به
(2)
، مُثِّلَ حالُ المتوكَلِ المفوِّضِ نفسَه إلى الله تعالى بحالِ مَن أرادَ أنْ ينزلَ مِن شاهقٍ فاحتاطَ لنفسِه بأنْ استمسَكَ بأوثقِ عُرْوةٍ مِن حبلٍ متينٍ مأمونِ الانقطاعِ.
وتقديم: {وَإِلَى اللَّهِ} للاختصاص؛ أي: صائرةٌ إلى اللهِ لا إلى غيره.
{عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فيجازي عليها.
* * *
{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} : فلا يُهِمَّنَّكَ كفرُه وكيدُه للإسلامِ، فإنَّه لا يضرُّك في الدُّنيا والآخرة.
وقرئ: {فَلَا يَحْزُنْكَ}
(3)
، والمستفيضُ في الاستعمال أَحزنَ في الماضي ويَحْزُنُ ثلاثيًّا مجرَّدًا في المستقبل.
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} خاصَّة {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} فنعاقبُهم على أعمالِهم.
(1)
في (ف) و (م): "فلتضمن".
(2)
في (ف) و (ك): "منه ".
(3)
بضم الياء وكسر الزاي. قرأ بها نافع. انظر: "التيسير"(ص: 91). وفي النسخ: "ولا"، والصواب المثبت.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} إنَّ الله يعلمُ ما في صدورِ عبادِه فيجازيهم على حسبِهِ.
* * *
(24) - {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} : تمتيعًا
(1)
أو زمانًا قليلًا، فإنَّ الزَّائلَ بالنِّسبة إلى الدَّائمِ قليلٌ.
{ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} استعارَ الغلظَ من الإجرام الغليظة لثِقَلِ العذابِ عليهم، وشبَّه إلزامهم العذاب باضطرارِ المضطرِّ إلى الشَّيء الذي لا يقدر على الانفكاكِ منه
(2)
.
* * *
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لوضوح البرهان الملجئ إلى الإذعان به.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلزامٌ لهم على إقرارِهم بأنَّ الخالقَ هو الله وحدَه، وأنَّه يجبُ أنْ يكون له الحمدُ، وأنْ لا يُعبَدَ معَه غيرُه.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ إقرارهم يلزمهم، و {بَلْ} إضرابٌ عن دعوتهم لجهلِهم، وأنَّهم لا يتنبَّهون بالتَّنبيه
(3)
، ولا يتفطَّنون أنَّ قولَهم عليهم.
(1)
في النسخ عدا (ي): "تمتعا"، والمثبت من (ي).
(2)
في (ف): "عنه".
(3)
في (ف) و (م): "بالتنبه".
(26) - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تقريرٌ للتَوحيد باختصاص الملك به، ودخولِ آلهتهم في ملكِه.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عنهم وعن إسلامِهم وحمدِهم.
{الْحَمِيدُ} : المستَحِقُّ للحمد، المحمودُ منك
(1)
ومن كلِّ عارفٍ وإنْ لم يحمدوه.
* * *
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} توحيدُ {شَجَرَةٍ} لتفصيل الجنس
(2)
، وتقصِّي كلِّ واحدةٍ من جنس الشَّجر، واستغراقِ عمومها؛ أي: جميع ما في الأرضِ مِن شجرهٍ شجرةِ
(3)
حتَّى يبقى واحدةٌ منها إلَّا كانَتْ قلمًا.
{وَالْبَحْرُ} بالرَّفع عطفًا على محلِّ (أنَّ) ومعمولِها، و {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ} حالٌ، أو الابتداء
(4)
على أنَّه مستأنف والواو للحال.
(1)
في (ف) و (م): "منه".
(2)
في (ف): "لتفضيل الخبر"، وفي (ك) و (م):"لتفضل الجنس". ولفظ الزمخشري: (تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة)، ولفظ البيضاوي (تفصيل الآحاد). انظر:"الكشاف"(3/ 501)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 216).
(3)
"شجرة" سقط من (ف) و (م).
(4)
أي: أو (البحر) مرفوع على الابتداء، وتكون جملة {يَمُدُّهُ} هي الخبر، والواو للحال. واستظهر=
وبالنَّصب عطفًا على اسم (أنَّ)، أو إضمارِ
(1)
فعلٍ يفسِّرُه {يَمُدُّهُ} ؛ أي: ولو ثبتَ كونُ أشجار الأرض كلِّها أقلامًا، وكونُ البحر ممدودًا
(2)
.
{سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}
(3)
أو على الابتداءِ، والواو للحال
(4)
؛ أي: ولو أنَّ الأشجارَ أقلامٌ في حال كون البحر ممدودًا، واستغنى بالواو عن الضَّمير لكون أمثال هذه الأحوال جارية مجرى الظُّروف.
ويجوز أنْ تكونَ اللَّامُ بدلَ الإضافة؛ أي: وبحرها، والضَّمير للأرض.
وقرئ: (وبحرٌ يمدُّه) على التَّنكير
(5)
، ولا وجهَ له إلَّا العطف على محلِّ (أن) واسمها.
= هذا الوجه أبو حيان. انظر: "البحر"(17/ 232)، والجملة كما قال الآلوسي حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته. انظر:"روح المعاني"(21/ 82).
(1)
في النسخ: "وإضمار"، والمثبت هو الصواب، حيث جاء في هامش (ي):"كذا في نسخة المؤلف، والموافق للقاضي - وهو الظاهر - أن يقال: أو إضمار". وانظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 216).
(2)
في (ع) و (ي): "مدودًا".
(3)
في (ي): "بسبعة أبحر". وفي هامشها: "كذا في بعض [نسخ] المؤلف، والظاهر أن يكتب {سَبْعَةُ} إلخ فيما تقدم عند قوله: و {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ} على أنه من الآية؛ لأنَّه بالباء، والموجه لأن يكون الباء غلطا؛ لأنَّه لا وجه لذكر القرآن هنا، فالظاهر أن يكون هنا بالباء ولا يكون من القرآن". قلت: وملخص الكلام: أنه كان يجب كتابة {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فيما تقدم من الآية، وتكون هنا:(بسبعة أبحر) على أنها من تتمة الكلام الذي قبلها.
(4)
في هامش (ي): "كذا في نسخة المؤلف، ولا يخفى أنه تكرار، وبالجملة: في هذا المحل غلط كثير إلا أنا اتبعنا أثر المؤلف".
(5)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 329)، و"المحتسب"(2/ 169)، و"الكشاف"(3/ 501).
وقرئ: {يَمُدُّهُ} و (يُمده)
(1)
من مدَّ الدواة وأَمَدَّها.
وأغنى عن ذِكْرِ المِداد بقوله: {يَمُدُّهُ} .
{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} اختارَ جمعَ القِلَّةِ على جمعِ الكثرةِ - وهي الكلِمُ - للإشعار بأنَّها لا تفي بالقليل منها فضلًا عن الكثير، والتَّقديرُ: ولو أنَّ أشجارَ الأرضِ كلَّها أقلامٌ، والبحر المحيط دواتُه، فجُعل البحرُ بمنزلة الدَّواة والأبحرُ السَّبعةُ مملوءة مدادًا تمدُّها أبدًا، وكُتِبَت بها كلماتُ اللهِ، ما نفدت كلمات الله ونفدت الأقلام والمداد؛ لقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109].
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : لا يعجزُهُ شيءٌ، ولا يخرج عن علمِه وحكمتِه أمرٌ، ومَن كانَ كذلك لا تَنْفَدُ كلماته وحِكَمُه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّها نزلَتْ جوابًا لليهود لَمَّا قالوا: قد أوتينا التَّوراةَ وفيها كلُّ الحكمة
(2)
.
(1)
الأولى قراءة الجمهور، والثانية نسبت لابن مسعود والحسن وابن مصرف وغيرهم. انظر:"المحتسب"(2/ 169)، و"البحر"(17/ 233).
وقد وقع في كلام المؤلف في تفسير هذه الآية اضطراب كثير كما أشير إليه في هامش (ي)، ويوضحه بل ويغني عنه ما جاء في "الكشاف"(3/ 500 - 501)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 216). كما أن في "البحر"(17/ 242)، و"روح المعاني"(21/ 81) مناقشات حسنة وتفصيل وبيان.
(2)
رواه مطولًا الطبري في "تفسيره"(18/ 572 - 573). وهذا الخبر يدل على أن الآية مدنية، ومن قال: إنها مكية، علله بأن اليهود أمروا وفد قريش أن يسألوا عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما سيأتي بعده. انظر:"روح المعاني"(21/ 87).
وقيل: أُمِرَ وفدُ قريشٍ أنْ يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألسْتَ تتلو فيما أُنْزِلَ عليك أنَّا قد أوتينا التَّوراة وفيها عِلْمُ كلِّ شيء.
وأما ما قيل: إنها نزلَتْ حين سألوا عن قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ومخالفته لنزول التَّوراة وفيها علم كلِّ شيء
(1)
.
فيَرِدُ
(2)
عليه أنه لا يصلح سببًا للنزول؛ إذ ليس فيما نزلَ تعرُّضٌ لوجهِ التَّوفيق بينهما.
* * *
(28) - {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : إلَّا كخلقِها وبعثِها؛ لأنَّه لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، فلا يتفاوت عندَه القليلُ والكثيرُ؛ لأنَّه يكفي في وجود الكلِّ تعلُّق إرادته القديمة منضمَّةً إلى قدرته الذَّاتية كما قال:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لكلِّ مسموعٍ.
{بَصِيرٌ} لكلِّ مُبْصرٍ، فلا يشغلُه إدراكُ بعضِها عن بعضٍ، وكذلك الخَلقُ والبعثُ.
* * *
(1)
هو خبر ابن عباس الذي تقدم قريبًا، ورواه الطبري في "تفسيره"(15/ 68) أيضًا عن عكرمة، و (15/ 72) عن عطاء بن يسار.
(2)
في النسخ: "ويرد"، والصواب المثبت، فقد جاء في هامش (ي):"في نسخة المؤلف: ويرد، بالواو ولا وجه له ".
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} مِن الشَّمس والقمر {يَجْرِي} في فلكِه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إلى منتهًى معيَّنٍ؛ الشَّمسُ إلى آخر السَّنة، والقمرُ إلى آخر الشَّهر.
وقيل: إلى يوم القيامة؛ لأنَّه مُنتَهى جَرْيهما ومنقطَعُه.
استُعمِلَ الجري هاهنا مع حرف الانتهاء، وفي (فاطر) مع حرف الاختصاص؛ أي: يجري لإدراك أجلٍ معيَّنٍ؛ لأنَّ بلوغ الجري إلى منتهاها يوافق اختصاص الجري بإدراك الأجل المعيَّن في المعنى، فكِلَا المعنيَيْن يتوافقان في إفادة المقصودِ.
{وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بِكُنْهِهِ.
* * *
{ذَلِكَ} الوصفُ الذي وُصِفَ به مِن كمالِ القدرةِ والحكمةِ {بِأَنَّ اللَّهَ} : بسببِ أنَّ اللهَ.
{هُوَ الْحَقُّ} الثَّابتُ في ذاته، أو الثَّابتُ الألوهيَّة.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} المنتفي الألوهيَّة، أو المعدوم في حدِّ ذاته.
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} الشَّأنِ {الْكَبِيرُ} السُّلطانِ، أو المترفِّعُ على كلِّ شيءٍ، الكبير عن أنْ يُشرَكَ به شيءٌ.
* * *
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} : بإحسانِه في تهيئة أسبابِه، أو: برحمته.
والباء للصِّلة أو الحال، وهو استشهاد آخر على باهرِ
(1)
قدرته، وكمالِ حكمتِه، وشمولِ نعمتِه.
{لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} ؛ أي: بعضَ دلائلِ قدرته وحكمتِه ورحمتِه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} على المشاقِّ، فيُتعِب نفسَه بالتَّفكُّرِ في الأنفس والآفاق {شَكُورٍ} يعرف النِّعمَ، ويعرف مانِحَها.
وهما صفتان للمؤمنِ، فإنَّ الإيمان نصفان: نصفٌ صبرٌ، ونصفُ شكرٌ، فكأنَّه قال: إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلِّ مؤمنٍ.
وقيل: {صَبَّارٍ} على بلائِه، و {شَكُورٍ} لنعمائِه.
* * *
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} : وإذا علاهم وغطَّاهم {مَوْجٌ} مرتفعٌ متراكمٌ {كَالظُّلَلِ} : جمع الظُّلَّة
(2)
، وهي كلُّ ما أظلَّكَ من الجبل أو السَّحاب أو غيرهما.
وقرئ: (كالظِّلال)
(3)
؛ كقُلَّةٍ وقِلال.
(1)
في (ك): "تأثير".
(2)
في (م): "جمع ظلة".
(3)
نسبت لمحمد بن الحنفية رضي الله عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117).
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لزوالِ ما يخالفُ الفِطرةَ مِن الهوى والتَّقليدِ، بما دهاهم من الخوفِ الشَّديد.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} : ثابِت على الطَّريق القَصْدِ الذي هو التَّوحيد، أي: باقٍ على الإخلاص الحادث في البحر، وقليل ما هم. أو متوسِّط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار، وانخفاضه عن غلوائه
(1)
.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} : مبالغٍ في الغدرِ، ناقضٍ للعهدِ الفِطريِّ، أو لِمَا عاهد الله
(2)
عليه في البحر، والخَتْرُ: أشدُّ الغَدْرِ.
{كَفُورٍ} بنعمةِ اللهِ.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} التَّنكيرُ للتَّفخيم والتَّهويل.
{لَا يَجْزِي وَالِدٌ} : لا يقضي عنه، وقرئ:(لا يُجْزِئ)
(3)
، أي: لا يُغني، والجملة صفةُ {يَوْمًا} ، والعائدُ محذوفٌ، أي: لا يجزي فيه.
{مَوْلُودٌ} عطف على {وَالِدٌ} ، أو مبتدأ خبرُه:
(1)
في (ف) و (م): "علوائه ".
(2)
لفظ الجلالة ليس في (ف) و (م).
(3)
نسبت لأبي السمال وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117).
{هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} وتغيير النَّظم بالعدول عن الجملة
(1)
الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة للتَّوكيد، والدِّلالة على أنَّ الولد أولى بأن لا يجزي شيئًا عن والده، وحسمِ أطماع المؤمنين أنْ ينفعوا آباءهم الكفَّار في الآخرة، فإنَّهم كانوا يتوقَّعون ذلك.
وللمبالغة في التَّأكيد جِيء بلفظ {هُوَ} و {مَوْلُودٌ} دون (ولد)؛ لأنَّ الولد يطلق على ولدِ الولد بخلاف المولود؛ فإنَّه لا يُطلَق على ولد الولد إلَّا بالنِّسبة إلى الذي وُلِدَ منه؛ أي: لو قَصدَ النَّفع لِمَن وُلدَ منه لم يقدِرْ عليه، فضلًا أنْ ينفعَ لأجداده.
كذا قيل، ومبناه على تخصيص الخطاب والحُكم، والظَّاهرُ العمومُ، فالوجهُ أنْ يُقالَ: إنَّ الابن مِن شأنه أن يكون جازيًا عن والده؛ لِمَا عليه من الحقوق، والوالد يجزي لِمَا فيه مِن الشَّفقةِ، فليس الثَّاني كالأوَّل.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالثَّوابِ والعقاب {حَقٌّ} لا يمكِنُ خُلْفُه.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتِها؛ فإنَّ نعيمَها ذاهبٌ
(2)
، ولذَّاتها فانيةٌ.
{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} : الشَّيطانُ. وقرئ بضمِّ الغين
(3)
، فجُعِلَ الغُرور غارًّا للمبالغة، أو إرادةُ زينة الدُّنيا لأنَّها غُرور؛ إطلاقًا لاسم المسبَّب على السَّبب.
* * *
(1)
"الجملة" سقط من (ك).
(2)
في (ف) و (م) و (ي) و (ع): "دانية"، والمثبت من (ك).
(3)
نسبت لسماك بن حرب وأبي حيوة. انظر: "المحتسب"(2/ 172)، و"البحر المحيط "(17/ 240).
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} علمُ وقتِ قيامِها؛ لِمَا رُويَ أنَّ الحارثَ بنَ عمرٍو أتى النَّبيَّ عليه السلام وقال: متى قيام السَّاعة؟ وإنِّي قد ألقيْتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى تمطرُ السَّماء؟ وحملُ امرأتي ذكرٌ أم أنثى؟ وما أعمل غدًا؟ وأينَ أموتُ؟ فنزلَتْ
(1)
.
أي: محفوظةٌ علمُها مِن جهته تعالى، لا يصلُ إليه غيرُه، فإنَّ كونَ الشَّيء عندَه عبارةٌ عن كمالِ حفظِه، وبهذا الوجه يظهرُ اختصاصُ العلمِ المذكور به تعالى.
{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ؛ أي: يرسِلُ المطرَ النَّافع بحسب المصالح على التَّدريجِ في أوقاتٍ متعدِّدةٍ.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أذكرٌ أم أنثى، أحيٌّ أم ميِّتٍ، أتامٌّ أم ناقصٍ.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} أيَّةُ نفسٍ كانَتْ، وإنَّما جعل العِلمَ لله تعالى، والدِّراية للعبد؛ لِمَا في الدِّراية مِن معنى الخَتْلِ
(2)
والحيلة، والمعنى: أنَّها لا تَعرِفُ وإنْ أعملَتْ حيلَها.
(1)
رواه ابن المنذر في "تفسيره" عن عكرمة، كما في "الدر المنثور" (6/ 530) وسمى الرجل: الوارث من بني مازن. وذكره مقاتل بن سليمان في "تفسيره"(3/ 440)، والثعلبي في "تفسيره"(7/ 323)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص: 347)، وذكره الواحدي أيضًا في "البسيط"(18/ 128) وعزاه لمجاهد ومقاتل، واسم صاحب القصة عندهم عدا "أسباب النزول": عبد الوارث بن عمرو. ورواه الطبري في "تفسيره"(18/ 585) عن مجاهد ولم يسمه. فهذا الخبر لم يرو بسند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مراسيل عن عكرمة ومجاهد ومقاتل.
(2)
في (ع): "المثل"، وفي (ف) و (م) و (ك):"الحيل".
{مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} مِن خيرٍ أو شرٍّ، فربَّما كانَتْ عازمةً على خيرٍ فعملَتْ شرًّا، أو عازمةً على شرٍّ فعملَتْ خيرًا.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ؛ أي: أينَ تموت، وربَّما أقامت بأرضٍ، وضربَتْ أوتادها، وقالَتْ: لا أبرحُها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموتَ في مكانٍ لم يخطرْ ببالِها.
وقرئ: (بأيَّةِ أرضٍ)
(1)
، وشبَّه سيبويه تأنيثَ (أيّ) بتأنيث (كل) في:(كلتهنَّ)
(2)
.
واعلم: أنَّ الانطباقَ على سبب النُّزول المذكور، والاتِّفاقَ بما روي في "صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنه: "مفاتيحُ الغيبِ خمسةٌ لا يعلمُها إلَّا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
…
الآية"
(3)
= إنَّما يكونان على تقدير أنْ يظهرَ [اختصاص] علمِ أوقات نزول الغيث وعلمِ أحوال الحمل به [تعالى]
(4)
، وذلك بأن يكون تقدير قوله:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : و أنْ ينزِّلَ الغيث، عطفًا على {السَّاعَةِ} ، يعني: عندَه علمُ السَّاعة وعلمُ إنزال الغيث، فحذف (أنْ) كقوله:
(1)
نسبت لموسى الأسواري وابن أبي عبلة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117)، و"المحرر الوجيز"(4/ 356).
(2)
في النسخ: "كلهن"، والمثبت من "الكتاب". انظر:"الكتاب" لسيبويه (2/ 407).
(3)
رواه البخاري (4627).
(4)
ما بين معكوفتين من رسالة للمؤلف بعنوان: "رسالة في تحقيق الغيب"، وما ذُكر هنا هو بعض ما جاء في تلك الرسالة المفيدة، وهي مطبوعة ضمن مجموع رسائله، وقد من الله علينا بتحقيقها في جملة ما حققناه من رسائله.
ألَّا أيُّهذا الزَّاجري
(1)
أحضرُ الوَغَى
(2)
والمعنى: أنْ أحضرَ الوغى.
وقِسْ على هذا قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} .
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
* * *
(1)
في (م): "اللائمي"، وهي رواية. انظر التعليق الآتي.
(2)
صدر بيت لطرفة بن العبد، وهو في ديوانه (ص: 32)، وورد بلفظ:(اللائمي) في "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي (ص: 130)، و"الجمل في النحو" للخليل (ص: 165). وقوله: (أحضر) روي بالرفع والنصب، كما قال السمين في "الدر المصون"(1/ 460)، لكن الاستشهاد به هنا على وجه الرفع؛ لأن الفعل في الآية مرفوع. وعجز البيت:
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلدي
سُورَةُ السَّجْدَةِ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
(1 - 2) - {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إنْ جُعل {الم} اسمًا للسورة فهو مبتدأٌ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} خبرُه على أن التَّنزيل بمعنى المنزَل، و {مِنْ رَبِّ} صلةُ {تَنْزِيلُ} أو خبر ثانٍ.
وإنْ جُعل تعديدًا للحروف فـ {تَنْزِيلُ} خبر مبتدأ محذوفٍ، أو مبتدأٌ خبرُه {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، و {لَا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له من الإعراب، والضمير في {فِيهِ} راجع إلى مضمون الجملة؛ أي: لا ريب في ذلك، يعني: في كونه منزلًا من ربِّ العالمين، أو الخبرُ {لَا رَيْبَ فِيهِ} و {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ من الضمير في {فِيهِ} على أنه للتنزيل أو للكتاب.
* * *
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} مؤيِّدٌ لرجوع الضمير في {فِيهِ} لمضمون
(1)
الجملة، وكذا قوله:
{بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} لأن قولهم: هذا مفترى، إنكار لأنْ يكون من رب العالمين.
والهمزة في {أَمْ يَقُولُونَ} إنكارٌ لقولهم وتعجيبٌ منه، فيكون الكلام مصدَّرًا بإعجازه وإثباتِ أنه من ربِّ العالمين، مقرِّرًا بأنه لا ريب في ذلك، ثم مقفًّى بالإضراب عن ذلك إلى إنكار قولهم:{افْتَرَاهُ} والتعجيبِ منه؛ لظهورِ أمره في الإعجاز، ثم بالإضراب عن الإنكار إلى تقرير المقصود، بعد ردِّ قولهم وإثباتِ أنه الحقُّ من ربِّك، ثم ببيان الغرض منه بقوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} ولا يُشْكِلُ هذا بقوله:
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]؛ لأنهم لم يخل عن الوقوف بشريعة
(2)
تنذرهم وإن لم يأتهم نذير.
{مِنْ قَبْلِكَ} لأنهم كانوا أهلَ الفترة.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} بإنذارك إياهم.
* * *
(1)
في (ف): "للتنزيل أو إلى مضمون "، بدل:"لمضمون"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 506)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 219)، قال الزمخشري: (والوجه أن يرتفع [أي: {تَنْزِيلُ}] بالابتداء، وخبره {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، و {لَا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له، والضمير في {فِيهِ} راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: في كونه منزلا من رب العالمين، ويشهد لوجاهته قوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} لأنّ قولهم: هذا مفترًى، إنكار لأنْ يكون من رب العالمين، وكذلك قوله:{بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}
…
).
(2)
في (ي): "من الوقوف بشريعة"، وفي (ع) و (م):"عن الوقوف شريعة"، وسقطت من (ف) و (ك).
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} سبق تفسيره في سورة الأعراف.
{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} : ما لكم إذا جاوزتُم رضا اللهِ تعالى أحدٌ ينصركم أو يشفع لكم.
{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} بمواعظ الله.
* * *
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} : يدبر أمرَ الدنيا كلِّها بأسبابٍ سماويةٍ نازلةٍ آثارُها إلى الأرض لكلِّ يومٍ من أيام الله، وهو ألفُ سنة كما قال:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} ؛ أي: يصيرُ إليه ويُكتب عنده في صحف ملائكته {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} كلَّ وقتٍ من أوقات هذه المدةِ ما
(1)
يرتفع من ذلك
(1)
قوله: "ما" اسم موصول في محل رفع لـ"يصير" أو لـ "يكتب" على التنازع، وقوله:"كلَّ يوم .. " ظرف لهما، والمعنى: (ثم يَصير إليه تعالى وَيثْبُت عنده عز وجل ويُكتب في صحف ملائكته جلّ وعلا كلَّ وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر
…
)، هذا ما وفق الله إليه في شرح عبارة المؤلف، وهي منقولة عن الزمخشري ولم أجد من شرحها، والعبارة التي أوردتها هي عبارة الآلوسي، والله أعلم بالصواب. انظر:"الكشاف"(3/ 508)، و"روح المعاني"(21/ 132).
الأمر ويدخل تحت الوجود، إلى أن تبلغَ المدة آخِرَها، ثم يدبِّر أيضًا ليومٍ آخرَ، وهلمَّ جرًّا إلى أن تقوم الساعة.
وقيل: يُنْزِل الوحيَ مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يَعرج إليه في زمان هو في الحقيقة ألفُ سنة؛ لأن المسافة مسيرةُ ألف سنة، فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام.
وفيه نظر؛ إذ لا يَلزم من قطع المسافة الطويلةِ في مدةٍ قصيرةٍ أن تكون تلك المدةُ طويلةً في الحقيقة، وذلك ظاهر.
نعم لو قيل: في قوله: {مِقْدَارُهُ} تجوُّزٌ، فإن المقدار المذكور للمسافة باعتبار قطعها المعتاد، لكان له وجه.
* * *
(6) - {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فيدبِّر على
(1)
وَفْق علمه.
{الْعَزِيزُ} : القويُّ بإنفاذ أمره.
{الرَّحِيمُ} على العباد في تدبيره على وفق مصالحهم تفضُّلًا وامتنانًا.
* * *
(7) - {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} .
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} : حسَّنه على وَفق الحكمة والمصلحة موفورًا عليه ما يَستعدُّه ويليق به، وإنْ تفاوَتَ إلى حَسَنٍ وأَحْسن، و {خَلَقَهُ} بدلٌ من {كُلَّ شَيْءٍ} بدلَ الاشتمال.
(1)
"على": ليست في (م).
وقيل: عَلِمَ كيف يخلقه، من قوله: قيمةُ المرء ما يُحْسِنه، أي: يُحسن معرفته، و {خَلَقَهُ} مفعول ثان.
وقرئ بفتح اللام
(1)
، فالشيءُ على الأول مخصوصٌ بمنفصِل، وعلى الثاني بمتَّصِل.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ} يعني: آدم عليه السلام {مِنْ طِينٍ} .
* * *
(8) - {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} .
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ} النسل: الذرِّية، سميت به لأنها تَنسلُّ منه، أي: تنفصل وتخرج من صُلبه، والسلالة: ما يُسلُّ من الشيء ويُخرَج.
{مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} : ضعيفٍ حقير.
* * *
{ثُمَّ سَوَّاهُ} : قوَّمه بتصويرِ
(2)
أعضائه على ما ينبغي.
{وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أضافه إلى نفسه تشريفًا وإظهارًا بأن له خَلْقًا عجيبًا، وأن له شأنًا له مناسبةٌ ما إلى حضرة الربوبية، قال عليه السلام: مَن عَرَفَ نَفْسَه فقد عَرَفَ ربَّه
(3)
.
(1)
هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي ونافع، وباقي السبعة بسكون اللام. انظر:"التيسير"(ص: 177).
(2)
في (ك): "بتقدير".
(3)
قال أبو المظفر ابن السمعاني: لا يعرف مرفوعًا، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من=
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} خصوصًا لتَسمعوا وتُبصروا وتَعقلوا، وإنما قدَّم السمع على البصر لخساسته نظرًا إلى البصر، فإن الكلام على أسلوب الترقِّي من الشريف إلى الأشرف فالأشرف.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} ؛ أي: تشكرون شكرًا قليلًا.
* * *
{وَقَالُوا} قيل: القائل أبيُّ بن خلف، ولا حاجةَ إلى رضاهم بقوله في الإسناد إليهم، بل يكفي وجودُ القول بينهم كقوله:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72].
{أَإِذَا ضَلَلْنَا} بالفتح والكسر
(1)
.
{فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: صرنا ترابًا مختلِطًا بتراب الأرض بحيث لا امتياز فيه، أو: غبنا فيها.
وقرئ: (صَللْنا)
(2)
من صلَّ اللحم: إذا أَنْتَنَ، وقيل: صِرنا من جنس الصَّلَة وهي الأرض.
= قوله، وكذا فال النووي: إنه ليس بثابت. انظر: "المقاصد الحسنة"(ص: 657). وذكره السلمي في "تفسيره"(2/ 86) من قول علي رضي الله عنه.
(1)
بالفتح قراءة الجمهور، ونسبت قراءة ليحيى بن يعمر وابن محيصن وأبي رجاء وغيرهم. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 117)، و"إعراب القرآن " للنحاس (3/ 293).
(2)
قيدها بعضهم بفتح اللام وآخرون بكسرها، ونسبت لعلي وابن عباس والحسن وغيرهم. انظر:"معاني القرآن" للفراء (2/ 331)، و"المحتسب"(2/ 173)، و"الكشاف"(3/ 509)، و" المحرر الوجيزي (4/ 360)، و"روح المعاني" (21/ 141).
وقرئ: {أَإِذَا} على الخبر
(1)
، والعامل فيه ما دل عليه:
{أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو: نُبعث، أو: يجدَّد خَلْقُنا.
وقرئ: {أَإِنَّا} على الخبر
(2)
.
{بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} لمَّا ذكر
(3)
كفرَهم بالبعث أعرضَ عنه إلى ما هو أبلغُ في الكفر بما بعد الموت من الرجوع إلى الله والجزاء
(4)
.
* * *
(11) - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} .
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ} التَّوفِّي: استيفاء النَّفْس، من قولك: تَوَفَّيتُ حقِّي من فلان واستَوْفَيْتُه: إذا أخذْتَه وافيًا كاملًا؛ أي: يَقبض نفوسكم بتمامها.
{مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} ؛ أي: يَقبِض
(5)
أرواحَكم عند انتهاء مُدد أعماركم، وفي عبارة {وُكِّلَ بِكُمْ} إشارةٌ إلى وجه التوفيق بين هذه الآية وقولهِ تعالى:{يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وهو أن فِعْلَ الوكيلِ فِعْلُ الموكِّل.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء.
* * *
(1)
قراءة ابن عامر، والباقون على الاستفهام. انظر:"التيسير"(ص: 132).
(2)
قراءة نافع والكسائي، والباقون على الاستفهام. انظر:"التيسير"(ص: 132).
(3)
في (ف) و (ك): "رد".
(4)
انظر: "تفسير النسفي"(3/ 7)، ولفظه:(لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده).
(5)
في (ك): "بقبض".
{وَلَوْ تَرَى} الأفصح أن يكون الخطاب لكلِّ أحدٍ ممن يَتأتَّى له الرؤيةُ
(1)
ولا يقدَّرَ لـ {تَرَى} مفعولٌ؛ لأن المعنى: لو يكونُ منك الرؤية في هذا الوقت.
{إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} من الذل والحياء والندم.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : عند حساب ربهم
(2)
، ويُوقَفُ عليه لحقِّ الحذف؛ إذ التقديرُ: قائلين.
{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} صِدْقَ وعدِكَ ووعيدِك {وَسَمِعْنَا} منك تصديقَ رسلك، أو: كنا عميًا وصمًّا أبصرنا وسمعنا.
{فَارْجِعْنَا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحًا} ؛ أي: الإيمانَ والطاعة.
{إِنَّا مُوقِنُونَ} بالبعث
(3)
والحساب الآن.
وجواب (لو) محذوف تقديره: لرأيت أمرًا فظيعًا، والمضيُّ فيها وفي {إِذِ} لأن المترقَّب من الله تعالى بمنزلة الواقع.
* * *
(1)
في (ك): "القدرة".
(2)
في (ف) و (م): "حسابهم ".
(3)
في (ف): "بالغيب".
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} : ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له.
{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} : سبَق حُكمي وقضائي، وهو:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} إنما قدَّم الجنَّ لأن المقام مقامُ التحقير {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} : ولكن اقتضى الحكمةُ خلافَ ذلك، وما ذُكر من سبق القضاء به كنايةٌ عن ذلك الاقتضاء، فليس فيه تسبُّبُ عدم إيمانهم عن سبق التقدير الأزلي به كما سبق إلى بعض الأوهام.
* * *
{فَذُوقُوا} يعني: ما أنتم فيه من الخزي والغم.
{بِمَا نَسِيتُمْ} : بسبب نسيانكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أو: بتركِكُم العمل لهذا اليوم كأنكم نسيتُموه فلم تذكروه.
{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} ، أي: تركناكم في العذاب، أو: جازيناكم على نسيانكم، وفي استئنافه وبناءِ الفعل على (إنَّ) واسمها تشديدٌ في الانتقام منهم.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} ؛ أي: واعلموا أن هذا العقاب خالدٌ لكم - غيرُ زائل عنكم.
{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : بأعمالكم من الكفر والمعاصي، وإنما كرَّر الأمر
(1)
(1)
"الأمر": ليست في (م).
للتأكيد، ولمَا نِيطَ به من التصريح بمفعوله، وتعليلِه بأفعالهم السيئة كما علَّله بتركهم تدبُّر أمر العاقبة والتفكُّرَ فيها دلالةً على أن كلًّا منها يقتضي ذلك، وهذا منادٍ ينادي على أنه لا عذر لهم في ذلك
(1)
من جهة القضاء الأزلي.
* * *
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} : وعظوا بها.
{خَرُّوا سُجَّدًا} خوفًا من عذاب الله تعالى.
{وَسَبَّحُوا} : نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث.
{بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : حامدين له شكرًا على ما وفَّقهم للإسلام وآتاهم الهدى.
{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن
(2)
الإيمان والطاعة.
* * *
{تَتَجَافَى} ترتفعُ وتتنحَّى {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} : الفرُش ومواضعِ النوم، مبالغة في الاعتياد
(3)
بقيام الليل، كأنهم يقومون بالطبع لا بالاختيار كما يقومون لحاجاتهم الطبيعية.
(1)
في هامش (م): "ولكن لا حياة لمن ينادى منه".
(2)
في (م): "على".
(3)
في (م): "الاعتبار".
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} : داعين إياه {خَوْفًا} من سَخَطه {وَطَمَعًا} في رحمته، وعن النبيِّ عليه السلام في تفسيرها: قيامُ العبد من الليل
(1)
.
وقيل: كان ناسق من الصحابة يصفُون من المغرب إلى العشاء، فنزلت فيهم
(2)
.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في وجوه الخير.
* * *
(17) - {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} واحدةٌ من النفوس، لا مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل.
{مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} على البناء للمفعول والفاعل، وقرئ:{مَا أُخْفِيَ} على أنه مضارع أَخْفَيتُ
(3)
.
و: (ما نخفي)، و:(ما أَخْفيتُ)
(4)
.
والفاعل في الكل هو الله تعالى، و {مَا} موصولة والعِلم بمعنى المعرفة، أو استفهامية
(5)
بمعنى: أيُّ شيء؟ علِّق عنها الفعل.
(1)
رواه الترمذي (2616) وصححه، والنسائي في "الكبرى"(11330)، وابن ماجه (3973)، والطبري في "تفسيره"(18/ 614)، من حديث معاذ رضي الله عنه.
(2)
رويت فيه أخبار كثيرة تنظر في "الدر المنثور"(6/ 546)، وروى نحوه أبو داود (1321) و (1322)، والترمذي (3196) وصححه، من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
هذه فراءة حمزة، وقرأ باقي السبعة:{أُخْفِيَ} بالبناء للمفعول. انظر: "التيسير"(ص: 177). وقراءة (أَخْفَى) بالماضي المبني للفاعل نسبت لمحمد بن كعب. انظر: "الكشاف"(3/ 512)، و"المحرر الوجيز"(4/ 362).
(4)
نسبت الأولى لابن مسعود والثانية للأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 118)، و"الكشاف"(3/ 512)، و"المحرر الوجيز"(4/ 362).
(5)
في (ف) و (م): (الاستفهامية).
{مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} : ممَّا تَقَرُّ به أعينُهم، وقرئ:(مِن قُرَّاتِ أعينٍ)
(1)
لاختلاف الأنواع.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مفعولٌ له، أي: أُخفيَ للجزاء، أو مصدر، أي: جُزُوا جزاءً، أو حال على التسمية بالمصدر. والفاء للسببية، أي: إذا لقينا مَن كانوا يُخفون عبادتنا بالليل فلا تعلم نفسٌ ما أَخفينا لهم.
وفي الإبهام ثم التوضيحِ والتفسيرِ لـ {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} تفخيم لشأن جزائهم وتعظيمٌ له، وإن جُعل
(2)
{مَا} استفهاميةً زِيدَ تعظيمٌ على تعظيمٍ.
* * *
(18) - {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} .
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} الفاء للتعقيب والهمزةُ للإنكار، أي: أَبَعْدَ ما ذُكر مِن ثواب المؤمن وكرامته هل يكون مساويًا للفاسق الخارج عن الإيمان في الشرف والمثوبة.
{يَسْتَوُونَ} تأكيد وتصريحٌ، والجمع للحمل على المعنى.
* * *
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} ، أي: المأوى الحقيقيُّ الأبديُّ فإنَّ الدنيا منزلٌ مرتحَلٌ عنها، وقيل: نوع من الجِنان كما في قوله تعالى:
(1)
نسبت لابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 118)، و"المحتسب"(2/ 174)، و"الكشاف"(3/ 512)، و"المحرر الوجيز"(4/ 363).
(2)
في (ف) و (م): "يجعل".
{(13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14] عن ابن عباس رضي الله عنهما: تأوي إليها أرواح الشهداء.
{نُزُلًا} سبق تفسيره في آل عمران.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : بأعمالهم.
* * *
{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} فجنةُ مأواهم النارُ؛ أي: النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين؛ كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قد سبق تفسيره.
{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إهانةً لهم وزيادةً في غيظهم.
* * *
(21) - {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} : عذابِ الدنيا مما محنوا به من الأسر والقتل والقحط سبغ سنين.
{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} : عذاب الآخرة.
{لَعَلَّهُمْ} : لعلَّ مَن بقي منهم {يَرْجِعُونَ} : يتوبون عن الكفر.
رُوي أن الوليد بن عقبةَ فاخَرَ عليًّا رضي الله عنه يوم بدر، فنزلت هذه الآية
(1)
.
* * *
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} ولم يتفكَّر فيها، و {ثُمَّ} مستعار للاستبعاد؛ لأن الإعراض عن مثل هذه الآيات مع وضوحها وإنارةِ برهانها وإرشادها إلى الفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعَدٌ عقلًا؛ كما تقول لصاحبك: وجدتَ مثلَ هذه الفرصةِ ثم لم تَنْتهِزها! ومنه ما في بيت الحماسة:
ولا يَكشفُ الغمَّاءَ إلَّا ابنُ حُرَّةٍ
…
يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها
(2)
{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} استئناف مؤذِنٌ بأن الانتقام منهم هو أشدُّ الانتقام؛ لأنَّه لمَّا بيَّن أنه أظلمُ من كلِّ ظالم، ثم دلَّ على أنه يَنتقم من كلِّ مجرم والظالمُ
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 514). قال الحافظ في "الكاف الشاف"(ص: 131) ونقله عنه الشهاب في "الحاشية"(7/ 154) مع بعض زيادة: (قوله: إن ذلك شجر بينهما يوم بدر، غلط فاحش، فما كان الوليد حينئذ رجلا، بل طفلًا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكره الزمخشري من مشاجرته لعلي رضي الله عنه. قلت: قد رويت القصة دون تعيين يوم بدر، رواها عن ابن عباس رضي الله عنهما الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1043)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(13/ 321). وكذا أوردها في تفاسيرهم السمرقندي والثعلبي والواحدي والبغوي وابن عطية وابن الجوزي، لكن نقل ابن عطية عن الزجاج والنحاس وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط، قال: وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية؛ لأن عقبة لم يكن بالمدينة وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. قلت: ولعله على هذا يكون لما ذكره الزمخشري وجه إلا أنه وهم فذكر الوليد بدل أبيه.
(2)
البيت لجعفر بن عُلْبةَ - بضم العين وسكون اللام بعدها باء - الحارثي. انظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (1/ 49)، و"الحماسة البصرية"(1/ 464)، و"الكشاف"(3/ 515).
مجرم، كان ممَّن
(1)
هو أظلمُ أشدَّ انتقامًا، فلهذا المعنى وَضع {الْمُجْرِمِينَ} موضع الضمير
(2)
.
* * *
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} كما آتيناك.
{فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} : في شكٍّ {مِنْ لِقَائِهِ} : من لقائك الكتابَ؛ لقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [النمل: 6]، أي: إنك أوتيتَ ما أوتيتَ
(3)
مثلَ ما أُوتيه، كقوله:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94].
أو: من لقاء موسى الكتابَ، ويؤيِّده انتظامُ قوله:{وَجَعَلْنَاهُ} ؛ أي: المنزلَ على موسى عليه السلام {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} .
وأما عودُ الضمير إلى موسى عليه السلام؛ أي: من لقائكَ موسى، فيأباه تصديرُ النهي بأداة التفريع.
* * *
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} الناسَ إلى ما فيه من الحِكَم والأحكام.
(1)
في النسخ: "من"، والصواب المثبت.
(2)
بعدها في (ف) و (م): "له "، ولا وجه لها.
(3)
"ما أوتيت" من (ف) و (ك).
{بِأَمْرِنَا}
(1)
إياهم به، أو بتوفيقنا له.
{لَمَّا صَبَرُوا} : لصبرهم، وقرئ:{لَمَّا}
(2)
؛ أي: حين صبروا.
{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} لإمعانهم في النظر.
* * *
(25) - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقضي فيَمِيزُ الحقَّ من الباطل بتمييز المحقِّ من المبطِل.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين.
* * *
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الواو للعطف على مقدَّرٍ من جنس المعطوف؛ أي: ألم يؤمنوا - أو: ألم تَدْعهم - ولم يَهْدِ لهم، والفاعل ما دل عليه:
{لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} ؛ أي: كثرةُ إهلاكنا القرونَ، أو هذا الكلام كما هو بمضمونه كقولك: تعصمُ لا إلهَ إلا الله
(3)
الدماءَ والأموالَ، أو ضميرُ {رَبَّكَ} بدلالة قراءته بالنون
(4)
.
(1)
بعدها في (ك): "بآياتنا".
(2)
قراءة جمهور السبعة، وقرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم. انظر:"التيسير"(ص: 177).
(3)
في (ك): كتب فوق لفظ الجلالة: (هو).
(4)
نسبت لعلي وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"=
{يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} يعني: أهل مكة يمرُّون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} قد سبق في تفسير سورة الروم وجهُ توصيف القوم بالسمع وكان الظاهر توصيفُهم بالإبصار.
* * *
{أَوَلَمْ يَرَوْا} الواو لعطف الاستفهام على نظيره، وتأخيرُه عن أداتها لصدارتها.
{أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} ؛ أي
(1)
: التي جُرز نباتها؛ أي: قُطع؛ إما لعدم الماء، أو لأنَّه أُزيل أو رُعي، ولا يقال للَّتي لا تُنبت كالسباخ: جُرُزٌ، بدليل قوله:
{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} وقيل: اسمُ موضع في اليمن.
{تَأْكُلُ مِنْهُ} " أي: من الزرع {أَنْعَامُهُمْ} من عَصْفِه وتِبْنِه {وَأَنْفُسُهُمْ} من حبِّه وثمره، قدِّم أَكلُها على أَكلهم لأن ما تأكله من الورق والقَصيل
(2)
يحصل مقدَّمًا.
{أَفَلَا يُبْصِرُونَ} فيستدلون به على كمالِ فضله وقدرته.
* * *
= (ص: 118)، و"الكشاف"(3/ 516)، و"المحرر الوجيز"(4/ 365).
(1)
"أي "من (ف) و (ك).
(2)
القصيل: ما اقتُصل من الزرع أخضر. انظر: "القاموس"(مادة: قصل).
(28) - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} : النصر، أو الفصل بالحكومة، من قوله:{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19] لا من قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89]، فإن إطلاق يوم الفتح على يوم القيامة لانفتاح أبواب السماء حينئذ، لا لانتصار المسلمين على الكفار.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في الوعد به.
* * *
(29) - {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يومُ الفتح: يومُ القيامة لأنَّه يُفتح فيه بين المؤمنين وبين أعدائهم ويُنصرون عليهم.
وقيل: هو يومُ بدر، أو يومُ فتح مكة، والمراد بالذين كفروا: المقتولون في أحد اليومين، فإنه لا ينفعهم إيمانهم حالَ القتل ولا يُمهَلون.
وتطبيق الجواب على سؤالهم من حيث المعنى؛ لأن غرضهم من الاستفهام لم يكن طلبَ تعيين الوقت بل الاستعجال، كأنه قيل: لا تستعجلوا به فإنه إذا جاء لا ينفعكم الإيمان إن آمنتم ولا تُنظَرون إن استَنظَرتُم، و {الَّذِينَ كَفَرُوا} من باب وضع الظاهرِ موضع المضمَر للتسجيل عليهم بالكفر، وأن الكفر المستمرَّ إلى وقت العذاب هو الذي يُوجِب عدم نفعِ الإيمان وينفي
(1)
الإنظار.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "ونفي".
(30) - {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} .
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تبال بتكذيبهم، وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
{وَانْتَظِرْ} النصرةَ عليهم وهلاكَهم.
{إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} الغلبةَ عليكم وهلاكَكم.
وقرئ: (منتظَرون) بفتح الظاء
(1)
؛ أي إنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أي إن الملائكة ينتظرون هلاكهم فإنهم هالكون لا محالة.
* * *
(1)
نسبت لمحمد بن السميفع. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 118)، و"المحتسب"(2/ 175)، و"الكشاف"(3/ 517)، و"المحرر الوجيز"(4/ 366).
سُورَةُ الأَحْزَابِ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} نودي عليه السلام في جميع القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} و {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} تعظيمًا له وتعليمًا للعباد كيفَ ينادونه.
{اتَّقِ اللَّهَ} أمرَهُ بالتَّقوى تعظيمًا للتَّقوى، وإعلامًا للأمَّة بأنَّه بابٌ عظيمٌ يجبُ أنْ يُعتدَّ به ويُحافَظ عليه، والمرادُ الأمرُ بالثَّبات على ما هو عليه ليكون مانعًا له عمَّا نُهِيَ عنه بقوله:
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ؛ أي: لا تساعدهم على شيءٍ يعودُ لوهنٍ في الدِّين
(1)
، ولا تقبل لهم رأيًا في ذلك.
روي أنَّ أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السُّلَمي قدموا المدينة بعدَ قِتال أُحُدٍ فنزلوا على عبد الله بن أُبيٍّ، وأعطاهم رسولُ الله عليه السلام الأمانَ على أنْ يكلِّموه، فقالوا له: ارفضْ ذِكْرَ آلهتنا، وقل: إنَّها تشفعُ وتنفعُ، وندعك وربَّك، وآزرهم المنافقون على ذلك، فهَمَّ المسلمون بقتْلِهم، فنزلَتْ
(2)
.
(1)
في (ف): "يعود لتزيين في الدنيا"، وسقطت من (ك):"لوهن".
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 76)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 369)، و"الكشاف"(3/ 519).
أي: اتَّقِ الله في نقضِ العهدِ
(1)
، ولا تطع الكافرين من أهل مكَّة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} بِخُبْثِ أعمالِهم {حَكِيمًا} في تأخيرِ الأمرِ بقتالهم.
* * *
(2) - {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} مِن الأمر والنَّهي.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فموحٍ إليك ما يصلحه ومغنٍ من الاستماع إلى الكفرة.
وقرئ بالياء
(2)
؛ أي: إن الله خبيرٌ بمكايدهم يدفعُها عنك.
* * *
(3) - {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : وفوِّض أمرَكَ إليه.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} : موكولًا إليه كلُّ أمر، قال الزَّجَّاجُ: ولفظ (كفى) وإن كان ألفظه لفظ، الخبر فالمعنى: اكتفِ باللهِ
(3)
.
* * *
(1)
في (ك) و (م): "العهود".
(2)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 177).
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 213)، وما بين معكوفتين منه.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ} تنكيرُه وزيادة {مِنْ} في قول: {مِنْ قَلْبَيْنِ} بعدَ النَّفي؛ للتَّعميم والاستغراق؛ أي: ما جعلَ اللهُ لفردٍ واحدٍ مِن جملة الرِّجالِ فضلًا عن الصِّبيان والنُّسوان قَلْبَين ألبتَّة بوجهٍ من الوجوهِ.
و {فِي جَوْفِهِ} تأكيدٌ
(1)
، وزيادةُ تصويرٍ للسَّامعِ ليكونَ إذا سمع تصوير جوف إنسانٍ مشتملًا على قلبَيْن، فيكون أسرعَ إلى الإنكار.
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ما جعل الزَّوجيَّة والأموميَّة في أنثى ولا الدَّعوة والبنوَّة في ذَكَرٍ، جَعَلَ نَفْيَ اجتماعِ القلبَيْن في جوفٍ أصلًا لانتفاءِ
(2)
الاجتماعَيْن الآخرَيْن.
وذلكَ أنَّ العربَ تزعمُ أنَّ اللَّبيبَ له قلبان، ولذلك قيل لأبي مَعمر جميل بن أسد الفهري: ذو القَلْبَين، وكانَ رجلًا من أحفظ العرب وأرواهم، وكان يقول: إن لي قلبَيْن؛ أفهم بأحدهما أكثر ممَّا يفهم محمَّد، فأكذب الله تعالى قوله وقولهم
(3)
.
وضربه مثلًا في الظِّهار والتَّبني، فإنَّهم كانوا يقولون: المرأة المظاهَر عنها أمّ، ودَعِيُّ الرَّجلِ ابنُه.
(1)
في (م): "توكيد".
(2)
في (ف) و (ي) و (ع): "لانتفاع".
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(8/ 6). وروى نحوه الطبري في "تفسيره"(19/ 7 - 8) عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وعكرمة بإبهام اسم الرجل.
والمعنى: كما لم يجعلِ الله قلبَيْن في جوفٍ لأدائه
(1)
إلى التَّناقض - وهو أنْ يكونَ كلّ منهما أصلًا لكلِّ القُوى وغيرَ أصلٍ - لم يجعل الزَّوجةَ والدَّعيَّ اللَّذَين لا ولادة بينهما وبين أمِّه وابنه اللَّذَين بينهما وبينه ولادة.
ومعنى الظِّهار: أنْ يقولَ للزَّوجةِ: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي، مأخوذٌ مِن الظَّهر باعتبار اللَّفظ، كالتَّلبيةِ مِن لبَّيكَ، وتعديتُه بـ (من) لتضمُّنه معنى التَّجنُّب، لأنَّ الظِّهار كان في الجاهلية طلاقًا، فكانوا يجتنبون المرأة المظاهَر عنها كما يجتنبون المطلَّقةَ.
ونظيرُه: آلى مِن امرأته، فإنَّه عُدِّي بـ (من) لتضمُّنه معنى التَّباعد، وإلَّا فـ (آلى) بمعنى: حلفَ، فلا يُعدَّى بـ (من).
وذِكْرُ الظَّهر في تشبيههم كنايةٌ عن البطن في التَّحريم، كأنَّهم تحاشوا عن ذكرِه لأنَّه يُقارِب ذِكْرَ الفرج، فكَنوا بالظَّهر عنه لأنَّه محمود البطن
(2)
، أو للتَّغليظ في التَّحريم، فإنَّهم كانوا يحرِّمون إتيان المرأة وظهرُها إلى السَّماء.
والأدعياءُ: جمع دَعِيٍّ، وهو المَدْعُوُّ ولدًا
(3)
، فَعيل بمعنى مَفعول، وحقُّه أنْ يجمع على فَعْلَى كجَرْحَى وقَتْلَى، والجمع على أفعلاء إنَّما يكون للفَعيل بمعنى الفاعل، كتَقِيٍّ وأتقياء، وشَقِيٍّ وأشقياء، فهو شاذّ عن القياس كقُتَلاءَ وأُسَراءَ، ووجهُه التَّشبيهُ اللَّفظيُّ.
{ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ، أو إلى الأخير.
(1)
في (ف): "لأدى".
(2)
"البطن" زيادة من (ي) و (ع).
(3)
في (ك): "وكذا ".
{قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ، أي: لا حقيقةَ له ولا يطابقُ الواقع.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} ما لَهُ حقيقةٌ عينيَّةٌ مطابقةٌ
(1)
له.
{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} : سبيلَ الحقِّ.
وفي فصلِ بعضِ الجملِ الواقعة في هذه الآية ووصلِ بعضِها ما لا يخفى على العالِمِ بعلمِ المعاني المتدرِّب في طريق
(2)
النَّظم.
* * *
{دْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، أي: انسبوهم إليهم، وهو إفراد للمقصود مِن أقوالِه الحقَّة، وقوله:
{هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} تعليلٌ له، والضَّمير لمصدر (ادع).
و {أَقْسَطُ} هو أفعل المستعمل لمطلق الزِّيادة، مِن القِسْطِ بمعنى العَدْلِ، ومعناه: البالغ في الصِّدق.
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ} ؛ أي: إنْ لم تعرفوا آباءهم حتى تنسبوهم إليهم.
{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} : فهم إخوانكم في الدِّين.
{وَمَوَالِيكُمْ} : وأولياؤكم فيه، فقولوا: هذا أخي، و: هذا مولاي.
(1)
في (ف)، و (ك) و (م):"مطابق"، وفي (ف):"غنية " بدل: "عينية".
(2)
في (م): "بطريق".
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} : إثمٌ {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قبلَ النَّهي أو بعدَه على سبيل النِّسيان أو سَبْقِ اللِّسانِ.
{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولكنَّ الجُناحَ فيما تعمَّدْتُموه بعدَ النَّهي.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : يغفر للمخطئ ويعفو عنه، وعن العامد إذا تابَ.
* * *
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} في كلِّ شيءٍ مِن أمور الدِّين والدُّنيا، فإنَّه لا يأمرُهم ولا يرضى منهم إلَّا بما فيه صلاحُهم وفلاحُهم، بخلاف أنفسِهم، فيجب أن يكونَ أحبَّ إليهم من أنفسِهم، وأمرُه أنفذَ عليهم مِن أمرِها، وشفقتُهم عليه أتمَّ وأقدَمَ من شفقتِهم عليها، وحقُّه آثرَ لديهم مِن حقوقِها، وأنْ يبذلُوها دونَه، وأنْ يثَّبعوا
(1)
كلَّ ما دعاهم إليه وصرفَهم عنه.
روي أنَّه عليه السلام أرادَ غزوةَ تبوك، فأمرَ النَّاسَ بالخروج، فقالَ ناسٌ: نستأذِنُ آباءَنا وأمَّهاتِنا، فنزلَتْ
(2)
.
وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (النَّبيُّ أولى بالمؤمنين مِن أنفسِهم وهو أبٌ لهم)
(3)
؛ أي: في الدِّين.
(1)
في (ف): "سبقوا"، وفي (ك):"يسبقوا"، و في (ي) و (ع):"ينبغوا".
(2)
انظر: "تفسير الماوردي"(4/ 373)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 1495)، و"تفسير البيضاوي" (4/ 225). قال ابن العربي: موضوع.
(3)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 335)، ورويت عن أبي بن كعب رضي الله عنه في "تفسير=
وقال مجاهد: كلُّ نبيٍّ فهو أبو أمَّته
(1)
. من حيث إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبديَّة، ولذلك صار المؤمنون إخوة.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} كنايةٌ عق التَّحريم خاصَّة - ولذلك قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: لسنا أمَّهات النِّساء
(2)
- لا عنه وعن استحقاق التَّعظيم، إذ حينئذٍ يَنتظِم النِّساء، ويردُّه الأثرُ المذكور.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} : وذوو
(3)
القَرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التَّوارُثِ، وهو نسخُ ما كان في صدرِ الإسلام مِن التَّوارثِ بالموالاة في الدِّين وبالهجرة.
{فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، أي: في اللَّوح، أو: فيما أوحي إلى النَّبيِّ عليه السلام، وهو في هذه الآية، أو آية المواريث، أو فيما فرضَ الله تعالى.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} بيانٌ لـ (أولي الأرحامِ)، وتخصيصُ المهاجرين بالذِّكْرِ بعدَ التَّعميمِ لدفعِ ما عسى أنْ يسبقَ إلى الوهم من عدمِ تناول الحكم لهم لِمَا فيهم مِن فضيلة الهجرة.
أو صلة لـ (أولي)، أي: وأولو الأرحام لحقِّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحقِّ الولاية في الدِّين، ومن المهاجرين بحقِّ الهجرة.
{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} استثناءٌ مُفرَّغٌ مِن أعمِّ العام من معنى
= عبد الرزاق " (2/ 211)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في "المستدرك (3556).
(1)
رواه الطبري في "تفسيره"(12/ 552)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 2035).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 65 و 67)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 70).
(3)
في (ف) و (م): "وذو".
النَّفع والإحسان. وانتصاب {أَنْ تَفْعَلُوا} على الظَّرف؛ أي: إلَّا وقتَ أنْ تفعلوا، وعدِّي بـ (إلى) لأنَّه في معنى: أنْ تُسْدوا
(1)
.
والمرادُ بفعلِ المعروفِ: التَّوصيةُ، وبالأولياءِ: المؤمنون والمهاجرون؛ لِمَا بينهم مِن الولاية في الدِّين؛ أي: الأقرباءُ بعضُهم أولى ببعضٍ مِن الأجانب في كلِّ نفعٍ مِن ميراثٍ وهديَّةٍ وهبةٍ وصدقةٍ ومعاوَنةٍ وغيرِ ذلك، إلَّا في التوصيَّة
(2)
.
{كَانَ ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ في الآيتَيْن جميعًا {فِي الْكِتَابِ} في اللَّوحِ المحفوظِ، أو في القرآنِ، وقيل: في التَّوراةِ.
{مَسْطُورًا} مثبَتًا، أو مذكورًا.
* * *
{وَإِذْ أَخَذْنَا} مقدَّر بـ (اذكرْ){مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} : عهودَهم بتبليغِ الرِّسالة والدَّعوة إلى الدِّين القيِّم.
{وَمِنْكَ} خصوصًا {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} تخصيصٌ للمشاهير وأصحاب الشَّرائع مِن الأنبياء عليه السلام بالذِّكرِ؛ لبيانِ شرفِهم وفضيلتِهم، ولذلك قدَّمَ محمَّدًا
(3)
عليه السلام على الجميع لكونه أفضلَهم، وإنَّما قدَّم عليه نوحًا في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
(1)
في (ف) و (م): "أن سدوا"، وفي (ك):" أسدوا"، وبالهامش:" الإسداء: الإحسان".
(2)
في (ك): "الوصية".
(3)
في (ف) و (م): "محمد".
إِلَيْكَ} [الشورى: 13] لأنَّ الغرضَ مِن مساقِ الكلام ثمَّةَ بيانُ أصالةِ الدِّين وقِدَمِهِ واستقامَتِهِ، فكأنَّه قالَ: شرعَ لكم الدِّين الأصيل القديم الذي وصَّينا به نوحًا في العهد القديم، والذي أوحينا إليك في العهد الحديث، ووصَّينا به مَن توسَّط بينهما من الأنبياء المشاهير، فهو دينٌ أصيلٌ قديم، اتَّفق عليه وعلى إقامته
(1)
الأنبياءُ كلُّهم ولم يتفرَّقوا فيه.
{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} تكريرٌ للتَّوكيد، وزيادةُ وصفٍ للميثاقِ بالعِظَمِ وفخامةِ الشَّأنِ، ولذلك نكَّره وغلَّظه؛ أي: ميثاقًا موثَّقًا بالأيمان الغِلاظ.
وسمَّاه {مِيثَاقًا} لا عهدًا دلالةً على توثيقه باليمين.
والغِلظُ استعارةٌ مِن وصف الأجرام لتصوير معنى القوَّة والوثاقة في الحسِّ.
* * *
(8) - {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} .
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} تعليلٌ لـ {أَخَذْنَا} ، أي: أخذنا ميثاقَهم ليسألَ اللهُ تعالى يوم القيامة عندَ مواقفِ الأشهادِ المؤمنين الذين صدقوا عهدَهم حينَ أشهدَهم على أنفسِهم عن صِدق عهدهم، أو
(2)
الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عمَّا قالوه لقومِهم، أو تصديقهم إيَّاهم تبكيتًا لهم، أو المصدِّقين لهم عن
(3)
تصديقهم، فإنَّ مصدِّقَ الصَّادق صادقٌ.
(1)
في (ف): "اتفق عليه إقامة".
(2)
في (ف) و (ك): "و".
(3)
تحرفت في (ف) و (ك) و (م) إلى: "عند".
{وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} عطفٌ على {أَخَذْنَا} ؛ لأنَّ المعنى: أكَّدَ على الأنبياء الدَّعوةَ إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعدَّ للكافرين، أو على ما دلَّ عليه لـ {لِيَسْأَلَ}؛ أي: فأثابَ المؤمنين، وأعدَّ للكافرين.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} يعني: الأحزاب، وهم قريشٌ وغطفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ، وكانوا زُهاءَ اثني عَشَرَ ألفًا.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} هي الصَّبا، قال عليه السلام:"نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ"
(1)
.
{وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} هي الملائكةُ، رُوِيَ أنَّه عليه السلام لَمَّا سمع بإقبالهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ، ثمَّ خرج إليهم في ثلاثةِ آلافٍ، فضرب مُعَسكره
(2)
والخندقُ بينَه وبينَ القومِ، ومضى على الفريقَيْن قريبٌ مِن شهرٍ لا حربَ بينَهم إلَّا التَّراميَ بالنَّبْلِ والحجارةِ، حتى بعثَ اللهُ تعالى عليهم صبًا باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ، فأَخصرتهم
(3)
وسفَتِ التُّراب في وجوهِهِم، وأطفأَتْ نيرانَهم، وقلعَتْ خيامَهم، وماجَت الخيلُ بعضُها في بعضٍ، وقُذِفَ في قلوبِهم الرُّعْبُ، وكَبَّرَتِ
(1)
رواه البخاري (1035)، ومسلم (900)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
في (ف) و (ك): "بعسكره".
(3)
أي: أوقعتهم في الخَصَر؛ وهو البرد، في "الصحاح" (مادة: خصر): الخصَر بالتحريك: البرد، وقد خَصِرَ الرجل: إذا آلمه البرد في أطرافه.
الملائكةُ في جوانب العسكرِ، فقال طليحةُ بن خويلد الأسدي: أمَّا محمَّدٌ فقد بدأَكُمْ بالسِّحرِ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فانهزموا مِن غيرِ قتالٍ
(1)
.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} : مِن ضَرْبِ الخندقِ وغيرِه {بَصِيرًا} .
وقرئ بالياء
(2)
، أي: بما يعملُ المشركون واليهودُ مِن التَّحزُّبِ والتَّضام
(3)
.
* * *
{إِذْ جَاءُوكُمْ} بدل مِن {إِذْ جَاءُتْكُمْ} .
{مِنْ فَوْقِكُمْ} : مِن أعلى الوادي مِن قِبَلِ المشرفِ بنو غَطفان.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} ، أي: مِن أسفل
(4)
الوادي مِن قِبلِ المغربِ
(5)
قريشٌ.
لم يقل: ومن تحتكم، مع ما فيه من رعاية المقابلة والاختصار، إظهارًا لِمَا في مقابلِه مِن التَّجوُّز، وإنَّما اختير ذلك لأنَّه أحسنُ لفظًا ومعنًى من: أعلى منكم
(6)
.
{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} : مالَتْ عن مُستوى نظرها حيرةً وشخوصًا.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 526)، و"تفسير الماوردي"(4/ 379).
(2)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 177).
(3)
في (ف): " الخير والتضار"، وفي (م):"من الحرب والتصام"، وفي (ك):"الحربِ والتَّرامي".
(4)
"من أسفل" سقط من (ك).
(5)
في (ك): "الغرب ".
(6)
في (ع): "ومن أعلى منكم "، وسقطت من (ف) و (ك).
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} رُعبًا، فإنَّ الرِّئةَ تنتفخُ عندَ شدَّة الخوف، فتربو ويرتفع القلبُ بارتفاعها.
بلوغُ القلبِ الحنجرة مثل في شدَّة الخفقانِ واضطرابِ القلبِ؛ فإنَّ صاحبَ الخفقانِ الشَّديدِ يتوهَّمُ مِن شدَّةِ انتفاخ الرِّئةِ أنَّ قلبَه بلغَ الحنجرةَ، وهي رأسُ قصبة الرِّئة، وهي مخرج النَّفَسِ.
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} : الظُّنونَ المختلفةَ، والخطابُ
(1)
للمؤمنين، فمنهم الأقوياء الثُّبَّتُ الأقدام، يظنُّون الابتلاءَ مِن الله تعالى وإنجازَ وعدِه بالنَّصر، ومنهم مَن يخافُ الزَّللَ وضعفَ الاحتمال، ومنهم الضِّعافُ
(2)
الذين يشكُّون في أمرِهم ويستأذنون، والمنافقون - على ما حكى الله تعالى عنهم - يظنُّون أنَّ المسلمِينَ يُستأصَلونَ.
* * *
(11) - {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} .
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} : اختُبِروا ليتميَّزَ المخلِصُ مِن المنافقِ والثَّابتُ مِن المتزلزِلِ.
{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} : وأُزْعِجوا أشدَّ إزعاجٍ
(3)
مِن شِدَّة الفَزَعِ، فالزِّلزالُ: الاضطرابُ العظيمُ.
* * *
(1)
في (ك): "الخطاب ".
(2)
في (ف): "الضعفاء".
(3)
في (ف): " إزعاجًا "، وفي (ك):"انزعاج ".
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : ضعفُ اعتقادٍ.
{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} : وعدًا باطلًا، أرادوا به ما وعدَهُ اللهُ تعالى مِن إعلاءِ الدِّين والظَّفَرِ على المشركين.
* * *
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} هم
(1)
أوسُ بنُ قَيْظيٍّ ومَن وافَقَهُ.
{يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} : اسم المدينة، وقيل: اسم أرضٍ وقعَتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها.
{لَا مُقَامَ لَكُمْ} : لا مَوضِعَ قيامٍ لكم هاهنا.
وقرئ بالضَّم
(2)
على أنَّه مكانٌ أو مصدرٌ مِن أقام.
{فَارْجِعُوا} إلى المدينة، وانخَزِلُوا
(3)
عن معسكرِ الرَّسولِ إلى منازلِكم.
وقيل: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} بالمدينةِ أنْ نقيمَ على دينِ محمَّدٍ، {فَارْجِعُوا} كفَّارًا مشركين، وأسلِموا محمَّدًا حتى يمكنكم المقام بها.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ} للرُّجوعِ.
(1)
في (م): "هو".
(2)
أي: بضم الميم، وهي قراءة حفص، وقرأ باقي السبعة بفتحها. انظر:"التيسير"(ص: 178).
(3)
في (ف): "وانخربوا ".
{يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} بسكون الواو وبكسرها
(1)
، فالعَوْرَةُ بالسُّكون: الخللُ، مبالغةً في وصفِها بالعَوَرِ، كأنَّ أنفسَها عورة، وبالكسرِ: ذاتُ العَوَرِ؛ يقال: عَوِرَ المكانُ عَوَرًا: إذا بدا فيه خَللٌ يُخافُ منه العدوُّ والسَّارق، ويجوز أن يكون (عَوْرَة) مخفَّف (عَوِرة).
{وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} بل هي حصينةٌ.
{إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} : وما يريدون بذلك إلا الفِرار مِن القِتالِ.
* * *
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} : دُخِلَتِ المدينةُ أو بيوتُهم.
{مِنْ أَقْطَارِهَا} : من جوانبِها، وحذف الفاعل للإيماءِ بأنَّ دخولَ هؤلاء المتحزِّبين عليهم، ودخولَ غيرهم من العساكر، سيَّانِ في اقتضاء الحكم المترتِّبِ عليه.
{ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} : الرِّدَّةَ ومقاتلةَ المسلمين.
{لَآتَوْهَا} : لأَعْطَوها؛ وقرئ بالقصر
(2)
؛ أي: لجاؤوها وفعلوها.
{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا} ؛ أي: بالفتنة، أو: بإعطائها {إِلَّا يَسِيرًا} ريثما يكون السُّؤال والجواب مِن غير توقُّف.
(1)
بالسكون قراءة الجمهور، ونسبت قراءة الكسر لابن عباس وغيره. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 118).
(2)
وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 178).
أو: بالمدينة؛ أي: ما لبثوا بها بعدَ الارتداد إلَّا زمانًا يسيرًا، أو لبثًا يسيرًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى يهلكُهم ويستأصلُهم.
* * *
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: عاهدوا رسولَ اللهِ عليه السلام ليلةَ العقبةِ أن يمنعوه ممَّا يمنعون منه أنفسهم
(1)
.
وقيل: قوم غابوا عن بدرٍ، فقالوا: لَئِنْ أشهدَنا اللهُ قتالًا لنقاتِلن
(2)
.
وعن محمَّدِ بنِ إسحاقَ هم بنو حارثةَ، عاهدوا يومَ أُحُدٍ رسولَ اللهِ عليه السلام حينَ فَشِلُوا، ثمَّ تابوا أنْ لا يفروُّا
(3)
بعدَ أنْ نزلَ فيهم ما نزلَ.
{وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} عن الوفاءِ به، مجازًى عليه؛ أي: شأنه
(4)
ذلك.
* * *
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} نفعًا تامًّا في دفعِ الأمرَيْن
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 528). وذكره السمعاني في "تفسيره"(4/ 267)، والثعلبي في "تفسيره"(5/ 92)، والبغوي في "تفسيره" (3/ 517) عن مقاتل والكلبي. قال السمعاني والبغوي: وهذ القول ليس بمرضى؛ لأن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة لم يكن فيهم شاك ولا من يقول هذا القول.
(2)
في (م): "لنقابل"، وفي باقي النسخ:"لنقاتل "، والمثبت من "الكشاف"(8/ 528).
(3)
في (ك): "يعيدوا"، وفي (م):"يغزوا"، وفي (ف):"يعدوا".
(4)
في (ف) و (م): "أن شأنه".
المذكورَيْن بالكليَّة؛ إذْ لا بُدَّ لكلِّ شخصٍ مِن حَتْفِ أنفٍ أو قتلٍ في وقتٍ، لا لأنَّه سبق به القضاء لأنَّه تابع للمقضيِّ
(1)
فلا يكون باعثًا له، بل لأنَّه مقتضَى ترتُّب الأسباب والمسبَّبات بحسب العادة على مقتضى الحكمة، فلا دلالة فيه على أنَّ الفِرارَ لا يغني شيئًا حتى يُشْكِلَ هذا بالنَّهي الواقع في الكتاب عن إلقاءِ النَّفسِ بالتَّهلُكة وبالأمرِ الواقِع في السُّنَّةِ بالفرار عن المضارِّ، كيف وقد دلَّ
(2)
قولُه:
{وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} على أنَّ في الفرارِ نفعًا
(3)
في الجملةِ؛ إذِ المعنى: لا تمتَّعون على تقديرِ الفرار إلَّا مَتاعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا
(4)
.
وعن بعض المروانيَّة: أنَّه مرَّ بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية، فقال: ذلك القليلَ نطلب
(5)
.
* * *
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} ؛ أي: ممَّا أرادَ اللهُ إنزالَه بكم {اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ
(1)
في هامش (ف) و (ي): "لأنَّه تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم وهو المقتضى. منه ".
(2)
في (م) زيادة: "في".
(3)
في (ع) و (ي): "نفع"، والمثبت من باقي النسخ.
(4)
انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 164)، و"روح المعاني"(21/ 224). وقد عزاه الآلوسي لبعض الأجلة، وبينما أطال الشهاب في تعقبه، اقتصر الآلوسي على القول:(وفيه ما فيه، فتأمل).
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 529). وسماه ابن عبد ربه في "العقد"(3/ 152): الوليد بن عبد الملك.
سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} العصمةُ: هي المحافظةُ من السُّوء فلا يكون مِن الرَّحمةِ، فاقترانُها بالسُّوء في حكمِ العصمة على طريقة عطف عاملٍ حُذِفَ وبقي معمولُه على عاملٍ آخر يجمعُهما معنًى واحدٌ اختصارًا، أي: أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكم رحمةً.
ويجوز أن تكون الرَّحمةُ قرينةَ السُّوء في العِصمةِ؛ لأنَّها في معنى المنعِ، كما كان الرُّمحُ قرينَ السيَّفِ في قولِه:
متقلِّدًا سيفًا ورمحًا
(1)
في التَّقلُّدِ؛ لأنَّه في معنى الحملِ فلا يحتاجُ إلى تقديرِ: ومعتقِلًا
(2)
.
{وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} ينفعُهم {وَلَا نَصِيرًا} يدفعُ الضَّررَ عنهم.
* * *
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ {قَدْ} هنا للتَّحقيق، وإنْ دخلَ على المضارع.
{الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} : المثبِّطينَ النَّاسَ عن الرِّسول عليه السلام، وهم المنافقون.
{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} مِن ساكني المدينةِ:
{هَلُمَّ إِلَيْنَا} قد سبقَ تفسيرُه في سورة الأنعام.
(1)
عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى، وهو في ديوانه (ص: 32)، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة (2/ 68)، و"الخصائص" لابن جني (2/ 431)، وغيرها، وصدره:
يا ليت زوجك قد غدا
(2)
في (م) و (ك): "ومقتولًا"، وفي هامش (ك):"ومعتقلًا ".
{وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} ؛ أي: إتيانًا قليلًا، أو: زمانًا قليلًا، أو: ناسًا قليلًا" أي: يخرجون معكم يوهمون المؤمنين أنَّهم معهم ولا يقاتلون إلَّا قتالًا قليلًا إذا اضطروا إليه، لقوله:{مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 20]
(1)
.
* * *
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} : بخلاءَ عليكُم
(2)
وقتَ الأمنِ، أو بالمعاونة، أو النَّفقةِ في سبيلِ اللهِ، أو
(3)
الغنيمةِ عندَ الظَّفرِ.
جمعُ شحيحٍ، نصب على الحال مِن فاعل {يَأْتُونَ} ، أو {الْمُعَوِّقِينَ} ، أو {وَالْقَائِلِينَ} ، أو على الذَّمِّ.
{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} ؛ أي: وقت الحرب {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} لواذًا بك {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في موضعِ الحالِ، أي: دائرة أعينهم. والكاف في:
(1)
قوله: "أو ناسا قليلا أي يخرجون معكم يوهمون المؤمنين أنهم معهم ولا يقاتلون إلا قتالا قليلا" سقط من (ي)، وقوله:"أو ناسا قليلا" سقط من (ع)، والعبارة كلها سقطت من (ف) و (ك)، والمثبت من (م).
وفي (ي): "أو زمانًا قليلا إذا اضطروا إليه لقوله وما قاتلوا إلا قليلا".
وفي (ع): "أو زمانًا قليلا أي يخرجون معكم يوهنون المؤمنون أنهم معهم ولا يقاتلون إلا قتا لا قليلا إذا اضطروا إليه لقوله وما قاتلوا إلا قليلا".
(2)
"عليكم "ليست في (ف) و (ك).
(3)
في (ف): "و".
{كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ} في موضع النَّصب على المصدر: إما مِن {يَنْظُرُونَ} ؛ أي: نظرًا مثلَ نظر الذي يُغشَى عليه، أو مِن {تَدُورُ}؛ أي: دورانًا مثلَ دوران عَيْنِ الذي يُغشَى عليه.
{مِنَ الْمَوْتِ} : مِن شِدَّةِ سكراتِ الموتِ خوفًا أو جُبْنًا
(1)
.
{فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} وحيزت الغنائم {سَلَقُوكُمْ} : ضربوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} : ذَربةٍ يطلبون الغنيمة، بعدَ أنْ كانَتْ حصرةً بالخوف.
قال قُطْرُب: سلقْتُ المرءَ وصلقْتُ؛ أي: صحْتُ به، وأصلُه: رفعُ الصَّوتِ.
قال عليه السلام: "ليس منَّا مَنْ حَلَقَ أو سَلَقَ"
(2)
؛ أي: حلَقَ شعرَه عند المصيبة، أو رفع صوته بالنِّياحة.
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} حالٌ من ضمير {سَلَقُوكُمْ} ، أو نصب على الذَّمِّ، ويؤيِّده مَن قرأه بالرَّفع
(3)
، وليس بتكريرٍ؛ لأنَّ كلًّا منهما يفيد فائدةً أخرى.
{أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} إخلاصًا والفاء في: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} للسَّببيَّة؛ أي: أبطلَ اللهُ تعالى ما عملوه مِن أعمالِ البِرِّ بسبب نفاقِهم وعدم إيمانهم حقيقة، فإنَّه شرطُ صحَّة العبادة وقَبولها.
{وَكَانَ ذَلِكَ} الإحباط {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} : هيِّنًا؛ لتعلُّق إرادته مِن غيرِ مانعٍ يمنعُه.
* * *
(1)
في (ف): "خوفًا وحسًّا"، وفي (م):"خوفًا وجئنا".
(2)
روى نحوه البخاري (1296)، ومسلم (104) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 376)، و"البحر المحيط"(17/ 299).
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} مِن شدَّة الجبنِ والخوفِ، ففرُّوا إلى المدينة وقد انهزمَ الأحزابُ، وهم مِن استيلاءِ الفَزَعِ عليهم لا يصدِّقونَ بذلك.
{وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} كرَّةً أخرى {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ بينَ
(1)
الأعرابِ {يَسْأَلُونَ} كلَّ قادمٍ مِن جانبِ المدينةِ {عَنْ أَنْبَائِكُمْ} وما جرى عليكم.
{وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ} هذه الكرَّة، ولم يفرُّوا إلى المدينةِ، ووقع قتالٌ {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}: إلَّا قتالًا قليلًا؛ رياءً وخوفًا مِن التعيير.
* * *
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} : خصلةٌ {حَسَنَةٌ} يجبُ أنْ يُؤتَسى به، وهي المصابرة على الجهاد، والثَّبات في المحاربة، ومقاساة الشَّدائدِ.
والأولى بفصاحة القرآن أن تكون {فِي} [في]
(2)
قوله: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} للتَّجريد؛ أي: لقد كان لكم رسولُ الله بنفسِه أُسوةٌ حسنةٌ؛ أي: هو قدوةٌ يجبُ أنْ يُقتدَى به، كما تقولُ: لي من فلان صديقٌ صادق، ومعناه: المبالغةُ في الصَّداقة؛ كأنَّ فيه مِن كمال صداقتِه صديقٌ آخرُ.
(1)
في (ف) و (م): "إلى البدوين"، وفي (ي):"إلى المدينة".
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} يرجو ثوابَ اللهِ، أو لقاءَه والعاقبةَ المحمودةَ، وهي نعيمُ الآخرة، أو أكَد أم اللهِ واليومَ الآخر خصوصًا.
ويجوزُ أن يكون {يَرْجُو اللَّهَ} مِن باب التَّوطئةِ، كما تقولُ: رجوْتُ زيدًا وفضلَه
(1)
؛ أي: فضلَ زيدٍ.
والرَّجاءُ هاهنا يجوز أن يكون بمعنى الأمل، وبمعنى الخوف.
و {لِمَنْ كَانَ} صفةٌ لـ {حَسَنَةٌ} ، أو صفةٌ لـ {أُسْوَةٌ} ، وقيل: بدلٌ من {لَكُمْ} ، كقوله:{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]، والأكثر على
(2)
أنَّ ضميرَ المخاطَب لا يُبدَلُ منه.
{وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} قرَنَ الرَّجاءَ بالذِّكرِ الكثيرِ المؤدِّي إلى ملازمةِ الطَّاعةِ؛ لئلَّا يكون رجاؤه طَمعًا فارغًا؛ فإنَّ المقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كانَ كذلك.
* * *
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} لأنَّهم وُعِدوا أنْ يُزَلْزَلوا
(3)
حتى يستغيثوا ويستنصِروه في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} الآية [البقرة: 214]، وفي قوله عليه السلام: "سيشتدُّ
(4)
الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم، والعاقبةُ لكُم
(1)
في (ف): "فضله"، والمثبت من باقي النسخ و"الكشاف"(3/ 529).
(2)
"على" سقط من (م).
(3)
في (ك) و (م): "ينزلوا"، وفي (ف):"يتنزَّلوا".
(4)
في (ك) و (م): "سيشتد"، وفي (ف):"يستشهد".
عليهم"
(1)
، وقوله عليه السلام:"إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع أو عشر" - أي: في آخرِ تسعِ ليالٍ أو عشرٍ - فلمَّا رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك
(2)
.
و {هَذَا} إشارة إلى الخَطْبِ أو البلاءِ، إيمانًا بالله وبوعدِه، وتسليمًا لقضائِه وقدرِه.
وإظهارُ الاسمَيْن في قولِه: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} للتَّعظيمِ؛ أي: ظهرَ صِدْق خبرهما، أو صَدَقا في النَّصر والثَّواب كما صَدَقا في البلاء.
{وَمَا زَادَهُمْ} ضمير الفاعل فيه لِمَا رأوا، أو لِلمُشَارِ إليه بـ {هَذَا} مِنَ الخَطْبِ أو البلاء.
{إِلَّا إِيمَانًا} باللهِ ومواعيدِه {وَتَسْلِيمًا} لأوامرِه وتقاديرِه.
* * *
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} التَّنكير للتَّفخيم.
{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ؛ أي: صَدَقوا فيما عاهدوا عليه من الثَّبات مع الرَّسول، والمصابرة على قِتالِ أعداءِ الدِّين، فحذف الجارّ كما في المثل: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ
(3)
؛ أي: صَدَقَني في سِنِّ بَكرِهِ.
(1)
ذكره البيضاوي في "تفسيره"(4/ 229)، ولم يتكلم عليه المناوي في "الفتح السماوي "(3/ 928).
(2)
قال ابن حجر: لم أجده. انظر: "الكاف الشاف"(ص: 133).
(3)
انظر: "الأمثال" لأبي عبيد (ص: 49)، و"جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 575)، و"فصل=
نذرَ رجالٌ مِن الصَّحابة رضي الله عنهم أنَّهم إذا لَقُوا حربًا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثَبتوا وقاتلوا حتى يُستَشهَدوا، وهم عثمانُ بنُ عفَّانَ، وطلحة، وسعدُ بنُ زيدٍ، وحمزةُ، ومصعبٌ، وغيرُهم رضي الله عنهم
(1)
.
ويجوز أنْ يُجعَلَ المعاهَدَ عليه مَصدوقًا على المجازِ، كأنَّهم قالوا له: سنفي بك، فإذا وفَوا به فقد صَدَقوه، مِن قولِكَ: صَدَقني أخوك: إذا قالَ لكَ الصِّدقَ.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} : نَذْرَهُ
(2)
بأنْ قاتلَ حتَّى استُشْهِد كحمزةَ ومصعبٍ وأنسٍ رضي الله عنهم.
قيل: والنَّحْبُ استعارةٌ للموتِ؛ فإنَّ الموتَ لازمٌ لكلِّ حيوان، فكأنَّه نَذْرٌ لازمٌ في رقبتِهِ، فإذا ماتَ قضى نحبَه.
كأنَّ هذا القائلَ غافلٌ عن النَّذرِ المذكور في سببِ النُّزولِ؛ لأنَّ مُوجَبه أنْ يكونَ النَّحْبُ على حقيقتِه، وقضاء نذرِهم
(3)
يجوز أنْ يكونَ كنايةً عن شهادتِهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} كعثمانَ وطلحةَ رضي الله عنهما.
{وَمَا بَدَّلُوا} العهدَ، ولا غَيَّروه، لا المستشهَدُ ولا مَنِ انتظرَ الشَّهادة.
= المقال" للبكري (ص: 41). وقوله: (سنّ) يجوز فيه الرفع والنصب، فالنصب على المعنى الذي ذكره المصنف، والرفع بجعل الصدق للسنِّ توسعًا. وأصل المثل يدلُّ عليه. انظر: "القاموس" (مادة: بكر).
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 532). وقد ثبت في السنة أنها نزلت في أنس بن النضر، وقد نذر كما نذر الصحابة المذكورون، رواه البخاري (2805)، ومسلم (1903)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
"نذره" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
(3)
في (ف): "وقضائه".
ولقدْ ثبَتَ طلحةُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ أُحِدٍ حتَى أصيبَتْ يدُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوجَبَ طلحةُ"
(1)
؛ أي: الجنَّة.
{تَبْدِيلًا} : شيئًا مِن التَّبديل، تعريضًا لِمَن بَدَّلَ مِن أهلِ النِّفاقِ وتبديلِهم، ولذلك قال:
* * *
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} تعليلًا للمَنطوقِ، والمعرَّضُ به جَعْلُ المنافقين كأنهم قَصدوا بالتَّبديل عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ الصَّادقون بوفائِهم عاقبةَ الصِّدقِ، فاللَّامُ مجازٌ للعاقبةِ، فإنَّها وإنْ أمكنَ حملُها على الحقيقة بالنِّسبة إلى الصَّادقين، لكنْ لا يمكِنُ حملُها عليها بالنِّسبة إلى المنافقين؛ لأنَّ التَّعذيب لم يكن غرضًا لهم، ولا يُستعمل اللَّفظُ الواحدُ حقيقةً ومجازًا في استعمالٍ واحدٍ، فيجبُ حملُها على المجازِ؛ لأنَّ كِلَا الفريقَيْنِ مَسوقٌ إلى عاقبتِه
(2)
مِن الثَّواب والعقاب.
{إِنْ شَاءَ} إذا لم يتوبوا {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إذا تابوا، ويجوزُ أنْ يُرادَ: يعذِّبُهم إنْ شاءَ أو يوفِّقُهم للتَّوبةِ.
(1)
رواه الترمذي (3738) من حديث الزبير رضي الله عنه فال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى صخرة، فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أوجب طلحة". قال: حسن صحيح غريب.
(2)
في (ك): "عاقبة".
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} بقَبولِ التَّوبةِ {رَحِيمًا} يغفرُ الحَوْبَةَ
(1)
.
* * *
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: الأحزاب.
{بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} حالان متداخلان أو متعاقبان
(2)
؛ أي: متغيِّظينَ
(3)
غيرَ ظافرين، ويجوز أنْ تكونَ الثَّانيةُ بيانًا للأولى، واستئنافًا
(4)
.
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالرِّيحِ والملائكةِ، و {وَكَفَى} هنا بمعنى: وقى، يتعدَّى لاثنين، وإذا كانَتْ بمعنى (حسب) فالأكثر في لسان العرب أن يكون الفاعلُ مصحوبًا بالباء نحو: كفى بالله.
{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} على إحداثِ ما يريدُه {عَزِيزًا} : غالبًا على كلِّ شيءٍ.
* * *
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} : ظاهَروا الأحزاب
(5)
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: قريظة.
(1)
في (م): "يعفو الحوبة"، وفي (ي):"بعفو الحوبة"، وفي (ع):"يعف الحوبة".
(2)
في (ع): "متداخلتان أو متعاقبتان"، وفي (ت) و (ي):"متداخلتان أو متعاقبان".
(3)
في (ف) و (م) و (ع): "مغيظين"، وفي (ي):"يغظين".
(4)
في (ف) و (ك): "أو استئنافا".
(5)
في (ف): "هم الأحزاب".
{مِنْ صَيَاصِيهِمْ} ، أي: مِن حصونِهم، جمع صِيصِيَة، وهي ما يُتحصَّنُ به مِن حصنٍ وغيره.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} : الفزعَ والخوفَ.
{فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} إنَّما أخَّره عن قوله: {وَتَأْسِرُونَ} وغيَّر النَّظمَ للدِّلالة على أنَّ الكلَّ منحصِرٌ في الفريقَيْن.
قيل: كان بنو قريظة ذمَّة
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهدَ باستدعاءِ أبي سفيانَ، وجاؤوا لمحاربة المسلمين، فلمَّا فرغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قريشٍ، ودخل الحُجْرةَ، ووضع
(2)
السِّلاح، سمعَ وجبة على باب الحجرة، فنظرَ فإذا هي جبريلُ عليه السلام على فرسٍ أبلقَ وعلى ثيابه
(3)
النَّقع، فقال: يا رسول الله، وضعت السِّلاح ونحنُ ما وضعنا أسلحتنا بعدُ! إنَّ الله تعالى يأمرُكَ أنْ لا تصلِّيَ العصر إلَّا ببني قريظة، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
(4)
في المسلمين، فخرجوا إليه، ولحقَ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرَهم أحدًا وعشرين يومًا، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم بأنْ يُقتَلَ مقاتليهم ويُسبَى ذراريهم ونساؤهم، وتُغنم أموالُهم، فقال عليه السلام:"لقد حكمْتَ بحكمِ اللهِ تعالى فيهم "، ففعل ذلك، ومَنَّ اللهُ تعالى على المسلمين بذلك
(5)
.
(1)
في (ك): "في ذمة".
(2)
في (ي): "فوضع ".
(3)
في (ك): "ثناياه ".
(4)
في (ك) و (م): "لذلك".
(5)
انظر القصة بتمامها في "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 233)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (4/ 5)، و"تفسير الطبري"(19/ 72).
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} : مزارعَهم {وَدِيَارَهُمْ} : حصونَهم {وَأَمْوَالَهُمْ} : نقودَهم ومواشيهم وأثاثهم؛ أي: جعلَها لكم بعدَهم.
{وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} ؛ أي: لم تصيروا إليها بعدُ قاصدين قتالَ أهلِها، وهذا وعدٌ لهم بإحراز أرضٍ أخرى، قيل: هي أرض فارس والرُّوم، وقيل: هي مكَّة، وقيل: هي خيبر وفَدَك.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} فيقدِرُ على ذلك.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ذِكْرُ {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} توطئةٌ وتمهيدٌ
(1)
للاختصاص؛ أي: إنْ كُنتُنَّ تردْنَ زينةَ الحياةِ الدُّنيا، وكذا ذِكْرُ {اللَّهَ} في {تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإنَّه لاختصاص الرَّسولِ به.
= وروى الإمام أحمد في "مسنده"(24992): عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب، دخل المغتسل ليغتسل، فجاء جبريل عليه السلام، فقال: أوقد وضعتم السلاح، ما وضعنا أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" رواه البخاري (4119)، ومسلم (1770)، عن ابن عمر رضي الله عنهما. ونزول قريظة على حكم سعد رضي الله عنه وما جاء بعده رواه البخاري (4121)، ومسلم (1768)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1)
في (ف) و (ي) و (ع): "وتمهيدًا".
{فَتَعَالَيْنَ} أصل تعالَ: أنْ يقولَه مَن في المكان المرتفع العالي لمن في المكان المستوطي، ثمَّ كثرَ حتى استوَتْ في استعماله الأمكنة.
ومعنى (تعالَيْنَ) هنا: أقبلْنَ بإرادتِكُنَّ واختيارِكُنَّ لأحَدِ أمرَيْنِ، ولم يُرِدْ نهوضهُنَّ إليه بأنفسهِنَّ، كقولِكَ: قامَ يهدِّدني.
{أُمَتِّعْكُنَّ} : أُعْطِكُنَّ
(1)
متعةَ الطِّلاقَ.
{وَأُسَرِّحْكُنَّ} التَّسريحُ كنايةٌ عن رفعِ النكّاحِ، وذلك بوقوعِ البينونةِ.
{سَرَاحًا جَمِيلًا} : لا ضرارَ فيه، أردْنَ شيئًا مِن الدُّنيا مِن ثيابٍ وزيادةِ نفقةٍ، وتغايرْنَ، فغمَّ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فنزلَتْ، فبدأ بعائشةَ رضي الله عنها، وكانت أحبَّهُنَّ إليه فخيَّرها، وقرأ عليها القرآنَ، فاختارَتِ اللهَ ورسولَه والدَّار الآخرة، فرُئِيَ الفرحُ في وجهِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ اختارَتْ جميعُهنَّ اختيارَها
(2)
، فشكرَ لهنَّ اللهُ فأنزلَ:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} الآية [الأحزاب: 52]
(3)
.
وتعليقُ التَّسريحِ بإرادتهنَّ زينةَ الدُّنيا وجعلُها قسيمةَ إرادتهنَّ
(4)
الرَّسولَ دليل على أنَّها إذا اختارَتْ زوجَها لا تقعُ البينونة، وأمَّا أنَّه لا يقع الطَّلاق أصلًا فلا دلالة فيما ذُكِرَ عليه؛ لِمَا نبَّهْتُ عليه آنفًا أنَّ التَّسريحَ ينبئ عن البينونةِ.
(1)
في (ف) و (م): "أعطيكن ".
(2)
رواه بنحوه رواه البخاري (4785) ومعلقا بصيغة الجزم (4786)، ومسلم (1475)، والترمذي (3204)، عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(19/ 86 - 87) عن قتادة والحسن. ورواه بنحوه دون عبارة: " فشكر
…
" البخاري (4785) - ومعلقًا بصيغة الجزم (4786) -، ومسلم (1475)، والترمذي (3204)، عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
في (م): "لإرادتهن".
وتقديمُ التَّمتيع على التَّسريح المسبَّبِ عنه مِن الكرمِ وحُسْنِ الخلقِ.
وقرئ: (أمتعُكُنَّ وأسرحكُنَّ) بالرَّفعِ على الاستئنافِ
(1)
.
* * *
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} تنكيرُ {أَجْرًا} للتَّعظيم، أي: أجرًا عظيمًا يُسْتَحقَرُ دونَه الدُّنيا وزينتُها، و (من) للتَّبيينِ لأنَّهنَّ كلَّهنَّ محصنات، وإنَّما عدل فيه عن مقتضى الظَّاهر للدِّلالة على سببِ استحقاقِهنَّ لأصلِ الأجرِ، وللمزيَّةِ فيه على سائرِ المحصناتِ.
* * *
{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : سيئةٍ بليغةٍ في القُبْحِ.
{مُبَيِّنَةٍ} : ظاهرٍ
(2)
فُحشُها، مِن بيَّن بمعنى: تبيَّن.
{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ضِعْفَي عذابِ غيرهنَّ مِن النِّساء، أي: مثلَيْه؛ لأنَّ ما قَبُحَ مِن سائرِ النِّساء كانَ أقبحَ منهنَّ، فزيادةُ قبحِ المعصية يتبعُ زيادةَ فضلِ
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 119).
(2)
في (ك) و (ي) و (ع) و (م): "ظاهرة".
العاصي، وزيادةُ العقابِ تتبعُ زيادةَ قبحِ المعصية، ولذا فضل
(1)
حدُّ الأحرارِ على العبيدِ، ولا يرجم
(2)
الكافرُ، وعُوتِبَ الأنبياءُ عليهم السلام بما
(3)
لا يُعاتَبُ به غيرُهم مِن الصَّغائرِ.
{وَكَانَ ذَلِكَ} ، أي: التضعيف {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يمنعُه عنه كونهنَّ نساءَ النَّبيِّ عليه السلام، بل هو السَّببُ له، فكيفَ يصيرُ صارفًا عنه.
* * *
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} تدم
(4)
على الطَّاعةِ {لِلَّهِ} تعالى {وَرَسُولِهِ} عليه السلام، وذكر (الله) هنا كَذِكْرِه في قوله:{تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ لأنَّ طاعتَه طاعةُ اللهِ، كما قال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
{وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} : مرَّةً على الطَّاعةِ، ومرَّةً على طلبهنَّ رضاءَ النَّبيِّ عليه السلام بالقَناعةِ وحُسْنِ المعاشرة.
وقرئ: {ويعمَلْ}
(5)
أيضًا بالياء حملًا على لفظ (من)، و {يُؤْتِهَا} على أن فيه ضميرَ اسم الله
(6)
.
(1)
في (ف): "وكذا فصل ".
(2)
في (ف) و (ك) و (م): "فلا يرجم ".
(3)
في (ف): "مما".
(4)
في النسخ عدا (ك): "تديم "، والمثبت من (ك).
(5)
في (ك): "يعمل ".
(6)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 179).
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها.
* * *
{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} في الفضلِ.
و (أحد) في الأصل: وَحَدٌ بمعنَى واحدٍ، واستُعمل في النَّفي العام مستويًا فيه المذكَّر والمؤنَّث والواحد وما فوقه، ولذلك جاء هاهنا بمعنى جماعة واحدة مِن جماعات النِّساء.
{إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الظَّاهر أنَّه بمعنى: استقبلتُنَّ
(1)
أحدًا.
{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} : فلا تقلْنَ قولًا خاضعًا ليِّنًا حسنًا، كقول المُرِيْبات
(2)
.
واتَّقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللُّغة؛ قال النَّابغةُ:
سقطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ
…
فَتَناوَلَتْهُ واتِّقَتْنا باليَدِ
(3)
أي: استقبلَتْنا باليد، وهذا المعنى أبلغُ في مدحهِنَّ؛ إذْ لم يُعَلِّقْ فضيلتَهُنَّ على التَّقوى، ولا عَلَّقَ نهيَهُنَّ عن الخضوع بها؛ إذ هُنَّ مُتَّقياتٌ في أنفسهنَّ، والتعليقُ ظاهرُه يقتضي أنهنَّ لسْنَ مُتحلِّيات بالتَّقوى
(4)
.
(1)
في (ك): "استقبلن ".
(2)
في (م): "كقولة المريبات"، وفي (ف):"كقول المرتبات"، وفي (ك):"كقول المربيات".
(3)
انظر: "ديوان النابغة - بشرح ابن السكيت"(ص: 34). والنصيف: الخمار.
(4)
هذا الوجه في تفسير الآية ذكره أبو حيان في "البحر"(17/ 318) واختاره، لكن تعقبه الآلوسي في "روح المعاني" (21/ 280) بقوله: (وفيه: أن اتَّقَى بمعنى: استقبل، وإن كان صحيحًا لغةً، وقد ورد=
{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} : ريبةٌ وفجورٌ. وقرئ بالجزم
(1)
عطفًا على محلِّ النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريض
(2)
القلب عن الطَّمع عقيب نهيهنَّ عن الخضوع بالقولِ، أي: لا يخضعْنَ فلا يطمعِ الفاجرُ.
{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : حسنًا مع كونه خَشنًا بعيدًا عن الرِّيبةِ.
* * *
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} مِن وَقَرَ يَقِرُ وقارًا، أو مِن قَرَّ يَقِرُّ قَرارًا بحذف الأوَّل من راءَي اِقْرِرْنَ ونقلِ كسرتها إلى القاف، والاستغناءِ بها عن همزة الوصل، كقولك: ظِلْنَ، بكسر الظَّاء.
وقرئ: {وَقَرْنَ} بفتح القاف
(3)
، وأصلُه اِقرَرْنَ، فحُذِفَتِ الرَّاءُ، ونُقِلَتْ فتحتُها إلى القافِ، كقولكَ: ظَلْنَ
(4)
بالفتح.
= في القرآن كثيرًا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر: 24]، إلا أنه لا يتأتى هاهنا؛ لأنَّه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية، كقوله سبحانه:{بِوَجْهِهِ} وقول النابغة: باليد، وما استَدَل به أمره سهل).
(1)
نسبت لأبي السمال وأبان بن عثمان وابن هرمز. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 119)، و""(2/ 181)، و"البحر"(17/ 319).
(2)
في (ك): "لمريضي".
(3)
قراءة نافع وعاصم، وباقي السبعة بكسرها. انظر:"التيسير"(ص: 179).
(4)
في (ك) و (م): "طلن".
وقيل: مِنْ قارَ يقارُ: إذا اجتمعَ، ومنه: القارَةُ للخيل لاجتماعِه.
{وَلَا تَبَرَّجْنَ} التَّبرُّجُ: الخروج بالزِّينة.
{تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} : تبرُّجًا مثل تبرُّجِ النِّساءِ في أيَّامِ الجاهليَّة القديمة
(1)
، التي يُقالُ لها: الجاهلية الجهلاء، وهي الزَّمنُ الذي وُلدَ فيه إبراهيم عليه السلام، كانَتِ المرأةُ تلبسُ الدِّرعَ من اللُّؤلؤِ، فتمشي وسط الطَّريق تعرضُ نفسَها على الرِّجال.
وقيل: ما بين آدم ونوحٍ عليهما السلام.
وقيل: بين إدريس ونوحٍ عليهما السلام.
وقيل: زمن
(2)
داود وسليمان.
والجاهليَّةُ الأخرى: ما بينَ عيسى ومحمَّدٍ عليهما السلام.
ويجوز أن تكون الجاهليَّة الأولى: جاهليَّةُ الكُفْرِ قبلَ الإسلام، والجاهليَّة الأخرى: الفسوق في الإسلام؛ أي: لا تُحدِثْنَ بالتَّبرُّج جاهليَّة
(3)
في الإسلام تتشبَّهْنَ بها بأهل جاهليَّة الكفر.
ويعضده ما رُوِيَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدَّرداء رضي الله عنه: "إنَّ فيك جاهليَّة"، قالَ: جاهليَّةُ كفرٍ أم إسلامٍ؟ قال: "بل جاهليَّةُ كفرٍ"
(4)
.
(1)
في (ف) و (ك): "ولا تبرجن التبرج مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية الأولى القديمة".
(2)
"زمن "من (ي) و (ع).
(3)
في (ك): "الجاهلية".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 537) عن ابن زيد مرسلًا. رواه الطبري في "تفسيره"(19/ 99). وهو في الصحيحين عن أبى ذر. ولم يقل: جاهلية كفر
…
إلى آخره. رواه البخاري (30)، ومسلم (1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
{وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائرِ ما أمرَ به ونهى عنه، أمرَهُنَّ بالصَّلاة والزَّكاة على الخصوصِ، ثمَّ بالطَّاعةِ على العموم، اعتناءً بشأنِهما، وإيماءً إلى ألَهما أصلُ جميعِ الطَّاعات البدنيَّة والماليَّة، مَن اعتنى بهما حقَّ الاعتناءِ جرَّتاه إلى جميعها.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} استئنافٌ لتعليلِ أمرهِنَّ ونهيهِنَّ بما أمرهنَّ به ونهاهنَّ عنه.
{لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} : الذَّنب المدنِّس لعرضكم.
{أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على النِّداء أو على المدح.
{وَيُطَهِّرَكُمْ} عن المعاصي {تَطْهِيرًا} استعار الرِّجسَ للمأثم، والطُّهرَ للتَّقوى؛ للتَّنفيرِ عن القبائحِ، والتَّرغيبِ في المحاسنِ.
وفي
(1)
التَّصريح والتَّخصيص بأهل البيت تعظيمٌ للنَّبي عليه السلام وبيانٌ لشرفِ أهلِ بيتِه.
* * *
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} لَمَّا وعظهُنَّ بما يزكِّي نفوسهُنَّ جمعَ إلى أعمال التَّزكية ما يحلِّي قلوبهنَّ مِن العلم والحكمة، فذكَّرهنَّ ما يُتلَى في بيوتهنَّ مِن الكتاب الجامع بينَ الآيات الدَّالة على التَّوحيد والنُّبوَّة، وبينَ الحِكَم والشَّرائع المقنَّنة
(2)
..........................................................
(1)
في (ف): "ومن".
(2)
في (ف): "المتقنة".
بقوانين العدالة في مهابط الوحي ومنازل العلم والهداية، فيجب عليهنَّ أن يحفظْنَه ولا يغفلْنَ عنه.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} حيثُ حثَّ على
(1)
ما يصلحُكم وينفعُكم، فأنزلَ عليكم وأخبركم به، وفيه تحريضٌ على الائتمار والانتهاء.
* * *
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} : الداخلين في السِّلم
(2)
، المنقادين لحكم الله.
{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : المصدِّقين بما يجبُ أنْ يصدَّقَ به.
{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} المداوِمين على الطَّاعة.
{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} في نيَّاتهم وأحوالِهم وأعمالِهم.
{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} على الطَّاعات وعن المعاصي.
{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} المتواضعين لله، المخبِتين إليه بقلوبهم وجوارحهم.
{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} بما وجبَ في مالهم.
{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} الصَّومَ المفروض.
(1)
في (ي) و (ع): "حيث على"، وفي (ف) و (م):"حيث علم ".
(2)
في (م): "الداخلين في السلام "، وفي (ي):"الداخلين في المسلم "، وسقطت من (ف) و (ك).
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} عن الحرام.
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} بقلوبهم وألسنتهم.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً} لِمَا اقترفوا مِن الصَّغائرِ التي لا يخلو الإنسان منها بحكم البشريَّة، لأَنَّها مكفِّراتٌ {وَأَجْرًا عَظِيمًا} على الطَّاعات.
رُويَ أنَّ أزواجَ النَّبيِّ عليه السلام قلْنَ: يا رسولَ اللهِ، ذَكَرَ اللهُ الرِّجال في القرآن بخيرٍ، فما فينا خيرٌ نُذْكَرُ به؟ إنَّا نخافُ أنْ لا يُقبَلَ منَا طاعةٌ، فنزلَتْ
(1)
.
وقيل: لَمَّا نزلَ فيهنَّ قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ فنزلَتْ
(2)
.
وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ ضروريٌّ؛ لكونهما صنفَيْن مختلفَيْن تحتَ جنسٍ واحدٍ، فلا بُدَّ مِن توسيط
(3)
العاطف، وأمَّا عطف الزَّوجَيْنِ على الزَّوجَيْنِ لتغايُرِ الوصْفَيْنِ فليس بضروريٍّ، وإلَّا لَمَا تُرِكَ في قوله:{مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]، وفائدتُه الدِّلالة على أنَّ إعداد
(4)
المُعَدِّ لهم للجمع بينَ هذه الصِّفات
(5)
.
(1)
روى الإمام أحمد في "مسنده"(26603) عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه يومئذ إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسرح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر:" يا أيها الناس، إن الله يقول في كتابه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، إلى آخر الآية، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. ورواه بنحوه النَّسَائِيّ في "الكبرى" (11340) و (11341).
(2)
روى نحوه عبد الرزاق في "تفسيره"(3/ 116)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 200) عن قتادة.
(3)
في (ف): "توسط ".
(4)
في (م): "ما أعد لهم المعد لهم".
(5)
في هامش (ع) و (ف) و (م) و (ي): "فهو من باب {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، لا من باب: {فَأَنَّ=
{وَمَا كَانَ} : وما صَحَّ {لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أتى بأداة الجمعِ دونَ التَّفريقِ للدِّلالة على أنَّ أحدَ القضاءَينِ لا ينفكُّ عن الآخرِ، فإنَّ قضاءَ اللهِ لا يظهَرُ إلَّا مِن جهةِ الرَّسولِ، وقضاؤُه لا يكون إلَّا بأمرِ اللهِ.
{أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وهيَ
(1)
ما يُتخيَّر، وجمعُ الضَّميرِ على المعنى، فإنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفيِ تفيدُ العمومَ.
{مِنْ أَمْرِهِمْ} وهذا الجمعُ للتَّعظيمِ؛ أي: لا يجوزُ لهم أن يختاروا مِن أمرِهم شيئًا، بل يجبُ عليهم أنْ يجعلوا اختيارَهم تبعًا لاختيارِ اللهِ ورسولِه.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} : بيِّنَ الانحرافِ عن الصَّواب.
وسببُ نزوله: أنَّه خطبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحشٍ بنتَ عمَّتِه على مو لاه زيدِ بنِ حارثة، فاسبتْ وأبى أخوها عبدُ اللهِ، فنزلَتْ، فقا لا: رضينا يا رسولَ اللهِ، فأنكحَها إيَّاه
(2)
.
* * *
= لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. منه". وفيها عدا (م): "ترضوه".
(1)
في (ف) و (ك): "هي".
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 539). وروى نحوه الطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 39)، والدارقطني في "سننه" (3/ 301). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 247): رواه الطبراني وفيه حفص بن سليمان وهو متروك وفيه توثيق لين. ووقع في النسخ: "فنحكها"، والمثبت من "الكشاف".
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بتوفيقِه للإسلامِ، وتوفيقِكَ لعِتقِه
(1)
واختصاصِهِ.
{وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بعِتقِه وتربيتِه، وما وفَّقكَ اللهُ في حقِّه؛ يعني: زيدًا.
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يعني: زينب، وذلكَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبصرَها بعد ما أنكحها إيَّاه، فوقعت في نفسه، فقال: سبحانَ اللهِ مقلِّبِ القلوبِ، وسمعَتْ زينبُ التَّسبيحةَ فذكرَتْها لزيدٍ، ففطِنَ لذلك، وألقى اللهُ في نفسِه كراهةَ صحبتِها، فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتي، فقال:"ما لَكَ؟ أرابَكَ منها شيء؟ "، فقال: لا واللهِ ما رأيْتُ منها إلَّا خيرًا، ولكن لشرفِها تتعظَّم
(2)
عليَّ، فقال له:"أمسِكْ عليكَ زوجَك"
(3)
، أمرَهُ بإمساكِها.
(1)
في (م): "بعتقه ".
(2)
في (ف): "تتعاظم ".
(3)
قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"(3/ 111): غريب بهذا اللفظ. وقال ابن حجر في "الكاف الشاف"(ص: 134): ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرج الطبري [في "تفسيره" (19/ 116)] معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله.
وانظر كلام القاضي عياض في الرد على أمثال هذه الأخبار في كتابه "الشفا"، وقد نقل عن القشيري قوله: وكيف يقال: رآها فأعجبَتْه، وهي بنتُ عمَّتِه، ولم يزَلْ يرَاها منذُ وُلدَت، ولا كان النساءُ يحتجِبْنَ منه عليه السلام؟ وهو زوَّجَها لزيدٍ، وإنَّما جعلَ اللهُ تعالى طلاقَ زيدٍ لها، وتزويجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياها، لإزالةِ حرمةِ التبنِّي وإبطالِ سنَّتِه؛ كما قال الله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [الأحزاب: 40]، وقال تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الآية [الأحزاب: 37].
وزيادة {عَلَيْكَ} لتضمين
(1)
معنى الحبس؛ أي: احبسها ولا تطلِّقْها
(2)
.
{وَاتَّقِ اللَّهَ} في أمرِها، ولا تطلِّقها تعلُّلًا بتعظُّمِها
(3)
وتكبُّرها.
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} مِن نكاحِها إنْ طلَّقها زيدٌ، وهو الذي أبداه الله تعالى {وَتَخْشَى النَّاسَ}؛ أي: قالَةَ
(4)
النَّاسِ بأنَّه نكحَ امرأةَ ابنِه.
و (تخفي) عطف على {تَقُولُ} .
{وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} حال، أي: حقيقًا في ذلك أنْ تخشى اللهَ، أو اعتراض، أي: واللّهُ أحقُّ أنْ تخشاه في كلِّ حالٍ.
ويجوزُ أن يكون الواو في {وَتُخْفِي} واو الحال على: وأنت تُخفي؛ أي: تقولُ: أمسك مُخْفِيًا في نفسِك ما الله مبديه.
وكذا في {وَتَخْشَى} يحتمل العطفَ، أي: تجمع بين أن تقولَ وتُخفي وتَخشى، والحال، أي: تخفي في نفسك خاشيًا قالة
(5)
النَّاسِ فيك.
= وقال أيضا: وأصحُّ ما في هذا ما حكاه أهلُ التفسيرِ عن عليِّ بن الحسينِ رضي الله عنهما: أنَّ اللهَ تعالى كان أعلمَ نبيَّه عليه السلام أنَّ زينبَ ستكونُ من أزواجِه، فلمَّا شكَاها إليه زيدٌ قال له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} الآية [الأحزاب: 37]، وأخفَى في نفسِه ما أعلمَه اللهُ تعالى به من أنَّه سيتزوَّجُها ممَّا اللهُ مُبدِيه ومُظهِرُه بتمامِ التزويجِ وطلاقِ زيدٍ لها. قلت: رواه الطبري في "تفسيره"(19/ 116 - 117)، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 466).
(1)
في (ف): "لتضمن".
(2)
في هامش (ف) و (ي): "كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. منه ".
(3)
في (ف) و (ك) و (ي): "بتعظيمها".
(4)
في (ك): "قال".
(5)
في (ك) و (م): "مقالة"، وفي (ف):"حالة".
وليس العتابُ في الإخفاءِ وحدَه؛ فإنَّه أحسن، بل في الإخفاء مخافةَ قالةِ النَّاس فيه، وإظهارِ ما ينافي إضمارَه، فإنَّ الأَولى أنْ يصمُتَ فيه أو يفوِّض الأمرَ إلى رأيه
(1)
، حتى لا يخالِفَ سرُّه علانيَته؛ لأنَّ الأنبياء عليهم السلام كذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها: لو كتمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ممَّا أوحيَ إليه لكتمَ هذه الآية
(2)
.
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} إذا تعلَّقَتْ
(3)
همَّةُ الرَّجلِ بشيءٍ وبلغَ حاجته منه قيل: قضى منه وطرَه؛ أي: فلمَّا لم يبقَ لزيدٍ فيها حاجةٌ، وطابَتْ عنها نفسُه، وطلَّقَها، وانقضَتْ عدَّتُها.
وقيل: قضاء الوطر كنايةٌ عن الطلاق نحو: لا حاجة لي فيك
(4)
.
{زَوَّجْنَاكَهَا} ، وقرئ:(زَوَّجْتكها)
(5)
، أي: أمرنا بتزويجها منك، أو: تولَّينا تزويجَها منك، ويؤيِّدُه أنَّها كانت تقول لنساءِ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام:
(1)
كذا في جميع النسخ، وفي "تفسير البيضاوي" (4/ 233):(ربِّه)، وفي "روح المعاني" (21/ 321):(رأي زيد).
(2)
رواه البخاري (3207)، والطبري في "تفسيره"(19/ 117)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 41). ولفظ البخاري:(لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} الآية [الأحزاب: 37]).
(3)
في (ك): "ابتلغت".
(4)
في (ف) و (م) و (ك) وقع قوله: "وقيل: قضاء الوطر كناية عن الطلاق نحو لا حاجة لي فيك" بعد قوله: "زوجناكها".
(5)
نسبت لعلي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم. انظر: "الكشاف"(3/ 543)، و"المحرر الوجيز"(4/ 387).
إنَّ اللهَ تعالى تولَّى إنكاحي، وأنتُنَّ زوجكُنَّ أولياؤكُنَّ
(1)
.
إلَّا أنَّ انطباق التَّعليل الآتي ذكرُه على الأوَّل.
وقيل: كان السَّفير في خطبتها زيدٌ
(2)
، وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ، وشاها بيِّنٌ على قوَّةِ إيمانِه.
{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} تعليلٌ للتَّزويج، وهو دليل على أنَّ حكمَه عليه الصلاة والسلام وحكمَ المؤمنين واحد إلَّا ما خصَّه
(3)
الدَّليل.
وقضاءُ الوطر هنا كناية عن الطَّلاقِ؛ لأنَّ الحكم المذكور غير مشروطٍ ببلوغِ الحاجةِ منهنَّ.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} جملة اعتراضيَّةٌ؛ أي: وكان أمرُه الذي يريدُ تكوينَه مكوَّنًا لا محالة، كما كان تزويجُ زينبَ.
* * *
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} ؛ أي: قسمَ له وقدَّر، مِن قولهم: فرضَ له في الدِّيوان كذا، ومنه فروض العسكر لأرزاقِهم.
(1)
روى نحوه البخاري (7420)، والترمذي (3213).
(2)
رواه مسلم (1428).
(3)
في (ف) و (ك): "خصصه".
{سُنَّةَ اللَّهِ} : اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدر، وهو مؤكِّد لِمَا تقدَّمَ؛ أي: سنَّ اللهُ سنّة.
{فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} في الأنبياء الماضين عليهم السلام، وهو نفيُ الحرجِ عنهم فيما أباحَ لهم، وتوسعةٌ عليهم في باب النِّكاح وغيره، وقد كان لداود عليه السلام مئةُ امرأةٍ وثلاثُ مئة سريَّةٍ، ولسليمان عليه السلام ثلاثُ مئة حرَّة وسبعُ مئة سريَّة
(1)
.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} : قضاءً مقضيًّا وحكمًا مقطوعًا.
* * *
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ} مجرور، وصفٌ لـ {الَّذِينَ خَلَوْا} ، أو نصبٌ على المدح، أو رفعٌ عليه.
{وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} تعريضٌ بعد التَّصريح في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} : كافيًا للمخاوف، أو محاسبًا للصَّغيرة والكبيرة، فيجب أن لا يُخشَى حقَّ الخشية إلَّا منه.
(1)
وقال القاضي ابن العربي في "أحكام القرآن"(4/ 55) مشيرًا إلى تضعيف هذه الرواية: قِفوا حيث وقف بكم البيان بالبرهان دون ما تتناقله الألسنة من غير تثقيف للنقل والله أعلم.
والذي ورد في الصحيح كما رواه البخاري (3424) ومسلم (1654) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال: سليمان بن داود: لأطوفنَّ اللَّيلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا، ساقطًا أحد شقَّيه.
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ؛ أي: لم يكن أبا رجلٍ منكم على الحقيقة حتى يَثبت بينه وبينه ما بين الأب وابنه من حرمة المصاهرة وغيرها.
ولا يَنتقِضُ عمومُه بكونه عليه السلام أبًا للطَّاهر والطَّيِّب والقاسم وإبراهيم؛ لأنَّهم لم يبلغوا مبلَغَ الرجال.
قيل: ولو بلغوا كانوا رجالَه لا رجالَهم. ولا وجهَ له لِمَا ستقفُ أنَّ التَّأكيد بقوله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ينتظِمُ معَه.
ولا بكونه أبًا للحسَنَيْنِ؛ لأنَّه قُصد المولودُ منه، لا ولَدُ الولَدِ.
(1)
بالنَّصب عطفًا على {أَبَا أَحَدٍ} .
وكلُّ نبيٍّ أبو أمَّته من حيثما إنَّه يعلِّمهم ويربِّيهم، ويجب جمليهم تعظيمُه وتوقيره، وعليه شفقتُهم ونصيحتهم، لا في سائر الأحكام، وزَيْدٌ منهم، وحكمُه حكمُهم فيما ذُكِرَ، لا أنَّه وُلدَ منه، والادِّعاء والتَّبنِّي من باب الاختصاص والتَّقريب لا غير.
وقرئ: (رسولُ اللهِ) بالرَّفع
(2)
على أنَّه خبرُ محذوفٍ؛ أي: ولكنْ هو رسولُ اللهِ.
وقرئ: (ولكنَّ) بالتَّشديد
(3)
على حذف الخبر، تقديره: ولكنَّ رسولَ اللهِ مَن عرفتُموه؛ أي: لم يعشْ له ولَدٌ ذكرٌ.
(1)
في (م) و (ع): "ولكن كان ".
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120).
(3)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120)، وقال: عن أبي عمرو، ذكره ابن مجاهد.
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ؛ أي: وكانَ خاتَمَ النَّبيِّين وآخرَهم الذين
(1)
ختمَهم على قراءة الكسرِ، أو خُتِموا به على قراءة الفتح
(2)
، بمعنى الطَّابع.
ولو كان له ابنٌ بالغٌ لكان نبيًّا؛ لِمَا رُويَ أنَّه عليه السلام قال حين توفِّي إبراهيمُ: "لو عاشَ لكان نبيًّا"
(3)
، فلم يكنْ هو خاتَمًا
(4)
، فهو مؤكَد لكونِه ليس أبا أحدٍ من الرِّجال.
ولا يقدح في ذلك نزول عيسى عليه السلام، لا لأنَّه إذا نزل كان على دينه؛ لأنَّه لا ينافي استقلاله في النُّبوَّة، إنَّما ينافي استقلاله في الرِّسالة، بل لأنَّه عليه السلام كان نبيًّا قبلَه عليه السلام لا بعدَه، فلا ينافي كونَه خاتمًا للأنبياء على أنَّه آخرُهم بعثةً.
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فيعلم مَن يليق بأنْ تُختَم به النُّبوَّة، وكيف ينبغي شأنه.
* * *
(41) - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} : اذكروا اللهَ بأصنافِ الذِّكرِ مِن التَّقديس والتَّمجيد والتَكبير والتَّهليل، وكلُّ ما هو أهلُه مِن أنواع الثَّناء.
* * *
(1)
"الذين" سقط من (ك).
(2)
قرأ عاصم بفتح التاء وباقي السبعة بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 179).
(3)
قال عنه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 116): باطلٌ وجَسارة على الكلام في المغيِّباتِ، ومجازَفةٌ وهجومٌ على عظيم مِن الزِّلاتِ.
(4)
في (م): "خاتم ".
(42) - {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} تخصيصُ التَّسبيح بالذِّكر مِن بينِ سائرِ الأذكار بيانٌ لفضلِه واختصاصِه بالشَّرفِ؛ لأنَّ التَّنزيهَ أفضلُ
(1)
الأذكارِ، مقدَّم على كلِّ حمدٍ وثناءٍ.
والتَّقييدُ بالوَقْتَيْنِ المذكورَيْنِ لذلك أيضًا، أي: لبيانِ فضلِهما وشرفِهما، لكونِهما طَرَفي اللَّيل والنَّهار، ومجتَمعَ الملائكة ومختلَفَهما
(2)
، ويجوزُ أنْ
(3)
يُرَاد بهما الدَّوام.
* * *
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} : بالرَّحمةِ {وَمَلَائِكَتُهُ} بالاستغفار والاهتمام بما يصلحُكم.
والصَّلاة المشتركة بينَ
(4)
اللهِ تعالى وملائكتِه هي إقامةُ الخيرات والكمالات ممَّا
(5)
يُسعدُ المؤمنين في الدارين ويكمِّلُهم، أو العناية بذلك، مستعارة مِن الصَّلاة التي هي شرفٌ وكمالٌ لهم، ولهذا علَّله بقوله:
{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} : مِن ظُلُماتِ الكفر والمعاصي.
(1)
في (ي) و (ع): "أصل ".
(2)
في (ف) و (ك): "ومحتفلهما".
(3)
في (ف) زيادة: "يكون ".
(4)
في (ف) و (ك): "من ".
(5)
في (ف) و (ك): "بما".
{إِلَى النُّورِ} إلى نورِ الإيمانِ والطَّاعاتِ.
ولَمَّا كانتِ الملائكةُ واسطةَ الفيضِ كان لهم مدخلٌ في الأمداد النُّوريَّة الكماليَّة.
وقيل: هي الرَّحمةُ والرَّأفةُ والتَّعطُّف المعنويَّة استُعيرَتْ من الصَّلاة المشتملة على الحنوِّ والانعطاف في الرُّكوع والسُّجود للحنوِّ والانعطاف الصُّوريِّ، كانعطاف العائد على المريض، والمرأة على ولدها، ثمَّ نُقِلَ بكثرة الاستعمال إلى التَّرحم
(1)
والتَّرؤُّف المعنويَّيَنِ، ومنه قولهم: صلَّى الله عليك
(2)
، أي: ترحَّم وترأَّف، ولأنَّ الملائكةَ وسائط الرَّحمة ومستجابو الدَّعوة في الاستغفار لهم نُسِبَتِ الرَّحمة إليهم، كما نُسِبَتْ إلى الله على أنَّ الاستغفار ترحُّمٌ، ويؤيِّدُه قولُه:
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} حيث اعتنى بصلاحِ أمرِهم، وإنافة
(3)
قدرهِم، واستعمَلَ في ذلك ملائكتَه المقرَّبين.
* * *
(44) - {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} .
{تَحِيَّتُهُمْ} مِن إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: يُحيَّوْنَ.
{يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} : يومَ القيامة، أو عندَ الموتِ، أو الخروج مِن القبرِ، أو دخول الجنَّةِ.
{سَلَامٌ} . بإخبار السَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ، والتَّنكيرُ للتَّعظيمِ.
(1)
في (ك): "إلى الترحم".
(2)
في (م): " صلى الله عليه وسلم عليك".
(3)
في (ف) زاد: "أمرهم".
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} في الجنَّة، وتغييرُ النَّظمِ في {تَحِيَّتُهُمْ} و {وَأَعَدَّ} للمبالغة فيما هو أهمُّ وأدَلُّ على الكرامة، وللمحافظة على الفاصلة.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على مَن بُعِثْتَ عليهم بقَبول القولِ في تصديقهم وتكذيبهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وهو حال مقدَّرة.
{وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا} ؛ أي: الإقرار به وبتوحيدِه
(1)
وبما يجبُ الإيمانُ به مِن صفاتِه.
{بِإِذْنِهِ} : بتيسيره، لَمَّا كانَ التَّصرُّف للغير في حقِّ المالك متعذِّرًا إنَّما يتيسَّر بالإذن، استُعِيرَ الإذن للتَّيسير والتَّسهيل؛ إيذانًا بأنَّ دعاءَ أهلِ الشِّرك والجاهلية إلى التَّوحيد والإسلام أمرٌ صعبٌ متعذِّرٌ لا يُستطاع
(2)
إلَّا إذا سهَّلَهُ اللهُ تعالى ويسَّره، ولا يصحُّ حملُه على الحقيقةِ؛ لأنَّ قولَه:(أرسلناك داعيًا) يغني عن الإذن بمعناه الوضعي.
{وَسِرَاجًا مُنِيرًا} شُبِّهَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام بالسِّراج لاستضاءة مَن تحيَّر
(3)
في ظلماتِ الجهل بنورِه، واهتداءِ مَن ضلَّ بضوئه، ولأنَّه قد جَلَّى اللهُ تعالى ظلماتِ الشِّرك بنورِ توحيدِه، أو نوَّرَ البصائر بنورِ هدايتِه، كما ينوِّرُ الأبصارَ بنور السِّراج.
(1)
في (ف) و (ك): "بتوحيده ".
(2)
في (ك): "متعذر الاستطاعة".
(3)
في (ك): "من هو".
وبولغ في وصفِه بالإنارة لأنَّ
(1)
مِن السُّرج
(2)
ما لا ينير.
وقيل: ذا سراجٍ منيرٍ، على أنَّ السِّراج
(3)
مستعارٌ للقرآن.
* * *
(47) - {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} .
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} ؛ أي: عطاءً واسعًا، أو ثوابًا جزيلًا، أو فضيلةً
(4)
على سائرِ الأمم.
وصفَه بخمسِ صفاتٍ، ثمَّ قابل كلًّا منها بخطابٍ يناسبُه:
وصفَه بكونِه {شَاهِدًا} وأضمر ما يقابله بدلالة عطف {بَشِّرِ} عليه، فإنَّه مقابل لـ {وَمُبَشِّرًا} فيجب أن يكون معطوفًا على ما يناسب الوصف الذي عُطِفَ عليه {وَمُبَشِّرًا} ، وهو: فراقبْ أمَّتك.
* * *
وقابلَ {وَنَذِيرًا} بالنَّهي عن موافقة
(5)
الكفار والمبالاةِ بهم الوارد في قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}
(6)
فإنَّ ذلك أشدُّ الإنذار، كأنَّه
(1)
في (ف): "وبولغ في وصفها لأن ".
(2)
في (م): "السراج".
(3)
من قوله: "وبولغ .. " إلى هنا سقط من (ي) و (ع).
(4)
في (ف) و (م): "وفضيلة".
(5)
في (ع) و (ي): "مواقعة".
(6)
"ودع أذاهم" ليست في (م) و (ي) و (ع).
قالَ: خلِّهم وشأنهم، فأنا أكفيك
(1)
، وذلك تهييجٌ له عليه السلام على ما هو عليه من مخالفتهم.
وقابل {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} ، بقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}
(2)
فإنَّه ميسِّرُ كلِّ
(3)
عسيرٍ.
و {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ؛ أي: موكولًا إليه الأمرُ في الأحوال كلِّها؛ لأنَّ مَن أنارَه برهانًا على جميع خلقِه حقيق بأنْ يُكتَفى به عن غيرِه، ولا يُستعانَ إلَّا بِهِ.
* * *
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} النكّاحُ: العقدُ.
وتخصيصُ {الْمُؤْمِنَاتِ} مع أنَّ الحكم المذكور يستوي فيه المؤمنات والكتابيَّات، تعليمٌ لِمَا هو الأَولى وتحريضٌ عليه، فإنَّ الأَولى بالمؤمن أن يتخيَّرَ لنطفتِه ولا يختارَ للنَّسلِ إلَّا الطَّيبةَ الطَّاهرة، وجاء في المائدة بيانُ الجوازِ.
ومعنى التَّراخي في: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} دفع لِمَا عسى أنْ يُتوهَّم أنَّ تراخيَ الطَّلاق مدَّةً يمكن فيها الإصابةُ مؤثِّر
(4)
في العدَّة كما في النَّسب.
(1)
في (ك): "أكفيكهم"، و في (ف) و (م):"أكفيكم".
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "وح أذاهم وتوكل على الله".
(3)
في (م): "لكل".
(4)
في (ع) و (ي): "مؤثرا"، و في (ف) و (ك):"مؤثرة".
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} المساسُ
(1)
كنايةٌ عن الجِماعِ.
{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} : أيَّامٍ يَتربَّصْنَ فيها بأنفسهنَّ.
{تَعْتَدُّونَهَا} : تستوفونَ عددَها، مِن عَدَدْتُ الدَّراهم فاعتَدَّها، كقولك: كِلْتُه فاكتالَه، أو تعدُّونَها، والإسناد إلى الرِّجال للدِّلالة على أنَّ العدَّةَ حقُّ الأزواج كما أشعر به {فَمَا لَكُمْ} .
ومَن قرأ: (تَعْتَدُونَها) بالتَّخفيف
(2)
حذفَ الجارَّ وأوصل الفعل إلى الضِّمير بنفسه، كقوله: ويومٍ شَهِدْناه؛ أي: شهِدْنا فيه.
ومنطوقُه ساكتٌ عن العدَّة بمجرَّد الخلوة الصَّحيحة، ولا عبرةَ للمفهوم، فلا مانعَ لإلحاقِ
(3)
الخلوةِ بالمساس في إيجابِ العدَّةِ.
{فَمَتِّعُوهُنَّ} للوجوبِ إنْ لم يكن مفروضًا لهنَّ، فإنَّ المفروضِ لها نصفُ المهر، ويجوز أنْ يُحمَلَ على الرَّاجحِ والأولى؛ أي: القَدْرِ المشترك بينَ الوجوب والنَّدب، فيتناولُهما؛ إذ
(4)
متعةُ المفروض لها مستحبَّةٌ، ولم تجب
(5)
إلَّا لغير المفروض لها قبل
(6)
المساسِ مِن المطلَّقات.
(1)
في (ك): "المس".
(2)
نسبت لابن كثير، والرواية المشهورة عنه مثل قراءة الجمهور بالتشديد. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص:120).
(3)
في (ف): "لإطلاق".
(4)
في (ك): "أن". وفي (م): "فيتناولها فإن".
(5)
في (ك): "ولا تجب".
(6)
في (ك): "قبل قيل"، وفي (ف):"قيل قبل".
{وَسَرِّحُوهُنَّ} أخرجوهنَّ مِن منازلكم؛ إذ ليس لكم عليهن عدَّةٌ
(1)
.
{سَرَاحًا جَمِيلًا} مِن غير إضرار ولا منعِ حقٍّ.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} : مهورهنَّ؛ إذ المهرُ أجرٌ على البُضع.
وإيتاؤُها: إعطاؤها، والمعتبر فيه الالتزام كما في إعطاء الجزية، وقد نبَّه على هذا مَن قالَ: إعطاؤها عاجلًا، أو فرضُها
(2)
وتسميتُها في العقد، فإنَّه في حكم الإعطاء.
{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وهي صفيَّة وجويريَة، فأعتقهما وتزوَّجهما.
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} الجمع في العمَّات والخالات دون العمِّ والخال لنسق الكلام
(3)
على وفقِ الواقع، كما في قرينه السَّابق.
(1)
في (م): "منازلكم أو ليس عليهن عدة".
(2)
في (ف) و (م): "فرضًا".
(3)
في (ك): "أنسق للكلام ".
{اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (مع) ليس للقِرَآن بل لوجودها فحسب، كقوله:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] والتقييد المذكور للتَّخصيص؛ لِمَا روي عن أم هانئ أنَّها قالَتْ: خطبني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاعتذرْتُ إليه فعذرني، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ، فلم أَحِلَّ له لأنَّي لم أهاجرْ معه
(1)
.
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ؛ إنِ اتَّفقَ
(2)
، ولذلك نكَّرها؛ أي: رضيَتْ بالنِّكاح له عليه السلام بلا مهرٍ، فالهبةُ المذكورة مجازٌ عن تمليكِ المتعة بلا عوضٍ، وليس معناه: إنْ قالَتْ: وهبتُّ نَفسي للنَّبيِّ عليه السلام، حتى ينتهِضَ حجَّةً في الخلافيَّة المشهورة بينَنا وبينَ الشَّافعي علينا أو لنا.
و {وَامْرَأَةً} عطفٌ على {أَزْوَاجَكَ} وما بعدَها، ولا يمنعه التقييد بـ {إِنْ} الاستقباليَّة؛ لأنَّ المراد بالإحلال: الإعلام بالحلِّ؛ أي: أعلمناك حلَّ امرأة مؤمنة، أو نصب بفعلٍ مضمَرٍ يدلُّ عليه {أَحْلَلْنَا}؛ أي: وأحللنا لك امرأةَ.
وقرئ: (أنْ) بالفتح
(3)
على التَّعليل بتقدير حذف أداته، أو على الظَّرف؛ أي: وقتَ أنْ وهبَتْ، أو مدَّةَ هبتها.
{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} شرط للشَّرط الأوَّل في استيجاب الحِلِّ؛ فإنَّ هبتَها نفسَها منه لا يوجب له حِلَّها إلَّا بقَبولِه، والإرادةُ المذكورة عبارةٌ عنه، ولا
(1)
رواه الترمذي (3214)، وقال: حديث حسن، لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.
قال ابن العربي في "أحكام القرآن"(3/ 588): وهو ضعيف جدًا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج في مواضعه بها.
(2)
في (ف) و (ك): "أي اتفق"، وفي (ي):"أن أنفق".
(3)
نسبت للحسن وغيره. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120).
وجهَ لحملها على الحقيقة؛ لأنَّ قوله: {يَسْتَنْكِحَهَا} يغني عن الإرادة بمعناها الوضعي
(1)
.
والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ {النَّبِيُّ} ، ثمَّ الرُّجوع إليه في قوله:{خَالِصَةً لَكَ} للإيذان بأنَّه ممَّا خُصَّ به لنبوَّته، وتكرُّرُه
(2)
تقريرٌ لاستحقاق الكرامة لأجله.
و {خَالِصَةً} مصدر مؤكِّد، كقوله:{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} ، أي: خَلصَ لك إحلالها خالصةً بمعنى: خلوصاً، أو حالٌ من الضَّمير في {وَهَبَتْ} ، أو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: هبةً خالصةً.
وقرئ: (خالصةٌ) بالرَّفع
(3)
، أي: ذلك خلوص لك.
{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي
(4)
: تلك المرأة خالصة لك من دونهم.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} مِن شرائطِ العقدِ، ووجوب القَسْم والمهر بالوطء حيثُ لم يُسمَّ.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مِن توسيعِ الأمر فيها
(5)
عليهم كيف ينبغي أن يفرض عليهم
(6)
.
(1)
في (ف): "لمعناها الأصلي".
(2)
في (ف) و (ك): "وتكريره ".
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 552).
(4)
في (ع) و (م) و (ي): " أو"، وفي (ف):"إذ ".
(5)
في (ك): "فيهما"، وفي (ي) و (ع):"عليها".
(6)
العبارة في "تفسير البيضاوي"(4/ 236): "من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم ".
والعدول مِن عبارة (الإماء) إلى ما ذُكِر للدِّلالة على أنَّ مدارَ الحلِّ على ملك اليد، ولذلكَ لا يتحقَّقُ الحلُّ إذا تخلَّف ملك اليد عن ملك الرَّقبة، كما في المكاتبة.
{لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} علَّة لقوله: {خَالِصَةً لَكَ} ، وما بينهما اعتراضٌ لبيان أنَّ الفرقَ بينَه وبينَ المؤمنين ليس لمجرَّد التَّوسيع عليه، كما هاهنا، بل لمعانٍ مِن خواصِّ النبوَّة تقتضي التَّوسيع عليه والتَّضييق عليهم تارة، وبالعكس أخرى.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ؛ أي: لِمَا يعسُرُ التَّحرُّز عنه {رَحِيمًا} بالتَّوسعةِ في مظان
(1)
الحرج.
* * *
{تُرْجِي} بهمزٍ وبلا همزٍ
(2)
، والمعنى واحد.
{مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} : تؤخِّرها، وتترك مصاحبتها
(3)
، فلا تَقسم لها.
(1)
في (ف) و (ك): "مكان"، وفي (ع) و (م) و (ي):"إمكان"، والمثبت من "تفسير البيضاوي".
(2)
قرأ ابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وابن عامر بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. انظر:"التيسير"(ص:119).
(3)
كذا في النسخ، وفي "تفسير البيضاوي"(4/ 236)، و"تفسير أبي السعود"(7/ 110)، و"روح المعاني" (21/ 402):(مضاجعتها).
{وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} : وتضمُّ إليك {مَنْ تَشَاءُ} وتضاجعها
(1)
، أو: تطلِّقُ مَن تشاءُ وتمسكُ مَن تشاءُ.
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} : طلبْتَ {مِمَّنْ عَزَلْتَ} : طلَّقْتَ بالرَّجعةِ {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} في شيءٍ مِن ذلك.
{ذَلِكَ} التَّفويضُ إلى مشيئتِكَ {أَدْنَى} : أقرب {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إلى
(2)
قرَّةِ أعينهنَّ، وذهابِ حزنهنَّ، وحصول رضاهنَّ جميعًا؛ لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيه سواء، لا تفاضُلَ بينهنَّ فيتغايرن
(3)
.
ثمَّ إنْ سوَّيْتَ بينهنَّ وجدْنَ ذلك تفضُّلًا منك، وإنْ رجَّحْتَ بعضهنَّ على بعضٍ علمْنَ أنَّ ذلكَ مِن عندِ اللهِ وبوحيِه وتفويضِه، فتطمئِنُّ نفوسهنَّ ويرضيْنَ ولا يتغايرين.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} وعيدٌ لِمَنْ لم ترضَ منهنَّ بما دبَّر
(4)
اللهُ تعالى وفَوَّضَ إلى مشيئته.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بذات الصُّدور.
{حَلِيمًا} لا يعاجل بالعقوبة، فهو حقيقٌ بأنْ يُتَّقى ويُحذَر.
* * *
(1)
في (ف) و (ك): "وتصاحبها"، والمثبت من باقي النسخ والمصادر السابقة.
(2)
في (ف): "أي".
(3)
أي: فتقع الغيرة بينهن.
(4)
في (ف): "ذكر".
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ؛ أي: ذلكَ الجنسُ، وإتيان صيغة الجمع ثمَّ إبطالُه بالتَّعريف لعدم المفرد مِن لفظها، ولم يقل:(امرأةٌ)، لعمومِها المملوكةَ يملك اليمين، والمراد: المملوكة يملك النِّكاح، بقرينة قوله:{مِنْ أَزْوَاجٍ} .
وقرئ بالتَّذكير
(1)
لأنَّ تأنيث الجمع غير حقيقيٍّ، وإذا جازَ بغير فصلٍ في قوله
(2)
: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] فمعَ الفصلِ أجوزُ.
{مِنْ بَعْدُ} : مِن بعدِ التِّسع؛ لأنَّه نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الأزواج كما أن الأربع نصاب أمَّته، أو: مِن بعد اليوم، حتَّى إنَّه لو ماتَتْ واحدة منهنَّ لم يحلَّ له نكاحُ أخرى.
{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} : ولا أنْ تستبدلَ بهنَّ {مِنْ أَزْوَاجٍ} لا بكلهنَّ ولا ببعضهنَّ، بأنْ تطلِّق إحداهنَّ وتنكح أخرى مكانَها؛ كرامةً لهنَّ، وجزاءً على ما اخترْنَ ورضيْنَ به، فقُصِر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهنَّ، وهن التِّسعُ اللَّاتي ماتَ عنهنَّ.
و {مِنْ} في {مِنْ أَزْوَاجٍ} هي الاستغراقيَّة، مزيدةٌ لتأكيد نفي التَّبدل مِن جنس الأزواج.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} : حسنُ الأزواجِ المستبدلَة
(3)
، وهو حالٌ مِن الضَّمير الذي هو فاعل {تَبَدَّلَ}؛ أي: مفروضًا إعجابُكَ بهنَّ، أو من المفعول الذي
(1)
قرأ أبو عمرو بالتاء، وباقي السبعة بالياء. انظر:"التيسير"(ص: 179).
(2)
"قوله" سقط من (ك).
(3)
في (ك) و (ع): "المتبدلة".
هو {مِنْ أَزْوَاجٍ} ؛ لأنَّه في سياق النَّفي، فشابه المعرفة المستغرقة، ألا ترى إلى تجويزهم
(1)
أن يقع مبتدأً.
وعن عائشة رضي الله عنها: ما ماتَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى أُحِلَّ له النِّساء
(2)
؛ يعني: أنَّ الآية قد نُسِخَتْ، ولا يخلو نسخُها أن يكون إمَّا بالسُّنَّة
(3)
، وإمَّا بقوله:{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} ، أو بقوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ}
(4)
[الأحزاب: 51] على المعنى الثاني، وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيب المصحف.
وقيل: المعنى: لا تحلُّ لك النِّساء مِن بعدِ الأجناس الأربعة اللَّاتي نُصَّ على إحلالهنَّ لك من الأعرابيَّات والكتابيَّات والقرائب والإماء بالنِّكاح؛ فإنَّهنَّ لا يناسبْنَ
(5)
منصب النُّبوَّة وجلالته.
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ {النِّسَاءُ} وإنْ كان في الأصل يتناول الحرائر والإماء، لكنْ غلَبَ استعمالُه في الأزواج، وهو المراد هاهنا على ما مرَّ بيانه.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} : حافظًا مهيمنًا. وهو تحذيرٌ عن مجاوزةِ حدودِه وتخطِّي حلالِه إلى حرامِه.
* * *
(1)
في (ك): "تجويز".
(2)
رواه الترمذي (3216)، والنسائي (3204)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "بالنسبة"، وفي (ف):"بالكتاب".
(4)
في (ك): "ترجئ".
(5)
في (م) و (ي) و (ع): "لا ينافي"، وصححت في هامش (ي) إلى المثبت.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} لم يقلْ: بيتَ النَّبيِّ؛ كيلا يَسبقَ الوهم إلى أنَّ المرادَ البيتَ الذي هو فيه.
{إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} ؛ أي: إلَّا بأنْ يُؤْذَنَ لكم، أو: إلَّا مأذونًا لكم، ولا يجوزُ نصبُه على الظَّرف؛ لأنَّهم قد نصُّوا على أنَّ المصدرَّية لا تكون في معناه، تقول: أجيئك
(1)
صياحَ الدِّيك وقدومَ الحاجِّ، ولا يجوز: أجيئك أن يصيح
(2)
الدِّيك، ولا: أنْ يَقدم الحاجُّ.
{إِلَى طَعَامٍ} متعلِّق بـ {يُؤْذَنَ} ؛ لأنَّه متضمِّنٌ معنى: يُدْعى
(3)
؛ للدِّلالة على أنَّ حكمَ النَّهيِ لا يرتفع بمجرَّد الإذنِ دلالةً بفتح الباب ورفع الحجاب مثلًا، بل لا بدَّ معه
(4)
مِن صريح الدَّعوة.
ويعضده قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} : غيرَ منتظرينَ وقتَه وإدراكَه، حال مِن فاعل {لَا تَدْخُلُوا} ، أو من المجرور في {لَكُمْ} .
(1)
في (ك): "أجئك"، وفي (م):"أجيتك"، و في (ف):"أجليك"، و في (ع):"أجبتك".
(2)
في (ك): "أجئك أن يصيح"، وفي (ف):"أجئتك أن يصح"، وفي (ع):"أجيتك أن يصبح".
(3)
في (ك): "يدعو".
(4)
في (ف): "له".
وقرئ بالجرِّ
(1)
صفةً لـ {طَعَامِ} ، فيكون جاريًا على غير مَن هو له بلا إبراز الضَّمير، وهو غيرُ جائزٍ عند البصريين
(2)
.
وقرئ: (إناه) بالإمالة
(3)
؛ لأنَّه مصدرٌ أَنَى الطَّعام: إذا أدرك.
قيل: الخطابُ مخصوصٌ بقومٍ كانوا يتحيَّنون
(4)
طعامَ رسولِ اللّهِ عليه السلام، فيدخلونَ ويقعدون
(5)
منتظرين لإدراكه، وإلَّا لم يجزْ لأحدٍ أنْ يدخلَ بيوته إلَّا بإذنٍ خاصٍّ.
والظَّاهر أنَّ الخطاب عامٌّ لغيرِ المحارمِ، وخصوصُ السَّبب لا يصلح مخصِّصًا على ما تقرَّر في الأصول، نعم يكون وجهًا لتقييد
(6)
الإذن بقوله: {إِلَى طَعَامٍ} ، فيندفع وهمُ اعتبار مفهومِه
(7)
.
{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} هذه الفاءُ للجزاء، ولا دِلالة فيها للتَّعقيب بلا مُهلَةٍ، وأمَّا الفاء في قوله:
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ} فللتَّعقيب بلا مهلةٍ، للدِّلالة على أنَّه ينبغي أن يكون
(1)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "الكشاف"(3/ 554)، و"المحرر الوجيز"(4/ 396).
(2)
ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا: غير ناظر أنتم، أو: غير ناظرين أنتم، ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا، والتخريج المذكور عليه. انظر:"روح المعاني"(21/ 421).
(3)
قراءة الكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 49).
(4)
في (م): "يتجنبون"، وفي (ف):"يحبُّون".
(5)
في (ف): "ويعقدون"، و في (م) و (ي) و (ع):"ويقصرون".
(6)
في (ك): "لتقيد".
(7)
نقله عنه الآلوسي في "روح المعاني"(21/ 423)، ثم تعقبه بقوله: وفيه بحث فتأمل.
دخولُهم بعد الإذن والدَّعوة على وجهٍ يشرعوا في الأكل كما دخلوا
(1)
.
ففيه تقريرٌ لِمَا أُشِيرَ إليه بقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} مِن النَّهي عن الدَّخول للطَّعام قبلَ إدراكِه.
{فَانْتَشِرُوا} فتفرَّقوا ولا تمكثوا.
رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه قال: أنا أعلمُ بهذه الآية، لَمَّا زُفَّتْ زينبُ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كانَتْ معه في البيتِ وصُنِعَ
(2)
طعام للناس، فأكلوا وتفرَّقوا، وبقيَ ثلاثةُ نفرٍ يتحدَّثون، فأطالوا، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لِيَخرجوا
(3)
ثمَّ رجعَ فإذا الثَّلاثةُ جلوسٌ يتحدَّثون، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شديدَ الحياءِ، فتولَّى، فلَمَّا رأَوْهُ متولِّيًا خرجوا، فرجَعَ فنزلَتْ
(4)
(5)
.
{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} ؛ أي: ولا مستأنسٍ
(6)
بعضُكم لبعضٍ لأجلِ الحديث، أو: مستمعين حديثَ أهلِ البيتِ. والأوَّلُ يرجِّحُه سببُ النُّزولِ.
عطفٌ على {نَاظِرِينَ} ، أو منصوب على تقدير فعل؛ أي: ولا تدخلوها أو: ولا تمكثوا مستأنسين.
(1)
كذا وقعت العبارة في النسخ، وعبارة الآلوسي أحسن وأوضح، وهي: (
…
على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل). انظر: "روح المعاني"(21/ 422).
(2)
في (ف): "وضع".
(3)
في (م): "ليخرج".
(4)
روى نحوه البخاري (4791)، ومسلم (1428).
(5)
في (ف): "فترك".
(6)
في (ك): "مستأنسين".
{إِنَّ ذَلِكُمْ} اللَّبثَ {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} لتضييق
(1)
المنزل عليه وأهله، وإشغاله فيما لا يعنيه.
{فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} تعليل لمحذوفٍ دلَّ عليه المساق؛ أي: ولا يخرجكم فيستحيي منكم، ولذلك صدَّره بأداة التَّعليل، ولو كان المعنى: يستحيي من إخراجكم، لكان حقَّه أن يُصدَّر بالواو العاطفة
(2)
.
{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} لَمَّا كان الحياءُ يمنعُ الحييَّ مِن بعضِ أفعالِه وأقوالِه - وإنْ كان حقًّا - قيلَ: إنَّ اللّهَ لا يستحيي من الحقِّ؛ أي: لا يمتنعُ منه
(3)
امتناع الحييِّ، وهو مجازٌ، أو على طريقة قوله:
قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقميصًا
(4)
يعني: إخراجُكم حقٌّ
(5)
، فينبغي أنْ لا يترك حياءً، كما لم يتركْهُ اللّهُ تعالى فأمرَكُم بالخروجِ.
(1)
في (ع): "لتضيق"، وفي (م):"لضيق".
(2)
نقله عنه الآلوسي في "روح المعاني"(21/ 424)، ثم تعقب ما ذهب إليه المؤلف من التَّقديرُ بقوله: وفيه أَنَّهُ بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف.
(3)
في (ف) و (ي) و (ع): "يمتنع من".
(4)
عجز بيت نسب لجحظة في "جمهرة الأمثال"(1/ 227)، ولأبي حامد محمد بن محمد في "لباب الآداب" للثعالبي (ص: 195)، وصدره:
قالوا اقترح لونًا نجيد طبيخه
والشاهد فيه أنه وضع (اطبخوا) موضع (خيطوا) لمجرد مراعاة اللفظ دون المعنى.
(5)
في (ف): "أن إخراجكم حقًّا".
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} الضَّمير لنساءِ النَّبيِّ عليه السلام لدلالةِ ذِكْرِ البيوتِ أو دلالةِ الحال عليهنَّ.
{مَتَاعًا} : شينًا يُنتَفَعُ به {فَاسْأَلُوهُنَّ} المتاعَ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : سترٍ.
رُويَ أنَّ عُمرًا رضي الله عنه قال: يا رسولَ اللّهِ، يدخلُ عليكَ البَرُّ والفاجرُ، فلو أمرْتَ أمَّهاتِ المؤمنين بالحجاب، فنزلَتْ
(1)
.
وقيل: إنَّه عليه السلام كان يَطْعَمُ ومعه بعضُ أصحابِه، فأصابَتْ يدُ رجلٍ يدَ عائشة رضي الله عنها، فكرِهَ النَّبيُّ عليه السلام ذلك، فنزلَتْ
(2)
.
{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} مِن خواطر الشَّيطانيَّة
(3)
.
{وَمَا كَانَ} : وما صحَّ {لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} : أن تفعلوا ما يكرهه.
{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} : مِن بعدِ وفاتِه أو فراقِه.
وخُصَّ التي لم يدخلْ بها، لِمَا رُويَ أنَّ أشعث بن قيس تزوَّج المستعيذة في أيَّامِ عمر رضي الله عنه فهمَّ برجمها
(4)
، فأُخبر بأنَّه عليه السلام فارقها
(5)
قبلَ أنْ يمسَّها، فترَكَ مِن غير نكير
(6)
.
(1)
رواه البخاري (4790).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(19/ 167) عن مجاهد مرسلًا، وروى نحوه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32017)، والبخاري في "الأدب المفرد"(1053)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11419) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
في (م): "الشياطين"، وفي (ف) و (ك):"شيطانية".
(4)
في (ف) و (م): "برجمهما".
(5)
في (م) زيادة: "من".
(6)
ذكره الغزالي في "الوسيط"(5/ 21)، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 292): (لا أصل =
{إِنَّ ذَلِكُمْ} ؛ أي: إيذاءه
(1)
ونكاحَ نسائِه.
{كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} : ذنبًا عظيمًا، استئنافٌ لتعظيمِ النَّبيِّ عليه السلام وإيجابِ حرمتِه حيًّا وميتًا، فلذلك بالغ في الوعيد عليه فقال:
(54) - {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا} مِن نكاحِهنَّ وغيرِه {أَوْ تُخْفُوهُ} في صدورِكم.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فيَعلمُ ذلكَ فيجازيكم
(2)
عليه، وفي هذا التَّعميم مع أنَّه برهان على المقصود تهويلٌ عظيم، ومبالغةٌ شديدةٌ في الوعيدِ.
* * *
{جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} استئنافٌ لِمَنْ لا يجبُ الاحتجابُ عنه.
رُويَ أنَّه
(3)
لَمَّا نزلَتْ آيةُ الحجابِ قال الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ: يا رسولَ اللّهِ، أوَ نكلمهنَّ أيضًا من وراء حجابٍ؟ فنزلَتْ
(4)
.
= له في كتب الحديث). وروى ابن سعد في "الطبقات"(8/ 146) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس نحو هذه القصة، وفيه أن الذي تزوجها هو المهاجر بن أبي أمية.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "إيذاؤه"، وسقطت من (ف) و (ك). والصواب المثبت.
(2)
في (م): "ويجازيكم".
(3)
في (ف) و (ك): "أنها".
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 129)، و"النكت والعيون"(4/ 421)، و"الكشاف"(3/ 557)، و "زاد المسير"(6/ 417).
وإنَّما لم يذكر العمَّ والخالَ - مع شدَّة الاهتمام على ما دلَّ عليه في البيان ما في عدم الاكتفاء بالانفهام في حقِّ الأخ، فإنَّ ذكر ابنه يُغني عنه دلالةً - لأنَّه كُرِه ترك الاحتجاب عنهما مخافةَ أن يصفانها لأبنائهما
(1)
.
{وَلَا نِسَائِهِنَّ} يعني: نساءَ المؤمنات.
{وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} مِن العبيد والإماء، وقيل: مِن الإماءِ خاصَّة، وقد سبق في تفسير سورة النُّور.
{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيما أُمرتِنَّ به، التفاتٌ إلى الخطاب بعد الغيبةِ؛ لإظهارِ الاعتناء بأمرِ الحجابِ والتَّشديد عليهنَّ في ذلك، وأنَّه من باب التَّقوى الواجبِ رعايتُه والمحافظةُ عليه.
ثمَّ أَوعَدَ على ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} سواءٌ عندَه السِّرُّ والعلَنُ، لا يتفاوت عندَه شيءٌ مِن الأحوال، فليكن عملكنَّ في الحجب أحسنَ مما كان قبل الاحتجاب
(2)
.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} : يعتنون بإظهار شرفِه وتعظيمِ شأنِه.
(1)
في هامش (ي): "فيه رد لمن زعم أن ذلك لأنهما بمنزلة الوالدين. منه".
(2)
في (ك): ""، وفي (م):"فليكن عملكن في الحجب مما كان قبل الإحتجاب"، وفي (ف):"فليكن عما سبق في الحجاب أحسن مما كان قبل الإضراب".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} : اعتنوا أنتم أيضًا، فإنَّكم أولى بذلك، فقولوا: اللَّهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ.
{وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قولوا: السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ.
والآية تدلُّ على وجوبِ الصَّلاة والسلام عليه عليه السلام في الجملةِ.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} جاز أن يكون مجازًا؛ أي: يرتكبون ما يكرَهانِه مِن الكفرِ والمعاصي، وأن يكون حقيقةً، وذِكْرُ اللّهِ توطئةٌ للتَّعظيم والاختصاص؛ أي: يؤذون رسولَ اللّهِ.
{لَعَنَهُمُ اللَّهُ} : أبعدَهم مِن رحمتِه.
{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} : يهينُهم مع الإيلَامِ.
* * *
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} : بغيرِ جنايةٍ استحقُّوا بها ذلكَ، أطلقَ إيذاءَ اللّهِ ورسولِه
(1)
، وقيَّد إيذاءَ المؤمنين والمؤمنات؛ لأنَّ إيذاءَ اللّهِ ورسولِه لا يكون إلَّا بغيرِ حقٍّ، وإيذاءَهم قد يكون بحقٍّ
(2)
.
(1)
في (ف) و (ك): "وإيذاء رسوله".
(2)
في (ف) و (ك): "بغير حق"، وفي (ي):"بالحق".
{فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} : ظاهرًا.
رُويَ أنَّها نزلَتْ في ناسٍ مِن المنافقين يؤذون عليًّا رضي الله عنه.
وقيل: في أهل الإفك، وقيل: في زُناةٍ كانوا يَتْبعونَ
(1)
النِّساء وهنَّ كارهات.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : يغطيْنَ بها وجوهَهُنَّ وأعطافَهُنَّ
(2)
، ويُرْخِينَها على أبدانهنَّ إذا برزت لحاجةٍ.
يقال إذا زال الثَّوب عن وجه المرأة: أدني
(3)
ثوبَك على وجهِكِ.
والجلبابُ: الملحفةُ وكلُّ ما يُستَرُ به مِن كساء وغيره، و {مِن} للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المرأة تتلفَّع ببعضِها وترخي بعضَها على بدنها، أو لأنَّ لها جلابيب.
كانت النِّساء في أوَّل الإسلام يَبرزْنَ
(4)
في درعٍ وخِمارٍ كما كانت عادتهنَّ في الجاهليَّة، لا فرْقَ بينَ الحرَّةِ والأَمَةِ في ذلك، وربَّما كانَ الشَّباب
(5)
والشُّطَّارُ يتعرَّضونَ لهنَّ، فإذا عُوتِبوا فيه يقولون
(6)
: حسبناها أَمَةً، فأُمِرْنَ أن يحتجِبْنَ ويخالفْنَ بزيهِنَّ زِيَّ الإماء. فلذلك قال:
(1)
في (ك): "يستتبعون".
(2)
في (ف) و (ك): "وأعضاءَهُنَّ".
(3)
في (ك): "أرخي"، وفي (ي) و (ع):"أذن".
(4)
في (ف): "يبرزون".
(5)
في (ك): "كانت الأشبال"، وفي (ي) و (ع):"كان أشبان".
(6)
في (ك): "قالوا".
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} : يُمَيَّزْنَ مِن الإماءِ والقَيْناتِ.
{فَلَا يُؤْذَيْنَ} : فلا يؤذيَهنَّ أهلُ الرِّيبةِ
(1)
بالتَّعرُّض لهنَّ بما يكرهْنَ.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِما سلَفَ منهنَّ
(2)
مِن التَّفريطِ {رَحِيمًا} بتعليم آداب المكارم.
* * *
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} عن نفاقِهم.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : ضعفُ إيمانٍ، أو قِلَّةُ ثَباتٍ عليه، وقيل: أهل الرِّيبةِ والفجور والزُّناة، مِن قوله:{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} الذين يُرجِفون بأخبار السُّوء عن سرايا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هُزِموا وقُتِلوا. وبالجملةِ: ما يكسرُ قلوبَ المؤمنين.
والإرجافُ: الإخبارُ الكاذبُ
(3)
؛ لأنَّه متزلزلٌ غير ثابت، يُقالُ: أَرْجَفَ بكذا: إذا أَخبَرَ به على غير حقيقةٍ، مِن الرَّجفةِ وهي الزَّلزلةُ.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الإغراءُ: التَّحريشُ، جُعلَ مجازًا عن قصدهم بالسُّوء؛ أي: لئِنْ لم ينتهِ المنافقون عن نفاقِهم وكيدِهم، والفَسقَةُ عن فجورِهم، والمرجِفونَ
(1)
في (ف) و (ي) و (ع): "الرقبة".
(2)
في (ف): "منهم".
(3)
في (ف): "الكاذبة".
عن أراجيفِهم
(1)
= لنأمرنَّكَ بأنْ
(2)
تفعلَ بهم الأفاعيل التي تسوؤُهم من أنواع التعذيب.
{ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} عطفٌ على {لَنُغْرِيَنَّكَ} ؛ لأنَّ النَّفيَ ممَّا يُجابُ به القسمُ، ولو قيلَ: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك، لكان صحيحًا، وإنَّما عطفٌ بـ {ثُمَّ} لأنَّ الجلاءَ عن الأوطان كان أعظمَ عليهم من كلِّ بلاءٍ، وأشدَّ مِن كلِّ ما أُصِيبوا به مِن العذابِ، مُبْعَدٌ حالُه عن حالِ المعطوفِ عليه؛ أي: ثمَّ يُفعَل بهم ما يَضطرُّهم إلى الجلاء من المدينة، وإلى أنْ لا يساكنوك
(3)
فيها إلَّا زمنًا قليلًا ريثما يتهيَّؤون للرَّحيل، ويسرِّحونَ عيالَهم مِنها، ويرتحلون بهم.
* * *
(61) - {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} .
{مَلْعُونِينَ} نصبٌ على الشَّتم
(4)
، أو الحال؛ أي: لا يجاورونك إلَّا ملعونين، فالاستثناء شاملٌ له أيضًا؛ أي: لا يجاورونك إلا ملعونين.
ولا يجوز انتصابه بـ {أُخِذُوا} في قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} : وُجدوا {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} لأنَّ ما بعد كلمة الشَّرط لا يعمل فيما قبلها.
والتَّشديدُ للدِّلالة على التَّكثير، وكذا التَّنكير.
* * *
(1)
في (ف) و (ك): "إرجافهم".
(2)
في (ف): "أن".
(3)
في (م): "يساكنوا".
(4)
في (م): "الذم".
(62) - {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} .
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} مصدرٌ مؤكِّد؛ أي: سنَّ اللّهُ في الأنبياء الذين مضَوا {مِنْ قَبْلُ} ذلك سنةً
(1)
، وهو الأخذُ والتَّقتيل في الذين نافقوا وأَفسدوا.
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} لأنَّه تعالى لم يبدِّلها، ولا يقدر أحدٌ على تبديلها.
* * *
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} : عن وقتِ قيامِها، كان المشركون يسألون رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عنها
(2)
استعجالًا على سبيل الهزء والإنكار، واليهود
(3)
امتحانًا؛ لأنَّ اللَّه تعالى عمَّى وقتها
(4)
في التَّوراة وفي جميع كتبِه.
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} لم يُطْلِعْ عليها
(5)
أحدَ الأنبياء ولا مَلَكًا.
ثمَّ بيَّنَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} أنَّها قريبة الوقوع؛ تهديدًا
(6)
للمستعجِلين، وإسكاتًا للممتحِنين.
وتذكيرُ {قَرِيبًا} على تأويل الشَّيء، أو اليوم، أو الزَّمان، ويجوز انتصابه على الظَّرف، أو في زمانٍ قريب.
(1)
في (ف) و (م): "سنة الله".
(2)
"عنها" من (ك)، وفي (ي):"عنه".
(3)
في (ك) كتب بالهامش: "وأهل الكتاب".
(4)
في (ك): "أخفاها".
(5)
في (ك) و (م): "عليه".
(6)
في (ك): "تهديد".
(64) - {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} .
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} : نارًا مسعَّرةً شديدةَ الإيقاد.
* * *
(65) - {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} ينفعُهم {وَلَا نَصِيرًا} يدفعُ العذابَ عنهم.
* * *
{يَوْمَ} : ظرفٌ لـ {يَقُولُونَ} ، أو نصبٌ بـ (اذكر) و {يَقُولُونَ} حال.
{تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} كما يقلَّبُ اللَّحم عند الشَّيِّ، أو من
(1)
حالٍ إلى حالٍ وهيئةٍ إلى هيئة
(2)
.
وخُصَّتْ الوجوه بالذِّكر لأنَّها أشرف أعضاء الإنسان وأعزُّها، أو عبِّر بها عن الجملة.
وقرئ: (تَقَلَّبُ) بمعنى: تتقلَّبُ
(3)
.
{يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} فلنْ نُبْتلى بهذا العذاب.
وزيادة الألف في {الرَّسُولَا} ، و {السَّبِيلَا} لإطلاق الصَّوت، جُعِلَتْ
(1)
في (ف): "ومن حال"، وفي (ي) و (ع):"أو" وسقطت "من".
(2)
في (ف): "وهيشة إلى هيشة".
(3)
نسبت للحسن وعيسى وأبي جعفر الرؤاسي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120).
فواصلُ الآي كقرائن السَّجع وقوافي الشِّعر، وفائدتها الوقفُ، والدِّلالةُ على أنَّ الكلامَ قد انقطع
(1)
، وأنَّ ما بعدَه مستأنَفٌ.
* * *
(67) - {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} .
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} يعنون رؤساءَ الكفر الذين لقَّنوهم الكفر وزيَّنوه لهم. وقرئ: {سَادَتَنَا} على جمع الجمع
(2)
؛ للدِّلالة على الكفرة.
{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} بما زيَّنوا لنا.
* * *
(68) - {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} .
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ} ؛ أي: مثلَي ما آتيتَنا
(3)
{مِنَ الْعَذَابِ} لضلالِهم وإضلالهم لنا.
{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} : كثير العدد، وقرئ بالباء
(4)
؛ أي: لعنًا هو أشدُّ اللَّعنِ وأعظمُه.
* * *
(1)
في (ك): "قد تمّ".
(2)
قرأ بها ابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 179).
(3)
في (ف): "أوتينا".
(4)
قراءة عاصم، وباقي السبعة بالثاء. انظر:"التيسير"(ص: 179).
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} فاستحقُّوا العذابَ في العُقبى.
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} في حقِّه.
لَمَّا أظهرَ اللّهُ تعالى براءَته عليه السلام ممَّا قذفوه به انقطعَ كلماتهم فيه، فبرئ عليه السلام مِن قولهم، فحصل لهم الخجالة في الدُّنيا بظهور كذبِهم وافترائِهم على رسولهم، وذلك ما مرَّ في (القصص) مِن تحريض قارون امرأةً على قذفه بنفسِها، أو اتِّهامِهم إيَّاه بقتل هارون عليه السلام، فأحياه اللَّه تعالى فأَخبر ببراءة موسى عليه السلام، أو قرفوه
(1)
بعيبٍ في بدنِه مِن برصٍ أو أدرَةٍ؛ لفرْط تستُّره حياءً، فأطلعهم اللَّه على أنَّه بريءٌ منه
(2)
.
{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} : ذا جاهٍ
(3)
ومنزلةٍ، فلذلك كان يدفعُ عنه التُّهمَّ
(4)
ويحافظ على ماء وجهِه بصونِه عن كلٍّ وصمٍ
(5)
ونقيصةٍ.
وقرئ: (عبدًا للّهِ وجيهًا)
(6)
.
* * *
(1)
في هامش (ي): "قرفت الرجل؛ أي: عبته، وفلان يُقرف بكذا؛ أي: يُرمى به". وانظر: "الصحاح"(مادة: قرف).
(2)
في هامش (ف) و (ع) و (ي): "فلا حاجةَ إلى التَّأويل، لا في برئ ولا فيما قالوا، كما توهَّمه من قال: فأظهر براءته مِن مضمون مقولهم. منه".
(3)
في (ك): "وجاهة".
(4)
في النسخ: "الهم"، والمثبت من "الكشاف"(3/ 563).
(5)
في (ف): "وضم".
(6)
نسبت لابن مسعود رضي الله عنه والأعمش وأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120)، و"المحتسب"(2/ 185)، و"الكشاف"(3/ 563).
(70) - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} في ارتكابِ ما يكرهه فضلًا عن إيذاء
(1)
رسولِه.
{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} السَّدادُ: القَصْدُ إلى الحقِّ، يقال: سدَّد السَّهم نحو الرَّميَّة، إذا لم يَعْدِل به عن سَمْتِها.
قرَّر النَّهي بالأمر بالقولِ السَّديد الحقِّ، وحفظِ اللِّسان عن الكذب والغيبة والرِّيبة، ليتعاضد الأمرُ والنَّهي مترادفَين عليهم، مع إتباعِ النَّهي الوعدَ الشَّديد في ضمن قصَّة موسى عليه السلام، وإتباعِ الأمر الوعدَ البليغ، فيتقوَّى الصَّارفُ عن الشَّرِّ والأذى بالدَّاعي إلى الخير والتُّقى، وأفردَ القولَ السَّديد بالذِّكرِ وإن كان داخلًا في التَّقوى؛ لأنَّه اجتنابٌ عن
(2)
رذيلة الكذب
(3)
لفضله كأنَّه جنسٌ برأسه، كما خُصَّ جبريل عليه السلام مِن بينِ الملائكةِ
(4)
.
* * *
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} بالقَبولِ والإثابة عليها، وذلك بالتَّوفيق لصالح الأعمالِ
(5)
.
(1)
في (ف): "عن يؤذي"، وفي (ي):"مما يؤذي"، وفي (ع):"عما يؤذي".
(2)
في (ك): "من".
(3)
في (ف): "الكفر".
(4)
من قوله: "قرر النهي بالأمر
…
" إلى هنا وقع في (ف) و (ك) بعد تفسير قوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} .
(5)
بعدها في (ف) و (ك): "لا نهيٌ عن القول المؤذي لرسولِ اللهِ".
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلْها مكفَّرَة باستقامتكم في القول والعمل.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
عاشَ في الدُّنيا حميدًا، وفي الآخرة سعيدًا.
* * *
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} الإشفاقُ: خوفٌ مع اعتناء.
{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} تقريرٌ للوعد السَّابق بتعظيم الطَّاعة، فإنَّه لَمَّا علَّقَ الفوزَ العظيم بها أراد أنْ يقرِّر أَنَّه حقٌّ لها باستعارة الأمانة لها؛ لأنَّها واجبةُ الأداء كالأمانة، وهي أنها مِن عِظَمها بحيث لو عُرِضَتْ على هذه الأجرام العِظام مع إحكامها وقوَّتها وكانت شاعرة لأبَتْ أنْ يحملنها وأشفقْنَ منها، وحملها الإنسانُ مع ضعفِ بِنْيته
(1)
ورخاوة قوَّته، فجدير بالقائم بحقوقِها والمراعي لها أنْ يفوزَ بخير الدَّارَين، وسعادةِ المنزِلَيْنِ، وحقَّ
(2)
لمن أضاع حقوقَها وخانها أنْ يُرهق بأشدِّ العذاب، ويؤوبَ شرَّ المآب.
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} حيثُ لم يراعِ حقوقَها، ولم يؤدِّها، ولم يفِ بها.
{جَهُولًا} حيثُ لم يعرِفْ عظمَ قدرِها وفخامةَ شأنِها، فلم يؤدِّها، وهذا حكمٌ على الجنس بحسب الأغلب.
(1)
في (ف): "بنية".
(2)
وقع في (م) سقط لوحة، وهي من قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} إلى هنا.
ووجهٌ آخرُ، وهو أنْ يراد بالطَّاعة: الانقياد لأمر اللَّه تعالى مطلقًا، بحيث يشتمل الاختياريَّ والطَّبيعيَّ.
وبعرضها: استدعاؤُها الذي يعمُّ إرادةَ صدور ما خُلقت هذه الأجرام لها عليها
(1)
، وطلبَ ما خُلِقَ الإنسان له منه
(2)
.
وبحملِها: الامتناعُ من أدائها والخيانة فيها.
يُقال: حملَ الأمانة واحتملها: إذا لم يؤدِّها إلى صاحبها فيخرجَ مِن
(3)
عهدتها وتزولَ عن ذمَّته؛ لأنَّ الأمانة إذا كانت عليه كانت كأنَّها
(4)
راكبةٌ له وهو حاملها، كما يُقالُ: ركبَتْهُ الدُّيون، فإذا أدَّاها لم تبقَ راكبةً له، ولا يكون هو حاملها.
وبإبائِها حملَها
(5)
: إتيانُها بما أراد اللَّه تعالى منها طوعًا وانقيادًا.
وبإشفاقِها: موافقتُها لأمر اللَّه وامتناعُها من مخالفته.
على أنَّها مجازاتٌ، فيكون المعنى: أنَّ هذه الأجرام مع عِظَمِها وقوَّتها لم تمتنع مِن طاعتنا، وانقادَتْ لِمَا أمرناها به، وأدَّتْ أمانتنا (ولم تخُنْ، وأذعنَتْ لِمَا أردنا منها، كقوله:{أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
وأمَّا الإنسان مع كونه عاقلًا لِمَا يوجِبُ
(6)
طاعتنا، فحاله بخلاف ذلك،
(1)
في (م): "عنها".
(2)
عبارة البيضاوي: (استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره).
(3)
في (ف): "عن".
(4)
"كأنها" سقط من (ك).
(5)
في (ي) و (ع): "حاملها".
(6)
في (ك): "عالمًا بوجوب"، وفي (ف):"عاقلًا لما بوجوب".
فإنَّه حمل الأمانةَ ولم يؤدِّها؛ أي: عصانا
(1)
ولم يطع.
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لأنَّه لم يؤدِّ حقَّنا وأمانتنا، ولم يفِ بعهدنا وخانَنا {جَهُولَا} بوخامةِ عاقبته. ولام التَّعليل للعاقبة؛ لأنَّ التَّعذيبَ يَعقب حملَ الأمانةِ.
ويجوزُ أنْ يُرادَ بالأمانةِ: العقلُ، وما يلزمُه من التَّكليف.
وبعرضِها عليهنَّ: اعتبارُها بالإضافة إلى استعدادهنَّ.
وبإبائهنَّ: الإباءُ الطَّبعي، الذي هو عدمُ اللياقة والاستعداد.
وبحمل الإنسان: قابليَّتُه واستعدادُه لها، وكونه
(2)
ظلومًا جهولًا لِمَا غلبَ عليه مِن القوَّة الغضبيَّة والشهويَّة، وعلى هذا يَحسُن أن يكون علَّةً للحمل عليه، فإنَّ مِن فوائدِ العقلِ أنْ يكون مهيمنًا على القوَّتَيْنِ، حافظًا لهما عن التَّعدِّي ومجاوزةِ الحدِّ، ومعظمُ المقصودِ مِن التَّكليف: تعديلُهما وكسرُ سَورتهِما.
* * *
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} تعليلٌ للحمْلِ مِن حيثُ إنَّه نتيجته
(3)
؛ كالتَّأديبِ للضَّربِ، في: ضربتُهُ تأديبًا.
(1)
من قوله: "لما يوجب طاعتنا
…
" إلى هنا سقط من (م) و (ي) و (ع).
(2)
في (ف) و (ك): "بكونه".
(3)
في (ع) و (ي): "نتيجة"، وفي (م):"ينتجه"، وفي (ف):"ينتخبه". والمثبت من (ك)، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي".
وذِكْرُ التَّوبةِ في الوعد إشعارٌ بأنَّ كونه ظلومًا جهولًا في جِبلَّته لا يكاد يخلو
(1)
عن شيءٍ منه.
وقرئ: (ويتوبُ) بالرَّفع
(2)
، على أنَّ العلَّةَ قاصرةٌ على فعل الحامل، و (يتوبُ اللّهُ) ابتداءُ كلامٍ.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} حيثُ تابَ على فرطاتِهِ.
{رَحِيمًا} حيثُ أثابَ على طاعاتِهِ.
* * *
(1)
في (ي) و (ع): "ينجُ".
(2)
نسبت للأعمش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 120).
سُورَةُ سَبَإٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قد سبقَ أنَّ في وصف المحمودِ بعد إثباتِ الحمدِ له إشعارٌ بأنَّه موجِبٌ لاستحقاقِه للحمد، فالمعنى أنَّه تعالى حقيقٌ بالحمد لأجْل إنعامه بجميع النِّعم الدنيويَّة، ولهذا عطفَ عليه بقوله:
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} - الحمدُ على النِّعم الأُخرويَّة - عطفَ المقيَّد على المقيَّد؛ أي: إنَّه المحمودُ على نِعَمِ الدنيا في الدنيا، وعلى نِعَمِ الآخرةِ في الآخرة، وتقديمُ الصلة للاختصاص بكون النِّعَم الأُخروَّية منه تعالى بلا واسطةٍ، وأمَّا نِعَمُ الدنيا فقد تكون بواسطةِ مَن يستحِقُّ الحمد أيضًا؛ لتسبُّبه لها.
والفَرْق بين الحمْدَيْن: بأنَّ الأولَ منهما واجبٌ دون الثاني؛ لأَنَّه على نعمةٍ واجبةِ الإيصال إلى مستحقِّها لا يتمشَّى على أصل أهل السنَّة، وذلك ظاهر، ولا على أهل
(1)
الاعتزالِ؛ لأنَّهم لا يُنكِرون التفضُّلَ
(2)
في الآخرة، غايتُه
(3)
أنَّهم لا
(1)
في (ف) و (ك): "أصل".
(2)
في (ف) و (ك): "التفضيل".
(3)
في (ف): "على".
يُوافقونا في كون الكلِّ تفضُّلًا
(1)
، ووجوبُه بحُكْم الوعد لا ينافيه؛ لأنَّ الوعدَ منه تعالى مع عدم شموله لأنواع النِّعَم الأخرويَّة فضلًا عن أفرادها، كان تفضُّلًا، وما يجب بحُكم التفضُّل لا يَخرج عن حدِّه، على أنَّه لا يَثبت به الاستحقاقُ، فلا يجدي نفعًا في دفعِ الخَلَل، فتأمَّل
(2)
.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أفعاله، المصيبُ في أقواله {الْخَبِيرُ} بما في الضمائر مِن السرائر، فهما للإيذان بأنَّه تعالى كما يستحقُّ الحمدَ لأنَّه مُنعِم يَستحقُّه لأنَّه منعوتٌ بصفات الكمالِ، وأنَّ إنعامَه على وجه الحكمةِ والصواب، وعن علمٍ بوضع الاستحقاق والاستيجاب.
ثم فصَّل علمَه وحكمتَه بعد الإجمال بقوله:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} : مِن ماء المطر وعروقِ النبات وأصولِ الأشجار، وأمَّا الكنوز والدفائنُ والأمواتُ فممَّا يُوضَع
(3)
فيها، لا ممَّا يَلجُ فيها، والولوجُ: الدخولُ في المضيق
(4)
.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} : مِن مياهِ العيون والنباتِ والأشجار وحشرات الأرض، وأمَّا الفِلزَّات فممَّا يُخرَج لا ممَّا يَخرُج.
(1)
في (ف): "تفضيلًا".
(2)
في (م): "فقال"، وسقطت من (ع) و (ي).
(3)
بعدها في (ف) و (ك): "الناس".
(4)
في (ك): "مضيق".
{وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} : مِن الملائكة والكتبِ وقَطَراتِ الأمطار والصواعقِ وأمثالِ ذلك.
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} : مِن الملائكة والأعمالِ والأَبْخرة والأَدخنة وغيرها، وتعديةُ {يَعْرُجُ}
(1)
بـ (في)، يقال: عَرَجَ في الدَّرجة، إذا ارتقى.
{وَهُوَ} مع وفورِ هذه النِّعَم وسبوغِها {الرَّحِيمُ} بالنِّعَم الدينيَّة؛ مِن العلم والحكمة والهداية {الْغَفُورُ} للمفرِّطينِ في أداءِ موجبِ
(2)
شكرِها، عقَّبه بهذين الوصفين تتميمًا للمقصود، يعني أنَّه تعالى مع أنَّه أولاهم بتلك النِّعم وشَهدَ منهم ذلك التقصيرَ، يَزيدُ في تلك النعمة، ويَغفر لهم ذلك التفريط.
* * *
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} النفيُ إمَّا إنكارٌ، وإمَّا استبطاءٌ للموعود واستهزاءٌ وسخريةٌ، كقولهم:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48].
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ردٌّ لقولهم، وإثباتٌ لِمَا نَفَوهُ بما هو الغاية في المبالغة بتكرير
(3)
الإيجاب مع التأكيد القَسَمي، وإتباعِ المقسوم به بالوصف المقرِّر لوقوعه، والتعليلِ الموجب لثبوته
(4)
.
(1)
في (م): "عرج".
(2)
في (ف) و (ك): "الواجب".
(3)
في (ف) و (ك): "بتنكير".
(4)
في (ك) و (م): "لثبوته".
وقرئ: (ليأتينكم) بالياء التحتانية
(1)
؛ على أنَّ الساعةَ بمعنى اليوم، أو على أنَّ الفاعل:{عَالِمِ الْغَيْبِ} ؛ أي: ليَأتينَّكم أمرُه، وعلى الأول كان المذكور رفعًا على المدح؛ أي: هو عالمُ الغيبِ، أو: مبتدأ، خبره:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} .
وقرئ: {عَالِمِ الْغَيْبِ} بالجرِّ، صفةٌ لـ (ربِّي)، و (علَّامِ الغيوبِ)
(2)
؛ للمبالغة.
و {لَا يَعْزُبُ} بضمِّ الزاي وكسرِها
(3)
؛ مِن العُزُوب، وهو البُعْدُ.
{مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} : مقدارُ أصغرِ نملةٍ
(4)
.
{فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} جملةٌ مؤكِّدةٌ لنفي العزوب، ورفعُهما على الابتداء، ويؤيّده القراءةُ بالفتح فيهما
(5)
، على نفي الجنس، كقوله: لا حول ولا قوَّة، بالرفع والنصب.
والاستثناءُ في قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} - أي: اللوح المحفوظ
(6)
- يأبى عطفَ المرفوعِ على {مِثْقَالُ} والمنصوبِ على {ذَرَّةٍ} على أنَّ فتحَه لامتناعِ
(1)
نسبت لطليق - أو طلق - عن بعض أشياخه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121)، و"المحتسب"(2/ 186).
(2)
قرأ {عَالِمِ} بالرفع نافع وابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي:{علّاَمِ} بصيغة المبالغة والجر، وباقي السبعة:{عالمِ} بالكسر، وفيها جميعًا:{الْغَيْبِ} بالإفراد. انظر: "التيسير"(ص: 180). وذكر الزمخشري: (عالمُ الغيوب) بالرفع على المدح. انظر: "الكشاف"(3/ 568).
(3)
قرأ بالكسر الكسائيُّ، وقرأ الباقون بالرفع. انظر:"التيسير"(ص: 122). وكلمة: "الزاي" تحرفت في النسخ عدا (ك) إلى: "الراء".
(4)
في (ك): "أنملة".
(5)
نسبت للأعمش وقتادة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121).
(6)
سقط من (ف) و (ك).
الصَّرْف، إلَّا أنْ يُجعل الضميرُ في {عَنْهُ} للغيب، ويُجعلَ المثبَت في اللوح بارزًا عن الغيب مشهودًا للملأِ الأَعلى، كما قال بعضُهم، ولا يُساعده المعنى؛ لأنَّ المعنى الغيبي إذا أُبرز إلى الشهادة
(1)
لم يَعزُب عنه، بل بقيَ في الغيب على ما كان عليه مع بروزِه، فهي جملةٌ مستقلِّةٌ، والواوُ عاطفةٌ للجملة على الجملة، لتَناسُبهما في بيانِ علمه تعالى لا بالغيب.
* * *
(4) - {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تعليلٌ لقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .
{أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} إذ لا تعبَ فيه ولا مَنَّ عليه.
* * *
(5) - {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} .
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} بالإبطال وتزهيدِ الناس فيها.
{مُعَاجِزِينَ} : مسابقين؛ ليفوتونا، وقرئ:{مُعَجِّزِينَ}
(2)
؛ أي: مثبِّطينَ الناسَ عن قَبولها.
{مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ} الرِّجْزُ: سوءُ العذاب.
{أَلِيمٌ} : مُؤلِمٌ، قرئ: بالرفع والجرِّ
(3)
.
* * *
(1)
في (ك): "للشهادة".
(2)
قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 158).
(3)
قرأ بالرفع ابن كثير وحفص وباقي السبعة بالجر. انظر: "التيسير"(ص: 180).
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: ويَعلمُ أولو
(1)
العلم مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَن تابعهم مِن أمَّته، أو علماءُ أهلِ الكتاب الذين أَسلموا، كعبد اللَّه بن سَلَام وكعبِ الأحبار وأضرابِهما.
{الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} القرآنَ {هُوَ الْحَقَّ} مفعولان لـ {يَرى} ، و {هُوَ} فَصْلٌ
(2)
، ومَن رفع (الحقّ)
(3)
جعله مبتدأً، و (الحقُّ) خبرًا، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ {وَيَرَى} وهو في محلِّ الرفع على أنَّه كلامٌ مستأَنف للاستشهاد بأُولي العلم على الجهلةِ الساعينَ في الآيات.
وقيل: في محلِّ النصب عطفًا على {لِيَجْزِيَ} ؛ أي: ليَعلم العلماءُ عند مجيءِ الساعةِ أنَّه الحقُّ عيانًا كما علموا
(4)
الآن برهانًا، فيحتجُّوا به على المكذِّبين السَّاعين، أو: ليَعلم علماءُ أهلِ الكتاب الذين لم يُؤمِنوا حينئذٍ أنَّه الحقُّ، فيزدادوا حسرةً وغمًّا.
{وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الذي هو التوحيد والتدرُّعُ بلباس التقوى.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "الذين أوتوا".
(2)
في (ع) و (ي): "أفضل".
(3)
حكاها أبو معاذ، ونسبت لابن أبي عبلة. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121)، و"البحر"(17/ 394).
(4)
في (ك): "علموه".
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال بعضُ كفَّار قريشٍ لبعض: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنُون محمَّدًا عليه الصلاة والسلام، وإنَّما عبَّروا عنه بـ {رَجُلٍ} على التنكير ولم يَذكروه باسمه - مع شهرتِه فيما بينهم - للتعجُّب
(1)
، وإخراجِ كلامه
(2)
مخرجَ الأعاجيبِ التي لا يُعرَف ناقلُها وواضعُها، بل تُحكى للتلهِّي والسخرية، فلذلك أُخرجَ هو مخرج مَن لم يعرف، وفي قوله:
{يُنَبِّئُكُمْ} دون: يُخبركم، تأييدٌ لِمَا ذكر، فإنَّ النبأ خبرٌ فيه غرابةٌ وشأنٌ.
{إِذَا مُزِّقْتُمْ} : إذا مُتُّم وفرِّقتم {كُلَّ مُمَزَّقٍ} ونصبٌ على المصدر، أو على الظرف على أنَّه اسمُ مكانٍ؛ أي: فرِّقتم كلَّ تفريقٍ وصرتُم ترابًا، أو كلَّ موضعِ تفريقٍ، كبطون السباع، وحواصل الطيور، ومذاهب السيول.
والعاملُ في الظرف
(3)
ما دلَّ عليه: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ؛ أي: بُعثتم وجُدِّد خَلْقكم، و {جَدِيدٍ} و فَعِيل بمعنى فاعل مِن جَدَّ، أو بمعنى مفعول
(4)
مِن جَدَّهُ الناسِجُ إذا قَطَعهُ، وأصله في الثوب ثم شَاعَ.
وإنَّما قدِّم الظرفُ اعتناءً باستبعاده، وإيذانًا بأنَّه سببُ التعجُّب، لبُعدِه عن
(5)
(1)
في (ك): "للتعجيب".
(2)
في (ف) و (ك): "وإخراجا لكلامه".
(3)
يعني بالظرف: {إِذَا} .
(4)
في (ك): "المفعول".
(5)
في (م): "من".
العقول، وأصله: يُنبِّئكم أنَّكم تُبعَثون ويُجدَّد خَلْقكم إذا متُّم، فقدِّم وأخِّر وبدِّل وغيِّر لما قلنا، ولذلك بالغُوا في التأكيد بـ (إنَّ) واللامِ مُتعجِّبين ومُعجِّبين مِن جزمه بالبعث؛ أي: لا يُقنَع بإمكانه، بل يُجزَم بوقوعِ
(1)
محالٍ مثلِه، وهذا هو السبب في حصرِهم قولَه عليه الصلاة والسلام في الافتراء والجنون؛ بناءً على أنَّ كونه صدقًا وحقًّا أمرٌ بيِّنُ الاستحالة عندهم، فالترديد بين قِسْمي الكذب.
* * *
{أَفْتَرَى} ألفُ استفهامٍ دخلت على الألف المجتلَبة فأَسْقَطتْها؛ للاستغناء عنها، {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: أقصدَ وتعمَّدَ كذبًا بالغًا في كَذِبه.
{أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} : أم حلَّ به جنونٌ فيقولَ بغيرِ قصدٍ، عادَلوا بين الافتراء والجنون؛ لأنَّ هذا القولَ عندهم إنَّما يَصدُر عن أَحَدِ هذين؛ لأنَّه إنْ كان يَعتقد خلاف
(2)
ما أَخبر به فهو مفترٍ، وإنْ كان لا يعتقد فهو مجنون.
{بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أَضربَ عن تقسِيمهم لبطلانه، إلى أنَّ الكافرين وقعوا بسببِ إنكارِهم للبعث وعدمِ إيمانِهم بالدار الآخرةِ
(3)
، في العذاب والضلال معًا، ولم يَفطنوا
(4)
- لغاية ضلالهم - للقِسْم الثالث الذي هو الحقُّ، وأنَّه عليه الصلاة والسلام بعيدٌ مِن القسمين المذكورين، لم يقلْ إلَّا صدقًا وحقًّا.
(1)
في (ف) و (ك): "بوقوعه".
(2)
سقط من (ف) و (ك).
(3)
في (م): "وعدم إيجازهم أي وعدم إيمانهم بالآخرة".
(4)
في (ك): "ولم يتفطنوا لغاية".
ووُضع الموصول موضعَ الضمير للإيذان بأنَّ سببَ استبعادهم للبعث ونسبةِ الافتراء والجنون إليه - الذي هو الضلالُ المحض - إنَّما هو عدمُ إيمانهم بالآخرة.
وقُرن العذاب بالضلال إشعارًا بأنَّ العذابَ يلزم الضلالَ غير منفكٍّ عنه كأنَّهما في وقتٍ واحدٍ؛ لسرعة أداءِ الضلالِ إليه، ووصفُ الضلال بالبُعد مِن الإسناد
(1)
المجازي؛ لأنَّ البعدَ صفةُ الضلال إذا بَعُدَ عن الجادَّة.
* * *
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تذكيرٌ لهم بما هم معاينوه مِن كمال قدرةِ اللَّه تعالى، وتهديدٌ على تكذيبهم؛ أي: أَعَمُوا فلم ينظروا إلى ما أَحاط بجوانبهم مِن السماء والأرض، فيستدلُّوا بذلك على أَنَّهم في سلطان اللَّه تعالى تجري عليهم أحكامه!
{إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} كما فعلنا بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} قطعةً {مِنَ السَّمَاءِ} كما فَعَلنا بأصحاب الأَيْكة؛ لتكذيبهم بالآيات البيِّنات بعد ظهورها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} ؛ أي: في النظر إلى ما بينَ أيديهم وما خَلْفهم مِن السماء والأرض {لَآيَةً} بيِّنةً، ودلالةً واضحةً على قدرة اللَّه تعالى.
(1)
في (م) زيادة: "أي".
{لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} : راجعٍ إلى اللَّه تعالى؛ لأنَّ الراجعَ إليه تعالى متفكِّر
(1)
في آياته الدالَّة على أنَّه قادرٌ على البعث وعلى عقاب المكذِّبين.
* * *
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} على سائرِ الناس؛ ويندرج فيه النبوَّةُ والكتاب والملك
(2)
والصوت الحسن، أو على سائر الأنبياء في زمانه؛ وهو ما ذكر بعده مِن المعجزات الخاصَّة به.
{يَاجِبَالُ} بدلٌ مِن {فَضْلًا} بإضمار: قولنا، أو مِن {آتَيْنَا} بإضمار: قلنا.
{أَوِّبِي} رجِّعي {مَعَهُ} التسبيحَ، وقرئ:(أُوْبِي)
(3)
مِن الأَوْبِ؛ أي: ارْجِعي معه في التسبيح؛ لأنَّه إذا رجَّعه فقد رجَع فيه، وذلك بخَلْق صوتٍ فيها مثلَ صوتِه؛ معجزةً له، كخَلْق الكلام في الشجرة.
وقيل: سيري معه أينما سارَ.
{وَالطَّيْرَ} وقرئ بالرفع
(4)
عطفًا على لفظ الجبال؛ تشبيهًا للحركة البنائية - لكون بنائه بسبب العارض، وهو وقوعُ منادًى مقامَ
(5)
مبنيِّ الأصل وهو كافُ أدعوكَ -
(1)
في (ك): "يتفكر".
(2)
سقط من (ف) و (ك).
(3)
نسبت لابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121).
(4)
نسبت للأعرج وعبد الوارث عن أبي عمرو. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121).
(5)
في (ي): "موقوع".
بالحركة الإعرابيَّة، أو عطفًا على فاعل:{أَوِّبِي} ؛ أي: أوبي أنتِ والطيرُ، كقوله: اشكر أنت والطيرُ، كقوله:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35].
وبالنصب على محلِّه
(1)
، ولا تأييدَ في القراءة بالرفع لهذا
(2)
؛ لأنَّ مبناهُ على أنْ يتعيَّن فيها العطف على لفظ الجبال، وقد عرفتَ أنَّه غير متعيِّن، أو على أنَّه مفعول معه.
وقيل: عطفًا على {فَضْلًا} بمعنى: وسخرنا له الطير، وأصل النظم: ولقد آتينا داود منا فضلًا تأويبَ الجبالِ والطيرَ، وعدل إلى هذه الصيغة للفخامة والجزالة، والدلالة على كمال قدرته تعالى وعزَّة سلطانه وكبريائه.
وجعل الجبال والطير كالعقلاءِ المطيعين الذين إذا دعاهم سمعوا وأجابوا، وإذا أَمرهم أذعنوا وأطاعوا؛ إشعارًا بأنَّ كلَّ حيوانٍ وجمادٍ مطيعٌ له ومنقادٌ لمشيئته غيرُ ممتنعٍ على إرادته.
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} : وجعلناهُ له ليِّنًا كالشمع، يُصرِّفه بيده كيف شاءَ بغير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقة، بإلانَتِه أو بشدَّة قوَّته
(3)
.
* * *
(1)
أي: على محل الجبال، والقراءة بالنَّصب هي قراءة العشرة في المشهور عنهم.
(2)
رد على البيضاوي في قوله: {وَالطَّيْرَ} عطفٌ على محل الجبال، ويؤيده القراءة بالرفع عطفًا على لفظها).
(3)
بعدها في (ف): "عليه السلام".
{أَنِ اعْمَلْ} (أنْ) هي المفسِّرة؛ أي: أمرناهُ أنِ اعمل، أو المصدريَّة؛ أي: بأن اعمل.
{سَابِغَاتٍ} : دروعًا ضافياتٍ
(1)
، يقال: سَبَغَ الثوبُ، إذ غطَّى كلَّ ما هو عليه وفَضَلَ منه، والمراد: زيادته على البدن حتَّى يسترَ الساعدين والساقين، وهو أوَّل مَن اتَّخذها، وكانت قبل ذلك صفائحَ وكانت ثقالًا، ولذلك أَمَره بالتقدير؛ بأنْ يَجمع بين الخفَّة والحصانة؛ أي: لا تَقصِد الحصانةَ فتَثقُلَ، ولا الخفَّةَ فتزولَ المنفعةُ.
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} : سَرْدِ الدِّرعِ، وهو أنْ تُحكِمَها وتجعلَ نظامَ حَلَقِها ولاءً غيرَ مختلفة
(2)
، ومنه سَرْدُ الكلامِ: نَظْمُه في نسقٍ واحدٍ.
وقيل: التَّقديرُ: أمر به في قَدْرِ الحَلْقة
(3)
؛ أي: لا تجعلها صغيرةً فتَضعُفَ ولا يَقوى الدرعُ على الدفاع، ولا كبيرةً فيُنالَ لابسُها مِن
(4)
خِلالها.
وقيل: هو في المسمار؛ أي: اجعل المسامير
(5)
على قَدْرِ الحلَق؛ لا تُغلِّظها فتُختَرقَ، ولا تُدقِّقها فتَعلقَ.
وهذان القولان
(6)
على الوجهين المذكورين في تفسير: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} ، فردُّ الأخيرِ بأنَّ دروعها لم تكن مسمَّرةً مردودٌ؛ لأنَّ عدمَ الحاجة إلى التسمير على
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "صافيات"، وفي (ف):"صافنات"، والمثبت من (ك).
(2)
في (ك): "مختلف".
(3)
في (ع) و (ي): "في قدرها الحلقة" وفي (م): "وقدرها الحلقة".
(4)
"من": ليست في (م).
(5)
في (ك): "المسمار".
(6)
في النسخ عدا (ك): "وهذين القولين".
تقدير أن يكون الحديدُ ليِّنًا بإلانته تعالى، وأمَّا إذا كان على طبيعتِه وليَّنه داودُ عليه السلام بشدَّة قوَّته، فلا بُدَّ مِن التسمير، وبهذا التفصيل ظهر فسادُ ما قيل: ويؤيد الرَّدَّ المذكورَ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} .
{وَاعْمَلُوا} الضمير لداودَ عليه السلام وأهلِه {صَالِحًا} عملًا يُوافقُ أمرَ اللَّه تعالى {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ترغيبٌ وترهيبٌ.
* * *
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} : وسخَّرنا لسليمان الريحَ
(1)
فيمَن نَصَبَ، و: لِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ مسخرةٌ فيمَن رَفَعَ
(2)
.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ؛ أي: جَريُها بالغداةِ مسيرةُ شهرٍ، وجَريُها بالعشيِّ كذلك.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} : النحاسِ المذابِ، أساله مِن معدنِ النحاس، فكان ينبعُ له نبوعَ الماء مِن الينبوع، ولذلك سمَّاه {عَيْنَ الْقِطْرِ} ، وكان ذلك باليَمَن.
{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ} {وَمَن} في محلِّ النصب عطفًا على {الرِّيحَ} ، و {وَمِنَ الْجِنِّ} حالٌ مُتقدِّمة، أو في محلِّ الرفع على الابتداء، و {وَمِنَ الْجِنِّ} خبرُه.
{بَيْنَ يَدَيْهِ} : قُدَّامَه {بِإِذْنِ رَبِّهِ} : بتيسيره، وقد سبق وجهُ هذه الاستعارة في سورة الأحزاب.
(1)
بعدها في (ف) و (ك): "مسخرة".
(2)
هي قراءة شعبة عن عاصم، وحفص وباقي السبعة بالنَّصب. انظر:"التيسير"(ص: 180).
{وَمَنْ يَزِغْ} : يَعدِلْ {مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به مِن طاعة سليمان عليه السلام {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} : عذابِ النار، قيل: كان معه مَلَكٌ بيده سَوطٌ مِن نارٍ، فمَن زَاغَ عن أمرِه، ضَرَبه ضربةً أَحْرقته.
* * *
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} ؛ أي: مساجدَ، إنَّما عبَّر عن المسجد بالمحراب؛ لاختصاصه به مِن بين سائر البيوت
(1)
.
{وَتَمَاثِيلَ} صورَ الملائكةِ والنبيينَ والعُبَّادِ؛ كانت تُعمَل في المساجد على هياكلِ العبادات التي اعتادوها ليراها الناسُ، فيَعبدوا نحوَ عبادتهم، ولم يكن عملُ التصاوير إذ ذاك حرامًا.
{وَجِفَانٍ} وصِحافٍ {كَالْجَوَابِ} : جمع جابية، وهي الحوض الكبير
(2)
؛ لأنَّ الماء يُجبى فيها؛ أي: يُجمَع، جُعل الفعلُ لها مجازًا، وهي مِن الصفات الغالبة كالدَّابَّة.
(1)
إن أراد بالمحراب المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام، ففيه نظر على ما يفهم من كلام بعض العلماء؛ لأنَّهُ على ما قال الشهاب والآلوسي:(مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي، وألف في ذلك رسالة، ولذاكره الفقهاء الوقوف في داخله). انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 194)، و"روح المعاني" (22/ 43). ورسالة السيوطي بعنوان:"إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب" وقد طبعت مرارًا. والقول بأن المراد بالمحاريب المساجد مبني عند الآلوسي على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد اللَّه تعالى فيها أو لموقف الإمام.
(2)
قوله: "جمع جابية وهي الحوض الكبير" تأخَّر في (ف) و (ك) إلى ما بعد قوله: "مجازًا".
وقرئ بحذف الياء اكتفاءً بالكسرة
(1)
، كقوله:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6].
{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} : ثابتاتٍ على الأَثافي لا تنزلُ عنها، كنايةً عن عِظَمِها، وهذه الكنايةُ كانت في منزلة التشبيه في قرينها.
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} حكايةٌ لِمَا قيل لهم، و {شُكرًا} مفعوله، أو حالٌ بمعنى: شاكرين، أو نُصبٌ على المصدر؛ أي: اشكروا شكرًا، وحُذفَ فِعْله لدلالة {اعْمَلُوا} عليه مِن حيث إنَّ العملَ للمُنعِم شكرٌ له، ويجوز أن يكون مفعولًا به على طريقة المشاكلة، بمعنى: إنَّا سخَّرنا لكم الجِنَّ يعملونَ لكم ما شِئتم، فاعملوا أنتُم لنا شكرًا.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} المتوفِّر على أداء الشكر بقلبه ولسانِه وجوارحه في أكثرِ أوقاته
(2)
.
* * *
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ} : على سليمانَ {الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ} الضمير للجِنِّ {عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} هي الأَرَضةُ اسمها: السُّرْفَة، والأَرْضُ - وهو تأثُّر الخشبة منها - فِعلُها
(3)
، فأُضيفت إليه.
(1)
أثبت الياء وصلًا ووقفًا ابن كثير، وأثبتها في الوصل ورش وأبو عمرو، وباقي السبعة بحذفها. انظر:"التيسير"(ص: 182).
(2)
في (ف) و (ك): "الأوقات".
(3)
في (ك): (بفعلها).
{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} المِنْسَأة: العصا؛ لأنَّه يُنسأُ بها؛ أي: يُطرد ويُؤخَّر، وقرئ: بفتح الميمِ وتخفيفِ الهمزة قلبًا وحذفًا
(1)
، وكلاهما ليس بقياسٍ، ولكن [إخراج الهمزة بينَ بينَ هو] التخفيف القياسي.
و: (مِنْسَاءته) على مِفْعالَة
(2)
، كما يقال في المِيْضَأة: مِيْضاءَة.
و: {مِنْسَأَتَهُ}
(3)
؛ أي: مِن طَرَفِ عصاهُ، استُعيرت مِن سَأَةِ القوسِ، وفيه لغتان؛ كقَحَةٍ وقِحَةٍ.
{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} مِن تَبيَّن الشيءُ: إذا ظَهَر وانجلى
(4)
، أو مِن تَبَيَّنهُ: إذا تحقَّقه.
{أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} {أَنْ} مع صلتها بدلٌ مِن {الْجِنُّ} بدلَ الاشتمال؛ كقولك: تبيَّن زيدٌ جهلُه؛ أي: تبيَّن جهلُ زيدٍ، أو مفعول به.
وعلى الأول الظهور في المعنى للمُبدَل مِن الجنِّ لا لهم؛ أي: ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} .
وعلى الثاني معناه: تحقَّق الجنُّ أنْ لو كانوا يعلمون الغيبَ كما يزعمونَ لعلموا
(1)
أي: بقلبها ألفًا، أو بحذفها بالكلية، فهما قراءتان ذكرهما في "الكشاف"(3/ 573) والكلام وما سيأتي بين معكوفتين منه، و"البحر"(17/ 414).
وقرأ بالتسهيل لكن مع كسر الميم نافع وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 180).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 573)، و"البحر"(17/ 414).
(3)
نسبت لعمرو بن ثابت عن سعيد بن جبير. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121)، و"المحتسب"(2/ 186).
(4)
في (م): "وتجلى".
بموته حالَ وقوعه فلم يَلبثوا بعده حولًا في تسخيره، أو: عَلِم الجنُّ كلُّهم عِلْمًا بيِّنًا بعد التباسِ الأمرِ على عامَّتهم وضَعَفَتهم، وتوهُّمهم أنَّ كبراءَهم يَصدُقون في ادِّعائهم علم الغيب.
* * *
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} الانتظامُ بيِّنٌ في القصَّتين؛ أنَّ الأولى في مدح الشَّكور، والثانيةَ في ذمِّ الكفور وبيانِ جزاءِ كفرانه.
وقرئ: {لِسَبَإٍ} مُنصَرِفًا؛ أي: لأولادِ سبأٍ، وهو سَبَأُ بنُ يَعْرُبَ بنِ قَحطانَ، وبالفتح ممنوعًا عن الصَّرْف
(1)
؛ على معنى القَبيلة أو المدينة، و:(سبا) بقلب الهمزة ألفًا
(2)
.
{فِي مَسْكَنِهِمْ} : مواضعِ سُكْناهم، وهي باليمن، يقال لها: مَأْرِب، وقرئ:{مَسْكَنِهِمْ} بفتح الكاف وكسرها
(3)
حملًا على ما شذَّ مِن القياس، كالمَسْجد والمَطْلِع.
{آيَةٌ} ؛ أي: عَلَامةٌ تدلُّ أنَّ لهم إلهًا خَلَقهم ورزقهم؛ لأنَّ ما أَعطاهم مِن أنواع الشجر وألوانِ الثمر كان خارجًا عن وُسْعِ البشر.
(1)
قرأ أبو عمرو، البزيُّ عن ابن كثير:{لِسَبأَ} ، وقرأ قنبل:{لِسَبأَ} ، وقرأ الباقون:{لِسَبأٍ} . انظر: "التيسير"(ص: 167)، و"النشر"(2/ 337).
(2)
قرأ بها ابن كثير في غير المشهور عنه. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 244).
(3)
قرأ بالكسر الكسائي، وقرأ بالفتح مفردًا حمزة وحفص، وقرأ الباقون بالكسر جمعًا. انظر:"التيسير"(ص: 180).
{جَنَّتَانِ} بدلٌ مِن {ءَايَةٌ} ، أو: خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هي جنتان، وقرئ بالنَّصب
(1)
على المدح، ودلَّ ذلك على أنَّ في رفعه معنى المدح، والمراد: جماعتان مِن البساتين، لا بستانان اثنان.
{عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} جماعة عن يمينِ بلدهم، وجماعة عن شمالِه، كلُّ واحدٍ منهما لتقارب بساتينها وتضامِّها
(2)
والتفافِ أغصانها كجنَّةٍ واحدةٍ، أو بستانُ كلِّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنه وشماله.
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} حكايةٌ لِمَا قيل لهم؛ أي: قلنا على لسانِ الأنبياء عليهم السلام المبعوثين إليهم، أو هم أحقَّاء بأنْ يقال لهم، أو قال لهم لسانُ الحال.
{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} لم تكن سَبْخةً، ولا عاهَةَ فيها ولا هامَّةَ، استئنافٌ للدلالة على مُوجِب الشكر، وتعليلٌ للأمر؛ أي: هذه البلدةُ التي فيها رزقُكم بلدةٌ طيبة.
{وَرَبٌّ غَفُورٌ} : وربُّكم الذي رَزَقكم وطَلَبَ شُكرَكم ربٌّ غفورٌ فَرَطاتِ مَن يَشكُره.
وقرئ: (بلدةً .... وربًّا) بالنصب على المدح
(3)
، أو: اسْكُنوا واعبدُوا.
* * *
(1)
أي: (جنتين)، ونسبت لابن أبي عبلة. انظر:"البحر المحيط"(17/ 420).
(2)
في (ف) و (ك): "ونظامها".
(3)
نسبت ليعقوب في غير المشهور عنه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121).
{فَأَعْرَضُوا} عن الشُّكر {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} جمع: عَرِمَة؛ وهي الحجارةُ المركومةُ، والمراد: المُسنَّاةُ التي عقدوها سِكْرًا.
وقيل: {الْعَرِمِ} اسمُ الوادي الذي فيه السِّكْرُ، أو الوادي الذي جاء منه السيلُ، وقيل: المطرُ الشديدُ، أو الجُرَذ الذي نَقبَ السِّكْرَ عليهم.
{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} تسميةُ اللّهِ لهم جنَّتين؛ للمشاكَلَة مع التهكُّم.
{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} الأُكُلُ بالضَّمِّ والسكون: الثَّمَر، والخَمْطُ: شجرُ الأراك، وقيل: كلُّ شجرٍ ذي شوكٍ، وقيل: كلُّ نبتٍ أَخذ طعمًا مِن مرارةٍ حتَّى لا يُمكِن أكلُه.
وقرئ: {أُكُلٍ} بالتنوين، والإضافة إلى {خَمْطٍ}
(1)
، وإذا نوِّن جعل {خَمطٍ} وبدلًا منه، كأنَّه قيل: ذواتي أُكُلٍ بشعٍ، أو جعل أصله: ذواتي أُكُلٍ أُكُلِ خمطٍ، بحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه، وأمَّا الإضافة؛ فلأنَّ الخمطَ في معنى البَرِير وهو ثمرُه.
{وَأَثْلٍ} : شجرٌ يُشبِه الطَّرْفاءَ أعظمُ منه وأجودُ عودًا.
{وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} السِّدْر: شجرُ النَّبِق، وهو ممَّا يطيبُ أكلُه، ولذلك كان يُغرَس في الجنان الأُوَل
(2)
ويُرغَب فيه، ولذلك قيَّده بالقلَّة، وبالغَ فيه بقوله:{وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ} ؛ أي: بقيَ أثرٌ مّا منه على
(3)
الجنانِ المُبدَلة يتذاكرونَ به ما كان
(1)
قرأ بالإضافة أبو عمرو، وباقي السبعة بالتنوين. انظر:"التيسير"(ص: 180).
(2)
"الأول" ليس في (ف) و (ك).
(3)
في (ك): "في".
ويتحسَّرون عليه، والأَثْلُ والسِّدرُ معطوفان على {أُكُلٍ} لا على {خَمْطٍ} ، فإنَّ {الأثل} لا أُكُلَ له.
وقرئ: (وأثلًا .... وشيئًا) بالنصب
(1)
، عطفًا على {جَنَّتَيْنِ} .
* * *
(17) - {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} .
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} : بسبب كفرانهم النعمةَ، أو: بسبب كفرِهم بالرُّسل، وتقديم المفعول على {جَزَيْنَاهُمْ}
(2)
؛ للاهتمام والتعظيم، ولذلك أُشير إليه بـ {ذَلِكَ} .
{وَهَلْ نُجَازِي}
(3)
لمَّا استُعمل الجزاءُ في معنى العقاب قيل: هل نُجازي، بمعنى: نعاقب؛ أي: هل نُجازي بمثلِ هذا الجزاءِ، وهو العقابُ العاجلُ {إِلَّا الْكَفُورَ}: إلَّا البليغَ في الكفران أو الكفرِ.
* * *
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالتوسعةِ على أهلها، وهي قرى
(1)
نسبت للفضل بن إبراهيم. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 121).
(2)
في (م): "مع جزينا".
(3)
في (م): "يجازى"، وهي والمثبت قراءتان سبعيتان، فقد قرأ حفص وحمزة والكسائيّ:{وَهَلْ نُجَازِي} بالنُّون وكسر الزَّاي {إِلَّا الْكَفُورَ} بالنَّصب، والباقون بالياء وفتح الزَّاي والرَّفع. انظر:"التيسير"(ص: 181).
الشام {قُرًى ظَاهِرَةً} : متواصلةً يُرى بعضُها مِن بعضٍ، أو: راكبةً متنَ الطريق ظاهرةً للسابلة
(1)
.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} قيل: كان الغادي
(2)
منهم يَقيلُ في قريةٍ، والرائحُ يبيتُ في قريةٍ، إلى أنْ يَبلُغ الشامَ، لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا عدوًّا، ولا يحتاج إلى حملِ زادٍ ولا ماءٍ.
{سِيرُوا فِيهَا} على إرادة القول بلسان الحال، إذ لا قولَ لهم ثمَّة، ولكنْ لمَّا هيِّئت أسبابُهم ومُكِّنوا مِن السير، كأنَّهم
(3)
أُمِروا بذلك وأُذِنوا فيه.
{لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} ؛ أي: إنْ شئتم بالليل، وإنْ شئتم بالنهار؛ فإنَّه لا يختلف الأمرُ فيها باختلاف الأوقات.
أو: سيروا فيها آمنينَ وإنْ طالت مدَّةُ سفرِكم وامتدَّت أيامًا ولياليَ.
أو: سيروا لياليَ أعمارِكم وأيامَها لا تَلقَون فيها إلَّا الأمنَ.
* * *
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} سئموا أطيبَ العيشِ، وملُّوا
(4)
العافيةَ والترفُّهَ، وبَطِروا النعمةَ، فطلبوا الكَدَّ والتعبَ، كما طَلب بنو إسرائيل الثومَ والبصلَ مكانَ
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "للسائلة".
(2)
في (ف) و (ك): "القادم".
(3)
في (م): "كأنه".
(4)
في (ك): "وهو".
المَنِّ والسَّلْوى، وهو بأن
(1)
يَجعل اللّهُ تعالى بينهم وبين الشام مفاوزَ ليرَكبوا الرواحلَ ويتزوَّدوا الأزوادَ
(2)
، ويتطاولوا بها على الفقراء، فجعل اللّهُ لهم الإجابةَ بتخريب القرى المتوسِّطة.
وقرئ: {ربُّنَا باعَدَ}
(3)
على لفظِ الخبر، ومعناه على خلاف ذلك
(4)
، وهو استبعادُ مسائرهم على قصدِها ودنوِّها لفَرْط تنعُّمهم وترفُّههم، وعدمُ الاعتداد بما أُنعم عليهم فيه، كأنَّهم
(5)
تشاحُّوا على ربِّهم وشَكَوا إليه.
ومثله قراءةُ مَن قرأ: (ربُّنا بَعَّدَ)
(6)
، أو:(ربَّنا بَعُدَ) على النداء، ورفعِ (بينُ)
(7)
بإسناد الفعل إليه.
{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} حيث بَطِروا النعمةَ ولم يعتدُّوا بها.
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ؛ أي: عظاتٍ وعِبَرًا، يُتحدَّث بهم ويُتمثَّل، فيقال: تفرَّقوا أَيدي سَبَا.
{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} : وفرَّقناهم
(8)
.........................
(1)
في (ك): "أن".
(2)
في (م): "ويزدادوا الأزاود".
(3)
قراءة يعقوب. انظر: "النشر"(2/ 350).
(4)
سقط من (ك).
(5)
في (ك): "قيل كانوا".
(6)
نسبت لابن عباس وابن الحنفية وابن يعمر وآخرين. انظر: "المحتسب"(2/ 189)، و"المحرر لوجيز"(4/ 416).
(7)
نسبت لسعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 416).
(8)
في هامش (ف) و (ي): "عبارة القاضي: ففرفناهم، ولا يخلو ما فيها من سوء الأدب الناشئ عدم الوقوف عن فصاحة الواو الواقعة في كلام اللَّه تعالى. منه.".
غايةَ التفريق، لَحِقَ غسَّانُ بالشام، وأَنْمار بيثربَ، وجذام بتِهامة، والأَزْد بعُمَان.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} على الطاعة والبلاءِ {شَكُورٍ} للنِّعم في الرخاء.
* * *
(20) - {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ} بالرفع {ظَنَّهُ} بالنَّصب؛ أي: حقَّق عليهم ظنَّه صادقًا.
وقرئ: بنصب (إبليسَ) ورفع (ظنُّه)
(1)
؛ أي: وَجَدَهُ ظنُّه صادقًا.
وقرئ بتخفيف {صَدَّقَ}
(2)
على الوجهين:
ومعنى الأول
(3)
: صَدَقَ إبليسُ في ظنِّه، أو: صَدَقَ يَظنُّ ظنًّا، نحو: فعلتَه جهدَك؛ أي: أن تجهدَ جهدَك.
ومعنى الثاني
(4)
: قال له ظنُّه الصدقَ حين خيَّلَه إغواؤهم يقولون: صَدَقَكَ ظنُّك.
وبالتخفيف ورفعِهما
(5)
، على أنَّ (ظنُّه) بدلٌ منه؛ أي: صَدَقَ عليهم ظنُّ إبليسَ.
(1)
انظر: "المحتسب"(2/ 189)، و"الكشاف"(3/ 578).
(2)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد، والباقون بالتخفيف. انظر:"التيسير"(ص: 181).
(3)
أي: تخفيف (صَدَق) ورفع (إبليسُ) ونصب (ظنَّه)، وهي قراءة سبعية كما تقدم.
(4)
أي: تخفيف (صَدَق) ونصب (إبليسَ) ورفع (ظنُّه)، وهي قراءة شاذة كما تقدم. أما تشديد (صدَّق) مع كل من القراءتين فقد تقدم توجيهه، وكل القراءات مع توجيهها منقول من "الكشاف".
(5)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 121)، و"الكشاف"(3/ 578).
{فَاتَّبَعُوهُ} إنْ جعلنا الضمير هنا وفي {عَلَيهمْ} لبني آدم، كان كالبرهان على أنَّ أهلَ سَبَأ اتَّبعوا الشيطان فأَغواهم.
ومعنى صِدْقِ ظنِّ إبليسَ في تخييله إغواءَهم: أنَّه حين وجد آدمَ عليه السلام ضعيفَ العزم، وقد أَصغى إلى وسوسته، قال: إنَّ ذرِّيَّته أضعفُ عزمًا منه، فظنَّ بهم اتِّباعَه، وقال: لأُضلنَّهم ولأُغوينَّهم.
{إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قلَّل المؤمنين بالنسبة إلى الكفَّار على أنَّ {مِنَ} للبيان؛ أي: إلَّا فريقًا منهم المؤمنون؛ لقوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، وإنْ كان للتبعيض، فهم المخلَصون لقوله:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40].
* * *
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} ؛ أي: مِن تسلُّط واستيلاءٍ بالوسوسة والاستعلاء.
{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} : إلَّا ليَظهر علمُنا بإيمانِ مَن آمَنَ، وشَكِّ مَن شَكَّ؛ بتميُّزهم عن
(1)
مظاهر الرسول والمؤمنين.
وقرئ: (ليُعلَم) على البناء للمفعول
(2)
.
والمرادُ بالعلم متعلَّقُه؛ ليترتَّب عليه الجزاءُ، ولذلك علِّل التسلُّطُ به.
(1)
في (ف) و (ك): "على".
(2)
نسبت للزهري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
وفي
(1)
قوله: {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} وتغيير نظمِ الصِّلتين بإيرادِ الجملة الاسميَّة، وتنكيرِ الشَّكِّ، وجعلِه مَقَرًّا لهم، ما لا يخفى؛ أي: ممَّن هو راسخٌ في الشَّكِّ عظيمٌ لا يَرعوي منه؛ أي: لا يتوب وعلى الكفر يموت.
{وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} محافظٌ، والزِّنَتان متآخِيَتان
(2)
.
* * *
{قُلِ} للمشركين: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} حُذف مفعولا {زَعَمْتُمْ} ، والتَّقديرُ: زعمتُموه آلهةً، أمَّا الأول: فلطول الموصول بصلته، وأمَّا الثاني: فلقيام صفته مقامه، وهو:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهو حذفٌ شائعٌ إذا كان معلومًا، ولا يستقيم أن يكون هو مفعولَه الثاني؛ لأنَّ قولك: هم مِن دون اللَّه، لا يلتئم
(3)
كلامًا ولا
(4)
{لَا يَمْلِكُونَ} ، لأنَّهم لم يَزعموا ذلك بل نقيضَه، والمعنى: ادعُوهم فيما يهمكُّم مِن جَلْبِ نفعٍ ودفعِ ضُرٍّ، كما تَدْعون اللّهَ تعالى، هل يستجيبون لكم بشيء؟!.
{لَا يَمْلِكُونَ} بأنفسهم واختيارِهم {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مِن خيرٍ أو شَرٍّ، أو نفعٍ
(1)
في (ك): "في".
(2)
أي: فعيل ومفاعل يردان بمعنى واحد كثيرًا؛ كالجليس بمعنى المجالس، وليس المحافظ بمعنى: المواظب المداوم، بل بمعنى: الوكيل القائم على أحواله وأموره. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 200).
(3)
في (ف) و (ك): "يتم".
(4)
في (ف) و (ك) و (م): "و" دون كلمة "لا".
أو ضُرٍّ، استئنافُ الجوابِ عنهم بعدَ أمرِهم إشعار بأنَّه متعيِّن ضروريّ لا يَحتمل غيرَه، ولا يُمكنهم الإفصاح عنه لكونه حجَّةً عليهم.
قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} تعميم عرفيٌّ؛ أي: لا يملكون شيئًا مّا في موضعٍ مّا، أو لأنَّ آلهتهم بعضها سماويَّة كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضيَّة كالأصنام، أو لأنَّ الأسبابَ القريبةَ للخير والشَّرِّ إمَّا سماويَّة وإمَّا أرضيَّة، والجمل المعطوفة على الاستئنافية كلُّها لبيان منافاةِ صفاتهم للألوهيَّة بالكلية إلزامًا لهم.
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} : في هذين الجنسين؛ مِن شركةٍ في خَلْقهما ولا في ملكِهما.
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} : مِن مُعِينٍ
(1)
يُعينه على خَلْقهما وتدبيرهما، يعني أَنَّهم في العَجْز والبُعْد عن صفات الربوبيَّة بهذه المثابة، فكيف يصحُّ أنْ يُعبَدوا ويُدعَوا ويُرجَوا كما يُعبَد اللّهُ تعالى ويُدعى ويُرجى؟!.
* * *
{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} ؛ أي: لا تَنفعهم مِن جهة الشفاعة أيضًا كما تزعمون
(2)
، إذ لا تنفع الشفاعة عنده {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} قرئ على البناءَين
(3)
.
(1)
في (م): "عون".
(2)
في (ف) و (ك): "تدعون".
(3)
قرأ بالبناء للمجهول أبو عمرو وحمزة والكسائي، والباقون للمعلوم. انظر:"التيسير"(ص: 181).
أي: إلَّا لمن أَذِنَ - له أن يَشْفَعَ، أوْ: لمن أَذِنَ أن يُشفَعَ له
(1)
، فإنَّ اللامَ المتعلِّقة بالشفاعة قد تكون للشافع، وقد تكون للمشفوع له، والأليق بهذا الموضع أن تكون بمعنى المشفوع له واللام الثانية كالثابتة
(2)
في قولك: أذن لبزيدٍ لعمرٍو؛ أي: لأجْله، والمعنى: لا تنفع الشفاعةُ إلَّا كائنةً لمَن وقع الإذنُ للشفيع لأجله، حتَّى يكون ردًّا
(3)
لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه؛ أي: لا تنفعكم شفاعتهم؛ لأنَّهم لا يُؤذَنون أن يشفعوا.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} غايةٌ لمفهوم الكلام، فإنَّ توقُّفَ الشفاعةِ على الإذن مُؤذِنٌ بأنَّ ثمَّة انتظارًا للإِذنِ وفزعًا للراجينَ للشفاعة والشفعاء مِن أنْ لا يُؤذَن لهم، كأنَّه قيل
(4)
: يتربصونَ فزعينَ حتَّى كُشفَ الفزعُ عن قلوبهم بالإذن في الشفاعة.
والتفزيع: كشف؛ الفزع وإزالتُه.
وقرئ: مخفَّفًا بمعنى المشدَّد
(5)
.
وقرئ: بالراء المهملة والغين المعجمة
(6)
؛ أي: نُفِيَ الوجلُ عنها وأُفنيَ، من قولهم: فرَغَ الزادُ، إذا لم يبقَ منه شيءٌ.
(1)
الظاهر من كلام المفسرين أن كلا هذين الوجهين يصلح على كل من القراءتين لا أن أحدهما على القراءة بالمبني للمعلوم والآخر على القراءة بالمبني للمجهول. انظر: "الكشاف"(3/ 580)، و"تفسير البيضاوي"(4/ 246)، و"روح المعاني"(22/ 89 - 90).
(2)
في (ع) و (ي): "كالثالثة"، وسقطت من (ف) و (م)، والمثبت من (ك).
(3)
في (ك): "رادًا".
(4)
في (ك): "قال".
(5)
نسبت للحسن. انظر: "المحتسب"(2/ 191).
(6)
أي: (فُرِّغَ)، ذكرها الزمخشري دون نسبة، ونسبها أبو حيان لابن عمر والحسن وقتادة وغيرهم. انظر:"الكشاف"(3/ 580)، و"البحر"(17/ 441).
و: (فَرغَ) مشدَّدًا ومخفَّفًا
(1)
.
أصل {فُزِّعَ} بالزاي المعجمة: فُزِّعَ الوجلُ عنها، ثم تُركَ ذِكْرُ الوَجَلِ وأُسند إلى الجارِّ والمجرور، كما تقول: دُفِعَ إلى زيدٍ، إذا عُلمَ المدفوعُ.
وأصل المخفَّف: فَزِع
(2)
الوَجَلُ؛ أي: انتفى عنها وفَنيَ، ثم حذف الفاعل وأُسند إلى الجارِّ والمجرور.
{قالُوْا} ؛ أي: قال بعضُهم لبعضٍ: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في الشفاعة {قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قالوا: قال القولَ الحقَّ، وهو الإذنُ بالشفاعة لمَن ارتضى مِن المؤمنين.
وقرئ: (الحقُّ) بالرفع
(3)
؛ أي: مقولُه الحقُّ.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} : ذو العلوِّ والكبرياء، وليس لمَلَكٍ مُقرَّب ولا نبيٍّ مُرسَل أنْ يتكلَّم ذلك اليومَ إلَّا بإذنه وأنْ يشفع إلَّا لمَن ارتضى.
* * *
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تقريرٌ لقوله: {لَا يَمْلِكُونَ} ، ولذلك أَمَرَ بالجواب بعد سؤالهم بقوله:
{قُلِ اللَّهُ} لتعيُّنه عند العقل، وفيه إشعارٌ بأنَّهم إنْ سكتوا وتلعثموا في الجواب
(1)
قرأ الحسن وقتادة وأبو المتوكل: (فَرَّغَ) بالتشديد مبنيا للفاعل، وقرأ الحسن أيضًا كذلك إلا أنه خفف الراء. انظر:"المحتسب"(2/ 192)، و"البحر"(17/ 441).
(2)
في (ع) و (ف): "فرغ"، وسقطت الجملة من (م) و (ي)، والمثبت من (ك).
(3)
نسبت لابن أبي عبلة. انظر: "البحر المحيط"(17/ 443).
مخافةَ الإلزام، فهم مُقِرُّون بقلوبهم؛ لعِلْمهم أنْ لا جوابَ إلَّا هذا، وإن ألجم العناد وحبُّ الشرك أفواههم أنْ ينطقوا به.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ؛ أي: وإنَّ أحدَ الفريقين: مِن الموحِّدين الذين يخصُّون الرازقَ وحده المتفرِّدَ بالقدرة الواجبَ لذاتِهِ بالعبادة، ومن المشركين الذين يشركون الجمادَ النازلَ في أدنى مراتب الإمكان، لعلى أَحَدِ الأمرين مِن الضلال والهدى، وهو غايةٌ في الإنصاف الذي كلُّ مَن سمعه مِن الموافق والمخالف رضيه.
وفي طيِّهِ - بعد ما تقدَّم مِن التَّقرير البليغ - تعريضٌ بمَن هو في ضلالٍ مِن الفريقين ومَن هو على الهدى أبلغُ مِن التصريح؛ لأنَّه في صورة الإنصاف المُبكِّت للخصم المشاغِب.
وإنَّما خُولف بين حرفَي التعدية؛ لأنَّ المُحِقَّ كالمستعلي على جوادٍ يَركضُه حيث يَشاءُ، أو على منارٍ مُشرفٍ على كلِّ أحدٍ مطَّلع على كلِّ شيء، والمبطلَ كالمحبوس في مطمورة لا يمكنه التفصِّي منها، لا يرى ما على وجه الخلاص، أو كالمنغمسِ في ظلامٍ مُرتبِك لا يَرى وجهةً يتوجَّه إليها، ثم أَتبعه بقوله:
(25) - {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بما هو أبلغُ مِن الأول في إرخاءِ العَنانِ والإنصاف، وبالغ فيه حتَّى بلغَ ذروةَ الإخبات
(1)
، حيث نسب الإجرامَ إلى نفسِه وأصحابِه، والعملَ إليهم، وهو بناءٌ على الفَرْض والتَّقديرُ، فلا يلزم إجرامُهم ولا يخلو عن التعريضِ المذكورِ أيضًا مع التهكُّم.
(1)
الإخبات: الخضوع والتذلل، والمراد هنا: حتَّى بلغ ذروة إخباتهم وإسكاتهم.
(26) - {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} .
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يومَ القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} : يَحكم ويفصل بأنْ يُدخِل المحقِّين الجنةَ والمبطلينَ النارَ.
{وَهُوَ الْفَتَّاحُ} : الحاكم الفصل في القضايا المنغلقة {الْعَلِيمُ} بما ينبغي أنْ يقضى به.
* * *
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} : استفسار عن شُبهتهم بعد إلزامهم الحجَّةَ؛ تبصيرًا إيَّاهم بخطائهم العظيم، وزيادةً في التبكيت؛ أي: أَرونيهم بأيِّ صفةٍ أَلحقتموهم به في استحقاقِ العبادةِ، وأشركتُموهم به في التعظيم، وكيف قايَسْتُم الجمادَ الذي هو في غاية العَجْز والذِّلَّة، بالقادر الذي قَهر كلَّ شيء بقدرته
(1)
.
{كَلَّا} : ردعٌ لهم عن دينهم
(2)
بعدما بصَّرهم بإبطاله عند المقايسة.
{بَلْ} إضرابٌ بعد الرَّدع عن الشرك إلى حَصْر الإلهيَّة في اللَّه تعالى ومحضِ التوحيد.
{هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : الموصوفُ بالغَلَبة وكمالِ القدرة والحكمةِ، تنبيهٌ لهم على تفاحش غلطهم وتعامِي بصائرهم، كأنَّه قال: أينَ شركاؤكم مِن هذا الوصف؟! وهو راجعٌ إلى اللَّه تعالى، أو ضميرُ الشأن كما في قوله: {قُل هُوَ اللَّهُ
(1)
في (م): "بالقدرة".
(2)
في (ك): "ذنبهم".
أَحَدُ} وكيف ما كان فهو دالٌّ على انفراده بالوصفين، الملقِم إيَّاهم الحجرَ
(1)
.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} : {كَافَّةً} مِن كفَّ: إذا منعَ، صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: إرسالةً عامَّةً محيطةً بهم، مانعةً لهم مِن أنْ يَخرج منهم أحدٌ.
وقال الزجَّاج: جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ
(2)
، فجعله حالًا مِن الكاف، وحقُّ التاء على هذا أن يكون للمبالغة كتاءِ الرَّاوية والعَلَامة.
ويجوزُ جعلُه حالًا مِن (الناس) متقدِّمةً، فإنَّ تقدُّم الخالِ على صاحبه المجرورِ مختلَفٌ فيه؛ فذهب أبي عليٍّ وابنِ كيسان وابنِ برهان وابنِ مالك إلى أنَّه يجوز، وهو الصحيح، ولا حاجة حينئذٍ إلى أنْ تُتأوَّل اللَّام بمعنى (إلى)؛ فإنَّ (أرسل) يتعدَّى باللام، كقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79].
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} : للمطيعين والعاصين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : فيَحملهم جهلُهم على مخالفتك.
* * *
(29) - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَيَقُولُونَ} مِن فَرْط تعنُّتهم لا مِن فَرْط جهلِهم، ولذلك عطفٌ بالواو دون الفاء:
(1)
في (ك): "الملهم إياهم الحجة".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 254).
{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} يعنون المبشَّرَ به والمنذَرَ عنه، أو الموعودَ بقوله:{يَجْمَعُ بَيْنَنَا} .
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يخاطبون به رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ولمَّا كان سؤالهم عن تعيين الميعاد تعنُّتًا وإنكارًا لا استرشادًا، جاء الجوابُ تهديدًا ووعيدًا مطابقًا لِمَا قصدوه:
* * *
(30) - {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} .
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} الميعادُ ظرفُ الوعد مِن مكانٍ أو زمانٍ، وهو هاهنا الزمانُ، والإضافةُ للتبيين، كما تقول: سَحْقُ ثوبٍ
(1)
، قيل: ويؤيِّده أَنَّه قُرئَ: (ميعادٌ يومٌ)
(2)
فأُبدل منه اليوم، وقرئ:(يومًا)
(3)
على التعظيم، وتقديره: لكم ميعادٌ، أعني: يومًا، ويجوز أن يكون الرفع أيضًا على التعظيم.
{لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} ؛ أي: إذا فاجأكم لا تستطيعونَ عنه تأخُّرًا ولا عليه تقدُّمًا.
* * *
(1)
السحق: الثوب الخلق الذي انسحق وبلي، ويضاف للبيان فيقال: سحق بُرْدٍ، وسحق عمامة، وسحق ثوب. انظر:"النهاية"(مادة: سحق)، و"المغرب" (ص: 386).
(2)
انظر: "الكشاف"(3/ 583)، و"البحر المحيط"(17/ 450).
(3)
أي: (ميعادٌ يومًا)، نسبت لليزيدي. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مِن الكتب المتقدِّمة المنزلةِ على الأنبياء عليهم السلام الدالَّة على البعث.
روي أنَّ كفارَ مكَّة سألوا أهلَ الكتاب عنه، فأَخبروهم أنَّهم يَجدون نعتَه في كتبهم، فغضبوا وقالوا ذلك.
وقيل: (الذي بين يديه) القيامةُ، ثم أخبر عن صورةِ حالِهم في الآخرة فقال له عليه السلام أو لكلِّ مَن يستحقُّ أنْ يُخاطَب:
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ؛ أي: لو ترى في الآخرة موقفهم عند المحاسبة وهم يتحاورون
(1)
ويتراجعون
(2)
القولَ، وجواب (لو) محذوف للدلالة على ما لا يدخل تحت الوصف مِن العَجَب والهولِ والفزعِ.
{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ؛ أي: الأَتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} للرؤساء: {لَوْلَا أَنْتُمْ} : لو لا إضلالُكم وصدُّكم عن الإيمان {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} باتِّباع الرسول.
* * *
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} أتى بصيغة المضارع تصويرًا للحال، ثم عدل عنها إلى الماضي، ولذلك ترك العاطف هنا.
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "يتجاوزون".
(2)
في (ك): (ويراجعون).
{أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} قد يُتَّسع في ظروفِ الزمانِ ما لا يُتَّسع - في غيرها؛ فيُضاف بعضُها إلى بعضٍ وإلى الجملِ، فلذلك أضيف {بَعْدَ} إلى {إِذْ} ، و {إِذْ} إلى الجملة.
{بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أَولى الاسمَ الهمزةَ، لإنكارِ أنْ يكونوا هم الصادِّين إيَّاهم عن الهدى بعد إذ جاءهم وتمكَّنوا منه، وإثباتِ أنَّهم الذين صُدُّوا باختيارهم وآثروا الضلالَ على الهدى، ولذا أضرب عن دعواهم الإضلالَ عليهم إلى أنَّهم هم الذين أَجرموا بكسبهم
(1)
.
* * *
{وَقَالَ} عطفٌ هذا الكلام على كلامِهم الأول بالواو
(2)
دون كلام المستكبرين في جوابهم؛ لأنَّه ابتداءُ جوابٍ حقُّه الاستئنافُ.
{الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} كرَّر المستضعفون عليهم، وقابلوا إضرابهم بقولهم:
{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} مبطلينَ إضرابَهم بالإضرابِ عنه إلى أنَّ الإضلالَ كان مِن جهةِ مكرِكم الدائم، وحملِكم إيَّانا على الشرك واتخاذ الأنداد، لا مِن جهتنا واختيارِنا، وأُضيف المكر إلى الظرف على الاتِّساع وإجراءِ الظرف مجرى
(1)
في (ك): "بسببهم".
(2)
سقط من (ك).
المفعول به؛ أي: مكرُكم لنا في الليل والنهار، ويجوز أن يكون إضافةُ المكر إلى الليل والنهار مِن باب الإسناد المجازي، وإضافةِ المصدر إلى الفاعل؛ بجعل الليل والنهار ماكرين.
وقرئ: (مكرٌ الليلَ والنهارَ) بالتنوين ونصبِ الظرفين
(1)
على الأصل.
و: (مَكَرّ الليلِ والنهارِ) بالرفع والنصب
(2)
، مِن الكُرُور.
أمَّا الرفع: فعلى الابتداء أو الخبر؛ أي: سببُ ذلك مكرُكم أو مكرُّكم، أو مكرُكم أو مكرُّكم سبب ذلك.
وأمَّا النصب: فعلى المصدر؛ أي: تكرُّون الإغواءَ مَكَرَّ الليلِ والنهارِ.
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} {إِذْ} بدلٌ من {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ؛ أي: مكرُكم في زمانِ أمركم إيَّانا بالكفر، أو نُصِبٌ على الظرف لـ {مَكْرُ} ، أو تعليلٌ، أي: لأمركم إيَّانا بالكفر.
{وَأَسَرُّوا} ؛ أي: أسرَّ الظالمون الموقوفونَ الشاْملونَ للفريقين {النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ؛ أي -: أَخفَوا الكلامَ بالندامة فيما بينهم على سبيل المسارَّة والتناجي ندامةَ المستكبرين على الضلال والإضلال، وندامةَ المستضعفين على الضلال والاتِّباع، أو أظهروها على سبيل الجَزَع والتضرُّع، على أنَّ الهمزة للإزالة، كما في قولك: أَعتبتُه وأَشكيتُه.
{وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} مِن باب وضعِ الظاهر موضعَ الضمير؛
(1)
نسبت لقتادة. انظر: "المحتسب"(2/ 193).
(2)
نسبت بالرفع لسعيد بن جبير وأبي رزين وغيرهما، ونسبت بالنَّصب لابن جبير وطلحة. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122)، و"المحتسب"(2/ 193).
أي: في أعناقهم؛ للتصريح والتنويه بذمِّهم، والدلالةِ على أنَّ الكفر هو الذي استحقُّوا به الإغلال.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ أي: ما يُفعَل بهم ما يُفعَل إلَّا جزاءً على أعمالهم، وتعدية (يجزي) لتضمينه معنى يقضي، أو بنزع الخافض.
* * *
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} : تسليةٌ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنَّ الرسل كلَّهم مُنُوا بما مُنِيَ به مِن قومه مِن التكذيب والمفاخرة بالأموال والأولاد.
{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} تخصيصُ المتنعِّمين بذلك لأنَّ معظمَ الدواعي إلى الكفر والإنكار: التكبُّرُ والمفاخرةُ بالأموال والأسباب التي هي منشأ الطُّغيان، ولذلك ضمُّوا التهكُّمَ والمفاخرةَ على التكذيب فقالوا:
{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} على
(1)
مقابلة الجمعِ بالجمع
(2)
؛ لأنَّ قولَه: {مِن نَذِيرٍ} في سياق النفي للعموم، ولأنَّ الأنبياءَ عليهم السلام كلَّهم متَّفقون في إثبات التوحيد والبعث.
* * *
(35) - {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} .
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} فنحن أَولى بما تدَّعون إنْ أَمكَن، وأُوليَ النفيُ الاسمَ في قوله:
(1)
في (م): "لأن"، وفي (ع) و (ي):"لا"، وسقطت الجملة من (ك)، والمثبت من (ف).
(2)
قوله: "لا على مقابلة الجمع بالجمع" سقط من (ك).
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لأنَّهم اعتقدوا أنَّ اختصاصهم بالغنى وأسباب التنعُّم
(1)
والترفُّه إنَّما هو لكرامتهم عند اللَّه تعالى، أو قاسوا أمرَ الآخرةِ على أمرِ الدنيا، فقالوا ذلك على أنَّ البعث إنْ وقع لم يكونوا بمعذَّبين؛ لأنَّهم أكرمُ على اللَّه تعالى مِن أنْ يعذِّبهم، إنَّما المعذَّبون مَن يهون عند اللّهِ مِن أهل الفقر والفاقة وسوء الحال في الدنيا، وفيه استهزاءٌ بالأنبياء عليهم السلام وأصحابهم مِن الفقراء، واستهانةٌ بهم؛ أي: إنْ صدقَ وعدُكم بالبعث فإنَّهم المعذَّبون لا نحن، كما في الدنيا.
* * *
{قُلْ} ردًّا لحسبانهم: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ؛ أي: يوسِّع على مَن يشاء، ويُضيِّق على مَن يشاء؛ مُكرَّمًا كان عنده أو مُهانًا، فلا التوسيعُ يدلُّ على الإكرام، ولا التضييقُ على الإهانة، ولا تتعلَّق السعادة والشقاوة الأخرويتان بتوسيع الرزق الدنيويِّ وتضييقه.
قيل: ولو كان ذلك في كرامةٍ
(2)
وهوانٍ يُوجبانه، لم يكن بمشيئته.
وفيه نظرٌ؛ لِمَا تقرَّر
(3)
في موضعه أنَّ المشيئةَ تُجامِع الإيجاب، إنَّما المنافي له القدرةُ على الفعلِ والتركِ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك؛ لعدم وقوفهم على مواقف
(4)
الحكمة
(1)
في (ك) و (ي): "النعم".
(2)
"في كرامة" كذا في النسخ، وعند البيضاوي:(لكرامة).
(3)
في (ك): "تقدم".
(4)
في (ك): "موافق".
وأسرارها، فيظنُّون أنَّ الغنى والفقرَ وكثرةَ الأولاد وقلَّتَهم في الدنيا
(1)
؛ للكرامة والهوانِ عند اللَّه تعالى
(2)
، وقرَّر ذلك بقوله:
* * *
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} أَخبر عن الأموال والأولاد بـ (التي) على إرادة الجماعة؛ لأنَّ الجمع المكسَّر يستوي في تأنيثه العقلاءُ وغيرُهم.
وقرئ: {باللاتي}
(3)
؛ لأنَّها جماعاتٌ، وقرئ:(بالذي)
(4)
؛ أي: بالشيءِ الذي.
و {زُلْفَى} في محلِّ النصب على المصدر؛ أي: تقرِّبكم قربةً، كقوله:{أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17].
{إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} الظاهر أنَّه استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: لكن مَن آمَنَ وعمل صالحًا فإيمانه وعمله يُقرِّبانه.
وقيل: استثناء متَّصلٌ مِن مفعول {تُقَرِّبُكُمْ} ؛ أي: لا تُقرِّب الأموالُ والأولادُ أحدًا إلَّا المؤمنَ الصالحَ الذي يُنفق أموالَه في سبيل اللَّه تعالى، ويعلِّم أولادَه الخيرَ والفقهَ في الدِّين، ويُربِّيه على الصلاح، أو مِن {أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} على حذف المضاف؛ أي: إلَّا أموالُ مَن آمَنَ وأولادُه.
(1)
"في الدنيا": ليست في (م).
(2)
بعدها في (م): "في الدنيا".
(3)
نسبت للحسن. انظر: "الكشاف"(3/ 586)، و"البحر المحيط"(17/ 457).
(4)
انظر: المرجعين السابقين.
{فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} ؛ أي: تُضاعف لهم حسناتهم؛ الواحدة عشرًا إلى سبع مئةٍ وأكثر، مِن إضافةِ المصدر إلى المفعول؛ أي: أولئك لهم أن يُجاوزوا الضعف.
وقرئ: {جَزَاءُ الضِّعْفِ} ؛ على الأصل، و {جَزَاءُ الضِّعْفِ} بنصبِ {جزاءً} ورفع ميه {الضعفُ}
(1)
؛ أي: لهم الضعفُ جزاءً، على أنَّه تمييز، أو مصدر لدلالة {لَهُمْ} على فِعْله؛ أي: يُجزَون جزاءً، ويجوز كونه حالًا تسميةً بالمصدر.
و: (جزاءٌ الضعفُ) برفعهما
(2)
؛ على أنَّ (الضعفُ) بدل مِن (جزاءٌ).
والفاء في {فَأُولَئِكَ} للسببية، وبالغ بها وباسم الإشارة، وبقوله:{بِمَا عَمِلُوا} في أنَّ الموجِبَ للكرامة والزُّلفى عند اللَّه تعالى هو الإيمانُ والعملُ الصالحُ لا غيرهما.
{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} ؛ أي: في غُرَفِ
(3)
منازل الجنَّة، وقرئ:{في الغرفة}
(4)
، على إرادةِ الجنس.
{آمِنُونَ} ؛ أي: مِن كلِّ مَخُوفٍ ومكروهٍ.
* * *
(38) - {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} ؛ أي: في إبطالها وصرفِ الناس عنها {مُعَاجِزِينَ} مسابقين لأنبيائنا، أو ظانِّين أنَّهم يَفوتوننا.
(1)
قرأ بها يعقوب في رواية رويس. انظر: "النشر"(2/ 351).
(2)
نسبت لقتادة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
(3)
سقط من (ك).
(4)
قرأ بها حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 530).
{أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} عبَّر عن موضعِ العذابِ بالعذابِ مبالغةً.
* * *
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} إنَّما أعاده لأنَّ ما سبق باعتبار الأشخاص، وهذا باعتبار الأوقاتِ بالنسبة إلى شخصٍ؛ بدلالة {لَهُ} فيكون أدلَّ على المقصود.
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوَضًا؛ إمَّا عاجلًا أو آجلًا، لا مُعوِّضَ له سواه
(1)
.
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ؛ لأنَّه قادرٌ على مواصلةِ رزقِه وزيادةِ ما شاءَ لمَن يشاءُ بغير حسابٍ، وليس العبدُ كذلك، وأمَّا أنَّه رازقٌ حقيقةً دون العبد، فلا يناسب تفضيلَ أحدِهما على الآخَرِ؛ لأنَّه يقتضي الشركة في أصلِ الفعلِ حقيقةً.
* * *
{وَيَوْمَ} نصب بـ {قَالُوْا} ، أو بـ: اذكر {يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} ؛ أي: المستكبرين والمستضعفين.
{ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} ؛ تقريعًا للمشركين وتبكيتًا وإقناطًا لهم عمَّا يتوقَّعون مِن شفاعتهم، فهو واردٌ على المَثَل السائرِ: إيَّاكِ أَعني واسمعي يا
(1)
في (م): "لا معوض سواه"، وفي (ع) و (ي):"بعوض سواه".
جارَة، وتخصيص الملائكة لا لأنَّهم أشرفُ معبودهم؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أشرفُ منهم، ولا لانحصار صلاحيةِ الخطاب فيهم، بل لأنَّ مبدأَ الشرك عبادتُهم.
* * *
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} : تنزيهًا لكَ أنْ نَعبُدَ معكَ غيرَك {أَنْتَ وَلِيُّنَا} أنت
(1)
الذي نواليه {مِنْ دُونِهِمْ} لا موالاةَ بيننا وبينهم، أرادوا بإثباتِ موالاةِ اللَّه تعالى ونفيِ موالاتهم براءَتهم مِن الرضا بعبادتهم؛ لأنَّ تخصيصَ موالاتهم به تعالى وإثباتَ معاداتهم إيَّاهم ينافي ذلك، ثم أضربوا عن عبادتهم لهم إلى إثباتِ عبادتهم للجِنِّ بقولهم:
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} ؛ أي: الشياطينَ الذي يخيِّلونهم ذلك؛ لأنهم أطاعوهم في عبادة غيرِ اللَّه تعالى، أو يتوهَّمون الصورَ الخبيثةَ ويحسبونها ملائكةً
(2)
.
{أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} إنَّما قال: {أَكْثَرُهُمْ} لأنَّ عبادةَ بعضِهم كان عن وهمٍ واحتمالٍ، لا عن تصديقٍ واعتقادٍ.
* * *
(1)
"أنت": ليست في (م).
(2)
قيل: صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. انظر: "الكشاف"(3/ 588).
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} إذ الأمرُ يومئذٍ للّه تعالى، فلا يملك أحدٌ شيئًا مِن الضُّرِّ والنفع لا لغيرِه ولا لنفسِه، وإنَّما نفى الملك دون القدرةِ؛ لِمَا في البعض مِن القدرة على الشفاعة بإذن اللَّه تعالى.
{وَنَقُولُ} عطفٌ على {لَا يَمْلِكُ} مبيِّن للمقصودِ من تمهيده {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} تخصيصُ العقاب بالذين ظلموا لتصدير المقاولة بهم في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} فختم باختصاصهم بالعقاب؛ لأنَّ الكلام فيهم، وفي قوله:{الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} دلالة قاطعة على أنَّ عودَ الضمير على المضاف إليه لا يُخلُّ حُسْنَ الكلامِ إذا لم يكن في محلِّ الاشتباه.
* * *
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} : آياتُ القرآن {بَيِّنَاتٍ} واضحاتِ الدلالاتِ على إعجازه {قَالُوا مَا هَذَا} يعنون رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم {إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} الصَّدُّ: الصَّرْفُ عن الخير {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} : عن دينِ آباءكم.
{وَقَالُوا مَا هَذَا} يريدون القرآنَ {إِلَّا إِفْكٌ} كَذِبٌ {مُفْتَرًى} على اللَّه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} : لأمرِ النبوَّة، أو للإسلام، أو للقرآن، والأول - أي: إطلاق الكذبِ عليه - باعتبار معناه، وهذا - أي: إطلاقُ السحر عليه - باعتبار لفظِه وبلاغتِه.
{لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا} ؛ أي: الحقُّ {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهرٌ سحريتُه.
وفي الإشارة بـ (هذا) في المواضع الثلاثة تحقيرٌ دالٌّ على جراءتهم على اللّهِ تعالى ورسولِه عليه السلام وكتابِه ورسالاته
(1)
، فلهذا قُوبِلت بما يدلُّ على غضبٍ شديدٍ، وإنكارٍ عظيمٍ، وتعجيبٍ مِن كفرهم بليغٍ، بإيقاع الموصول والصلة موقع الضمير في قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وتعريف (الحقِّ)، وإيرادِ {لَمَّا} الدالَّة على مبادهتهم
(2)
بالكفر، وتسميةِ الحقِّ النَّيِّر بالسحر البَيِّن.
* * *
(44) - {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} .
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} : يَقرؤونها وفيها
(3)
دليل على صحَّة الشركة أو أمرٌ به، وقرئ:(يُدَرِّسُونها)
(4)
، مِن التدريسِ؛ وهو تكريرُ الدرس، أو للتكثير؛ مِن دَرَسَ الكتابَ ودَرَّسَ الكتبَ، و:(يَدَّرِسونها) بتشديدِ الدَّالِ
(5)
؛ يَفتعلون مِن الدَّرْس.
{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} يَدعوهم إليه، ويُنذرهم العقابَ على تركه، وقد بَانَ مِن قبلُ بالبرهانِ وجهُ بطلانِه، فمِن أين وقعت لهم الشبهة؟! وهذا غايةٌ في تجهيلهم وتسفيهِ رأيهم.
ويجوز أن يكون معناه: أنَّهم، قوم جُهَّالٌ أُمِّيُّون لا كتابَ لهم ولا نبيَّ، نشؤوا على طباعهم الجاسية في الجاهلية، لا تَثَبُّتَ لهم بوجهٍ ولا تمسُّكَ بشبهة، كقوله: {أَمْ
(1)
في (ك): "ورسالته".
(2)
أي: مسارعتهم؛ لأن (لما) تفيد وقوعهما في وقت واحد دون فاصل. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 209).
(3)
أي: في الكتب. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 209).
(4)
انظر: "البحر المحيط"(17/ 465).
(5)
نسبت لأبي حيوة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21] ثم هدَّدهم بقوله:
* * *
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كما كذَّبوا {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} وما بلغَ هؤلاء عُشْرَ ما آتينا
(1)
أولئك مِن القوَّة والقدر، وطولِ الأعمار، وعِظَمِ الأجرامِ، وكثرةِ الأموال.
وقيل: معنى المعشار: عُشْرُ العُشْرِ.
{فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فحين كذَّبوا رُسُلي
(2)
جاءهم إنكاري، فكيف كان حالهم في التدمير والاستئصال، حيث لم يُغنِ عنهم استظهارُهم بما هم به مستظهِرونَ، فما بالُ هؤلاء.
ويجوز أن يكون المعنى: وما بَلَغَ أولئك عُشْرَ ما آتينا هؤلاء مِن البيِّنات والهدى، فكذَّبوا رسلي فاستؤصلوا مع أنَّ الحججَ والبيِّنات لم تتكرَّر عليهم كما تكرَّرت على هؤلاء، فكيف كان حالهم في إنكاري، فكيف يكون حالُ هؤلاء مع تكرُّر البيِّنات وتكثُّرها، فليعتبروا بحالهم وليَحْذَروا مِن مثلها.
{فَكَذَّبُوا} عطفٌ على {وَكَذَّبَ الَّذِينَ} عطفَ المقيَّدِ على المُطلَق بالفاء السببية؛ أي: فعلوا التكذيبَ وأَقدموا عليه حتَّى تعوَّدوا به، فصار سببًا لتكذيب رُسُلي، ويجوز أن يعطف على {مَا بَلَغُوا} كقولك: ما بَلَغَ زيدٌ معشارَ فَضْلِ عمرٍو فيُفضَّلَ عمرٌو عليه.
(1)
في النسخ عدا (ف): "آتيناهم".
(2)
في (ف) و (م): (رسلهم).
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ} أنصحُ لكم {بِوَاحِدَةٍ} بخصلةٍ واحدةٍ، إنْ فَعَلتم أَصبتم الحقَّ وتخلَّصتم، وفسَّرها بقوله:
{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هي أن تقوموا، والمرادُ: القيامُ مِن مجلسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون عطفَ بيانٍ؛ لأنَّ {بِوَاحِدَةٍ} نكرةٌ، و {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} معرفةٌ تقديرُه: قيامُكم للّه، والتخالُف في عطفِ البيانِ لم يذهب إليه ذاهب
(1)
.
{مَثْنَى وَفُرَادَى} : متفرِّقين اثنينِ اثنينِ، متناظِرِين على النَّصَف
(2)
دونَ
(1)
في هامش (ف) و (ي): "مذهب البصريين أن يكون معرفة من معرفة ومذهب الكوفيين أن يتبع ما قبله في التعريف والتنكير".
قلت: والذي جوز عطفٌ البيان هنا هو الزمخشري، قال الآلوسي: والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف، وقد صرّح ابن مالك في "التسهيل" بنسبة ذلك إليه، وهو من مجتهدي علماء العربية، وجوِّز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها، وهذا إمام الصناعة سِيْبَويَه يسمي التوكيد صفة وعطف البيان صفة، ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤوَّلًا بها دائما غير مسلم. انظر:"الكشاف"(3/ 579)، و"التسهيل" (ص: 175)، و"روح المعاني"(22/ 131). وجاء تسمية التوكيد صفة في "الكتاب"(2/ 351 و 359 و 378 و 379 و 381 و 385 و 391)، وتسمية عطفٌ البيان صفة (2/ 192).
قلت: وفي قول الآلوسي: (وجوِّز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل) نظر؛ لأن المعروف هو العكس؛ أي: كثيرًا ما يعبر عن عطفٌ البيان بالبدل، وقد يكون بالصفة كما فعل سِيْبَويَه، أما التعبير بعطف البيان فالأظهر أنه مقصود بذاته، ولعله لهذا أخره الآلوسي وساقه بصيغة المجهول.
(2)
في (ف) و (ك): "النصفة".
العَصَبةِ
(1)
والجدالِ، أو: واحدًا واحدًا متفكِّرين؛ فإنَّ الاجتماعَ والازدحامَ ممَّا يُشوِّش الخواطرَ
(2)
، ويُعمِي البصائرَ، ويُهيِّج الفتنَ والتخاصُمَ.
أو: تعزموا
(3)
بهذا الأمر؛ من قولهم: قامَ بالأمرِ: إذا جَدَّ فيه، ومعنى {لِلَّهِ}: خالصًا لوجهِ اللَّه، مُعرِضًا عن المراءِ والتقليد.
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} في أمرِه عليه السلام، ومحلُّه الجرُّ على البدل أو البيان
(4)
، أو الرفعُ أو النصب، بإضمار: هو، أو: أعني.
{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (ما) نافية متعلِّقة بـ {تَتَفَكَّرُوا} ؛ أي: تتفكروا فتَعلموا ما به مِن جنَّة.
ويجوزا أن يكون استئنافًا؛ تنبيهًا مِنْ اللَّه تعالى لهم على أنَّ ما عرفوا مِن رجاحةِ عقلِه كافٍ في ترجُّح
(5)
صدقه، فإنَّه لا يَدَعُهُ أنْ يتصدَّى لادِّعاء مثلِ هذا الأمر العظيم الذي تحته ملكُ الدنيا والآخرة مِن غير تحقُّقٍ بيقين، وتعرُّفٍ ببرهانٍ مبين، فيُفْتضَحَ على رؤوس الأشهاد، ويُلقيَ نفسَه في معرض الهلاك، كيف وقد انضمَّ إليه آياتٌ باهرةٌ ومعجزاتٌ قاهرةٌ.
ويجوز أن تكون استفهاميَّةً؛ أي: ثم تتفكَّروا في أحوالِه وأقوالِه وأفعالِه، هل فيه ما يتهمه ويدلُّ على أنَّ به جِنَّةً؟!
(1)
في (ع): "القصّية"، وفي (ي):"القصبة".
(2)
في (ك): "الخاطر".
(3)
في (ف) و (ك): "تقوموا".
(4)
في (م) و (ي): "على البيان أو البيان"، وفي (ف) و (ك):"على البيان"، والمثبت من (ع)، وهو الموافق لما في البيضاوي.
(5)
في (ف) و (ك): "ترجيح".
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} يرجِّح كون (ما) نافيةً.
{بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} : قُدَّامَه، كقوله عليه الصلاة والسلام:"بُعِثتُ دي نسم الساعة"
(1)
.
* * *
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} خبر جزاء الشَّرط؛ أي: أيَّ شيءٍ سألتكم مِن أجرِ الرسالةِ فهو لكم، ويجوز أن تكون (ما) موصولةً، والفاء لتضمُّنها معنى الشَّرط، والغرضُ نفيُ الأجرِ رأسًا، كما يقول الرجلُ لصاحبه: إنْ أعطيتني شيئًا فاستَرِدَّه
(2)
، وهو يَعلم أنَّه لم يُعطِه
(3)
شيئًا، أو إثباتُ الأجرِ لهم، وهو ما أراد بقوله:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] وبقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ لأنَّ اتخاذَ السبيلِ إلى اللَّه تعالى يَنفعهم، وكذا مودَّةُ قربانِه فإنَّ فيه قربانَهم إلى اللَّه تعالى.
(1)
رواه نعيم بن حماد في "الفتن"(1773) من طريق أبي جبيرة بن الضحاك، عن أشياخ من الأنصار، ورواه البزار (3215 - كشف)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 161) من طريق أبي جبيرة بن الضحاك، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (11/ 228):(ورجاله رجال الصحيح غير شبل - أو شبيل - بن عوف، وهو ثقة). وقال ابن حجر في "الكافي الشاف"(ص: 109): (أخرجه البزار بسند حسن من حديث أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري). قلت: وأبو جبيرة مختلف في صحبته. انظر: "الإصابة"(7/ 54). قال ابن الأثير في "النهاية"(مادة: نسم): والنَّسَمُ جمع: نسمَة، - وهي النَّفسُ وَالروحُ؛ أَي: بُعِثت فِي ذِي أَرْوَاح خلقهم اللّهُ تعالى قبل اقترابَ السَّاعَةِ.
(2)
في (ك): "فأسرره". ولفظ "الكشاف" و"البحر" و"أبو السعود" و"الآلوسي": (فخذه).
(3)
في (ك): "يعط".
وعلى الأول؛ قيل: كأنَّه جعل النَّبِيَّ مستلزمًا لأحَدِ الأمرين: الجنون، وتوقُّع نفعٍ دنيويٍّ عليه، لا لأنَّه لا يخلو مِن أنْ يكون لغرضٍ، أو لا، وأيًّا مّا كان يَلزم أحدُهما، ثم نفى كلًّا منهما. ولا يَخفى ضعفُه؛ لأنَّ توقُّع النفع الدنيويِّ غيرُ منحصرٍ في سؤالِ الأجرِ، وذلك ظاهر.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} ؛ أي: ما أَبتغي عليه إلَّا الثوابَ مِن اللَّه تعالى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} : مُطَّلعٌ يَعلمُ صدقي، وأنِّي لا أَطمع في شيءٍ ولا أَتوقَّع أجرًا إلَّا منه.
* * *
(48) - {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} القذفُ
(1)
مستعارٌ مِن معناه بمعنى الإلقاء؛ أي: يُلقيه إلى أنبيائه، أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه ويُزهِقه.
{عَلَّامُ الْغُيُوبِ} خبرٌ ثانٍ، أو صفةٌ لـ {رَبِّي} محمولةٌ على محلِّ (إنَّ) واسمِها، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أو بدلٌ مِن المستكنِّ في {يَقْذِفُ} .
وقرئ: بالنصب
(2)
صفةً لـ {رَبِّ} ، أو على المدح؛ أي: أعني، أو: أخصُّ.
وقرئ: بكسر الغين
(3)
، كالبِيوتِ، وبفتحها كالصَّبُور
(4)
، على أنَّه مبالغةُ غائبٍ، وهو البليغُ في الغَيبة والخَفاء.
* * *
(1)
"القذف": ليست في (م).
(2)
نسبت لعيسى وابن أبي إسحاق. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
(3)
قرأ بها حمزة، وشعبة عن عاصم. انظر:"التيسير"(ص: 101).
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 591)، و"البحر المحيط" (17/ 473). ووقع في (ك) و (ي):"كالصيود".
(49) - {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} .
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} : الإسلامُ {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ؛ أي: زهق الباطل - وهو الشرك - بحيث لم يبقَ له أَثَرٌ ولا يُبدِئ ولا يُعيد، مَثَلٌ في الهلاك؛ لأنَّ الحيَّ إمَّا أنْ يبدئ فعلًا أو يُعيدَه، فإذا هلكَ لم يبقَ له بَداءٌ
(1)
ولا إعادة، فصار مَثَلًا فيه، ومنه قول عَبيدٍ:
أَقْفَرَ مِن أهلِه عَبيدُ
…
فاليومَ لا يُبدي ولا يُعيدُ
(2)
وقيل: {الْبَاطِلُ} إبليسُ؛ أي: ما يُنشئ خَلْقًا ولا يُعيده، إنَّما المنشئُ والباعثُ هو اللّهُ تعالى.
وقال الزجَّاج: أيَّ شيءٍ يُنشِئ إبليسُ ويُعيده
(3)
؟! فجعَله للاستفهام.
* * *
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} عن الحقِّ {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} فإنَّ وبالَ ضلالي على نفسي.
{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أصلُ الكلام: إنْ ضللتُ فبما يوسوس إليَّ الشيطانُ، وضررُه
(4)
على نفسي، وإنِ اهتديتُ فبما يُوحِي إليَّ ربِّي ونفعُه لها، فعدلَ
(1)
في (ك): "إبداء".
(2)
البيت في "ديوان عبيد بن الأبرص"(ص: 45)، و"الأغاني" للأصفهاني (22/ 88).
(3)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 258).
(4)
في (ك): "فضرره".
إلى ما ذكر؛ فبيَّن في أحدِ القِسمين الحكمَ وفي الآخَر السببَ؛ اكتفاءً بما فُهِمَ ممَّا
(1)
ذكر في أحدهما حال الآخَر، وهذا غايةُ الإيجازِ، وقلَّما يتنبَّه لمثلِه إلَّا الحُذَّاقُ.
{إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} يَسمع وَيرى قولَ كلِّ ضالٍّ ومهتدٍ وفِعْلَه، لا يخفى عليه منهما شيءٌ وإنْ أخفاه.
* * *
(51) - {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} .
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} حذف جواب (لو) للتهويل؛ أي: لرأيتَ أمرًا هائلًا لا يُمكِن وصفُه، ووقتُ الفزعِ وقتُ البعث وقيام الساعة، أو وقتُ الموت، وقيل: يومُ بدرٍ.
و (لو) و (إذ) والأفعالُ الماضية بعدهما وهي: {فَزِعُوا} و {أُخِذُوا} ، و {حيل بينهم}
(2)
كلُّها للمضيِّ والمراد بها الاستقبالُ؛ للدلالة على تحقُّق وقوعِ معانيها عند اللهِ تعالى، وكلُّ ما يَفعلُ اللّهُ تعالى في المستقبل فهو بمنزلة الماضي لتحقُّق وقوعِه لا محالةَ، فكأنَّه قد وَقَعَ.
{فَلَا فَوْتَ} فلا يفوتونَ اللّهَ ولا يَسبقونه؛ أي: لا فوتَ لهم.
{وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} من الموقف إلى النار، أو: مِن ظهرِ الأرض إلى بطنها، أو: مِن صحراءِ بدرٍ إلى القَليبِ.
والعطف على {فَزِعُوا} ؛ أي: فَزعوا وأُخذوا فلا فوتَ لهم، أو على (لا فوت)،
(1)
في (ي): "بما".
(2)
قوله: "وحيل بينهم" من "الكشاف"(3/ 592)، ووقع في النسخ بدلا منه:"وجعل وفعل".
على معنى: إذ فزعوا فلم يَفوتوا وأُخذوا، ويؤيِّده ما قُرئَ:(وأَخْذٌ)
(1)
معطوفًا على محلِّ (لا فوت)؛ أي: لا فوتَ هناكَ وهناكَ أَخْذٌ.
* * *
(52) - {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} .
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} ؛ أي: بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لمرور ذِكْره في قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ} ، أو: للعذاب
(2)
المذكور في قوله: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} : ومِن أينَ لهم التناولُ السهلُ مِن مكانٍ قريبٍ، يعني: تناولَ الإيمان {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فإنَّه يكون في حيِّز التكليفِ، وقد بَعُدَ عنهم، تمثيلٌ لطلبهم المستحيل، وهو أنْ يَنفعهم الإيمانُ وقتَ العذابِ في الآخرة كما يَنفع المؤمنين في الدنيا؛ مثَّل حالَهم بحالِ مَن يريدُ أنْ يتناولَ الشيءَ مِن غَلْوةٍ
(3)
، كما يَتناوله الآخَرُ مِن قِيسِ ذراعٍ تناولًا سهلًا.
وقرئ: {التَّنَاوُشُ} بهمز الواو المضمومة
(4)
، كما هُمِزَت في: أَجْؤُر وأَدْؤُر، وعن أبي عمرو: التناؤشُ - بالهمز -: التناول
(5)
مِن بُعْدٍ، مِن قولك: نأشتُ، إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ.
(1)
نسبت لعبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122)، و"الكشاف"(3/ 593)، و"البحر المحيط"(17/ 477).
(2)
أي: أو الضمير للعذاب.
(3)
الغَلْوة: الغايةُ، وهي رميةُ سهمٍ أَبعد ما يُقدرُ عليه، ويقال: هي قدرُ ثلاثِ مئةِ ذراع إلى أربع مئةٍ، والجمع: غَلَوَاتٌ. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (مادة: غلو).
(4)
قرأ بها أبو عمرو وحمزة والكسائي، وشعبة عن عاصم. انظر:"التيسير"(ص: 181).
(5)
في النسخ: "التناوش"، والمثبت من "الكشاف"(3/ 593)، والكلام منه.
(53) - {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} .
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} ؛ أي: بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أو بالعذاب {مِنْ قَبْلُ} مِن قبلِ ذلك أوانَ التكليف.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} : يرجمون به ويتكلَّمون بما لم يَظهر في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن قولهم: ساحرٌ وشاعرٌ وكذَّاب، ولم يُشاهدوا منه شيئًا مِن ذلك.
{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ؛ أي: قد أَتَوا هذا الغيبَ مِن جهةٍ بعيدةٍ عن حالِه عليه السلام؛ لأنَّه أبعدُ شيءٍ ممَّا جاء به الشِّعر والسِّحر، وأَبعدُ مِن عادته التي هو معروفٌ بها الزور والكذب.
وعلى تقدير عودِ الضميرِ على العذاب، معنى قَذْفِهم بالغيب: قياسُهم أمرَ الآخرةِ على أمرِ الدنيا، وهو غيبٌ ومقذوفٌ به مِن جهةٍ بعيدةٍ.
والعطف على {وَقَدْ كَفَرُوا} على حكايةِ الحالِ الماضيةِ، أو على (قالوا) فيكون تمثيلًا آخَرَ لهم، بأنْ مُثِّلت حالُهم في طلب المستحيِل - وهو نفعُ الإيمان في الآخرة - بمَن يَقذف شيئًا إلى مَن لا يراهُ مِن مكانٍ بعيدٍ، لا مجالَ للظَّنِّ في لحوقه؛ لغايةِ بُعْدِه.
وقرئ: (يُقذَفون) على البناء للمفعول
(1)
، على أنَّ الشيطانَ يُلقي إليهم ويُلقِّنهم ذلك.
* * *
(1)
نسبت لمجاهد. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 122).
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِن نفعِ الإيمانِ يومئذٍ، والنجاةِ مِن النار والفوزِ بالجنة، أو مِن الرَّدِّ إلى الدنيا، كما حَكَى عنهم بقوله:{فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة: 12].
{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} : بأشباهِهم مِن كَفَرةِ الأُمم الدَّارجة.
{إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مِن أرابهُ: إذا أوقعه في الرِّيبة والتُّهمة، أو مِن أَرابَ الرجلُ: إذا صار ذا ريبةٍ ودَخَلَ فيها، مجازٌ في كِلَا المعنيين، والفرق: أنَّ المريبَ
(1)
بالمعنى الأول منقولٌ ممَّن يصحُّ أنْ يكون مريبًا مِن الأعيان، والمعنى الثاني منقولٌ مِن صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَكِّ، كما تقول: شِعْرٌ شَاعِر، يُنعَت به الشَّكُّ للمبالغة
(2)
.
* * *
(1)
في (م): "والمريب" بدل: "والفرق أن المريب".
(2)
في (م) زيادة: "واللّه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والله أعلم وأحكم". وفي هامش (ي): "في الليلة الرابعة من الصفر سنة: 933".
سُورَةُ فَاطِرٍ
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مبدعِهما، مِن الفَطْرِ
(2)
، وهو الشَّقُّ، فاستُعْمِلَ في الخلق ابتداءً على طريقِ
(3)
المجاز المرتَّب على الكنايةِ، والإضافةُ حقيقيَّةٌ لأنَّه بمعنى الماضي، على ما قرئ بلفظه
(4)
، ولذلك وُصِفَ به المعرَّفُ.
{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ} وقرئ بالرَّفعِ على المدح
(5)
.
{رُسُلًا} : وسائطَ بينَه وبينَ عبادِه، يبلِّغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرُّؤيا الصَّالحة.
(1)
في (م): "سورة الملائكة أربعون وخمس آيات وسبع مئة وسبعون كلمة".
(2)
في (ع): "الفطرة".
(3)
في (ك) و (م): "طريقة"، وفي (ف):"طريقته".
(4)
قرأ الضحاك: (فطر) بصيغة الماضي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 123).
(5)
بالرفع والتنوين مع نصب (الملائكة) نسبت للحلبي، وبالرفع بلا تنوين مع جر (الملائكة) نسبت للحسن، وبالرفع بلا تنوين مع نصب (الملائكة) نسبت لعبد الوارث عن أبي عمرو. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 123)، و"المحتسب"(2/ 198)، و"البحر"(18/ 7).
{أُولِي أَجْنِحَةٍ} و {أُولِي} اسمُ جمعٍ لـ {ذُو} ، وهو بدلٌ من {رُسُلًا} ، أو نعتٌ له.
{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} صفاتٌ لـ {أَجْنِحَةٍ} وغيرُ منصرفة؛ أيْ صنفٌ منهم أجنحتُهم اثنان اثنان، وصنفٌ أجنحتُهم ثلاثة ثلاثة، وصنفٌ
(1)
أربعة أربعة، وتفاوتها بحسبِ تفاوتِ مراتبِهم وأمورِهم التي سُخِّرَتْ لها.
وما رُوِيَ أنَّه عليه السلام رأى جبريل عليه السلام ليلةَ المعراج وله
(2)
ستُّ مئةِ جناحٍ
(3)
، فلعلَّه مخصوصٌ به، فلم
(4)
يذكَر لأنَّه ليس من جنس المكرَّر.
{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} استئنافٌ للدِّلالة على أن الاختلاف المذكور أمر تقتضيه مشيئتُه وحكمتُه.
وإنَّما عمَّ الخنق ليتناولَ كلَّ زيادة في جميع الخلائق؛ كحُسن الصُّورة
(5)
، وحصافة العقل، وذكاء القلبِ وشهامته، وشجاعة النَّفس وسماحتها
(6)
، إلى ما لا يتناهى.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} استئنافٌ للتَّعليل؛ فإنَّ القدرة الكاملة الشَّاملةَ لا بدَّ لها
(7)
مِن مرجِّح لا مِن خارجٍ؛ لأنَّه ينافي كمالَ القدرةِ، فهو المشيئةُ.
* * *
(1)
في (ف): "أو".
(2)
في (ك): "له".
(3)
روى نحوه البخاري (3232)، ومسلم (174)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
في (ف): "ولم".
(5)
في (م): "الصوت".
(6)
في (ف) و (ك): "وشهامتها".
(7)
في النسخ: "له".
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ} استعيرَ الفَتْحُ للإطلاق والإرسال، وأومأَ إلى استعارته له بقوله:{فَلَا مُرْسِلَ لَهُ} مكانَ: لا فاتح له.
{مِنْ رَحْمَةٍ} تنكيرُها للإشاعة والتَّعميم؛ أي: مِن أيَّةِ رحمةٍ كانت معنويَّةً أو صوريَّةً، سماوَّيةً أو أرضيَّةً.
{فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} : فلا أحدَ يقدرُ على إمساكِها
(1)
.
{وَمَا يُمْسِكْ} قيِّد المرسَل بالرَّحمة وقُدِّمَ لأنَّها الأصل، وأُطلق الممسَك ليتناولها وغيرَها من النِّعمة والغضب؛ إشعارًا بقوله:"سبقت رحمتي على غضبي"
(2)
.
{فَلَا مُرْسِلَ لَهُ} فلا أحدَ يقدرُ على إرساله.
أنَّتَ ضميرَ الاسم الأوَّل
(3)
المتضمِّن للشَّرط على المعنى لتفسيره بالرَّحمة، وذكَّرَ الثَّاني على اللَّفظ لإطلاِقه.
{مِنْ بَعْدِهِ} : مِن بعدِ إمساكِه.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} : الغالبُ القادرُ على ما يشاءُ، ليس لأحدٍ أنْ ينازِعَه في الإرسال والإمساك.
(1)
في النسخ: "إمساكه".
(2)
رواه البخاري (7553)، ومسلم (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"سبقت رحمتي غضبي".
(3)
في (م): "أولًا".
{الْحَكِيمُ} الذي لا يفعلُ ما يفعلُ إلَّا بحكمةٍ وإتقان علم
(1)
.
ثمَّ لَمَّا بيَّنَ أنَّه الموجِدُ للملكِ والملكوتِ، المتصرِّفُ في الكلِّ على الإطلاق، أمرَ النَّاس بشكرِ نعمتِه وتخصيصِه به تعالى، فقال:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الخطابُ عامٌّ، وكذا النِّعمةُ، ولا عبرةَ في الخصوصِ في سببِ النُّزولِ، والمرادُ بذكرِ النِّعمةِ: شكرُها بالقلبِ واللِّسان والجوارح، برؤيتها منه لا مِن غيرِه، وأداءِ حقوقِها بالثَّناءِ على المنعِم، والطَّاعةِ له، واستعمالِها في مراضيه
(2)
.
ثمَّ أنكرَ أن يكونَ لغيره في ذلك مَدخلٌ فيستحِقَّ أنْ يُشرَكَ به بقولِه:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} قرئ بالحركات الثَّلاث
(3)
؛ أمَّا الرَّفع فللحمل على محلِّ {مِن خَلِقٍ} بأَنَّهُ وصفٌ أو بدلٌ
(4)
، فإنَّ الاستفهام بمعنى النَّفي، أو لأنَّه فاعل {خَالِقٍ} ، وأمَّا الجرُّ فللحمل على لفظِه، وأمَّا النَّصبُ فعلى الاستثناء.
{يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} صفة لـ {خَالِقٍ} ، أو تفسير لعامله إنْ جعلتَه
(1)
في (ف) و (ك): "علمه".
(2)
في (م): "مرضيه".
(3)
قرأ حمزة والكسائي بخفض الراء، وباقي السبعة برفعها. انظر:"التيسير"(ص: 182).
ونسبت القراءة بنصب الراء للفضل بن إبراهيم النحوي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 123).
(4)
بعدها في (ف) و (ك): "أو تفسيرٌ لعامله إنْ جعلتَهُ مرفوعَ المحلِّ"، وهو ناشئ عن سبق نظر عند الناسخ، وسيأتي في مكانه الصحيح.
مرفوع المحلِّ بإضمار فعلٍ لا بالابتداءِ؛ أي: هل يرزقُكُم مِن خالقٍ، أو استئنافٌ دلَّ على أنْ لا خالقَ غير اللَّه، وعلى وجوب شكر نعمتِه، فهو أحسنُ الوجوه، وعلى الوجهَيْن الأخيرَيْن لا محلَّ له من الإعراب.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} جملة مفصولة [لا محل لها]
(1)
مثل {يَرْزُقُكُمْ} في الوجه الثَّالثِ؛ إذ لو وصلْتَه مثل {يَرْزُقُكُمْ} في الوجهَيْن الأوَّلَيْن لفسد
(2)
المعنى؛ لأنَّ قولَك: هل من خالق آخر سوى اللَّه لا إله إلَّا ذلك الخالق
(3)
؛ متناقضٌ.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : فمِنْ أيِّ وجهٍ تُصرَفون عنِ التَّوحيدِ إلى إشراكِ غيرِه.
* * *
(4) - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} : تسليةٌ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعثٌ له على التَّأسِّي بالرُّسل السَّابقين في الصَّبر على تكذيبهم؛ أي: وإن يكذِّبوك فتأسَّ بالرُّسلِ العظامِ، واصبرْ
(4)
على تكذيبهم، فوضع {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} موضعه لبيان السَّبب، واستغنى بذكر السَّبب عن المسبَّب إيجازًا.
وتنكير {رُسُلٌ} للتَّعظيم المقتضي لزيادةِ التَّسليةِ، والحثِّ على الصَّبرِ؛ أي: رسلٌ عظامٌ ذوو
(5)
عددٍ كثيرٍ، وأولو آياتٍ بيِّناتٍ.
(1)
في (ع) و (ف) و (ك) و (ي): "منصوبة"، وفي (م):"منصوب"، وكلاهما تحريف، والمثبت من "الكشاف"(3/ 598)، والكلام وما بين معكوفتين منه.
(2)
في (ف): "يفسد".
(3)
في (ف): "إلا هو".
(4)
في (ف) و (ك): "فاصبر".
(5)
في النسخ عدا (ك): "ذو"، والمثبت من (ك) و"الكشاف"(3/ 599).
وقد نعى بها على قريش حينئذٍ سوءَ تلقِّيهم لآياتِ اللّهِ وتكذيبَهم بها بعد التَّقريع البالغ في قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} وعدٌ ووعيدٌ؛ أي: فيجازيك
(1)
وإيَّاهم على الصَّبر والتَّكذيب.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} : الجزاءَ بالثَّواب والعقاب {حَقٌّ} : لا خُلْفَ فيه.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : فلا تخدعنَّكم الدُّنيا ولذَّاتُها وشهواتها، فيذهلَكم التَّمتُّع بها عن السَّعي للآخرة، وطلبِ ما عندَ اللّهِ.
{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} : الشَّيطانُ، فإنَّه هو البالغ في التَّغرير بأنْ يمنِّيَكم المغفرةَ مع الإصرار على المعصية، فإنَّها وإنْ أمكنَتْ لكنَّ الذَّنْبَ بهذا التَّوقُّع كتَناولِ السُّمِّ اعتمادًا على الدَّفع بقوَّة الطَّبيعة
(2)
.
وقرئ بالضَّم
(3)
، وهو مصدرُ غرَّه كاللُّزومِ والنُّهوك
(4)
، أو جمع غَارٍّ، كقَاعِدٍ وقُعودٍ.
* * *
(1)
في (ف) و (م): "فيجازيكم".
(2)
"بقوة الطبيعة" زيادة من (ي) و (ع)، وفي (م):"بقوى الطليعة".
(3)
أي: (الغُرور) بضم الغين. انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 168)، و"المحرر الوجيز"(4/ 429).
(4)
في (ك): "كالهتوك"، وفي (ي):"والشهواك"، وفي (ع):"والشهوك". والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 599).
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} تذكيرٌ لبني آدمَ ما فَعَلَ بأبيهِم آدم عليه السلام بالإغواءِ والتَّغرير، وتحذيرٌ عن موالاتِه.
{فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} بالغَ العداوة في عقائدِكم وأفعالِكم، وكونوا على حذرٍ منه في مجامعِ أحوالكم.
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} مبالغة في التَّحذير عن عداوته بتقريرها، وبيانِ غرضِه في دعوة شيعته إلى اتِّباع الهوى والرُّكونِ إلى الدُّنيا.
* * *
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وعدٌ لمَن أجابَه، ووعيدٌ لمن خالفه، وبنى الأمر على الإيمان والعمل الصَّالح وتركهما؛ ليقطعَ الأطماع الفارغة، ويهيِّجَ الهِمَمَ العاليةَ.
ولَمَّا ذَكَرَ الفريقيْن قرَّرَ
(1)
الوعد والوعيد بقوله:
* * *
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ؛ أي: أفمن زين له سوءُ عمله لغلبة وهمه
(1)
في (ف) و (م) و (ي) و (ع): "قدَّر".
وهواه على عقله، فانتكس رأيُه فرأى الباطلَ حقًّا والقُبْحَ حَسَنًا، كمَن لم يُزيَّن له، بل وُفِّقَ للنَّظر الصَّحيح فعرفهما، ورأى
(1)
الحقَّ حقًّا فاستحسنه
(2)
واختاره، ورأى الباطلَ باطلًا فاستقبحه وتركه.
والهمزة للإنكار دخلَتْ على الفاء العاطفة لإنكار الجهلِ وفقدِ النَّظرِ والتَّمييزِ، أي: أبعدَ ما تبيَّنَ
(3)
عاقبةُ الفريقَيْن مَن فقَدَ التَّمييز واتَّبعَ الشَّيطان، فرأى القبيحَ الذي زُيِّنَ له حَسنًا كَمَنْ ليسَ كذلك.
وإنَّما حذفَ الجوابَ لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} عليه.
وقالَ الزَّجَّاج: الجواب: ذهبَتْ نفسُكَ
(4)
عليهم حسرةً، فحذفَ لدلالة:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} عليه
(5)
؛ أي: فلا تُهلك نفسَك للحسرات.
و {عَلَيْهِمْ} صلةُ {تَذْهَبْ} ، كقولِكَ: هلكَ عليه حبًّا، أو بيانٌ للمتحسَّرِ عليه، ولا يجوز أنْ يتعلَّق بـ {حَسَرَاتٍ} ؛ لأنَّ صلة المصدر لا تتقدَّم عليه، ويجوز أن يكون حالًا
(6)
على أنَّها كلَّها صارَتْ حسراتٍ لفرط التَّحسُّرِ.
(1)
في (م): "فرأى".
(2)
في (م) و (ي): "فأحسنه".
(3)
في (ف): "بين".
(4)
في (ف) و (ك): "الجواب فلا تذهب نفسك"، والمثبت من باقي النسخ والمصدر.
(5)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 264).
(6)
أي: (أن يكون {حَسَرَاتٍ} حالا من {نَفْسُكَ})، وهذه عبارة الآلوسي في "روح المعاني"(22/ 170)، وعبارة المؤلف منقولة بالحرف من "الكشاف" (3/ 600). ووقع في (ك):"ولا يجوز"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في المصدرين المذكورين وغيرهما.
وجمعُ الحسرات للدِّلالة على تضاعف اغتمامه
(1)
على أحوالهم، أو كثرةِ مساوئ أفعالهم المقتضيةِ للتَّأسُّف عليهم.
وقرئ: {فلا تُذْهِبُ نفسَكَ}
(2)
؛ أي: فلا تُهلكها.
والفاءات الثَّلاث للسَّببيَّة، غير أنَّ الأُولَيين دخلتا على السَّبب، والثالثة على المسبَّب.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وعيدٌ لهم بالعقابِ على سوءِ صنيعِهم.
* * *
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} على حكايةِ الحالِ الماضيةِ، وقد خُولِفَ به عمَّا قبلَه وما بعدَه إلى المضارع؛ استحضارًا لتلك الصُّورة البديعة الدَّالة على القدرة الباهرة من إثارة الرِّيح السَّحابَ، وما يقارنُه من إنزال المطر وغيره.
وهكذا يُغيَّر النَّظم في كلِّ أمرٍ عجيبٍ وفعلٍ يختصُّ بحالٍ يُستَغرَبُ، أو يهمُّ المخاطِبَ أو المخاطَبَ
(3)
، أو يتميَّز
(4)
بنوعِ شرفٍ، وغير ذلك.
(1)
في (ف) و (ي): "إغمامه".
(2)
قرأ بها أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 351).
(3)
"أو المخاطب" من (ي) و (ع)، وفي (ع) كررها مرتين.
(4)
وقعت العبارة في (ك) هكذا: "في كلِّ أمرٍ عجيب وفعلٍ يختصُّ بحاله تقريبًا لفهم المخاطب بتمييز".
والتفَتَ في
(1)
: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} مِن الغيبة إلى التَّكلُّم الذي هو أدلُّ
(2)
على الاختصاص بالقدرة الباهرة، والضَّمير في:
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ} للمطرِ الدَّالِّ عليه السَّحابُ، أو للسَّحاب لأنَّهُ سبب السَّبب فهو سبب
(3)
.
{بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد يبسها.
{كَذَلِكَ النُّشُور} ؛ أي: مثلَ إحياءِ المواتِ نشورُ الأموات في صحَّة المقدوريَّة؛ إذ لا فرق بينهما إلَّا احتمالُ اختلاف
(4)
المادَّة في المقيس عليه، ولا مدخل له فيها.
وقيل في كيفيَّة الإحياء: إن اللَّه تعالى يرسل ماءً
(5)
مِن تحتِ العرشِ تَنبتُ به أجسادُ الخلقِ.
* * *
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} ؛ أي: القوَّة والقدرة والمَنَعة فليطلبها مِن عند اللَّه تعالى، فحذف الجزاء استغناءً عن المدلول بالدَّليل، وهو قوله:
(1)
"في" سقط من (ك) و (ي).
(2)
في (م): "الأدل".
(3)
بعدها في (ع): "أو لا سيول له"، وفي (ف):"أو لا سوء له"، وفي (ك):"أو لإرسال دل له"، وفي (م):"أو لا سؤل إليه"، وفي (ي):"أو لا مسؤولًا له".
(4)
في (ي): "الاحتمال اختلاف"، وسقطت "اختلاف" من (ف).
(5)
في (ك): "يرسلها".
{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ؛ أي: عِزَّةُ الدُّنيا والآخرة، ثمَّ بيَّنَ أنَّ الذي يُطلَبُ به العزَّةُ هو التَّوحيد والعمل الصالح فقال:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو قولُ لا إله إلا اللَّه، وصعودُه إليه مجازٌ عن قَبولِه إيَّاه، والمستكنُّ في {يَرْفَعُهُ} للكَلِم؛ لأنَّ الصَّاعد بنفسِه هو، ولا خلافَ في أنَّ العملَ لا يُقبَلُ إلَّا بالتَّوحيد والإيمان. ويؤيده القراءة بنصب (العملَ)
(1)
.
وقيل: للّه تعالى، والمرفوع العملُ، وتخصيصه بهذا الشَّرف لِمَا فيه مِن الكلفة.
وقيل: للعمل فإنه يحقِّق الإيمان ويقوِّيه.
والكَلِمُ: اسمُ جنسٍ مِن الأجناسِ التي يُفرق بين واحدها والجنس بالتَّاء، كتمرٍ وتمرة
(2)
.
وقرئ: (يُصْعَد) على البناء للمفعول
(3)
.
و: (يُصْعِد) على البناء للفاعل مِن أصعَدَ، ونصبِ (الكلِمَ)، والفاعل هو المتكلِّم به لأنَّه يُصْعِده إلى الله تعالى
(4)
.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ؛ أي: المكراتِ السَّيئات، أو لمضافٍ
(5)
إلى المصدر؛ أي: أصنافَ المكرِ السَّيئات، أو ضُمِّن {يَمْكُرُونَ} معنى:
(1)
نسبت لعيسى وابن أبي عبلة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 123).
(2)
في (ف) و (ك): "كتمرة".
(3)
انظر: "الكشاف"(3/ 603).
(4)
نسبت لعلي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 123)، و"الكشاف"(3/ 603).
(5)
في النسخ عدا (ك): "المضاف"، والمثبت من (ك).
يكسبون، فنُصب {السَّيِّئَاتِ} مفعولًا به، والمراد: مكرات قريشٍ في دار النَّدوة، وقد مرَّ تفصيلُها في (الأنفال).
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا يؤبَهُ دونَه بما يمكرون به.
{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} {أُولَئِكَ} إشارةٌ إلى {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} جِيءَ به للدِّلالةِ على عِظمِ مكرهِم، وأنَّه لخبثه أوجب فساده وعدم نفاذه.
وتوسيط {هُوَ} للحصر؛ أي: هو خاصَّةً يبور
(1)
ويفسد دون مكرِ اللّهُ تعالى بهم.
وكون الأمور مقدَّرةً لا تتغير
(2)
، لا يصلحُ علَّةً لفساد مكرهم؛ لِمَا قرَّرناه في مواضعَ مِن أَنَّه لا تأثيرَ في التَّقدير كما زعمتْه الجبريَّة، ولا دلالةَ على ذلك في قوله:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} بخلقِ آدم عليه السلام من {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} بخلقِ ذرِّيَّته منها {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} : أصنافًا ذكورًا
(3)
وإناثًا.
{تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} في موضعِ الحال؛ أي: إلا معلومةً له.
لَمَّا أثبَتَ القدرةَ الكاملةَ والعِلمَ الشَّامل أرادَ إثباتَ القضاءِ والقدَرِ فقال:
(1)
في (ف) و (م): "يبعد".
(2)
رد للبيضاوي. انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 255).
(3)
في (م): "وذكرانا".
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} مِن بابِ تسميةِ الشَّيءِ بما يَؤولُ إليه
(1)
؛ أي: وما يعمَّرُ مِن أحدٍ، ألا ترُى أنَّه يرجع الضَّمير في قوله:{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} إليه؟ والنُّقصانُ مِن عُمرِ المعمَّرِ مُحالٌ، وهو مِن التَّسامحِ في العبارة ثقةً بفهم السَّامع.
هذا بحسب الجليل
(2)
مِن النَّظر، وأمَّا النَّظرُ الدَّقيقُ فيَحكم بصحَّة أنَّ المعمَّر - أي: الذي قُدِّرَ له عمرٌ طويلٌ - يجوز أنْ يبلغَ حَدَّ ذلك العمرِ وأنْ لا يبلغَ عمرَه، فيزيدُ عمرُه على الأوَّل وينقص على الثَّاني، ومع ذلك لا يلزمُ التَّغييرُ في التَّقدير، وذلك لأنَّ
(3)
المقدَّرَ لكلِّ شخصٍ إنَّما هو الأنفاس المعدودة، لا الأيَّام المحدودة والأعوام الممدودة، ولا خفاء في أنَّ الأيَّام قَدْرٌ مِن الأنفاسِ يزيدُ وينقصُ بالصِّحة والحضور والمرض والتَّعب، فافهم هذا السِّرَّ العجيبَّ
(4)
.
(1)
في (م): "بما يؤول به".
(2)
في (م): "الجلي".
(3)
في (ف) و (م): "أن".
(4)
في هامش (ف) و (م) و (ي) و (ع): "حتَّى ينكشف لكَ سِرُّ اختيار حبس النفس، ويتضح وجه صحة قوله عليه السلام: الصَّدقة والصِّلة تعمران الدِّيار وتزيدان في الأعمار. منه". وهذا القول للمؤلف مع العبارة الواردة في حواشي النسخ المذكورة قد نقله الآلوسي في "روح المعاني"(22/ 187 - 188) مصدرا ذلك بالتعجب منه، ومتعقبا إياه برد الشهاب، الذي قال:(وهو مما لا يعوِّل عليه عاقل، ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود، مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح من قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها وقد دعت بطول عمر: "سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة". وقد أطال المحشي فيه وفي رده وهو غنيٌّ عنه). قلت: وأراد بالمحشي الجلبي كما صرّح الآلوسي.
(1)
اللَّوح أو الصَّحيفة
(2)
.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} إشارةٌ إلى الزِّيادة والنّقصان
(3)
* * *
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ضَرَب البحرَيْن - العذبِ والملحِ
(4)
- مثلَيْن للمؤمنِ والكافرِ.
والعَذْبُ: ما يقمع العطش ويردعُه، مِن أعذبَ عن الشَّيء: إذا أمسَكَ عنه.
والفُراتُ: الذي يكسِرُ العطشَ.
والسَّائِغُ: الذي يسهل انحدارُه.
والمِلحُ: الماءُ الذي فيه ملوحةٌ، ولا يقال: مالح.
والأُجاجُ: أشدُّ المياه ملوحةً، وهو الذي لشدَّة ملوحتِه يلتهب، ويُقال: أجَّجْتُ النَّارَ؛ أي: ألهبتُها، والأَجَّةُ: شِدَّةُ الحرِّ.
ثمَّ وصفَ البحرَيْنِ بما فيهما مِن النِّعمِ والفوائد على سبيل الاستطراد امتنانًا وتفضُّلًا، فقال:
(1)
في (م): "هو".
(2)
في (ف): "والصحيفة".
(3)
في (ف) و (ك): "والنقص".
(4)
في (ف): "والمالح".
{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إنَّما غيَّرَ النَّظمَ - حيث لم يقل: وتلبسون حليةً - لتفاوت الحال؛ حيث كان الأوَّلُ سهلَ المأخذ دون الثَّاني، وفي زيادة السِّينِ نوعُ دلالةٍ إلى مزيد كلفةٍ في إخراجها.
وفي عبارةِ {كُلٍّ}
(1)
دلالة على أنَّ قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] على ظاهره.
ويجوز أن يكون وصفهما مِن تمامِ المثَلِ، وهو أنَّهما مشتركان في فوائدَ كثيرةٍ، كما أنَّ الكافرَ وإنْ كانَ المقصودُ من الإنسان فيه مفقودًا كالمقصود الأعظم من الماء في البحر الملح، ولكنْ قد يُشارِكُ المؤمنَ في فوائد دنيويَّة كالشَّجاعة والسَّخاوة وأمثالها
(2)
.
أو أنَّ
(3)
الملحَ وإنْ لم يبقَ فيه خاصيَّةُ
(4)
الماء، وفسدَ جوهرُه بما اختلطَ به وأبطلَ فطرتَه كالكافر، لكنَّه مُفضَّلٌ عليه بأنَّ فيه فوائدَ كثيرةً ومنافعَ جمَّةً، بخلاف الكافر فإنَّه لا خيرَ فيه ولا نفعَ، فيكون على طريقة قوله تعالى:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] الآية.
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ} : في كلٍّ {مَوَاخِرَ} : شواقَّ الماء بجريها.
{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : مِن فضلِ اللّهِ بالنُّقلة فيها، وأُضْمِرَ للعلم به تعالى وتعيُّنِه، واللَّام متعلِّقةٌ بـ {مَوَاخِرَ} ، ويجوز أن تُعلَّق بما دلَّ عليه الأفعال المذكورة.
(1)
في (ف): "عبارة النظم"، وفي (ك):"عبارته".
(2)
في (ك): "وأمثالهما".
(3)
في (ع) و (ف) و (ك): "وأن".
(4)
في (ف) و (م): "خاصة".
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (لعلَّ) مستعارٌ مِن معنى التَّرجِّي للإرادة، ولذلك سلكَ به مَسلَكَ التَّعليلِ، وعطفَ على قولِه:{لِتَبْتَغُوا} ، كأنَّه قالَ: لتبتغوا من فضله ولتشكروا
(1)
على ذلك.
* * *
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} قد سبقَ تفسيرُه في سورة لقمان.
{ذَلِكُمُ} إشارةٌ إلى الموصوف بالصِّفات المذكورة، وفيه إشعار بأنَّ فاعليَّته لها موجبةٌ لثبوتِ الأخبار المترادفة.
{اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} {ذَلِكُمُ} مبتدأ، {اللَّهُ} عطفُ بيان
(2)
، ولا يجوز أن يكونَ صفةً؛ لأنَّه عَلَمٌ، والعَلَم
(3)
لا يوصف به.
و {لَهُ الْمُلْكُ} جملةٌ استئنافيَّة مقرِّرة لمعنى التَّعظيم الذي في {ذَلِكُمُ} ، أو لمعاني الصِّفات المذكورة، أو ثلاثتُها أخبار مترادفة، ولا يأبى المعنى عن خبريَّة {رَبُّكُمْ} لأَنَّه يكون قد أخبر بأنَّه المشار إليه بتلك الصِّفات والأفعال.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "وتشكرون".
(2)
"بيان" زيادة من (م) و (ي) و (ع). وكلمة: "عطفٌ" سقطت من (م).
(3)
"والعلم" سقط من (م).
أو {اللَّهُ رَبُّكُمْ} خبران، و {لَهُ الْمُلْكُ} جملة مبتدأة
(1)
لا محلَّ لها من الإعراب، واقعةٌ في قِرَان قوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} مقدّمة منضمَّة
(2)
إلى الأولى، لينعقد القياس منهما برهانًا دالًّا على أنَّها لم تَصلح للإلهيَّة، ولم تَستحقَّ العبادةَ.
والقطميرُ: القُمعُ الذي في رأس التَّمرة، وقيل: لفافة النَّواة.
* * *
ثمَّ قررَ نفيَ الألوهيَّة عنها بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} لأنَّهم
(3)
جمادٌ.
{وَلَوْ سَمِعُوا} على سبيلِ الفَرْضِ والتَّقديرِ.
{مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} بتحصيل سؤلِكم؛ لعدمِ قدرتهم على شيءٍ.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} ؛ أي: ينكرونه، هذا على أن يكون الكلامُ في الأصنام، فجحدُهم بأنْ ينطقهم اللّهُ تعالى يوم القيامةِ فينكرون أن يكونوا
(4)
أهلًا للعبادة، أو ينكرون أن تكون تلك العبادة حقًّا، وإنَّما ذكر أفعالهم بالواو والنُّون لأنَّه وصفهم بصفات العقلاء.
(1)
في (ف) و (م) و (ي) و (ع): "مبتدأ".
(2)
في (ف): "متقدمة متضمنة"، وفي (م):"متقدمة منضمة".
(3)
في (م): "لأنها".
(4)
في (ف) و (م) و (ي) و (ع): "يكون".
وإنْ كان في الملائكة والأنبياء عليهم السلام فمعنى قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} : لغيبتهم عنكم
(1)
، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لأنَّهم لا يملكون ذلك.
ومعنى إنكارهم شركَهم: أنَّهم يومَ القيامةِ يقولون: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] أو ينكرون أن يكون ذلك حقًّا.
{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} التَّنكيرُ للتَّعظيم؛ أي: ولا يخبرُكَ بحقيقةِ الأمر على ما هو عليه خبرُه
(2)
مثلُ خبيرٍ أيِّ خبير، عليمٍ
(3)
بكلِّ خفيَّةٍ وجليَّةٍ؛ يعني: ما أخبرتكم به مِن حالِ الأوثان هو الحقُّ؛ لأنَّي خبير بكلِّ شيءٍ.
* * *
(15) - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} في أنفسكم، وما يَعِنُّ لكم
(4)
.
وتعريف {الْفُقَرَاءُ} للماهيَّة؛ بناءً على المبالغة.
وتوسيط {أَنْتُمُ} للحصر؛ أي: أنتم جنس الفقراء مطلقًا، دون سائر الخلائق، يعني أنَّكم لكثرة حوائجكم وشدَّة افتقاركم وغاية ضعفكم بالنِّسبة إلى سائر الخلائق كأنَّكم جنس الفقراء، ليس غيركم فقراء، ولذلك قابله بقوله:
(1)
في (م) و (ع): "عنهم"، وقوله:"لغيبتهم" سقط من (ف) و (ك).
(2)
في (ك) و (م): "خبير"، وفي (ف) و (ي):"خبر".
(3)
"عليم" سقط من (م).
(4)
في (ك): "يعني لكم"، وفي (ف):"يعز لكم". والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب، ويعن: بكسر العين وتشديد النون؛ أي: ما يعرض لكم ويطرأ من الأحوال. انظر: "حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي"(7/ 220).
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} مطلقًا وبالذَّات؛ لوجوب وجوده، لا غنيَّ سواه؛ لاحتياجِ الكلِّ إليه.
وزاد عليه:
{الْحَمِيدُ} لأنَّ الغنيَّ قد لا يَجود فلا يُحمَدَ، وهو الجوادُ المنعِمُ بجميع النِّعمِ، وقد أنعمَ عليهم بالوجودِ وكلِّ ما يحتاجون إليه، فكان حميدًا مطلقًا.
* * *
(16) - {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} .
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} : بقوم أَطْوعَ
(1)
منكم.
* * *
(17) - {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} .
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} : بعسيرٍ.
* * *
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : ولا تحملُ نفسٌ آثمةٌ إثمَ نفسٍ أخرى، فلا تغترُّوا بقولِ كبرائكم القائلين:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] ولا يخالفُ
(2)
(1)
في (ك): "أنجع".
(2)
في (ف) زيادة: "وزر".
هذا قولَه في حقِّ الضَّالين المضلِّين: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؛ لأنَّ الحملَيْنِ كلاهما مِن أوزارِه.
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} : نفسٌ أثقلها
(1)
الأوزارُ {إِلَى حِمْلِهَا} : لحملِ بعضِ
(2)
أوزارِها.
(3)
: لا يحملُ شيئاً مِن وزرها؛ أي: لا غِياثَ لِمَنِ استغاثَ منهم.
حذفَ مفعول (إن تدع) للتَّعميم؛ أي: وإن تدعُ كلَّ مَن في العالم واحداً واحداً لم يُجبْ، ولهذا أضمر المدعوَّ في:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .
قرئ: (ذو قربى)
(4)
على حذف الخبر، ويجوز أن تكون {كَانَ} تامَّةً، إلَّا أنَّ النَّاقصة أوقعُ وأفصح.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} حال من الفاعل؛ أي: يخشونه غائبين عن عذابه، أو من المفعول؛ أي: يخشون عذابَه غائباً عنهم، أو نصب على الظَّرف؛ أي: في السِّرِّ والغيبة مِن النَّاس.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} فإنَّهم المنتفِعون بالإنذار، واختلاف الفعلَيْن
(5)
للدِّلالة على استمرارِ خشيتِهم.
(1)
في (ك): "أثقلتها".
(2)
في (ف): "ما يحمل"، وفي (م):"بحمل بعض".
(3)
بعدها في (ف): "أي".
(4)
انظر: "الكشاف"(3/ 607).
(5)
في (م): "الفعل".
{وَمَنْ تَزَكَّى} : ومَن تطهَّر عن دنسِ المعاصي {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} إذ نفعُه لها، وهو اعتراضٌ مؤكِّدٌ لخشيتِهم وإقامتِهم الصلاة؛ لأنَّهما من جملة التَّزكِّي.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ترغيبٌ وترهيبٌ.
* * *
(19) - {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} .
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} مثَلٌ آخرُ للكافر والمؤمن، أو للصَّنم والله تعالى، وتأخير {وَالْبَصِيرُ} لمحافظةِ الفاصلة.
* * *
(20) - {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} .
{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} مثلٌ للباطل والحقِّ. وإنَّما جمع {الظُّلُمَاتُ} دون {النُّورُ} لأنَّ الحقَّ واحدٌ بخلافِ الباطل فإنَّه على أنواع متعدِّدة.
* * *
(21) - {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} .
{وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} مثلٌ للثَّواب والعِقاب. و {الْحَرُورُ} : فَعولٌ مِن الحرِّ، غلبَ على السَّموم، وقيل: غلب على ما يكون باللَّيل، والسَّموم ما يكون بالنَّهار، والواوات بعضُها عاطفة الوتر على الوترِ كالَّتي بين {الْأَعْمَى} و {الْبَصِيرُ} ، وبعضُها عاطفة الشَّفع على الشَّفعِ كالَّتي بينهما وبين
(1)
(1)
في (م): "كالتي بين"، وفي (ي) و (ع):"كالتي بينها".
وكرَّر {وَلَا} فيما كرَّر لتأكيد المنافاة، فـ {الظُّلُمَاتُ} تنافي {النُّورُ} ، و {الظِّلُّ} ينافي {الْحَرُورُ} ، و {الْأَعْمَى} لا ينافي {وَالْبَصِيرُ} ، إنَّما المنافاة بين الوصفَيْنِ، ولذلك يكون الشَّخصُ الواحد بصيراً في وقتٍ وأعمًى
(1)
في وقتٍ آخرَ، ولهذا
(2)
لم يذكر (لا) بينهما.
* * *
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} مثلٌ للعقلاءِ الذين دخلوا في الإسلامِ، والجهَّال الذين لم يدخلوا فيه وأصرُّوا على الكفر.
آثر صيغةَ الجمع هنا لأنَّه أرادَ نفيَ المساواة بين الأفراد؛ أي: ليس في جنس الأموات فردٌ يساوي فرداً من جنس الأحياء، ولا صحَّة لهذا المعنى في الأعمى والبصير؛ فإنَّه قد يوجد في جنس الأعمى ما يساوي بعضَ أفراد البصير، بل يَفضُلُ عليه، فلذلك آثر فيه
(3)
صيغة الإفراد تفضيلاً للجنسِ على الجنسِ.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} هدايتَه، فيوفِّقه لفهم آياته والاتِّعاظِ بعظاتِه. وبناء الفعل على الاسم يفيد أنَّك لا تُسمِعُ مَن تشاءُ.
{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وما مَثلُكَ في إرادة إسلام مَن تشاءُ مِن قومٍ مخذولين إلَّا مَثلُ مَن يريد أن يُسمِعَ مَن في القبور، وهو ترشيحٌ لتمثيلِ
(1)
في (ك): "أعمى".
(2)
في (ك) و (ي) و (ع): "فلهذا".
(3)
في (م): "عليه".
المصرِّيْنَ على الكفر بالأموات، ومبالغة في إقناطه عنهم
(1)
.
* * *
(23) - {أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} .
ثمَّ قالَ: {أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} ؛ أي: لسْتَ بمسمعٍ؛ فإنَّ الإسماعَ ليسَ إليك، ولا حيلةَ لك في إسماع المطبوع على قلوبهم، ما عليك إلا الإنذار.
* * *
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} حالٌ مِن أحد الضَّميرَيْنِ؛ أي: محقِّين، أو محقًّا، أو صفةُ مصدر محذوف؛ أي: إرسالاً مصحوباً بالحقِّ، أو صلةٌ لقوله:
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ؛ أي: بشيراً بالوعد الحقِّ، ونذيراً بالوعيد الحقِّ.
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ} الأمَّةُ: الجماعةُ الكثيرةُ، والمراد هنا: أهل عصرٍ.
{إِلَّا خَلَا}
(2)
: مَضى {فِيهَا نَذِيرٌ} مِن نبيٍّ، أو عالمٍ قائمٍ مقامَه في الإنذارِ.
وإنَّما خصَّه بالذِّكر لأنَّ البشارة إنَّما تكون بالسَّمع، فهي مِن خصائص الأنبياء، فالبشير لا يكون إلَّا نبيًّا، أو ناقلاً عنه، بخلاف الإنذار فإنَّه كما يكون بالسَّمع يكون بالعقل، فلذلك وُجِدَ الثَّاني في كلِّ أمَّةٍ دون الأوَّل، ولا يُشكل هذا بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44]؛ لأنَّ المراد مِن النَّذير فيه: النذَّيرُ بالسَّمع.
(1)
في (ف): "إقناعهم". وعند البيضاوي: (إقناطه منهم).
(2)
من قوله: "أي: بشيراً بالوعد الحقِّ .. " إلى هنا سقط من (م) و (ي) و (ع).
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مَسْلاةٌ للرَّسول عليه الصلاة والسلام.
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزات الشَّاهدة على نبوَّتهم.
{وَبِالزُّبُرِ} : وبالصُّحف {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : وبجنس الكتاب كالتَّوراة والزَّبور والإنجيل
(1)
.
ولَمَّا كانتِ الأشياء المذكورةُ في جنس الأنبياء عليهم السلام، بعضُها في جميعهم وهي البيِّنات، وبعضُها في بعضهم وهي الزُّبر
(2)
والكتب؛ أسندَ المجيء بها إليهم مطلقاً على أنَّ الكلَّ منهم جاؤوا بالكلِّ، لا أنَّ كلَّ واحدٍ جاء
(3)
بكلِّ واحدٍ.
* * *
(26) - {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} قد سبق تفسيره في سورة سبأ.
* * *
(1)
في هامش (ف) و (م) و (ي) و (ع): "أي أعم من التفصيل والجمع، لا على الثاني كما توهمه القاضي".
(2)
في (م): "الزبور".
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "جاؤوا".
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} ؛ أي: أجناسُها كالرُّمَّان والتُّفاح والتِّين والعنب وغيرها ممَّا لا يُحصى، أو أصنافها على أنَّ كلًّا منها أصنافٌ مختلفةٌ، أو هيئاتها مِن الحمرة والصُّفرة والخضرة ونحوها.
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} : طرائقُ مختلفٌ ألوانُها؛ أي: جبالٌ كلُّ بعضٍ منها على لونٍ وطريقٍ مخالفٍ لآخر، كما في الثَّمرات، أو: مِن الجبالِ ذو جُدَد؛ أي: جنس ذو خطط.
{بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} ؛ أي: بعضٌ مختلفُ الألوانِ، وبعضٌ على لونٍ واحدٍ.
وقرئ: (جُدُدٌ) بضمِّ الدَّال
(1)
، جمع جَديدةٍ، وهي الجُدَّة، و:(جَدَد) بفتحتَيْنِ
(2)
، وهو الطَّريق الواضح.
{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطفٌ على {بِيضٌ}
(3)
، أو على {جُدَدٌ}؛ أي: ومن الجبال
(4)
مخطط
(5)
ذو طرائق مختلفة، ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبُ.
والغرابيبُ: البالغُ في السَّواد، وهو مِن التَّوابع المؤكِّدة، ومنه الغراب، وعليه تفسير عكرمة
(6)
.
(1)
نسبت للزهري. انظر: "المحتسب"(2/ 199).
(2)
نسبت للزهري أيضاً. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 124)، و"المحتسب"(2/ 199).
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "بعض".
(4)
"أي ومن الجبال" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(5)
في (ك): "خطط"، وفي (م):"مختطة".
(6)
انظر: "الكشاف"(3/ 609)، وفيه: وعن عكرمة رضي الله عنه: هي الجبال الطوال السود.
ووجهُه: أنْ يُضمَر المؤكَّد قبلَه لأنَّه تابعٌ، ثمَّ أوقع بياناً له خيفةَ اللَّبس، كقول النَّابغة:
والمؤمنُ العائذاتِ الطَّيرَ
(1)
وتغيير الأصل فيه لزيادة التَّأكيد، كأنَّه دلَّ على المعنى الواحد بطريق الإضمار والإظهار، فيكون كتكرير
(2)
التَّأكيد بوجهٍ أبلغَ.
* * *
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} : كاختلاف الثِّمار والجبال.
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} : ما يخشى اللهَ تعالى مِن بين
(3)
عبادِه إلَّا العلماءُ باللهِ وبصفاتِه وأفعالِه؛ فإنَّ الخشيةَ على قَدْرِ العلمِ، فمَنْ كانَ أعلمَ باللهِ كانَ أخشى منه.
وفي الحديث: "أعلمُكُم باللهِ أشدُّكُم خشيةً"
(4)
.
(1)
هو في "ديوانه - بشرح ابن السكيت"(ص: 20)، وتمامه:
....................... يمسَحها
…
ركبانُ مكَّة بين الغَيْلِ والسَّندِ
و (المؤمن): بالرفع عطف على مبتدأ تقدم، و (العائذات) منصوب بالمؤمن، و (الطير): عطف بيان للعائذات، ويجوز جعله بدلا منه، وكذا كل موصوف تبع صفته.
(2)
في (ف) و (م): "فيكون لتكرير"، وسقطت "فيكون" من (ع) و (ي).
(3)
"بين" سقط من (م).
(4)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(8/ 106)، و"الكشاف" (3/ 611). وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 152): غريب. وروى الدارمي في "سننه"(374) عن عطاء قال: قال موسى عليه =
ولهذا لَمَّا ذكر أفعالَه الدَّالة على كمال قدرته وعظمته وحكمته أتبعه بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} ، أي: إنَّما يخشاه مثلُك ومَن على صفتك ممَّن يعرفه حقَّ معرفته.
وتأخيرُ الفاعلِ للحصر فيه، ولو قُدِّم لانعكس الحصر، فكان في المفعول.
ومَن قرأ برفع (اللهُ)
(1)
ونصب (العلماءَ)
(2)
استعارَ الخشيةَ للإجلال والتَّعظيم؛ أي: ما يجلُّ اللهُ مِن بين النَّاس كما يُجَلُّ المَهيبُ المَخْشِيُّ إلَّا العلماءَ.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليلٌ لوجوب الخشيةِ؛ لأنَّ مَن قدرَ على العقوبة والانتقام والعفو والغفران حقُّه أنْ يُخْشَى.
* * *
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} : يداوِمون على قراءة
(3)
القرآن.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} يعني: لا يقنعون
(4)
بتلاوته عن حلاوة العمل به.
= السّلام: يا رب، أيُّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه، قال: يا رب، أيُّ عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له، قال: يا رب، أيُّ عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "برفع الأول".
(2)
نسبت لعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة. انظر: "تفسير الثعلبي"(8/ 105)، و"الكشاف" (3/ 611). وقد طعن ابن الجزري في هذه القراءة. انظر:"النشر"(1/ 16).
(3)
"قراءة" سقط من (ف).
(4)
في (ف): "ينفقون"، وفي (ي) و (ع):"يعنون". والمثبت من (ك) و (م)، وهو موافق لما في "تفسير النسفي"(3/ 87)، وفيه:(لا يقتنعون).
{سِرًّا وَعَلَانِيَةً} كيف اتَّفَق
(1)
من غيرِ قصدٍ إليها، أو سرًّا في المسنونة وعلانيةً
(2)
في المفروضة.
{يَرْجُونَ} خبر {إِنَّ} ، أو حالٌ من ضمير {أَنْفَقُوا} ، والخبر {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
{تِجَارَةً} : تحصيلَ ثوابٍ بالطَّاعة، لا طلبَه؛ لأنَّه لا يصلح متعلَّقاً للرَّجاء.
{لَنْ تَبُورَ} : لن تكسد ولن تهلك
(3)
بالخسران، صفةٌ للتِّجارة.
* * *
(30) - {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
{لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلِّق بـ {لَنْ تَبُورَ} ، أو بـ {يَرْجُونَ} ، أو علَّة للأفعال المذكورة من التِّلاوة وإقامة الصَّلاة والإنفاق؛ أي: فعلوا مِن الطَّاعات راجين تجارةً لن تبور ليوفِّيهم ويزيدهم
(4)
.
{أُجُورَهُمْ} ما وعدَ مِن ثوابِ أعمالهم، وإنَّما عبَّرَ عنه بالأجر لكونِه في مقابَلة العمل.
{وَيَزِيدَهُمْ} على الموعود.
{مِنْ فَضْلِهِ} متعلِّق بجميع ما ذُكِرَ مِن التَّوفية والزِّيادة، لا الزِّيادة
(5)
خاصَّة؛
(1)
في (ف): "أنفق".
(2)
في (ف): "وعلانيته".
(3)
في (م) و (ي) و (ع) زيادة: "يعني".
(4)
"ويزيدهم" سقط من (ك).
(5)
في (ك) و (ي) و (ع): "للزيادة".
إذ حينئذٍ يلزم أن لا يكون تعالى
(1)
في التَّوفية متفضِّلاً، بل مؤدِّياً ما وجب عليه، كما زعمته المعتزلة
(2)
.
{إِنَّهُ غَفُورٌ} لفرطاتهم {شَكُورٌ} لطاعاتهم. مجازٌ
(3)
عن إعطاءِ الجزيل على العمل القليلِ.
* * *
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} : القرآن و {مِنَ} للتَّبيين، أو الجنس و {مِنَ} للتَّبعيض.
{هُوَ الْحَقُّ} ؛ أي: الكاملُ في كونه حقًّا.
{مُصَدِّقًا} حالٌ مؤكِّدة
(4)
؛ لأنَّ الحقَّ لا ينفكُّ عن هذا التَّصديقِ.
{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مِن الكتبِ المتقدِّمة.
{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ} بالبواطنِ {بَصِيرٌ} بالظَّواهر، فلو لم يرَ فيك أهليَّةً واستحقاقاً لهذه الكرامة لم يوحِ إليك مثلَ هذا الكتاب المعجز، الذي هو عيارٌ على سائر الكتب
(5)
.
(1)
بعدها في (ف) زيادة: "من".
(2)
في هامش (ف): "لا يلائم المذهب الحق بل يناسب مذهب الفيلسوف. منه".
(3)
في (م): "مجازا".
(4)
في (م): "مؤكد".
(5)
في النسخ: "الذي هو كسائر الكاتب"، وجاء في هامش (ي):"كذا في نسخة المؤلف، ولا يخفى أنه سقط شيء وعبارة القاضي: عيار على سائر الكتب". قلت: ليست هي عبارة القاضي فقط، بل =
وتقديم الخبير لأنَّ الاعتناء
(1)
بالأمور
(2)
الرُّوحانيَّة أكثر، وهي العمدة.
* * *
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} ؛ أي: أعطيناه بلا كلفةِ كسبٍ، كمالِ الميراثِ.
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} يعني: أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم مختارون مِن بين سائر الأمم.
وفي عبارة {أَوْرَثْنَا} إشارة إلى أنَّ الكتاب المذكور يكون باقياً في هذه الأمَّة يرثُه بعضُهم عن
(3)
بعضٍ إلى قيام السَّاعة، ولا يضيع كما ضاع سائر الكتب، فالمعنى: نورِثه، على عادة
(4)
الله تعالى في إخباره عما يتحقق وقوعه.
وكما أنَّ ورثةَ الدُّنيا ثلاثةُ أصنافٍ: صاحب فرضٍ، وعصبة، وذوي الأرحام، كذلك ورثةُ الدِّين ثلاثةُ أصناف:
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو مَن عاشَ عاصياً ومات عاصياً من أهل الإيمان الذين قال النبي عليه السلام فيهم: "شفاعتي لأهل الكبائر مِن أمَّتي"
(5)
.
= الزمخشري والقاضي وأبي السعود والآلوسي.
(1)
في (ف) و (ك): "الاعتقاد"، ووقع في النسخ عدا (ي):"الخبر" بدل: "الخبير".
(2)
في (ف): "بالأنوار".
(3)
في (ف) و (ك): "من".
(4)
في (ي) و (ع): "عبادة"، ولعلها محرفة عن:(عبارة).
(5)
رواه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وابن ماجه (4310)، من حديث أنس رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قدَّمه اهتماماً لأنَّه أبعدُ الأصناف عن كرامة الاصطفاء، واللَّام للاختصاص لأنَّ فعل الظُّلم يتعدَّى بنفسه، وفائدته الاحترازُ عن الظُّلم لغيره؛ لأنَّ التَّجاوز عنه
(1)
في عهدة ذلك الغير.
{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهو مَن عاش عاصياً ومات مطيعاً.
{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهو من عاش مطيعاً ومات مطيعاً.
نُقِلَ عن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه أنَّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمنا مغفورٌ له"
(2)
.
فالأصناف المذكورة على مراتبَ في الوصول إلى المقصد: متأخِّر، ومتوسِّط، وسابق حاز قَصَب السَّبق، لكن لا بفضيلةٍ ذاتيَّةٍ كما في سباق الدُّنيا، بل بفضلٍ مِن الله تعالى، وإلى هذا أشير بقوله:{بِإِذْنِ اللَّهِ} : بتيسيره، وقد سبقَ وجهُ هذا المجاز.
والباء الأولى للتَّعدية، مِن قولِكَ: سبقتُه بالكرة: إذا ضربتَها قبله، ومنه قوله عليه السلام:"سَبَقكَ بها عُكاشةُ"
(3)
.
(1)
"عنه" سقط من (م).
(2)
رواه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 443)، والثعلبي في "تفسيره"(5/ 180)، والواحدي في "الوسيط"(3/ 505)، من طريق الفضل بن عميرة، عن ميمون بن سياه، عن أبي عثمان النهدي عن عمر رضي الله عنه. والفضل بن عميرة ضعيف، قال العقيلي: لا يتابع عليه.
ورواه البيهقي في "البعث والنشور"(65) من طريق ميمون بن سياه عن عمر رضي الله عنه. وهذا منقطع كما ذكر البيهقي.
ورواه سعيد بن منصور في "سننه"(2308) عن عمر موقوفاً. وانظر: "الكافي الشاف"(ص: 139).
(3)
رواه البخاري (6542)، ومسلم (216)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
{ذَلِكَ} الاصطفاء {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} لَمَّا ذكر الأصنافَ المذكورة بحسب أحوالهم في دار العمل فرَّق بينهم، ولَمَّا ذكرهم باعتبار مآلهم إلى دار الجزاء جمعَهم فقال:
* * *
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلٌ؛ لأنَّ الفضل هو السَّبب في الوصول إليها، فكأنَّه مِن شدَّة اقتضائه للمسبَّب عينُه
(1)
، وتنزيل السَّبب منزلةَ المسبَّب غيرُ عزيز.
{يَدْخُلُونَهَا} ؛ أي: الفِرق الثَّلاث يدخلونها، ويجوز أن تكون الإشارة إلى السَّبق، واختصاصُ السَّابقين بعد التَّعميم
(2)
بذكر ثوابهم، والسُّكوتُ عن القسمَيْنِ الأخيرَيْنِ؛ للإنذارِ والحثِّ على التَّوبة والتَّشويق إلى
(3)
السَّابقين.
وقرئ: (جنَّاتِ)
(4)
منصوبةً بفعلٍ يفسِّره الظَّاهر.
وقرئ: {يُدْخَلونها} على بناءِ المفعول
(5)
.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا} حالٌ مقدَّرة، أو خبرٌ ثانٍ، وقرئ:(يَحْلَون) مِن حَلِيَتِ المرأةُ فهي حَالِيَةٌ
(6)
.
(1)
في (ف): "عنه".
(2)
في (ف) و (ك): "التَّقسيم".
(3)
في (ف): "أي"، وبعدها في (م) و (ي)"سلو"، وفي (ع):"شلو"، وفي (ف) بياض بمقدار كلمة.
(4)
نسبت للجحدري. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 124).
(5)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 182).
(6)
انظر: "الكشاف"(3/ 614).
{مِنْ أَسَاوِرَ} {مِنْ} للبيان أو للتَّبعيض؛ أي: يحلَّون بعضَ أساور، كأنَّه بعضٌ سبقَ
(1)
سائر الأبعاض، كما سبق المسوَّرون به
(2)
غيرهم، وهذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى السَّبق.
{مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ} للبيان، لا للتَّبعيض؛ إذ حينئذٍ يكون الخبر خلواً عن الفائدة.
{وَلُؤْلُؤًا} عطف على {ذَهَبٍ} ؛ أي: مِن
(3)
ذهبٍ مرصَّع باللُّؤلؤ
(4)
، أو ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ، وقِرئ:{وَلُؤْلُؤًا}
(5)
عطفاً على محلِّ {مِنْ أَسَاوِرَ}
(6)
.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} التَّنكير للدِّلالة على أنَّه نوعٌ غيرُ معهودٍ مِن جنسِ الحريرِ.
* * *
(34) - {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} : همّهم مِن خوف العاقبة، أو مِن أجل المعاش وآفاته، أو مِن وسوسةِ إبليس وغيرها.
{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} للمُذنبين {شَكُورٌ} للمطيعين.
* * *
(1)
في (ك): "فارق"، وفي (ف) و (م) و (ع) و (ي):"فلق"، والمثبت "الكشاف"(3/ 614).
(2)
في (ك): "به المتسورون به".
(3)
"من" سقط من (م).
(4)
في (م): "من لؤلؤ".
(5)
في (ك)"لؤلؤاً بالواو"، وفي (ف):"بالواو".
(6)
قرأ نافع وعاصم بالنصب، وباقي السبعة بالخفض. انظر:"التيسير"(ص: 156).
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} : دارَ الإقامة {مِنْ فَضْلِهِ} : مِن إنعامه وتفضُّله، إذ
(1)
لا واجبَ عليه.
{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} النَّصبُ: التَّعبُ والمشقَّةُ التي تصيب المنتصِبَ للأمرِ.
{وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} اللُّغوبُ: الفُتور والكَلال دونَ التَّعبِ، فهو مِن بابِ التَّرقِّي لا مِن باب
(2)
التَّتميم، ولذلك أعادَ قولَه:{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا} ، ولم يقل: ولا لغوب.
* * *
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} جواب النَّفي، ونصبُه بإضمار (أنْ)؛ أي: لا يموتون بموتٍ ثانٍ فيستريحوا
(3)
، يُقال: قضى عليه: إذا أماته، قال تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15].
فلا بُدَّ مِن صرف قوله: {فَيَمُوتُوا} عن الحقيقة إلى المجاز؛ صوناً له
(4)
عن وَصمةِ اللَّاغية
(5)
.
(1)
"إذ" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(2)
"باب" من (ك) و (م).
(3)
في (ي) و (ع): "فيسترحوا"، و في (ف):"فيسرحوا".
(4)
"له" زيادة من (ك).
(5)
أي: لئلا يلغو {فَيَمُوتُوا} . وتحرفت "اللاغية" في (ف) و (ك) و (ي) إلى: "اللاعنة".
وقرئ: (فيموتون)
(1)
عطفاً على {يُقْضَى} ، وإدخالاً له في حكم النَّفي؛ أي: لا يقضي عليهم الموت فلا يموتون، كقوله:{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 36].
{وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} : مِن عذاب جهنَّم، كقوله
(2)
تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، فإنَّ فيه دلالةً على أنَّ مظنَّة الخفَّة في غيرهم مئنَّةُ
(3)
الشِّدة في حقِّهم.
{كَذَلِكَ} : مثلَ ذلك الجزاء {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} : مبالغٍ في الكفر أو الكفران
(4)
.
قرئ بالنُّون والياء، والفاعل هو الله تعالى، وقرئ:{يُجْزَى} على بناء المفعول، وإسنادِه إلى {كُلَّ}
(5)
.
* * *
(1)
نسبت للحسن وعيسى. انظر: "المحتسب"(2/ 201)، و"تفسير الثعلبي"(5/ 183).
(2)
في (م): "لقوله".
(3)
أي: مخلقة ومجدرة، مأخوذة من إنَّ التحقيقية. وتحرفت في (ك) إلى:"مشيئة"، وفي (م) إلى:"متنة"، وفي (ف) إلى:"شد".
(4)
في (ك): "الكفر أي الكفران"، وفي (ف):"الكفر والكفران"، في (ي):"الكفور أو الكفران"، والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لعبارة البيضاوي وأبي السعود والآلوسي. وهو - كما قال الشهاب - إشارة إلى أنه يجوز أن يكون من الكفر أو الكفران. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 227).
(5)
وهي قراءة أبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 182).
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} يفتعِلون، مِن الصُّراخ، وهو الصِّياح بجهدٍ وشدَّةٍ، واستُعمِلَ في الاستغاثة؛ لجهدِ المستغيثِ صوتَه
(1)
.
{فِيهَا} : في جهنَّم.
{رَبَّنَا} بإضمار القول
(2)
؛ أي: يستغيثون ويقولون: ربَّنا.
{أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} اعترافٌ منهم بأنَّ ما عملوه كانَ غيرَ صالحٍ حَسِبوه صالحاً، وتحسُّرٌ عليه، والدِّلالة
(3)
على أنَّ طلب الخروج لتلافيه.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ؛ أي: مَن أرادَ أنْ يتذكَّرَ، توبيخٌ مِن الله تعالى على طَلِبتهم، وتقريرٌ على تقدير القول؛ أي: نقول لهم: أتتمنونَ الرُّجوع ولم نعمِّركم مدَّة يمكن فيها التَّذكُّر والتَّدبُّر؟
و {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ} يتناولُ كلَّ عمرٍ يتمكَّنُ فيه الإنسان مِن العمل الموجب للنَّجاةِ وإنْ قَصُرَ، إلَّا أنَّ التَّوبيخَ في المتطاوِل
(4)
أعظم.
وقيل: ما بين العشرين إلى السِّتين، وعنه عليه السلام:"العمرُ الذي أَعْذرَ اللهُ فيه إلى ابن آدم ستُّون سنةً"
(5)
.
(1)
قوله: "لجهد" بالدال المهملة لا بالراء كما في بعض نسخ البيضاوي؛ أي: يجهد ويبالغ في مد صوته ويبذل جهده فيه. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 227).
(2)
في (ف) و (ك): "بالإضافة إلى القول".
(3)
في (ف) و (ك): "اعترافاً منهم والدلالة" وسقط باقي العبارة.
(4)
في (ف) و (ي) و (ع): "التطاول".
(5)
روى نحوه البخاري (6419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه: "أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلَّغه ستين سنة".
{وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} عطفٌ على معنى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} ؛ لأنَّه تقريرٌ لفظُه لفظُ الاستفهام، ومعناه معنى الخبر، كأنَّه قيل: قد عمَّرناكم وجاءكم النَّذير؛ أي: النَّبيُّ
(1)
المنذِر أو الكتاب، وهذا إلزام الحجَّة
(2)
عليهم بالعقل والسَّمع؛ فإنَّ التَّذكُّرَ مِن باب العقل، والإنذار مِن باب السَّمع.
والفاء في قوله: {فَذُوقُوا} للسَّببيَّة؛ أي: ما تذكَّرتم فذوقوا بسببِه
(3)
، وكذا الثَّانية إلَّا أنَّ فيها معنى التَّعليل.
{فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} يدفعُ العذابَ عنهم.
* * *
(38) - {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ما غابَ فيها
(4)
عنكم.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليلٌ؛ لأنَّ ما في الصُّدور أخفى الغيوب، فإذا علمَه علمَ كلَّ غيبٍ في العالم، فيعلَمُ أنَّه لو ردَّهم إلى الدُّنيا لم يعملوا غير الذي كانوا يعملون؛ كقوله
(5)
: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
* * *
(1)
"النبي" من (ف) و (ك).
(2)
في (ف): "ألزم الحجبة".
(3)
في (ف) و (ي): "سببه"، وفي (ع):"سببية".
(4)
في (ك): "فيهما".
(5)
في (ف) و (م): "لقوله".
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} يُقال للمستخلَفِ: خليفة وخليف، ويجمع الخليفة على خلائِف، والخليف على خُلفاء.
والخطاب عامّ على أنَّ المعنى: أنَّه جعلكم خلفاء في أرضِه، وألقى إليكم مقاليدَ التَّصرُّف فيها، وأباح لكم منافعها، لتؤمنوا به وتشكروه
(1)
.
وقيل: لمن بُعِثَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم خَلَفوا مَن قبلَهم، وشاهدوا مِن آثارِ
(2)
هلاكهم ما فيه معتَبر، ورأوا ما فيه مزدَجَر.
{فَمَنْ كَفَرَ} منكم وغمطَ تلك النِّعمةَ {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ؛ أي: فعليه وَبال كفرِه لا على غيرِه.
{وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} بيانٌ له، والمقتُ: أشدُّ البغضِ، والتَّنكيرُ للتَّعظيم؛ لأنَّ مقتَ الله أعظمُ مِن كلِّ مَقْتٍ، وكذا التَّنكير في {خَسَارًا} .
{وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} وهو خسار الآخرة.
تكرير {الْكَافِرِينَ} ، والتَّصريح في
(3)
موضع الإضمار ذمٌّ، وبيان لكون الكفر مقتضياً لكلِّ واحدٍ مِن الأمرَيْنِ القبيحَيْنِ
(4)
المذمومَيْنِ بالأصالةِ.
* * *
(1)
في (م): "وتشكرونه".
(2)
في (ف) و (ك): "آثارهم".
(3)
في (ف): "والصريح من".
(4)
في (ف) زيادة: "القسمين".
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: آلهتَهم، وإضافة الشُّركاء إليهم للملابسة؛ لأنَّهم جعلوهم شركاء الله.
{اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} بدل من {أَرَأَيْتُمْ} بدلَ الاشتمال؛ لأنَّه بمعنى: أخبروني عن هؤلاء الشُّركاء وعمَّا
(1)
استحقُّوا به العبادة، أيَّ شيءٍ مِن الأرض استبدُّوا بخلقِه؟!
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} : أم لهم شركةٌ مع الله تعالى في خلق السَّماوات، فاستحقُّوا بذلك الشِّركةَ في الألوهيَّة ذاتيَّة
(2)
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} ينطقُ بأنَّهم شركاؤه.
ويجوز أن يكون الضَّمير في {آتَيْنَاهُمْ} للمشركين، كقوله:{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} [الروم: 35]، على أنَّ السُّؤال عن دليل آلهتهم: أهو برهانٌ عقليٌّ أم نقليٌّ؟
{فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} : على حجَّةٍ مِن ذلك الكتاب، بأنَّ لهم شركة جعليَّة.
وقرئ: {بَيِّناتٍ}
(3)
، فيكون إيماءً إلى
(4)
أنَّ الشِّركَ أمرٌ خطيرٌ، لا بُدَّ فيه
(5)
مِن تعاضد الدَّلائل.
(1)
في (ف) و (ك): "عما". والمثبت من باقي النسخ وهو الموافق لما في "الكشاف"(3/ 617) و"تفسير النسفي"(3/ 91).
(2)
في (ف): "وأنَّه"، وسقط من (ك).
(3)
وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 182).
(4)
في (م) و (ي) و (ع): "على".
(5)
في (م) و (ي) و (ع): "منه".
{أَمْ} منقطعةٌ على معنى الإضراب عن العقليِّ وإنكار النَّقليِّ، ثمَّ أضرب عنها
(1)
صريحاً بقوله: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} إذا ثبَتَ أن
(2)
ذلكَ لأتباعهم ما هو إلَّا غرورٌ صِرْفٌ، وهو قولهم:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
قوله: {بَعْضُهُمْ} بدل من {الظَّالِمُونَ}
(3)
، وهم الرُّؤساء، والمرادُ مِن البعض الآخر: الأتباعُ.
ويجوز أن يكون
(4)
وعد الشَّيطان للكافر
(5)
كما قال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، منَّاهم أن تشفعَ لهم أصنامهم وتقرِّبهم إلى الله زُلفَى.
* * *
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} : يمنعُهما مِن أن تَزولا؛ لأنَّ الإمساكَ منعٌ، أو: لأنْ لا تَزولا؛ كقوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]؛ أي: لأنْ لا تميدَ بكم.
(1)
في (ك): "عنهما".
(2)
في (ع) و (م) و (ي): "وأثبت أي".
(3)
في (م): "الظالمين".
(4)
"أن يكون" سقط من (ي) و (ع).
(5)
في (م): "للكافرين".
{وَلَئِنْ زَالَتَا} على سبيل الفَرْضِ {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} : ما أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} : مِن بعدِ اللهِ، أو: مِن
(1)
بعدِ الزَّوال.
واللَّامُ موطِّئةٌ للقسم، و {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} جوابٌ للقسم
(2)
سادٌّ مسدَّ جواب الشَّرط، و {مِنْ} الأولى مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفي، والثَّانيةُ للابتداء.
{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} لا يعاجِلُ بالعقوبةِ حيث يمسكهما، وكانتا جديرَتَيْنِ أنْ تُهدَّا هدًّا
(3)
لِعظمِ كلمة الشِّرك، كما قال:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} [مريم: 90].
{غَفُورًا} لِمَنْ تابَ عن الشِّركِ ووحَّده مؤمناً.
* * *
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ؛ أي: واحدةٍ مِن الأمم مِن اليهود والنَّصارى والصَّابئين وغيرهم، أو مِن الأمَّة التي يُقال فيها: هي إحدى الأمم؛ أي: أوحديتُها
(4)
؛ تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة، كما تقول: فلانٌ أحدُ الرِّجال.
بلغ قريشاً قبلَ مبعث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الكتاب كذَّبوا رسلَهم، فقالوا: لعنَ اللهُ
(1)
"من" سقط من (م) و (ع).
(2)
في (ك): "القسم".
(3)
في (ك): "أن تنهدما".
(4)
في (ع): "أو أوحديتها"، وفي:(م): "أو أحديتها"، وفي (ي):"أوحديتها".
اليهودَ والنَّصارى أتتهم الرسل فكذَّبوهم، فوالله لئن أتانا رسولٌ لنكوننَّ أهدى من إحدى الأمم، فلمَّا بُعِثَ الرَّسول
(1)
عليه السلام كذَّبوه
(2)
.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} التَّنكير للتَّعظيم.
{مَا زَادَهُمْ} النَّذير أو مجيئُه، والإسناد مجازيٌّ؛ لأنَّه هو السَّبب في أن زادوا نفوراً.
{إِلَّا نُفُورًا} عن الحقِّ وتباعداً عنه.
* * *
{اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} بدل من {نُفُورًا} ، أو مفعول له، أو حال؛ أي: مستكبرين.
{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} عطف على {نُفُورًا} على أنَّ الأصل: وأنْ مكَروا السَّيِّئ، أي: المكرَ السَّيء، فحذفَ الموصوف استغناءً بوصفه، ثمَّ بدل (أنْ) والفعل بالمصدَر، فصار: ومكر السَّيئ، ثمَّ أضيف.
{وَلَا يَحِيقُ} : ولا يحيط
(3)
{الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وهو الماكر
(4)
. وقرئ: (ولا يُحِيْقُ المكرَ)
(5)
؛ أي: لا يحيقُ اللهُ تعالى.
(1)
في (م): "رسول الله".
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 184)، و"الكشاف" (3/ 618). وهذه القصة وقعت في (ي) و (ع) و (م) عقب ما سيأتي من قوله:" {مَا زَادَهُمْ} أي: النذير أو مجيئه".
(3)
"ولا يحيط" من (ك).
(4)
في (ك): "الماكرون".
(5)
انظر: "الكشاف"(3/ 618).
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ} ؛ أي: ما
(1)
ينتظرون {إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} انتظارُ سُنَّتِهم - وهي
(2)
إنزال العذاب على مَن كذَّبَ مِن الأمم قبلَهم - مجازٌ عن استقبالهم
(3)
لذلك ووقوعه في المستقبل لا محالةَ، كالشَّيء المنتَظَرِ المترقَّبِ.
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} بأنْ لا يعذبهم.
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} بأنْ ينقله إلى غيرهم، وقوله:
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} استشهادٌ عليهم
(4)
بما كانوا يشاهدونه في متاجرهم ومسائرهم إلى الشَّام والعراق واليمن مِن آثار الماضين، وعلامات
(5)
هلاكِهم وديارهم.
{وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} : ليسبقه ويفوتَه؛ أي: ليس مِن شأنه تعالى ذلك.
{مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا} بالأشياء كلِّها.
{قَدِيرًا} عليها، ثمَّ بيَّنَ أنَّ تأخيرَ العذاب عنهم ليس للعجزِ بل لحكمةٍ تقتضيه، فقال:
(1)
"أي ما" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(2)
في (م): "وهو".
(3)
في (ف): "استثقالهم".
(4)
في (م): "عليه".
(5)
في (ف): "وعلامة"، وسقطت من (ي) و (ع).
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} مِن المعاصي {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} : على ظهرِ الأرضِ {مِنْ دَابَّةٍ} : مِن نسمةٍ تدبُّ عليها، أي: الإنس وحده.
وقيل: ما تركَ الإنسي
(1)
وغيرهم من سائر الدَّواب بشؤم ذنوبهم، على ما ورد في الآثار.
ويرجِّح الأوَّلَ قولُه: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} ، أي: يؤخِّرُ كلَّ واحدٍ منهم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : معلوم عندَه، قيل: هو يوم القيامة، وفيه: أنَّ الكلَّ لم يؤخَّرْ إليه.
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} : وقتُهم عذَّبهم
(2)
، حُذف الجزاء وأقيم
(3)
ما هو كالدَّليل عليه مقامَه، وهو قوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} ، وذلكَ أنَّ العمل بموجب العلِمِ كاللَّازم لشأن الحكيم
(4)
.
* * *
(1)
"الإنسي" من (م) و (ي)، وفي (ع):"إلا شيء".
(2)
في (ف) و (ك): "وقتُ عذابهم".
(3)
في (ك) و (ي) و (ع): "وأقام".
(4)
في (ف): "بشأن الحليم"، وفي (ك):"بشأن الحكيم".
سُورَةُ يس
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {يس} .
{يس} كـ: {الم} في الإعراب
(2)
.
وقرئ: بالكسر؛ كـ: جَيْرِ
(3)
.
وبالفتح كـ: أَيْنَ
(4)
؛ للجدِّ في الهرب مِن التقاءِ الساكنين لا للبناء، أو على إضمارِ حرف القَسَم ومنعِ الصرف، أو بالنصب؛ على: اُتْلُ {يس} .
وبالضَّمِّ كـ: (حيثُ)
(5)
، أو بالرفع على: هذه {يس} .
* * *
(2) - {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} .
(1)
في (م) زيادة: "ثمانون وثلاث آيات مكية".
(2)
في (ف): "الأغلب".
(3)
نسبت لأبي السمال. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 124).
(4)
نسبت لعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق. انظر: "المحتسب"(2/ 203)، و"تفسير القرطبي"(18/ 407).
(5)
نسبت لهارون الأعور ومحمد بن السميفع. انظر المرجع السابق.
وبتفخيم الألف وإمالتها
(1)
، وبإدغام النون في واو:{وَالْقُرْآنِ}
(2)
، وهي واو القَسَم، أو العطف إن جعل {يس} مُقسَماً به.
{الْحَكِيمِ} : ذي الحكمة، ومعنى {يس}: يا إنسانُ، بلغة طيِّئ عند الهيثم بنِ عديٍّ، وبالسُّريانيَّة عند ابنِ عباس رضي الله عنهما
(3)
.
وعند سعيد بنِ جُبَير: هو اسمٌ مِن أسماءِ محمَّد صلى الله عليه وسلم
(4)
، دليله:
(3) - {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب القَسَم، وهو ردٌّ على الكفَّار في قولهم:{لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43].
* * *
(4) - {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبرٌ بعد خبرٍ، أو صلة لـ {الْمُرْسَلِينَ} ، أو حالٌ مِن المستكنِّ في الجارِّ والمجرور، وفائدتُه التصريحُ بالمدح، والجمعُ بين وصفِه ووصفِ شريعته، وتعظيمه وتعظيمها المستفادِ مِن التنكير.
* * *
(1)
أَمالَ حمزة والكسائي وشعبة الياءَ غير مفرطين، والجمهور يفتحونها، ونافع وسطٌ بين ذلك. انظر:"السبعة"(ص: 538)، و"التيسير" (ص: 183).
(2)
قرأ جمهور السبعة بسكون النون مدغمةً في الواو، والكسائي وأبو بكر وورش وابن عامر بسكونها مظهرةً. انظر المرجعين السابقين.
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(19/ 198).
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(17/ 408).
(5) - {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وقرئ بالرفع
(1)
على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وبالنصب على المدح، أو على أنَّه مصدرٌ؛ أي: نُزِّلَ تَنزيلَ، وبالجرِّ على البدل مِن (القرآن).
* * *
(6) - {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} .
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا} متعلِّق بـ {تَنْزِيلَ} ، أو معنى الإرسال في {الْمُرْسَلِينَ} .
إنْ جعلْتَ (ما) في: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} نافيةً، فالجملة في محلِّ النصب صفةٌ لـ {قَوْمًا}؛ أي: قوماً غيرَ مُنذَرٍ آباؤهم، قيل
(2)
: لقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]، وفيه نظرٌ؛ إذ لا يَلزم مِن عدمِ إتيانِهم النذيرَ أنْ لا يكونوا مُنذَرين، فإنَّ إتيانَه بأهلِ الكتابِ وهم يعلمون ذلك يكفي في الإنذار.
وإنْ جعلتها موصولةً أو موصوفةً، فهي مع صلتِها أو صفتِها مفعولٌ ثانٍ لـ (تنذرَ)؛ أي: لتنذر قوماً الذي أُنذرَ به - أو: شيئاً أنذر به - آباؤهم مِن العذاب، كقوله:{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40].
وإن جعلتها مصدريَّةً، ففي محلِّ النصب على المصدر؛ أي: لتنذرَ قوماً ما أُنذرَ آباؤهم، والمعنى: إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائهم
(3)
.
وعلى الأول؛ يتعلَّق {فَهُمْ غَافِلُونَ} بالفعل المنفيِّ؛ أي: لم يُنذَروا {فَهُمْ غَافِلُونَ} على أنَّ عدمَ الإنذارِ هو سببُ غفلتهم.
(1)
قرأ بها ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 183).
(2)
في (ي): "قبل".
(3)
قوله: "والمعنى: إنذاراً مثلَ إنذارِ آباءَهم" سقط من (ف) و (ك) و (م).
وعلى الثاني؛ تعليلٌ للإرسال والإنذار؛ أي: إنَّك لمن المرسلين لتُنذرَهم؛ فإنَّهم غافلون.
والمراد بآبائهم: الأقربونَ الذين في زمنِ الفترة والجاهلية إنْ حُمل {مَا أُنْذِرَ} على النفي، والأقدمونَ مِن وَلَدِ إسماعيَل عليه السلام الذين كانت فيهم النذارةُ إنْ حُمل على الإثبات.
* * *
(7) - {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} ؛ أي: ثَبَتَ وَوَجبَ عليهم فهم لا يؤمنون، لمَّا علم مِن أعيانهم أنَّهم يموتون على الكفر باختيارهم إيَّاه وإصرارِهم عليه، فشاءَ منهم ذلك وأخبر عنهم به، وأمَّا قوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] فلا يعيِّن الأشخاصَ، ولا يقتضي أن يكون ذلك أكثرَ المذكورين.
* * *
(8) - {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} .
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} مثَّل تصميمَهم على الكفر وعدمَ مبالاتهم بالإنذار وتدبُّرِهم بالآياتِ تمثيلين؛ تقريراً لتصميمِهم على الكفر وعدمِ إرعوائهم عنه؛ جعلهم كالمغلولين المُقمَحِين في أنَّهم لا يلتفتون إلى الحقِّ، ولا يَعطفون أعناقَهم نحوَه، ولا يُطأطئون رؤوسَهم، وجعلهم كالمحصورينَ المحبوسينَ بين سدَّين لا يُبصرون ما قدَّامهم ولا ما خَلْفهم، فلا يتبصَّرون العِبَر، ولا يتأمَّلون في آياتِ الله تعالى فيَعتبروا ويَنزجروا.
{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} الضمير للأغلال؛ أي
(1)
: هي عريضةٌ تبلغُ بحرفِها الأذقانَ، والذَّقن: مجتمعُ اللَّحْيَين، فيضطرُّ المغلول إلى رَفْعِ وجهِه إلى السماء، وذلك هو الإقماحُ.
{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} : رافعونَ رؤوسَهم، غاضُّونَ أبصارَهم، يقال: أَقمحهُ الغُلُّ، إذا تركَ رأسَه مرفوعاً مِن ضِيقه، وقال الفرَّاء: المُقمَح: الذي يغضُّ بصرَهُ بعد رَفْعِ رأسِه
(2)
.
* * *
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قرئ: بالفتح والضَّمِّ
(3)
، وقيل: بالفتح المصدر، وبالضَّمِّ الاسم، وقيل: ما كان مِن أعمالِ الناس فبالفتح، وما كان مِن خَلْق اللهِ تعالى فبالضَّمِّ.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} : فأغشينا أبصارهم؛ أي: غطَّيناها وجعلنا عليها غشاوةً عن أن تطمح إلى شيءٍ، والمعنى: فأعميناهم، وقرئ: بالعين الغير المعجمة؛ مِن العَشا
(4)
.
{فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} : فلا ينتفعون بالإنذار، وهو
(5)
مضمون قوله:
(1)
في (م): "التي".
(2)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 373).
(3)
قرأ: {سَدًّا} بفتح السين الكسائي وحمزة وحفص، وباقي السبعة بضمها. انظر:"التيسير"(ص: 183).
(4)
في (ع) و (م) و (ي): "وهم"، وفي هامش (م):"لعله وهو".
(5)
نسبت لابن عباس وعكرمة ويحيى بن بعمر. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 124)، و"المحتسب"(2/ 204).
(10) - {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} قد سبق تفسيرُه في سورة البقرة.
{لَا يُؤْمِنُونَ} استئنافٌ لبيانِ عدمِ نفعِ الإنذار في حقِّهم، لمَّا بيَّن أنَّ الإنذارَ لا يَنجَع فيهم، وأنَّ المقصودَ مِن الإنذارِ - وهو إيمان المُنذَر - لا يترتَّب عليه، وأنَّ الإنذارَ وعدمَه بالنسبة إليهم سواءٌ، أَخبر أنَّ إنذارَهم كلا إنذارٍ، فقال:
{إِنَّمَا تُنْذِرُ} الإنذارَ المُنجعَ والمستتبعَ لفائدته {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} ؛ أي: آمَنَ بما جاء مِن عندِ الله تعالى، فالذِّكْرُ: القرآنُ.
{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} الخشيةُ كنايةٌ عن الائتمار بالأوامر والانزجارِ عن المناهي، ويَعضده قوله:
{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} وذلك أنَّ الغفرانَ جزاءُ الإيمان، والأجرَ الكريمَ جزاءُ العمل، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4].
وفي عبارة {الرَّحْمَنَ} إشارةٌ إلى أنَّ ما في الخشيةِ مِن الخوفِ ينبغي أنْ لا يخلوَ عن الرجاء، وذلك لأنَّ مقابلَ كلٍّ منهما مذمومٌ.
وإنَّما قال: {بِالْغَيْبِ} إذ عند العَيانِ لا يبقى للخشية شأنٌ.
* * *
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} نَبعثهم بعد مماتهم، أو نُخرِجهم مِن الضلالةِ بالهداية.
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ؛ أي: ما أَسلفوا مِن الأعمالِ الصالحة والطالحة، عبَّر عن إحاطةِ علمِه بأعمالهم بالكتابة التي تُضبَط بها الأشياءُ، وكَنى بذلك عن المجازاةِ، فانتظم مع قوله:{نُحْيِ الْمَوْتَى} .
{وَآثَارَهُمْ} وما بقيَ بعدَهم مِن آثارٍ حسنةٍ أو سيِّئةٍ، ونحوُه قولُه تعالى:{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]؛ أي: قدَّم من أعماله، وأخَّر مِن آثاره.
{وَكُلَّ شَيْءٍ} منصوب بعاملٍ مُضمَرٍ يُفسِّره: {أَحْصَيْنَاهُ} ، وقرئ: بالرفع على الابتداء
(1)
.
{فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يعني: اللوحَ المحفوظَ؛ لأنَّه أصلُ الكتبِ ومقتداها.
* * *
{وَاضْرِبْ لَهُمْ} ؛ أي: مثِّل لهم؛ مِن قولهم: عندي مِن هذا الضرب كذا؛ أي: مِن هذا المثال، هو يتعدَّى إلى مفعولين لتضمُّنه معنى الجَعل، وهما:
{مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} على حذفِ مضافٍ، تقديره: اجعل لهم مَثَلَ أصحابِ القريةِ مَثَلاً.
(1)
نسبت لأبي السمال. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 124).
ويجوز أنْ يُقتصر على مفعولٍ واحدٍ كالجعل، ويُجعل المقدَّرُ بدلاً مِن الملفوظ أو بياناً له؛ أي: اضْرِب لهم مَثَلاً مَثَلَ أصحابِ القريةِ.
والقريةُ: أَنطاكيةُ، عبَّر عنها هاهنا با لقرية، وفيما يأتي بالمدينة، رعايةً في كلٍّ مِن المقامَين ما يناسبه، وذلك أنَّ ما في أصلِ القرية مِن معنى الجمعِ يُناسبُ الأصحابَ، وما في أصِل المدينةِ مِن معنى الإطاعةِ يُناسِب غَرضَ ذلك الرجلِ مِن كلامه، وهو الحثُّ على اتِّباع المرسلين.
وانتصابُ {إِذْ} بأنَّه بدلٌ مِن أصحابِ القريةِ {جَاءَهَا} عدلَ عن الظاهر - وهو إرجاعُ الضميرِ إلى الأصحابِ - لأنَّ المذكورَ أوفرُ فائدةً، حيث دلَّ على أنَّهم بلَّغوا الرسالةَ إليهم في مقرِّ عزِّهم ومركزِ شوكتهم.
{الْمُرْسَلُونَ} رُسُلُ اللهِ عليهم السلام، ذكره ابنُ عباسٍ وكعبٌ
(1)
، وهو الظاهر مِن قوله:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ} ومن قولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} .
وقيل: رُسلُ عيسى عليه السلام، وإسنادُ الإرسالِ إليه تعالى لأنَّه فعلُ رسولِه وخليفتِه، وفيه تعظيمُه عليه السلام
(2)
، بعثهم دعاةً إلى الحقِّ وكانوا عبدةَ أوثانٍ، و (إذ) بدلٌ مِن (إذ) الأولى.
{اثْنَيْنِ} هما: يوحنَّا وبولس
(3)
، وقيلْ غيرُهما.
(1)
يعني: كعب الأحبار. ورواه عنهما وعن وهب بنِ مُنبِّه الطبريُّ (19/ 413 - 414).
(2)
في (م): "تعظيم عيسى عليه السلام وإسناد الإرسال إليه تعالى".
(3)
في (ف) و (م): "يحيى ويونس"، وكذا وقع في بعض نسخ البيضاوي، فقال الشهاب: قوله: (يحيى ويونس) وقع في نسخة بدله: يوحنا وبولص، وهو الذي صححه الشريف في "شرح المفتاح". ثم أشار الشهاب إلى أن هذا الذي صححه الشريف يندفع به قول من قال: إن المرسل عيسى عليه السلام؛ لأنّ يونس عليه السلام لم يدرك زمن عيسى وإن أدركه يحيى كما فصل في التواريخ، كما =
{فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا} : فقوَّينا
(1)
{بِثَالِثٍ} هو شمعون، وقرئ: مخفَّفاً
(2)
؛ مِن عَزَّه: إذا غَلَبه، وإنَّما حذفَ المفعولُ لأنَّ المرادَ ذكرُ المعزَّز به وما لطف فيه مِن التدبير حتى عزَّ الحقُّ وذلَّ الباطل، وحقُّ الكلامِ المنصبِّ إلى غرضٍ تجريدُ سياقِه له؛ كأن
(3)
ما سواه مرفوض.
{فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} التأكيد بـ (إنَّ) سبَقَ الإنكارَ منهم بمضمون جملة الخبر بتكذيبهم الرسولَين، والمعتبر عِلْمُ المُخبِر بإنكارِ المخاطَب لا صدورُه منه، وهو حاصل أيضاً، فلا صحَّة لِمَا قيل: إنَّه ابتداءُ إخبار، والثاني جوابٌ عن إنكار.
* * *
{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ؛ أي: لا مزيَّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدَّعون، ورفع {بَشَرٌ} ؛ لانتقاض النفي المقتضي إعمال {مَا} بـ {إِلَّا} .
{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: وحياً مِن السماء.
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} فيما تدَّعون، وإنَّما أُوثرَ صيغةُ الفعلِ مع أنَّ صيغةَ الفاعلِ أبلغُ؛ اعتباراً لمعنى التجدُّد، فكأنَّه قيل: يُجدِّدونَ الكذبَ وقتاً بعد وقتٍ، ويستمرُّون على ذلك.
* * *
= أن القول المذكور ينافي كون يحيى ويونس عليهما الصلاة والسلام نبيين في نفسهما. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 234).
(1)
في (ك): "فوقرنا".
(2)
قرأ بها شعبة عن عاصم. انظر: "التيسير"(ص: 183).
(3)
في (ف): "لأن".
(16) - {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} .
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} لمَّا نَفوا الرسالةَ وبالغوا في ذلك، قابلوا إنكارهم في الجواب بمزيد التأكيد بقولهم:{رَبُّنَا يَعْلَمُ} ؛ لأنَّه استشهادٌ بعلمِ اللهِ تعالى جارٍ مجرى القَسَم في التوكيد، كما تقول: شَهِدَ اللهُ، وعَلِمَ الله، وبزيادة الَّلام، وبتقوية التأكيد، وتحسين الاستشهاد بقولهم:
(17) - {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .
{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ أي: التبليغُ الظاهرُ المكشوفُ بالآيات الشاهدة لصحَّته، فإنَّ الاستشهادَ على الدعوى إنَّما يَحسُن ببيِّنة واضحة.
* * *
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا} : تشاءَمنا {بِكُمْ} يعني: سمعنا منكم ما هو مِن جهة الفأل نذيرٌ بمكروهٍ يَلحقُنا
(1)
في أنفسنا أو في أهلينا أو في أموالنا، أو غير ذلك مِن أسبابنا وأمورنا، فكفُّوا عن هذا الكلام ولا تُعاودونا به
(2)
.
{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} عمَّا نُهيتم عنه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} : لنرمينَّكم بالحجارة {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} المَسُّ: إصابةٌ تتأثَّر منها البشرةُ.
* * *
(19) - {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .
(1)
في (ك): "يلحينا".
(2)
في (م): "ولا تعادونا".
{قَالُوا طَائِرُكُمْ} ، أي: سببُ شؤمكم {مَعَكُمْ} وهو سوءُ اعتقادِكم وفسادُ أعمالكم.
{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزةِ الاستفهام وحرفِ الشرط، وقرئ:{أَائنْ} بألف بينهما
(1)
.
وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: أئن وُعِظتم تطيَّرتم وتوعَّدتم بالرجم والتعذيب، وقرئ:(أأن ذكرتم) بهمزة الاستفهام و (أنْ) الناصبة
(2)
؛ أي: أتَطيْرتُم لأنْ ذكرتم.
وقرئ: (أنْ) و (إنْ) بغيرِ استفهامٍ بمعنى الإخبار
(3)
؛ أي: إنْ ذكِّرتم تطيَّرتم، أو تطيرتم لأنْ ذكِّرتم.
و: (أيْن ذُكِرْتم)
(4)
، بمعنى: شُؤْمُكم معكم حيث جَرَى ذِكْركم، وهو أبلغ؛ لأَنَّه إذا شُئِمَ المكانُ بذِكْرهم، كان بحلولهم فيه أَشْأَمَ.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} : قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان، فمِن ثمَّة جاءَكم الشؤمُ، أو: أنتم مسرفونَ في غيِّكم وضلالِكم؛ حيث تشاءمتم بمَن يجب التبرُّكُ به مِن رسلِ اللهِ تعالى.
(1)
قرأ بها هشام. انظر: "التيسير"(ص: 32).
(2)
نسبت لزر بن حبيش. انظر: "البحر"(18/ 85)، و"الكشاف"(4/ 9).
(3)
نسبت الأولى للماجشون يوسف بن يعقوب المدني، والثانية للحسن. انظر:"المحتسب"(2/ 205)، و"المحرر الوجيز"(4/ 450)، و"الكشاف"(4/ 9).
(4)
أي: (أين) بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون ظرف مكان (ذكرتم) بتخفيف الكاف على أن (أين) ظرف أداة شرط وجوابها محذوف لدلالة (طائركم) عليه، نسبت للحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. انظر:"المحتسب"(2/ 205)، و"البحر"(18/ 85)، و"الكشاف"(4/ 9).
(20) - {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} .
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} هو: حبيبُ بنُ إسرائيل
(1)
النجَّارُ؛ وكان يَنحتُ الأصنامَ.
{يَسْعَى} : يقصدُ وجهَ الله تعالى بالذَّبِّ عن رسله وهو مِن قوله: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]، والسعيُ في الأصل: المشيُ بسرعةٍ وخفَّةِ حركةٍ، ثم استُعير للجِدِّ في إصلاح أمرٍ وفسادٍ.
{قَالَ} استئنافٌ، على تقدير سؤالِ سائلٍ عمَّا قال عند ذلك:{يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} باحَ بإسلامِه ليشغل
(2)
القومَ عن الرسل، وقولُه:{يَاقَوْمِ} دلالةٌ وإظهارٌ منه أنَّه لا مباينةَ بيننا، ولا تهمَةَ في إرادةِ السوءِ بكم.
* * *
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} كلمةٌ جامعةٌ في الترغيب؛ أي: لا تَخسرون معهم شيئاً مِن دنياكم، وتربحون صحَّة دينكم، فينتظِم لكم خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة، ورشَّحها وقوَّاها بإبراز مناصحتِهم في صورة المناصحة لنفسه؛ ليكون أَدخلَ في إمحاض النُّصْح؛ حيث أرادَ لهم ما أرادَ لنفسِه، وليتلطَّف بهم ويُداريهم حتى لا يتعصبوا
(3)
فيَقبلوا، فوضعَ قوله:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} مكان قوله:
(1)
في (ك): "أوس".
(2)
في (ك): "لشغل"، وفي (ع) و (م):"ليشتغل".
(3)
في (ع) و (م) و (ي): "يمتعصوا".
وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، وأَومأ إلى المرادِ بقوله:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغةً في التهديد، وإلَّا لقال: وإليه أَرجعُ، ثم عاد إلى المساق الأول فقال:
* * *
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ؛ أي: أصناماً، دلَّ على أنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ.
{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} نفى الشفاعة رأساً، كقوله:
ولا ترى الضَّبَّ بها يَنْجَحِرْ
(1)
{وَلَا يُنْقِذُونِ} : ولا يَقدرون على إنقاذي مِن ذلك الضرر؛ أي: لا نفعَ مِن جهتهم بالشفاعة ولا دفعَ بالقدرة.
* * *
(24) - {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} تقريعٌ على تركِ عبادةِ خالقِهم إلى عبادة مَن يَضرُّ ولا ينفع، وقد برهنَ في أثناء كلامه على ضلالتهم؛ حيث ذكر أنَّ الله تعالى هو المبدئُ الفاطرُ، وإليه الرجوعُ، ومنه الرحمة العامَّة الشاملةُ، وله القدرة التامَّةُ
(1)
عجز بيت تقدم عند تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، ومعناه: لا ضب ولا انجحار، وصدره:
لا تفزعُ الأرنبَ أهوالها
الكاملة، وهو الذي إذا أراد بأحدٍ شيئاً مِن الضَّرِّ والنفع فَعَلَ، فإنْ تركتُ عبادتَه إلى عبادةِ ما لا يضرُّ ولا ينفعُ ولا تُغني شفاعته شيئاً، ولا يَقدر على إنقاذِ مَن ابتلاهُ اللهُ تعالى بالنُّصرة والمظاهرة، أو أَشركْتُه به في عبادته؛ فإني إذاً لفي ضلالٍ مبينٍ
(1)
، ولا يخفى على عاقل.
* * *
(25) - {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} .
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} ؛ أي
(2)
: فاتَّبعوني، السماعُ هنا مجازٌ عن الاتِّباع، إذ لا وجهَ للترتيب بينَ سماعِ القولِ منه وإيمانِه، قيل: رَجَموهُ وهو يقول: اللَّهمَّ اهْدِ قومي. وقبرُه في سوقِ أنطاكية، وباشتغالهم بقتله تخلَّص الرسل.
* * *
(26) - {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} .
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} استئنافٌ؛ لأنَّ قصَّتَه مظنَّةُ السؤالِ عن حالِه، كأنَّ سائلاً سأل فقال: كيف كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في نصرةِ دينه، والتَّسخِّي بروحه، فقيل:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ، ولمَّا كان السؤالُ عن المقولِ سيقَ الجواب لبيانه، وجرِّد عمَّا لا حاجةَ إليه وهو بيانُ المقول له، مع كونه معلوماً.
وكذلك قوله: {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ عمَّا قال عند ذلك الفعل العظيم.
* * *
(1)
في (م): "بين".
(2)
"أي": ليست في (م).
(27) - {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} .
{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} (ما) مصدرَّية؛ أي: بغفران ربِّي لي، أو موصولة؛ أي: بالذي غفرهُ لي مِن ذنبي، ويحتمل أن تكون استفهاميَّةً؛ أي: بأيِّ شيءٍ غفرَ لي ربِّي؟ على الأصل مع أنَّ الأكثرَ حذفُ الألف، تقول: قد علمتُ بما صنعتَ هذا؟ أي: بأيِّ شيءٍ صنعت، والأكثر: بِمَ صنعت؟
تمنَّى أنْ يَعلمَ قومُه بأنَّه غُفرَ له بإيمانه؛ فيَرغبوا في الإيمان، وهذا مرتبةُ أولياءِ اللهِ تعالى، يريدون الخير بمَن أراد بهم الشَّرَّ، ويتمنَّون أنْ لا يكون لله تعالى عاصياً.
{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بإعطاءِ المنزلةِ الرفيعةِ في الجنَّة، دلَّ ذلك
(1)
على أنَّ الجنَّةَ مخلوقةٌ، وعلى أنَّ القبرَ روضةٌ مِن رياضِها، أو حفرةٌ مِن حُفَرِ النيران.
* * *
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ} : مِن بعد واقعته {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} استحقارٌ لإهلاكهم، وإيماءٌ إلى تعظيمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: كُفينا أمرَ إهلاكهم بصيحةٍ واحدةٍ مِن مَلَكٍ، وما أَنزلنا عليهم جنداً مِن الجنود السماويَّة كما فَعَلنا يومَ بدرٍ والخندقِ.
{وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} وما صحَّ في حكمتنا أنْ نُنزِل؛ لأنَّ إنزالَ جنودِ السماء مِن معظَّماتِ الأمور التي لا يُؤهَّل لها إلَّا مثلُك، وقد أهلكَ اللهُ تعالى كلَّ أمَّةٍ بسببٍ تقتضيه حكمته، ولم يُنزل جنودَ السماءِ لانتصارِ أحدٍ مِن الأنبياء عليهم السلام إلَّا لانتصارِ محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام؛ لكرامته عند اللهِ وتفضُّله على سائرِ الأنبياء، وإلَّا لكان يكفي في نصرته مَلَكٌ واحدٌ.
(1)
"ذلك": ليست في (م).
(29) - {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} .
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} كان القياسُ التذكيرَ؛ لأنَّ الأصلَ ما وقع شيءٌ إلَّا صيحةً واحدةً، ولكن طُوبِقت بها الصيحةُ لأنَّها في حكمِ فاعلِ الفعلِ، وعليها قراءةُ الحسنِ:{فأَصبحوا لا تُرَى إلَّا مساكِنُهم} [الأحقاف: 29]؛ بتأنيث الفعلِ المبنيِّ للمفعول، ورفع (مساكنُهم).
وقرئ: {إِلَّا صَيْحَةٌ} بالرفع
(1)
، على (كان) التامَّة؛ أي: وما وقعت إلَّا صيحةٌ.
{فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} بناءً على تشبيهِ الحرارةِ الغريزيةِ بحرارةِ النارِ، وانطفائِها بخمود النار، على الاستعارة بالكناية، أي: خمدوا كما تَخمد النارُ، وذلك أنَّ الروحَ عند الفَزَع الشديدِ تتحرَّك مع الدمِ إلى الباطنِ دفعةً دفعةً، فتختنق مِن شدَّة الانحصار والاجتماع، فتنطفئ.
* * *
(30) - {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} الحسرة هي بلوغُ النهايةِ في التلهُّف حتى يبقى القلبُ حَسيراً لا موضعَ فيه لزيادةِ التلهُّف، كالبصيرِ الحسير الذي لا قوَّةَ فيه للنظر، والبعيرِ الحسير الذي لا قوَّة له على المسير، وهذا نداءٌ على الحسرة عليهم، كأنَّها قيل لها: تعالي يا حسرةُ فهذه من الأحوال
(2)
التي حقُّك أنْ تَحضُري فيها، وهي ما دلَّ عليه:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
(1)
قرأ بها أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 353).
(2)
في (ف) و (ك): "الأفعال".
ويجوز أن يكون المعنى: أنَّهم متحسَّرٌ عليهم مِن الله تعالى، على سبيل الاستعارة، والمرادُ: تعظيمُ ما جَنَوهُ على أنفسِهم، وفرطُ إنكارِه له وتعجيبه منه، ويعضده قراءةُ مَن قرأ:(يا حسرتا)
(1)
؛ لأنَّ المعنى: يا حسرتي.
وقرئ: (يا حسرةَ العبادِ)
(2)
؛ بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول؛ لاختصاصها بهم مِن حيث إنَّها موجَّهةٌ إليهم.
و: (يا حسرةَ على العبادِ)
(3)
؛ على إجراء الوصل مجرى الوقف، والمعنى: أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُتحسَّر عليهم، أو هم متحسَّرٌ عليهم مِن جهةِ الملائكةِ والمؤمنين مِن الثَّقَليْن.
* * *
(31) - {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} .
{أَلَمْ يَرَوْا} معلَّق عن العمل في {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} لأنَّ (كم) لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبريةً؛ لأنَّها وُضعت لإنشاء التكثير، أو لأنَّ أصلَها الاستفهام، وإنَّما جاز تعليقُ فعلِ الرؤيةِ لأنَّه بمعنى: أَلم يعلموا، إلا أنَّ معناه نافذٌ في الجملة كما نفذ في قولك: أَلم يَروا إنَّ زيداً لمُنطلِقٌ، وإنْ لم يعمل في لفظه، ولهذا أبدل:
(1)
انظر: "الكشاف"(4/ 13)، و"البحر المحيط"(18/ 97).
(2)
نسبت لابن عباس وأُبي والحسن وعلي بن الحسين وغيرهم. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 125)، و"المحتسب"(2/ 208)، و"الكشاف"(4/ 13)، و"البحر المحيط"(18/ 96).
(3)
نسبت لابن عباس. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 125)، و"الكشاف"(4/ 13)، و"البحر المحيط"(18/ 96).
{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} مِن {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى لا على اللفظ، تقديره: أَلم يَرَوا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِن قبلِهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم.
وقيل: إنَّه بدلٌ مِن موضع {كَمْ أَهْلَكْنَا} ، وليس بدلاً مِن (كم) وحدَه؛ لأنَّ العاملَ فيه هو:{كَمْ أَهْلَكْنَا} ، ولا يصلح
(1)
عاملاً في البدل.
وقرئ بالكسر
(2)
على الاستئناف.
وقرئ: (أَلم يَرَوا مَن أهلكنا)
(3)
، والبدل على هذه القراءة بدلُ اشتمال
(4)
.
* * *
(32) - {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} (إنْ) مخفَّفة مِن الثقيلة، واللام هي الفارقة، و (ما) مزيدةٌ للتأكيد، وقرئ:{لَمَّا} بالتشديد
(5)
؛ على أنَّ (إنْ) نافية، و (لمَّا) بمعنى:(إلَّا).
و {كُلٌّ} بمعنى الإحاطة، وأنْ لا ينفلتَ منهم أحدٌ، والجمع بمعنى الاجتماع، وأنَّ مجمعهم
(6)
المحشرُ، فالتنوين في {كُلٌّ} عوضٌ مِن المضافِ إليه؛ أي: كلُّهم محشورونَ مجموعونَ {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} للحساب يوم القيامة، وقيل:{مُحْضَرُونَ} في النار معذَّبون.
(1)
في (م): "يصح".
(2)
أي: (إنَّهم)، ونسبت للحسن. انظر:"المختصر في شواذ القراءات"(ص: 125).
(3)
نسبت لابن مسعود. انظر: "تفسير القرطبي"(17/ 438)، و"البحر المحيط"(18/ 101).
(4)
في (م): "الاشتمال".
(5)
قرأ بها ابن عامر وعاصم وحمزة، وباقي السبعة بالتخفيف. انظر:"التيسير"(ص: 129).
(6)
في (ك): "يجمعهم".
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} : {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} مبتدأ، خبره:{آيَةٌ لَهُمُ} .
و {أَحْيَيْنَاهَا} استئنافٌ لبيان كون الأرض الميتة آيةً لهم، ويجوز أن يكون صفةً لـ {الْأَرْضُ} ؛ لأنَّ المرادَ الجنسُ المطلقُ لا أرضٌ بعينِها، فجاز وصفُها بالنكرة.
وأن تكون {آيَةٌ} مبتدأً، و {لَهُمُ} صفتَها، و {الْأَرْضُ} خبرَها.
وأن يكون {أَحْيَيْنَاهَا} خبراً للأرض، والجملة خبر {آيَةٌ} أو صفةٌ لها.
{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} المرادُ بالحَبِّ: الجنسُ، وتقديمُ الظرفِ في قوله:{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} للدلالة على أنَّ الحبَّ معظمُ ما يُؤكَل ويُعاشُ به، ويقومُ البدنُ بالارتزاقِ منه، أَلَا ترى أنَّه إذا فُقِدَ حضر الهلاكُ بالقَحْط وعَمَّ البلاءُ؟
* * *
(34) - {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} .
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} : بساتينَ {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} : مِن أنواعِ النَّخْل والعنبِ، ولذلك جمعهما دونَ الحبِّ؛ فإنَّ كونَه قوامُ البدنِ باعتبار جنسِه لا باعتبار تنوُّعِه.
وأمَّا ما قيل: إنَّ ذلك لأنَّ الدَّالَّ على الجنسِ مشعِرٌ بالاختلاف، ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ = خلافُ ما هو المشهور وعليه الجمهور، فإنَّهم قالوا: في العالَمين إشعارٌ بالاختلاف دون العالَم.
وذكرُ النخيل النخيل دونَ التمور - مع مطابقتها الحبَّ والأعنابَ - لاختصاص شجرِها بمزيد النفع وآثار الصُّنع.
{وَفَجَّرْنَا فِيهَا} وقرئ: بالتخفيف
(1)
، والفَجْر والتفجير كالفَتْح والتفتيح لفظاً ومعنًى، في أنَّ التشديدَ للمبالغة والتكثير.
{مِنَ الْعُيُونِ} {مِنَ} زائدة عند الأخفش، وعند غيرِه المفعولُ محذوفٌ؛ أي: شيئاً مِن العيون.
* * *
(35) - {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} .
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} الضميرُ للتفجير
(2)
؛ أي: لينتفِعوا بفوائده
(3)
، يقال: ثمرةُ التجارةِ الربحُ، وتخصيصُ الأَكْلِ بالذِّكر لأنَّه معظمُ الفوائد.
وقرئ: بضمَّتين
(4)
، وهو لغةٌ فيه، أو جمع: ثمار.
{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطفٌ على الثمر، أو على موضع {مِنْ ثَمَرِهِ} ، والمراد: ما يُتَّخذ منه كالعصير والدِّبْس والخَلِّ وكلِّ ما يُتَّخذ مِن التمر والعنب.
وقيل: (ما) نافيةٌ، والمراد أنَّ الثمرَ بخلقِ اللهِ تعالى لا بفعلهم، ويؤيِّد الأولَ قراءةُ:(وما عملت)
(5)
؛ مِن غيرِ راجعٍ؛ لأنَّ حذفَ الراجعِ مِن الصلةِ أحسنُ مِن غيرها.
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} استبطاءٌ وحثٌّ على شُكر نعمه.
(1)
نسبت لجناح بن حبيش. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 125).
(2)
في (ف) و (م): "للتعجيب".
(3)
في (م): "أي: لتبتغوا فوائده".
(4)
قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 105).
(5)
قرأ بها حمزة والكسائي وشعبة. انظر: "التيسير"(ص: 184).
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} : الأجناسَ والأصنافَ {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} مِن النَّخل والشجرِ والزرعِ والثمر.
{وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} الأولاد ذكوراً وإناثاً {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} ومن أزواجٍ لم يُطلعهم اللهُ تعالى عليها، ولم يَجعل لهم طريقاً إلى معرفتِه.
* * *
(37) - {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} .
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} فيه الوجهان المذكوران فيما تقدَّم من نظيره، وفي:{نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} الوجوهُ المذكورة في {أحيينا} ؛ مِن الاستئنافِ والصفةِ والخبريَّةِ.
والسَّلْخُ: الكَشْطُ، يقال: سَلَخَ جلدَ الشاةِ، إذا كَشَطَهُ، فاستُعيرَ لإزالة الضوءِ وكشفِه عن مكان الليل ومَلْقى ظلِّه
(1)
.
{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} : داخلون في الظلام.
* * *
(38) - {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} : لحدٍّ معيَّنٍ مِن فَلَكها ينتهي إليه دورُها في آخِرِ كلِّ سنةٍ.
(1)
في هامش (ف) و (ي): "فالمستعار لفظ السلخ، والمستعار منه معنى الكشط، والمستعار له معنى الإزالة، ومن قال: مستعار من سلخ الجلد، لم يصب كما لا يخفى. منه".
وقيل: الوقت الذي تستقرُّ فيه وينقطع جريُها
(1)
، وهو يوم القيامة.
وقرئ: (إلى مستقرٍّ لها)، وقرئ:(لا مستقرَّ لها)
(2)
، أي: لا استقرارَ إلَّا أنْ يُكوِّرها اللهُ تعالى يومَ القيامة، على أنَّ (لا) بمعنى (ليس).
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذلك الجريُ على هذا التقدير العجيبِ ما هو إلَّا تقدير الغالبِ بقدرته على كلِّ مقدورٍ، المحيطُ علماً بكلِّ معلومٍ.
* * *
(39) - {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} .
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} ؛ أي: قدرَّنا مسيرَه {مَنَازِلَ} على حذف المضاف؛ وهي ثمانيةٌ وعشرونَ مَنزلاً؛ يَنزل كلَّ ليلةٍ في واحدةٍ منها لا يتخطَّاها ولا يَتقاصر عنه، على السَّواء إلى الثامنة والعشرين، فيَدِقُّ مستَقْوِساً
(3)
كالعُرْجونِ القديمِ، ثم يَغيبُ ليلةً إذا نقص الشهرُ أو في ليلتين إذا تمَّ، وهذا ما ذكره
(4)
بقوله:
{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} العُرجون: العُودُ والعِذْقُ ما بين شماريخه إلى منبتِه مِن النخلة، قال
(5)
الزجَّاج: هو فُعْلون مِن الانعراج، وهو الانعطاف
(6)
.
وقرئ: (العِرْجَون) بوزن الفِرْجَون
(7)
، وهما لغتان، كالبِزْيَون والبُزْيُون.
(1)
في (ك): "مدتها".
(2)
انظر القراءتين في "الكشاف"(4/ 16)، و"البحر المحيط"(18/ 108).
(3)
في (ك): "مستقر". وفي (ف): "مستقره".
(4)
في (م): "ذكر".
(5)
في (م): "وقال".
(6)
انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 278)، و"الكشاف"(4/ 17) وعنه نقل المؤلف.
(7)
نسبت لسليمان التيمي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 125).
والقديم: المُحْوِل، وإذا قَدُمَ العرجونُ دقَّ وانحنى واصفرَّ فشُبِّه به مِن ثلاثةِ أوجهٍ.
* * *
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا} ؛ أي: لا يصحُّ ولا يَستقيم لها {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} وتجتمعَ معه وتُداخِله في سلطانه، فتطمسَ نورَهُ؛ لأنَّ التدبيرَ الإلهيَّ اقتضى المعاقبةَ.
وإيلاءُ الشمس حرفَ النفي للدِّلالة على أنَّها مسخَّرةٌ لم يتيسَّر لها إلَّا ما قدِّر لها مِن السير والطريق
(1)
.
وإنَّما وَصَفها بالإدراك، ووَصَف القمرَ بالسَّبقِ ضمناً
(2)
؛ لسرعة سيره بالنسبة إليها، فإنَّه يَقطع بحركته في شهرٍ ما تقطعُ الشمس في سَنَةٍ مِن المسافة، فيناسبه السبقُ، ومِن هاهنا ظهر نسبةُ السبقِ إلى الليل دون النهار في قوله:
{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} ؛ أي: لا الليلُ يَسبقه فيزيلُ ضوءَه لذلك.
وقيل: المراد بهما آيتاهما
(3)
؛ وهي الشمس والقمر، فيكون عكسَ الأول،
(1)
من حيث إن تقديم المسند إليه على الفعل وجعلَه بعد حرف النفي نحو: ما أنا قلت هذا، وما زيد سعى في حاجتك، يفيد التخصيص؛ أي: ما أنا قلت هذا بل غيري، وما زيد سعي في حاجتك بل غيره، على ما حققه علماء البلاغة. انظر:"روح المعاني"(22/ 348).
(2)
"ضمنا": ليست في (م).
(3)
في (ك): "إثباتهما".
وذلك أنَّ صلاحَ النباتِ والحيوانِ وجميعَ الشؤونِ الإلهيَّةِ مبنيٌّ على تعاقبِهما، وأنْ يكون لكلٍّ منهما سلطانٌ على حياله
(1)
وقرئ: (سابقٌ النهارَ) بالتنوين ونصب (النهار)
(2)
؛ على الأصل.
{وَكُلٌّ} التنوينُ عوضٌ مِن المضاف إليه؛ أي: كلُّ واحدٍ منهما.
{فِي فَلَكٍ} ؛ أي: في فلكٍ غيرِ فلكِ الآخَرِ، الجمهورُ على أنَّ الفلكَ موجٌ مكفوف تحت السماء تَجري فيه الشمسُ والقمرُ والنجومُ، وعلى هذا المراد مِن الفَلَكِ الجنسُ.
{يَسْبَحُونَ} : يسيرون فيه
(3)
بانبساطٍ، فإنَّ كلَّ ما انبسطَ في شيءٍ فقد سَبَحَ فيه، ومنه السباحة في الماء، وإنَّما جُمع جمعَ العقلاءِ للوصف بفعلهم.
* * *
(41) - {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} .
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا} لم يقل: وآية لهم الفلكُ، كما قال:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} ؛ لأنَّ العَجَبَ حملُهم على الفُلكِ، لا نفس الفلكِ فإنَّه بيتٌ مبنيٌّ مِن الخشب.
{ذُرِّيَّتَهُمْ} : أولادَهم ومَن يَهمُّهم حملُه، وقيل: اسمُ الذرَّية يقع على النساءِ؛ لأنَّهنَّ مَزارعُها، وفي الحديث: أَّنه عليه السلام نَهى عن قَتْل الذَّراري
(4)
،
(1)
في (ف) و (ك): "إحاله"، وفي (ي):"حيدته"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما "تفسير القرطبي"(17/ 450).
(2)
نسبت لعمارة بن عقيل. انظر: "مختصر في شواذ القراءات"(ص: 125).
(3)
"فيه": ليست في (م).
(4)
انظر: "الكشاف"(4/ 18)، و"الفائق"(2/ 7)، ورواه بنحوه النَّسَائِيّ في "الكبرى"(8571) و (8572)، وابن ماجه (2842)، من حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه. ورواه النَّسَائِيّ في =
يعني: النساءَ، وتخصيصُ الذريات لأنَّه لا قدرة لهم على السفر، فكان الامتنانُ في حقِّهم أظهرَ.
{فِي الْفُلْكِ} قيل: المراد فُلْكُ نوحٍ عليه السلام، قال تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]، فعلى هذا يُراد بالذرية الأسلافُ؛ لأنَّه مِن الذَّرِّ، أو هو
(1)
الخَلْق فيَصلح الاسمُ للأصل والنَّسْل؛ لأنَّ بعضَهم خُلق مِن بعضٍ.
ويجوز أن يكون المعنى: أنَّه تعالى حمل آباءَهم الأقدمينَ وفي أصلابهم ذرياتُهم، وتخصيص الذرية لأنَّ الخطابَ للكفار، ولا فائدةَ في وجودهم، فلم يكن الحملُ حملاً لهم، بل كان حملاً لِمَا في أصلابهم مِن المؤمنين.
ولم يقل: على الفلك، مع أنَّه الأنسبُ للحمل؛ لأنَّ معنى الحفظِ المستفادِ مِن حرفِ الظرفِ أَدْخلُ في الامتنانِ وأنسبُ لِمَا قُصدَ مِن توصيفِ الفلكِ بقوله:
{الْمَشْحُونِ} لمَّا كانت السفينةُ مملوءةً بأنواع المخاوف؛ مِن سباعِ البهائم وجوارحِ الطير وهوامِّ الدَّوابِّ، كان
(2)
حفظُ بني آدمَ فيما بينهم مِن آثارِ اللُّطف العظيمِ والقدرةِ الباهرة، ولولا
(3)
ذلك الاعتبارُ اللطيفُ لكان التوصيفُ بالمشحون بمعزلٍ عن مقامِ الغرابة المستفادةِ مِن عبارة الآية؛ لأنَّ القرارَ على الفُلكِ المشحونِ الثقيلِ أهونُ مِن القرار على الفُلكِ الخالي الخفيفِ، ولذلك لم يُوصَف الفُلكُ به في قوله:{وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22].
* * *
= "الكبرى"(8573)، وابن ماجه (2842)، من حديث حنظلة الكاتب رضي الله عنه.
(1)
في (ك): (هذا).
(2)
في (م): "فكان".
(3)
في (م): "لولا".
(42) - {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ} : جنسِ الفُلكِ {مَا يَرْكَبُونَ} مِن الإبل؛ فإنَّها سفائنُ البَرِّ، أو: مِن مِثْلِ فلكِ نوحٍ عليه السلام مِن السُّفن والزَّوارق.
* * *
(43) - {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} .
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} والصريخُ والصارخُ بمعنى المستغيث، ويجيء بمعنى الإغاثة لأنَّ أصلَه مصدر بمعنى الصراخ، وقد سبق تفسيره في السورة السابقة.
{وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} ؛ أي: لا يُخلَّصون بعد ذلك.
* * *
(44) - {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} .
{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} إلَّا لرحمةٍ منَّا وتمتيعٍ بالحياةِ إلى زمانٍ قُدِّرَ لآجالهم.
* * *
(45) - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} مِن الوقائعِ النازلةِ بالأُمم المكذِّبة قبلهم {وَمَا خَلْفَكُمْ} مِن الساعة وأهوالِها، أو نوازل السماء ونوائبِ الأرض، أو ما تقدَّم مِن ذنوبكم وما تأخَّر، أو فتنة الدنيا وعقوبة الآخرة.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : لتكونوا راجينَ رحمةَ الله تعالى.
* * *
(46) - {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} {مِنْ} الأولى للتأكيد، وجواب (إذا) محذوفٌ مدلولٌ عليه بقوله:{إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} كأنَّه قال: وإذا قيلَ لهم: اتَّقوا، أَعرضوا، ثم قال: ودأْبهم الإعراضُ عند كلِّ آيةٍ وموعظةٍ، فهو تذييلٌ مؤكِّدٌ لِمَا سبق مِن حديث الإعراض.
* * *
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا} لم يَذكُر المُنفَق عليه؛ لأنَّ إباءَهم
(1)
وإن كان عن الإنفاق وعلى المؤمنين خاصَّة، إلَّا أنَّ مُوجَبَ ما تعلَّلوا به سدُّ بابِ الإنفاقِ رأساً، وللإشعار إلى هذا تُركَ المُنفَقُ عليه.
{مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} إشارةٌ
(2)
إلى أنَّ البُخلَ به في غايةِ القُبح، فإنَّ أبخلَ البخلاءِ مَن يبخلُ بمالِ الغير.
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالصانع تعالى، يعني: مُعطِّلةً كانوا بمكة {لِلَّذِينَ آمَنُوا} تهكماً بهم، وذلك أنَّهم لمَّا سمعوا المؤمنين يعلِّقون الأمورَ بمشيئة اللهِ تعالى، يقولون: لو شاءَ اللهُ لكان كذا، وافترصوا
(3)
هذا الكلام فرصةً، واتَّخذوه هزواً يستهزئون بالمؤمنين، يُجيبون به عند أمرهم بالإنفاق.
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "إيباءهم" بياء قبل الباء، وكذا وقع في هذه النسخ الثلاث جميع ما سيأتي.
(2)
في (م): "الإشارة".
(3)
في (ع) و (ي): "وافترضوا".
والتصريحُ بالوصفين مِن الكفر والإيمان لبيان أنَّ المقولَ إليهم هم الكافرون، والقائلَ لهم
(1)
هم المؤمنون، وأنَّ كلَّ وصفٍ حاملٌ لصاحبه على ما صدرَ عنه، إذ:
كلُّ إناءٍ بالذي فيه يَرشح
(2)
وأيضاً لمَّا كان الغرضُ الرَّدَّ على المؤمنين لا الامتناعَ عن الإطعام
(3)
- لأنَّه ممَّا يفتخرون به - كان حقُّ المقام التصريحَ بوصف الإيمان في المقولِ له، ومِن هنا تبيَّن وجهٌ آخَرُ للعدول عن عبارة الإنفاق إلى عبارة الإطعام.
{أَنُطْعِمُ} لمَّا كان الإطعامُ أدنى وجوهِ الإنفاقِ وأَعلى ما يفتخرونَ به، كان الإباءُ عنه إباءً عن الإنفاقِ رأساً.
{مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} على زعمكم.
وقيل: نزلت في مشركي مكَّة حين استطعمهم فقراءُ المؤمنين مِن أموالهم التي جعلوها للهِ تعالى، فحرموهم وقالوا: لو شاءَ اللهُ لأطعمكم، مُوهمينَ أنَّ اللهَ قادرٌ على إطعامهم، ولا يشاءُ إطعامَهم، فنحن أحقُّ بذلك.
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} حيث أَمرتمونا بما يخالف مشيئةَ الله
(4)
تعالى.
(1)
"لهم": ليست في (م).
(2)
انظر: "البحر"(18/ 118)، وهذا عجز بيت نسب لكشاجم كما في "محاضرات الأدباء"(1/ 452)، وصدره:
ويأبي الذي في القلب إلا تبينا
…
وكل إناء ....................
(3)
في (م): "الطعام".
(4)
في (م): "مشيئته".
ويجوز أن لا يكون مِن تتمَّة كلامهم، ويكون جواباً مِن الله تعالى لهم، أو حكايةً لجواب المؤمنين لهم، بأنَّ ذلك مِن فرط ضلالتهم وجهالتهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُطعِم مَن يشاءُ بأسبابٍ بها، حيث منها حثُّ الأغنياءِ على إطعامِ الفقراءِ وتوفيقُهم له.
* * *
(48) - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ؛ أي: وعد البعث {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولون، خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه.
* * *
(49) - {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} .
{مَا يَنْظُرُونَ} : ما ينتظرون، أراد الانتظارَ المفهومَ مِن قولهم:{مَتَى} .
{إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ؛ أي: عذاباً يَفْجَؤهم فيَستأْصلُهم، يقال: صاحَ بهم الزمانُ؛ أي: هلكوا، قال الشاعر:
صاحَ الزمانُ بآلِ جفنةَ صيحةً
…
خَرُّوا لشدَّتها على الأذقانِ
(1)
وقيل: هي نفخةُ الإماتةِ.
ذكرَ في الصيحة أمورٌ تدلُّ على هولها وعِظَمها؛ أحدها: التنكير، وثانيها:{وَاحِدَةً} ؛ أي: لا يحتاج معها إلى الثانية، وثالثها:{تَأْخُذُهُمْ} ؛ أي: تعمُّهم بالأَخْذ، وتصلُ إلى مَن في أقطارِ الأرضِ، ومثلها لا يكون إلَّا عظيماً.
(1)
البيت في "تفسير الرازي"(23/ 276)، و"البحر المحيط"(15/ 449).
وقوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ؛ أي: تأتيهم بغتةً وهم في أمنهم وغفلتهم، يَتخاصمون في متاجرِهم ومعاملاتِهم، لا يُخطرون أمرَها ببالهم، ممَّا يَعظم به الأمرُ؛ فإنَّ العاملَ المُقبلَ على مُهِمٍّ إذا صاح به صائحٌ يكون ارتجافُه أعظمَ، بخلاف المُنتظِر لها.
* * *
(50) - {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} .
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أنْ يوصوا في شيءٍ مِن أمورهم {تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} : ولا أنْ يرجعوا إلى أهلِهم ومنازلِهم، بل يموتون حيث تَبغتُهم الصيحةُ.
* * *
(51) - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} .
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هي نفخةُ البعثِ، وقد سبق في تفسيرِ سورةِ المؤمنين.
{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} : مِن القبورِ، جمع جَدَثٍ، وقرئ بالفاء
(1)
، و (إذا) للمفاجأة.
{إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} النَّسَل
(2)
: الإسراعُ في الخروج، ولفظ الرَّبِّ أصابَ المحزَّ؛ لأنَّ مَن أساءَ واضْطرَّ إلى التوجُّه إلى مَن أَحسنَ إليه، يكون ذلك أشدَّ ألماً وأكثرَ ندماً مِن غيره.
* * *
(1)
أي: (الأجداف). انظر: "الكشاف"(4/ 20)، و"البحر المحيط"(18/ 121).
(2)
في (م): "النسول".
{قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} وقرئ: (مَن أهبَّنا)
(1)
؛ مِن هَبَّ مِن نومه، إذا انتبه، وأهبَّه غيرُه.
وقرئ: (مَن هبَّنا)
(2)
؛ بمعنى: أهبَّنا.
وقرئ: (مِن بَعْثِنا)
(3)
، و (مِن هَبِّنا)
(4)
؛ على (من) الجارَّة والمصدرِ.
وعن مجاهد: للكفَّار هجعةٌ يجدون فيها طعمَ النوم، ولو استمرَّ عذابُ الكفارِ في قبورهم بالنار، لَمَا صحَّ منهم القولُ المذكورُ.
{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} {هَذَا} مبتدأ، و {مَا وَعَدَ} خبرُه، و {مَا} مصدرية، أو موصولة محذوفةُ الراجع، دلَّ على هذا قولُه تعالى:{يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20].
{وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ؛ أي: صَدَقَ فيه، ويجوز أن يكون اعتراضاً، أفاقوا عمَّا بهم وتنبَّهوا يتذكَّرون ما سمعوا مِن الرسل، فيجيبون به أنفسَهم أو بعضَهم بعضاً.
وقيل: هذا ليس مِن كلامِهم، بل جوابُ الملائكةِ أو المؤمنينَ لهم، لكن عُدل عن سَننه ومطابقته للسؤال لأغراضٍ:
منها: تنبيهُهم على أنَّ الذي يهمُّهم هو السؤالُ عن البعث لا عن الباعث.
(1)
نسبت لابنِ مسعود. انظر: "المحتسب"(2/ 214).
(2)
نسبت لأبيٍّ. انظر: "المحتسب"(2/ 214).
(3)
نسبت لعلي بن أبي طالب. انظر: "المحتسب"(2/ 214).
(4)
انظر: "الكشاف"(4/ 20).
ومنها: تذكيرٌ
(1)
لكفرهم وتكذيبِهم الرسل، وتقريعهم على ذلك.
ومنها: نعيُهم إليهم أحوالَهم التي هم فيها، وإخبارُهم بوقوع ما أُنذروا به، كأنَّه قيل لهم: ليس هذا بالبعث الذي توهَّمتوه - وهو بعثُ النائمِ مِن مرقدِه - حتى يُهمَّكم السؤالُ عن الباعثِ، إنَّ هذا هو البعث الأكبر ذو الأفزاع والأهوال، الذي وَعَده اللهُ تعالى في كتبه المنزلةِ وأَخبر به على ألسنةِ رسلِه الصادقين.
* * *
(53) - {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وقرئ بالرفع
(2)
على (كان) التامَّة، والضمير في الناقصة للنفخة دلَّ عليها:{وَنُفِخَ} .
{فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بمجرَّد تلك الصيحة، وفي ذلك تهوينُ أمرِ البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسبابِ التي يتوهَّمونها بالقياس على ما يشاهدونه.
* * *
(54) - {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حكايةٌ لِمَا يُقال لهم حينئذٍ، وكذا ما بعده مِن وصفِ أهلِ الجنة؛ تصويراً للموعود، وتمكيناً له في النفوس، وترغيباً أو ترهيباً.
* * *
(1)
في (ف): "تذكرهم"، و في (ك) و (ي):"تذكيرهم".
(2)
قرأ بها أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 353). وفي (م): "وقرئت".
(55) - {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} .
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} عن ذِكْر أهلِ النار، ولو خَطَرَ ذلك ببالهم وفيها أحدٌ مِن أقارِبهم أو معارفهم، تنغَّص
(1)
عليهم ما هم فيه، والتنكير في {شُغُلٍ} للتعظيم والتنبيهِ على أنَّه أَعلى مِن أنْ تحيط به الأفهام، ويُعرِب عن كُنْهه الكلامُ.
والشغلُ: العارض الذي يُذهِل الإنسانَ عن أمرٍ لولا ذلك العارض لكان متوجِّهاً إليه.
{فَاكِهُونَ} وقرئ: {فَاكِهُونَ}
(2)
؛ كـ: نَطِس، بناءً على أنَّه حالٌ، والخبر هو الظرف، والفاكِهُ والفَكِهُ: المُتنعِّمُ المتلذِّذُ، ومنه: الفاكهة؛ لأنَّها ممَّا يُتلذَّذ به.
* * *
(56) - {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} .
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} {هُمْ} مبتدأ، أو تأكيدٌ للضمير [في]
(3)
{فِي شُغُلٍ} ، أو في {فَاكِهُونَ} والمعنى على تقدير التأكيد: أنَّ أزواجَهم تُشاركهم في ذلك الشُّغل والتفكُّه
(4)
والاتِّكاء، والأزواج: جمع زوجة، وهي حرَّةُ الرجلِ التي يحلُّ له وطؤها.
{فِي ظِلَالٍ} : جمع ظِلٍّ كشِعاب، أو ظُلَّةٍ كقِبابٍ، ويؤيِّده قراءةُ:{فِي ظِلَالٍ}
(5)
.
(1)
في (ع) و (ي): "ينقص".
(2)
قرأ بها أبو جعفر. انظر: "النشر"(2/ 353).
(3)
من "الكشاف"(4/ 22).
(4)
في (ك): "والتفكيه".
(5)
قرأ بها حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 164).
{عَلَى الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة، وهي السريرُ في الحَجَلة، وقيل: الفراش فيها.
{مُتَّكِئُونَ} خبرٌ، أو {فِي ظِلَالٍ} خبرٌ، و {عَلَى الْأَرَائِكِ} مستأنفٌ، وقرئ:(متكئين)
(1)
؛ على الحال.
* * *
(57) - {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} .
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} عبَّر عن كلِّ ما يُرزقون فيها بالفاكهة؛ للتنبيه على أنَّهم مستغنون عن حفظِ الصحةِ بالأقوات، بأنَّهم أجسامٌ محكمةٌ مخلوقةٌ للأبد، فكلُّ ما يأكلونه على سبيل التلذُّذ.
{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} يَفتعِلُون مِن الدُّعاء، أي: يَدْعون به لأنفسِهم، كقولك: اشتَوَى واجتَمَل، إذا شوَى وجمَل لنفسه.
ويجوز أن يكون بمعنى: يتداعَوْنه، كقولك: ارتمَوْه وترامَوْه.
وقيل: يتمنون؛ مِن قولهم: ادعُ عليَّ ما شئتَ، بمعنى: تمنَّه عليَّ، وفلانٌ في خيرِ ما ادَّعى؛ أي: في خيرِ ما تمنَّى، قال الزَّجاج: وهو
(2)
مِن الدُّعاء؛ أي: ما يَدْعُونه أهلُ الجنة يأتيهم.
و (ما) موصولة أو موصوفة مرتفِعةٌ بالابتداء، و {لَهُمْ} خبرها.
* * *
(1)
نسبت لابن مسعود. انظر: "الكشاف"(4/ 22)، و"البحر المحيط"(18/ 126).
(2)
في النسخ: "وقال الزجاج هو"، مما يوهم أنه قول جديد، في حين أنه مبني على معنى: يتمنون، كما هو واضح من "معاني القرآن" للزجاج (4/ 292)، و"الكشاف"(4/ 22) والكلام وما أثبت منه.
(58) - {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} .
{سَلَامٌ} بدلٌ منها أو صفةٌ أخرى
(1)
.
{قَوْلًا} مصدر مؤكِّد لقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ} ؛ أي: عِدةً {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} والأَوجهُ أنْ ينتصبَ على الاختصاص، وهو مِن محازِّه
(2)
؛ أنَّ اللهَ تعالى يُسلِّم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة؛ مبالغةً في تعظيمهم، وذلك متمنَّاهم، ولهم ذلك لا يُمنَعونه، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: والملائكة يَدخلون عليهم بالتحية مِن ربِّ العالمين
(3)
.
* * *
(59) - {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} يقال: مَازَهُ فانمازَ وامتاز بمعنَى: تمايز {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ؛ أي: انفرِدوا
(4)
عن المتَّقين، والمراد مِن {الْيَوْمَ} يوم الحشر، قال الضحاك: تمتاز اليهودُ فرقةً، والنصارى فرقةً، والمجوسُ فرقةً، والصابئون وعبدةُ الأوثان فرقةً، ولكلِّ فرقةٍ في النار بيتٌ تَدخُل فيه ويُرَدُّ بابُه، فتكون فيه أبداً، لا يَرى ولا يُرى
(5)
.
ويُشكِل هذا بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}
(1)
قوله: "بدل منها"؛ أي: من {مَا} على الوجهين، وقوله:"أو صفة" يعني: على كونها نكرة موصوفة، ولذا قال:"أخرى"؛ لأنَّه لا توصف المعرفة بالنكرة. انظر: "حاشية الشهاب"(7/ 248).
(2)
في (ف): "مجازه"، ومثله في مطبوع "الكشاف"(4/ 22)، والصواب المثبت.
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 22)، و"البحر المحيط"(18/ 127).
(4)
في (ك): "أي المبعودون".
(5)
انظر: "النكت والعيون" للماوردي (5/ 26).
[الحج: 22]، وقوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف: 50].
* * *
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} في خطابِ {يَابَنِي آدَمَ} نوعُ إيماءٍ إلى أنَّ ذلك العهدَ كما كان في عهدِ آدمَ عليه السلام:
{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} مِن جملة ما يقال لهم تقريعاً وإلزاماً للحجَّة، وعهدُ اللهِ تعالى إليهم ما رُكِزَ في عقولهم ونصبَ لهم مِن الحُجَج العقليَّة والأدلة السمعيَّة الآمرةِ بعبادتِه الناهيةِ عن عبادةِ غيرِه.
وعبادةُ الشيطانِ: طاعتُه فيما يُوسوِس به إليهم ويزيِّنه لهم.
والعهدُ: الوصيَّةُ، يقال: عَهِدَ إليه، إذا وصَّاه.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل للمنع مِن عبادته.
* * *
(61) - {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} عطفٌ على {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} .
{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} إشارةٌ إلى ما عهدَ إليهم مِن معصيةِ الشيطانِ وطاعةِ الرحمنِ، إذ لا صراطَ أقومُ منه، جملةٌ استئنافيةٌ لبيانِ
(1)
المقتضي للعهد بشقَّيه أو بالشقِّ الأخير، والتنكير في الصراطِ للتعظيمِ والمبالغةِ.
(1)
بعدها في (ف) و (ك): "العهد".
(62) - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} .
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} رجوعٌ إلى بيانِ معاداةِ الشيطانِ مع ظهور عداوتِه ووضوحِ إضلالِه لمَن له أدنى عقلٍ وتمييزٍ، فقوله:{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} استفهامُ تقريعٍ على تركِهم الانتفاعَ بالعقل.
والجِبِلُّ: الخُلُق، وأصلُ الجِبِلِّ: الطبعُ، ومنه: الجَبَل؛ لأَّنه مطبوعٌ على الثبات.
* * *
(63) - {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} بها في دارِ التكليف.
* * *
(64) - {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} : الزَمُوا العذابَ بها، وأصلُ الصَّلْي: اللزومُ، ومنه المُصَلِّي الذي في إِثْرِ السابقِ للُزومهِ أثره.
{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} : بسبب كفرِكم.
* * *
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} ؛ أي: نفعلُ بأفواههم ما لا يُمكنهم معه أن يتكلَّموا بألسنتهم.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} بإنطاقِ اللهِ تعالى إيَّاها على ما نطقَ به قولُه تعالى: {قَالُواْ
أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] فلا مساغَ للتأويل بظهورِ آثارِ المعاصي عليهم ودلالتها على أفعالها.
{وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أسندَ الختمَ إلى نفسِه دونَ الكلامِ والشهادةِ، دفعاً لوهم الإجبارِ، وإظهاراً لتوسُّط الاختيارِ بعد الإقدارِ على النطق والتكلُّم، ولمَّا كان كلامُ الأيدي إقراراً على الغيرِ المُنكِر، نُزِّل تصديقُ الأرجلِ إيَّاها منزلةَ الشهادةِ، فعبِّر عن تكلُّمها بالشهادة.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إذ الكسبُ باليدِ أخصُّ، فيكون الإخبارُ منها إقراراً، ومن الرجل
(1)
شهادةً؛ لأنَّها تحاضر وقلما تباشر، ولهذا خصَّ التكلُّم بمعنى الإقرار بالأيدي، والشهادة بالأرجل.
* * *
(66) - {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} .
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} الطَّمْسُ: محوُ الشيءِ حتى يذهبَ أثَره، والطَّمْسُ على العينِ تَعَفيةُ شقتها
(2)
حتى تعودَ ممسوحةً.
{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} : فطلبوا الطريقَ الذي اعتادوا سلوكَه سابقينَ، وإنَّما اعتبرَ قيد السبقُ على طريقةِ التضمين؛ لأنَّ التعذُّرَ في سلوك الأعمى الطريقَ حينئذٍ أظهرُ.
ويجوز أن يكون مِن باب حذف الجارِّ وإيصال الفعل؛ أي: فاستبقوا إلى الصراطٍ، أو نصباً على الظرف.
(1)
في (ف): "الأرجل".
(2)
في (ف) و (ك): "تعفيتها"، والمثبت من باقي النسخ، وفي "الكشاف" (4/ 24): الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة.
{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} لم يَقدروا أنْ يَسلكوهُ، ولم يُبصروه، ولم يَعلموا جهةَ
(1)
سلوكه، فضلاً عن غيره.
* * *
(67) - {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} .
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} بتبديلِ صورِهم وإبطالِ قُواهم وقُدَرهم {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} : في مكانهم، المكانة والمكان كالمَقامة والمَقام، أو بإضمار (هم)
(2)
.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} : ذهاباً {وَلَا يَرْجِعُونَ} : ولا رجوعاً، فوضع الفعلُ موضعَه للفواصل؛ أي: إنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُفعَل بهم ذلك، ولا عجز فينا، لكنَّا لم نفعل لشمول الرحمةِ واقتضاء الحكمة إمهالَهم، وقيل: ولا يرجعون عن تكذيبهم.
* * *
(68) - {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} .
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} : نُطِل عمرَهُ {نُنَكِّسْهُ} بالتشديد وبالتخفيف
(3)
؛ ..........
(1)
في (ي): "حجة".
(2)
في (ك) و (م): "بإضمارهم".
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 26). وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة، وباقي السبعة بفتح النُّون الأولى وإسكان الثانية وضم الكاف مُخفَّفة. انظر:"التيسير"(ص: 185). فهي ثلاث قراءات: اثنتان في المتواتر: {نُنَكِّسْهُ} و {نَنْكُسْه} ، وواحدة في غير المتواتر:(نُنْكِسه).
مِن التنكيس والإنكاس، وقرئ بفتح الكاف
(1)
؛ مِن النَّكْس.
{فِي الْخَلْقِ} ؛ أي: نقلِّبه فيه؛ فلا يزال يتزايد ضعفُه وانتقاصُ بنيتِه وقُواهُ، عكس ما أنشأناه عليه.
{أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ؛ أي
(2)
: مَن قَدر على ذلك قَدر على الطَّمْس والمسخِ؛ فإنه مشتملٌ عليها وزيادةٌ، غيرَ أنَّه على تدرُّج.
* * *
(69) - {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} .
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ؛ أي: بتعليمِ القرآنِ، وهو ردٌّ لقولهم: إنَّ محمَّداً شاعرٌ، والمراد: أنَّ القرآنَ ليس بشعرٍ، وأين هو مِن الشعرِ؟ فإنَّ الشعرَ كلامٌ موزونٌ مُقفًّى مُنتَظِمٌ مِن المخيِّلات المرغِّبة والمنفِّرة.
{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ؛ أي: لا يليقُ به ولا يَصلُح له؛ لأنَّ الشعرَ يَدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظِ والوزن، فالشاعرُ يكون المعنى منه تبعاً للَّفظ، والشارع يكون اللفظُ منه تَبَعاً للمعنى، وقيل: لا يتأتَّى له إنْ أراد قرضَه.
وقوله: "أنا النبيُّ لا كَذِب أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِب"
(3)
، قال بعضهم: إنَّما الرواية بالإعراب
(4)
، وإذا كانت بالإعراب لم تكن شعراً.
(1)
كذا في النسخ، والصواب: بضم الكاف، وهي قراءة سبعية. انظر التعليق السابق.
(2)
في (ك): (إن).
(3)
رواه البخاري (2864)، ومسلم (1776)، من حديث البراء رضي الله عنه.
(4)
يعني: بفتح الباء في كذب وخفض الباء في المطلب.
وأمَّا ما قيل: ليس هذا الوزنُ مِن الشعر؛ فمكابرةٌ؛ لأنَّ أشعارَ العرب على هذا قد رواها الخليلُ وغيرُه.
وأمَّا قوله:
هل أنتِ إلَّا إصبعٌ دَميت
…
وفي سبيلِ اللهِ ما لَقيت
(1)
فلعلَّه قالها ساكنةَ التاءِ أو متحرِّكةً مِن غير إشباعٍ، ولا يكون شعراً إلَّا إذا كُسرت التاءُ بإشباعٍ.
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} ؛ أي: موعظةٌ وتذكيرٌ مِن اللهِ عز وجل.
{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} : كتابٌ سماويٌّ، بيَّن كونه ليس مِن كلام البشر؛ لظهور إعجازه.
* * *
(70) - {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
{لِيُنْذِرَ} ؛ أي: القرآنُ، أو الرسولُ، ويؤيِّده القراءةُ بالتاءِ الفوقانيَّة
(2)
.
{مَنْ كَانَ حَيًّا} : عاقلاً فَهِماً؛ فإنَّ الغافلَ كالميِّت، أو مؤمناً في علمِ الله تعالى، واختصاصُ الإنذار به لأنَّه هو المنتفعُ منه
(3)
دونَ غيرِه.
{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} وتَجبَ كلمةُ العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ} المصرِّين على الكفر، وفي ذكرهم في مقابلة {مَنْ كَانَ حَيًّا} تنزيلٌ لهم منزلةَ الأمواتِ؛ لحرمانهم عن ثمرةِ الحياة.
* * *
(1)
رواه البخاري (2802)، ومسلم (1796)، من حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه.
(2)
قرأ بها نافع وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 185).
(3)
في (م): "به".
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : أَيُشرِكون ولم يَرَوا {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ممَّا تولَّينا نحن إحداثَه، لا يَقدر على تولِّيه غيرُنا، وذِكْرُ الأيدي وإسنادُ العملِ إليها استعارةٌ مِن عملِ مَن يعمل بالأيدي؛ للمبالغة في الاختصاص والتفرُّد بإحداثها.
{أَنْعَامًا} خصَّها بالذِّكْر لِمَا فيها مِن بدائع الفطرةِ ولطائف الحكمةِ وكثرة المنافعِ؛ جمعاً بين إظهارِ القدرةِ والامتنان بتذكير النِّعمة المختصَّين به، ولهذا كمَّله بقوله:
{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ؛ أي: خلقناها لأجلهم، وملَّكناهم إيَّاها
(1)
، فهم فيها متصرِّفون تصرُّف المُلَّاك.
* * *
(72) - {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} .
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} التذليلُ مِن جملة النِّعم الظاهرة، لولاها لَمَا قَدَرَ عليها أحدٌ، ولهذا أَلزمَ اللهُ تعالى الراكبَ أنْ يَشكُر
(2)
هذه النِّعمة ويُسبِّح
(3)
بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} هو ما يُركَب {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} ، أي: سخَّرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها
(4)
.
(1)
في (ع) و (ي): "خلقناهم لأجلهم وملكناهم إياهم".
(2)
في (م): "الراكب بشكر".
(3)
في (م): "هذه وسبح".
(4)
في (ك): "لكم لتركبوا ظهرها وتأكلوا لحمها".
(73) - {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} .
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} مجملٌ، مُفصَّله في قوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80].
{وَمَشَارِبُ} مِن اللَّبنِ وما يُتَّخذ منه، جمع: مَشْرَب، وهو الشُّرب أو موضعُ الشُّرب، إنَّما لم يقل: ومنها يشربون؛ لأنَّ ابتداءَ الشُّرب ليس منها، بخلاف الأكل.
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} لخالقِ هذه النَّعم، ورازق هذه النِّعم.
* * *
(74) - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} .
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} بعدما رَأَوا القدرةَ
(1)
الباهرةَ وآثارَها الظاهرةَ.
{لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} : طمعاً في أنْ يَتقوَّوا بهم ويتعزَّزوا، كما قال:{لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81]، والأمرُ على عكسِ ما قدَّروا؛ لأنَّه:
(75) - {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} .
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} : مُعدُّون لحفظهم يخدمونهم
(2)
ويذبُّون عنهم، والآلهةُ لا استطاعةَ بهم، ولا قدرةَ على النصرِ.
قيل: هم يوم القيامة محضرون
(3)
لعذابهم.
(1)
في (م): "الآيات".
(2)
في (ك): "يحرسونهم".
(3)
"محضرون" من (ف) و (ك)، وسقطت من باقي النسخ.
ويَرِدُ عليه: أنَّ فيه زيادةَ تفكيكٍ في
(1)
الضمائر، فيتنافر النَّظْمُ الذي هو أمُّ
(2)
إعجازِ القرآنِ، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر، وأيضاً المتبادِر من {لَهُمْ} النفعُ دون الضرر.
وقيل: محضرون إثرهم في النار.
ويأباه عبارةُ الجند، فإنَّه جمعٌ مُعَدٌّ للحرب.
* * *
(76) - {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
{فَلَا يَحْزُنْكَ} الفاء للسببية؛ أي: إذا علمتَ حالَهم ومآلَهم فتسلَّ
(3)
ولا يَحزُنكَ {قَوْلُهُمْ} فيكَ: إنَّك شاعرٌ وساحرٌ وكاهنٌ وكاذبٌ - وسائر وجوهِ الأذى بالقولِ - فإنَّا مجازُوهم.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليلٌ للنهي، وفيه وعيدٌ شديدٌ لهم، وزيادةُ تسليةٍ لرسولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام.
فإنْ قلتَ: أَليسَ مقتضى البلاغة تقديم {مَا يُعْلِنُونَ} حتى يكون نظمُ الكلام على أسلوب الترقِّي؟
قلتُ: ذلك مقتضاها بحسب جليلِ النَّظر، وأمَّا مقتضاها بحسب دقيقِه، فإنَّما هو تأخيرُه حتى يكونَ لكلٍّ مِن جُزْأي الكلامِ حظٌّ مِن الاهتمام، وذلك أنَّه حينئذٍ يكون للجزء الأول اهتمامُ التقديم، وللجزء الثاني اهتمامُ التصريح، بعد الانفهامِ
(1)
"في": ليست في (م).
(2)
"أم" من (ف) و (ك)، وسقطت من باقي النسخ.
(3)
في (ع) و (م) و (ي): (قيل).
بطريق الالتزام
(1)
، وعلى تقديرِ التقديمِ يفوتُ أحدُ الاهتمامين، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
* * *
(77) - {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} .
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إيلاءُ الهمزةِ واوَ العطف للتقرير والتعجيب مِن حالِ الإنسان، أي: أَيُنكِر الإنسانُ البعثَ ولم يَرَ مبدأَ خلقِه وإبداعَ نشأتِه.
وفيه تسليةٌ أُخرى لرسولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام بتهوينِ ما يقولونَ بالنسبةِ إلى إنكارهم للبعث، وتقبيحٌ بليغٌ لإنكارهم، لا يُرى أَبلغُ ولا أَفحشُ منه ولا أَعجب، ولا أدلُّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في
(2)
جحود النِّعم، حيث تقرَّر في عِلْمه أنَّا خلقناهُ مِن شيءٍ قليلٍ، وبلَّغناهُ إلى قَدْرٍ جليلٍ.
وإنَّما لم يقل: مِن ماءٍ مهينٍ، مع ما فيه مِن المناسبة لقرينه، رعايةً لحَقِّ الكلامِ بتجرِيده لِمَا سِيقَ له مِن المرام، وذلك بحذف ما يخيِّل غَرضاً آخَرَ، وهو الامتنانُ بالإعزاز والإكرام.
ومَن لم يتنبَّه لهذا قال: أنَّا خلقناهُ مِن أمهنِ شيءٍ وأقذره، وهو مع مهانةِ أصله وخساسةِ عنصره
(3)
، يتصدَّى لمخاصمة الجبَّار، الذي شرَّفه بعد خسَّته، وكرَّمَه بعد ذلَّته، ويقول: مَن يحيي العظام؟!
(1)
في (م): "الإلزام".
(2)
"وإفراطه في"، وقع في النسخ بدلا منه:"وإفراد"، والمثبت من "الكشاف"(4/ 30).
(3)
في (ك): "وخساسته".
{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (إذا) للمفاجأة، والفاء فصيحةٌ للعطف على مقدَّر تفصيله: لمَّا بلغَ مَظِنَّة
(1)
إظهارِ الشكر والحمدِ على آثارِ قدرتنا، ففاجأَ بإعلانِ الكفران والجحد مُبالغاً
(2)
في الخصومة، مُعرِباً عمَّا في نفسه مِن الجناية، وحالُه أنَّ خِصامَه في أَلْزَمِ
(3)
وصف له، وأبلغِ حجَّةٍ عليه، وهو أنَّه مُنشَأٌ مِن مواتٍ، والإعادةُ أهونُ مِن الإبداءِ، فخِصامه محضُ مكابرةٍ وصِرفُ معاندة.
* * *
(78) - {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} .
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} إنَّما سمَّى قولَه مَثَلاً؛ لكونه أمراً عجيباً
(4)
وقصَّةً غريبةً كالمَثَل، حيث أَنكر قدرةَ اللهِ تعالى على إنشاءِ المواتِ وقد أَنشأهُ اللهُ تعالى مِن الموات.
{وَنَسِيَ} : ولا يتذكَّر {خَلْقَهُ} وهو أقربُ شيءٍ إليه.
{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} رويَ أنَّ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ أَتَى النبيَّ عليه الصلاة والسلام بعظمٍ بالٍ تفتَّت بيده، فقال: أترى أن الله يحيي هذا بعدما رمَّ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: "نَعَم ويَبعثُكَ ويُدخِلُك النارَ" فنزلت
(5)
.
(1)
في (ك): "فطنة".
(2)
في (م): "ففاجأ بإعلان للكفران والحجب مبالغة"، وفي (ع) و (ي):"فقد جاء بإعلان الكفران والحجب مبالغا".
(3)
في (ك): "الذم"، وفي (ي):(إلزام)، والمثبت من باقي النسخ، وعبارة "الكشاف" وعنه النسفي:(في ألزم وصف له وألصقه به).
(4)
في (ف): "عجبا".
(5)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(2/ 146)، والطبري في "التفسير"(19/ 486)، عن قتادة. وقال =
والرَّميم: اسمٌ لِمَا بَلِيَ؛ عظماً كان أو غيرَه، غيرُ صفةٍ كالرَّمَّة والرُّفات، لا فعيل بمعنى فاعلٍ ولا مفعولٍ، فلهذا لم يؤنَّث مع كونِه خبراً عن مؤنَّث.
وقيل: لأنَّه معدولٌ عن فاعل، وكلُّ ما كان معدولاً عن وجهِه ووزنِه، كان مصروفاً عن أخواته، كـ {بَغِيًّا} في قوله:{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، فإنَّها مصروفةٌ عن: باغية.
وفي ظاهره دلالةٌ على أنَّ في العظام حياةً، وأنَّها تَنجُس بالموت.
* * *
(79) - {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إنَّما قال: {أَنْشَأَهَا} دون: أحياها؛ إشارة إلى الفرقِ بين الإحياءَين مِن حيث إنَّ الأولَ منهما إنشاءٌ، والثاني إعادةٌ، فلا جَرَمَ يكون أهونَ، ولا تغيير في جانب الفاعل.
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يَعلمُ كيف يَخلُق، لا يَتعاظمُه شيءٌ مِن خلقِ المُنشَآتِ والمعاداتِ، وجمعِ أجزائها؛ جلائلها ودقائقها.
* * *
(80) - {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} وصف
(1)
..............................
= ابن الجوزي في "زاد المسير"(7/ 41): وعليه المفسرون. وفي رواية سعيد بن جبير عند الطبري (19/ 487) أنه العاص بن وائل السهمي، وكذا رواه الحاكم في "المستدرك"(3606) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "ووصف".
الشجرِ بالأخضر حملاً على اللفظ، وقرئ:(الخَضْراءِ)
(1)
؛ على المعنى.
{نَارًا} : نوعاً غريباً مِن النار؛ حيث يَحدُث ممَّا يقطر منه الماءُ، ومِن هنا ظهر وجهُ توصيفِ الشجرِ بالأخضرِ، نُقلَ عن أربابِ الحكمة: أنَّ النارَ على أربعةِ أنواعٍ: نارٌ: تَأكلُ ولا تَشرب وهي النار المعهود.
ونارٌ: تَشرب ولا تَأكل وهي نار الشجر.
ونارٌ: تَأكل وتَشرب وهي نارُ المعدة.
ونارٌ: لا تَأكل ولا تَشرب وهي نارُ الحَجَر.
{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} لا تَشكُّون في أنَّها نارٌ تَخرج منه، استدلَّ بالنشأة الأولى على الثانية، ثم بانقداح النار مِن الشجر الأخضر، وهي مِن زناد الأعراب، وأكثرها مِن المَرخِ والعَفَارِ؛ يُقطع منهما غصنان مثل السَّواكين
(2)
، وهما خضروانِ يَقطُر منهما الماءُ، فيُسحق المرخُ - وهو ذَكَرٌ - على العفارِ - وهو أنثى - فتنقدحُ النارُ بإذن الله تعالى، مع مضادَّة الماءِ النارَ وانطفائِها به، فمَن قدرَ على ذلك، كان على إعادةِ الغضاضةِ - فيما كان غضًّا فيبسَ وبَلِيَ - أقدرَ.
* * *
(1)
انظر: "الكشاف"(4/ 31)، و"البحر المحيط"(18/ 144).
(2)
في (ع) و (ي): "يقدح منهما عصيان مثل السواكب"، وفي (م):"يقطع منهما عصيتان مثل السواكب". والمثبت موافق لما في "الكشاف"(4/ 31).
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} دليل ثالثٌ، كأنَّه قال: أَبَعْدَ ما مرَّ مِن الدليلين لا يَقدر مَن خلَقهما مع كِبَرِ جِرْمهما وعِظَم شأنِهما على خَلْقِ مثلِهم مع صغرِهم وقماءتهم بالنسبة إليهما.
وقيل: على إعادتهم
(1)
؛ لأنَّ المعادَ مَثَلٌ للمبدأ في أصول البنية والذات والصفات.
ويردُّه: أنَّ المذهبَ خلافُ ذلك.
{بَلَى} جوابٌ مِن الله تعالى مُشعِرٌ بأنَّ الجوابَ منحصرٌ في هذا، وهو الإثباتُ بعد النفي.
{وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} المبالغةُ في الخلقِ والعلمِ المستفادة مِن الصفتين المذكورتين، تناسب المقام.
* * *
(82) - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} : قولُه، على ما مرَّ في سورة النحل:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، ومَن حملَ الأمرَ هنا على الشأنِ، فقد غفلَ عن ذلك البيانِ.
شبَّه تأثيرَ قدرته تعالى في مرادِه بأمرِ آمرٍ مطاعٍ وَرَدَ على مأمورٍ مطيعٍ لم يَلبث أنْ يمتثل، فقال: إنَّما أَمْره في إيجاد الأشياء {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} ؛ أي: تكوينَه {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} ؛ أي: تَكوَّنْ {فَيَكُونُ} فيحدثُ مِن غيرِ امتناعٍ عليه ولا توقُّفٍ
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "عادتهم".
في المأمور
(1)
، ولا افتقارٍ إلى الآلاتِ وحركاتٍ مِن الآمر؛ حسماً لمادَّة الشُّبهة في قياسِ قدرةِ اللهِ تعالى على قدرةِ الخَلْق، وهو مِن الاستعارةِ التمثيليَّة يقوم مقامَ تعليلٍ لقدرةِ اللهِ تعالى على إعادة الموتى؛ أي: مَن كان إيجادُه للأشياء بهذه المثابةِ، كيف يَعجز عن الإعادة؟!
وقرئ: {فَيَكُونَ} بالنصب
(2)
؛ عطفاً على {يَقُولَ} ، والرفع على تقديرِ جملةٍ اسميَّةٍ؛ أي: فهو يكونُ، معطوفةٍ على أُخرى مثلِها، وهي: إنَّما أمره
…
أنْ يقول.
* * *
(83) - {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} تنزيهٌ له تعالى عمَّا وَصَفه
(3)
به المشركون، وتعجيبٌ مِن أنْ يقولوا فيه ما قالوا، والفاء للسببية؛ أوردها تعليلاً بكونه المتصرِّف في مَلكوتِ كلِّ شيءٍ بمقتضى مشيئته وموجبِ حكمته، فكيف يَمتنع عليه شيءٌ؟
والملكوتُ مقابلُ الملك على ما ورد في الدُّعاء المأثور: سبحان ذي الملكِ والملكوت.
فإنَّ كلَّ شيءٍ له جسمانيَّة كثيفة وروحانيَّة لطيفة، فجسمانيتُه الظُّلمانيةُ مِن عالَم
(1)
في (ف) و (ك): "من المأمور".
(2)
قرأ بها الكسائي وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 137).
(3)
في (م): "وصف".
الملك، وهو عالَم الخَلق وعالَم الشهادة، وروحانيتُه النورانيةُ مِن عالم الملكوت، وهو عالَم الأمر وعالَم الغيب.
ومعنى كون ملكوتِ كلِّ شيء بيده: أنَّ تصرُّفه فيه بالذات، لا بواسطة الأسبابِ العاديةِ، بخلاف ما في عالم الملك؛ فإنَّ تصرُّفه فيه بواسطة الأسبابِ والآلاتِ على مقتضى حكمته.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وعدٌ ووعيدٌ للمقرِّين والمُنكرين
(1)
.
* * *
(1)
في (م) زيادة: "والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب".
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) - {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} .
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} الواو للقسم، والصفُّ: ترتيب الجمع على خطٍّ واحد.
* * *
(2) - {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} .
{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} {صَفًّا} مصدر مؤكِّد، وكذلك {زَجْرًا} ، والفاء المتوسِّطة
(1)
بين الصِّفات إما لترتُّبهما
(2)
مع اتحاد الموصوف، وإما لترتُّب الموصوفات، والأولُ إمَّا لترتبهما في الوجود وإما لترتُّبهما في بعض الوجوه بحسب التفاضل أو التناقض، وكذا الثاني: إما في الوجود وإما في الاعتبار.
ويُحتمل هنا اتحادُ الموصوفين وترتُّب الصفات: في التفاضل على أن الصفَّ طاعةٌ وكمال، والزجرَ تكميلٌ بالمنع عن الشر والسوقِ إلى الخير، والتلاوةَ إفاضةُ المعارف والحِكَم على الأنبياء عليهم السلام، أو في التناقض على أن الصفَّ هو الحضور بين يدي الله في مواطن القُرَب، والزجرَ زجرُ الشياطين، والتلاوةَ الذكرُ بالتسبيح والتحميد.
(1)
في (م): "للتوسط".
(2)
في (ع): "لترتيبهما"، و في (ف) و (ك):"لترتبها".
وكذا إذا أريد تعدُّدُ الطوائف وتثليثُها.
وقد
(1)
يترتَّب في
(2)
الفضل على أن الطوائفَ الصافاتِ
(3)
فضلاءُ، والطوائفَ الزاجراتِ أفضلُ، والتاليات أبهرُ، أو بالعكس
(4)
.
* * *
(3) - {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} .
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة الصافِّين في مراتب العبودية بحسب تفاوُت فيضان الأنوار الإلهية عليهم منتظرين لأوامره من قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]، الزاجراتِ
(5)
للعباد عن المعاصي بإلهام الخير، أو الشياطينِ عن التعرُّض لهم بالإضلال، أو الأجرام العلوية والسفلية كالسحاب والرياح وغير ذلك بما أمروا من تدابيرها، التالياتِ
(6)
لآيات الله تعالى من الكتب المنزلة على أنبيائه عليهم السلام وغيرِها من التقديسات والتسبيحات وسائر الأذكار.
أو بنفوسِ العلماء العبَّاد
(7)
الصافَّاتِ أقدامَها في الصلوات وخصوصاً في
(1)
في (ف) و (ك): "فقد".
(2)
في (ع) و (م) و (ي): "على".
(3)
في (ع) و (م) و (ي): "الصفات".
(4)
في (ع) و (ي): "وبالعكس".
(5)
قوله: "الزاجرات" صفة: "الملائكة"، وكان الأولى:(الزاجرين) لتوافق: "الصافين" وهو لفظ "تفسير البيضاوي"، أو:(الصافات) لتوافق التنزيل، وهو لفظ "الكشاف"(4/ 33).
(6)
عند البيضاوي: (التالين)، وانظر التعليق السابق.
(7)
"العباد" ليست في (ف) و (ك).
الجماعات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات كلامَ الله تعالى وشرائعَه وحِكمَه.
أو بنفوس الغزاة المجاهدين في سبيل الله تعالى، الصافِّين في صفوف الجهاد، والزاجرين
(1)
للخيل، الذاكرين مع ذلك للهِ تعالى، والتالِينَ
(2)
لآياته لا تشغلهم تلك الشواغل عنها، كما حُكي عن علي رضي الله عنه
(3)
.
وقيل: الصافات: الطير من قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41]، والزاجرات: كلُّ ما زَجَر عن
(4)
معاصي اللهِ تعالى، والتاليات: كلُّ مَن تلا كتابَ الله تعالى.
وقرئت بإدغام التاءات الثلاثِ فيما يَليها لقُرب مخرجها من مخرج التاء
(5)
.
* * *
(4) - {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} .
{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب للقسم
(6)
.
وفائدةُ الإقسام: تعظيم المقسَم وتأكيدُ المقسَم عليه، على ما هو الأصل في كلامهم.
(1)
في (ف) و (ك): "الزاجرين".
(2)
في (م): "والتاليات"، وفي الهامش:"في نسخة: والتالين".
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 34).
(4)
في النسخ: "من"، وفي هامش (م):"لعله عن"، وعليه المثبت، وهو موافق لما في "الكشاف"(4/ 33).
(5)
هي قراءة حمزة وأبي عمرو. انظر: "التيسير"(ص: 22 - 26) و (ص: 185 - 186)، و"النشر"(1/ 286) و (2/ 356).
(6)
في (ف) و (ك): "القسم".
(5) - {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} .
وأما تحقيقُه بالبرهان فبقوله
(1)
: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن انتظامهما على الوجه الأكمل دليل على وحدة الصانع، على ما مر في تفسير قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22].
{رَبُّ} خبرٌ بعد خبرٍ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ على المدح؛ أي: هو ربُّ السماوات، ويجوز أن يكون بدلاً من (واحدٌ).
{وَمَا بَيْنَهُمَا} يتناول أفعالَ العباد فيَدل على أنها من خَلقه تعالى.
{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} : مشارقِ الشمس في السَّنة، قيل: وهي ثلاثُ مئةٍ وستون مَشْرقاً، في كلِّ يومٍ واحدٌ، وفيه نظر. وَيتبعها اختلافُ المغارب، ولذلك
(2)
اكتفى بذكرها، ولدلالتها عليها، كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، وأما كونُها أدلَّ على القدرة وأبلغَ في النعمة فلا يصلح وجهاً للاكتفاء المذكور، إنما يصلح وجهاً لتخصيص المشارق بالذكر على تقدير الاكتفاء بأحدهما.
* * *
(6) - {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} .
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} : القُربى منكم.
{بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} الزِّينةُ مصدر كالنِّسبة، أو اسم لِمَا يُزانُ به، كاللِّيْقَةِ اسمٌ لِمَا تُلاقُ به الدَّواةُ.
(1)
في (م): "بقوله".
(2)
في (م): "ولذلك".
وإضافتها إلى المفعول إن جعلتها مصدراً؛ أي: بأنْ زانَ اللهُ تعالى الكواكبَ وحسَّنها؛ لأنَّها إنَّما زُيِّنَتِ السَّماءُ لحسنِها في أنفسِها، وأصلُه:{بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بالتَّنوين ونصب {الْكَوَاكِبِ} ، وقد قرئ كذلك
(1)
.
أو إلى الفاعل؛ أي: بأنْ زانَتها الكواكبُ، وأصله: بزينةٍ الكواكبُ.
وإنْ جعلتَها اسماً فالإضافة للتَّبيينِ، فإنَّ الزِّينةَ مبهَمة قد تكون بالكواكب وقد تكون بغيرها؛ أي: بزينةٍ مِنَ الكواكبِ، كقولِكَ: بابُ ساجٍ، أو بزينةٍ هي الكواكبُ، ويعضده القراءة بالتَّنوين وجرِّ {الْكَوَاكِبِ} على الإبدال
(2)
.
ويجوز في النَّصب أيضاً الإبدال من محلِّ الجار والمجرور بهذا المعنى.
ويجوز على قراءة الجرِّ أنْ يرادَ بالزِّينةِ: ما زُّينَتْ به الكواكب مِن أضوائها وأوضاعها المختلفة؛ كشكل الثُّريَّا وبنات النَّعش والجوزاء وغير ذلك، ويعضده قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]؛ أي: بالأشكال.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} : بضوءِ الكواكبِ
(3)
.
واعلم أنَّ تقييدَ السَّماء بالدُّنيا يأبى عن حمل الزِّينة - على ما بحسب المفهوم - على
(4)
الظُّهور في الحسِّ؛ لعدم التَّمايز
(5)
بين العليا والدنيا في
(1)
قرأ عاصم وحمزة {بِزِينَةٍ} بالتنوين، والباقون من غير تنوين، وقرأ أبو بكر:{الْكَوَاكِبِ} بالنصب والباقون بالخفض. انظر: "التيسير"(ص: 186).
(2)
وهي قراءة حفص عن عاصم، وحمزة. انظر التعليق السابق.
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 209)، و"الكشاف"(4/ 35).
(4)
"المفهوم على" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(5)
في (ف) و (ك): "تمايز".
ذلك، ففي التَّقييد المذكور قدحٌ لِمَا اشتَهَر مِن أنَّ ما عدا القمر مِن الكواكب ليس في السَّماءِ
(1)
الدُّنيا.
* * *
(7) - {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} .
{وَحِفْظًا} عطفٌ على محلِّ قولِه: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} على المعنى؛ لأن المعنى: إنَّا خلقنا الكواكبَ
(2)
زينةً للسَّماء وحفظاً مِن الشَّياطين
(3)
، كما قال:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، أو منصوبٌ بفعلٍ مُقدَّر على المصدر؛ أي: وحفظناها حفظاً، أو على التَّعليلِ؛ أي: وحفظاً
(4)
زيَّنَّاها بالكواكب.
{مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} : خارجٍ عن الطَّاعةِ.
* * *
(8) - {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} .
{لَا يَسَّمَّعُونَ} ابتداء الاقتصاص
(5)
لبيانِ حالِ مسترِقَةِ السَّمع، لا تعلُّقَ له بما قبلَه إلَّا مِن حيثُ المعنى.
(1)
في (ف) و (ك): "سماء".
(2)
"على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب" سقط من (ف) و (ك)، وفي (ي) و (ع):"على المعنى إنا خلفنا الكواكب"، والمثبت من (م).
(3)
في (ف) و (ك): "السماء".
(4)
في (م): "وحفظناها".
(5)
في (ع) و (م): "الاختصاص".
ورجوعُ الضَّمير فيه
(1)
إلى {كُلِّ شَيْطَانٍ} : أمَّا مِن حيثُ اللَّفظُ فلا يجوزُ أن يكون صفةً لـ {كُلِّ شَيْطَانٍ} ؛ إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا يسْمَعون، ولا استئنافاً؛ إذ لو سُئِلَ: لِمَ يحفظُ مِن الشَّياطين؛ لَمَا صحَّ الجوابُ: لأنهم لا يسمَعون
(2)
، فبقي أن يكون منقطعاً.
ومَن زعم أنه تعليلٌ أصلُه: لئلا يسمَعون، فحُذِفَتْ اللَّام فبقيَ: أنْ لا يسْمَعوا، فحُذِفَتْ (أن) وأُهدِرَ عملُها = فقد ركِبَ شططاً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن الحذفَيْن على الانفرادِ غيرُ منكَرٍ، وأمَّا جمعُهما فمِن المنكرات التي يجب صونُ القرآنِ عنها.
{إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} وهم الملائكةُ لأنَّهم سكانُ السَّماء، والثَّقلان الملأُ الأسفلُ لأنَّهم سكان الأرض.
وقرئ: {لا يَسمعون} هو بالتَّخفيف وتشديد السِّين والميم
(3)
، وأصله: يتسمَّعون، والتسمُّع: تطلُّبُ
(4)
السَّماع.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يتسمَّعون فلا يسمعون
(5)
.
وهذا ينصر التَّخفيفَ على التَّشديد.
(1)
في "فيه" من (م) و (ع).
(2)
في (ف) و (ك): "بأنهم لا يسمعون"، وفي (م):"لأنهم يستمعون".
(3)
قرأ حفص وحمزة والكسائي: {لَا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم والباقون بإسكان السين وتخفيف الميم. انظر: "التيسير"(ص: 186).
(4)
في (ف): "طلب".
(5)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(10/ 3205). وكذا عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور"(7/ 79).
وعدِّي {يسمعون} بـ {إِلَى} لتضمُّنه الانتهاء؛ أي: لا ينتهون بالسَّمع أو التَّسمُّع إلى الملأ الأعلى، لا
(1)
لتضمُّنه معنى الإصغاء، إذ حينئذٍ لا يلزم انتفاءُ السَّمع أو التَّسمُّع، إذ لا يلزم من انتفاء المجموع انتفاءُ كلِّ جزءٍ منه، فمَن وَهَمَ أنَّ فيه المبالغة في النَّفي فقد وَهِم.
{وَيُقْذَفُونَ} : يُرمَوْنَ بالشُّهبِ.
{مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} مِن كلِّ جهةٍ يَصْعَدون إلى السَّماء منها للاستراق.
* * *
(9) - {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} .
{دُحُورًا} مفعولٌ له؛ أي: للدُّحور، وهو الطَّرد، أو حالٌ؛ أي: مدحوراً، أو مصدرٌ لأنَّ القذفَ والدُّحور متقاربان في المعنى، فكأنَّه قيل: يُدحرون دحوراً.
[وقرأ أبو عبد الرحمن السلميُّ بفتح الدال على: قذفاً دَحوراً طَروداً]، أو على أنَّه جاء مجيء القَبول والولوع
(2)
.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} : دائمٌ؛ أي: إنَّهم مَرجومون في الدُّنيا بالشُّهبِ، وقد أُعِدَّ لهم في الآخرة عذابٌ غيرُ منقطعٍ.
* * *
(1)
"لا" سقطت من (ف) و (ك)، وهذا ابتداء تعقب على البيضاوي.
(2)
انظر: "الكشاف"(4/ 36)، وما بين معكوفتين منه. وقوله:"أو على أنَّه جاء مجيء القَبول والولوع"، معناه: أن يكون مصدراً، وفَعول في المصادر نادر، ولم يأت في كتب التصريف منه إلا أحرف معدودة منها المصدران المذكوران، وانظرها مجموعة في "روح المعاني"(23/ 19).
(10) - {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} .
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} {مَنْ} مرفوع المحلِّ بدلٌ من الواو في {لَا يَسَّمَّعُونَ} ؛ أي: لا يَسمعُ الشَّياطين إلَّا الشَّيطانُ الذي خطفَ الخطفةَ.
وقرئ: (خِطِّفَ) بكسر الخاء والطَّاء وتشديدها
(1)
.
و: (خَطِّفَ) بفتح الخاء وكسر الطَّاء وتشديدها
(2)
، وأصلُها: اخْتَطفَ.
والخَطْفُ: الاستلابُ بسرعةٍ، والمراد: استلابُ كلامِ الملائكةِ مسارَقةً، ولذلك عرَّفَ {الْخَطْفَةَ} .
{فَأَتْبَعَهُ} : لحقَه، وقرئ:(فَاتَّبَعَهُ) بالتَّشديد
(3)
، وقد مرَّ التَّفصيل في تفسير (سورة طه).
{شِهَابٌ} نجمُ رجمٍ؛ أي: هم مُقذفون بالشُّهب مدحورون عن ذلك إلَّا مَن أُمهِلَ
(4)
ريثما خطفَ خطفةً فأتبعه شهاب
(5)
.
قيل: نجومُ الرُّجومِ غيرُ نجومِ الزِّينة، تلك ثابتةٌ وهذه سائرةٌ متَشتِّةٌ
(6)
.
(1)
نسبت للحسن وقتادة وعيسى. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 127).
(2)
نسبت لابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 467).
(3)
نسبت للحسن. انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 477). وهي رواية عن أبي عمرو، والرواية المشهورة عنه مثل رواية الجماعة. انظر:"السبعة"(ص: 422).
(4)
في (ي) و (ع): "أهمل".
(5)
في (م) و (ي): "فأتبع بشهاب".
(6)
سقطت من (ك)، وغير واضحة في (ف) و (م)، وفي (ع):"متشتمة"، والمثبت من (ي).
قال الشَّعبيُّ: لم يُقذَفْ بالرُّجوم
(1)
حتى بُعِثَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قُذِفَ بها جعلَ النَّاس يسيِّبون أنعامَهم ويعتقون رقيقهم
(2)
؛ يظنُّون أنَّها قيامة، فأتوا عبدياليل الثَّقفي وكان قد عمي، فأخبروه بما فعلوه، قال: لَمَّا قالوا
(3)
: إنَّ النُّجومَ تهافتَتْ من السَّماء، فقال لهم: لا تعجلوا؛ فإنْ كان النُّجوم التي تُعرَف فهي عند قيام الساعة، وإن كانت نجوماً لا تُعرَف فهو أمر حدثَ، فنظروا فإذا هي نجوم لا تُعرَف، قال: فما مكثوا إلَّا يسيراً
(4)
حتى أتاهم خبر النبي عليه السلام
(5)
.
وفيما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنَّ ذلك حدث بميلاد النَّبيِّ عليه السلام
(6)
.
وعلى كلا التَّقديرَيْنِ: الحادثُ قذفُ الشَّياطين بالشُّهبِ، لا الشُّهبُ نفسه، فلا قدحَ فيه؛ بدلالة أشعار الجاهليَّة على وجود الشُّهب قبلَه. ولا حاجة إلى أن يقال: إنَّ الحادث كثرتُها لا وجودها.
وأمَّا ما قيل: إنَّ أصلَ الشُّهبِ بخارٌ يصعدُ إلى الأثير فيشتعل = فيردُّه
(7)
نصُّ الكتاب؛ لأنَّه صريح في أنَّ الشُّهبَ الكواكبُ المشبَّهة بالمصابيح، وأنَّ انقضاضها واشتعالها لحكمة القَذْفِ، لا باقتضاء طبعها عند وصولها إلى الأثير.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "بالنجوم".
(2)
في (ف): "فيعتقون رقبتهم"، وفي (ك):"فيعتقدون رقبتهم".
(3)
"قالوا" من (ف) و (ك).
(4)
في (ف) و (ك): "قليلا".
(5)
روى نحوه البيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 241).
(6)
ذكره الثعلبي في "تفسيره"(5/ 333).
(7)
في (م): "فيبرز"، و في (ي):"قيتوت"، وفي (ع):"فيبون"، وكله تحريف.
{ثَاقِبٌ} : الشَّديدُ الإضاءة، كأنَّه يَثقبُ بضوئِهِ.
* * *
(11) - {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} .
{فَاسْتَفْتِهِمْ} لَمَّا كانت الهمزة في الأصل للاستفهام قيل: {فَاسْتَفْتِهِمْ} ؛ أي: فاستخبرهم، ولم يقل: فقرِّرهم، وإنْ خرجت إلى معنى التَّقرير، والضَّمير لمشركي العرب
(1)
، أو لبني آدم عليه السلام.
{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} يحتمل: أقوى خلقاً وأصعبُ خلقاً
(2)
وأشقُّه، على معنى الرَّد لإنكارهم البعثَ
(3)
والنشأةَ الأخرى.
{أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} المراد منه: ما ذُكِرَ مِن خلائقه؛ من الملائكة، والسَّماوات والأرض وما بينهما، والمشارقِ
(4)
والكواكب، والشُّهب الثَّواقب، والشَّياطين المردة، وغلَّب أولي العقل على غيرهم فقال:{مَنْ خَلَقْنَا} ، ويدلُّ عليه إطلاقه ومجيئُه بعدَ ذلك، وقراءةُ مَن قرأ:(أمْ مَن عَددنا) بالتَّشديد والتَّخفيف
(5)
، وقولُه:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ} فإنَّه الفارق بينهم وبينها، لا بينهم وبين مَن قبلهم كعاد وثمود، ولأن
(6)
المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم إيَّاه، والأمرُ فيه بالإضافة إليهم وإلى مَن قبلَهم سواءٌ.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "مكة".
(2)
"وأصعب خلقاً" من (م) و (ي) و (ع).
(3)
في (ف): "المبعث".
(4)
في (ف) و (ك): "وللمشارق"، وفي (ي):"ورب المشارق".
(5)
نسبت إلى ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "تفسير الطبري"(19/ 509)، و"المحرر الوجيز"(4/ 467).
(6)
في (ف) و (ك): "فلأن".
{لَازِبٍ} : لازمٍ ما جاوره ملاصِقٍ به؛ أي: أصلُ خلقتهم هو
(1)
الطِّين اللَّازب، وليس إلَّا التُّرابَ والماء، وهو على حاله، فمن أين استنكروا ذلك؟!
* * *
(12) - {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} .
{بَلْ عَجِبْتَ} مِن إنكارِهم البعثَ {وَيَسْخَرُونَ} ؛ أي: وهم يسخرون منك ومن تعجُّبِك وتقريرِك للبعث.
وقرئ: {عَجِبْتَ} بضم التَّاء
(2)
، وحُمل الكلام على المجاز؛ فإنَّ العَجَب روعةٌ تعتري الإنسان عند استعظامه لشيء
(3)
، وهو على الله تعالى محالٌ، فهو في حقِّه إمَّا لمجرد الاستعظام، وإمَّا على سبيل الفَرْض على معنى
(4)
: أنَّه عند الله بمنزلةٍ لو جازَ عليه العَجَبُ لعجب، أو التخييل من باب الاستعارة على ما مرَّ في قوله تعالى:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، وأن الأمر في نفسه
(5)
متعجَّبٌ منه، وقد جاء في الحديث: "عجبَ ربكم من إلِّكُم وقنوطكم، وسرعة إجابته
(6)
إيَّاكم"
(7)
.
(1)
في (م): "وهو".
(2)
وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 186).
(3)
في (م) و (ك) و (ع): "بشيء". ولفظ "الكشاف": "استعظامه الشيء".
(4)
"معنى" سقط من (م).
(5)
في (ف) و (ك): "في لعب".
(6)
في النسخ: "إجابتكم"، والتصويب من المصادر.
(7)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 118) ط: الأميرية، و"الغريبين" (مادة: ألل)، و"تفسير السمعاني"(4/ 394)، و"الكشاف" (4/ 37). قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 175): غريب، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث": يروى عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة =
(13) - {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} .
{وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} : ودأبهم إذا وُعِظوا بشيءٍ لا يتَّعظون به
(1)
.
* * *
(14) - {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} .
{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} عظيمةً مِن آياتِ اللهِ تعالى كانشقاق القمر ونحوه.
{يَسْتَسْخِرُونَ} : يبالغون في السُّخرية كأنَّهم يطلبون من أنفسهم السُّخرية منها، ويَجهدون في ذلك، أو يستدعي
(2)
بعضُهم مِن بعضٍ أنْ يسخرَ منها.
* * *
(15) - {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : ظاهر سحريَّتُه.
* * *
(16) - {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أصله: أنُبعث إذا متنا، فبدَّل الفعليَّة بالاسميَّة، وقدَّم الظَّرف، وكرَّر الهمزة؛ مبالغةً في الإنكار، وإشعاراً بأنَّه مُستَنكَرٌ
= الماجشون عن محمد بن عمرو يرفعه. الإلُّ: شدَّة القنوط، ويجوز أن يكون من رفع الصوت بالبكاء. انظر:"النهاية في غريب الحديث"(مادة: ألل).
(1)
في (ف) و (ك): "لا يوعظون".
(2)
في (ف) و (ك): "ويستدعي".
في نفسِه، وفي هذه
(1)
الحال أشدُّ استنكاراً، فهو أبلغ من القراءة بطرح إحدى الهمزتَيْنِ
(2)
.
* * *
(17) - {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} .
{أَوَآبَاؤُنَا} مبتدأ خبرُه محذوفٌ، تقديره: مبعوثون، ويدلُّ عليه ما قبلَه، فإذا قلْتَ: أقام زيدٌ أم عمرٌو؟ فعمرو مبتدأ محذوفُ الخبر، ويجوز عطفه
(3)
على محلِّ (إنَّ) واسمها على خلاف مذهب سيبويه؛ لأنَّه يقول: إنَّ (عَمراً) في قولِكَ: (إنَّ زيداً قائمٌ وعمرٌو) مرفوعٌ على الابتداء
(4)
.
وأما عطفه على الضمير في {لَمَبْعُوثُونَ} فلا صحَّة له؛ لأنَّ همزة الاستفهام لا تدخل إلَّا
(5)
على الجملِ، فعلى تقدير العطف على المفرد كان الفعل عاملاً فيه بواسطة
(6)
حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعملُ ما قبلها فيما بعدَها.
وإدخال الهمزة الإنكارية على الواو لزيادة الاستبعاد على معنى: أنُبْعَثُ ويُبْعَثُ
(7)
أيضاً آباؤنا؛ يعنون أنَّهم أقدم فبعثُهم أبعدُ.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "هذا".
(2)
قرأ ابن عامر بطرح الأولى، ونافع والكسائي بطرح الثانية. انظر:"التيسير"(ص: 32)، و"النشر"(2/ 373).
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "عطف".
(4)
انظر: "الكتاب"(1/ 95).
(5)
"إلا" سقط من (م) و (ي) و (ع). والمثبت من باقي النسخ، وهو الصواب.
(6)
في (ف): "بوساطة".
(7)
في (م) و (ي) و (ع): "معنى أيبعث أيضاً".
وقرئ: {أوْ آباؤنا} بـ (أو) الفاصلة
(1)
، قال صاحب "المطالع":(أو) إذا كانت للتَّقرير أو التَّوبيخ أو الردِّ أو الإنكار أو الاستفهام كانت مفتوحة الواو، وإذا جاءت للشَّكِّ أو التَّقسيم أو الإبهام أو التَّورية أو التَّخيير أو بمعنى (بل) أو بمعنى (حتى) أو بمعنى (إلى) وكيف كانت عاطفةً، فهي ساكنة الواو
(2)
.
{الْأَوَّلُونَ} : الأقدمون.
* * *
(18) - {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} .
{قُلْ} وقرئ: (قال)
(3)
: {نَعَمْ} ؛ أي: نعم تُبعثون، وإنما اكتفى به في الجواب لأَنَّه سبق
(4)
ما يدلُّ على جوازه، وأمَّا قيام المعجز على صدق المخبِر عن وقوعه فلا يجدي في حقِّ القائلين: إنَّه سحر مبين، والكلام معهم بعد ما أنكروا الإعجاز والرِّسالة.
{وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} : صاغرون.
وقرئ: {نَعِمْ} بكسر العين
(5)
، وهما لغتان.
* * *
(1)
وهي قراءة قالون وابن عامر. انظر: "التيسير"(ص: 186).
(2)
انظر: "مطالع الأنوار" لابن قرقول (1/ 347)، وكذلك "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 52).
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 38).
(4)
في (م) و (ي) و (ع): "لسبق".
(5)
وهي قراءة الكسائي حيث وقع. انظر: "التيسير"(ص: 110).
(19) - {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} .
{فَإِنَّمَا هِيَ} مبهمة لا ترجع إلى شيءٍ، موضحها خبرُها، ويجوز أن ترجع إلى البعثة الدَّال عليها {لَمَبْعُوثُونَ}
(1)
، والفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّر، تقديره: إذا كان ذلك
(2)
فما هي إلَّا:
{زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ؛ أي: صيحةٌ واحدةٌ، هي النَّفخة الثَّانية، مِن زجَرَ الرَّاعي غنمَه
(3)
: إذا صاح عليها، وأمرُها بالإعادة
(4)
كأمر (كن) في الإبداء، ولذلك رتَّب عليها قولَه:
{فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} : أحياءٌ يبصرون، أو: ينتظرون ما يُفعل بهم.
* * *
(20) - {وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} .
{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا} مرَّ تفسيره في (سورة يس).
{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} كلام الكفرة.
* * *
(21) - {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} كلام الملائكة جواباً لهم.
(1)
في (ف) و (ك): "مبعوثون".
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "كذلك".
(3)
"غنمه" سقط من (م)، وفي (ي) و (ع):"نعمه".
(4)
"بالإعادة" كذا في النسخ، وعند البيضاوي:"في الإعادة".
ويجوز أن يكون الأوَّلُ أيضاً من كلام الملائكة، وأن يكون الكلام الثَّاني من بعض كلام الكفرة لبعضهم؛ أي: هذا يوم الجزاء الذي ندان
(1)
فيه ونجازَى بأعمالنا، هذا يوم القضاء والفَرْق بين فِرَق الهدى والضَّلال.
{الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فيه دلالة على أنَّ الرُّسل عليهم السلام جدَّدوا الإنذار بعذاب النَّار سائرَ الأحوال
(2)
في دار القرار، وهم أصرُّوا على الإنكار، واستمرُّوا على الإصرار.
* * *
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم لبعض بأمر الله
(3)
، والحاجة إلى الحشر لأنهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر وفَراش مبثوث، والحشر: السَّوق إلى مجمَعٍ واحد من الجهات المختلفة.
{وَأَزْوَاجَهُمْ} : قرناءهم من الشياطين، قال أبو سعيد الخدريُّ في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]: إذا بعث الكافر زوِّج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه
(4)
.
(1)
في (ف) و (ك): "يزان".
(2)
في (ف) و (ك): "الأهوال".
(3)
في (ف) و (ك): "أو خطاب بعضهم بأمر الله للملائكة"، وفي (م):"أو خطاب بعضهم بعضا بأمر الله".
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(8/ 335).
وقال عطاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]: أي: قُرنت نفوس المؤمنين بحورِ العين ونفوس الكفار بالشياطين
(1)
.
{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} دلَّ هذا على أن المراد من الذين ظلموا المشركون، وقوله عليه السلام على وفق قوله تعالى حكاية عن الملائكة:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} : "بل هم عبدوا الشياطين الذين أمرتهم بذلك" في جواب ابن الزِّبَعْرَى
(2)
= دل على أن (ما) على عمومه، وأن الأصنام ونحوها غير داخلة فيه، فالضمير
(3)
في قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ} لمجموع
(4)
المذكورين.
{إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} : فعرِّفوهم طريق النار حتى يسلكوها، وفيه تهكُّمٌ بهم لِمَا مر في تفسير سورة الفاتحة أن الهداية دلالةٌ بلطف، وفي الصراط أيضاً نوعُ تهكُّمٍ لأنَّه طريقٌ مستوٍ لا التواء فيه ولا اعوجاج.
* * *
(24) - {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} .
{وَقِفُوهُمْ} : احبسوهم هذا الحبسَ عند مجيئهم النَّارَ، على ما دلَّ عليه قولُه تعالى:{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} [فصلت: 19، 20]، فالسؤال في قوله تعالى:
(1)
انظر: "زاد المسير"(9/ 39).
(2)
في هامش (م): "على ما مر في تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام".
(3)
في (ف) و (ك): "فالمضمر".
(4)
في (م) و (ي): "بمجموع".
{إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ليس عن عقائدهم وأعمالهم، بل عمَّا كانوا يرجون منه الشَّفاعة والنُّصرة، بدلالة قوله تعالى:
(25) - {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} .
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} وقولُه تعالى في موضع آخر: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] توبيخٌ لهم، وتهكُّم بهم بالعجز عن التَّناصر وتخليص بعضِهم لبعض بعدما كانوا متناصرين في الدُّنيا متعاضدين.
* * *
(26) - {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} .
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} ؛ أي: ليس أحدٌ يقدر على نصر أحدٍ، بل الكلُّ منقادون لِمَا يُرادُ بهم، وكلمة {بَلْ} حرف الابتداء، لا عاطفة
(1)
.
* * *
(27) - {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} .
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني: الكفرةُ والشَّياطينُ {يَتَسَاءَلُونَ} : يتخاصمون.
* * *
(28) - {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} .
{قَالُوا} يعني: الكفرةُ للشَّياطين: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} : عن القوَّة والغلبة
(2)
حتى تحملونا على الضَّلال وتَقْسرونا
(3)
عليه.
(1)
في (ف) و (ك): "لا حرف عاطفة".
(2)
في (ف) زيادة: "والشياطين".
(3)
في (م): "وتقرونا".
(29) - {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
{قَالُوا} يعني: الشَّياطينُ للكفرةِ: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} إضراب عن مُقدَّرٍ دلَّ عليه المساق؛ أي: ما أجبرناكم على الضَّلال، بل أنتم أعرضتم عن الإيمان، واخترتُم الكفر عليه بالاختيار.
(30) - {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} .
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} مِن تسلُّطٍ يسلبكم التَّمكُّن ويقسركم
(1)
.
{بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} : مختارين الطُّغيانَ، وهذا على وَفق
(2)
ما في موضع آخر من قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} [ق: 27].
(31) - {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} .
{فَحَقَّ عَلَيْنَا} ؛ أي: إذا لم نقسركم
(3)
فلزمنا {قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} ؛ أي: حُكْمُ ربِّنا بـ: إنَّا لذائقون لعذابه.
ولَمَّا أخبروا بذلك عن أنفسهم عدلوا عن الخطاب إلى لفظ المتكلِّم، فحكى الله تعالى قولَهم، ولو حكى وعيد الله كما هو لقال:(إنَّكم لذائقون).
(1)
في (م) و (ع): "ويقركم".
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "أوفق" بدل "على وفق".
(3)
في (م) و (ي): "لم نقركم".
(32) - {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} .
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} : فدعوناكم إلى الغيِّ؛ لأنَّا كنَّا غاوين أحببنا أن تكونوا مثلنا، وما أحببنا لكم إلَّا ما أحببنا لأنفسنا، فَلِمَ استحسنْتُم
(1)
الغيَّ على الرُّشدِ؛ أي: غاية ما في الباب أنَّا دعوناكم فلمَ أجبتم
(2)
وقبلتم؟
فكأنَّه تقريرٌ لقولهم: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} ؛ أي: ليست غوايتكم
(3)
في الحقيقة منَّا
(4)
، ولو كان كلُّ غواية بإغواء غاوٍ فمَنْ أغوانا؟!
(33) - {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} .
{فَإِنَّهُمْ} ؛ أي: الأتباعَ والمتبوعين مِن الكفرة والشَّياطين {يَوْمَئِذٍ} ويوم القيامة {فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} كما كانوا في الغواية مشتركين.
(34) - {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} .
{إِنَّا كَذَلِكَ} : مثلَ ذلك الفعل الفظيع {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} : بالمشركين، بدلالة السِّباق واللِّحاق، وفي الإطلاق ما لا يخفى من المبالغة في كون الإشراك جرمًا حيثُ لم يُعدَّ سائرُ المعاصي جرمًا نظرًا إليه.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "استجبتم"، ولو قيل:(استحببتم) لكان لها وجه، وعبارة أبي السعود:(فدَعوناكم إلي الغيِّ دعوة غير ملجئة فاستجبتم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ).
(2)
في (م): "أحببتم".
(3)
في (ف) و (ك): "عقوبتكم".
(4)
في (م): "بنا".
(35) - {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} .
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإذعان والقَبول.
(36) - {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} .
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} يعنون
(1)
: رسولَ اللهِ عليه السلام.
(37) - {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} .
{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} إضرابٌ عن مُقدَّرٍ دلَّ عليه السِّياقُ.
{وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} إذ هو وَهُمْ عليهم السلام على طريقةٍ واحدةٍ في دعوى الأمم إلى التَّوحيد وتركِ عبادة غيره تعالى.
وفيه ردٌّ على المشركين بأنَّ ما جاءَ به من التُّوحيد حقٌّ لا يطابق عليه البرهانُ العقليُّ والبيان النَّقليُّ مِن المرسلين.
(38) - {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} .
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} بالإشراكِ وتكذيب الرُّسلِ
(2)
، وقرئ بنصب (العذابَ)
(3)
، على تقدير
(4)
النُّون، كقوله:
(1)
في (ف) و (ك): "يعني".
(2)
في (ف) و (ك): "والتَّكذيب".
(3)
نسبت لأبي السمال. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 128).
(4)
في (م): "ترك".
ولا ذاكرَ اللهَ
(1)
بتقدير التَّنوين.
وقرئ: (لذائقون العذابَ) على الأصل
(2)
.
وفي عبارة الذَّوق دلالةٌ على أنَّ لهم عذابًا جسمانيًّا.
(39) - {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : إلَّا مثلَ ما عملتم، وإنَّما حذف المضاف للمبالغة في المماثلة، كما في التَّشبيه البليغ.
(40) - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع؛ أي: لكن عباد الله المخلَصين ثوابُهم مضاعفٌ، وقيل: متَّصلٌ عن الضَّمير في {تُجْزَوْنَ} أو {لَذَائِقُو} على أنَّها للعموم.
(41) - {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} .
{أُولَئِكَ لَهُمْ} تقديمه للتَّخصيص
(3)
.
(1)
جزء من بيت لأبي الأسود الدؤلي كما في "ديوانه"(ص: 54)، وتمامه:
فألفيتُه غيرَ مستعتبٍ
…
ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
(2)
انظر: "الكشاف"(4/ 41).
(3)
في (ف) و (ك): "تقدمة" بدل: "تقديمه للتخصيص".
{رِزْقٌ مَعْلُومٌ} خصائصُه من الدَّوام وتمحُّض اللَّذَّة
(1)
، ولذلك فسره بقوله:
(42) - {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} .
{فَوَاكِهُ} فإنَّ الفاكهة ما يُتلذَّذ به ولا يُتقوَّتُ، وذلك لأنَّهم مستغنون عن التَّغذي؛ إذ لا تحلُّلَ
(2)
هناك، فيكون رزقُهم كلُّه للتفكُّه والتلذُّذ لا للتقوُّت.
{وَهُمْ مُكْرَمُونَ} عند الله تعالى، لا يلحقهم هوانٌ، وذلك
(3)
مِن أعظم الثَّواب وأَلْيَقه بذوي الهِمَم.
(43) - {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ؛ أي: في جنَّاتٍ ليس فيها إلَّا النَّعيم، ظرفٌ أو حالٌ مِن المستكنِّ في {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} ، أو خبرٌ ثانٍ لـ {أُولَئِكَ} ، وكذا:
(44) - {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .
{عَلَى سُرُرٍ} يحتمِل الحال والخبر، فإن جُعلَ خبرًا كان:
{مُتَقَابِلِينَ} حالًا مِن الضَّمير فيه، أو في {مُكْرَمُونَ} ، ويجوز أنْ يتعلَّق بـ {مُتَقَابِلِينَ} ، على أنَّ {مُتَقَابِلِينَ} حالٌ مِن {مُكْرَمُونَ} .
(1)
في (م): "اللذات".
(2)
في النسخ: "تحليل"، والصواب المثبت؛ والمراد: التَّحلل في البدن المحتاج لبدل. انظر: "حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي"(7/ 269).
(3)
في (ف) و (ك): "في ذلك".
(45) - {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} .
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} الكأسُ: الزُّجاجة ما دامَتْ فيها الخمر، وقد يطلق على الخمر مجازًا كما في قوله:
وكأسٍ شَرِبْتُ على لَذَّةٍ
(1)
{مِنْ مَعِينٍ} : مِن شرابٍ معينٍ، أو نهرٍ معينٍ.
والمعينُ: الماءُ الجاري على وجهِ الأرضِ، الظَّاهر للعيون، وإنَّما وُصِفَ بما يوصَفُ به الماء لأنَّها تجري في الجنَّة في أنهارٍ كما يجري الماء، قال الله تعالى:{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد: 15].
(46) - {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} .
{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} صفتان للكأس. و {لَذَّةٍ} وصفٌ بالمصدر للمبالغة، كأنَّها نفسُ اللَّذَّة. أو تأنيث اللَّذِّ، يُقالُ: لَذَّ الشَّيءُ فهو لذيذٌ ولَذٌّ، ولَذَّةٌ لا تأنيث لَذِّ، بوزن فَعْلٍ كجَلْدٍ وطَبٍّ
(2)
، قال:
ولَذِّ كطعْمِ الصَّرخديِّ ترَكْتُهُ
(3)
(1)
شطر بيت للأعشى كما في "ديوانه"(ص: 223)، وعجزه:
وأخرى تداوْيتُ منها بها
(2)
الطب: الطبيب الحاذق. انظر: "روح المعاني"(23/ 54). ووقع في (ف): "ورطب".
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 42)، وعجزه فيه:
بأرض العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ
وهو في ديوان الراعي النميري (ص: 186) لكن بعجز آخر.
(47) - {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} .
{لَا فِيهَا غَوْلٌ} ، أي: فسادٌ مِن أنواع المفاسد التي تكون في خمور الدُّنيا، مِن خُمار
(1)
وصُداعٍ واختلاطِ عقلٍ ولَغْوٍ وعَرْبَدةٍ وغير ذلك.
والغَوْلُ: الإهلاك والإفساد، ومنه الغُولُ.
وتقديم الظَّرف وإيلاؤه حرف النَّفي لا
(2)
لإفادة نفي الغَولِ عنها وإثباتِه في غيرها، [لأنَّ إثباته في غيرها
(3)
غيرُ مقصودٍ، بل لإفادة أنَّ الغَولَ
(4)
المنفيَّ عنها ما هو الثَّابت في غيرها؛ أي: ليس فيها ما في خمور الدُّنيا مِن اغتيال العقل
(5)
.
{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} على البناء للمفعول، مِن نزفَ الشَّارِبُ: إذا ذهبَ عقلُه.
وقرئ
(6)
: (يَنْزُفون) بضم الزَّاي
(7)
، من نَزُفَ يَنْزُف: إذا سَكِر.
وإنَّما أُفرز النَّزفُ من أنواع الغَولِ وأُفْرِدَ بالذِّكْرِ للدِّلالة على أنَّ السُّكْرَ مِن أعظم المفاسد، كأنَّه مفسدةٌ برأسِها، وجنسٌ آخر غيرُ داخلٍ تحتَ الغَوْلِ.
(1)
بضم الخاء: صداع الخمر. انظر: "حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي"(7/ 270).
(2)
"لا" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(3)
"لأنَّ إثباته في غيرها" سقط من (م).
(4)
"الغول" سقط من (م).
(5)
"من اغتيال العقل" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
(6)
في (م) و (ي) و (ع): "قرئ".
(7)
نسبت لطلحة بن مصرف. انظر: "الكشاف"(4/ 43)، و"المحرر الوجيز"(4/ 473).
(48) - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} .
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : قَصَرْنَ
(1)
أبصارَهُنَّ على أزواجهنَّ، لا يمددْنَ طرفًا إلى غيرهم.
{عِينٌ} والعِيْنُ: النُّجلُ العيون، جمع عيناءَ
(2)
.
(49) - {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} .
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} شُبِّهْنَ ببيضِ النَّعام المكنون في الأَداحِيِّ
(3)
، فإنَّه مصونٌ عن الغبار في غاية الصَّفاء، ولونُها بياض به صفرةٌ حسنة، وهي أحسن ألوان الأبدان، وبها تشبِّه العرب مخدَّراتهم، وتسمِّيهِنَّ: بيضات الخدور.
وقيل: أراد به المصون عن الكسر، يعني: أنهنَّ عَذَارى صحيحاتٌ، قال الفرزدقُ:
خَرَجْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِ
…
وَهُنَّ أَصَحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ
(4)
ويؤيدُه ما في (سورة الرحمن): {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56].
قال في صفةِ الحور: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وفي صفة الولدان: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
(1)
في (م) و (ع): "قصرت".
(2)
وهي الواسعة العين في جمال.
(3)
جمع أُدْحيِّ، وهو الموضع الذي تفرخ النعامة فيه. انظر:"الصحاح"(مادة: دحو).
(4)
انظر: "ديوان الفرزدق"(2/ 835).
الْمَكْنُونِ}، وأشار بذلك إلى أن الحور للصحبة دون الولدان؛ لأنَّ اللؤلؤ للنَّظر لا للذَّوق، والبيض لهما.
(50) - {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} .
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} عطفٌ على {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} .
{يَتَسَاءَلُونَ} ؛ أي: يتحادثون على الشَّراب، يسأل بعضُهم بعضًا عمَّا جرى له وعليه في الدُّنيا وعن رفقائه.
وتغيير النَّظم إلى الماضي للإخبار بتحقُّق وقوع تلك اللَّذَّة خاصَّة مِن بين سائرها، وهي التَّحادُثُ على الشَّرابِ كعادة الشَّرْبِ
(1)
، قال:
وما بقيَتْ مِن اللَّذَّاتِ إلَّا
…
أحاديْثُ الكِرامِ على المُدامِ
(2)
(51) - {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} .
(3)
مكالمتهم: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} : جليسٌ في الدُّنيا.
(1)
بفتح الشين: جمع شارب.
(2)
عزي لأبي محمد عبد الله بن عمرو بن محمد الفياض كاتب سيف الدولة ونديمه. انظر: "يتيمة الدهر"(1/ 132) للثعالبي.
وعزي لأبي الحسن علي بن حريق. انظر: "المغرب في حلى المغرب" لأبي سعيد الأندلسي (2/ 319).
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "من".
(52) - {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} .
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} قرئ بالتَّخفيف والتَّشديد
(1)
، أي: يوبِّخني على التَّصديق بالبعث، أو التَّصدُّق
(2)
.
(53) - {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} .
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} لا يقال: ذِكْرُ كونهم عظامًا بعد ذِكْرِ كونهم ترابًا تنزُّلٌ مِن القويِّ إلى الضَّعيف في مقام الاستبعاد، بل في
(3)
ذِكْرِ ذلك غنًى عن ذِكْرِ هذا، لأنَّا نقولُ: كونهم عظامًا محقَّقٌ حسًّا ومحقِّقٌ
(4)
لكونهم ترابًا عقلًا، فلا غُنيةَ ولا تنزُّلَ، فافهم هذه الدَّقيقةَ الأنيقةَ.
{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} : لمجزيُّون، من الدَّين وهو الجزاء، أو لمَسُوسُون
(5)
، مِن دانَه؛ أي: ساسَه، ومنه الحديث:"العاقل من دان نفسه"
(6)
.
(1)
قرأ الجمهور بتخفيف الصاد، ونسبَتْ قراءة التشديد لبكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة. انظر:"زاد المسير"(7/ 59). ولعلي بن كِيسة عن سليم (وهو بن عيسى بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي) عن حمزة. انظر: "تفسير القرطبي"(18/ 36). والمشهور عن حمزة كقراءة الجماعة.
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "التصديق"، وهو تحريف. وقد روي في سبب نزولها على معنى التصدق قصة في "تفسير عبد الرزاق"(2/ 149) عن عطاء الخراساني.
(3)
"في" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(4)
"حسًّا ومحقق" من (م)، وفي (ي) (ع):"حسًّا ومحققهم".
(5)
في (ف) و (ك): "مسوسون".
(6)
رواه الترمذي (2459) وحسنه، وابن ماجه (4260)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه بلفظ: "الكيس من دان
…
". وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم الغساني، وهو ضعيف.
(54) - {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} .
{قَالَ} ؛ أي: ذلك القائلُ.
{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} إلى النَّار لأريَكم ذلك القرين.
وقيل: القائل هو الله تعالى، وقيل: بعض الملائكة يقولُ لهم: هل تحبُّون أن تطَّلعوا.
وقرئ: (مُطْلِعون) بالتَّخفيف
(1)
، يقال: طلع علينا فلان واطَّلع، بمعنًى.
(55) - {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} .
{فَاطَّلَعَ} ؛ أي: عرضَ لهم الاطِّلاع فقبلوا عرضَه فاطَّلع هو
(2)
بعد ذلك، هذا أيضًا قرئ بالتَّشديد على قراءة {مُطَّلِعُونَ} مشدَّدًا، وبالتَّخفيف على قراءة (مُطْلِعونَ) مخفَّفًا، كلاهما على لفظ
(3)
المضارع المنصوب جوابًا للاستفهام
(4)
.
(1)
وهي قراءة أبي عمرو من رواية الجعفي عنه، والمشهور عن أبي عمرو كقراءة الجماعة. انظر:"السبعة"(ص: 548)، و"المختصر في شواذ القراءات" (ص: 128). ووقع بعدها في (م) و (ي) و (ع) زيادة: "والمعنى"، ولا معنى لذكرها.
(2)
"هو" من (ف) و (ك).
(3)
"لفظ" سقط من (م) و (ي) و (ع)، و"كلاهما" سقط من (ف) و (ك).
(4)
انظر: "الكشاف"(4/ 45). وقد لخص الزمخشري كعادته ما جاء هنا من قراءات بقوله: وقرئ (مطلعون)(فاطَّلَعَ) و (فأَطَّلِعَ) بالتشديد على لفظ الماضي والمضارع المنصوب، و (مُطْلِعون)(فأَطْلَعَ) و (فأَطْلُعَ) بالتخفيف، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب.
وقرئ: (مُطْلِعونِ) بكسر النون والتَّخفيف
(1)
، على إرادة: مُطْلعونَ إيَّايَ، فوضع المتَّصل موضع المنفصل، كقوله:
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَهُ
(2)
وقيل: شبَّه اسمَ الفاعل في ذلك بالمضارع لِمَا بينهما مِن التآخي، كأنَّه قال: تُطلعونِ.
وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في الشِّعر.
وعلى قراءة المضارع معناه: هل أنتم مطَّلِعون إلى القرين فأَطَّلِعَ أيضًا
(3)
.
فإنْ
(4)
جعلتَ الإطلاع مِن أَطْلعه غيرُه، فالمعنى أنَّه شرَط في إطلاعه إطلاعهم لرعاية أدب المجالسة، وهو أنْ لا يستبدَّ بشيء دون جلسائه، فإذا قبلوه فكأنَّهم مُطْلعوه.
وقيل: الخطاب على هذا للملائكة؛ أي: أطلعوني على قريني أيُّها الملائكة، فأُطلعَ أصحابي من أهل الجنَّة عليه.
{فَرَآهُ} ؛ أي: قرينَه {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} : في وسطها.
(1)
انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 385)، و"الكشاف"(4/ 45).
(2)
صدر بيت ذكره سيبويه في "الكتاب"(1/ 188"، والمبرد في "الكامل": (1/ 97)، وصاحب "الخزانة":(2/ 45) الشاهد: (95)، وذكروا أنه مصنوع. وعجزه:
إذَا مَا خَشُوا مِنْ مُحْدَثِ الأمرِ مُعظَمَا
(3)
هكذا جاء في نسخة خطية مضبوطة من "الكشاف" بالتشديد، لكن معنى المشدد والمخفف واحد كما بيَّن الزمخشري عقب ما تقدم من قراءات التخفيف والتشديد وقبل هذه العبارة حيث قال:(يقال: طلع علينا فلان، واطَّلع، وأَطْلَع، بمعنى واحد).
(4)
في (م) و (ع): "وإن".
(56) - {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} .
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} : لتهلكني
(1)
بالإغواء. وقرئ: (لَتُغْويْنِ)
(2)
.
(إنْ) مخفَّفة من الثَّقيلة، واللَّام هي الفارقة، كقوله:{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان: 42].
(57) - {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} .
{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} بالعصمة والهداية {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في العذاب معك.
(58) - {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} .
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} الهمزة للتَّقرير والتَّوبيخ، دخلت على الفاء العاطفة ما بعدها على معطوفٍ محذوفٍ، تقديرُه: أنحن مخلَّدون منعَّمون فما نحن بميِّتين؛ أي: بمن شأنه الموت
(3)
.
وقرئ: (بِمائِتِينَ)
(4)
.
(1)
في (م): "لتهلكن".
(2)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 385)، و"معاني القرآن" للنحاس (6/ 31)، و"الكشاف"(4/ 45).
(3)
"بمن شأنه الموت" سقط من (ك)، و"بمن شأنه" سقط من (ف)، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "تفسير البيضاوي"(5/ 11)، وما بين معكوفتين منه.
(4)
بلا نسبة في "الكشاف"(4/ 45)، ونسبها في "البحر المحيط"(18/ 179) إلى زيد بن علي.
(59) - {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} .
{إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} التي في الدُّنيا، وهي متناولةٌ لِمَا في القبر بعد الإحياء للسُّؤال، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل، وقيل: على الاستثناء المنقطع.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كما وُعِدْنا.
والمعنى: أنَّ هذه حال المؤمنين وصفتهم فيما وعدَ الله تعالى لهم، بخلافِ حال الكفَّار فإنَّهم فيما يتمنَّون فيه الموت كلَّ ساعةٍ، وهذا تمام
(1)
كلامه لقرينه تقريعًا له.
ثم يقول معاودًا إلى مكالمة جلسائه بمَسْمَعٍ
(2)
من قرينه، تحدُّثًا بنعمة الله، واغتباطًا لحاله وحال رفقائه، وتبجُّحًا بها، وزيادةً في تقريع قرينه:
(60) - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
{إِنَّ هَذَا} ؛ أي: الذي نحنُ فيه {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وقيل: هو مِن قول الله تعالى، تقريرًا لقوله، وتصديقًا له، وإشارةً إلى ما هم فيه من النِّعمة والخلود والأمن من العذاب.
وقرئ: (لهو الرِّزقُ العظيمُ)
(3)
، أي: ما رزقوه
(4)
من السَّعادة.
(1)
في (م): "وهو إتمام"، وفي (ع) و (ي):"وهذا إتمام".
(2)
في (م): "بمستمع".
(3)
بلا نسبة في "الكشاف"(4/ 45).
(4)
في (ف) و (ك): "رزقوا".
(61) - {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} .
{لِمِثْلِ هَذَا} أي: لنيلِ مثل هذا إنْ عملوا عملًا {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} لا للحظوظِ الدُّنيويَّة المشوبة بالآلام السَّريعة الانصرام، وهذا معنى تقديم الغاية، وإيراد فاء السَّببية.
مِن عادة الله تعالى أن يَشفع الوعد بالوعيد، فلمَّا فرغ من بيان الرزق المعلوم ووصفِ أهل الجنَّة في تحادثهم وانسياقِ كلامهم إلى قصة المؤمن وقرينه، شرعَ في رزق الكافر ووصف أهل النَّار فقال
(1)
:
(62) - {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} .
{أَذَلِكَ} ؛ أي: أذلك الرّزق المعلوم الموصوف {خَيْرٌ نُزُلًا} نصب على الحال.
والنُّزلُ: الرِّزقُ الذي يُعَدُّ للنَّازلِ تكرمةً له، ويجوز حمله على المعنى الحاصل على أَنَّه نصب على التَّمييز.
{أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} : شجرةٌ صغيرة الورق مُنْتِنَةٌ مُرَّة حرِّيفة تَنبت بتِهامة، سمِّيت به الشَّجرة الموصوفة.
وفيه أنَّ الرِّزقَ المعلوم وما ذكر معه من النَّعيم لأهل الجنَّة بمنزلة ما يُقام للنَّازل، وما وراءه من اللَّذات بعد إقامتهم لا يدخل تحت الوصف، وكذلك شجرة الزَّقُّوم وما ذُكِرَ معه.
(1)
"فقال" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(63) - {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} .
{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} : محنةً وعذابًا لهم في الآخرة، أو ابتلاءً وامتحانًا لهم في الدُّنيا، حيث قالوا لَمَّا سمعوا أنَّها في النَّار: كيفَ يكون ذلك في النَّار، والنَّار
(1)
تحرق الشَّجر؟! ولم يعلموا أنَّ مَن قَدر على خلقِ حيوانٍ يعيشُ فيها ويلتذُّ
(2)
بها كالسَّمندر
(3)
، فهو قادر على خلق شجرٍ فيها وحفظه من إحراقها.
(64) - {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} .
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} وقرئ: (نابتة)
(4)
مكان {تَخْرُجُ} .
قيل: منبتها في قعر جهنَّم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
(65) - {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} .
{طَلْعُهَا} الطَّلعُ: ما يطلع أوَّلًا من النَّخلة عند إثمارها، وهو كمام ثمرها.
{كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} استُعيرَ الطَّلع من حمل النَّخلة لحمل شجرة الزَّقُّوم، وشُبِّهَ برؤوسِ الشَّياطينِ دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر؛ لأنَّ استقباح الشَّيطان وكراهة منظره أمرٌ راسخٌ في طباع النَّاس، وهذا تشبيهٌ تخييليٌّ.
(1)
في (ك): "وهي".
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "ويتلذذ".
(3)
انظر ما تقدم فيه عند تفسير قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60].
(4)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 387).
وقيل: الشَّيطانُ: حيَّةٌ عَرْفاء قبيحة المنظر هائلة جدًّا.
(66) - {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} .
{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} : من الشَّجرة، أو
(1)
من طلعها.
{فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} إمَّا لغلبة الجوع الشَّديد واستيلائه عليهم، وإمَّا لأنَّهم مقسورون على أكلها تعذيبًا.
(67) - {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} .
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} : ثمَّ إذا شبعوا وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم وأحرق الزَّقُّوم بطونهم سُقوا شرابًا من غسَّاقٍ أو صديد، شَوْبُه - أي: مزاجه - من حميم يشوي وجوههم ويقطِّع أمعاءهم.
وقرئ: (لَشُوبًا) بالضَّم
(2)
، وهو اسمٌ لِمَا يُشاب به، ويجوز أن يكون مستعارًا لبُعد ما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة من طعامهم.
(68) - {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} .
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} ؛ أي: لهم مقارٌّ ومنازلُ معيَّنة في دَرَكات الجحيم،
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "أي".
(2)
نسبت لشيبان النحوي. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 129).
إذا جاعوا جاؤوا إلى الزَّقُّوم
(1)
، فإذا عطشوا جاؤوا إلى الحميم
(2)
، ثمَّ يرجعون إلى مقارِّهم ومنازلهم مِن دركات الجحيم، على ما أخبر الله عنه في قوله:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]
(3)
.
وقرئ: (ثمَّ إنَّ منقلبَهم)
(4)
، (ثم إنَّ مصيرهم)، (ثمَّ إنَّ منفذهم)
(5)
لإلى الجحيم
(6)
.
(69) - {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} .
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} ، أي: صادفوا.
{آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} تعليلٌ لاستحقاقهم الوقوع في تلك الشَّدائد كلِّها، يعني أنَّ ذلك بسبب تقليدهم آباءهم الضَّالِّين.
(70) - {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} الإهراعُ: الإسراعُ الشَّديد كأنَّما يحثُّ صاحبه حثًّا.
(1)
في (ك): "الحميم".
(2)
في (ف): "الجحيم".
(3)
"على ما أخبر الله عنه في قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} سقط من (م) و (ي) و (ع).
(4)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "تفسير الطبري"(19/ 556)، و"الكشاف"(4/ 47).
(5)
انظر: "الكشاف"(4/ 47).
(6)
بعدها في (م) و (ي) و (ع) زيادة: "يطوفون بينها وبين حميم آن على ما أخبر الله تعالى قوله".
وقيل: إسراعٌ فيه تشبيه
(1)
بالرّعدة، وفيه إشعارٌ بأنَّهم بادروا إلى ذلك من غير توقُّف على تأمُّل ونظرٍ.
(71) - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} .
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} : قبلَ قومِك قريش {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} بالتَّقليد وترك النَّظر.
(72) - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} : أنبياءَ عليهم السلام حذَّروهم العواقب، وإنَّما قال:{فِيهِمْ} دون (إليهم)؛ دلالةً على
(2)
إمعانهم في الإنذار بقرارِهم فيما بينهم.
(73) - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} .
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} : الذين أُنذِروا فكُذِّبوا فأهلكُوا جميعًا.
(74) - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : الذين أَمنوا منهم، فأخلصوا دينهم لله تعالى؛ إذ أخلصهم الله تعالى لدينه على اختلاف القراءتَيْنِ
(3)
.
(1)
في (م): "شبيه".
(2)
في (ك): "على أن".
(3)
قرأ الكوفيون ونافع بفتح اللّاَم والباقون بكسرها. انظر: "التيسير"(ص: 128).
والخطابُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ قومُه؛ لأنَّهم رأوا آثارهم وسمعوا أخبارهم.
ثمَّ شرع في تفصيل المنذِرِين والمنذَرِين فقال:
(75) - {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} .
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} حينَ أيس مِن قومِه.
{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} اللَّام جواب قسمٍ محذوفٍ، والمخصوصُ بالمدحَ محذوفٌ؛ أي: فوالله لنعم المجيبون نحن.
والجمعُ في {نَادَانَا} و {الْمُجِيبُونَ} دليلُ العظمة والكبرياء وإظهارهما؛ أي: ولقد دعانا فبحقِّنا وعظمتنا إنا أجبناه أحسنَ الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون.
(76) - {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} .
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} : مِن الغمِّ الذي كان فيه مِن أذى قومِه؛ لأنَّه
(1)
بذلك دعا ربَّه فأجابه.
والكرب: الحزنُ الثَّقيلُ على القلبِ.
(77) - {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} .
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} هم الذين بَقُوا وحدَهم دونَ غيرهم، ولا دلالة فيه على عدم بقاء ذريَّةِ غيره حتى يخالف ظاهرَ قوله تعالى:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}
(1)
في (م): "لأن".
[الإسراء: 3]؛ لأنَّ الذُّريَّة تتناول أولاد البنات، دل عليه عَدُّ عيسى عليه السلام مِن ذرَّية نوح عليه السلام، على ما مرَّ في سورة الأنعام.
(78) - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} .
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} من الأمم كلِّهم هذه الكلمة وهي:
(79) - {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} .
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} على الحكايةِ، كقولك:(قرأْتُ: الحمدُ لله)؛ أي: يسلِّمون عليه تسليمًا، ويدعون له بثبوتِ هذه التَّحيَّة في العالَمِيْنِ مِن الملائكة والثَّقلَين جميعًا، كأنَه قيلَ: سَنَّ
(1)
اللهُ التَّسليمَ على نوحٍ وأدامَه في الكلِّ عن آخرِهم.
(80) - {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} علّل مجازاتَه بتلكَ التَّكرمة
(2)
السَّنيَّة وعظَّمَها بقولِه: {كَذَلِكَ} ؛ أي: مثلَ ذلك الجزاء العظيم، وهو تبقيةُ ذكرِه، وتسليمُ العالَمِين عليه أبدًا بإحسانِه.
ثمَّ علَّلَ إحسانه بإيمانه، وأضافه إلى ذاته تعالى في زمرة
(3)
خواصِّه بقوله:
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "ثبت".
(2)
في (ع) و (ي): "بتلك الكرامة"، وفي (م):"بتكرمة".
(3)
في (ع) و (م) و (ي): "زبدة".
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} لاختصاصه به، كلُّ ذلك لجلالةِ قدر الإيمان وعلوِّ شأنه، وأنَّه الغايةُ القُصوى مِن صفات المدح والتَّعظيم؛ إذ جعلَه موجبًا لكرامته واختصاصه مع كونه نبيًّا مختارًا؛ ترغيبًا للعباد في الإيمان والازدياد فيه إلى الإيقان.
(82) - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} .
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ثم أخبرَ تعالى أنَّه أغرقَ مَن لم يؤمنْ مِن قومِه.
(83) - {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} .
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} ممَّنْ شايعَ نوحًا عليه السلام في التَّوحيد وأصول الدِّين.
{لَإِبْرَاهِيمَ} ولا يقدحُ في ذلك اختلاف الشرائع فإنَّها تختلفُ بحسب اختلاف الأمم، وكانَ بينَهما ألفان وستُّ مئة وأربعون سنة، وما كان بينهما من الأنبياء إلَّا هود وصالح عليهما السلام.
(84) - {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} منصوب بتقدير (اذكر)، لا بما في الشِّيعة مِن معنى المشايعة؛ لأنَّ فيه الفصلَ بين العامل والمعمول بأجنبيٍّ، وهو قوله:{لَإِبْرَاهِيمَ} ، وأيضًا لام التَّأكيد تمنع أن يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها، لو قلْتَ: إنَّ ضاربًا لقادمٌ علينا زيدًا، لم يجزْ.
{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مِن جميعِ آفاتِ القلبِ كالشِّرك والشَّكِّ والغلِّ والغشِّ وغير ذلك، استعارَ المجيء به
(1)
للإخلاص والإعراضِ عمَّا سوى الحقِّ بالتَّوجُّه إليه.
(85) - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} .
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} بدل من {إِذْ جَاءَ} : {مَاذَا تَعْبُدُونَ} سؤالُ توبيخٍ.
(86) - {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (إفكًا): مفعولٌ له؛ أي: أتريدون آلهة إفكًا، قَدَّمَ المفعول - وهو {آلِهَةً} - للعناية؛ لأنَّ الإنكار متوجِّه إليه، ثمَّ قدَّم المفعول له عليه؛ لأنَّ الأهم عندَه أن يكافحهم
(2)
بأنهم ليسوا على غرضٍ صحيحٍ، ويقرِّرَ عليهم أنَّهم على الباطل، ومبنَى أمرهم على الإفك.
أو مفعول به، و {آلِهَةً} بدل منه أو تفسيرٌ وبيان للمبالغة، جعِلَتْ أنفسُهم إفكًا، أدر أريد
(3)
عبادتُهم على حذف المضاف؛ لدلالة {مَا تَعْبُدُونَ} عليه.
أو حال بمعنى: أتريدون آلهةً مِن دون اللهِ آفكين.
والإفكُ: أشنعُ الكذبِ وأفظعُه، وأصلُه: قلبُ الشَّيء عن جهتِه
(4)
التي هي له.
(1)
"به" من (م) و (ي) و (ع).
(2)
"يكافحهم" من (ي) و (ع)، وفي (م):"يكافئهم".
(3)
في (ف) و (ك): "وأريد"، والمثبت من باقي النسخ وهو الصواب.
(4)
في (م): "الجهة".
(87) - {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : بمَن هو الحقيقُ بالعبادة لكونه ربَّ العالمين، حتى تركتم عبادته إلى عبادةِ غيره، وهو كالحجَّة على ما قبلَه
(1)
، ومعنى إنكار الظَّنِّ: أنَّه لا يُقدَّرُ في وهمٍ ولا ظنٍّ ما يصدُّ عن عبادته إلى عبادةِ غيره، فضلًا عن القَطْعِ به.
أو: فما ظنُّكم به أنَّه أيُّ شيء هو حتى جعلتم الأصنام له أندادًا؟!
أو: فما ظنُّكم به أنَّه يَفعل بكم؛ أي: هل تظنُّون أنَّه كيف يعاقبكم على عبادة غيره؟!
(88) - {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} .
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} في أوصافها و
(2)
أوضاعها واتصالها، أو في كتابها، أو في علمها، يوهمهم الاستدلال على حاله، وكانوا
(3)
منجِّمين.
(89) - {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} .
{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} إنما قال ذلك لأَنَّهم أرادوا أن يصحبهم إلى عيدهم، وكان أغلب أسقامهم الطَّاعون، فأوهمهم السَّقم فهربوا منه، على ما دل عليه قوله:
(1)
في (ي): "فعله".
(2)
"أوصافها و" سقط من (م) و (ي) و (ع).
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "فكانوا".
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90]، فأعرضوا عنه مولِّين الأدبارَ مخافةَ العدوى؛ لأنَّه مرض مُعْدٍ ففعل
(1)
بأصنامهم ما فعل.
وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} من معاريض
(2)
الكلام وليس بكذب
(3)
؛ [أي]
(4)
: إني سقيم القلب لكفركم، أو: مشارفٌ للسقم؛ لأن مَن كان بصدد الموت كان مستعدًّا
(5)
للسقم، ولا يخلو صحيح من ذلك، فلم يكن كاذبًا فيما أظهر من الكلام، فلم يلحقه به شيء من الملام؛ إذ كان في نفسه قصد كسر الأصنام، فاحتال لإظهار الحق وإبطال الباطل، فكان عملًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا.
(91) - {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} .
{فَرَاغَ} فذهب في خُفيةٍ
(6)
، من روغة الثعلب وأصله: الميل بحيلة.
{إِلَى آلِهَتِهِمْ} بناء على زعمهم؛ أي: إلى أصنامهم التي يزعمونها آلهة؛ كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [القصص: 74].
{فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} ؛ أي: الطعامَ الذي عندكم.
(1)
في (ف) و (ك): "بعد ما فعل".
(2)
في (م): "معارض".
(3)
في (م): "بمكذب".
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
في (ع) و (م) و (ي): "مستعيرًا".
(6)
في (ع): "خفته"، وفي (ي):"خيفة"، وفي (م):"حفية" وفوقها حرف (خ).
(92) - {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} .
{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} بجوابي، استهزاءٌ وتهكُّم بها وبعبَدتها، وإيماءٌ إلى انحطاطها عنهم.
(93) - {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} .
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فأقبل عليهم مستخفيًا {ضَرْبًا} نصب على الحال بمعنى: ضاربًا، أو على المصدر من فعلٍ مقدَّر هو حالٌ؛ أي: فراغ عليهم يضربهم ضربًا
(1)
، أو من (راغ) لأنَّه في معنى: ضرب، كأنه قيل: فضربهم مُقبلًا عليهم ضربا.
وتقييده {بِالْيَمِينِ} للدلالة على قوته، فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل.
وقيل: معناه: بسبب الحَلِف، وهو قوله:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} .
(94) - {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} .
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} أي: إلى إبراهيم عليه السلام.
{يَزِفُّونَ} : يسرعون، من زفيف النعام.
وقرئ: {يُزِفُّونَ}
(2)
من أَزَفَّ: إذا دخل في الزَّفيف، أو من أَزَفَّه: إذا حمله على الزَّفيف؛ أي: يُزِفُّ بعضُهم بعضًا.
و: (يُزَفُّون) على البناء للمفعول؛ أي: يُحمَلون على الزَّفيف.
(1)
في (م): "بضربهم ضربًا"، وسقطت "ضربا" من (ف) و (ك).
(2)
قراءة حمزة. انظر: "التيسير"(ص: 186).
و: (يَزِفُون) من وَزَفَ يَزِفُ: إذا أَسْرعَ.
و: (يَزْفون) من زَفَاه: إذا حَدَاه؛ كأن بعضَهم يَزْفُون بعضًا لتَسارُعهم إليه
(1)
(95) - {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} .
{قَالَ} قَالَ مهو إبراهيم عليه السلام بعد محاورات كانت بينهم ذكرها في سورة الأنبياء.
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} نحتُ الخشبة: بَرْيُها، يقول: أتعبدون أصنامًا تعملونها أنتم.
(96) - {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} : وخلق ما تعملونه من الأصنام، فإن جواهرها بخلقه، وأشكالُها وإن كانت بنحتهم - ولذلك نسب إليهم عملها - فإنها بإقداره تعالى إياهم عليها، وخَلقِه
(2)
ما يتوقف عليه أعمالهم من الآلات والجوارح والدواعي.
(97) - {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} .
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} : في النار الشديدة الوُقود، من الجَحْمة وهي شدةُ التأجُّج.
(1)
جميع هذه القراءات مع توجيهها منقول من "الكشاف"(4/ 50).
(2)
في (ف) و (ك): "وخلق".
(98) - {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} .
{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} صنعوا لإهلاكه حظيرةً مملوءة بالنار ومَنْجَنيقًا لرميه إليها من بعيدٍ؛ لأن شدة حَرِّها كانت مانعةً عن الحضور عندها، فلذلك عبّر عنه بالكيد المشتمِل على نوع من الحيلة.
{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} لمَّا غلبهم بالحجة أرادوا أن يهلكوه كيلَا يَظهر للعامة عجزُهم، فأبطل الله تعالى كيدهم وجعلهم الأذلِّينَ الأسفلين، وصار كيدهم حجةً أخرى له عليه السلام، ومعجزةً أخرى
(1)
بالتصديق
(2)
بأنه من عند الله تعالى.
والمراد من المعجزة في أمثال هذا المقام: الأمر الخارق للعادة مطلقًا، لا مصطلَحُ أهل الكلام.
(99) - {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} .
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} : مهاجرٌ
(3)
إلى حيث يأمرني ربي وهو الشام، أو حيث أتجرد فيه للعبادة له تعالى.
{سَيَهْدِينِ} : سيرشدُني إلى ما فيه صلاحي واستقامةُ أمر ديني، وإنما بتَّ القولَ
(1)
"له عليه السلام ومعجزة أخرى"، سقطت من (ف) و (ك). ولعل الصواب والأنسب:(ومعجزة أَحرى) بالحاء.
(2)
في (ع): "للتصديق".
(3)
في (ف) و (ك): "مهاجرا".
لأن الله تعالى وعده الهدايةَ، فبنَى الأمر على وعده لقوةِ يقينه، أو بناءً
(1)
على عادة الله تعالى معه
(2)
في هدايته وإرشاده، لقوة توكُله وتفويضِه الأمر إليه تعالى، ولم يبنه على الرجاء كما بنى موسى حيث قال:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]، لأنَّه كان في أمر الدنيا لا في أمر الدِّين، فلا دلالة فيه على قصور موسى عليه السلام في ذلك الباب، والله أعلم بالصواب.
(100) - {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} ؛ أي: بعضَ الصالحين أَستأنِسُ به في الغُربة، وتَنفرجُ به عني الكربة، أراد به الولدَ؛ لأن الهبة غالبةٌ فيه وإن جاءت في الأخ أيضًا كما في قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]، على أن الموهوب فيه نبوَّةُ هارون لا نفسُه عليه السلام، وأما البشارة بالغلام فلا تدل على إرادة الولد بخصوصه.
(101) - {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} .
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} الفاء لترتُبه على {هَبْ لِي} كقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76]، ولا كلمةَ أقلَّ لفظًا وأكثر معنًى من هذه؛ لاحتوائها على البشارة، وأنَّه ذَكَر، وأنَّه يبلغ
(3)
أَوَانَ الحُلْم
(4)
.........
(1)
في (م): "بناه".
(2)
في (ي): "منه"، وليست في (ف) و (ك).
(3)
في (م): "بليغ".
(4)
قوله: "يبلغ أوان الحلم" بضمّ فسكون؛ أي: البلوغ بالسن المعروف، فإنه لازم لوصفه بالحليم؛ لأنَّه=
- لا لأن غيرَ البالغ لا يوصف بالحلم، بل لأن الغلام مَن طرَّ شاربُه - وبأنه يكون حليمًا.
وقيل: ما نَعَت الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بأقلَّ مما نعتهم بالحلم لعزة وجوده، وما نعت به
(1)
إلا إبراهيم وابنه عليهما السلام.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} متعلق بـ {بَلَغَ} ؛ أي: بلغ السعي مقارِنًا له، وذلك لا يقتضي بلوغَهما معًا حدَّ السعي كما لم يقتضِ
(2)
قولُ بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] أن يكون إسلامُهما معًا، وفي الحديث:"كنَّا نَحيضُ مع رسول الله عليه السلام" تمامُه في "صحيح البخاريِّ"
(3)
.
ويجوز أن يتعلق بـ {السَّعْيَ} فإن معمول المصدر إذا كان ظرفًا أو شبهَه يجوز تقديمُه عليه؛ لأن الظرف مما يكفيه رائحةُ من الفعل، فلا حاجة في العمل فيه إلى تأويل المصدر مع الفعل، على أنه ليس كلُّ مُؤوَّلٍ بشيء حكمُه حكمُ ما أُوِّل به.
= لازم لذلك السن بحسب العادة، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وإغضاء في كل أمر. انظر:"حاشية الشهاب"(7/ 279).
(1)
في (م): "وما نعت الله".
(2)
في (م) زيادة: "بلقيس أي".
(3)
رواه البخاري (321) من حديث عائشة رضي الله عنها. وجاء في هامش (ع) و (م) و (ي): "وفي حديث آخر: قتل معك في أحد، تمامه مذكور في بنات الصلب في شرح الفرائض".
والمراد باختصاص الأب بالسعي معه: بيانُ صغر سنِّه؛ أي: لم يَبْلُغ أن يسعى في الحوائج إلا مع أبيه لا مع غيره؛ لأن أباه أرفقُ الناس به وأعطفُهم عليه، لا يكلِّفه إلا ما سهل عليه، وغيرُه ربما عنَّف به في الاستسعاء فلا يحتمِله؛ لأنَّه لم تَستحكِم قوتُه، ولم يَصلُب عُودُه.
وفائدةُ ذلك البيانِ: إظهارُ أنه مع حداثة سنِّه وغضاضةِ غصنه
(1)
، بلغ مبلغًا من رصانة الحِلم
(2)
وكبر النفس
(3)
وفسحة الصدر ما سهَّل عليه احتمالَ تلك البليَّة العظيمة، ويسَّر له الإجابةَ بذلك الجواب الحكيم.
{قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ؛ أي: بأمرٍ من الله تعالى، ويدلُّ عليه قوله:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وذلك أن رؤيا الأنبياء وحيٌ كما في اليقظة، وإنما لم يقل: رأيت؛ لأنَّه رأى مرة بعد أخرى، والأمر به إنما كان في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتُه عليه السلام إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص.
{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} من الرأي، وإنما قال على وجه المشاوَرة - مع أنه حتمٌ من الله تعالى عليه - ليَعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله تعالى، فيثبِّتَ قدمه ويصبِّره إن جَزع، ويأمَنَ عليه الزَّللَ إنْ صَبر، وليوطِّنَ نفسَه عليه، ويتلقى البلاء مستأنسًا به، ويكتسبَ المثوبةَ بالانقياد لأمر الله تعالى.
وقرئ: {مَاذَا تَرَى} من الإراءة
(4)
؛ أي: ماذا تُبصِر من رأيك وتبديه.
(1)
في (م): "عصبه"، وسقطت من (ع) و (ي).
(2)
في (م): "الحكم".
(3)
في (ف) و (ك): "السنن".
(4)
قراءة حمزة والكسائي. انظر: "التيسير"(ص: 186 - 187).
و: (ماذا ترى) على البناء للمفعول
(1)
؛ أي: ماذا تُريكَ نفسُك من الرأي.
{قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؛ أي: ما تُؤمَرُه، حذفه وهو منصوب، وأصله: ما تأمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتُكَ الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به
(2)
واتَّصل الضمير منصوبًا فجاز حذفُه.
أو: أَمْرَكَ، على إضافة المصدر إلى المفعول وتسميةِ المأمور به أمرًا.
وقرئ: (ما تؤمر به) على الأصل
(3)
.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} على الذبح، أو على ما قضى الله به.
(103) - {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} .
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} يقال: سلَّمَ لأمرِ الله وأَسلَمَ واستَسْلَمَ بمعنًى واحدٍ: إذا انقاد له وخضع، وقد قرئ بهنَّ جميعًا
(4)
، وأصلها من قولك: سَلِمَ هذا لفلان: إذا خَلَص له، ومعناه: سَلِمَ من أن ينازَعَ فيه، وقولهم
(5)
: سَلَّم لأمر الله وأَسلَمَ له منقولان منه،
(1)
نسبت للأعمش والضحاك. انظر: "المحتسب"(2/ 222).
(2)
صدر بيت في "الكتاب"(1/ 37)، و"خزانة الأدب"(1/ 331)، واختلف في نسبته، قال البغدادي: نسب لعمرو بن معدي كرب، وللعباس بن مرداس، ولزرعة بن السائب، ولخفاف بن ندبة. وعجزه:
فقد تركتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
(3)
انظر: "الكشاف"(4/ 54).
(4)
انظر الثلاثة في "الكشاف"(4/ 55).
(5)
في (م): "فقولهم".
وحقيقة معناهما: أَخْلَص نفسَه لله وجعلها سالمةً له خالصةً، وكذلك معنى استسلم: استَخْلَص نفسَه لله.
وعن قتادة في {أَسْلَمَا} أسلم هذا ابنَه وهذا نفسَه
(1)
.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} : صرعه على شقِّه فوقع
(2)
أحدُ جبينيه
(3)
على الأرض تواضعًا على مباشرة الأمر بصبرٍ وجَلَد، ليُرْضِيا الرحمن ويُخزيا الشيطان.
وروي أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنًى.
وقيل: في الموضع المشرِف على مسجد منًى.
وقيل: في المنحَر الذي يُنحر فيه اليوم.
(104) - {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} .
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} في إيثار النداء على القول إشعار بتمثيل حاله بحالِ مَن يحتاج في خطابه إلى رفع الصوت وإن كان الخطاب عن قريبٍ؛ زجرًا له
(4)
عما أقبل عليه وتوغَّل فيه.
(1)
انظر: "الكشاف"(4/ 55).
(2)
في (م): "فوضع"، والمثبت من باقي النسخ، وهو الموافق لما في "الكشاف"(4/ 55)، و"تفسير البيضاوي"(5/ 15) و"تفسير أبي السعود"(7/ 201)، و"روح المعاني"(23/ 139).
(3)
في (ف) و (ك): "شقيه"، وفي باقي النسخ:"جنبيه"، والمثبت من "الكشاف"، وهو الصواب، ويؤيده عبارة البيضاوي وأبي السعود والآلوسي: فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة.
(4)
"له" ليست في (ف) و (ك).
(105) - {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} بصدقِ العزيمة والإتيانِ بما في وسعه من المقدِّمات، إذ
(1)
روي أنه أَمَرَّ السكين بقوَّته على حلقه فلم تقطَع.
وجواب (لمَّا) محذوفٌ تقديره: كان ما كان مما تَنطِق به الحال ولا تسعُه العبارةُ
(2)
والمقال، من استبشارهما، واغتباطهما، وحمدِهما لله
(3)
تعالى، وشكرِهما على ما أَنعم به عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين النفس عليه من الثواب والرضوان والكرامة عند الله، والفوزِ بالدِّين
(4)
الذي ليس وراءه مطلوب.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليلٌ لتحويل ما خوَّلهما من الفرَج بعد الشدةِ والظَّفَرِ بالبُغية بعد اليأس.
(106) - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} .
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} : الاختبار البيِّن الذي يتميز
(5)
فيه المخلصون عن غيرهم، أو: المحنةُ البيِّنة الصعوبةِ التي لا محنةَ أصعب منها، وإنما قال:
(107) - {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .
(1)
في (م): "و".
(2)
في (ع) و (م) و (ي): "ولا يحيط به الوصف".
(3)
في (م): "الله".
(4)
"بالدين" ليست في (ف) و (ك).
(5)
في (ف) و (ك): "يتبين".
{وَفَدَيْنَاهُ} والفادي بالحقيقة هو إبراهيمُ عليه السلام، واللهُ تعالى هو المفتدَى منه؛ لأنَّه تعالى هو الذي وَهب له الكبش، فكان هو الممكِّنَ من الفداء بهِبَتهِ، فأَسند إلى نفسه إسنادًا إلى المسبِّب مجازًا.
{بِذِبْحٍ} الذِّبح: اسم ما يذبح.
{عَظِيمٍ} : عظيم الجثة سمينٍ، وهي السُّنَّة
(1)
في الأضاحي.
وقيل: عظيمِ القَدْرِ؛ لأنَّه كان فداءً لنبيٍّ
(2)
من أنبياء الله، وهو إسماعيلُ في قول أبي بكرٍ وابن عباسٍ وابن عمر رضي الله عنهم وجماعةٍ من التابعين، وإسحاقُ عليه السلام فيما رُوي عن عليٍّ وابن مسعود والعباس رضي الله عنه وجماعةٍ من التابعين.
والأول أظهرُ:
لأنَّه الذي وُهب له إثر الهجرة.
ولأنَّ البشارة بإسحاق معطوفٌ على البشارة بهذا الغلام.
ولقوله عليه السلام: "أنا ابنُ الذبيحين"
(3)
فأحدُهما جدُّه إسماعيل عليه
(1)
في (ع) و (م) و (ي): "سنة".
(2)
في (ع) و (م) و (ي): "نبي".
(3)
لم أجده بهذا اللفظ، وروى الطبري في "تفسيره" (19/ 597) عن الصُّنَابحي قال: كنا عند معاوية ابن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، عُدّ عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين؛ فضحك عليه الصلاة والسلام؛ فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمِر بحفْر زمزم نذر لله لئن سَهُل عليه أمرها
…
) الخبر. قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: هذا حديث غريب جدا.
السلام، والآخَرُ أبوه عبدُ الله، فإن عبد المطلب نذر أن يَذبح ولدًا إن سهَّل الله تعالى حفرَ زمزمَ أو بلغ بنوه عشرًا، فلمَّا سُهِّل خرج السهم على عبد الله، ففداه من الإبل.
ولأنَّ ذلك كان بمكة.
ولأنَّ قرني الكبش كانا معلَّقين بالكعبة في يد أسباطِ إسماعيل عليه السلام حتى احترق البيت.
ولأنَّ البشارة بإسحاق عليه السلام كانت مقرونةً بالإخبار عن ولادة يعقوب عليه السلام منه، فلا يناسبها الأمرُ بذبحه مراهقًا.
وأمَّا ما رُوي عنه عليه السلام
(1)
أنه إسحاقُ عليه السلام فأخبارٌ لم تَثبت صحتُها.
(108 - 109) - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ثناءً حسنًا، ولا وقف عليه لأن:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} مفعولُ {تَرَكْنَا} .
(110) - {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لم يذكر {إنَّا} مع ذكرها في
(2)
أواخر القصص كلِّها؛ لأنَّه قد
(3)
سبق فيها مرة فاكتفى به إيجازًا.
(1)
"عنه عليه السلام" ليست في (ف) و (ك).
(2)
"في" ليست في (ف) و (ك).
(3)
في (م): "فيما".
(111) - {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} قد سبق بيانه في هذه السورة.
(112) - {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} حالان مقدَّران
(1)
كقوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]؛ أي: بشَّرناه بإسحاق عليه السلام مقدَّرًا كونُه نبيًّا مقضيًّا
(2)
كونه من الصالحين، ولا حاجةَ إلى تقدير مضافٍ كما قيل، فإن تقدير الحال لا يُوجب وجودَ ذي الحال بل تقدير وجوده.
وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه.
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} : على إبراهيم عليه السلام {وَعَلَى إِسْحَاقَ} بأنْ أخرجنا من نسلهما أنبياء، وأَفَضْنا عليهما بركات الدِّين والدنيا.
وتكرير الجارِّ
(3)
، وإظهارُ {إِسْحَاقَ} عليه السلام؛ للإشعار بأنَّ التبريك عليه بالأصالة والاستقلال لا بالتبعية؛ لكونه نبيًّا وأبًا لأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وغيرِهم كأيوبَ وشعيبٍ.
(1)
في (ف) و (ك): "مقدرتان".
(2)
في (م): "مقتضيًا".
(3)
في (ف) و (ك): "الحال".
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عمله بالإيمان والطاعة.
{وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالكفر والمعصية.
{مُبِينٌ} : ظاهرٌ ظلمُه، وفيه تنبيه على أن النَّسب لا يؤثِّر في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود
(1)
بعيب ولا نقيصةٍ على الأسلاف، وأن المدح والذم إنما يترتبان على كسب المرء، وحُسنِ عمله وقُبحه، وصلاحه وفساده في نفسه، لا على عمل الأصول والفروع.
وأمَّا أنه لا تأثير للعِرْق الطيِّب والخبيث أصلًا حتى يلزمَ أن ينهدم أمر
(2)
الطبائع والعناصر بالكلية
(3)
، فينافي ما هو الظاهر من قوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] ومن قوله عليه السلام: "لا يدخلُ الجنةَ ولدُ الزِّنا ولا ولدُه ولا ولدُ ولدِه"
(4)
بعد ذلك من أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها فلا دلالة فيما ذكر عليه
(5)
.
(1)
في (ف) و (ك): "في أعقابهما لا يعود إليهما".
(2)
"أمر" ليس في (ف) و (ك).
(3)
"بالكلية" ليس في (ف) و (ك).
(4)
رواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده أبو إسرائيل الملائي وهو ضعيف، وروي بنحوه من طرق أخرى أعلها جميعا ابن عراق ثم قال: وأيضًا فهو مُخالف لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولقوله: "ولد الزِّنا ليس عليه من إِثْم أبويه شيء"، أخرجه الطَّبراني من حديث عائشة، قال السخاوي: وسنده جيد، والله أعلم. انظر:"تنزيه الشريعة"(2/ 228).
(5)
في (ف) و (ك): "فيه".
(114) - {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} .
{وَلَقَدْ مَنَنَّا} : أنعمنا {عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} بالنُّبوَّة وغيرها مِن المنافع الدِّينيَّة والدُّنيويَّة.
(115) - {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} .
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} بني إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} مِن استعلاءِ
(1)
فرعونَ وقومِه وظلمِهم، أو من الغرقِ.
(116) - {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} .
{وَنَصَرْنَاهُمْ} الضَّمير لهما مع القوم {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} على فرعون وقومه.
(117) - {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} .
{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} : البليغ في بيانه، وهو التَّوراة.
(118) - {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : الطَّريق الموصل إلى الحقِّ.
(1)
في (ف) و (ك): "استيلاء".
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} مرَّ تفسيره في هذه السُّورة.
(123) - {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قيل: إنَّ إلياس كان إدريس، رُفِعَ قبلَ الطُّوفانِ إلى السَّماء ونزلَ بعدَه ببعلبكَّ، ويعضده قراءة ابنِ مسعود:(وإن إدريس) في موضع {وَإِنَّ إِلْيَاسَ}
(1)
، وقرأ:(إدراسين)
(2)
.
وقيل: هو إلياس بن ياسين من سبط
(3)
هارون أخي موسى عليه السلام.
(124) - {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} .
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} : ألا تخافون اللهَ تعالى.
(1)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 128).
(2)
انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 128). ووقع في (ف) و (ك) و (ع) و (م): "إدراس"، وقرئ بها أيضا. انظر:"المحتسب"(2/ 224).
(3)
في (ك): "سبطه "، وفي (ي) و (ع):"بسط ".
(125) - {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} .
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} : أتعبدونه. وهو عَلَمُ صنمٍ كان لهم
(1)
يعظِّمونه غايةَ التَّعظيم، وأخدموه أربعَ مئةِ سادنٍ، يتلقَّون شرائع الضَّلالات من الشَّيطانِ، ويقولون: إنَّ بعلًا أمر بكذا، ونهى عن كذا.
وكان اسمُ مدينتهم: بَكَّ، وهو من بلاد الشَّام، فنُسِبَتْ إليه ورُكِّبَ اسمُها باسمه، وسُمِّيَتْ: بَعْلَبَكُّ.
وقيل: البَعلُ: الرَّبُّ بلغة اليمن، يُقال: مَن بعلُ هذه الدَّار؟ أي: مَن ربُّها؟ والمعنى: أتعبدون بعض البعول.
{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} تتركون عبادةَ اللهِ تعالى، لم
(2)
يقلْ: وتَدَعون، مع ما فيه من صنعة التَّجنيس، لا لأنَّه مذمومٌ، فإنه إذا كان براءً عن التَّصنُّع
(3)
يكون ممدوحًا، واقعًا في كلام الله وكلام الرَّسول عليه السلام، بل لأنَّ في (دع) أمرًا زائدًا على التَّركِ لا يناسبُ المقامَ، وهو معنى الحفظ، ومنه: الوديعة.
(126) - {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} .
(1)
"كان لهم" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
(2)
في (م): "ولم".
(3)
في (ف) و (م): "الصنع".
{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} قرئ بالرَّفع على الابتداء، وبالنَّصب على البدل
(1)
، وكان حمزةُ إذا وصلَ نصبَ وإذا وقفَ رفع
(2)
.
(127) - {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .
{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} ؛ أي: في العذاب، وإنَّما أطلقَه اكتفاءً بالقرينة، أو لاختصاص الإحضار المطلق بالشَّرِّ عرفًا.
(128) - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء من واو {فَكَذَّبُوهُ} ، أو من (المحضرين)، ولا فسادَ فيه؛ لأنَّ استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم، على ما دلَّ عليه التَّوصيف بـ {الْمُخْلَصِينَ} ، لا من المكذِّبين، فمآل المعنى واحدٌ
(3)
.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(1)
قرأ حفص وحمزة والكسائي بالنصب، وباقي السبعة بالرفع.
انظر: "التيسير"(ص: 178).
(2)
انظر: " الكشاف"(4/ 60)، وعنه الرازي (26/ 162)، والقرطبي (18/ 88)، و"البحر المحيط"(18/ 207).
(3)
ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا. انظر: "روح المعاني"(23/ 164).
(131)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
: لغة في إلياس، وقرئ:{عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الأنعام: 85] بالوصل
(2)
، على أنَّه جمع يُرادُ به إلياس وقومه، كقولهم: الخُبَيْبيونَ والمُهَلَّبون.
ولا يجوز حملُه على الجمع إذا قرئ بالقطع، إذ لا بُدَّ للجمع مِن التَّعريف بالألف واللَّام.
وأمَّا قراءة: {آل ياسين} هو فعلى أنَّ {يَاسِينَ} اسم أبي إلياس، أضيف إليه الآل.
(137) - {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} .
{وَإِنَّكُمْ} يا أهلَ مكَّةَ {لَتَمُرُّونَ} في متاجركم إلى الشَّام؛ فإنَّ سدوم في طريقه.
{عَلَيْهِمْ} : على منازِلهم {مُصْبِحِينَ} : داخلين في الصَّباحِ.
(1)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} زيادة من (م).
(2)
قرأ نافع وابن عامر: {عَلَى إِلْ يَاسِينَ} منفصلًا، مثل آل محمد، والباقون بكسر الهمزة وإسكان اللّاَم متَّصلًا. انظر:"التيسير"(ص: 178).
(138) - {وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
{وَبِاللَّيْلِ} ؛ أي: مساءً؛ أي: يتكرَّرُ مرورُهم عليها باللَّيل والنَّهار، وهو الدَّاعي إلى الاعتبار.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : أبعدَ هذه المعاينة ما لكم عقولٌ تعتبرون بها.
(139) - {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قرئ: (يونس) عليه السلام بضمِّ النُّون وكسره
(1)
.
(140) - {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} .
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} الإباقُ: فرارُ العبد إلى حيث لا يهتدي إليه طالبُه
(2)
.
وكانَ يونسُ عليه السلام هربَ مِن قومِه بغير إذنِ ربِّه إلى حيث طلبوه ولم يجدوه، على ما مرَّ في تفسير سورة يونس، فاستعير الإباق
(3)
لهربه باعتبار هذا القيد، لا باعتبار القيد الأوَّل فقط
(4)
.
{الْمَشْحُونِ} : المملوءِ.
(1)
بالضم قراءة الجمهور، ونسبت القراءة بكسر النون للحسن. انظر:"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 250). وهي رواية ابن جماز عن نافع. انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 136).
(2)
في (ف) و (ك): "صاحبه".
(3)
في (م): "الآبق".
(4)
"فقط" زيادة من (م) و (ي) و (ع).
(141) - {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} .
{فَسَاهَمَ} ؛ أي: قارعَ أهلَ الفُلْكِ بإلقاء السِّهام.
{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ؛ أي: مِن المَغْلُوبين، وحقيقتُه: من المُزْلَقين؛ أي: عن مقام الظَّفر في الإسهام.
رُويَ أنَّه عليه السلام لَمَّا وُعِدَ بعذاب قومِه خرجَ مِن بينهم هاربًا قبل أن يأمرَه
(1)
اللهُ تعالى به، فركب في السَّفينة فوقفتْ، فقالوا: هاهنا آبقٌ، وفيما يزعم البحارون
(2)
أنَّ السَّفينة إذا كان فيها آبق لم تَجْرِ
(3)
، فاقترعوا فخرجَتِ القرعةُ على يونس عليه السلام، فقال: أنا الآبق وزجَّ نفسَه.
(142) - {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} .
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} : ابتلعَه، ومنه اللُّقمة.
{وَهُوَ مُلِيمٌ} داخلٌ في الملامة، وآتٍ بما يُلام عليه، أو: مُليمُ نفسِه، واللَّومُ: العَتَبُ.
وقرئ بالفتح مِن لِيْمَ
(4)
، كما جاء مَشِيْبٍ في مَشُوبٍ.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "يأمر".
(2)
في (ف) و (ك): "التجار"، وفي (ي):"التجارون".
(3)
في (ي) و (ع): "تجز".
(4)
انظر: "الكشاف"(4/ 61). وشرحه: أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه. انظر: "روح المعاني"(23/ 169).
(143) - {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} .
{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} : مِن الذَّاكرين الله كثيرًا بالتَّسبيح والتَّقديس مدَّةَ عمرِه.
وقيل: في بطن الحوتِ، وهو قوُله:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87].
وقيل: من المصلِّين.
(144) - {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} عبارةُ اللَّبْثِ دلَّتْ على الحياة، فالمعنى: لكان محبوسًا في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
ويُفهَم منه أن لا يعمَّ الهلاك عند النَّفخة الأولى الحيواناتِ البحريَّةَ.
وفيه حَثٌّ على إكثار الذِّكر، وتنبيهٌ على أنَّ مَن أقبل إليه تعالى في السَّرَّاء أخذ بيده عند الضَّرَّاء.
واختلفَ في مُدَّةِ لبثه في بطن الحوت، ولا طائلَ تحتَ ذِكْرِه.
(145) - {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} .
{فَنَبَذْنَاهُ} بأنْ حملنا الحوتَ على لفظِه.
{بِالْعَرَاءِ} : بالمكان الخالي عمَّا يغطِّيه مِن شجرٍ ونجمٍ
(1)
.
وما روي أنَّ الحوتَ سارَ مع السَّفينة رافعًا رأسَه يتنفَّس فيه يونسُ عليه السلام، ويسبح حتى انتهوا إلى البرِّ، فلفظُه مردودٌ بقوله تعالى:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} على ما مرَّ بيانه
(2)
في سورة الأنبياء عليهم السلام.
{وَهُوَ سَقِيمٌ} : مُعتلّ بما حلَّ به، ورُويَ أنَّ بدَنه عادَ كبدن الصَّبيِّ حين يُولَدُ.
(146) - {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} .
{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ} ؛ أي: فوقَه مُظلَّةً {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} اليقطينُ: ما ينبسطُ على وجه الأرض من الشَّجر ولا يقوم على ساقٍ، كشجرة
(3)
الدُّبَّاء والبطيخ والقثَّاء والحنظل، وهو يَفعيلٌ مِن قَطَنَ بالمكان: إذا قام به.
والأكثر على أَنَّها كانت الدُّبَّاء، وفائدة الدُّبَّاء: أنَّ الذُّبابَ ينفرُ منها، وهي أسرع الأشجار نباتًا وامتدادًا وارتفاعًا، ويدلُّ عليه أنَّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّك لتحبُّ القرع؟ قال: "أجل هي شجرة أخي يونس"
(4)
.
(1)
"ونجم" زيادة من (م) و (ي) و (ع). والنجم من النبات: ما نجم من غير ساق.
(2)
"بيانه" سقط من (م).
(3)
في (م): "كشجر".
(4)
ذكره الزمخشري في "الكشاف"(4/ 62). وقال ابن حجر في "الكافي الشاف"(ص: 141): لم نقف عليه مسندًا.
وفي البخاري (2092)، ومسلم (2041) من حديث أنس رضي الله عنه، وكذا في السنن بألفاظ مختلفة أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبُّ القرع ويتتبَّع الدُّباء.
(147) - {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} .
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ} هو إمَّا الإرسال إلى قومٍ أُخَر، وإمَّا إرسالٌ ثانٍ إلى قومِه الذين خرج من بينهم، وجُوِّزَ أن يكون المراد الإرسالَ السابق؛ لأنَّ الواو لا تدلُّ على التَّرتيب، ويأباه الفاء في قوله:{فَآمَنُوا} لأنَّها تدل على التَّعقيب بلا مهلة.
{أَوْ يَزِيدُونَ} باعتبارٍ آخر، وذلك أنَّ المكلَّفين منهم كانوا مئة ألفٍ، وإذا ضُمَّ إليهم مَن بصددِ التَّكليف كانوا أكثر، ومن هاهنا
(1)
ظهر وجه التَّعبير بصيغة التَّجدُّد دون الثَّبات.
وأما على ما قيل: إن المعنى في مرأى النَّظر؛ أي: إذا نظر إليهم قال: هم مئة ألف أو أكثر؛ فلا يظهرُ وجهُ العدول عن الظَّاهر.
وقرئ بالواو
(2)
.
(148) - {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
{فَآمَنُوا} : فصدَّقوه، أو: فجدِّدوا الإيمان بمحضره.
{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} : إلى أجلٍ مسمًّى، وقرئ:(حتى حينٍ)
(3)
.
(1)
في (ف) و (ك): "ومن هنا".
(2)
نسبت لجعفر بن محمد. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 487). ونسبت لأبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبي المتوكل، وأبي عمران الجوني. انظر:"زاد المسير"(3/ 553).
(3)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 393).
(149) - {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} .
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} معطوف على {فَاسْتَفْتِهِمْ} في أول السُّورة وإن تباعدت بينهما المسافة لأمرٍ ما، أَمَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلًا باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث، وساق
(1)
الكلام جارًّا لِمَا يلائمه
(2)
مِن القَصص موصولًا بعضُه ببعضٍ، ثمَّ أمرَه باستفتائهم عن وجه القسمة الضِّيزى، حيث جعلوا لله تعالى الإناث ولأنفسهم الذُّكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتِهم الشَّديدة لهن، واستنكافهم من
(3)
ذكرهنَّ، كما قال الله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58].
ولقد زادوا بذلك على الشِّرك ضلالاتٍ أُخَر: التَّجسيم، وتجويزَ الفناء على الواجب الوجود تعالى شأنه؛ لأن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيلَ أنفسهم عليه تعالى حيث جعلوا أوضع الجنسينِ له وأرفعَهما
(4)
لأنفسهم، واستهانتَهم بالنُّورانيِّين المقرَّبين، حيث أنَّثوهم.
ولذا
(5)
كرَّر الله تعالى إنكار ذلك في كتابه العزيز مرَّاتٍ، وبيَّن فظاعتها في
(1)
في (م): "وسياق".
(2)
في (ف) و (م): "جار بما يلائمه"، وفي (ك):"جار لما يلائمه"، وفي (ي):"جاريا بما يلائمه"، وكذا في (ع) لكن سقطت منها:"بما"، والمثبت من "تفسير البيضاوي" (5/ 19). وعبارة "الكشاف":(ثم ساق الكلام موصولًا بعضه ببعض).
(3)
في (م): "عن".
(4)
في (ف) و (ك): "أوضع الجنس له وأرفعه".
(5)
في (م) و (ي) و (ع): "ولهذا".
آياتٍ، وجعله ممَّا تكاد السَّماوات يتفطرْنَ منه، وتنشقُّ الأرضُ، وتخرُّ الجبال هدًّا.
وخصَّ الإنكار هنا بأمرَيْنِ، هما
(1)
أقربُ إلى فهم العامَّة وأفظع عندهم بمقتضى العادة: التَّقسيم المذكور، وتأنيث الملائكة، حيث جعل المعادل للاستفهام:
(150) - {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} .
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} وإنَّما خصَّ عِلْم المشاهدة؛ لأنَّ الأنوثة ليست من لوازم ذواتهم حتى يمكنَ للعقل طريق إلى معرفة ذلك، ولم يَنزل به كتاب، فلا طريق إلى علم أمثال ذلك إلَّا بالمشاهدة، مع ما فيه من الاستهزاء بهم والتَّسفيه لرأيهم، حيث يبتُّون به القول كأنَّهم شاهدوا خلقَهم.
والتَّخصيص بتقديم الظَّرف في {أَلِرَبِّكَ} و {وَلَهُمُ} ، وإيلاؤه حرف الإنكار؛ لزيادة التَّشنيع وتفظيع قولهم.
(151) - {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الإفكُ: الكلامُ المصروف مِن الحقِّ إلى الباطل، والولدُ فَعَلٌ بمعنى المفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكَّر والمؤنَّث.
(1)
في (ف) و (ك): "منتهاهما" بدل "هما".
بالَغَ في الإنكار بـ (ألَا) و (إنَّ) واللَّام وتقديمِ {مِنْ إِفْكِهِمْ} ؛ لظهور استحالته، ووضوح حجَّة التَّوحيد.
* * *
(153) - {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} .
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} استفهامُ إنكارٍ واستبعادٍ. والاصطفاءُ: أخذُ صفوةِ الشَّيء.
وقرئ بكسر الهمزة
(1)
، وجوِّز أن يكون على الإخبار بإضمار القول، متعلِّقًا بقوله:{لَكَاذِبُونَ} ؛ أي: لكاذبون في قولهم: اِصطفى البنات، أو إبدالِهِ من قولهم:{وَلَدَ اللَّهُ} على أنَّه مِن كلام الكفرة، وبدون ذلك تلك القراءة ضعيفة جدًّا؛ لكون هذه الجملة مكتنَفةٌ بالإنكار من جانبيها
(2)
، واقتضاءِ المقام اختصاصَها بزيادة الإنكار؛ لأنَّه بالغَ في إنكار الولادة، فاقتضى الحال أن يقول: خصوصًا الإناث، فمَن جعلها للإثبات أوقعها دخيلةً بين نسيبين
(3)
، ونَثَرَ
(4)
نظمَ الكلام.
(1)
قرأ أبو جعفر بوصل الهمزة على لفظ الخبر، فيبتدئ بهمزة مكسورة. واختلف عن ورش، فروى الأصبهاني عنه كذلك، وهي رواية إسماعيل بن جعفر بن نافع، وروى عنه الأزرق بقطع الهمزة على لفظ الاستفهام، وكذلك قرأ الباقون. انظر:"النشر"(2/ 360).
(2)
في النسخ: "من جانبها"، والمثبت من "الكشاف"(4/ 64)، وبين الجانبين بقوله: وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
(3)
يعني: قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} كلام الله تعالى على سبيل الإنكار، فلو جعل {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} إخباريا لكان من كلام الكفار فيختل النظم. انظر:"فتوح الغيب"(13/ 209).
(4)
في (م): "ويزين"، وسقطت من (ف)، والمثبت من باقي النسخ، وقد استدركت في (ك) على =
والجملةُ الاعتراضية التَّأكيديَّة - أعني: وإنهم لكاذبون - تزيدها ضعفًا؛ لأنَّها مقرِّرة لنفي الولد عن أصله، مؤكِّدةٌ لذلك، فإذا وجَّهتها إلى هذه خرجت عن كونها مبيِّنة للإفك، وصارت كأنَّها مجوِّزةٌ للولادة المذكورة، مُطرقةٌ لصدقهم
(1)
لو قالوا بها، وكذا الالتفاتُ في قوله:
(154) - {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؛ أي: بما لا يرتضيه عقل يأباه
(2)
.
* * *
(155) - {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أنَّه منزَّهٌ عن ذلك.
وقرئ: (تَذْكُرون)
(3)
مِن ذَكَرَ.
والأَولى أن يقال: إنَّ تلك القراءة على حذفِ حرف الاستفهام، لوضوح دلالة قرائنه، وشهادة مُعادله في قوله:
(156) - {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} .
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} : حجَّةٌ نزلَتْ عليكم
(4)
من السَّماء، أو مِن خبرٍ مِن
= الهامش وعليها علامة التصحيح.
(1)
في (م): "بصدقهم ".
(2)
"يأباه" سقط من (ك).
(3)
نسبت لطلحة بن مصرف. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 488).
(4)
"عليكم" سقط من (م).
نبيٍّ بأنَّ الملائكة بنات الله؛ أي: لا يجوِّزه عقلٌ، ولا نزل به نقلٌ، فإنَّ كلَّ شيءٍ مِن ذلك.
* * *
(157) - {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} الذي ينطق بذلك، كقوله تعالى:{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35].
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم.
وهذه الآيات واردة على سخطٍ عظيمٍ، واستبعادٍ لأقاويلهم شديدٍ، وما الأساليب التي وردَتْ عليها والتَّراكيبُ التي انتظمَتْ بها إلَّا ناطقة بتسفيه أحلامِهم، وتجهيل نفوسِهم، واستركاكِ عقولهم، مع استهزاءٍ وتهكُّم وتعجيبٍ
(1)
مِن أن يُخْطِرَ مُخْطِرٌ مثلَ ذلك على باله
(2)
، ويحدِّثَ به نفسًا، فضلًا أن يجعله معتقَدًا، ويتظاهر به مذهبًا.
* * *
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} ؛ أي: بينَ اللهِ تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} يعني: الملائكة عليهم السلام، ذكرَهم باسم الجنس وضعًا لهم، وتقصيرًا بهم أن يبلغوا حد المناسبة التي أثبتوها لهم - وإن كانوا في أنفسهم مكرَّمين معظَّمين - لاقتضاء المقام التَّحقير.
(1)
في (ف) و (ك): "وتعجب" وسقطت من (ع) و (ي).
(2)
في (م): "بال".
{نَسَبًا} وهو زعمُهم أنَّهم بناتُه تعالى، والمعنى: وجعلوا بما قالوا نسبةً بين الله تعالى وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسيَّةً جامعةً له وللملائكة.
والجِنَّةُ جنسٌ يشمل
(1)
كلَّ مَن يُجنُّ
(2)
ولا يُؤْنَس، لكن مَن صفا ذاتُه وتنوَّر ونسكَ وطهرَ وكان خيرًا كان ملَكًا، ومَن
(3)
تكدَّر جوهرُه وأظلمَ وخبث ومردَ وكان شرًّا كان شيطانًا.
وقيل: قالوا: إن الله تعالى صاهر الجنَّ.
وقيل: قالوا: إن الله تعالى والشَّيطان أخوان، فعلى هذا لا يتناول اللَّفظُ الملائكة.
{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} ؛ أي
(4)
: الكفرةَ {لَمُحْضَرُونَ} النَّار، ومُعذَّبون بما يقولون.
وإنَّما نسبَ العلم إلى الذين ادَّعوا لهم تلك النِّسبة وعظَّموهم
(5)
، ووضع (محضرون) موضع (كاذبون)، للمبالغة في التَّكذيب؛ أي: إنَّ الذين فخَّموهم بهذا النَّسب وشرَّفوهم يعلمون أنَّهم في ذلك كاذبون، مفترون
(6)
بما يقولون، فيعذَّبون به.
وقيل: إنْ فُسِّرَتِ {الْجِنَّةُ} بالشَّياطين جازَ أن يكون الضمير في {إِنَّهُمْ} لهم؛
(1)
في (م) و (ع): "يشتمل".
(2)
في (م): "كل يجتن"، وفي (ي):"كل تحت" وفي (ع): "كل من يجتن".
(3)
في (ف) و (ك): "ومتى".
(4)
في (ف) و (ك): "إن".
(5)
في (م): "وعظموا لهم".
(6)
في (ف) و (ك): "مقرُّون".
أي: ولقد علمَتِ الشَّياطين أنَّ الله تعالى يعذِّبهم ويحضرهم النَّار، ولو كانوا مناسبين له تعالى لَمَا عذَّبهم.
وفيه: أنَّ علم الشَّياطين بذلك غير معلومٍ لا بشهادة العقل ولا بشهادة النَّقل، على أنَّ نسبة العلم إليهم قليلة
(1)
الجدوى.
* * *
(159) - {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} مِن الولد والنَّسب.
* * *
(160) - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناءٌ منقطِع مِن {الْمُحْضَرِينَ} ؛ أي: ولكنَّ المخلَصين ناجون، أو من واو {يَصِفُونَ}؛ أي: ولكنَّ المخلصين برآء من أن يصفوه به.
ولاستعظام ذنبهم أوقعَ التَّنزيه معترضًا بين الاستثناء والمستثنى منه.
* * *
(161 - 162) - {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} .
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} عَودٌ إلى خطابهم {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} على الله تعالى {بِفَاتِنِينَ} : مفسدين النَّاسَ بالإغواء، يُقالُ: فتنَ فلان على فلانٍ امرأتَه: إذ أفسدها عليه.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "قليل".
و {أَنْتُمْ} ضمير لهم ولآلهتهم، غلِّبَ فيه المخاطَبُ على الغائب، والفاء في {فَإِنَّكُمْ} للسَّببية من الاستثناء؛ أي: إذا كان المخلَصون برآءَ
(1)
من ذلك فلا تفتِنون أنتم وما تعبدون إلَّا مَن هو مِن أهل النَّار.
ويجوز أن تكون الواو بمعنى (مع)، و {وَمَا تَعْبُدُونَ} سادٌّ مسدَّ الخبر، كقولك: كلُّ رجل وضيعتُه، أي: فإنكم مع ما تعبدون، بمعنى: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم
(2)
لا تزالون تعبدونها، ثمَّ قال:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} ؛ أي: على ما تعبدون {بِفَاتِنِينَ} بباعثين، أو حاملين
(3)
على طريق الفتنة والضَّلال إلَّا مَن هو ضالٌّ مثلُكم صالِ النَّار، فهو كلامٌ مبتدأٌ.
* * *
(163) - {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} .
{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} بكسر اللَّام؛ أي: لستُم تضلُّون
(4)
أحدًا إلَّا أصحابَ النَّار، الذين سبق في علمه تعالى أنَّهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يَصْلوها.
وقرئ: (صالُ)
(5)
بضمِّ اللَّام
(6)
، على الجمع والتقاء السَّاكنين، بمعنى: صالوا، محمولًا على معنى {مَنْ} ، والتَّوحيدُ في {هُوَ} على لفظه، أو على حذف لامه
(1)
في (ف): "برؤوا".
(2)
"وأصحابهم" سقط من (ي).
(3)
في (م): "مائلين".
(4)
في (م): "تفتنون".
(5)
"صال" سقط من (م).
(6)
نسبت للحسن وابن أبي عبلة. انظر: "المختصر في شواذ القراءات"(ص: 129).
وإجراء الإعراب على عينه، كما حذفت من قولهم: ما باليْتُ به بالةً، وأصله: بالية مِن بالى، كعافية مِن عافى، أو على القلب حتى يصير: صائل، ثم يقال: صال، في صائل، كما يقال: شاكٍ، في شائك.
* * *
(164) - {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} .
{وَمَا مِنَّا} أحدٌ {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} ؛ أي: رتبةٌ معلومةٌ عندَ اللهِ تعالى معيَّنة لا يتجاوزها، وهو حكاية اعتراف الملائكة بالعبوديَّة، ردًّا على عَبَدتِهم، والوجه أن يكون هو وما قبله من قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ} إلى قوله: {لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} من كلامِهم متَّصلًا بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} ، كأنَّه قال: ولقد علم الملائكة أنَّ المشركين معذَّبون بذلك، وقالوا: سبحان الله تنزيهًا، ثم استثنوا المخلصين تبرئةً لهم، ثم خاطبوا الكفرة بـ[أنَّ] الافتتان بذلك للشقاوة المقدَّرة، ثم اعترفوا بالعبوديَّة وتفاوُت مراتبهم فيه، لا يتجاوزونها
(1)
.
وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصِّفة مقامَه كما قيل؛ لأنَّ (أحد) المحذوف مبتدأ، و {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} خبرُه.
(1)
في (ف): "لا يتجاوزهم"، وفي (ك):"فلا يتجاوزهم"، وفي (م):"لا يتجاوزه ولا يتجاوزوه"، وفي (ع) و (ي):"لا يتجاوزه". والمثبت من "تفسير البيضاوي"(5/ 20)، وما بين معكوفتين منه. وزاد في آخر الكلام:(فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه). فما سيأتي رد عليه.
(165) -) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} .
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أقدامَنا، أو
(1)
أجنحَتنا، في
(2)
أداء الطَّاعة ومنازل الخدمة.
* * *
(166) -) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} .
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} : المنزِّهون ربَّنا عمَّا لا يليقُ بشأنه، والأوَّل إشارة إلى درجاتهم في الطَّاعة، وهذا في المعارف، وما في (إنَّ)
(3)
، واللَّام، وتوسيطِ الفصل، وتعريفِ الخبر في جملتي آخرِ كلام الملائكة من التَّأكيد والاختصاص؛ لأنَّهم المواظبون على ذلك دائمًا مِن غيرِ فترةٍ دون غيرهم.
* * *
(167) - {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} .
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} (إنْ) هي المخفَّفة من الثَّقيلة، واللَّام هي الفارقة؛ أي: وإنهم كانوا يقولون؛ أي: مشركو
(4)
قريش:
(168) - {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} .
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} ؛ أي: كتابًا مِن كتبِ الأوَّلين.
(1)
في (ف) و (ك): "و".
(2)
في (ف) و (ك): "من".
(3)
في النسخ: "إنما"، والصواب المثبت. انظر:"روح المعاني"(23/ 193).
(4)
في (ف) و (ك): "مشركي".
(169) - {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : لأخلصنا العبادةَ للهِ تعالى، ولَمَا كذَّبنا وخالفنا كما كذَّبوا وخالفوا.
* * *
(170) - {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{فَكَفَرُوا بِهِ} ؛ أي: لَمَّا جاءهم الذِّكْرُ الذي هو أشرفُ الأذكار والكتابُ الذي هو معجِزٌ مِن بين الكتب كفروا به.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبةَ كفرِهم إذا حلَّ بهم الانتقام.
* * *
(171) - {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} .
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ؛ أي: حكمُنا، أو: وعدنا لهم بالنُّصرة
(1)
والغَلَبة، وهو قوله:
(172) - {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} .
{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وهي باعتبار الغالب والمقتضي بالذَّات، لا باعتبار كلِّ مرَّة، وإنَّما سُمِّيَتْ (كلمةً) وهي كلماتٌ؛ لانتظامِها في معنًى واحد، فهي في حكم كلمةٍ واحدةٍ.
وقرئ: (كلماتنا)
(2)
، وقرئ:(على عبادنا)
(3)
على تضمين {سَبَقَتْ} معنى: حقَّتْ.
(1)
في (م) و (ي) و (ع): "بالنصر".
(2)
نسبت للضحاك. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 490).
(3)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "معاني القرآن" للفراء (2/ 395)، و"تفسير الطبري"(19/ 657).
(174) - {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} : فأَعرِضْ عنهم، وأغضِ
(1)
على أذاهم.
{حَتَّى حِينٍ} : إلى مُدَّةٍ يسيرةٍ هي الموعد لنصرهم
(2)
، قيل: هو يوم بدرٍ، وقيل: هو يوم الفتح.
* * *
(175) - {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
{وَأَبْصِرْهُمْ} على ما يصيبهم حينئذٍ مِن القتلِ والأسرِ، وفي مجيئه على صيغة الأمر تنبيهٌ على أنَّه كائنٌ لا محالةَ، قريبٌ كانه قدَّامك. وفيه تسلية له عليه السلام وتنفيسٌ عنه.
{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} : يبصرونك على ما ينالُك ممَّا قضينا لك من النُّصرة والغَلَبة. و (سوف) للتَّأكيد في الوعيد لا للتَّبعيد.
روي أنَّه لَمَّا نزلَ: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا: متى هذا؟ فنزلَ:
(176 - 177) - {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} .
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ} ؛ أي: العذاب، وقرئ على البناء للمفعول مسندًا إلى الجارِّ والمجرور
(3)
، كقولك: ذُهِبَ بزيدٍ، وقرئ:(نُزِّل) مشدَّدًا
(4)
.
(1)
في (ف): "واصبر".
(2)
الصواب: لنصرك عليهم.
(3)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "المحرر الوجيز"(4/ 490)، و"المحتسب"(2/ 229).
(4)
انظر: "الكشاف"(4/ 68).
{بِسَاحَتِهِمْ} : بفِنائِهم.
{فَسَاءَ} وقرئ: (فبئس)
(1)
.
{صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} : المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ؛ أي: فساءَ صباحُ المنذرين صباحُهم.
واللَّام للجنس لاقتضاء فعل الذَّمِّ ذلك.
والصَّباحُ: الغارةُ، ولَمَّا كان عادةُ مغاويرهم أن يُغِيروا صباحًا سُمِّيَتِ الغارة به أيَّ وقتٍ وقعَتْ ولو عِشاءً.
شبَّهه
(2)
بجيش هجم
(3)
فأناخ بفنائهم بغتةً، فهو مِن باب التَّمثيل.
وقيل: هو نزولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبرَ وكانوا خارجين إلى مزارِعِهم ومعهم المساحي، قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم، فقال عليه السلام: "الله أكبر، خربت خيبر
(4)
، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ
(5)
فساءَ صباحَ المنذرين"
(6)
.
* * *
(178) - {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
(1)
نسبت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: "الكشاف"(4/ 68).
(2)
في (م): "شبهت".
(3)
في (م): "بجيش هجمهم"، وفي (ع):"هجيس هجمهم"، وفي (ي):"هجيش هجهم".
(4)
في (م) و (ي) و (ع): "خرب خيبر".
(5)
في (ف) و (ك): "بقوم" بدل "بساحة قوم".
(6)
رواه البخاري (610)، ومسلم (1365)، من حديث أنس رضي الله عنه.
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} في تكريرِه تأكيدٌ لوقوع الميعاد على تأكيدٍ، وتسلية بعدَ تسليةٍ.
وأُطلق الفعلان في الثَّاني بعد تقييد الفعل الأوَّل
(1)
بالمفعول؛ لزيادة المبالغة في عذابِهم كما بولغ في نصرته؛ أي: إنَّه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيطُ به الوصف من أنواع المسرَّة وأصناف المساءة، أو أريد بالأوَّل: عذابَ الدُّنيا، وبالثَّاني: عذابَ الآخرة.
* * *
(180) - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} عمَّا قال المشركون فيه، وإضافة الرَّبِّ إلى العزَّةِ لاختصاصِها به؛ إذ لا عزَّةَ إلَّا له، ولمَن يُعزُّه
(2)
.
وقد أدرجَ فيه جملةَ صفاته الثُّبوتيَّة والسَّلبيَّة مع الإشعار بالتَّوحيد.
* * *
(181) - {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} .
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} تعميمٌ للرُّسل بالتَّسليم بعد
(3)
تخصيص بعضهم به.
(1)
"الأول" زيادة من (م).
(2)
في (م) و (ي) و (ع): "يعز".
(3)
في (م) و (ي) و (ع): "مع".
(182) - {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على ما أفاضَ عليهم وعلى مَن تبِعَهم من النِّعَم وحُسن العاقبة
(1)
، ولذلك أخَّره عن التَّسليم.
ولَمَّا كانَ مدارُ الكلام في هذه السُّورة على مقالة المشركين في الله بنسبة الولد والشَّريك إليه تعالى، ومقالة الرُّسل معهم، ومقاساتهم إيَّاهم، وما مُنِحوا مِن التَّأييد والنُّصرة عليهم - ختمَها على وَفقِ ما ضُمِّنَتْ بالتَّنزيه عمَّا يصفونه، والتَّسليم على المرسلين
(2)
بما تحمَّلوا مِن أعباء الرِّسالة وأذى المرسَل إليهم، والتَّحميد على ما أنعمَ به عليهم من النُّصرة في العواقب وإعزاز الدِّين وإعلاء كلمته
(3)
.
(1)
في (م): "العافية".
(2)
في (م): "الرسل"، وفي (ي) و (ع):"المرسل".
(3)
في (م) زيادة: "والله أعلم بالحقيقة والصواب وإليه المرجع والمآب".
وجاء في خاتمة النسخة (ف): "تم الكتاب بعون الملك الوهاب في صبيحة الاثنين العاشر من شهر شوال من شهور سنة اثنين وتسعين وتسع مئة، أحسن الله ختامها بمحمد وآله وصحبه".
وجاء في خاتمة النسخة (ع): "والمشهور في تفسير المرحوم لابن كمال الوزير تحريره إلى هنا".
وجاء في النسخة (ي): "قوبل وصُحح عن نسخة المصنف بقدر الوسع والإمكان، ثم نظر فيه".